→ حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | مجموعة الرسائل والمسائل معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ابن تيمية |
رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله ← |
☰ جدول المحتويات
- معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد
- المطلق والمقيد في اللفظ والمعنى
- الفرق بين اللفظ والمعنى في الإطلاق والتقييد
- الحق ليس له وجود معين، بل هو كالكلي في الجزئي
- فصل في أن مذهب التلمساني في الوحدة مخالف لابن عربي والرومي
- فصل في أن الحلول والاتحاد أربعة أقسام
- كفر القائلين بالاتحاد العام أعظم من كفر النصارى
- فصل في أن مذهب الاتحادية مركب من ثلاث مواد وشبههم بالنصارى
- فصل في ما كان به الاتحادية أكفر من النصارى
- حيرة الاتحادية وتناقضهم في الاتحاد كالنصارى في التثليث
- بيان بطلان أقوال الاتحادية بالعقل والنقل
معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد
وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ. وسائر الصفات: الإرادة والحب والبغض والغضب والرضاء يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم: مطر عام وخصب عام. هذه التي تنازع الناس: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجاز؟ على قولين (أحدهما) مجاز لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر فليس هناك عموم، وقيل بل حقيقة لأن المطر المطلق قد عم.
وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره، أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن. فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات.
وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب فإن العقل يتصور إنسانا مطلقا ووجودا مطلقا. وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق؟ هذا فيه قولان، المطلق له وجود في الخارج فإنه جزء من المعين، وقيل لا وجود له في الخارج، إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد، والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءا من المعين الذي لا يشركه فيه.
والتحقيق أن المطلق بلا شرط أصلا يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف. فإذا قلنا: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر ونجس، فالثلاثة أقسام الماء. الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة. فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلاق.
لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد.
وأما ما كان كلامنا فيه أولا فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين. فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطا كثيرا جدا، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معينا لا يقبل الشركة كأنا وهذا وزيد، ويقال له المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق وله ثلاث اعتبارات كما تقدم.
المطلق والمقيد في اللفظ والمعنى
وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا في لفظ الماء، وأن الماء يقال على المني وغيره كما قال (من ماء دافق) ويقال: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في لفظ الماء عند الإطلاق لكن عند التقييد. فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا الماء ثلاثة أقسام. فهنا أيضا ثلاثة أشياء: مورد التقسيم وهو العام وهو المطلق بلا شرط، ولكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده.
الفرق بين اللفظ والمعنى في الإطلاق والتقييد
وإنما كان كذلك لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص. فقيد العموم كقوله: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله: ماء الورد.
وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه وبين تقييد المعنى وإطلاقه عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال: إما أن يكون أيضا مطلقا، أو مقيدا بقيد العموم، أو مقيدا بقيد الخصوص، والمطلق من المعاني نوعان: مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط، وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقا بشرط الإطلاق كقولنا الماء المطلق والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقا لا بشرط الإطلاق كقولنا إنسان.
فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق. وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان.
فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لا بد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق.
وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ فلا يمنع أن يكون معناه معينا، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى، والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء، وإذا كان له حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقا من كل وجه، فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له، فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال هو مطلق بشرط الإطلاق إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق حتى يقال تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها، وأما المطلق من المعاني لا بشرط فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معينا متميزا مخصوصا، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجودا في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجودا في الخارج لأن هذا أخص منه، فإذا قلنا: حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته.
فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلا ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئا أصلا.
الحق ليس له وجود معين، بل هو كالكلي في الجزئي
وتلخيص النكتة أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا فلا يكون للحق وجود إلى وجود الأعيان. فيلزم محذوران (أحدهما) أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات (والثاني) التناقض وهو قوله أنه الوجود المطلق دون المعين.
فتدبر قول هذا فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلي في جزئياته وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم. وصاحب هذ القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات كما جعله الأول في الأعيان.
فصل في أن مذهب التلمساني في الوحدة مخالف لابن عربي والرومي
وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين، بل عنده ما ثم سوى، ولا غير بوجه من الوجه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر، وآخر البيت من البيت، فمن شعرهم:
البحر لا شك عندي في توحده... وإن تعدد بالأمواج والزبد
فلا يغرنك ما شاهدت من صور... فالواحد الرب ساري العين في العدد
ومنه:
فما البحر إلا الموج لا شيء غيره... وإن فرقته كثرة المتعدد
ولا ريب أن هذا القول هو أحق في الكفر والزندقة، فإن التمييز بين الوجود والماهية، وجعل المعدوم شيئا أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئا وراء المعينات في الذهن قولان ضعيفان باطلان، وقد عرف من حدد النظر أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين (أحدهما) وجودها (والثاني) ذواتها، أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطا قويا، واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين، ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك، ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته، كما يتصور المعدومات والممتنعات والمشروطات، وبقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أو لا يمكن، ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه. فإن الموجودات ذوات متصورة فيه، لكن هذا القول أشد جهلا وكفرا بالله تعالى، فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر، ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوبا عن شهود الحقيقة، فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير، وإن الرائي عين المرئي والشاهد عين المشهود.
