الرئيسيةبحث

مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع

تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع

وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية، لما ذكر له بعض اليهود أن الله يحمل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر والثَّرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع؛ فضحك رسول الله ﷺ تعجبًا وتصديقًا لقول الحَبْرِ، وقرأ هذه الآية.

وعن ابن عباس قال: مر يهودي بالنبي ﷺ فقال: يا أبا القاسم، ما تقول إذا وضع الله السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال والماء على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ فأنزل الله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الضحى عن ابن عباس، وقال: غريب حسن صحيح.

وهذا يقتضى أن عظمته أعظم ما وصف ذلك الحبْر، فإن الذي في الآية أبلغ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض».

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ » ورواه مسلم أبسط من هذا، وذكر فيه أنه يأخذ الأرض بيده الأخرى.

وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا عمرو بن رافع، ثنا يعقوب بن عبد الله، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: تكلمت اليهود في صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا ما لم يعلموا ولم يروا، فأنزل الله على نبيه: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فجعل صفته التي وصفوه بها شركا.

وقال: حدثنا أبي، ثنا أبو نعيم، ثنا الحكم - يعني أبا معاذ- عن الحسن، قال: عمدت اليهود فنظروا في خلق السموات والأرض والملائكة، فلما فرغوا أخذوا يقدرونه، فأنزل الله تعالى على نبيه: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، وهذا يدل على أنه أعظم مما وصفوه، وأنهم لم يقدروه حق قدره.

وقوله: { عَمَّا يُشْرِكُونَ } فكل من جعل مخلوقًا مثلا للخالق في شيء من الأشياء فأحبه مثل ما يحب الخالق، أو وصفه بمثل ما يوصف به الخالق فهو مشرك، سوى بين الله وبين المخلوق في شيء من الأشياء فعدل بربه، والرب تعالى لا كفؤ له، ولا سَمِيّ له، ولا مثل له، ومن جعله مثل المعدوم والممتنع فهو شر من هؤلاء، فإنه معطل ممثل، والمعطل شر من المشرك.

والله ثني قصة فرعون في القرآن في غير موضع؛ لاحتياج الناس إلى الاعتبار بها، فإنه حصل له من الملك ودعوى الربوبية والإلهية والعلو ما لم يحصل مثله لأحد من المعطلين، وكانت عاقبته إلى ما ذكر الله تعالى، وليس للّه صفة يماثله فيها غيره، فلهذا لم يجز أن يستعمل في حقه قياس التمثيل، ولا قياس الشمول الذي تستوى أفراده، فإن ذلك شرك، إذ سوى فيه بالمخلوق، بل قياس الأولى، فإنه سبحانه { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [1]. فهو أحق من غيره بصفات الكمال، وأحق من غيره بالتنزيه عن صفات النقص.

وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، وبين أن من جعله الوجود المطلق والمقيد بالسلب أو ذاتًا مجردة، فهؤلاء مثلوه بأنقص المعقولات الذهنية، وجعلوه دون الموجودات الخارجية، والنفاة الذين قصدوا إثبات حدوث العالم بإثبات حدوث الجسم لم يثبتوا بذلك حدوث شيء، كما قد بين في موضعه.

ثم إنهم جعلوا عمدتهم في تنزيه الرب عن النقائص على نفي الجسم، ومن سلك هذا المسلك لم ينزه الله عن شيء من النقائص البتة، فإنه ما من صفة ينفيها؛ لأنها تستلزم التجسيم وتكون من صفات الأجسام إلا يقال له: فيما أثبته نظير ما يقوله هو في نفس تلك الصفة.

فإن كان مثبتًا لبعض الصفات قيل له: القول في هذه الصفة التي تنفيها كالقول فيما أثبته، فإن كان هذا تجسيمًا وقولا باطلا فهذا كذلك، وإن قلت: أنا أثبت هذا على الوجه الذي يليق بالرب، قيل له: وكذلك هذا. وإن قلت: أنا أثبته وأنفى التجسيم، قيل: وهذا كذلك، فليس لك أن تفرق بين المتماثلين.

وإن كان ممن يثبت الأسماء وينفي الصفات كالمعتزلة قيل له في الصفات ما يقوله هو في الأسماء، فإذا كان يثبت حيا عالمًا قادرًا، وهو لا يعرف من هو متصف بذلك إلا جسمًا كان إثبات أن له علمًا وقدرة، كما نطق به الكتاب والسنة كذلك.

وإن كان ممن لا يثبت لا الأسماء ولا الصفات كالجهمية المحضة والملاحدة، قيل له: فلابد أن تثبت موجودًا قائمًا بنفسه، وأنت لا تعرف ذلك إلا جسمًا، وإن قال: لا أسميه باسم لا إثبات ولا نفي، قيل له: سكوتك لا ينفي الحقائق، ولا واسطة بين النفي والإثبات، فإما أن يكون حقًا ثابتًا موجودًا، وإما أن يكون باطلا معدومًا.

وأيضا، فإن كنت لم تعرفه فأنت جاهل فلا تتكلم، وإن عرفته فلابد أن تميز بينه وبين غيره بما يختص به، مثل أن تقول: رب العالمين، أو القديم الأزلي، أو الموجود بنفسه ونحو ذلك، وحينئذ فقد أثبت حيًا موجودًا قائمًا بنفسه، وأثبته فاعلا وأنت لا تعرف ما هو كذلك إلا الجسم.

وإن قدر أنه جاحد له قيل له: فهذا الوجود مشهود، فإن كان قديمًا أزليًا موجودًا بنفسه فقد يثبت جسم قديم أزلي موجود بنفسه وهو ما فررت منه، وإن كان مخلوقًا مصنوعًا فله خالق خلقه، ولابد أن يكون قديمًا أزليًا، فقد ثبت الموجود القائم بنفسه القديم الأزلي على كل تقدير، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

وهنا قد نبهنا على ذلك، هو أنه كل من بني تنزيهه للرب عن النقائص والعيوب على نفي الجسم، فإنه لا يمكنه أن ينزهه عن عيب أصلا بهذه الحجة، وكذلك من جعل عمدته نفي التركيب.

