الرئيسيةبحث

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع/الباب الثاني



الباب الثاني: فِي أقسام اللهو المحرم وغيره

اعلمْ أنَّ أصل هذا الباب قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فِي الحديث الصحيح: ((كُلُّ شيء يَلهُو بهِ ابن آدم باطِلٌ إلا رَميَه بقَوْسِه، وتأدِيبَهُ فرَسَه، مُلاعَبَته امرأته)) (1)؛ وذلك لأنَّه أفاد أنَّ كلَّ ما يَتلهَّى به الإنسان ممَّا لا يفيد فِي العاجل والآجل فائدة دينيَّة فهو باطل، والاعتراض فيه متعيِّن إلا هذه الأمور الثلاثة، فإنَّه وإنْ فعلها على أنَّه يتلهَّى بها وليستأنس بها وينشط، فإنها حقٌّ؛ لاتِّصالها بما قد يفيد، فإنَّ الرمي بالقوس وتأديب الفرس فيهما عونٌ على القِتال، ومُلاعبة المرأة قد تُفضِي إلى ما يكون عنه ولد يُوحِّد الله ويعبده؛ فلهذا كانت هذه الثلاث من الحق وما عداها من الباطل، وحينئذٍ يتَّضح بذلك ما يأتي من التحريم في الأقسام الآتية.

وقال الخطابيُّ فِي الكلام على نحو هذا الحديث: وفي هذا بيانٌ أنَّ جميع أنواع اللهو محظورةٌ وإنما استثنى - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الخِلال من جُملة ما حرم منها؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها إذا تأمَّلتها وجدتها مُعِينة على حقٍّ أو ذريعة إليه، ويدخُل فِي معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح والشدِّ على الأقدام ونحوهما ممَّا يَرتاضُ الإنسان به ويتقوَّى به على مُجالَدة العدوِّ، لا كما فِي سائر ما يتلهَّى به البطَّالون من أنواع اللهو؛ كالنرد، والشِّطرَنج، واللعب بالحمام [ز1/ 38/أ] وسائر ضُروب [اللهو] ممَّا لا يُستعان به في حقٍّ [فمحظورٌ] كله، ا. هـ.

_________________________________________

(1) أخرجه أبو داود (2513)، والنسائي (6/ 222)، وابن الجارود في "المنتقى" (1062)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 104)، وأبو عوانة (4/ 504)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 3)، من طريق عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا أبو سلام الأسود، عن خالد بن زيد، عن عقبة بن عامر، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرِجاه، لكن قال المناوي في "فيض القدير" (2/ 299)، فيه خالد بن زيد قال ابن القطان: وهو مجهولُ الحال، فالحديث من أجله لا يصحُّ.


القسم الأول: اللعب بالنرد

وهو حَرامٌ كما نصَّ عليه الشَّافِعِي فِي "الأم" وجرى عليه أكثَرُ أصحابه، واعتمَدَه الشيخان وغيرهما، وعبارة الشَّافِعِي فِي "الأم": وأكرَهُ - من جِهة الخبَر - اللعبَ [بالنرد] أكثر ممَّا أكره اللعب بشيءٍ من الملاهي، ولا أحبُّ اللعبَ بالشِّطرَنج، وهي أخفُّ حالاً من النَّرْدِ، انتهت (2).

ومُرادُه كَراهة التحريم؛ إذ هو كثيرًا ما يُطلِق الكراهة ويريدُ بها التحريم؛ ولهذا قال فِي "البيان": المنصوص فِي "الأم" التحريمُ، وقيل: إنَّه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ، وعليه أبو إسحاق المروزي، والإسفراييني، وحُكِي عن ابن [خير الله] (3) وإفتاء أبي الطيب، وغلط الأصحاب هذا الوجه وقالوا: إنَّه ليس بشيء؛ لمخالفته الأدلة الآتية؛ إذ هي صريحة فِي التحريم بل فِي كونه كبيرةً كما يأتي، والمنقول عن الشَّافِعِي وأكثر أصحابه، فبطل هذا القول، وإنما يُحكَى ليُبيَّن بُطلانُه وزيفُه، وأنَّه لا يُعوَّل عليه ولا يُنظَر إليه، وممَّا يُزيِّفه أيضًا نقلُ القُرطبي فِي "شرح مسلم" اتِّفاقَ العلماء على تحريم اللعب به، ونقَل الموفَّق الحنبلي فِي "مغنيه" الإجماعَ على تحريم اللعب به (4)، وأمَّا قول جمعٍ: إنَّ المنصوصَ عليه فِي "الأم" وغيرها الكراهة، فهو غلطٌ منهم إنْ أرادوا كراهة التنزيه؛ لما مرَّ أنَّ الشَّافِعِي - رضِي الله عنه - يُطلِق قوله:

_________________________________________

(1) النرد: قال ابن منظور: والنرد معروف شيء يُلعَب به، فارسي معرَّب وليس بِعَربي وهو النَّرْدشير وفي الحديث: ((مَن لعب بالنَّرْدشير فكأنما غمَس يدَه في لَحْمِ الخِنزير ودَمِه)) النرد: اسم أَعجمي مُعَرَّبٌ وشِير بمعنى حُلْو؛ "لسان العرب" (نرد)، وفي "المعجم الوسيط": لعبة ذات صندوق وحجارة وفصَّيْن تعتمد على الحظ وتنقل فيها الحجارة على حسَب ما يأتي به الفص (الزهر) وتعرف عند العامة بـ (الطاولة) يُقال: لعب بالنرد؛ "المعجم الوسيط" (نرد). (2) "الأم"؛ لمحمد بن إدريس الشَّافِعِي (6/ 225) طبعة دار المعرفة. (3) في (ز1): حيزان، والمثبت من (ز2). (4) "المغني"؛ لابن قدامة (10/ 172) ط دار إحياء التراث العربي.


وأكره كذا، مريدًا به التحريم كثيرًا؛ ولهذا قال فِي "البيان" كما مرَّ: إنَّ المنصوص فِي "الأم" التحريم، وبه قال كثير أصحابنا، وقال الروياني فِي "الحلية": أكثر أصحابنا على التحريم وقالوا: إنَّه مذهب الشَّافِعِي.

(تَنْبِيه) الدليل على تحريمه وتغليظ العُقوبة فيه خَبَرُ أحمد، ومسلم، وأبي دواد، وابن ماجه، وأبي عوانة، وابن حبَّان أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن لعب [بالنَّردَشير] (أي: بفتح الدال) فكأنَّما غمَس يدَهُ في لحمِ خِنزير ودَمِه)) (1).

وخبر أبي داود وغيره، وصحَّحه ابن حبان، وقيل: فيه انقطاعٌ عَن أبِي مُوسى الأشْعريِّ عَن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((مَن لعِب بالنَّرْدِ فقد عصَى الله ورسُولَه)) (2).

وخبر أحمد، وأبي يعلى، والبيهقي وغيرهم: ((مَثَلُ الذي يلعَبُ بالنَّرْدِ ثم يقومُ يصلِّي، مَثَلُ الذي يتوَضَّأُ بالقيحِ ودَمِ الخِنْزِير، ثم يقومُ فيُصلِّي)) (3)؛ أي: فلاَ تُقبَلُ له صلاة، كما صرَّحت به روايةٌ أخرى.

وخبر أحمد: [ز1/ 38/ب] ((مَن لعبَ بالكِعاب فقدْ عصَى الله ورسولَه)) (4).

_________________________________________

(1) أخرجه مسلم (2260)، وأبو داود (4939)، وابن ماجَهْ (3763)، وأحمد (5/ 352)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1271) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه - رضِي الله عنه. (2) أخرجه أبو داود (4938)، وابن ماجَهْ (3762)، ومالك (1718)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 214)، وابن أبي شيبة (5/ 286 رقم 26141) وصحَّحه ابن حبان (5872)، والحاكم (160)، ووهم مَن عزاه إلى تخريج مسلم. (3) أخرجه أحمد (5/ 370)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 215)، وأبو يعلى (2/ 355 رقم 1104)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 291 رقم 1244) من حديث عبدالرحمن بن سعيد عن أبيه، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (8/ 113) رواه أحمد، وأبو يعلى وزاد: ((لا تُقبَل صَلاته)) والطبراني، وفيه موسى بن عبدالرحمن الخطمي، ولم أعرفه، وبقيَّة رجال أحمد رجال الصحِيحِ. (4) أخرجه أحمد (4/ 392)، وعبد بن حميد في "مسنده" (1/ 193 رقم 548)، والروياني في "مسنده" (1/ 352 رقم 541)، والحاكم (1/ 115 رقم 161) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه.


وخبر البيهقي عن يحيى بن أبي كثيرٍ قال: ((مرَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على قومٍ يلعَبُون بالنَّرْدِ فقال: قلوبٌ لاهيةٌ، وأيدٍ عاملةٌ، وأَلسِنَةٌ لاغيةٌ)) (1).

وخبر أحمد: ((إيَّاكم وهاتانِ الكعبتانِ الموسُومتانِ اللتانِ [تزجُرانِ زَجْرًا]، فإنَّها من المَيْسِر؛ ميسرُ العَجَمِ)) (2).

وخبر الطبراني: ((اجتَنِبُوا هذه الكِعابَ الموسومة التي [يُزْجَرُ بها زَجْرًا]، فإنَّها من المَيْسِرِ)) (3).

وخبَر الديلمي: ((إذا مَررتُمْ بهؤلاءِ الذين يلعَبون بهذه الأزلام، والشطرنج، والنرد، وما كان من هذه - أي: وما شابه ذلك من كلِّ لهوٍ محرَّم - فلا تُسلِّموا عليهم، وإنْ سلَّموا عليكم فلا تردُّوا عليهم)) (4).

وفي روايةٍ تأتي في مبحث الشِّطرنج: ((إذا مرَرتُم بهؤلاء الذين يلعَبُون بهذه الأزلام النرد والشطرنج وما كان من اللهو فلا تُسلِّموا عليهم؛ فإنهم إذا اجتمعوا وأكبُّوا عليها جاءَهم الشيطان بجنوده فأحدَق بهم كلَّما ذهَب واحدٌ منهم يصرف بصَرَه عنها، لكَزَه الشيطان بجنوده، فلا يزالون يلعَبُون

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 216)، و"الشعب" (5/ 241 رقم 6516)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (45) مرسلاً عن يحيى بن أبي كثير. (2) أخرجه أحمد (1/ 446) من حديث ابن مسعود، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (8/ 113): رواهُ أحمدُ والطبرانيُّ، ورجالُ الطبرانِيِّ رجالُ الصحِيح. (3) أخرجه بن أبي حاتم في "العلل" (2/ 297 رقم 2403) من حديث أبي موسى الأشعري - رضِي الله عنه - وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (8/ 113): رواه الطبرانيُّ، فيه عليُّ بن يزيدَ، وهو متروكٌ، وقال أبو حاتم: هذا حديثٌ باطل، وهو من عليِّ بن يزيد، وعثمان لا بأسَ به. (4) أورده أبو شجاع الديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" (1/ 269 رقم 1045) من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه.


حتى يتفرَّقوا كالكلاب إذا اجتمعت على جِيفةٍ فأكلت منها حتى مَلأت بُطونها ثم تفرَّقت)) (1).

وخبر ابن أبي الدنيا والبيهقي: ((اتَّقوا هذين الكعبين الموسومين اللذَيْن يزجران زجرًا، فإنهما من ميسر العجم)) (2).

وخبَرُ أبي داود في "مراسيله": ((ثلاثٌ [من] الميسر: [القمار]، والضرب بالكِعاب، والصفير بالحمام)) (3)، وحِكمة تحريمه أنَّ فيه حرزًا وتخمينًا فيُؤدِّي إلى التخاصُم والفتن التي لا غاية لها، ففطم الناس عنه حذَرًا من الشُّرور التي تترتَّب عليه.

(تَنْبِيه ثانٍ) اختلف أصْحابنا فِي اللعب بالنرد كبيرة أو صغيرة، وظاهر الأخبار المذكورة أنَّه كبيرةٌ، لا سيَّما الخبر الأوَّل، والخبر الذي فيه عدَم قبول الصلاة، وقد ذكَرتُ ذلك فِي "الزَّواجر عن اجتناب الكبائِر"، فقلت عقب ذكر تلك الأحاديث: عدُّ هذا هو ظاهِرُ هذه الأخبَارِ، لا سيَّما الخبر

_________________________________________

(1) لم أقفْ عليه. (2) أخرجه أحمد (1/ 446)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 215)، و"الشعب" (5/ 238 رقم 6502) من حديث ابن مسعود، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (8/ 113): رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجالُ الصحِيح. (3) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (1/ 350 رقم 518) عن يزيد بن شريح مرسلاً، وأورده المناوي فِي "فيض القدير" وقال: ((ثلاث من الميسر)) كمسجد ((القِمار)) بكسر القاف ما يتخاطَر الناس عليه؛ كان الرجل فِي الجاهلية يُخاطِر عن أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بهما، ((والضرب بالكعاب))؛ أي: اللعب بالنرد، قيل: لما وجد الحكماء الدُّنْيَا تجري على أسلوبين مختلفين منها ما يجري بحكم الاتِّفاق، ومنها ما يجري بحكم الفكر والتخييل والسعي، وضَعُوا النرد مثالاً للأوَّل، والشِّطرَنج للثاني، ((والصفير بالحمام))؛ أي: دُعاؤها للعب بها، وفي "المصباح": الصفير: الصوت الخالي عن الحروف (د فِي "مراسيله" عن يزيد بن شُرَيح) بالتصغير، كذا وقفت عليه فِي نسخ، وهو إمَّا تحريفٌ من النساخ أو سهْو من المؤلف، وإنما هو شريك بن طارق (التيمي) الكوفي قال ابن حجر: يُقال: إنَّه أدرك الجاهليَّة (مرسلاً) أرسل عن أبي ذر وعمر، قال الذهبي: "ثقة"؛ "فيض القدير"؛ للمناوي (3/ 292 رقم 3433).


