مجلة الرسالة/العدد 4/البيروني
→ في الأدب العربي | البيروني قدري حافظ طوقان |
من طرائف الشعر ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1933 |
(إنه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره). . سخاو
☰ جدول المحتويات
تمهيد:
قرأت في العدد الأول من الرسالة في مقالة (حلقة مفقودة للأستاذ أحمد أمين) ما يلي:
(وبالأمس كنت أتحدث إلى طائفة من المتعلمين عن البيروني العالم الإسلامي الرياضي المتوفى سنة 440هـ وما كشف من نظريات رياضية وفلكية، وأن المستشرق الألماني (سخاو) يقرر انه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره وانه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية البيروني. فحدثني أكثرهم أنه لم يسمع بهذا الاسم ولم يصادفه في جميع قراءاته، وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيراً ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة الإسلام).
عند قراءة هذه القطعة تبادر إلى ذهني أمران: أولاً روح الإنصاف عند بعض علماء الفرنج، ثانياً جهل المتعلمين منا بفلاسفة الإسلام والعرب وفحول علمائهم. . . أما الأمر الأول فليس بغريب على رجل سيطرت عليه روح العلم الصحيحة التي لا تعرف غير توخي الحقيقة أن يجاهر بما يعتقد حتى ولو كان ما يجاهر به مما لا يسر أبناء وطنه، على حين أننا نجد بعض علماء الغرب قد أغار على الكتب العربية وادعى ما فيها لنفسه، وبعضهم لم يذكر المصادر العربية التي اعتمد عليها أو نقل عنها، وقد أتينا بأمثلة على ذلك وعلى أن العرب سبقوا الفرنج إلى اكتشاف بعض النظريات والأبحاث الرياضية في مقالات نشرناها في مجلة المقتطف الغراء.
وأما الأمر الثاني فقد يكون لدى هؤلاء المتعلمين مبرر ولا سيما أن تاريخ بعض رجالنا السالفين قد أحيط بسحب كثيفة من الإبهام، وفقد البعض الآخر منه، وكان لكسلنا وخمولنا الأثر الأكبر في إهمال نوابغ العرب وتبيان مآثرهم في مختلف فروع المعرفة، ولكن مما لا شك فيه أن هذا التبرير حجة علينا ومن واجبنا بل من دعائم نهضتنا القومية أن نتولى أمر الكشف عن حقيقة رجالنا ومآثرهم بأنفسنا، وبذلك (وعلى الأقل) نضع حدا لادعاءات بعض المتعصبين وبعض المتفرنجين منا الذين يزعمون أن العرب لم يكونوا مخترعين مستنبطين، وانهم لم يكونوا الا نقلة عن غيرهم. وقد عنيت بوضع كتاب يبحث في أث العرب على العلوم الرياضية وما أخذه الغربيون من هذه العلوم، وتأثير ذلك في تقدمها. والمقالة التالية مجمل من ترجمة نابغة من نوابغ العلماء المسلمين قال عنه سخاو: (انه اكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره).
مولده ومنشؤه
هو محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي أحد مشاهير رياضيي القرن الرابع للهجرة ومن الذين جابوا الأقطار ابتغاء البحث والتنقيب. ولد أبو الريحان في خوارزم عام 362هـ - 873م ويقال أنه اضطر أن يغادر مدينة خوارزم على أثر حادث عظيم إلى محل في شمالها اسمه (كوركانج) وبعد مدة تركه وذهب إلى مقاطعة جرجان حيث التحق بشمس المعاني قابوس أحد أحفاد بني زياد وملوك وشمكير، ثم عاد إلى كوركانج وتمكن بدهائه أن يصبح ذا مقام عظيم لدى بني مأمون ملوك خوارزم. وبعد أن استولى سبكتكين على جميع خوارزم ترك أبو الريحان كوركانج وذهب إلى الهند فبقي مدة طويلة (ويقال انه سافر فيها أربعين سنة) يجوب البلدان ويقوم بأبحاث علمية كان لها تأثير في تقدم بعض العلوم. وقد استفاد البيروني من فتوح الغزنوبين في الهند وتمكن من القيام بأعمال جليلة؛ فانه استطاع أن يجمع معلومات صحيحة عن الهند، ويلم شتات كثير من علومها ومعارفها القديمة. وأخيرا رجع إلى غزنة ومنها إلى خوارزم ولم يعرف بالضبط تاريخ وفاته. وإنما الراجح أنه توفي سنة 440 هجرية - 1048 ميلادية.