فصل في أن الحلول والاتحاد أربعة أقسام
واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: أن الوجود واحد ورد ذلك، وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين.
وإنما حدثت هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنما كان الكفر الحلول العام أو الاتحاد أو الحلول الخاص. وذلك أن القسمة رباعية لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فأما أن يقول بحلوله فيه أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق كالمسيح أو يجعله عاما لجميع الخلق. فهذه أربعة أقسام:
الأول: هو الحلول الخاص - وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول: أن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان أولهم في زمن المأمون. وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون إنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء.
والثاني: هو الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولا وهم السودان والقبط، يقولون إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.
والثالث: هو الحلول العام، وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان ويتمسكون بمتشابه القرآن كقوله (وهو الله في السموات وفي الأرض) وقوله (وهو معكم) والرد علىهؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة وأهل المعرفة وعلماء الحديث.
كفر القائلين بالاتحاد العام أعظم من كفر النصارى
الرابع: الاتحاد العام وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين: من جهة أن أولئك قالوا أن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره (والثاني) من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح وهؤلاء جعلوا ذلك ساريا في الكلاب والخنازير والقذر والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قال (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم) الآية. فكيف بمن قال إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس والأنتان وكل شيء؟ وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقال لهم (قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) الآية. فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه؟ ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه؟ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع؟ كما في قوله ﷺ " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها " وأن الناكح عين المنكوح، حتى قال شاعرهم...
واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم في قولهم: أن الله هو مخلوقاته كلها أعظم من كفر النصارى بقولهم (أن الله هو المسيح بن مريم) فكان النصارى ضلال أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهرا واحدا ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم، كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال أكثرهم لا يعقلون قول رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم، ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به كما للنصارى. هذا ما دام أحدهم في الحجاب، فإذا ارتفع عن قلبه وعرف أنه هو فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر والنهي ويبقى سدى يفعل ما أحب وبين أن يقوم بمرتبة الأمر والنهي لحفظ المراتب، وليقتدي به الناس المحجوبون، وهم غالب الحق. ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين.
فصل في أن مذهب الاتحادية مركب من ثلاث مواد وشبههم بالنصارى
مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني مركب من ثلاثة مواد: سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية، وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر، ومن الزندقة الفلسفة التي هي أصل التجهم، وكلامهم في الوجود المطلق والعقول والنفوس والوحي والنبوة والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل. فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي، ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم. والتلمساني أعظمهم تحقيقا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر.
وبيان ذلك أنه قال: هو في كل متجل بوحدته الذاتية، عالما بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهدا لها.
فيقال له: قد أثبت علمه بما يصدر منه وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدودة، فعند ذلك عبر " بأنا " وظهرت حقيقة النبوة التي ظهر فيها الحق واضحا، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن كما أن الأول هو المسمى باسم الله، وسقت الكلام إلى أن قلت: وهو الآن على ما عليه كان فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهودا له معدوما في نفسه هو الحق أو غيره؟ فإن كان الحق؟ فقد لزم أن يكون الرب كان معدوما وأن يكون صادرا عن نفسه، ثم أنه تناقض. وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن، فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوما صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر الواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوما ولا صادرا عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى اللاهوت الناسوت. لكن هذا أكفر من وجوه متعددة.
فصل في ما كان به الاتحادية أكفر من النصارى
الوجه الأول: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق الذي كان فيه متحدا بنفسه بوحدته الذاتية، هل خلقها وبراها وجعلها موجودة بعد عدمها أم لم تزل معدومة؟ فإن كانت لم تزل معدومة فيجب أن لا يكون شيء من الكونيات موجودا، وهذا مكابر للحس والعقل والشرع، ولا يقوله عاقل، ولم يقله عاقل.
وإن كانت صادرة موجودة بعد عدمها امتنع أن تكون هي إياه، لأن الله لم يكن معدوما فيوجد. وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون به موجودا ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده. وهذا يبطل قولك! وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان.
الثاني: أن قولك: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه، أو قولك: ظهر الحق فيه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع مثل قولهم: ظهر الحق، وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهي ومجلى إلهي، ونحو ذلك - أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني به أنه صار ظاهرا متجليا لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أن ظهر لخلقه بها وتجلى بها وأنه ما ثم قسم رابع؟
فإن عنيت الأول - وهو قول الاتحادية - فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات والشياطين الكفار هي ذات الله، أو هي ودات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا (إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله هو ثالث ثلاثة) وإن الله يلد ويولد. وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء. ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما نافعا.