الثاني، والخبر الثالث؛ أنَّ التشبيه الذي فيهما يفيدُ وعيدًا شديدًا لو لم يكنْ منه إلا عدَم قبول الصَّلاة، وبذلك صرَّح في "البيان" نقلاً عن أكثر الأصحاب فقال: قال أكثر أصحابنا: يحرم اللعب بالنرد، وهو المنصوص في "الأم"، ويفسق به وتردُّ به الشهادة، اهـ (1).

وسَبَقه إلى ذلك الماورديُّ فصرَّح به في "حاويه"، [وعبارته]: الصحيح الذي ذهَب إليه الأكثَرُون [ز1/ 39/أ] تحريمُ اللعب بالنرد، وأنَّه فسقٌ تردُّ به الشهادة، انتهت، وتبعه الروياني في "البحر" على عادته فقال بعد قول الشافعي في المختصر: وأكرَهُ اللعب بالنرد [للخبر؛ قال عامَّة أصحابنا: يكره اللعب بالنرد] (2) وتردُّ به الشهادة والكراهة للتحريم، وقال أبو إسحاق: هو كالشِّطرنج سواء وهذا غلطٌ، ا. هـ (3).

_________________________________________

(1) قال الشافعي في "الأم" شهادة أهل اللعب (قال الشافعي) - رحمه الله تعالى -: يُكرَه من وجه الخير اللعبُ بالنرد أكثر ممَّا يُكرَه اللعب بشيءٍ من الملاهي، ولا نحبُّ اللعب بالشِّطرَنج، وهو أخفُّ من النرد، ويكره اللعب بالحزة والقرق، وكل ما لعب الناس به؛ لأنَّ اللَّعِبَ ليس من صَنعة أهل الدِّين ولا المروءة، ومَن لعب بشيءٍ من هذا على الاستِحلال له لم تردَّ شهادته، والحزة تكون قطعة خشب فيها حفر يلعبون بها إنْ غفل به عن الصلوات فأكثَرَ حتى تفوته ثم يعودُ له حتى تفوته ردَدْنا شَهادته على الاستِخفاف بمواقيت الصلاة كما نردها لو كان جالسًا فلم يُواظِب على الصلاة من غير نسيان ولا غلَبَة على عقل، فإنْ قيل: فهو لا يترك الصلاة حتى يخرج وقتُها للعب إلا وهو ناسٍ؟ قيل: فلا يعود للعب الذي يورث النسيان، وإنْ عاد له وقد جرَّبه يورثه ذلك فذلك استخفافٌ. فأمَّا الجلوس والنسيان فممَّا لم يجلب على نفسه فيه شيئًا إلا حديث النفس الذي لا يمتنع منه أحدٌ، ولا يأثَم به، وإنْ قبح ما يحدث به نفسه، والناس يمتنعون من اللعب، فأمَّا مُلاعَبة الرجل أهلَه وإجراؤه الخيل، وتأديبه فرسه، وتعلُّمه الرمي ورميه - فليس ذلك من اللعب، ولا يُنهَى عنه. وينبغي للمرء أن لا يبلغ منه، ولا من غيره من تلاوة القرآن، ولا نظَر في عِلم ما يشغله عن الصلاة حتى يخرج وقتها، وكذلك لا يتنفل حتى يخرج من المكتوبة؛ لأنَّ المكتوبة أوجب عليه من جميع النَّوافل؛ "الأم"؛ لمحمد بن إدريس الشَّافِعِي (6/ 225) طبعة دار المعرفة. (2) سقط من (ز2). (3) "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 331) طبعة دار الفكر.


وعبارة [تحريم] (1) الروياني: وقال بعض أصحابنا فإنْ فعل فسق وردت شَهادته، وعبارة المحاملي فِي "تجريده": مَن لعب به فسق ورُدَّتْ شَهادته، هذا قول عامَّة أصحابنا إلا أبا إسحاق قال: هو كالشِّطرَنج وليس بشيءٍ، والأوَّل هو المذهب، ا. هـ.

وقال إمام الحرمين: الصحيح أنَّه من الكَبائر، [واعتمد] ذلك الأذرعيُّ فقال: مَن لعب بالنرد عالِمًا بما [جاء] فيه مستحضرًا له، فسق وردَّت شهادته فِي أيِّ بلد كان، لا من جهة ترْك المروءة بل لارتكاب النَّهي الشديد، ا. هـ.

والذي جرَى عليه الرَّافِعِي وسبَقَه إليه الشيخ أبو محمَّد أنَّه صغيرة، وعبارة الرَّافِعِي: ما حكمنا بتحريمه كالنرد هل هو من الكبائر حتى ترد الشهادة بالمرَّة الواحدة منه، أو من الصغائر يتعيَّن فيه الإكثار؟ فيه وجهان: كلام الإمام يميلُ إلى ترجيح أوَّلهما، والأشبه الثاني، وهو المذكور فِي "التهذيب" وغيره، ا. هـ.

واعتَمَده الأسنوي فقال: والصحيح ما قاله الشيخ أبو محمد، كذا رجَّحَه الرَّافِعِي فِي آخِر الفصل ثم أورد كلامه هذا، ثم قال: ورجَّحه الشرح الصغير لكن اعترض الإمام البلقيني ما رجَّحَه الرَّافِعِيُّ فقال: إنْ كان مورد التصحيح ما صحَّحه الأكثرون فقَد نقَل المحاملي فِي "التجريد" عن عامَّة الأصحاب مثلَ ما صحَّحه الإمام؛ أي: إنَّه كبيرة مطلقًا، وذكره الماوردي عن الأكثَرين أيضًا وقال: إنَّه الصحيح، وحينئذٍ فلا يستقيمُ قول الرَّافِعِي: إنَّه المذكور فِي "التهذيب" وغيره، وإنْ كان المراد الدليل فأين الدليل الذي استدلَّ به على مُدَّعاه، ا. هـ.

_________________________________________

(1) في (ز1): تجزئه.


وأشار بذلك إلى أنَّ القول بأنَّه صغيرةٌ مخالفٌ لما عليه الأكثرون، وهو ظاهر؛ لما مرَّ من النَّقل عنهم، ولما جاء فيه من السُّنَّة وهو ظاهرٌ أيضًا لما مرَّ من الوعيد الشديد فيه، وفصَّل بعضُهم فقال: ينظر إلى عادة البلد؛ فحيث استعظَمُوه رُدَّتْ [شهادته] بمرَّة واحدة منه [ز1/ 39/ب] وإلا فلا، وهذه التفرِقة ضعيفة كما قاله البلقيني، وعلى القول بأنَّه صغيرةٌ فمحلُّه حيث خَلا عن القمار وإلا فهو كبيرةٌ بلا نِزاع كما أشار إليه الزركشي، وهو واضحٌ.

(تَنْبِيه ثالث) يُسمَّى نردشير بالشين المعجمة والراء نسبةً لأوَّل مُلوك الفرس؛ من حيث كونه أوَّل مَن وضَع له ذكره فِي "المهمات"، وقال القاضي البيضاوي فِي "شرح المصابيح": يُقال: وضَعَه سابور ابن أزدشير ثاني ملوك الساسان ولأجْله يُقال له: النردشير، وشبَّه رقعته بالأرض وقسمها أربعة أقسام تشبيهًا بالفصول الأربعة، وقال الماوردي: قيل: إنَّه على الفصول الاثني عشر، والكواكب السبعة؛ لأنَّ بيوته اثنا عشر كالبروج ونقطه من جانبي الفص سبع كالكواكب السبعة، فعدل به إلى تدبير الكواكب والبروج.

(خاتمة): فِي بيان أنَّ اللهو المباح مأذونٌ فيه منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّه فِي بعض الأحوال قد لا يُنافِي الكمال:

عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((خيرُ لهوِ المؤمِن السباحةُ، وخيرُ لهوِ المرأة المِغزَل))؛ أخرجه ابن عدي (1).

_________________________________________

(1) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 152)، وأورده ابن حجر في "لسان الميزان" في ترجمة "جعفر بن نصر" وهو: متَّهم بالكذب، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 268) وقال: هذا حديث لا يصحُّ.


وعن جابر بن عبدالله وجابر بن عمير أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كلُّ شيءٍ ليس من ذِكر الله لهوٌ ولعب، إلا ملاعبة الرَّجل امرأتَه، وتأدِيب الرَّجل فرسَه ... )) الحديث؛ رواه النسائي (1).

وفي روايةٍ: ((اللهو في ثلاثٍ: [في] تأديب فرسك، ورميك بقوسك، ومُلاعبتك أهلَك)) (2).

وعن المطَّلب بن عبدالله أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الهوا والعَبوا؛ فإنِّي أكرَهُ أنْ أرى في دِينكم غِلظة))؛ رواه البيهقي (3).

_________________________________________

(1) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (5/ 303 رقم 8940)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2/ 193 رقم 1785)، "والأوسط" (8/ 118 رقم 8147)، وقال ابن حجر في "الدراية" (2/ 240): أخرجه النسائي وإسحاق والطبراني والبزار بإسناد حسن، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 180 رقم 2014): رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد. (2) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5/ 278 رقم 5309)، وصحَّحه الحاكم في "المستدرك" (2/ 104 رقم 2468) من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (5/ 269): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سويد بن عبدالعزيز، قال أحمد: متروك، وضعَّفه الجمهور ووثَّقه دحيم، وبقيَّة رجاله ثقات، وقال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 274): وأمَّا حديث أبي هريرة: فرواه الحاكم في "المستدرك" في الجهاد عن سويد بن عبدالعزيز، ثنا محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كلُّ شيءٍ من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة: انتضالك بقَوْسِك، وتأديبك فرسك، ومُلاعبتك أهلك، فإنهنَّ من الحق))، مختصر، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، انتهى. وتعقَّبَه الذهبي في "مختصره"، فقال: سويد بن عبدالعزيز متروكٌ، انتهى. وقال ابن أبي حاتم في "كتاب العلل" (1/ 302 رقم 905، 1/ 335 رقم 997) سألت أبي، وأبا زرعة عن حديث رواه سويد بن عبدالعزيز عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال ... فذكره، فقالا: هذا خطأ وَهِمَ فيه سويد، إنما هو عن ابن عجلان عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين، قال: بلغني أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال ... فذكره؛ هكذا رواه الليث وحاتم بن إسماعيل وجماعة، وهو الصحيح مرسلاً، قال أبي: ورواه ابن عُيَينة، عن ابن أبي حسين، عن رجل، عن أبي الشعثاء، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو أيضًا مرسلٌ، انتهى كلامُهُ بتصرف يسير. (3) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 247 رقم 6542)، وأورده أبو شجاع الديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" (1/ 106 رقم 357) وقال البيهقي: هذا منقطع، وإنْ صحَّ فإنه يرجع إلى اللهو المباح، قال المناوى (2/ 161): فيه مع ذلك يحيى بن يحيى الغسانى، قال الذهبى في الضعفاء: جرحه ابن حبان، وعمرو بن أبى عمرو مولى المطَّلب أورده أيضًا في "الضعفاء"، وقال: ليَّنَه يحيى وقال أحمد: لا بأس به.


وعن عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الأنصار فيهم غزل، فلو أرسَلتُم مَن يقولُ: أتيناكم أتيناكم، فحيَّانا وحيَّاكم))؛ رواه البيهقي (1).

وعن جابرٍ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أهديتُم الجارية - أي: زفَفتُموها إلى زوجها - فهلا بعَثْتُم معها مَن يغنيها يقول: أتيناكم أتيناكم،

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 289 رقم 14468) من حديث أبي الزبير عن جابر عن عائشة - رضِي الله عنها - والطبراني في "المعجم الأوسط" (3265) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضِي الله عنها - وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (4/ 289): "رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه رواد بن الجراح وثَّقَه أحمد وابن معين وابن حبان، وفيه ضعف". وأخرجه ابن ماجه (1900) من حديث أبى الزبير عن ابن عبَّاس قال: أنكحت عائشة ذات قَرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أهديتُم الفتاة؟)) قالوا: نعم، قال: ((أرسلتم معها مَن يُغنِّي؟)) قالت: لا، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الأنصار قومٌ فيهم غزل، فلو بعثتُم معها مَن يقول: أتيناكم أتيناكم، فحيَّانا وحيَّاكم)). وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة " (2/ 107): "هذا إسنادٌ رجاله ثقات، إلا أنَّ الأجلح مُختلَفٌ فيه، وأبو الزبير قال فيه ابن عُيَينة: يقولون: إنَّه لم يسمَعْ من ابن عبَّاس، وقال أبو حاتم: رأى ابن عباس رؤيةً، انتهى، وأصله في "صحيح البخاري" من حديث ابن عبَّاس بغير هذا السِّياق، وله شاهدٌ من حديث جابر رواه النسائي في "الكبرى"، ورواه البيهقي في "سننه الكبرى" من حديث جابرٍ عن عائشة، ورواه مُسدَّد في "مسنده" من حديث جابر، ورواه أحمد بن منيع في "مسنده" من طريق أبي الزبير عن جابر به"، وأحمد (3/ 391)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 332) من حديث أبي الزبير عن جابر، وأحمد (4/ 77) من طريق عمرو بن يحيى المازني عن جدِّه أبى حسن أنَّ النبى - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يكرَهُ نكاح السرِّ حتى يضرب بدفٍّ ويُقال: أتيناكم أتيناكم، فحيُّونا نحيِّيكم، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (4/ 289): رواه ابن أحمد، وفيه حسين بن عبدالله بن ضميرة، وهو متروكٌ".


فحيونا [نحيِّيكم]، فإنَّ الأنصار قومٌ فيهم غزل))؛ رواه أحمد، وابن منيع وغيرهما (1).

وعن عائشة - رضِي الله عنها - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((هل كان معكم من لهوٍ، فإنَّ الأنصار يحبون اللهو))؛ رواه الحاكم (2).

وعن [زوج ابنة أبي لهب] (3) [ز1/ 40/أ] [قال]: دخَل علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين تزوَّجتُ ابنة أبي لهب فقال: ((هل من لهو؟))؛ رواه أحمد (4).