ومن تدبر ما ذكروه في كتبهم تبين له أنهم لم يقيموا حجة على وجوده، فلا هم أثبتوه وأثبتوا له ما يستحقه، ولا نزهوه ونفوا عنه ما لا يجوز عليه، إذ كان إثباته هو إثبات حدوث الجسم، ولم يقيموا على ذلك دليلا، والنفي اعتمدوا فيه على ذلك، وهم متناقضون فيه لو كانوا أقاموا دليلا على نفي كونه جسمًا، فكيف إذا لم يقيموا على ذلك دليلا وتناقضوا؟

وهذا مما يتبين لك أن من خرج عن الكتاب والسنة، فليس معه علم لا عقلي ولا سمعي، لاسيما في هذا المطلوب الأعظم، لكنهم قد يكونون معتقدين لعقائد صحيحة عرفوها بالفطرة العقلية، وبما سمعوه من القرآن ودين المسلمين، فقلوبهم تثبت ما تثبت وتنفي ما تنفي بناء على هذه الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة، لكنهم سلكوا هذه الطرق البدعية، وليس فيها علم أصلا، ولكن يستفاد من كلامهم إبطال بعضهم لقول المبطل الآخر، وبيان تناقضه.

ولهذا لما ذكروا المقالات الباطلة في الرب جعلوا يردونها بأن ذلك تجسيم، كما فعل القاضي أبو بكر في هداية المسترشدين وغيره، فلم يقيموا حجة على أولئك المبطلين، وردوا كثيرًا مما يقول اليهود بأنه تجسيم، وقد كان اليهود عند النبي ﷺ بالمدينة، وكانوا أحيانًا يذكرون له بعض الصفات، كحديث الحبر، وقد ذم الله اليهود على أشياء كقولهم: { إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ } [2] وأن يده مغلولة وغير ذلك، ولم يقل النبي ﷺ قط أنهم يجسمون، ولا أن في التوراة تجسيمًا ولا عابهم بذلك، ولا رد هذه الأقوال الباطلة بأن هذا تجسيم كما فعل ذلك من فعله من النفاة.

فتبين أن هذه الطريقة مخالفة للشرع والعقل، وأنها مخالفة لما بعث الله به رسوله، ولما فطر عليه عباده، وأن أهلها من جنس الذين { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [3]

وقد بينا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره الرازي من أن طريقة الوجوب والإمكان من أعظم الطرق، وبينا فسادها وأنها لا تفيد علمًا، وأنهم لم يقيموا دليلا على إثبات واجب الوجود، وأن طريقة الكمال أشرف منها وعليها اعتماد العقلاء قديمًا وحديثًا، وهو قد اعترف في آخر عمره بأنه قد تأمل الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما وجدها تشفى عليلا، ولا تروي غليلا، ووجد أقرب الطرق طريقة القرآن.

وطريقة الوجوب والإمكان لم يسلكها أحد قبل ابن سينا، وهو أخذها من كلام المتكلمين الذين قسموا الوجود إلى محدث وقديم، فقسمه هو إلى واجب وممكن؛ ليمكنه القول بأن الفلك ممكن مع قدمه، وخالف بذلك عامة العقلاء من سلفه وغير سلفه، وخالف نفسه، فإنه قد ذكر في المنطق ما ذكره سلفه من أن الممكن لا يكون إلا محدثًا، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.

ثم إن هؤلاء الذين سلكوا هذه الطريقة انتهت بهم إلى قول فرعون؛ فإن فرعون جحد الخالق، وكذب موسى في أن الله كلمه، وهؤلاء ينتهي قولهم إلى جحد الخالق، وإن أثبتوه قالوا: إنه لا يتكلم، ولا نادى أحدًا ولا ناجاه.

وعمدتهم في نفي ذاته على نفي الجسم، وفي نفي كلامه وتكليمه لموسى على أنه لاتحله الحوادث، فلا يبقى عندهم رب ولا مرسل. فحقيقة قولهم يناقض شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؛ فإن الرسول هو المبلغ لرسالة مرسله، والرسالة هي كلامه الذي بعثه به، فإذا لم يكن متكلمًا لم تكن رسالة.

ولهذا اتفق الأنبياء على أن الله يتكلم، ومن لم يقل: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته، لم يقل: إنه يتكلم. والنفاة منهم من يقول: الكلام صفة فعل؛ بمعنى أنه مخلوق بائن عنه، ومنهم من يقول: هو صفة ذات؛ بمعنى أنه كالحياة يقوم بذاته، وهو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل طائفة مصيبة في إبطال باطل الأخرى.

والدليل يقوم على أنه صفة ذات وفعل تقوم بذات الرب، والرب يتكلم بمشيئته وقدرته، فأدلة من قال: إنه صفة فعل كلها إنما تدل على أنه يتكلم بقدرته ومشيئته وهذا حق، وأدلة من قال: إنه صفة ذات إنما تدل على أن كلامه يقوم بذاته وهذا حق، وأما من أثبت أحدهما كمن قال: إن كلامه مخلوق، أو قال: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، فهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا أنه يتكلم، ولا أثبتوا له كلامًا؛ ولهذا يقولون ما لا يعقل. هذا يقول: إنه معنى واحد قام بالذات، وهذا يقول: حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته، وهذا يقول: مخلوق بائن عنه.

ولهذا لما ظهر لطائفة من أتباعهم ما في قولهم من الفساد، ولم يعرفوا عين هذه الأقوال الثلاثة حاروا وتوقفوا، وقالوا: نحن نقر بما عليه عموم المسلمين من أن القرآن كلام الله، وأما كونه مخلوقًا أو بحرف وصوت أو معنى قائم بالذات فلا نقول شيئًا من هذا.

ومعلوم أن الهدى في هذه الأصول ومعرفة الحق فيها هو معرفة ما جاء به الرسول، وهو الموافق لصريح المعقول، أنفع وأعظم من كثير مما يتكلمون فيه من العلم، لاسيما والقلوب تطلب معرفة الحق في هذه بالفطرة، ولما قد رأوا من اختلاف الناس فيها.

وهؤلاء يذكرون هذا الوقف في عقائدهم وفيما صنفوه في أصول الدين، كما قد رأيت منهم من أكابر شيوخ العلم والدين بمصر والشام قد صنفوا في أصول الدين ما صنفوه، ولما تكلموا في مسألة القرآن وهل هو مخلوق؟ أو قديم؟ أو هو الحروف والأصوات؟ أو معنى قائم بالذات؟ نهوا عن هذه الأقوال، وقالوا: الواجب أن يقال ما قاله المسلمون كلهم: إن القرآن كلام الله، ويمسك عن هذه الأقوال.