وإن عنيت أنه صار ظاهرا متجليا لها، فهذا حقيقة أمر صار معلوما لها، ولا ريب أن الله يصير معروفا لعبده. لكن كلامك في هذا باطل من وجهين: من جهة أنك جعلته معلوما للمعدومات التي لا وجود لها لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالما قادرا فاعلا. ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم.
وأما إن قلت: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه، فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين (أحدهما) أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو هي المتجلية له.
الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إلى قوله. لآيات لقوم يعقلون) وتارة يسميها نفسها آية كما قال تعالى (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق.
فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور.
وفيه إيهام وإجمال. فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين لا سيما لفظ المتجلي وأن استعماله في التجلي للعين هو الغالب. وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه...
وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين. بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال " واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى، فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل. فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.
الوجه الثالث: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها " بأنا " واللفظة التي هي " حقيقة النبوة " و " الروح الإضافي " هذه الأشياء داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة أم ليست داخلة في مسمى أسمائه؟ فإن كان الأول فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءا من الله وصفة له، وإن كان الثاني فهذه الأشياء معدومة ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية؟ وهذا القسم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس.
فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت " أنا " وحقيقة نبوة، وروحا إضافيا، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان: كون جميع المخلوقات جزءا من الله، وكونه متغيرا هذه التغيرات التي هي من نقص إلى كمال ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة من ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها عندهم خارجة عنه، فكيف يكون الحال؟
الوجه الرابع: أن عنده حقيقة النبوة وما معها إما أن يكون شيئا قائما بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائما بنفسه فإما أن يكون هو الله أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي، وقد قال بعد هذا: أنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمدا عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله وأعطى محمدا ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطي ومن المعطى؟ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعيانا قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أو غيرها من كل ما سوى الله من الأعيان فهو خلق من خلق الله مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق وصفا، وأنه المسمى باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقا، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين (قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن؟) ومن إلحاد الذين قيل فيهم (وهم يكفرون بالرحمن) فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقا من مخلوقاته.
وأما إن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة فإما أن تكون صفة لله أو لغيره، فإن كان صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم.
وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها (عقدة حقيقة النبوة) وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلا لتميز صفاته القديمة وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفا يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمدا هذه العقدة، ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى (ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأشنعه.
الوجه الخامس: أن قوله لهذه الحقيقة طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف إلى ظهور العالم منه وهو المسمى بالروح الإضافي، فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء، وهو متجلى بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفا.
وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر، فهذا الحق والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفا، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض.
ثم يقال له: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى فقد جعلته ظاهرا وجعلته مظهرا، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده؟ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجودا في نفسه؟ وإن عنيت الوضوح والتجلي، وليس هناك مخلوق يظهر له ويتجلى إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت ظهر الحق فيه واصفا، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوما ولا مشهورا، فكيف يتصور أن يكون متجليا لنفسه بعد أن لم يكن متجليا؟ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها.
وأيضا فقد قلت: إنه كان متجليا لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض.
حيرة الاتحادية وتناقضهم في الاتحاد كالنصارى في التثليث
الوجه السادس: أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى وتناقضهم في الأقانيم. فإنهم يقولون: الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد. والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة.
فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلها إلا أن يكون هو الأب، وإن كانت جواهر وجب أن لا تكون إلها واحدا، لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهرا واحدا. وقد يمثلون ذلك بقولنا زيد العالم القادر الحي، فهي بكونه عالما ليس هو بكونه قادرا. فإذا قيل لهم هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتا واحدة لها صفات متعددة وأنهم لا يقولون ذلك.
وأيضا: فالمتحد بالمسيح إذا كان إلها امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف. وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) فالنصارى حيارى متناقضون، إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلها، وإن جعلوه جوهرا امتنع أن يكون الإله واحدا، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الأب والابن وروح القدس إلها واحدا. ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسما غير المشركين تارة، لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين.
وهكذا حال هؤلاء، فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غيره، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجليا لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلى لا غيره. وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم.
وهذا الرجل وابن عربي يشتركان في هذا ولكن يفترقان من وجه آخر.
فإن ابن عربي يقول: "وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها. فإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق والخلق، وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك". وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح، حيث قالوا: بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا له اقنومان. وأما التلمساني فإنه لا يثبت بعد ذلك بحال فهو مثل يعاقبة النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا أن اللاهوت به يتدرع الناسوت بعد أن لم يكن متدرعا به. وهؤلاء قالوا أنه في جميع العالم، وأنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصومه وحدوثه، حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عباد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر وهو العابد والمعبود، وإن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل لضيق هارون وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وأن أعظم مظهر فيه هو الهوى فما عبد أعظم من الهوى. لكن ابن عربي يثبت أعيانا ثابتة في العدم.