وعن أبي أيُّوب - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((ما من شيءٍ تحضره الملائكة من اللهو إلا ثلاثة: الرجل مع امرأته، وإجراء الخيل، والنضال))؛ رواه الحاكم في "الكنى" (5).

وعن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: دخَل علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعِندى جاريتان من جَوارِى الأنصار تُغنِّيان بما تَقاوَلت به الأنصار يوم بُعاث وليستا بمغنِّيتين، فقال أبو بكر [الصِّدِّيق - رضي الله عنه -]: أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك

_________________________________________

(1) أخرجه أحمد (3/ 391)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 332) من حديث أبي الزبير عن جابر، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (4/ 289): رَواه أحمد، والبزَّار، وفيه الأجلح الكندي وثَّقَه ابن معين وغيره، وفيه ضعفٌ، وبقيَّة رجاله ثقاتٌ. (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 288 رقم 14464)، وصحَّحه الحاكم في "المستدرك" (2/ 200 رقم 2749). (3) في المخطوط والمطبوع: وعن روح بنت أبي لهب قالت، والصواب ما ذكرناه مصوبًا من مصادر التخريج. (4) أخرجه أحمد (4/ 67)، والطبراني في "الكبير" (24/ 258)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ 148 رقم 868)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 3)، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (4/ 289): رواه أحمد والطبراني، وفيه معبد بن قيس، ولم أعرِفْهُ. (5) أخرجه الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (4/ 1478) وقال: عبدالله هو الليثى مدني ضعَّفه أبو حاتم، وأورده المتَّقي الهندي في "كنز العمال" (15/ 214 رقم 40632) وعَزاه إلى الحاكم في "الكنى".


في يوم عيد، فقال: ((يا أبا بكرٍ، لكلِّ قوم عيدٌ، وهذا عيدُنا))؛ رواه البخاري ومسلم (1).

وجاء عن عمر - رضي الله عنه - ((أنه كان إذا خلا في بيته ترنم بالبيت والبيتين))؛ ذكره المبرد في "كامله" في قصة، وذكره البيهقي في "المعرفة" عن عمر وغيره، ورواه المعافى النهرواني في كتاب "الجليس والأنيس" (2)، وابن منده في "المعرفة" في ترجمة أسلم الحاوي في قصة، وروى أبو القاسم الأصبهاني شيئًا من ذلك في قصة (3).

_________________________________________

(1) متفق عليه: البخاري (949)، ومسلم (892). (2) المعافى بن زكرياء بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود، أبو الفرج النهرواني، ويُعرَف بابن طرارى، وُلِدَ سنة ثلاث وثلاثمائة، وقيل: سنة خمس وثلاثمائة، وكان إمامًا في النحو واللغة وأصناف الآداب، وكان يتفقَّه على مذهب محمد بن جرير الطبري. وصنَّف كتاب "الجليس والأنيس"، قال المعافى المذكور: حججت فكنت بمنًى فسمعت مناديًا ينادي: يا أبا الفرج، فقلت: لعلَّه غيري، ثم نادى يا أبا الفرج المعافى، فهممت أنْ أجيبه، ثم إنَّه رجع فنادى: يا أبا الفرج المعافى بن زكرياء النهرواني، فقلت عند ذلك: ها أنا، فما تريد؟ قال: لعلك من نهروان الشرق؟ قلت: نعم، قال: نحن نريدُ نهروان الغرب، قال: فعجبت من هذا الاتِّفاق، قلت: وهذا من الغرائب كونه طابق اسمه واسم أبيه والكنية والشهرة ويكون هذا من نهروان الشرق، وذاك من نهروان الغرب، وكانت وفاته في ذي الحجة وله خمس وثمانون سنة؛ "النجوم الزاهرة"؛ لابن تغري بردي. (3) أورد هذه القصة شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي في "المستطرف في كل فن مستظرف" (2/ 319) فقال: وعن عبدالله [الصواب عبدالرحمن] بن عوف قال: أتيت باب عمر بن الخطاب - رضِي الله تعالى عنه - فسمعته يغني بالركابية يقول: فَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا = قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ وكان جميل بن معمر من أخصاء عمر قال: فلمَّا استأذَنتُ عليه قال لي: أسمعتَ ما قلت؟ قلت: نعم، قال: إذا خلونا ما يقول الناس في بيوتهم، وأورد هذه القصَّة ابن عبدالبر في "الاستيعاب" (1/ 73)، وابن الأثير الجزري في "أسد الغابة" (1/ 187)، وابن حجر في "الإصابة" (1/ 500) بلفظ: "وقال الزبير بن بكار: جاء عمر بن الخطاب إلى عبدالرحمن بن عوف فسمعه يَتغنَّى بالنصب يقول: فَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا = قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ فقال: ما هذا يا أبا محمد؟ قال: إنَّا إذا خلَوْنا قلنا ما يقول الناس، وذكر المبرد هذه القصة فجعل عمر هو الذي كان يتغنَّى والله أعلم، قلت: لم أقف على أحدٍ أسند هذه الحكاية سواء عن عمر أو عبدالرحمن - رضي الله عنهما.


(تنبيه) قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الهوا والعَبوا فإنِّي أكرَهُ أنْ أرى في دِينكم غِلظة)) (1)، فيه دليلٌ لطلب ترويح النفوس إذا [سَئِمتْ]، وجَلائها إذا صدأت باللهو واللعب المباح.

ومن ثَمَّ جاء عن عليٍّ كرم الله وجهه: "القلب إذا [كره] عمي" (2).

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فاطلُبوا لها [طرائفَ] الحكمة" (3).

وعن غيره: "روِّحوا هذه القُلوب؛ فإنها سريعة [الدثور])) (4).

وعن عمر بن عبدالعزيز: "أنَّ ولده لَمَّا قال له: إنَّك لتَنام القائلة وذو الحاجة على بابك غير نائم! أجابَه بقوله: يا بنيَّ، إنَّ نفسي مطيَّتي، وإنْ حملت عليها في الطلب خسرتها)) (5).

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 247 رقم 6542)، وأورده أبو شجاع الديلمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" (1/ 106 رقم 357)، وقال البيهقي: هذا منقطع، وإنْ صحَّ فإنه يرجع إلى اللهو المباح، قال المناوى (2/ 161): فيه مع ذلك يحيى بن يحيى الغسانى، قال الذهبى في "الضعفاء": جرحه ابن حبان. وعمرو بن أبى عمرو مولى المطَّلب أورده أيضًا في الضعفاء، وقال: ليَّنه يحيى، وقال أحمد: لا بأس به. (2) لم أقفْ عليه. (3) لم أقفْ عليه من حديث ابن مسعود، وأخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 129 رقم 1389)، وأبو سعد السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (1/ 68) عن عليٍّ - رضي الله عنه - موقوفًا بلفظ: "روِّحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة؛ فإنها تملُّ كما تملُّ الأبدان". (4) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1/ 91 رقم 268)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 144) عن الحسن بلفظ: " ... أنَّه قال: حادثوا هذه القلوب بذكر الله فإنها سريعةُ الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنما تنزع إلى شرِّ غاية وإنَّكم إنْ تطيعوها في كلِّ ما تنزع إليه لا يبقى لكم شيئًا". (5) أخرجه أحمد في "الزهد"، وابن أبي عاصم في "الزهد" (1/ 293) بلفظ: عن عبدربِّه بن هلال قال: قال عبدالملك [بن عمر. ت. أ] بن عبدالعزيز لأبيه وقد دخل في القائلة: يا أبت، علامَ تقيل وقد تداركت عليك المظالم؟ لعلَّ الموت يُدرِكك في مَنامك وأنت لم تقضِ دأب نفسِك ممَّا ورد عليك قال: فشدد عليه قال: فلمَّا كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك قال عمر: يا بني، إنَّ نفسي مطيَّتي، وإنْ لم أرفق بها لم تبلغني، يا بني، لو شاء الله - عزَّ وجلَّ - أنْ ينزل القُرآن جملةً واحدة لفعل، نزل الآية بعد الآية حتى إبطاء ذلك في قلوبهم، يا بني، إنِّي لم أجد الحقحقة ترد إلى خير.


وعن ابن عباسٍ أنَّه كان إذا أكثر الكلام في القُرآن والسنن قال لِمَن عنده: ((احمضوا بنا - أي: نوصوا [بنا] في الشعر والأخبار)) (1)، وأصل ذلك أنَّ الإبل إذا أكثَرت الرعي في النبات الحلو أخرَجُوها إلى ما فيه حموضة؛ خَوفًا عليها من الهلاك.

ورُوِيَ: إنَّ في صحيفةٍ لآل داود - صلَّى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء وسلَّم -: "لا ينبغي للعاقل الكامل أنْ يخلي نفسَه من واحدةٍ من أربع: [ز1/ 40/ب] عمل لمعادٍ، أو صَلاح لمعاشٍ، أو فكر يَقِفُ به على ما يصلحه ممَّا يفسده، أو لذَّة في غير كرمٍ يستعينُ بها على الحالات الثلاث)) (2).

وروى الخطيب عن علي: "رَوِّحوا القُلُوب وابتغوا لها طَرائف الحكمة؛ فإنها تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدان" (3).

وقال غيرُه: "رَوِّحوا القلوب تَعِي الذِّكرَ" (4)، وقال الزهري: "كان رجلٌ يُجالِس أصحابَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُذاكِرهم، فإذا كثُر

_________________________________________

(1) لم أقفْ عليه، وأخرج البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (1/ 360 رقم 607)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 129 رقم 1392) نحوه عن الزهري بلفظ: "كان الزهري إذا سُئِلَ عن الحديث يقول أحمضونا، قال أبو أحمد: وذلك أنَّ الإبل ترعى الخلة وهو ما خلا من النبت فتسأمه، فترعى الحمض وهو الشورق، فإذا اختلفا منه اشتهت الخلة فترد إلى الخلة، فكذا قال: أحمضونا ... الحديث حتى تتفتَّح النفس"، ورواية الخطيب: "كان يقول لأصحابه: هاتوا من أشعاركم، هاتوا من حديثكم؛ فإنَّ الأذن مجة والقلب حمض". (2) لم أقفْ عليه. (3) أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 129 رقم 1389)، وأبو سعدٍ السمعاني في "أدب الاملاء والاستملاء" (1/ 68) عن عليٍّ - رضي الله عنه - موقوفًا. (4) أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 177 رقم 35115)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 104)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 129 رقم 1390) عن قسامة بن زهير.


وثقُل عليه الحديثُ قال: "إنَّ الأذُن مجاجة، ألا فهاتوا من أشعاركم وحَدِيثكم" (1).

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (1/ 360 رقم 606)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 129 رقم 1391).


القسم [الثاني]: اللعب بالشِّطرَنج

هو حَرامٌ عند أكثر العلماء، وكذا عندنا، أنَّ لعبَه مع مَن يعتقدُ تحريمه أو اقترن به قمارٌ أو إخراجُ صلاة عن وقتها أو سباب أو نحو ذلك من الفَواحش التي تغلب على أهله، وإلا كره كراهةَ تنزيهٍ.

(تَنْبِيه) الدليل على تحريمه مطلقًا أو بقيدٍ ممَّا ذكرناه الأحاديثُ الكثيرةُ فيه.

أخرَجَ أبو بكرٍ الأثرم في "جامعه" بسنده عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنَّ لله - عزَّ وجلَّ - في كلِّ يوم ثلاثمائةً وستين نظرةً إلى خلقه، ليس لصاحب الشاه [فيها نصيب))، وفسَّر صاحب الشاه] بلاعب الشطرنج؛ لأنَّه يقول: شاه، وأخرجه الديلمي بلفظ: ((إنَّ لله - تعالى - في كلِّ يومٍ وليلة ثلاثمائةً وستين نظرة لا ينظُر فيها إلى صاحب الشاه))؛ يعني: الشطرنج (1).

وأخرج الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" بلفظ: ((إنَّ لله - تبارك وتعالى - لوحًا ينظُر فيه في كلِّ يومٍ وليلة ثلاثمائةً وستين نظرة يرحَمُ بها عباده، ليس لأهل الشاه فيها نصيبٌ)) (2).

وأخرج أبو بكرٍ الآجري بسنده عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا مرَرتُم بهؤلاء الذين يلعَبُون بهذه الأزلام - النرد والشطرنج وما كان من اللهو - فلا تُسلِّموا عليهم؛ فإنهم إذا اجتمَعُوا وأكبُّوا عليها جاءَهُم الشيطان بجنوده فأحدَقَ بهم، كلَّما ذهَب واحدٌ منهم

_________________________________________

(1) أورده ابن حبان في "المجروحين" (2/ 297)، والديلمي في "الفردوس" (1/ 190 رقم 710) من حديث واثلة بن الأسقع - رضِي الله عنه - وقال ابن حجر في "الدراية" (2/ 240): رواه ابن حبان في "الضعفاء" في ترجمة محمد بن الحجاجِ المصغر وهو متروك. (2) أورده المتقي الهندي في "كنز العمال" (15/ 218 رقم 40657) وعَزاه إلى الخرائطي في "مساوي الأخلاق" من حديث واثلة بنِ الأسقعِ - رضِي الله عنه.


يصرف بصره عنها [لكَزَه] الشيطان بجنوده، فما يزالون يلعبون حتى يتفرَّقوا كالكلاب اجتمعت على جيفة فأكلت منها حتى ملأت بطونها ثم تفرَّقت)).

وفي روايةٍ للآجُرِّي والدارقطني وأخرى: ((إذا مرَرْتُم بهؤلاء الذين يلعَبُون بالأزلام أو الشِّطرنج والنرد وما كان من اللهو [ز1/ 41/أ] فلا تُسلِّموا عليهم، وإنْ سلَّموا عليكم فلا تردُّوا عليهم، فإنهم إذا اجتمعوا وأكبُّوا عليها جاء إبليس - أخزاه الله - بجنوده فأحدَق بهم كلَّما ذهَب رجلٌ يصرف بصره عن الشطرنج [لكَزَه في ثغره] وجاءت الملائكة من وراء ذلك فأحدقوا بهم ولم يدنوا منهم، فما يزالون يلعبون حتى يتفرَّقوا عنها حين يتفرَّقون كالكلاب اجتمعت على جِيفة، فأكَلتْ منها حتى مَلأت بُطونها ثم تفرَّقت)) (1).