وهؤلاء توقفوا عن حيرة وشك، ولهم رغبة في العلم والهدى والدين، وهم من أحرص الناس على معرفة الحق في ذلك وغيره، لكن لم يعلموا إلا هذه الأقوال الثلاثة. قول المعتزلة، والكلابية، والسالمية وكل طائفة تبين فساد قول الأخرى، وفي كل قول من الفساد ما يوجب الامتناع من قبوله، ولم يعلموا قولا غير هذه فرضوا بالجهل البسيط، وكان أحب إليهم من الجهل المركب، وكان أسباب ذلك أنهم وافقوا هؤلاء على أصل قولهم ودينهم، وهو الاستدلال على حدوث الأجسام وحدوث العالم بطريقة أهل الكلام المبتدع، كما سلكها من ذكرته من أجلاء شيوخ أهل العلم والدين، والاستدلال على إمكانها بكونها مركبة كما سلك الشيخ الآخر، وهذا ينفي عن الواجب أن يكون جسمًا بهذه الطريقة، وذلك نفي عنه أنه جسم بتلك الطريقة. وحذاق النظار الذين كانوا أخبر بهذه الطرق وأعظم نظرًا واستدلالا بها وبغيرها قد عرفوا فسادها، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

والله سبحانه قد أخبر أنه { أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ } [4] وأخبر أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا. والله سبحانه يجزي الإنسان بجنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه. فإن كان قد قدح فيهم ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل، ابتلى في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به.

ومن قال عنهم: إنهم تعمدوا الكذب، أظهر الله كذبه. ومن قال: إنهم جهال، أظهر الله جهله، ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى: إنه ساحر كذاب، أخبر الله بذلك عنهم في قوله: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [5] وطلب فرعون إهلاكه بالقتل وصار يصفه بالعيوب، كقوله: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } [6]، وقال: { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين } [7].

أهلك الله فرعون، وأظهر كذبه وافتراءه على الله وعلى رسله، وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع، فلم يبين حجة. وفرعون هذه الأمة أبو جهل كان يسمى أبا الحكم، ولكن النبي ﷺ سماه أبا جهل، وهو كما سماه رسول الله ﷺ أبو جهل، أهلك به نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة.

والذين قالوا عن الرسول: إنه أبتر، وقصدوا أنه يموت فينقطع ذكره، عوقبوا بانبتارهم، كما قال تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } [8] فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته. قيل لأبي بكر بن عياش [9]: إن بالمسجد قومًا يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة، فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم.

وهؤلاء المشبهون لفرعون الجهمية نفاة الصفات، الذين وافقوا فرعون في جحده، وقالوا: إنه ليس فوق السموات، وإن الله لم يكلم موسى تكليمًا، كما قال فرعون: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [10].

وكان فرعون جاحدًا للرب، فلولا أن موسى أخبره أن ربه فوق العالم لما قال: { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } ، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ } [11]، وقال تعالى: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ } [12].

ومحمد ﷺ لما عرج به إلى ربه، وفرض عليه الصلوات الخمس، ذكر أنه رجع إلى موسى، وأن موسى قال له: ارجع إلى ربك فَسَلْهُ التخفيف إلى أمتك، كما تواتر هذا في أحاديث المعراج، فموسى صدق محمدا في أن ربه فوق، وفرعون كذب موسى في أن ربه فوق، فالمقرون بذلك متبعون لموسى ومحمد، والمكذبون بذلك موافقون لفرعون.

وهذه الحجة مما اعتمد عليها غير واحد من النظار، وهي مما اعتمد عليها أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة وذكر عدة أدلة عقلية وسمعية، على أن الله فوق العالم وقال في أوله:

فإن قال قائل: قد أنكرتم قول الجهمية، والقدرية، والخوارج والروافض، والمعتزلة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟

قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا، وما جاء عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قوله مجانبون، فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان الله به الحق، وأوضح به المناهج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمه الله من إمام مقدم وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين. وذكر جملة الاعتقاد والكلام على علو الله على العرش، وعلى الرؤية ومسألة القرآن ونحو ذلك، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن المعطلة نفاة الصفات أو نفاة بعضها لا يعتمدون في ذلك على ما جاء به الرسول؛ إذ كان ما جاء به الرسول إنما يتضمن الإثبات لا النفي، لكن يعتمدون في ذلك على ما يظنونه أدلة عقلية، ويعارضون بذلك ما جاء به الرسول.

وحقيقة قولهم أن الرسول لم يذكر في ذلك ما يرجع إليه لا من سمع ولا عقل، فلم يخبر بذلك خبرًا بين به الحق على زعمهم، ولا ذكر أدلة عقلية تبين الصواب في ذلك على زعمهم، بخلاف غير هذا، فإنهم معترفون بأن الرسول ذكر في القرآن أدلة عقلية على ثبوت الرب، وعلى صدق الرسول.

وقد يقولون أيضا: إنه أخبر بالمعاد؛ لكن نفوا الصفات لما رأوا أن ما ذكروه من النفي لم يذكره الرسول، فلم يخبر به ولا ذكر دليلا عقليًا عليه، بل إنما ذكر الإثبات، وليس هو في نفس الأمر حقًا، فأحوج الناس إلى التأويل أو التفويض، فلما نسبوا ما جاء به الرسول إلى أنه ليس فيه لا دليل سمعي ولا عقلي، لا خبر يبين الحق ولا دليل يدل عليه، عاقبهم الله بجنس ذنوبهم، فكان ما يقولونه في هذا الباب خارجًا عن العقل والسمع، مع دعواهم أنه من العقليات البرهانية، فإذا اختبره العارف وجده من الشبهات الشيطانية، من جنس شبهات أهل السفسطة والإلحاد، الذين يقدحون في العقليات والسمعيات.

وأما السمع فخلافهم له ظاهر لكل أحد، وإنما يظن من يعظمهم ويتبعهم أنهم أحكموا العقليات، فإذا حقق الأمر وجدهم، كما قال أهل النار: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير } [13] وكما قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [14].

فلما كان حقيقة قولهم: إن القرآن والحديث ليس فيه في هذا الباب دليل سمعي ولا عقلي سلبهم الله في هذا الباب معرفة الأدلة السمعية والعقلية، حتى كانوا من أضل البرية مع دعواهم أنهم أعلم من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، بل قد يدعون أنهم أعلم من النبيين، وهذا ميراث من فرعون وحزبه اللعين.

وقد قيل: إن أول من عرف أنه أظهر في الإسلام التعطيل الذي تضمنه قول فرعون هو الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري [15]، وقال: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، إني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا. ثم نزل فذبحه، وشكر له علماء المسلمين ما فعله، كالحسن البصري وغيره.