بيان بطلان أقوال الاتحادية بالعقل والنقل
وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح لكن لا يتم له معه ما صلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد والقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضا وهذيانا، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر. ومقتضى كلامه هذا أنه جعل وجوده مشروطا بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائما بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقرا إلى العالم محتاجا إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين. وقد قال الله تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) إلى آخر الآية. فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق ويعدم إذا عدم الجفن؟ وقد قال في كتابه (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا) الآية. فمن يمسك السموات؟ وقال في كتابه (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) الآية. وقال (رفع السموات بغير عمد ترونها) وقال (وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) لا يؤده لا يثقله ولا يكرثه، وقد جاء في الحديث حديث أبي داود " ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة " وقد قال في كتابه " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) الآية. وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود " إن الله يمسك السموات والأرض بيده " فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكها أن تزولا، أيكون محتاجا إليهما مفتقرا إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر؟ وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله أو تظله لما في ذلك من احتياجات إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؟ لأن الله غني عن العالمين، حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول إنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض تفرق وانتشر وعدم؟ فإن حاجته في الحمل إلى العرش أبعد من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش.
ثم يقال لهؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم العالم وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما؟ هل كان منتشرا متفرقا معدوما، ثم لما خلقهما صار موجودا مجتمعا؟ هل يقول هذا عاقل؟ فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم: إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك انتقص من نور الحق ويتفرق ويعدم بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك زاد نوره واجتمع ووجد.
وأما إن عني أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض لكن لا يظهر فيه شيء، - فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء؟ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه " وقال عبد الله بن مسعود " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه " فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض؟
الوجه السابع: قوله فالعلويات جفنها الفوقاني، والسفليات جفنها التحتاني، والتفرقة البشرية في السفليات، أهداب الجفن الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها. يقال له: فإذا كان العالم هو هذه العين فالعين الأخرى أي شيء هي؟ وبقية الأعضاء أين هي؟ هذا على قولك إن عنيت بالعين المتعين، وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين به، فقد جعلت نفس السموات والأرض والحيوان والملائكة أبعاضا من الله وأجزاء منه، وهذا قول هؤلاء الزنادقة والفرعونية الاتحادية الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.
فيقال له: فعلى هذا لم يخلق الله شيئا ولا هو رب العالمين، لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره، فخلقه لنفسه محال وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه، ولهذا قال تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) يقول أخلقوا من غير خالق أم هم خلقوا أنفسهم؟ ولهذا قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي ﷺ يقرأ هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع. فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيرا له.
الوجه الثامن: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله وهم دائما يزيدون وينقصون ويموتون ويحيون، وفيهم الكافر والمؤمن والفاجر والبر، فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال منتوفة كاشرة فاسدة، ويكون المشركون واليهود والنصارى أجفان حقيقته، وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء فكيف بمن جعلهم من نفسه؟
الوجه التاسع: أنه متناقص من حيث جعل الروح بياضها والنفس الكلية سوادها والسموات الجفن الأعلى والأرضون الجفن الأسفل. ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض، والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض ليست بين السماء والأرض، كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين، فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه.
الوجه العاشر: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة. وأما الروح فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل وهو أول الصادرات. وسماه هو روحا، وهذا بناه على مذهب الصابئة، وليس هذا من دين الحنفاء، وقد بينا فساد ذلك في غير هذا الموضع. لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول والنفوس والأفلاك والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونا إياه. فقولهم إنما ينطبق على المعطلة مثل فرعون وحزبه الذي قال (وما رب العالمين) وقال (ما علمت لكم من إله غيري) وقال (يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات) الآية، فإن فرعون يقر بوجود هذا العالم ويقول ما فوق رب ولا له خالق غيره. فهؤلاء إذا قالوا أنه عين السموات والأرض، فقد جحد وأما جحده فرعون وأقروا بما أقر به فرعون، إلا أن فرعون لم يسمه إلها ولم يقل هو الله. وهؤلاء قالوا هذا هو الله. فهم مقرون بالصانع لكن جعلوه هو الصنعة. فهم في الحقيقة معطلون، وفي اعتقادهم مقرون، وفرعون بالعكس كان منكرا للصانع في الظاهر وكان في الباطن مقرا به. فهو أكفرهم منهم، وهم أضل منه وأجهل. ولهذا يعظمونه جدا.
الوجه الحادي عشر: قول القائل بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله. فيقال: من الذي قال هذا الحق من الأولين والآخرين؟ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره الذي هو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشايخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيرا من التتار في هذا الوجه.
وأما محققوهم وجمهورهم فيجوز عندهم التهود والتنصر والإسلام والإشراك، لا يحرمون شيئا من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء ولا يجب عليه شيء، ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق...