مجلة الرسالة/العدد 4/فلسفة نيتشه
→ هذا الغروب. . . | فلسفة نيتشه زكي نجيب محمود |
بين كرامة الثقافة وضآلة المهنة ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1933 |
للأستاذ زكي نجيب محمود
لسنا نحسب أن داروين، حينما أذاع رأيه في تنازع البقاء وبقاء
الأصلح، كان يدور في خلده أن ذلك الرأي سيكون له من العمق والسيطرة الفكرية ما له اليوم، وأنه لن يقتصر على الأحياء من نبات وحيوان، بل سيتعداها إلى كل لون من ألوانالنشاط الإنساني؛ فأساليب الحكم، والدين، والأدب، والفن، والفلسفة، كل هذا وما هو أدق من هذا وأجل، يحاول الكتاب الآن أن يخضعوه إخضاعاً لقانون تنازع البقاء.
فعسانا لا نسرف في القول إذا زعمنا أن داروين هو رب الفكر الحديث، يتأثر خطاه آلاف المفكرين والكتاب، وأصبح بقاء الأصلح غرض الرمي في الكثير الغالب من أبحاث العلم والفلسفة والفن جميعاً.
وفلسفة نيتشه هي واحدة من تلك الفلسفات العديدة التي يرجع نسبها إلى قانون داروين، فقد استولد نيتشه ذلك القانون واتخذ منه مقدمة، ثم استخرج فلسفته كنتيجة لازمة لتلك المقدمة، ولم يجد التردد إلى نفسه سبيلا في إذاعتها في الناس على خطورتها، واقعة ما وقعت من نفوسهم.
ما دام قانون تنازع البقاء وبقاء الأصلح يسيطر على كل مظاهر الحياة، فلابد للواهن أن يخور ويتلاشى، ولابد للقوة في كل شيء أن تظفر آخر الأمر، وإذا فالمثل الأعلى للفضيلة هي القوة دون سواها، والضعف هو علة العلل وآفة التقدم. فأيا كانت الأخلاق التي تثبت قدمها في معترك البقاء، فهي الفضيلة وهي الخير، وأيا كانت الأخلاق التي تخور قواها فتسقط صريعة في الميدان لتخلي الطريق لسواها فهي الرذيلة وهي الشر.
هكذا يبدأ نيتشه منطقه ثم يتابع هذا المنطق إلى نهايته، حتى يصل آخر الأمر إلى نتيجة خطيرة كل الخطر: إلى نبذ المسيحية بل إلى نبذ الأديان جميعا ما دامت تنتشر مبادئ العطف والإيثار والاستسلام؛ ثم ينادي بدوره بوجوب القسوة والقوة والعنف لأنها قوية، ولأنها أقدر على البقاء.
الإنسانية في حياتها وفي تقدمها تحتاج إلى القسوة دون الرحمة، وإلى الكبرياء دون التواضع، وإلى الذكاء والسيطرة دون الإيثار. أما هذه المساواة والديمقراطية التي اتجهت إليها الشعوب في التاريخ الحديث، فإنما تقف عقبة كؤوداً في سبيل الانتخاب الطبيعي للبقاء، فليس في الكثرة العددية والجموع البشرية كمال الإنسانية المنشود. ولكن في الصفوة القوية العبقرية وحدها. إذا فليس من المنطق في شيء أن تكون المساواة أساس الأجتماع، تلك المساواة التي تحد من قوة القوي، وتضيف إلى الضعيف قوة مصطنعة أبتها عليه الطبيعة. فلننبذ الديمقراطية نبذ النواة، ولنخل الطريق أمام القوة لكي تستطيع أن تتبوأ مكانها وتتحكم في أعناق الجماهير، وليكن المثل الأعلى في الحكم هو بسمارك وأشباهه الذين يسوسون الشعوب بالنار والحديد.