وهذا الجعد إليه ينسب مروان بن محمد الجعدي آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل، وانتصر لهم؛ ولهذا لما ظهرت الملاحدة الباطنية وملكوا الشام وغيرها ظهر فيها النفاق والزندقة الذي هو باطن أمرهم، وهو حقيقة قول فرعون إنكار الصانع وإنكار عبادته، وخيار ما كانوا يتظاهرون به الرفض، فكان خيارهم وأقربهم إلى الإسلام الرافضة، وظهر بسببهم الرفض والإلحاد، حتى كان من كان ينزل الشام مثل بني حمدان الغالية ونحوهم متشيعين، وكذلك من كان من بني بويه في المشرق.

وكان ابن سينا وأهل بيته من أهل دعوتهم، قال: وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة، وكان مبدأ ظهورهم من حين تولى المقتدر، ولم يكن بلغ بعد، وهو مبدأ انحلال الدولة العباسية، ولهذا سمي حينئذ بأمير المؤمنين الأموي الذي كان بالأندلس، وكان قبل ذلك لا يسمى بهذا الاسم، ويقول: لا يكون للمسلمين خليفتان، فلما ولى المقتدر قال: هذا صبي لا تصح ولايته، فسمى بهذا الاسم.

وكان بنو عبيد الله القداح الملاحدة يسمون بهذا الاسم، لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين، وكان نسبهم باطلا كدينهم، بخلاف الأموي والعباسي فإن كلاهما نسبه صحيح، وهم مسلمون كأمثالهم من خلفاء المسلمين.

فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول سلطت عليهم الأعداء، فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئًا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي، وخطب بها لبني العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة.

فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببًا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة.

فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار؛ تحقيقًا لقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [16].

وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار، قال تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } [17].

وكان بعض المشايخ يقول: هولاكو ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق، وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدًا، يقال: قتل منهم ألف ألف، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ، كان بعض الشيوخ يقول: هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل.

وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر، سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم، ويقال: إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه، وكان من أعظم ملوك الأرض، وكان للرازي به اتصال قوي، حتى إنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتابًا سماه الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية.

وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي ﷺ المسلمين، كما قال جابر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخبرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسميه باسمه خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره، ثم بارك فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به».

وأهل النجوم لهم اختيارات إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلا أخذ طالعًا سعيدًا، فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم. وقد صنف الناس كتبًا في الرد عليهم، وذكروا كثرة ما يقع من خلاف مقصودهم فيما يخبرون به ويأمرون به، وكم يخبرون من خبر فيكون كذبًا، وكم يأمرون باختيار فيكون شرًا، والرازي صنف الاختيارات لهذا الملك، وذكر فيه الاختيار لشرب الخمر وغير ذلك، كما ذكر في السر المكتوم في عبادة الكواكب ودعوتها مع السجود لها، والشرك بها ودعائها، مثلما يدعو الموحدون ربهم، بل أعظم، والتقرب إليها بما يظن أنه مناسب لها من الكفر والفسوق والعصيان، فذكر أنه يتقرب إلى الزهرة بفعل الفواحش وشرب الخمر والغناء، ونحو ذلك مما حرمه الله ورسوله.

وهذا في نفس الأمر يقرب إلى الشياطين، الذين يأمرونهم بذلك ويقولون لهم: إن الكوكب نفسه يحب ذلك، وإلا فالكواكب مسخرات بأمر الله مطيعة للّه، لا تأمر بشرك ولا غيره من المعاصي، ولكن الشياطين هي التي تأمر بذلك ويسمونها روحانية الكواكب، وقد يجعلونها ملائكة وإنما هي شياطين، فلما ظهر بأرض المشرق بسبب مثل هذا الملك ونحوه، ومثل هذا العالم ونحوه ما ظهر من الإلحاد والبدع سلط الله عليهم الترك المشركين الكفار، فأبادوا هذا الملك، وجرت له أمور فيها عبرة لمن يعتبر، ويعلم تحقيق ما أخبر الله به في كتابه، حيث يقول: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [18] أي أن القرآن حق، وقال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } [19]، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا أن دولة بني أمية كان انقراضها بسبب هذا الجعد المعطل وغيره من الأسباب، التي أوجبت إدبارها، وفي آخر دولتهم ظهر الجهم بن صفوان بخراسان، وقد قيل: إن أصله من ترمذ وأظهر قول المعطلة النفاة الجهمية، وقد قتل في بعض الحروب، وكان أئمة المسلمين بالمشرق أعلم بحقيقة قوله من علماء الحجاز والشام والعراق؛ ولهذا يوجد لعبد الله بن المبارك وغيره من علماء المسلمين بالمشرق من الكلام في الجهمية أكثر مما يوجد لغيرهم، مع أن عامة أئمة المسلمين تكلموا فيهم، ولكن لم يكونوا ظاهرين إلا بالمشرق، لكن قوى أمرهم لما مات الرشيد، وتولى ابنه الملقب بالمأمون بالمشرق، وتلقي عن هؤلاء ما تلقاه.

ثم لما ولى الخلافة اجتمع بكثير من هؤلاء، ودعا إلى قولهم في آخر عمره، وكتب إلى بغداد وهو بالثغر بطرسوس التي ببلدسيس وكانت إذ ذاك أعظم ثغور بغداد، ومن أعظم ثغور المسلمين يقصدها أهل الدين من كل ناحية ويرابطون بها، رابط بها الإمام أحمد، رضي الله عنه، والسرى السقطي [20]، وغيرهما، وتولي قضاءها أبو عبيد، وتولى قضاءها أيضا صالح بن أحمد بن حنبل؛ ولهذا ذكرت في كتب الفقه كثيرًا فإنها كانت ثغرًا عظيمًا فكتب من الثغر إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتابًا يدعو الناس فيه إلى أن يقولوا: القرآن مخلوق. فلم يجبه أحد. ثم كتب كتابًا ثانيًا يأمر فيه بتقييد من لم يجبه وإرساله إليه، فأجاب أكثرهم، ثم قيدوا سبعة لم يجيبوا، فأجاب منهم خمسة بعد القيد، وبقى اثنان لم يجيبا: الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسلوهما إليه فمات قبل أن يصلا إليه، ثم أوصي إلى أخيه أبي إسحاق، وكان هذا سنة ثماني عشرة ومائتين، وبقى أحمد في الحبس إلى سنة عشرين، فجرى ما جرى من المناظرة حتى قطعهم بالحجة، ثم لما خافوا الفتنة ضربوه وأطلقوه، وظهر مذهب النفاة الجهمية، وامتحنوا الناس فصار من أجابهم أعطوه وإلا منعوه العطاء وعزلوه من الولايات، ولم يقبلوا شهادته، وكانوا إذا افتكوا الأسرى يمتحنون الأسير، فإن أجابهم افتدوه وإلا لم يفتدوه.

وكتب قاضيهم أحمد بن أبي دؤاد [21] على ستارة الكعبة «ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم»، لم يكتب وهو { السَّمِيعُ البَصِيرُ } [22].

ثم ولي الواثق واشتد الأمر إلى أن ولى المتوكل فرفع المحنة، وظهرت حينئذ السُّنَّة، وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود أن أئمة المسلمين لما عرفوا حقيقة قول الجهمية بينوه، حتى قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وكان ينشد:

عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ** إلى النار واشتق اسمه من جهنم

وقيل له: بماذا يعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، قيل له: بِحَدٍّ؟ قال: بحد. وكذلك قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم من أئمة السنة.

وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه، كما كان فرعون يفعل، فكان يجحد الخالق جل جلاله، ويقول: { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [23]، ويقول لموسى: { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين } [24]، ويقول: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [25]، وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو يكون لموسى إله فوق السموات، ويريد أن يبطل عبادة الله وطاعته، ويكون هو المعبود المطاع.

فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يؤول إلى قول فرعون، كان منتهي قولهم إنكار رب العالمين، وإنكار عبادته، وإنكار كلامه حتى ظهروا بدعوى التحقيق والتوحيد والعرفان، فصاروا يقولون: العالم هو الله، والوجود واحد، والموجود القديم الأزلي الخالق هو الموجود المحدث المخلوق، والرب هو العبد، ما ثم رب وعبد وخالق ومخلوق بل هو عندهم فرقان.

ولهذا صاروا يعيبون على الأنبياء وينقصونهم؛ ويعيبون على نوح وعلى إبراهيم الخليل وغيرهما، ويمدحون فرعون، ويجوزون عبادة جميع المخلوقات، وجميع الأصنام، ولا يرضون بأن تعبد الأصنام حتى يقولوا: إن عُبَّاد الأصنام لم يعبدوا إلا الله، وأن الله نفسه هو العابد وهو المعبود، وهو الوجود كله، فجحدوا الرب وأبطلوا دينه، وأمره ونهيه، وما أرسل به رسله، وتكليمه لموسى وغيره.

وقد ضل في هذا جماعة لهم معرفة بالكلام والفلسفة والتصوف المناسب لذلك، كابن سبعين، والصدر القونوي تلميذ ابن عربي والبلياني، والتلمساني، وهو من حذاقهم علمًا ومعرفة، وكان يظهر المذهب بالفعل، فيشرب الخمر ويأتي المحرمات.

وحدثني الثقة أنه قرأ عليه فصوص الحكم لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين، فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول: ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول.

وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه: هذا أيضا هو ذات الله؟ فقال: وهل ثم شيء خارج عنها؟ نعم! الجميع في ذاته!

وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدًا فينافقه فلم يثبت الخالق، وإن كان في الباطن مقرًا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار، كما قال: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [26].

وأما هؤلاء فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال يحسبون أنهم على حق، وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندًا مظهرًا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جُهَّال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر.

وحدثني الشيخ عبد السيد الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلامًا، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له: الشرف البلاسي، يطلب منه المعرفة والعلم، قال: فدعاني إلى هذا المذهب فقلت له: قولكم يشبه قول فرعون، قال: ونحن على قول فرعون! فقلت لعبد السيد: واعترف لك بهذا؟ قال: نعم! وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب، فقلت له: هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون، فحدثني بهذا، فقلت له: ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يُحتاج إلى بينة، قال عبد السيد: فقلت له: لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، فقال: ولم؟ قلت: لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد وكان هذا قبل أن يسلم: نفعتك اليهودية، يهودي خير من فرعوني.

وفيهم جماعات لهم عبادة وزهد وصدق فيما هم فيه، وهم يحسبون أنه حق، وعامتهم الذين يقرون ظاهرًا وباطنًا بأن محمدا رسول الله، وأنه أفضل الخلق أفضل من جميع الأنبياء والأولياء لا يفهمون حقيقة قولهم، بل يحسبون أنه تحقيق ما جاء به الرسول، وأنه من جنس كلام أهل المعرفة الذين يتكلمون في حقائق الإيمان والدين، وهم من خواص أولياء الله فيحسبون هؤلاء من جنس أولئك، من جنس الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وسهل ابن عبد الله، وأمثال هؤلاء.

وأما عرافهم الذين يعلمون حقيقة قولهم فيعلمون أنه ليس الأمر كذلك، ويقولون ما يقول ابن عربي ونحوه: إن الأولياء أفضل من الأنبياء، وإن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وإن جميع الأنبياء يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء، وإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يأتي خاتم الأنبياء، فإنهم متجهمة متفلسفة، يخرجون أقوال المتفلسفة والجهمية في قالب الكشف.

وعند المتفلسفة: أن جبريل إنما هو خيال في نفس النبي، ليس هو ملكًا يأتي من السماء، والنبي عندهم يأخذ من هذا الخيال، وأما خاتم الأولياء في زعمهم فإنه يأخذ من العقل المجرد الذي يأخذ منه الخيال؛ فهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول.

وهم يعظمون فرعون، ويقولون ما قاله صاحب الفصوص قال: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه جار في العرف الناموسى، لذلك قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [27] أي وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم. قال: ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك. وقالوا له: { فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [28] قال: فصح قول فرعون: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وإن كان فرعون عين الحق.

وحدثني الثقة الذي كان منهم ثم رجع عنهم أن أبغض الناس إليهم محمد بن عبد الله ﷺ. قال: وإذا نَهَق الحمار ونَبَح الكلب سجدوا له، وقالوا: هذا هو الله، فإنه مظهر من المظاهر. قال: فقلت له: محمد بن عبد الله أيضا مظهر من المظاهر، فاجعلوه كسائر المظاهر، وأنتم تعظمون المظاهر كلها أو اسكتوا عنه، قال: فقالوا لي: محمد نبغضه؛ فإنه أظهر الفرق ودعا إليه، وعاقب من لم يقل به، قال: فتناقضوا في مذهبهم الباطل، وجعلوا الكلب والحمار أفضل من أفضل الخلق، قال لي: وهم يصرحون باللعنة له ولغيره من الأنبياء، ولا ريب أنهم من أعظم الناس عبادة للشيطان وكفرًا بالرحمن.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا سمعتم صياح الديكة فَسَلُوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكًا، وإذا سمعتم نهيق الحمار ونباح الكلب فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطانًا»، فهم إذا سمعوا نهيق الحمار ونباح الكلب تكون الشياطين قد حضرت، فيكون سجودهم للشياطين.

وكان فيهم شيخ جليل من أعظمهم تحقيقًا- لكن هذا لم يكن من هؤلاء الذين يسبون الأنبياء - وقد صنف كتابًا سماه فك الأزرار عن أعناق الأسرار ذكر فيه مخاطبة جرت له مع إبليس، وأنه قال له ما معناه: إنكم قد غلبتموني وقهرتموني ونحو هذا، لكن جرت لي قصة تعجبت منها مع شيخ منكم، فإني تجليت له فقلت: أنا الله لا إله إلا أنا، فسجد لي، فتعجبت كيف سجد لي. قال هذا الشيخ: فقلت له: ذاك أفضلنا وأعلمنا وأنت لم تعرف قصده، ما رأى في الوجود اثنين وما رأى إلا واحدًا فسجد لذلك الواحد، لا يميز بين إبليس وغيره، فجعل هذا الشيخ - ذاك الذي سجد لإبليس - لا يميز بين الرب وغيره، بل جعل إبليس هو الله هو وغيره من الموجودات جعله أفضلهم وأعلمهم.

ولهذا عاب ابن عربي نوحًا أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وهو الذي جعل الله ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعظَّم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام، وأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم.

ومدح عُبَّاد العجل، وتنقص هارون، وافترى على موسى، فقال: وكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما قضى الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فذكر عن موسى أنه عتب على هارون أنه أنكر عليهم عبادة العجل، وأنه لم يسع ذلك فأنكره؛ فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء.

وهذا من أعظم الافتراء على موسى وهارون، وعلى الله، وعلى عُبَّاد العجل، فإن الله أخبر عن موسى أنه أنكر العجل إنكارًا أعظم من إنكار هارون، وأنه أخذ بلحية هارون لما لم يدعهم ويتبع موسى لمعرفته، قال تعالى: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [29].

قلت لبعض هؤلاء: هذا الكلام الذي ذكره هذا عن موسى وهارون يوافق القرآن أو يخالفه؟ فقال: لا بل يخالفه، قلت: فاختر لنفسك إما القرآن وإما كلام ابن عربي.

وكذلك قال عن نوح قال: لو أن نوحًا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه؛ أي ذكر لهم فدعاهم جهارًا ثم دعاهم إسرارًا إلى أن قال: ولما علموا أن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية { أَدْعُو إِلَى اللهِ } فهذا عين المكر { عَلَى بَصِيرَةٍ } [30]، فنبه أن الأمر كله للّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم، فجاء المحمدي وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسمائه، فقال: { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } [31] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم، فعرفنا أن العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين، فقالوا في مكرهم: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [32] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء؛ فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [33] أي حكم، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود.

وهو دائمًا يحرف القرآن عن مواضعه، كما قال في هذه القصة: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } [34] فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهي الحيرة، { فَأُدْخِلُوا نَارًا } في عين الماء في المحمديين { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت } [35] سجرت التنور: أوقدته، { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا } [36] فكان الله عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد، وقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [37] بمعنى: أمر وأوجب وفرض. وفي القراءة الأخرى: «ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه»، فجعل معناه: أنه قدر وشاء ألا تعبدوا إلا إياه، وما قدره فهو كائن، فجعل معناها كل معبود هو الله، وإن أحدًا ما عبد غير الله قط، وهذا من أظهر الفرية على الله، وعلى كتابه، وعلى دينه، وعلى أهل الأرض.

فإن الله في غير موضع أخبر أن المشركين عبدوا غير الله، بل يعبدون الشيطان، كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [38]. وقال تعالى عن يوسف أنه قال: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [39]، وقال تعالى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [40].

وقال تعالى عن الخليل: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [41].

فهو - سبحانه - يقول: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } وهؤلاء الملحدون يقولون: ما عبدنا غير الله في كل معبود.

وقال تعالى: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } إلى قوله: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [42].

قال أبو قِلابة: هي لكل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله.

والجهمية النفاة كلهم مفترون، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله، وهؤلاء من أعظمهم افتراء على الله، فإن القائلين بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق هم أعظم افتراء ممن يقول: إنه يحل فيه، وهؤلاء يجهلون من يقول بالحلول أو يقول بالاتحاد، وهو أن الخالق اتحد مع المخلوق، فإن هذا إنما يكون إذا كان شيئان متباينان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، كما يقوله النصارى من اتحاد اللاهوت مع الناسوت، وهذا إنما يقال في شيء معين.

وهؤلاء عندهم ما ثَمَّ وجود لغيره حتى يتحد مع وجوده، وهم من أعظم الناس تناقضًا، فإنهم يقولون: ما ثم غير ولا سوى، وتقول السبعينية: ليس إلا الله، بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله، ثم يقولون: هؤلاء المحجوبون لا يرون هذا. فإذا كان ما ثم غير ولا سوى فمن المحجوب ومن الحاجب؟ ومن الذي ليس بمحجوب، وعم حجب؟ فقد أثبتوا أربعة أشياء: قوم محجوبون، وقوم ليسوا بمحجوبين، وأمرًا انكشف لهؤلاء، وحجب عن أولئك.

فأين هذا من قولهم: ما ثم اثنان ولا وجودان؟ كما حدثني الثقة أنه قال للتلمساني: فعلى قولكم: لا فرق بين امرأة الرجل وأمه وابنته؟ قال: نعم! الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم، فقيل لهم: فمن المخاطب للمحجوبين أهو هم أم غيرهم؟ فإن كانوا هم فقد حرم على نفسه لما زعم أنه حرام عليهم دونه، وإن كانوا غيره فقد أثبت غيرين وعندهم ما ثم غير.

وهؤلاء اشتبه عليهم الواحد بالنوع بالواحد بالعين، فإنه يقال: الوجود واحد، كما يقال: الإنسانية واحدة، والحيوانية واحدة، أي يعني واحد كلي، وهذا الكلي لا يكون كليًا إلا في الذهن لا في الخارج، فظنوا هذا الكلي ثابتًا في الخارج، ثم ظنوه هو الله، وليس في الخارج كلي مع كونه كليًا، وإنما يكون كليًا في الذهن، وإذا قدر في الخارج كلي فهو جزء من المعينات وقائم بها، ليس هو متميزًا قائمًا بنفسه، فحيوانية الحيوان وإنسانية الإنسان سواء قدرت معينة أو مطلقة هي صفة له، ويمتنع أن تكون صفة الموصوف مبدعة له، ولوقدر وجودها مجردًا عن العيان على رأي من أثبت المثل الأفلاطونية فتثبت الماهيات الكلية مجردة عن الموصوفات، ويدعى أنها قديمة أزلية، مثل إنسانية مجردة وحيوانية مجردة، وهذا خيال باطل.