تنقلاته العلمية ومآثره:
كان البيروني رياضيا وفلكيا وطبيباً ومؤرخا وجغرافيا. وهو أبرز شخصية بين علماء عصره الذين بفضلهم كان للعرب عصر ذهبي تقدمت فيه العلوم تقدمها المعروف. قرأ فلسفة الهند وله فيها وفي الرياضيات والفلك مؤلفات كثيرة، وهو من أوسع علماء الإسلام اطلاعا على آداب الهند وعلومها ويقال انه ضرب بسهم وافر في الجغرافيا حتى أن أبا الفداء كان يعتمد أحياناً في أبحاثه الجغرافية على كتب أبي الريحان. قال سيديو: إن أبا الريحان (اكتسب معلوماته المدرسية البغدادية ثم نزل بين الهنود حين أحضره الغزنوي فأخذ يستفيد منهم الروايات الهندية المحفوظة لديهم قديمة أو حديثة، ويفيدهم استكشاف أبناء وطنه ويبثها لهم في كل جهة مر بها، وألف لهم ملخصات من كتب هندية وعربية، وكان مشيرا وصديقا للغزنوي استعد حين أحضره بديوانه لإصلاح الغلطات الباقية في حساب بلاد الروم والسند وما وراء النهر. وعمل قانوناً جغرافياً كان أساسا لأكثر القسموغرافيات المشرقية؛ نفذ كلامه مدة في البلاد المشرقية ولذا استند إلى قوله سائر المشرقيين في الفلكيات، واستمد منه أبو الفداء الجغرافيا في جداول الأطوال والعروض وكذا أبو الحسن المراكشي. . .) ويعترف (سمث) في الجزء الأول من كتابه تاريخ الرياضيات أن البيروني كان ألمع علماء زمانه في الرياضيات، وان الغربيين مدينون لكتبه في معلوماتهم عن الهند وعلومها الرياضية، والبيروني ذو مواهب جديرة بالاعتبار، فقد كان يحسن السريانية والسنسكريتية والفارسية والعبرية عدا العربية، وفي أثناء إقامته بالهند كان يعلم الفلسفة اليونانية ويتعلم هو بدوره الهندية، ويقال انه كان بينه وبين ابن سينا مكاتبات في أبحاث مختلفة ورد أكثرها في كتب ابن سينا. وكان يكتب كتبه مختصرة منقحة بأسلوب مقنع وبراهين مادية. لكنه لم يتعد أن يوضح القوانين الحسابية بأمثلة ما، قال اليبروني عن الترقيم في الهند: إن صور الحروف وأرقام الحساب تختلف باختلاف المحلات، وان العرب أخذوا أحسن ما عندهم (أي عند الهنود) والقطعة التي قالها في ذلك هي لدينا ولا مجال لذكرها الآن. وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وكان ملما بعلم المثلثات وكتبه فيه تدل على أنه عرف قانون تناسب الجيوب. ويقال انه وبعض معاصريه عملوا الجداول الرياضية (للجيب والظل) وقد اعتمدوا في ذلك على جداول أبي الوفاء البوزجاني.
وعمل اليبروني تجربة لحساب الوزن النوعي، واستعمل في ذلك وعاء مصبه متجه إلى أسفل، ومن وزن الجسم بالهواء والماء تمكن من معرفة مقدار الماء المزاح، ومن هذا الأخير ووزن الجسم بالهواء حسب الوزن النوعي، واستطاع أن يجد الوزن النوعي لثمانية عشر عنصراً ومركباً بعضها من الأحجار الكريمة، وله أيضا كتاب في خواص عدد كبير من العناصر والجواهر وفوائدها التجارية والطبية، وهو وابن سينا من الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين.
مؤلفاته
من اشهر مؤلفات البيروني التي وصلت إلى أيدي العلماء كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وهذا الكتاب يبحث فيما هو الشهر واليوم والسنة عند مختلف الأمم القديمة من آشوريين ويونانيين إلى وقت البيروني، وكذلك في التقاويم وما أصاب ذلك من التعديل والتغيير وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية والتركية تبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض، وتجد فيه أيضا جداول لملوك آشور وبابل والكلدان والقبط واليونان قبل النصرانية وبعدها، ولملوك الفرس قبل الإسلام على اختلاف طبقاتهم. ولم يقتصر الكتاب على ذلك بل بحث في المتنبئين وأممهم من أهل الأوثان وأهل البدع في الإسلام، وغير ذلك من الموضوعات التي يتعلق بالأقباط وأعيادهم، وأعياد النصارى على اختلاف طوائفهم. . .
يقول كشف الظنون عن هذا الكتاب: (إنه كتاب مفيد، ألفه لشمس المعالي قابوس وبين فيه التواريخ التي تستعملها الأمم. . .) ومنه أيضا يستدل على أن البيروني أول من استنبط تسطيح الكرة. وقد فصل ذلك في كتابه المذكور الذي يدل أيضا على أن له استنباطات جليلة في الفلك والرياضيات، وقد ترجم (سخاو) الآثار الباقية المذكورة إلى الإنكليزية، وطبع عام 1879م في لندن، وله كتاب تاريخ الهند، وقد ترجمه أيضا سخاو إلى الإنكليزية وطبع الأصل في لندن سنة 1887م والترجمة فيها سنة 1888م، وفيه تناول البيروني لغة أهل الهند وعاداتهم وعلومهم.
واعتمد عليه (سمث) وغيره من المؤلفين عند بحثهم في رياضيات الهند والعرب، وله كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة وقد ترجم إلى الإنكليزية عام 1887م، وكتاب مقاليد علم الهيئة ما يحدث في بسيط الكرة. وفي هذا الكتاب بحث في (شكل الظل) اعترف فيه بان (الفضل في استنباط الشكل الظلي لأبي الوفاء بلا تنازع من غيره)، وقد كنا نشرنا هذا في مقالنا عن البوزجاني في مجلة المقتطف. وجاء أبو الريحاني في بعض كتبه على ذكر قسم من الكتب القيمة التي دخلت في زمن العباسيين والتي كان لها اثر كبير في تقدم علوم الفلك والرياضيات، فقد أتى ذكر على المقالتين اللتين حملهما أحد الهنود إلى بغداد في منتصف القرن الثاني للهجرة، فالمقالة الأولى في الرياضيات والثانية في الفلك، وبواسطة الأولى دخلت الأرقام الهندية إلى العربية واتخذت أساسا للعدد، والثانية اسمها (سدها نتا) التي عرفت فيما بعد باسم كتاب (السند هند) ترجمها إبراهيم الفزاري وكان نقلها بداءة عصر جديد في دراسة هذا العلم عند العرب. مما مر نستنتج أن البيروني كتب في تاريخ الرياضيات عند الهنود والعرب. ولولاه لكان هذا الموضوع اكثر غموضا مما هو عليه الآن، كما إن أكثر الكتب الحديثة التي تبحث فيه (في الرياضيات عند الهنود والعرب) تعتمد في الأغلب على كتبه كما يتضح لمن يتصفح كتب تاريخ العلوم الرياضية. وله مؤلفات أخرى يربى عددها على المائة والعشرين، منها: كتاب القانون المسعودي في الهيئة والنجوم، وقد ألفه لمسعود بن محمود الغزنوي، وكتاب استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، وكتاب استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، وهو مسائل هندسية أدخل فيها طريقته التي ابتكرها في حل بعض الأعمال، وكتاب العمل بالإسطرلاب، ومقالة التحليل والتقطيع للتعديل، وكتاب جمع الطرق السائرة في معرفة أوتار الدائرة وكتاب جلاء الأذهان في زيج البتاني، وكتاب التطبيق إلى تحقيق حركة الشمس، وكتاب في تحقيق منازل القمر. وتمهيد المستقر لتحقيق معنى الممر، وكتاب ترجمة ما في براهم سدهانه من طرق الحساب، وكتاب كيفية رسوم الهند في تعلم الحساب، وكتاب استشهاد باختلاف الأرصاد، وقد ألفه البيروني لأن أهل الرصد عجزوا عن ضبط أجزاء الدائرة العظمى بأجزاء الدائرة الصغرى، وكتاب الصيدلة في الطب (استقصى فيه معرفة ماهيات الأدوية ومعرفة أسمائها واختلاف آراء المتقدمين فيها وما تكلم كل واحد من الأطباء وغيرهم فيه، وقد رتبه على حروف المعجم)، وكتاب الإرشاد في أحكام النجوم، وكتاب في إفراد المقال في أمر الظلام، وكتاب تكميل زيج حبش بالعلل وتهذيب أعماله من الزلل، وكتاب الجماهر في معرفة الجواهر، ومقالة في نقل ضواحي الشكل القطاع إلى ما يغني عنه، وكتاب تكميل صناعة التسطيح، وله كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم، وهذا الكتاب لم يطبع بعد ولابد ان تكون بعض نسخ خطية منه موجودة في المكاتب الأوربية والمصرية، وهو لدينا في نسخة خطية نسخت منذ تسعين سنة عن نسخة قديمة، وهو يبحث في الهندسة والحساب والعدد ثم هيئة العالم ثم أحكام النجوم وذلك (لأن الإنسان لا يستحق سمة التنجيم الا باستيفاء هذه الفنون الأربعة)، وقد ألفه على طريقة السؤال والجواب ولغته سهلة سلسلة، ونترك التفصيل عنه الآن لكتابنا الذي نؤلفه.
نابلس. فلسطين. قدري حافظ طوقان