☰ جدول المحتويات
الأخلاق
أراد نيتشه أن يقوض بناء الأخلاق السائدة من أساسه، ليقيم على أنقاضه بناء خلقياً جديداً. أراد أن يبيد هذا النوع الإنساني ليخلق ضرباً آخر من الإنسان قوياً عنيفاً ذكياً كما يريد: هو السوبرمان (الإنسان الأعلى).
فقد شهد التاريخ نوعين مختلفين من الأخلاق: أخلاق نبيلة سامية، كانت شعار الشعوب القديمة، وبخاصة الرومان. إذ كانت الفضيلة تعني الرجولة والجرأة والشجاعة، وأخرى وضيعة دنيئة ظهرت في الشرق، اصطنعها اليهود اصطناعاً أيام ضعفهم. حيث الفضيلة عبارة عن مجموعة من صفات ترجع في أصولها إلى الخوَّر والاستكانة والذل. فالخضوع قد خلق التواضع خلقا، والعجز كون الإيثار تكويناً، وهكذا نسج القوم حولهم نسيجا من الأخلاق الهزيلة الخائرة يدرعون بها حيث لا مقدرة لهم ولا سلطان، ونزعت النفوس إلى السلم والتماس لنجاة، بعد أن كانت تلتمس مواضع القوة والخطر؛ فحل الخداع والمكر محل القوة، والإشفاق والعطف مكان الصلابة والعنف، وجاء التقليد دون الابتكار والإنشاء، وقام الضمير حكماً يلتجأ إليه مقام التفاخر بالشرف. . فالشرف وثني، روماني، أرستقراطي؛ أما الضمير فأثر من آثار اليهودية فالمسيحية فالديمقراطية.
ويقول نيتشه إن الأنبياء استطاعوا بما أوتوا من قوة الشخصية. وسحر البيان أن يزينوا للناس ذلك النوع الهزيل من الأخلاق، حتى رسخت في نفوسهم وأصبحت عقيدة ليس إلى نبذها من سبيل، فإتقلبت الأوضاع، وأصبح الفقر والضعف هما جوهر الفضيلة، والقوة والثراء عنوان الرذيلة.
وقد بلغ هذا التقدير الخلقي أقصى حدود التقديس أيام المسيح الذي جعل الناس جميعا سواسية، ومن هنا أشتق العصر الحديث مبادئ الديمقراطية والاشتراكية، التي يعتقد نيتشه أنها الطريق المؤدية إلى الدمار والخراب.
ولكن الطبيعة تأبى الا أن تهدي الإنسانية سواء السبيل، فزودتها بإرادة غريزية لا تخطئ ولا تطيش لها سهام، فأنت إذا أمعنت النظر في الطبائع البشرية، أيقنت أن هذه الأخلاق السائدة من عطف ورحمة وإيثار وتضحية وما إلى ذلك، ليست الا ستاراً رقيقاً يخفي وراءه دافعاً غريزياً يمتلك من الإنسان قياده، نعم ذا أنت أمعنت في تحليل النفس الإنسانية، وجدت (إرادة لقوة) مستقرة في صميم الأعماق، تسير بالإنسان حيث تشاء. أعني أن الإنسان يلتمس القوة والسيطرة في كل ما ينزع إليه من أعمال وما يجيش في نفسه من مشاعر، وهذا الحب الذي يتخذه كثيرون دليلا على الإيثار بحجة أن التضحية فيه واضحة لا تحتاج إلى دليل هو في أعماقه رغبة في التملك، فما يبذله المحب في سبيل حبيبه يدفعه ثمنا للسيطرة على مخلوق آخر!! بل يزعم نيتشه أكثر من هذا فيقول إن من يتفانى في البحث عن الحقائق، لا يصرف مجهوده في سبيل الله من دونه. بل هو في الواقع يحاول أن يمتلك الحقائق قبل الآخرين.
وإرادة القوة هذه تملي على الإنسان ألوان الفلسفة وشتى ضروب الفكر، فمخطئ واهم من يحسب أنها تمثل الحقائق الواقعة، وإنما هي صورة منعكسة لرغباتنا، فالفيلسوف لا يضع المقدمات الصحيحة ثم يستنبط منه حكمته، ولكن الفكرة تنشأ وتتكون في ذهنه أولاً ثم يجيء بعد ذلك المنطق الذي يبررها.
فهذه الرغبات الغريزية المستترة وراء تلك الحجب الكثيفة من الأخلاق الظاهرة، هذه (إرادة القوة) هي التي توجه ميولنا وتكون آراءنا.
فالمنطق إذا ثوب رياء نخدع به أنفسنا، أو بعبارة خرى، تتخذ إرادة القوة من المنطق مبررا لأعمالها أمام العقل الإدراكي، ولكن الرجل القوى لا يحاول أن يستر إرادته وراء هذا الستار المنطقي الشفاف، الرجل القوي لا يعرف الا منطقا بسيطاً ينحصر في كلمتين، هما: (أنا أريد) ومتى أراد فلا حاجة إلى التماس المبررات. ولكن جاءت المسيحية فعكست الأوضاع الطبيعية. وأصبح الرجل القوي يستحي من قوته، ولابد له من البحث عن منطق لرغباته. وبذلك أخذت الأخلاق الأرستقراطية القوية الصالحة تذوي وتندثر، ونهضت قطعان الشعوب تقيم على أنقاضها صرحاً جديداً للأخلاق التي تلائم ضعفهم، وليس من سبيل إلى الشك في أنه إذا أرغمت أنوف الأقوياء، وأخذت السوقة تتبوأ مكان الزعامة من الإنسانية، فهي سائرة بخطى حثيثة إلى الدمار والفساد. ولسنا بحاجة إلى أن نقول إذا كانت الشفقة والرحمة والسلام خيراً، فليست الصراحة والعنف والحروب بأقل منها نفعا للمجتمع الإنساني: وبديهي أن هذه الأخلاق قد دافعت عن بقائها طوال العصور، ولم تبق الا لأنها نافعة وصالحة. ولولا أن (الشر) خير لاختفى من الوجود. فمن الحمق أن ننشد خيراً مطلقاً. بل لابد للأخلاق أن تتطور في الخير والشر على السواء، أي لابد للخير والشر أن يقفا جنبا إلى جنب، وأن يأخذ كل سبيله إلى الارتقاء.
السوبرمان
ما دامت الأخلاق تنزع إلى القوة في تطورها، فغرض الإنسانية لا يجوز أن يلتمس في السمو بالطبقات جميعا، وإنما يلتمس في تكوين نخبة صالحة؛ في تكوين السوبرمان، ومن العبث أن ينصرف المجهود البشري نحو إسعاد السوقة. بل يجب أن يتجه بكل قوته نحو إبادة هذا النوع من البشر، وإيجاد نوع أعلى مرتبة في الأخلاق؛ وانه لخير للإنسانية ألف مرة أن تتلاشى وتندثر من الوجود إذا لم تكن سائرة نحو تحسين النوع والارتفاع به. فليس المجتمع غرضا في ذاته، إنما هو أداة لزيادة قوة الفرد ونمو شخصيته، وهذا الفرد القوي السامي هو السوبرمان. الذي يؤمل نيتشه أن يخرج من أحضان الإنسان الحالي، وهو لا يعتمد في ذلك على الانتخاب الطبيعي، بل يريد أن يتعمد تكوينه بوسائل التربية، لأنه لاحظ أن تطور الحياة الطبيعي لا يعمل على إيجاد الفرد القوي الممتاز، وأن الطبيعة أقسى ما تكون على خيرة أبنائها، فلا سبيل إلى السوبرمان إلا بالانتخاب الصناعي والأخذ بوسائل (اليوجنية) والتربية الكاملة، وهو يقترح لتحقيق ذلك أن نعني بزواج الرجال الأقوياء من نساء ذوات قوة ممتازة، حتى لا يكون الزواج لمجرد التكرار، بل أداة للتسامي، فإذا ما أنتج ذلك الزواج نسلا، أعددنا له مدرسة خاصة تروضه على القسوة والعنف والجرأة والشجاعة، لا يتردد في تنفيذ أغراضه مهما اعترض سبيله من عقبات، غير عابئ بشر أو بخير، فليس الخير إلا ما يزيدنا شعورا بالقوة، وليس الشر الا ما تخور معه العزائم.