وهذا الذي جعله مجردًا هو مجرد في الذهن وليس في الخارج كلي مجرد، وإذا قدر ثبوت كلي مجرد في الخارج وهو مسمى الوجود فهذا يتناول وجود المحدثات كلها، كما يتناول وجود القديم، وهذا لا يكون مبدعًا لشيء ولا اختصاص له بصفات الكمال، فلا يوصف بأنه حي عليم قدير؛ إذ ليس وصفه بذلك بأولى من وصفه بأنه عاجز جاهل ميت، والخالق لابد أن يكون حيًا عليمًا قديرًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.

ثم لو قدر أن هذا هو الخالق فهذا غير الأعيان الموجودة المخلوقة، فقد ثبت وجودان أحدهما غير الآخر، وأحدهما محدث مخلوق، فيكون الآخر الخالق غير المخلوق، ولا يمكن جحد وجود الأعيان المعينة، ولكن الواحد من هؤلاء قد يغيب عن شهود المغيبات كما يغيب عن شهود نفسه، فيظن أن ما لم يشهده قد عدم في نفسه وفنى وليس كذلك، فإن ما عدم وفنى شهوده له وعلمه به ونظره إليه، فالمعدوم الفاني صفة هذا الشخص، وإلا فالموجودات في نفسها باقية على حالها لم تتغير، وعدم العلم ليس علمًا بالمعدوم، وعدم المشهود ليس شهودًا للعدم، ولكن هذه الحال يعترى كثيرًا من السالكين يغيب أحدهم عن شهود نفسه وغيره من المخلوقات، وقد يسمون هذا فناء واصطلامًا، وهذا فناء عن شهود تلك المخلوقات، لا أنها في نفسها فنيت، ومن قال: فنى ما لم يكن وبقى مالم يزل، فالتحقيق - إذا كان صادقًا - أنه فني شهوده لما لم يكن، وبقى شهوده لما لم يزل. لا أن ما لم يكن فني في نفسه، فإنه باق موجود، ولكن يتوهمون إذا لم يشهدوه أنه قد عدم في نفسه.

ومن هنا دخلت طائفة في الاتحاد والحلول، فأحدهم قد يذكر الله حتى يغلب على قلبه ذكر الله ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكور مشهود لقلبه إلا الله، ويفنى ذكره وشهوده لما سواه، فيتوهم أن الأشياء قد فنيت، وأن نفسه فنيت حتى يتوهم أنه هو الله، وأن الوجود هو الله.

ومن هذا الباب غلط أبي يزيد ونحوه حيث قال: ما في الجبة إلا الله.

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أنه يعبر بالفناء عن ثلاثة أمور:

أحدها: أنه يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبمحبته وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه عن محبة ما سواه وطاعته وخشيته ورجائه والتوكل عليه، وهذا هو حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فقد فنى من قلبه التأله لغير الله، وبقى في قلبه تأله الله وحده، وفنى من قلبه حب غير الله وخشية غير الله والتوكل على غير الله، وبقى في قلبه حب الله وخشية الله والتوكل على الله.

وهذا الفناء يجامع البقاء، فيتخلى القلب عن عبادة غير الله مع تحلي القلب بعبادة الله وحده، كما قال ﷺ لرجل: «قل: أسلمت لله وتخليت» وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله بالنفي مع الإثبات؛ نفي إلهية غيره مع إثبات إلهيته وحده، فإنه ليس في الوجود إله إلا الله، ليس فيه معبود يستحق العبادة إلا الله؛ فيجب أن يكون هذا ثابتا في القلب؛ فلا يكون في القلب من يألهه القلب ويعبده إلا الله وحده، ويخرج من القلب كل تأله لغير الله، ويثبت فيه تأله الله وحده؛ إذ كان ليس ثم إله إلا الله وحده.

وهذه الولاية للّه مقرونة بالبراءة والعداوة لكل معبود سواه ولمن عبدهم، قال تعالى عن الخليل عليه السلام: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [43]، وقال: { أ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [44]، وقال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [45].

قلت لبعض من خاطبته من شيوخ هؤلاء: قول الخليل: { إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ } ممن تبرأ الخليل؟ أتبرأ من الله تعالى وعندكم ما عبد غير الله قط؟ والخليل قد تبرأ من كل ما كانوا يعبدون إلا من رب العالمين، وقد جعله الله لنا وفيمن معه أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، قال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [46].

وقد قال ﷺ: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل».

وهذا تصديق قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [47]، وقال تعالى: { فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [48]، وقال سبحانه: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [49] قال طائفة من السلف: كل عمل باطل إلاما أريد به وجهه، وقد قال سبحانه: { وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } [50].

و الإله هو المألوه أي المستحق لأن يُؤْلَه أي يُعْبَد، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده، وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى المركوب والمحمول. وكان الصحابة يرتجزون في حفر الخندق يقولون:

هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر

وإذا قيل: هذا هو الإمام فهو الذي يستحق أن يؤتم به، كما قال تعالى لإبراهيم: { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [51] فعهده بالإمامة لا ينال الظالم، فالظالم لا يجوز أن يؤتم به في ظلمه، ولا يركن إليه، كما قال تعالى: { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } [52] فمن ائتم بمن لا يصلح للإمامة فقد ظلم نفسه، فكيف بمن جعل مع الله إلهًا آخر، وعبد من لا يصلح للعبادة، والله تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [53].

وقد غلط طائفة من أهل الكلام فظنوا أن الإله بمعنى الفاعل، وجعلوا الإلهية هي القدرة والربوبية، فالإله هو القادر وهو الرب، وجعلوا العباد مألوهين كما أنهم مربوبون.

فالذين يقولون بوحدة الوجود متنازعون في أمور، لكن إمامهم ابن عربي يقول: الأعيان ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها؛ فلهذا قال: فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها. فزعم أن المخلوقات جعلت الرب إلهًا لها حيث كانوا مألوهين. ومعنى مألوهين عنده مربوبين، وكونهم مألوهين حيث كانت أعيانهم ثابتة في العدم. وفي كلامهم من هذا وأمثاله مما فيه تنقص بالربوبية ما لا يحصى، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.