وأخرج ابن حزم أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أشدُّ الناس عَذابًا يوم القيامة صاحب الشاه - يعني: صاحب الشطرنج - أمَا تراه يقول: قتلته، والله مات، والله افترى كذبا على الله)) (2).

وأخرج الديلمي: ((ملعونٌ من لعب بالشِّطرنج)) (3).

وأخرج ابن حزم: ((الشِّطرنج ملعونةٌ، ملعونٌ من لعب بها، والناظر إليها كآكل لحم الخنزير)) (4).

_________________________________________

(1) أورده الديلمي في " الفردوس " (1/ 269 رقم 1045). (2) أورده ابن جزم في "المحلى" (7/ 569) من طريق ابن حبيبٍ حدثنا الجذامي، عن ابن أبي رواد، عن أبيه، ثم قال: عبدالملك لا شيء، وهو منقطع. (3) أورده الديلمي في "الفردوس" (4/ 126 رقم 6391) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه. (4) أورده ابن حزم في "المحلى" (7/ 569) من طريق عبدالملك بن حبيب عن أسد بن موسى، وعلي بن معبد عن ابن جريج عن حبة بن سلم. ثم قال: ابن حبيب لا شيء، وأسد ضعيف، وحبة بن سلم مجهول، وهو منقطع، وابن حجر في " لسان الميزان " (2/ 166) في ترجمة حبة بن سلم وقال: أخرجه بن حزم من طريق عبدالملك بن حبيب عن أسد بن موسى، وعلي بن معبد كلاهما عن بن جريج عن ابن جريج عن حبة بن سلم كذا قال، وقال بعده حبة بن سلم مجهول، وابن حبيب لا شيء، وأسد ضعيف وهو منقطع انتهى كلامه والسند الذي أورده أبو موسى هو من طريق عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد عن بن جريج قال حدثت عن حبة بن مسلم فذكره فأفاد أن بن حبيب لم ينفرد ولا شيخه ويكون في روايتهما سقط راو وهو من حديث بن جريج.


وأخرج الديلمي أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَلعونٌ مَن لعب بالشِّطرنج)) (1).

وأخرج أيضًا أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يأتي على الناسِ زمانٌ يلعَبُون بها، ولا يلعَبُ بها إلا كلُّ جبَّار، والجبَّار في النار (يعني: الشطرنج) لا يُوقَّر فيه الكبير، ولا يُرحَم فيه الصغير، يقتُل بعضهم بعضًا على الدنيا، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب، لا يَعرفون معروفًا ولا يُنكرون مُنكرًا، يمشي الصالح فيهم مُستخفِيًا، أولئك شِرار خَلق الله لا ينظر إليهم)) (2).

وأخرج أيضًا: ((ألاَ إنْ أصحاب الشاه في النار، الذين يقولون: قتلت والله شاهك)) (3).

وأخرج أيضًا: ((مَن لعب بالشِّطرنج فقد قارَف شِركًا، ومَن [يشرك] بالله فكأنما خرَّ من السَّماء)) (4).

وفي روايةٍ: ((مَن لعب بالشِّطرنج فقد عصَى الله ورسولَه)) (5).

_________________________________________

(1) أورده الديلمي في "الفردوس" (4/ 126 رقم 6391) من حديث أنس بن مالكٍ - رضِي الله عنه. (2) أورده الديلمي في "الفردوس" (5/ 440 رقم 8676) من حديث علي - رضِي الله عنه. (3) أورده الديلمي في "الفردوس" (1/ 138 رقم 488) من حديث ابن عباس - رضِي الله عنهما. (4) أورده الفتني في "تذكرة الموضوعات" (1/ 187) وقال فيه: أبو عصمة الكذاب، وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (1/ 207): في إسناده كذَّاب، ولم يثبت في هذا الباب شيء. (5) أورده ابن عبدالبر في "التمهيد" (13/ 173) من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - وقال: هذا إسنادٌ عن مالك مظلم، وهو حديث موضوع باطل.


وأخرج أيضًا: ((اللاعِب بالشِّطرنج كالقاطع لحم الخنزير، والناظر إلى مَن يلعَبُ بالشطرنج كالغامس يده في لحم الخنزير)) (1).

وأخرج أيضًا: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يُسلَّم على مَن لعب بنردٍ أو شِطرنج وعلى شارب الخمر)) (2).

وأخرج أيضًا: أنَّ عليًّا كرم الله وجهه مرَّ بقومٍ يلعَبون بها فلم يُسلِّم عليهم، فقال: أُسلِّم على قومٍ يَعكُفون على أصنامٍ لهم، سمعتُ خليلي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول ذلك (3).

وأخرج أيضًا: ((اللاعِبُ بالشِّطرنج يَأكُل لحمَ الخنزير)) (4).

وأخرج أيضًا: مرَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقومٍ يلعَبُون الشِّطرنج فقال: ما هذه الكوبة؟ ألم أنه عنها؟! لعَن الله مَن لعب بها)) (5). [ز1/ 41/ب]

وفي روايةٍ: ((لعنَةُ الله على مَن يلعَبُ بها)) (6).

وأخرج أيضًا: ((نفرٌ من أمَّتي لا يُكلِّمهم الله ولا يَنظُر إليهم ولهم عَذاب أليم: المانعون الزكوات، والنائمون عن العِبادات، والمتلذِّذون بالشَّهوات، واللاعبون بالشاه، ومات الضاربون بالكُوبات ... )) الحديث (7).

_________________________________________

(1) أورده الديلمي في "الفردوس" (3/ 470 رقم 5462) من حديث أنس بن مالك - رضِي الله عنه - وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (1/ 207): في إسناده وضاع. (2) لم أقفْ عليه. (3) لم أقفْ عليه. (4) أورده الفتني في "تذكرة الموضوعات" (1/ 187) وقال: فيه مَن له موضوعات. (5) أخرجه ابن حبان في "المجروحين" (3/ 26 رقم 1065) من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 783): لا أصلَ له، وقال ابن حجر في "الدراية" (2/ 240): أخرَجَه ابن حبان في ترجمة "مطهر بن الهيثم" وهو متروكٌ، وفي رجاله متروكان مجهولان أيضًا. (6) لم أقفْ عليه. (7) أورده الديلمي في "الفردوس" (3/ 36 رقم 4082) من حديث ابن مسعود - رضِي الله عنه - بلفظ: ((عشرة أصناف من أمَّتي لا يَنظُر الله إليهم يومَ القيامة ولا يُكلِّمهم ولهم عَذاب أليم، إلا أنْ يتوبوا أو يُنِيبوا: المتلذِّذون بالقهوات، واللاعبون بالمساهمات، والضاربون بالكوبات، واللاهون بالعرطيات، والمانعون الزكوات، والغانمون الأمانات، والنائمون عن العتمات والغدوات، والعشارون في الطرقات، والطالبون للشهوات واللذات، والراضوان في المنكرات)).


وأخرج الطبراني: إنَّ أعرابيًّا قال: يا نبيَّ الله، إنِّي رأيت البارحةَ في المنام أنَّه ليس من عبدٍ يشهَدُ أن لا إله إلا [الله] ويشهد أنَّك رسولُ الله إلا رفَعَه الله درجةً في الجنَّة، إلا أصحاب الشاه))؛ وهي الشطرنج (1).

وأخرج الديلمي: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اللعب بالشطرنج (2).

وأيضًا: ((يُغفَر ليلة النصف من شعبان لكلِّ متكبرٍ إلا صاحب الشاه))؛ يعني: الشطرنج (3).

وأخرج الحليمي حديثًا طويلاً فيه: ((ومَن لعب بالشطرنج والنرد [والجوز] والكعاب مقَتَه الله، ومَن جلس إلى مَن يلعَبُ بالشِّطرنج والنرد ينظُر إليهم [مُحيَتْ] عنه حسَناته كلها وصار ممَّن [مقته] الله)) (4).

قال علي كرم الله وجهه: ((الشطرنج ميسر الأعاجم)) (5).

_________________________________________

(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (9/ 78 رقم 9181) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وقال الطبراني: لم يروِ هذين الحديثين عن نافعٍ عن ابن عمر إلا ثابت بن زهير، تفرَّد بهما داود بن مُعاذ ابن عمر، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (8/ 113): رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه ثابت بن زهير وهو ضعيفٌ. (2) لم أقف عليه. (3) لم أقف عليه. (4) أورده القرطبي في "تفسيره" (8/ 339). (5) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، و"الشعب" (5/ 241 رقم 6518)، وقال البيهقي: هذا مُرسلٌ ولكنْ له شواهدُ.


ومرَّ [علي] كرم الله وجهه على قومٍ يلعَبون الشِّطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكِفون؛ لأنْ يمسَّ أحدكم جمرًا حتى تُطفَأ خيرٌ له من أنْ يمسَّها، ثم قال: والله لغيرِ هذا خُلِقتم (1).

وقال أيضًا: صاحب الشِّطرنج أكثَرُ الناس كذبًا يقول أحدهم: قتلت، وما قتل، ومات، وما مات (2).

وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعَبُ بالشطرنج إلا خاطئ (3).

وقيل لإسحاق بن راهويه: أترى في اللعب بالشِّطرنج بأسًا؟ فقال: البأس كلُّه فيه، قيل له: أهل الثغور يلعَبُون بها لأجل الحرب، فقال: هو فُجور (4).

وسُئِلَ محمَّد بن كعب القرظي عن اللعب بها، فقال: أدنى ما يكون فيه أنَّ اللاعب بها يعرض - أو قال: يُحشَر - يومَ القِيامة مع أصحاب الباطل (5).

وسُئِلَ ابنُ عمر عنها - وهو صحيحٌ عنه - فقال: هي شرٌّ من الميسر (6)، ويُوافِقه قول مالك، وقد سُئِلَ عنها [فقال]: هي من النرد، ومرَّ في النرد أنَّه كبيرةٌ عند أكثر العلماء.

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، وأورده ابن حزم في "المحلى" (7/ 569) بلفظ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِرِجَالٍ يَلْعَبُونَ بِشِطْرَنْجٍ فَقَالَ «مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ» لَأَنْ يُمْسِكَ أَحَدُكُمْ جَمْرَةً حَتَّى تُطْفَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا، لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْت بِهَا وُجُوهَكُمْ ـ ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا، ثم قال: هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَفِيهِ ابْنُ حَبِيبٍ. (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212). (3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، و"الشعب" (5/ 241 رقم 6518) من حديث أبي مُوسَى الأشْعَرِي - رضِي الله عنه. (4) أخرجه أبو بكر الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (161). (5) لم أقفْ عليه. (6) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، و"الشعب" (5/ 241 رقم 6518)، وأحمد في "الورع" (1/ 92) بلفظ: عن ابن عمرَ أنَّه سُئِلَ عن الشِّطرَنج فقال: هو شرٌّ من النرد.


وقال مالكٌ: بلغنا عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّه ولي مالاً ليتيمٍ فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها، ولو كان اللعب بها حَلالاً لما أجازَ إحراقها؛ لكونها مالَ يتيمٍ، لكنْ لَمَّا كان [ز1/ 42/أ] اللعب بها حَرامًا أحرَقَها، فتكون مثل الخمر إذا وجدت في مال اليتيم يجبُ إراقتها، هذا مذهب حبر الأمَّة ابن عباس - رضي الله عنهما - لكن قال الحافظ: هذا منقطعٌ، بل مُعضَل (1).

وعنه بسندٍ لا يصحُّ: المَيْسِرُ: النرد، والشِّطرَنج، والقمارُ حتى [الجُوزُ]، والفُلُوس، والحصَى، والكِعاب وما أَشبَه ذلكَ باطل حرامٌ (2).

وقيل لإبراهيم النخعي: ما تقولُ في اللاعب بها؟ فقال: إنَّه ملعون (3).

وقال وكيعٌ وسفيان (4) في قوله - تعالى -: {وأنْ تستَقسِموا بالأزلام} هي الشطرنج (5).

وقال مجاهد: ما من ميتٍ يموت إلا مُثِّلَ له جلساؤه الذي كان يجالسهم، فاحتضر بعض لاعبيها، فقيل له: قُل: لا إله إلا الله، فقال: شاهك، ثم

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، و"الشعب" (5/ 241 رقم 6518). (2) لم أقفْ عليه عن ابن عباس - رضِي الله عنهما - لكن أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 213)، وعبدالرزاق في "المصنف" (10/ 467)، والطبري في "تفسيره" (2/ 358) عن مجاهد موقوفًا بلفظ: الميسر القمار كله حتى الجوز الذي يلعب به الصِّبيانُ. (3) أورده المصنف في "الزواجر" (2/ 333). (4) الصواب قال: " سُفْيَان بْن وَكِيع " كما ذكره ابن جرير في تفسيره. وهو: سفيان بن وكيع بن الجراح روى عن: أبيه، وابن نمير، وابن عليَّه. وعنه: الترمذي، وابن ماجه، وابن جرير. توفي 247 هـ ـ (تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني). (5) سورة المائدة: 3، وأثر سفيان بن وكيع أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/ 76) بلفظ: قال أبو جعفر: قال لنا سفيان بن وكيع: هو الشِّطرَنج.


ماتَ (1)، فكانت تلك الكلمة الخبيثة هي خاتمةَ نُطقِه بدل الكلمة الطيِّبة التي هي: لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ التي وعد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كانت آخِرُ كلامِه بأنَّه يدخل الجنَّةَ)) (2) مع الناجين الفائزين السابقين.

(تَنْبِيه) إنْ قلت: هذه الأحاديث كلها [فيها] أعدَل شاهد وأظهَر مستند لما قاله أكثر العلماء أنَّ اللعب بالشِّطرَنج حرام مطلقًا وإن لم يقترن به شيء ممَّا مرَّ فما دليل القائلين بالحل؟ قلت: قال الحفَّاظ: إنَّ جميع تلك الأحاديث ليس فيها حديثٌ صحيحٌ ولا حسن، بل أقلها ضعيف وأكثرها منكر ساقط؛ ومن ثَمَّ قال الحافظ المنذري: وقد ورد ذكر الشِّطرَنج فِي أحاديث لا أعلم لشيء منها إسنادًا صحيحًا ولا حسنًا (3).

وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: لا يَثبُت فِي الشِّطرَنج عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيءٌ، وقال تلميذه الحافظ السخاوي بعد ذِكره تلك الأحاديثَ والكلام على كلِّ واحدٍ منها بما يعلم منه أنَّه منكر ساقط - وهو الأكثر فيها - أو ضعيف: ليس فِي هذا الباب حديث صحيح، بل ولا حسن، فإنْ قلت: جاء عن عشرةٍ من الصحابة أنهم كرهوه وذموه كما مرَّ بعض ذلك، قلت: أكثر هؤلاء لم يصحَّ عنه ما نُقِلَ عنه وهم: عُقبة بن عامِرٍ، بل ما روي: لأَنْ أعبد وثنًا من دُون الله أَحَبُّ إلَيَّ من أنْ ألعَبَ

_________________________________________

(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "المحتضرين" (238، 245). (2) أخرجه أبو داود (3116)، والبزار (2626)، والطبراني في "الكبير" (20/ 112)، والبيهقي في "الشعب" (1/ 108 رقم 94)، وابن منده في "الإيمان" (1/ 248)، وصحَّحه الحاكم (1/ 503 رقم 1299) من حديث مُعاذ بن جبل - رضِي الله عنه - بلفظ: ((مَن كان آخِر كلامه لا إله إلا الله دخَل الجنة))، قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" (2/ 210) أعلَّه ابن القطان بصالح بن أبي عريب، وأنَّه لا يعرف، وتعقب بأنَّه روَى عنه جماعةٌ، وذكَرَه ابن حبان في "الثقات"، والحديث عند مسلم (26) من حديث عثمان - رضِي الله عنه - بلفظ: ((مَن مات وهو يعلَمُ أن لا إله إلا الله دخل الجنة)). (3) "الترغيب والترهيب" (4/ 24).


بالشِّطْرَنج (1)، كذبٌ صراح عليه؛ لأنَّ مثلَ هذه العبارةِ لا تصدر من مسلم، ومُعاذ، وأبو بكرة، وأبو سعيدٍ الخدري، وأبو موسى الأشعري، فإنَّ ما رُوِيَ عنه وإنْ صحَّ لكنَّه منقطعُ [ز1/ 42/ب] وعائشة، وابن عباس (2).

وأمَّا ما مرَّ عن ابن عمر فلا يلزم من كونه شرًّا من النرد الحرمة؛ لاحتمال أنَّه يرى حلَّ النرد، كما هو وَجْهٌ لبعض أصحابنا على أنَّه كما مرَّ عن علي مذهب صحابي وهو غير حجَّة عندنا لا سيَّما وقد جاء عن سبعةٍ من الصحابة أنَّ بعضهم لعبه وبعضهم أقرَّ عليه، وأُجِيبَ عن قول عليٍّ السابق أيضًا بأنَّ الشِّطرَنج إذ ذاك كان مصورًا بصور الفيلة ونحوها ممَّا هو موضوعٌ لها، وجاء عن كثيرٍ من التابعين ومَن بعدهم حلُّه وَعَنْ آخَرين امتناعه فيَتكافَآن نظير ما ذكر عن الصحابة، وإنْ كان القائلون بالحرمة أكثر.

فإنْ قلت: قد نازَع بعض الحفَّاظ المتأخِّرين فِي ثُبوت ما مرَّ عن أولئك السبعة الصحابة بأنَّ البيهقي أعلَمُ أصحاب الشَّافِعِي بالحديث وأنصحهم له ذكر إجماع الصحابة على المنْع منه ولم يحكِ عن الصحابة فِي ذلك نِزاعًا، قال: ومَن نقَل عن واحدٍ من الصحابة أنَّه رخَّص فيه فهو غالِطٌ، والبيهقي

_________________________________________

(1) أورده ابن حزم في "المحلى" (7/ 569) من طريق ابن حبيب، عن أصبغ بن الفرج، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن أبي قبيل، عن عقبة بن عامر الجهني، ثم قال: هذا كذبٌ بحت، ومَعاذَ الله أنْ يقول صاحب: إنَّ عبادة الأوثان من دون الله - تعالى - يعدلها شيءٌ من الذنوب، فكيف أنْ يكون الكُفر أخفَّ منها؟ ويحيى بن أيوب لا شيءَ، وأبو قبيل غير مذكور بالعدالة. (2) قال ابن القيم في "المنار المنيف" (1/ 134 رقم 303): أحاديث اللعب بالشِّطرَنج إباحةً وتحريمًا كلها كذبٌ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما يثبت فيه المنع عن الصحابة، وقال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 568): باب اللعب بالشِّطرَنج ليس فيه حديث صحيح.


وغيره من أهل الحديث أعلَمُ بأقوال الصحابة ممَّن ينقل أقوالاً بلا إسناد، والعلم عند الله - تعالى - ا. هـ.

قلت: الإجماع مدخولٌ؛ فقد جاء عن عمرَ من طرقٍ إباحتُه، فهو حسنٌ لغيره، بل صحَّح التاج السبكي بعضَ طرقه، وإنِ اعتُرِض، وصَحَّ عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - لكن من طريق الكلبي بن مزاحم، وهو وإنْ كان ثقةً على الأصحِّ إلا أنَّ اجتماعه بالصحابة مُنظَرٌ فيه، وكيف يُتعقَّل إجماع الصحابة والقائلون بالحلِّ من التابعين ومَن بعدهم لا يُحصَوْن؟ وصحَّ عن سعيد بن جبيرٍ أنَّه كان يلعبه من وَراء ظهره كثيرًا، وزعَم أنَّه تستَّر به عن طلَب الحجَّاج منه القضاء (1)، وكذا كان يلعبه بالغيب جماعةٌ آخَرون من التابعين؛ كالشعبي (2)، وهشام بن عروة (3).

(تَنْبِيه ثانٍ) ظاهر ما مرَّ عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وَعَنْ مالك، ووكيع، وسفيان، وإسحاق وغيرهم أنَّه كبيرة عند القائلين بتحريمه، وأمَّا القائلون بحِلِّه فلا يُنافِي كونه معصيةً فضلاً عن كونه صغيرة (4) فإنَّه إذا انضمَّ إليه قِمار أو إخراج صَلاة عن وقتها أو سب أو غير ذلك، فالمعصية والكبيرة إنما جاءَتْ من المنضمِّ إليه لا من ذاتِه، لكنْ قد يُفِيد

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 211) بلفظ: لَعِبَ سعيد بن جبير بالشِّطرنج من وراء ظهره، فيقول: بأيش دفع كذا؟ قال: بكذا، قال: ادفع بكذا. (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 211) بلفظ: قالَ مَعْمَرٌ: بلغنى أنَّ الشعبى كان يلعَبُ بالشطرنج ويلبس ملحفةً ويرخى شعرَه، وذلك أنَّه كان متواريًا من الحجاج. (3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 211) بلفظ: كان محمد بن سيرين وهشام بن عروة يلعبان بالشطرنج استدبارًا. (4) في المطبوع: فضلاً عن كونه كبيرة.


الانضِمام من القبح ما لم يُفدْه الانفِراد فلا يبعد جعْل [ز1/ 43/أ] هذا الانضِمام [من القُبح] مقتضيًا لمزيد التغليظ والتنفير عنه.

فإنْ قلت: كيف يكونُ إخراج الصلاة عن وقتها به كبيرةً مع أنَّه مشغولٌ به فهو غافلٌ، والغافل غير مُكلَّف، وكذا الجاهل والناسي فكيف يحكم بتأثيمه فضلاً عن كونه كبيرة؟

قلت: محلُّ عدَم تكليف النَّاسي والغافل والجاهل حيث لم ينشأ النسيان والغفلة والجهل عن تقصيره وإلا كان مُكلفًا آثمًا، أمَّا فِي الغَفلة فلمَّا صرَّحوا به فِي الشِّطرَنج من أنَّه لا يُعذَر باستغراقه فِي اللعب حتى خرَج وقت الصلاة وهو لا يشعُر؛ لما تقرَّر أنَّ هذه الغفلة نشَأتْ عن تقصيره بمزيدِ انكِبابه ومُلازمته على هذا المكروه حتى ضيَّع بسببه الواجب عليه، وأمَّا فِي الجهل فلِمَا صرَّحوا به من أنَّه لو مات إنسانٌ فمضَتْ عليه مُدَّةٌ ولم يُجهَّز ولا صُلِّي [عليه] أثم جاره وإنْ لم يعلم بموته؛ لأنَّ تركَه البحثَ عن أحوال جاره إلى هذه الغاية تقصيرٌ شديدٌ، فلم يبعد القول بعِصيانه وتأثيمه.

فإنْ قلت: ما الفرق عندكم بين النرد والشِّطرَنج؟

قلت: قد أشَرتُ إلى الفرق بقولي فِي النرد: وحِكمة تحريمه ... إلى آخِر ما قدَّمته فِي مبحثه، وهو مستمدٌّ من فَرقِ أئمَّتنا بأنَّ التعويل فِي النرد على ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام، وفي الشِّطرَنج على الفكر والتأمُّل وأنَّه ينفع فِي تدبير الحرب.

(تَنْبِيه ثالث) اختلفوا فِي مشروعيَّة السلام على لاعبه والرد عليه، فعندنا يُشرَع عليه وإنْ علم أنَّه لا يجيب ويجب الردُّ عليه لو سلَّم، واختلف القائلون بحرمته؛ فقال أبو حنيفة: يسلم عليه؛ لأنَّه يشتغل بالرد عمَّا هو فيه،



وكَرِهَه أبو يوسف تحقيرًا له! لعلَّه يتوبُ، ومرَّ عن عليٍّ وغيره ما يشهَدُ له، وبه قال مالك وأحمد.

(تَنْبِيه رابع) فِي جملة الأقوال فِي الشِّطرَنج قد مرَّ أنَّ أكثر الصحابة والتابعين ومَن بعدهم على تحريم لعب الشِّطرَنج؛ ومنهم أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، ونُوزِع فِي نقْل التحريم عن مالك، ويردُّه قول ابن عبدالبر: أجمع مالك وأصحابه على تحريمه (1)، وبه جزَم الحليمي من كبار أصحابنا، واختاره القاضي الروياني، وجزم الذبيلي من أئمَّتنا أيضًا بأنَّه من الصغائر، وتمسَّك القائلون بالتحريم بقوله - تعالى -: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ} الآية (2)، فَسَّر علي وغيره الميسرَ بما يشمل الشِّطرَنج؛ حيث جعله منه [ز1/ 43/ب] ولم يَثبُتْ عن صحابيٍّ أنَّه خالَفَه فِي هذا التفسير، فهو إمَّا تفسير لغة فهو من أعلم أئمَّة اللسان فيُرجَع إليه، أو إبداء حُكمٍ فهو إجماع سُكوتي، أو قول صحابي لم يُخالَفْ، وهو حجَّة عند الجمهور، أو غيرهما فهو فِي حُكم المرفوع؛ إذ لا مجالَ للرأي فيه، وبقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الآية (3)، دلَّ على أنَّ كلَّ لهوٍ دعا قليلُه إلى كثيرِه وأوقع العَداوة والبَغضاء بين العاكفين عليه وصدَّ عن ذِكر الله وعَن الصلاة فهو كشُرب الخَمْر والميسر؛ فيكون حرامًا مثلهما، ولا شكَّ أنَّ الشِّطرَنج إذا استُكثِر منها يُؤدِّي لذلك كله، كيف ولاعبها لا يحسُّ بجوعٍ ولا عطشٍ ولا غيرهما من أحواله الضروريَّة فضلاً عن العاديَّة والعباديَّة، وقد شبَّه عليٌّ لاعبها بعابد

_________________________________________

(1) "الاستذكار"؛ لابن عبدالبر (8/ 462) ط دار الكتب العلمية. (2) سورة المائدة: 90. (3) سورة المائدة: 91.


الصنم (1)، كما شبَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - شارِبَ الخَمْرِ بعابدِ الوَثَنِ (2)، وتمسَّكوا أيضًا بالأحاديث السابقة، وأقوال الصحابة فما كان منها صحيحًا فواضح أو مرسلاً قَوِيَ بتعدُّد طرقِه، وتمسَّكوا أيضًا بأنَّ العلَّةَّ فِي تحريم النرد أنَّه يوقع العَداوة والبَغضاء، ويصدُّ عن ذِكر الله وَعَن الصلاة، ويشغل القلب، والشِّطرَنج كذلك، بل هو أبلَغُ فِي إفساد القلوب من النرد؛ فإنَّه محتاجٌ إلى تقديرٍ وتفكُّر وحِساب النقلات قبل النقل، بخِلاف النرد فإنَّ صاحِبَه يلعب ويحسب بعد ذلك؛ ولهذا يُقال: إنَّ الشِّطرَنج مبني على مذهب الغدر، والنرد مبنيٌّ على مذهب الجبر؛ ومن ثَمَّ حُكِي عن بعض العلماء أنَّه قال: اللعب بالنرد خيرٌ من اللعب بالشِّطرَنج؛ لأنَّ لاعب النَّرد يعتَرِف بالقَضاء والقدر، ولاعب الشِّطرَنج ينفي ذلك؛ فهو أقرب إلى الاعتزال، وحكَى ابن أبي الدُّنْيَا عن بعضهم تفسيرَ النرد بالشِّطرَنج، قال المحرِّمون جوابًا عمَّا مرَّ: ممَّا يدلُّ للجواز، ولعبُ ابن جبير به إنما هو لكون الحجاج طلَبَه للقَضاء ففعَلَه ليكون قادحًا فيه، وحمل زجر عليٍّ على أنها كانت مُصوَّرة، يردُّه صِدق اسم التماثيل عليها وإنْ لم تكن مصورة؛ لأنها

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، وأورده ابن حزم في "المحلى" (7/ 569) بلفظ: أنَّ عليَّ بن أبي طالب مرَّ برجالٍ يلعبون بشطرنج فقال: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟! لأنْ يمسك أحدُكم جمرةً حتى تطفأ خيرٌ له من أنْ يمسَّها، لولا أنْ تكون سنَّة لضربت بها وجوهكم، ثم أمَر بهم فحُبِسُوا"، ثم قال: هذا منقطع، وفيه ابن حبيب. (2) أخرجه البزار (6/ 367 رقم 2382) عن عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بلفظ: ((شارب الخمر كعابد الوثن))، وقال نور الدين الهيثمي في "المجمع" (5/ 70): رواه البزار، وفيه فطر بن خليفة، وهو ثقة، وفيه كلامٌ لا يضرُّ، وأخرجه ابن ماجه (3375) من حديث أبى هريرة، وقال البوصيري (4/ 38): هذا إسنادٌ فيه مقال؛ محمد بن سليمان ضعَّفه النسائي وابن عدي وقوَّاه ابن حبان، وقال أبو حاتم يُكتَب حديثُه ولا يحتجُّ به، وباقي رجال الإسناد ثقات، وصحَّحه ابن حبان (12/ 166 رقم 5347) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: ((مدمن الخمر كعابدِ وَثَنٍ)).


تمثل ببني آدم وغيرهم فِي أسمائها، ومَن لم ينهَ عنها من الصحابة ظنَّ أنها ليست ممَّا يلهي، وزعَم بعضهم أنَّ فيها تدبيرًا للحرب ممنوع، بل لا تنفع فِي الحرب وإنْ سُلِّمَ فهو لا يقصد منها، بل المقصود منها غالبًا اللعب والقمار، وتجويز إباحة ابن عمر للنرد بعيدٌ، كيف والأدلة ظاهرة فِي تحريمه [ز1/ 44/أ] لا سيَّما وهو من أشدِّ الصحابة اتِّباعًا وأعظمهم تحرِّيًا، وقد بالَغ ابن العربي المالكي فِي الإنكار على لاعِبِها فقال: انتهى مقال بعض الشافعيَّة إلى أنْ يقول: هو مندوبٌ إليه لأنَّ جمعًا من الصحابة والتابعين فعَلُوه، وهو يشحَذُ الذهن، حتى اتَّخذوه فِي المدارس ليلعَبُوا به عند الأعياد، تاللهِ ما مسَّها [يد تقي]، ولا لعب بها صحابيٌّ ولا غيرُه، ولا يتمهَّر فيها رجلٌ قطُّ له ذهن.

القول الثاني: إنَّه مباح، وهو - وإنْ قال به جماعة من أكابر أصحابنا وغيرهم - شاذٌّ، وقد تطابَق كثيرٌ منهم على قولهم وإفتائهم بما لفظه: إذا سلمت الأموال عن الخسران، واللسان عن الطُّغيان، والصلاة عن النِّسيان، فهو أنسٌ بين الإخوان، واشتغالٌ عن الغيبة والبهتان (1)، وحُكِي نحو هذه العبارةِ عن الشَّافِعِيِّ، وشرَط الماورديُّ للإباحة انتفاءَ سائر وُجوه الخلاعة، وتمسَّكوا بأنَّ الإباحة هي الأصل، وبأنَّ فعله والإقرارَ عليه جاء عمَّن لا يُحصَى من العلماء، وبأنَّه ينفَعُ فِي تدبير الحرب، وبأنَّ بعضَهم رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فشكا ولدَه فِي إدمانه عليه فقال: ((دعْه، فلا بأس به))، وقد ذهب بعض أصحاب الشَّافِعِي إلى جواز العمل بذلك؛ لأنَّ مَن رآى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد رآه حقًّا، قال التاج السبكي:

_________________________________________

(1) هذا من قول سهل الصعلوكي، أورده ابن قاضي شهبة، وعبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي في "طبقات الشافعية" لهما في ترجمة سهل الصعلوكي.


واعلم أنَّا لم نجعَل عُمدتنا فِي إباحته ما مرَّ من الآثار، ولا ندَّعي أنها جميعها صحيحة؛ ولذلك لم نشتغلْ بالكلام على رجالها، ولكنَّا نقول: إنَّه غير محرَّم لعدم قيام ما يدلُّ على التحريم، وما أوردناه من الآثار ومذاهب السَّلَفِ يساعد القول بالحل، وإن لم يكن هو المستند، ا. هـ.

قال الماوردي: وفيها مع تدبير الحرب، ومكيدة العدوِّ، وتشحيذ الخواطر، وتزكية الأفهام، ووُجوه الحزم [ما يشبه] اللعب بالحِراب والرِّماية والفروسيَّة، فإنْ لم يكن لأجل ذلك ندبًا مستحبًّا، فأولى ألاَّ يكون حظرًا محرمًا (1)، وأجاب هؤلاء عن أدلَّة التحريم السابقةِ بأنَّ الميسر هو القمار ولا خِلافَ فِي تحريمه، وتفسير عليٍّ السابقُ لم يصحَّ عنه، لا سيَّما وقد حصَل فيه شكٌّ من بعض رواته، بل فِي حديثٍ مرسل مرَّ: ((ثَلاَثة مِن المَيْسِرِ: القِمارُ، والضربُ بالكِعابِ، [والصَّفيرُ] بالحمامِ)) (2).

والخصم لا يحرِّم الأخيرَ مع الحكم عليه بأنَّه من الميسر، وبأنَّه حيث صَدَّ عن ذِكر الله وعَن الصلاة فهو كسائر [ز1/ 44/ب] المباحات إجماعًا حَرام حِينئذٍ، وليس هذا من محلِّ النِّزاع؛ إذ محلُّه فِي مجرَّد لعبٍ لم يقتَرِنْ به فُحْشٌ مطلقًا، وبأنَّ قولَ علي للاعِبيه ما مرَّ إرشادٌ على أنَّه كان يصور مسمياته كما مرَّ، قال الصولي: ولم يزل الشِّطرَنج على ذلك أيَّام بني أميَّة، وقد رأيت منها شيئًا كثيرًا، وكثرت فِي ذلك الزمن لقُرب أيَّام الأعاجم منه، ولأجل ذلك قال: التماثيل، ولم يُنهَ عنها نصًّا تامًّا؛ ومن ثَمَّ استدلَّ به بعضهم على أنَّه كان يقول بعدم تحريمها، وإلا لأمرهم بالمعروف وأقامهم عنها قهرًا عليهم؛ ومن ثَمَّ لعبها كثيرون من التابعين وهم بقَوْلِ عليٍّ أعلم، وهم إليه

_________________________________________

(1) "الحاوي"؛ لأبي الحسن الماوردي (17/ 179). (2) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (1/ 350 رقم 518) عن يزيد بن شريح مرسلاً.


أقرب، وقيل: إنما كَرِهَها منهم لتشاغُلِهم بها [عن] الأذان، وقوله: ((مَيْسِرُ الأعاجِم)) (1) لا يدلُّ على التحريم على أنَّه مرسل، وقوله: ((صاحِبُ الشِّطرَنجِ أكذَبُ الناس)) (2) لا يدلُّ على التحريم؛ لأنه كذبٌ صوري لا حقيقي، أو المراد أنَّه ينبغي التنزُّه عنه لأنَّه قد يُؤدِّي إلى الكذب، وقول ابن عمر: ((إنَّه شرٌّ من النَّرْدِ)) (3) لا يدلُّ على صريح التحريم؛ لأنَّا لا نعلم مذهبه فِي النرد، على أنَّه قول صحابيٍّ خُولِف فيه، وأيضًا لم يقلْ أحد: إنَّه أغلظ تحريمًا من النرد، وإنما أخرَجَه مخرج المبالغة فِي الزجر عنه، و [ممَّن] قال: إنَّ الشِّطرَنج شرٌّ من النرد [السبكي وشرطه] أنْ يكونَ فيه قمار، وإلا فلا فيكون هذا الأمر متروكَ الظاهرِ بالإجماع فلا يحتجُّ به، قاله ابن السبكي.

واعتُرِضَ بأنَّ المالكيَّة يقولون: إنَّه شرٌّ من النرد مطلقًا، قيل: والعجب من أنَّه حَكاه، وأجاب عنه بأنَّ هذا اجتهادٌ لمالك، وليس اجتهادُه حجَّة علينا، قالوا: ولم يصحَّ فيه خبرٌ كما مرَّ، والخبر الصحيح السابق أوَّل هذا الباب لا دليل فيه؛ إذ لا يبعد أنْ يكون هذا قياسًا على ما استَثْناه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من اللعب على أنَّه ورد فِي روايةٍ زيادةٌ رابعة وهي: تعلُّم السباحة، وأيضًا هو لا يستلزم التحريم لما عدا الخصال المذكورة فيه، بل قد يتمسَّك به القائل بالكراهة فإنَّه عام مخصوص بِمُلاعَبة الأطفال، كما ورد من قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أبا عُمَيْر، ما فعَل النُّغَيْرُ؟)) (4)، [وبلعب]

_________________________________________

(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، و"الشعب" (5/ 241 رقم 6518)، بلفظ: ((الشِّطرَنجُ مَيْسِرُ الأعاجِمِ)) وقال البيهقي: هذا مرسَلٌ ولكن له شَواهدُ. (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212) من حديث علي - رضِي الله عنه. (3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، و"الشعب" (5/ 241)، وأحمد في "الورع" (1/ 92). (4) متفق عليه: أخرجه البخاري (6203)، ومسلم (2150) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه.


الحبشة بالحِراب بين يدَيْه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما مرَّ، وقد قال البخاري فِي باب الجهاد: باب اللعب بالحراب وغيرها، وأورد حديثَ الحبشة السابق (1)، وقياسه على النرد ممنوعٌ؛ لوضوح الفرق بينهما، إذ الشِّطرَنج موضوعةٌ لصحَّة الفكر [ز1/ 45/أ] وصَواب التدبير ونظام السياسة، فهي تُعِينُ على تدبير الحروب والحساب، والنرد موضوعٌ لما يُشبِه الأزلام، وتفسير النرد بالشِّطرَنج غير صحيح، وزعم أنَّ ابن جبير إنما فعَلَه خوفَ ولاية القضاء، يردُّه أنَّه لو كان كذلك اكتَفَى بمرَّة أو مرَّتين منه، وقد كان يلعَبُها من وَراء ظهر، وهذا إنما يأتي بإدامة طويلة حتى يحصل له تلك الملَكَة، وتمثيله بالحيوانات فِي الأسماء لا يضرُّ؛ لأنها مجازات.

وبالجملة: فقد قال التاج السبكي: إنَّ المنصف إذا نظَر فيما أوردناه من الجانبين علم أنَّ القول بالحلِّ هو الحق الأبلج، وجاءَ عن بعض أئمَّة أهل البيت أنَّه قال: ما مات شريفٌ من الطالبيين إلا بِيعَت الشِّطرَنج فِي ميراثه، قيل: ووُجِدَ فِي تركة الشَّافِعِي، وبالَغ بعض الحفَّاظ فِي ردِّه وتزييفه.

القول الثالث: أنَّه مكروهٌ كراهة تغليظٍ تُوجِب المنع، وكذا مذهب أبي حنيفة على ما حَكاه الماورديُّ فِي "حاويه" (2)، واعترض بأنَّ مذهبه التحريم كما مرَّ، ورُدَّ بأنَّ أصحابه كثيرًا ما يُرجِّحون خلاف ما ذهب إليه.

القول الرابع: أنَّه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ، وهو الصحيح من مذهبنا، قال التاج السبكي: وهذا هو الذي نَدِين الله به [وهو الصحيح] ونراه الحقَّ الواضح والنهار الجلي، والمنصف إذا أزال العصبيَّة عن نفسه ونظَر فِي دلائل الفريقين علم أنَّ ذلك هو الحق الأبلج، وقيَّد الغزالي الكراهة بالمواظَبة، والأصحُّ أنَّه لا

_________________________________________

(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (454)، ومسلم (892) من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها. (2) "الحاوي"؛ لأبي الحسن الماوردي (17/ 179).


فرق، وعَنْ مالك قول أنه كمذهبنا، ورجحه بعض أصحابه، ونازَع البلقيني فِي نقل الكراهة عن الشَّافِعِي بأنَّ كلامه فِي موضعٍ يُفهَم أنَّه خلاف ما يحبُّه، وفي موضعٍ [يقتضي] أنَّه استحسن ما مرَّ عن ابن جبير أنَّه كان يلعَبه خلف ظهره، بل نُقِلَ عنه نفسه أنَّه لعب به استدبارًا، ورُدَّ بأنَّ الأصحَّ فِي النقل عنه ما مرَّ من الكراهة، ومحلُّ حلِّه عندنا حيث لم يلعبْه مع مُعتقِدِ تحريمه، وإلا حرُم عليه كما رجَّحه التقي السبكي وتَبِعُوه؛ لما فيه من الإعانة على انتهاك الحرمة والجراءة وإنْ جاز الفِعلُ فِي اعتقاده فِي غير هذه الحالة فهو كمَن يُناوِل قدح خلٍّ لمن علم منه أنَّه يشربه مع ظنِّه كونه خمرًا؛ لأنَّه حينئذٍ مُعِينٌ له على معصيته فِي زعْم مُعتقِد التحريم، ونظيرُ ذلك ما لو تَبايَع رجُلان بعد أذان الجمعة: أحدهما تلزَمه والآخر لا تلزَمه، فيحرم على هذا [ظ1/ 45/ب] أيضًا على أصحِّ الوجهين وهو المنصوص، واعتَمَده الشيخان وغيرهما لإعانته الأوَّلَ على المعصية.