الأرستقراطية
الأرستقراطية وحدها هي الطريق إلى السوبرمان، فيجب أن نبحث الديمقراطية من أصولها، وأن نحطم في سبيل ذلك المبادئ المسيحية بأسرها لأنها والديمقراطية صنوان.
الديمقراطية معناها الدمار، معناها أن يتصرف كل جزء من الكل العضوي كيفما شاء، معناها التحلل والفوضى، معناها استخفاف بالعبقرية والنبوغ. معناها استحالة ظهور العظماء، إذ كيف يخضع العظيم لمهزلة الانتخابات، وهذه الشعوب تنبذ النفوس الكبيرة الحرة الجريئة نبذ الكلاب للذئب الجسور؟ نعم تنبذ النفوس الثائرة على القيود والعبادات، والتي لولاها لظلت الإنسانية حيث بدأت في ركود مميت. فكيف السبيل إلى استنبات السوبرمان في مثل هذه التربة الجدباء؟ كلا! لا سبيل إلى ذلك في مثل هذا المجتمع الذي يرفع على أكتافه رجل الأغلبية دون الرجل العبقري العظيم. في مثل هذا المجتمع الذي يحاول عبثا أن يسوي بين أفراد جعلتهم الطبيعة درجات بعضها فوق بعض.
وإذا كان نيتشه ينادي باقتلاع الديمقراطية وتحطيمها. فهو بالتالي يسخر من الاشتراكية لأنها وليدة الديمقراطية وربيبتها، فإذا كانت المساواة السياسية عدلاً، أفلا تكون المساواة الاقتصادية عدلا كذلك؟
لا! العدل أن لا مساواة بين الرجال، والطبيعة نفسها تأبى هذه المساواة وتسعى جهدها في تباين الأفراد والطبقات والأنواع.
الحوت الكبير يلتهم السمك الصغير، هذه سنة القوة وخلاصة الحياة؛ فلتكن كذلك سنة الإنسانية ومثلها الأعلى في الأخلاق بغير مواربة ولا رياء.
نقد
يدعو فردريك نيتشه الإنسان الحالي إلى الفناء والتضحية بنفسه في سبيل السوبرمان، ومن التناقض الظاهر أن يصدر عنه نداء بالتضحية في الوقت الذي يؤكد فيه أن الأخلاق القوية الصحيحة هي التي تدور حول الأنانية والاعتزاز بالنفس! كيف تريدني على إنكار نفسي وتمهيد الطريق لسواي، أستغفر الله بل تدعوني إلىإخلائها وتركها لمن هو خير مني، وفي هذا من الاستكانة والضعف ما يعود نيتشه فينكره أشد إنكار؛ ولم لا أثبت أنا في الميدان؟ ولم لا أكون أنا السوبرمان المنشود بعد إصلاح ما اعوج من طبيعتي؟ كذلك يريد نيتشه أن يقوض الأخلاق السائدة التي تعتمد على الرحمة والإيثار والعطف، ويقول أن ذلك خلقه الضعيف خلقا ليتقي به القوي وقسوته؛ وكم كنا نود أن نسأله كيف تغلب الضعيف حتى سادت آراؤه وأصبحت أخلاقا معترفا بها؟ وأين كانت الأرستقراطية القوية عندما شهرت صفوف الشعب في وجهها هذا السلاح الرهيب؟
الحق الذي لا شك فيه أن النزعات والأخلاق جميعا قد فرضها القوي على الضعيف فرضا، فان كان بها من الوهن شيء، فلا يقع تبعته إلا على عاتق القوي الذي يروج لحكمه نيتشه.