والتحقيق أن الله خالق كل شيء، والمعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به فيكون سببًا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [54]. والله سبحانه خالق الإنسان ومعلمه فهو الذي { خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [55] وهو { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [56]، ولو قدر أن الإله بمعنى الرب فهو الذي جعل المربوب مربوبًا، فيكون على هذا هو الذي جعل المألوه مألوهًا، والمربوب لم يجعله ربًا، بل ربوبيته صفة، وهو الذي خلق المربوب وجعله مربوبًا؛ وهو إذا آمن بالرب واعتقد ربوبيته وأخبر بها كان قد اتخذ الله ربا ولم يبغ ربا سوى الله ولم يتخذ ربًا سواه، كما قال تعالى: { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [57]، قال تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [58]، وقال: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [59].

وهو - أيضا - في نفسه هو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وَحَّده من لم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره، قال تعالى: { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [60]، وقال تعالى: { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا } [61]، وقال إبراهيم لأبيه آزر: { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [62] فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره، كما أن الجاهل إذا اتخذ إمامًا ومفتيًا وقاضيًا كان ذلك باطلا؛ فإنه لا يصلح أن يؤم ولا يفتى ولا يقضى، وغير الله لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو سبحانه لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا ينفع ذا الجَدِّ منه الجَدُّ.

ومن دعا من لا يسمع دعاءه، أو يسمع ولا يستجيب له، فدعاؤه باطل وضلال، وكل من سوى الله إما أنه لا يسمع دعاء الداعي، أو يسمع ولكن لا يستجيب له، فإن غير الله لا يستقل بفعل شيء البتة، وقد قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [63] فغير الله لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا هو معاون للرب في شيء، بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة والأنبياء والصالحين ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلابد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا، كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا. لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

هامش

  1. [الروم: 27]
  2. [آل عمران: 181]
  3. [الملك: 10]
  4. [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9]
  5. [غافر: 23، 24]
  6. [غافر: 26]
  7. [الزخرف: 52]
  8. [الكوثر: 3]
  9. [هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي، وثقه ابن معين وعبد الله بن أحمد بن حنبل وابن حبان، ولد سنة خمس أو ست وتسعين، وقيل: إنه مات في سنة ثلاث وتسعين ومائة]
  10. [غافر: 36، 37]
  11. [غافر: 37]
  12. [القصص: 38 42]
  13. [الملك: 10]
  14. [النور: 39، 40]
  15. [هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسري، وثقه ابن حبان، وقد ولاه هشام بن عبد الملك على العراق عام ست ومائة ثم عزله سنة خمس وعشرين ومائة، وقتل سنة ست وعشرين ومائة]
  16. [الصف: 10 13]
  17. [الإسراء: 4 8]
  18. [فصلت: 53]
  19. [الأنبياء: 37]
  20. [هو أبو الحسن السقطي البغدادي، ولد في حدود الستين ومائة، اشتهر بالصلاح والزهد والورع، وتوفى في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين]
  21. [هو أحمد بن أبي دؤاد القاضي الأباري، ولي القضاء للمعتصم والواثق، وكان موصوفًا بالجود وحسن الخلق، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وكان أحمد بن حنبل يطلق عليه الكفر، ولد سنة ستين ومائة، وتوفى سنة أربعين ومائتين من فالج أصابه]
  22. [الشورى: 11]
  23. [القصص: 38]
  24. [الشعراء: 29]
  25. [النازعات: 24]
  26. [النمل: 13، 14]
  27. [النازعات: 24]
  28. [طه: 72]
  29. [طه: 83 94]
  30. [يوسف: 108]
  31. [مريم: 85]
  32. [نوح: 23]
  33. [الإسراء: 23]
  34. [نوح: 25]
  35. [التكوير: 6]
  36. [نوح: 25]
  37. [الإسراء: 23]
  38. [يس: 60 62]
  39. [يوسف: 39، 40]
  40. [الأعراف: 138 140]
  41. [مريم: 42-50]
  42. [الأعراف: 148-152]
  43. [الزخرف: 26 28]
  44. [الشعراء: 7577]
  45. [الممتحنة: 4]
  46. [الممتحنة: 4 6]
  47. [الحج: 62]
  48. [يونس: 23]
  49. [القصص: 88]
  50. [القصص: 87، 88]
  51. [البقرة: 124]
  52. [هود: 113]
  53. [النساء: 48، 116]
  54. [يس: 28]
  55. [العلق: 1، 2]
  56. [العلق: 3 5]
  57. [العلق: 3: 5]
  58. [الأنعام: 14]
  59. [آل عمران: 80]
  60. [الشعراء: 213]
  61. [الإسراء: 22]
  62. [الأنعام: 74]
  63. [سبأ: 22، 23]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثالث عشر
فصل في الفرقان بين الحق والباطل | فصل في أن الله يجمع بين الأمور المتماثلة | فصل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة | فصل فيمن خالف ما جاء به النبي | فصل في تحريف الإنجيل | فصل في تفسير قوله تعالى ما لهم به من علم | فصل في تأويل حججهم الباطلة | فصل في اشتراك الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات | فصل في أن ما أنزله الله على رسله هو الحق | فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | فصل من أعظم أسباب ضلالهم مشاركتهم للفلاسفة | فصل في أول التفرق والابتداع في الإسلام | فصل في ظهور القدرية في آخر عهد الصحابة | سئل عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا | فصل في ماهية العلم الباطن | فصل في قول من قال إن النبي خص كل قوم بما يصلح لهم | فصل في أقسام القلوب | فصل في حكم إدخال أسماء الله وصفاته في المتشابه | فصل في أقسام القرآن | فصل في قسمه تعالى بالصافات والذاريات والمرسلات | مقدمة في التفسير وعلوم القرأن | فصل في أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه | فصل في ذكر خلاف السلف في التفسير | فصل في الاختلاف في التفسير | فصل في ذكر النوع الثاني من الاختلاف في التفسير | فصل في قول القائل ما أحسن طرق التفسير | فصل في تفسير التابعين للقرآن الكريم | فصل في ذكر من انحرف عن القرآن الكريم | فصل في حكم إجراء القرآن على الظاهر | سئل عمن فسر القرآن برأيه | سئل عمن نسخ القرآن والحديث بيده | سئل عن قول النبي أنزل القرآن على سبعة أحرف | سئل عن جمع القراءات السبع | فصل في تحزيب القرآن | سئل عمن يقرؤون القرآن في ختمة إلى سورة الضحى ولم يهللوا ولم يكبروا | وسئل عن قول الإمام مالك من كتب مصحف بغير الرسم العثماني فقد أثم | سئل عن قوم يقرؤون القرآن ويلحنون فيه | سئل عن رجل يتلو القرآن مخافة النسيان