قال السبكي: لكنَّ التحريم فِي مسألتنا أخفُّ منه فِي هذه، فإنَّه على مَن تلزمه معلومٌ عندنا وعنده، وتحريم لعب الشِّطرَنج غير معلومٍ عندنا ولا عنده إذا كان حُكم الله فيه الحل فِي نفس الأمر، وإنما الحرام فعلُه مع اعتقاد حُرمتِه لا فعله مطلقًا، وهذا المجموعُ لم تحصل المعاونة عليه بل على بعضه، قال: وهذه دقيقةٌ ينبغي أنْ يُتنبَّه لها، ا. هـ.

فإنْ قلت: يُنافِي ما ذكر من التحريم فِي مسألة الجمعة قولَ الروياني فِي "بحره": لو أُرِيدَ بيع مال يتيم وقت نداء الجمعة للضرورة فبذل فيه مَن تلزَمُه دينارًا ومَن لا تلزمه نصفه، يحتمل وجهين:

أحدهما: [يباع] ممَّن لا جمعةَ عليه؛ لئلاَّ يوقع الآخَر فِي معصية.



والثاني: يُباع بالدينار؛ لأنَّ الذي إليه الإيجاب وهو غير عاصٍ به، وإنما القبول للطَّالِب وهو الذي يَعصِي به.

قلت: إنما يتوهَّم المنافاة على الثاني فقط، ولكنْ عند التحقيق لا مُنافاة، بل الثاني هو الأوجَهُ، وليس ممَّا نحن فيه؛ لأنَّ كلامنا فِي مُبايَعة مَن لا يلزمه لِمَن تلزَمه بلا ضرورة وهنا ضرورةٌ، وجوب الحظِّ لليتيم اقتضت المسامحة للوليِّ فِي بيع مَن تلزَمُه بالدينار، وإنْ أثم المشتري إنْ خشي فَوات الجمعة، ثم رأيت احتمالاً ثالثًا للروياني يوافق بعض ما ذكرته وهو قوله: يحتمل أنْ يرخص له فِي القبول [لنَفعِ] اليتيم إذا لم يُؤدِّ إلى ترك الجمعة، كما يرخص للولي الإيجاب لحاجة اليتيم إليه.

فإنْ قلت: ما مرَّ عن السبكي يُنافِيه قول ولده عنه فِي ترجمة الروياني فِي "طبقاته الوسطى" سمعت والدي يقول: لا يأثم شافعيٌّ لعب الشِّطرَنج مع حنفي، وفرَّق بينه وبين مسألة البيع وقتَ النداء بأنَّه حينئذٍ محرَّم عندهما، ولعب الشِّطرَنج ليس محرَّمًا عند الشَّافِعِي، وإنما المحرَّم عند الحنفي لعبه مع ظنِّه التحريمَ، وكلُّ واحدٍ من الجزأين ليس بِحَرام، أمَّا الظنُّ فهو [نتيجة] اجتهاد يُثاب عليه وليس بحرام، وأمَّا اللعب من حيث هو فليس بحرام لا عليه ولا [على] غيره إذا كان حُكم الله فيه ذلك فِي نفس الأمر.

فإن قلت: يظنُّ الحنفي - أي المحرِّم - صار حراما عليه، قلت: الذي صار حرامًا عليه لعبه مع ظنِّه لا لعبه مطلقًا، فالهيئة الاجتِماعيَّة [ز1/ 46/أ] هي المحرَّمة، وهي النسبة الحاصلة بين اللَّعِب المظنون والظنِّ، والشَّافِعِي اللاعب لم يعن إلا على أحد الجزأَيْن، وهو اللعب وهو بلسان [الحال] يردُّ على الحنفيِّ ويقول له: لا تظنُّ، ا. هـ ما فِي "الطبقات".


قلت: المعتمَد ما قدَّمته عنه أوَّلاً من الحرمة قِياسًا على مسألة الجمعة، وأمَّا هذا فهو اختيارٌ [له]، ويُجاب عنه بأنَّ المذاهب بعدَ أنْ تقرَّرت واتَّبع الناس [كلامها] (1) والتزَمُوا العمل بها، لم يبقَ للنظر إلى نفس الأمر مَساغ، ولم يتوجَّه من شافعيٍّ على حنفيٍّ مثلاً ردٌّ، ولم يسغْ قوله له: لِمَ لا تظن حرمة الشِّطرَنج؟ وإذا تمهَّد هذا وتقرَّر فالشافعيُّ إذا لعبه مع حنفيٍّ مثلاً كان مُعينًا على معصيةٍ حتى فِي اعتقاد الشَّافِعِي؛ لأنَّ من جملة اعتقاده أنَّ مَن قلَّد مالكًا مثلاً يَحرُم عليه لعب الشِّطرَنج، فإذا لاعَبَه كان معينًا له على معصيةٍ فِي اعتقادهما، أمَّا فِي اعتقاد المالكي فواضح، وأمَّا فِي اعتقاد الشَّافِعِي فهو لا مُطلقًا، بل من حيث نظرنًا لاعتقاد المالكي؛ إذ لو استَفتَى مالكيٌّ شافعيًّا قال: أنا مذهبي مالكيٌّ فهل يحرم عليَّ لعبُ الشِّطرَنج؟ وجَب على الشَّافِعِي أنْ يقول له: نعم، يحرم عليك لعبه ما دمت مالكيًّا، وقد صرَّح الأئمَّة بما يدفع ما قاله السبكي هنا؛ حيث قالوا: يجبُ النهيُ عن المنكر فِي اعتقاد الفاعل وإنْ لم يكن منكرًا فِي اعتقاد المنكِر، وهذا شاملٌ لمسألتنا، فيُعلَم منه نصًّا أنَّه يجبُ على شافعيٍّ رأى مالكيًّا مثلاً يلعب بالشِّطرَنج وهو مستمر على [تقليد مالك] أنْ يُنكِر عليه بيَدِه ثم بلِسانه ثم بقَلبِه؛ نظَرًا لِمُباشَرته حَرامًا فِي اعتقاده، وهو واضحٌ، وكذا فِي اعتقاد الشَّافِعِي لا مُطلقًا، بل نظرًا لاعتقاد الفاعل، وإذا صرَّحوا بأنَّه يلزَم الإنكار عليه كانوا مُصرِّحين بأنَّه يحرم عليه اللعب [معه]؛ لأنَّه ضد الإنكار الذي أوجَبُوه عليه، فاتَّضح ما مرَّ أولاً وهو حُرمة لعبِه معه، وأنَّه منقولُ المذهب، وليس بحثًا للسبكي ولا لغيره، فتأمَّله، فإنَّ مَن تكلَّموا على المسألة كلهم يحكيها عن السبكي

_________________________________________

(1) هكذا في المخطوطين وفي المطبوع: كلا منها.


ومَن تَبِعَه فقط، ولم يستَحضِروا ما ذكرته الذي علم منه أنَّ الحرمة منقولُ الأصحابِ، وأنَّه لا غبار عليها من حيث المعنى أيضًا، وأنَّ جميع ما نقَلَه التاج عن والده ثانيًا مردودٌ بما قرَّرته كما لا يَخفَى على مَن له أدنى ذوق (1).

(تَنْبِيه [خامس] (2) علم ممَّا مرَّ أنَّ محلَّ القول بالإباحة أو الكراهة ما لم تكنْ [ز1/ 46/ب] بَيادق الشِّطرَنج ونحوها مُصوَّرة كلها أو بعضها ولو [كان] واحدًا بصُورة حَيوان، وإلا حرم اللعب به لأنَّ فيه تعظيمًا له، وبه فارق الجلوس والنوم ونحوهما على المصور؛ لأنَّ فيه إهانةً له، وما لم يقترن به فُحشٌ وسفه، وإلا حرم كما قاله الصيمري (3)، بل نقل الإجماعَ على رَدِّ

_________________________________________

(1) قال السبكي في "فتاويه" (2/ 636): (مسألة) قال الشيخ الإمام - رحمه الله -: إذا لَعِبَ الشافعيُّ الشطرنجَ مع الحنفيِّ والحنفيُّ يعتقد تحريمه فهل نقول: إنَّ الشافعيَّ الذي يعتقد حلَّه يحرم عليه في هذه الصورة؛ لأنَّ فيه إعانة على محرَّم أو لا؟ وهل هو كرجلين تبايَعَا وقتَ النداء أحدهما من أهل الجمعة حيث يحرم البيع والآخَر ليس من أهلها بحيث يحلُّ له البيعُ مع غيره، وقد اختلفوا هل يحرم عليه لما فيه من الإعانة أو لا؟ والذي أقوله في مسألة الشطرنج أنَّه لا يحرم على الشافعي وإنما يحرم على الحنفي، والفرق بينه وبين مسألة البيع وقت النداء أنَّ البيع وقت النداء محرَّم عندهما ولعب الشطرنج ليس محرمًا عند الشافعي، وإنما المحرَّم على الحنفي لعبه مع ظنِّ التحريم، وكلُّ واحد من الجزأين ليس بحرامٍ، أمَّا الظن فهو نتيجةُ اجتهادِه يُثاب عليه فليس بحرام، وأمَّا اللعب من حيث هو فليس بحرام عليه ولا غيره ولا على غيره إذا كان حُكم الله فيه ذلك في نفس الأمر، فإنْ قلت: بظن الحنفي صار حَرامًا عليه، قلت: الذي صار حرامًا عليه لعبه مع ظنِّه لا لعبه مطلقًا، فالهيئة الاجتماعيَّة هي المحرَّمة، وهي النسبة الحاصلة بين اللعب المظنون والظن، والشافعيُّ اللاعب لم يعنْ على أحد الجزأين وهو اللعب، وهو بلسان الحال يردُّ على الحنفي في ظنِّه ويقول له: لا تظن فلم يعنْ على محرَّم، وهذا البحث يُشبِه في أصول الدِّين بقولهما لو وقع خلاف المعلوم لزم انقِلاب العلم جهلاً، وما قيل في جوابه: إنَّه لو وقع خلاف المعلوم مع بَقاء العلم، وهذا مناقض، بل مَن وقع خِلافه يصير معلومًا، فإنَّ كلَّ ما يقع معلوم، والله أعلم، انتهى. (2) في (ز1): تنبيه رابع، والمثبت من (ز2) وهو الصحيح الموافق للترتيب. (3) أبو القاسم الصيمري: عبدالرحمن بن الحسن، أبو القاسم الصيمري الفقيه، شيخ الشافعية، وهو من أصحاب الوجوه، تفقَّه بأبي الفياض البصري، وهو شيخ أقضى القُضاة الماوردي، له كتاب "الإيضاح في المذهب" وهو كتاب جليل، ومن غرائب وجوهه أنَّه قال: لا يملك الرجل الكلأ النابت في ملكه ومنها: لا يجوز مسُّ المصحف لِمَن بعض بدنه نجس، كان حيًّا في سنة خمس وأربعمائة، ولم يعلمْ وقت وفاته؛ "الوافي بالوفيات"؛ للصفدي.


الشهادة به حينئذٍ، [وأمَّا] إذا لم يلعَبْه على الطريق وإلا حرم كما صرَّح به الصيمري أيضًا، وقال تلميذه الإمام الماوردي: تردُّ شَهادته بذلك، وفيما صرَّح به الصيمري فِي المسألتين نظَر؛ لأنَّ الفحشَ والسَّفه [إنْ] حُرِّمَ لذاته فالحرمة فيه لا فِي لعب الشِّطرَنج، إلا على ما قدَّمته فِي اجتماع الدُّفِّ والشَّبَّابَة مثلاً فراجِعْه، وكذا يُقال فيما إذا اقتَرَن به قمارٌ أو نحوه ممَّا يأتي، وأمَّا لعبه على الطريق فلا وجْه لحرمته، نعم إنْ كان قد تحمَّل شهادة حُرِّمَ عليه لا من حيث كونه لَعِبَ بشطرنج، بل من حيث كونه إزالة مُروءة يفضي لردِّ أمانةٍ تحمَّلها وهي الشهادة المتعلق بها حق الغير، واللازم على ردِّها ضَياع حقه ففيه إضرار له أي إضرار، فهو كمَن فرَّط فِي حِفظ وديعةٍ عنده يأثَم وتردُّ شهادته به، [وأمَّا] إذا لم يقتَرِن به قمار وإلا حرم إجماعًا، كما أشار إليه الشَّافِعِي فِي "الأم"، وما إذا لم تخرج الصلاة عن وقتها وإلا حرم إجماعًا، وما إذا لم يلعَبْه مع الأراذل ولم يورث نحو حقدٍ، ولم يؤدِّ إلى التكلُّم بكلامٍ غير لائقٍ بمثله، كذا قاله بعضهم، وفيه ما قدَّمته فِي لعبه على الطريق.

(تَنْبِيه [سادس] (1) يجوز بيعُ الشِّطرَنج ومَن كسر منه شيئًا ضمنه إلا أنْ يكون مصورًا، ولا يجوزُ الإنكارُ على لاعبيه إلا إنِ اعتقدوا حُرمته أو لعبوا مع مُعتقدِيها أو فعلوا شيئًا من المحرَّمات المذكورة، فيجبُ الإنكارُ عليهم كما مرَّ.

(تَنْبِيه [سابع] (2) اختلفوا فِي سُقوط عَدالة لاعبه؛ فعند أبي حنيفة ومالك هي ساقطة وشهادته مردودة على أيِّ وجْه لَعِبَه، لكن شرط ابن الحاجب

_________________________________________

(1) في (ز1): تنبيه خامس، والمثبت من (ز2) وهو الصحيح الموافق للترتيب. (2) في (ز1): تنبيه سادس، والمثبت من (ز2) وهو الصحيح الموافق للترتيب.


إدمان لعبه، وهو فِي "المدونة" فِي موضعٍ ولم يقيد به فِي موضعَيْن آخرين منها، فإمَّا أنْ يحمل المطلق على المقيَّد أو يكون له فِي المسألة قولان، فظاهر كلام غير ابن الحاجب مُوافقته، قال بعض المالكيَّة: والإدمان أنْ يلعب بها فِي السَّنة أكثر من مرَّة، وقال آخَر منهم: أنْ يلعَب بها فِي السنة مرَّة، وبالإدمان قيَّد بعض الحنفيَّة أيضًا وهو صاحب "البدائع" (1) [ز1/ 47/أ] وصاحب "الذخيرة"، وفرَّقا بينه وبين النرد أنَّه حَرام بالنصِّ، وحكَى صاحب "المغني" من الحنابلة عن مالكٍ وأبي حنيفة أنَّه مثله، وكذا نقَلَه عن بعض أكابر أصحابهم (2)، وَعَنْ بعض أصحابه أنَّ لعبه مع معتقدٍ تحريمَه فكالنرد أو مع معتقد إباحته لم تردْ إلا إنِ اقترن به نحو قمار، وأمَّا عندنا فلا تسقُط العدالة إلا إنِ اقترن به محرم كما مرَّ وكذا إذا اقترن معه خارم مروءة؛ كلعبه به على الطريق، ولا نِزاع فيه وانقِطاعه إليه فِي أكثَرِ أحواله فتُرَدُّ به الشهادة على المنقول المعتمَد خِلافًا للبلقيني، قال بعضهم: وعلى هذا المنقول، فمَن أكبَّ عليه ممَّن بيده تدريس أو مشيخة أو غير ذلك من الوظائف التي يُشتَرط فيها العدالةُ فهو معزولٌ عنها شرعًا، وتَعاطِيه لذلك حَرامٌ إنْ كان قد وَلِيَها بطريق مُعتبَر شرعًا، ووجدت فيه الشُّروط المعتبرة أو أكثرها، فأمَّا مَن [اقتات] (3) بذلك من أجْل [انتمائه] إلى مَن لا تمييز عنده فهو مُرتكبٌ للإثم ابتداءً وانتهاءً، انتهى.

وهي نفثة مَصدُور، على أنها سقطة فاحشة؛ إذ الذي تقرَّر أنَّ الإكباب عليه مخلٌّ بالمروءة، وهي ليست شرطًا فِي مُطلَق العدالة فِي قبول الشهادة فقط،

_________________________________________

(1) "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (6/ 269) ط دار الكتب العلمية. (2) "المغني" (10/ 172) ط دار إحياء التراث العربي. (3) في (ز2): أفتى.


ألا ترى أنَّ الولي فِي النكاح شرطه العدالة، ومع ذلك لا يُؤثِّر فيه خرم المروءة؛ لأنَّه لا يخلُّ بالعدالة فِي غير [الشهادة]؛ ومن ثَمَّ كان المعتمَد فيه أنَّه إذا تابَ توبةً صحيحة زوَّج فِي الحال، وإنْ لم تُقبَل شَهادته إلا بعدَ استِبرائه سنة؛ لأنَّه يحتاط للشهادة ما لم يحتَطْ بغيرها، فقياس غيرِها عليها فِي ذلك اشتباهٌ، والقياس نشَأ عن فقْد استِحضار كلامهم فِي غير باب الشهادة، ويلزم على ما قاله هذا المصدور المقهور على أقذَر وظيفةٍ منه سعى عليها أنْ ولي اليتيم لو باشَر خرم مروءة؛ كأنْ أكَل فِي السوق وهو لا يَلِيقُ به سقطَتْ ولايته، وهو باطلٌ كما هو واضحٌ.

(تَنْبِيه [ثامن] (1) قد سبق أنَّه إذا اقترَنَ به قمار كان حَرامًا، وصُورة القمار المجمَع عليها أنْ يخرج العوض من الجانبين مع تَكافُئِهما لتحريم ذلك بالنصِّ؛ إذ الميسر فِي الآية هو القمار، ووجْه حُرمته أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مُتردِّد بين أنْ يغلب صاحبه فيغنم أو يغلبه صاحبه فيغرم، فإنْ عدلا عن ذلك إلى حُكم السبق [ز1/ 47/ب] والرمي بأنْ ينفرد أحدُ اللاعبين بإخراج العوض ليُؤخَذ منه إنْ كان مغلوبًا ويمسكه إنْ كان غالبًا، فهذا مختلفٌ فِي جَوازه والأصح حُرمته، وبه جزَم الشيخان، وفرَّقوا بينه وبين جَوازه فِي المسابقة بأنَّ له غرَضًا فيها وهو الحذق فِي الفروسية والرماية، بخلاف الشِّطرَنج ليس [فيه] كبير غرض، وإذا قامر لم يلزم المال المشروط فإنْ أمسَكَه ولم يردَّه فسق ورُدَّتْ شهادته؛ لأنَّه غاصبٌ سواء الصورة الأولى والثانية، فإنْ لم [يأخُذْه] لم يفسقْ بالصورة الثانية؛ لوجود الخِلاف فيها، وكذا الأولى إنْ قطَع فيها بأنَّ أحدهما غالبٌ لزَوال صُورة القمار حينئذٍ.

_________________________________________

(1) في (ز1): تنبيه سابع، والمثبت من (ز2) وهو الصحيح الموافق للترتيب.


(تَنْبِيه [تاسع] (1) مرَّ أنَّه إذا أخرج به الصلاة عن وقتِها فسق ورُدَّتْ شَهادته، ومرَّ ما فِي ذلك من إشكالٍ وجواب وتحقيقه، مع زيادة أنَّ الشيخين ذكَرَا أنَّه إذا لم يتعمَّدْ أخراجها به ولكنْ شغله اللعب بها حتى خرج وهو غافلٌ أنَّه إذا لم يتكرَّر ذلك منه لم تردَّ شهادته وإنْ كثُر منه فسق ورُدَّتْ شهادته، بخلاف ما إذا ترَكَها ناسيًا مِرارًا؛ لأنَّه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة.

قال الرَّافِعِيُّ: هكذا ذكَرُوه وفيه إشكالٌ لما فيه من تعصية الغافل واللاهي، ثم قِياسه الطَّرد فِي شغل النفس بسائر المباحات، وأشار الروياني إلى وجْه أنَّه يفسق، تكرَّر [ذلك منه] أو لم يتكرَّر، ا. هـ.

ومرَّ فِي التَّنْبِيه الثاني جوابُه مبسوطًا، وقد نصَّ الشَّافِعِي - رضِي الله عنه - بما يُوضِّح ذلك الجواب فقال: إنْ غفل به عن صلاةٍ فأكثَرَ حتى تفوته ثم يعود له حتى تفوته، ردَدْنا شَهادته على الاستِخفاف بمواقيت الصلاة، كما نردُّها لو كان جالسًا فلم يُواظِبْ على الصلاة من غير نِسيانٍ ولا [علة] حتى غفل، فإنْ قِيلَ: فهو لا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها للعب إلا وهو ناسٍ، قيل: كلا، يعودُ للعب الذي يورث النسيان وإنْ عاد له وقد جرَّب أنَّه يورثه ذلك فذلك استخفافٌ، فأمَّا الجلوس والنسيان بما لم يجلب على نفسه فيه شيئًا إلا حديث النفس الذي لم يمتنعْ منه أحدٌ، فلا يأثَمُ به، وإنْ قبح ما يحدث به نفسه والناس يمتنعون من ذلك، ا. هـ.

نصُّ الشَّافِعِي وهو مُؤيِّد لما فرَّقت به فيما مرَّ من أنَّ سبب العصيان تقصيره بتعاطيه ما يعلم أنَّ من شأن نفسه أنها إذا اشتَغلَتْ به ذهلت عن إدراك

_________________________________________

(1) في (ز1): تنبيه ثامن، والمثبت من (ز2) وهو الصحيح الموافق للترتيب.


الزمن [ز1/ 48/أ] ومضيِّه حتى يخرُج وقت الصلاة وهو لا يشعُر ومفيد للفرق بين الشِّطرَنج وغيره، ورادٌّ لقول الرَّافِعِيّ: ثم قياسه الطرد ... إلخ، ولم يحطْ بعضهم بحقيقة هذا النص فقال: [ويحتاج] إلى تأمُّل، ا. هـ.

وقد قال البلقيني بعد ذِكرِه النصَّ: وبه يحصل الجواب عن إشكال الرَّافِعِيِّ، وأنَّه لا يطرد فِي حديث النفس للفرق الذي أبْداه الشَّافِعِي، فقال: إنْ كان يسهو عن وقت الصلاة لشغله به فلا يعلم حتى يفوته [شطرها] هنا بأنْ كان ذلك الدُّفعة والدُّفعتين فلم ترد شهادته، فإنْ كثُر ذلك منه رُدَّتْ شهادته بذلك.

قال الشَّافِعِي: فإنْ كان متفكرًا فِي نفسه فكرًا شغَلَه عن الصلاة ولا يعلم خُروج وقتها لشغله لم تُرَدَّ شهادته بذلك وإنْ كثُر منه، قال: والفرق بينهما أنَّ اللاعب بالشِّطرَنج هو الذي أدخَلَ على نفسه ذلك فغلظ عليه، فلهذا لم تُقبَل شَهادته، وليس كذلك الذي لحقه الفكر والهوس؛ لأنَّه لم يدخل ذلك على نفسه، وذلك أنَّ الإنسان لا ينفكُّ عن فكرٍ يتفكَّر فيه، فلهذا قُبِلتْ شَهادته فدلَّ على الفرق بينهما، ا. هـ (1).

(تَنْبِيه [عاشر] (2) الشِّطرَنج فارسيٌّ مُعرَّب، وكسر شينه أجود، بل منَع الصاغاني الفتح، ووجَّه الحريري الكسر بأنَّه القياس فِي كلام العرب فِي المعرَّب أنَّه يُرَدُّ إلى نظيره فِي لغتهم، وليس منها فَعلَل بفتح أوَّله بل بكسره كجردحل وهو الضخم من الإبل، ومقتضى كلام آخَرين أنَّ الفتح أشهر؛ لأنَّه أعجمي، وقال آخَرون: الفتح غلطٌ، ومشى عليه فِي "القاموس"، ويجوز إبدال شينه سينًا، كالتشميت بالشين المعجمة إشارة لجمع الشمل،

_________________________________________

(1) "الأم"؛ للشافعي (6/ 225) دار المعرفة. (2) في (ز1): تنبيه تاسع، والمثبت من (ز2) وهو الصحيح الموافق للترتيب.


وبالمهملة إشارة إلى أنَّه يرزق السمت الحسن، وزعم اشتقاق الشِّطرَنج من المشاطرة أو التشطير مردودٌ بأنَّ الأسماء الأعجميَّة لا تشتقُّ من الأسماء العربيَّة.

(تَنْبِيه [حادي عشر] (1) أوَّل من وضَع الشِّطرَنج صِصَّة بمهملتين أولهما مكسورة وثانيهما مشدَّد ابن زاهر الهندي وضَعَه لبهلبث، ويُقال له: بِهرم، بكسر أوَّله المعجم ملك الهند مُضاهاة لأزدشير أوَّل مُلوك الفرس الأخيرة حيث وضع النرد مُضاهاة للدنيا وأهلها، وافتخرت الفرس به فقضَتْ حُكَماء ذلك العصر بتَرجِيحه على النَّرد، وعُدَّ ككتاب "كليلة ودمنة"، والتسعة أحرف التي تجمَعُ أنواعَ الحساب فيما يُميَّز به أهلُ الهند على غيرهم، وقيل: إنَّ صِصَّة لَمَّا عرَضَه [ز1/ 48/ب] على الملك فرح به كثيرًا، وسأَلَه أنْ يقترح إليه ما يشتهي، فقال له: اقترحتُ أنْ تضع حبَّةً فِي البيت الأول ولا تزال يضاعفها حتى تنتهي إلى آخِرها فمهما [تبلغ] تعطيني، فاستصغر الملك ذلك من همَّته، وأنكر عليه ما قابَلَه من الفوز اليسير فِي ذلك المقام فقال: ما أريد غير ذلك، فأمَر له به فلمَّا حسبه أرباب الديوان قالوا للملك: ما عندنا ما يُقارب القليل من ذلك، فأنكر عليهم مقالَهم، فأوضَحُوا له بالبرهان، فلمَّا علم ذلك قال: أنت فِي اقتِراحك لما سألت أعجب حالاً من وَضعِك الشِّطرَنجَ، وسرُّ ذلك أنَّك تُضاعِف الأعداد إلى البيت السادس عشر فأثبت به اثنين وثلاثين ألفًا وسبعمائة وثمانية وستين حبَّة، فهذه الجملة مِقدار قدحٍ ثم تُضاعف السابع عشر إلى البيت العشرين يكونُ فيه ويبة، ثم تنتقل من الويبات إلى الأرادب، ولم تزَلْ تضعفها ففي

_________________________________________

(1) في (ز1): تنبيه عاشر، والمثبت من (ز2) وهو الصحيح الموافق للترتيب.


البيت الأربعين تنتهي إلى مائة ألف أردب وأربعمائة وستين ألف أردب وسبعمائة واثنين وستين أردبًّا وثلثي أردب وهذا المقدار شونة، وهي الحظيرةُ الكبيرةُ التي تخزن فيها الحبوب، ثم تُضاعف الشون إلى البيت الخمسين يكون الجملة ألفًا وأربعة وعشرين شونة، وهذا المِقدار مدينة، ثم ضاعَف ذلك إلى الرابع والستين تكون الجملة ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربعة وثمانين مدينة، والعلم حاصِلٌ أنَّه ليس فِي الدُّنْيَا مدن أكبر من هذا المقدار، فإنَّ دور كرة الأرض ثمانية ألاف، ولم يُعرَف الشِّطرَنج إلا بعد أنْ فُتِحت البلاد، فإنَّ أصلَه من الهند، وانتقل منهم إلى الفرس بخلاف النرد فإنَّه كان معروفًا عند العرب.

وعن كعبٍ: أوَّل مَن لعب بالشِّطرَنج يوشع بن نون وصاحبه كالب بن موفثا - صلَّى الله على نبيِّنا وعليهما وسلَّم - وأوَّل مَن علمها قارون وتعلَّمتها الفرس من يوشع.

وأخرج الديلمي عن مالك بن أنسٍ أنّ أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِالشِّطْرَنْجِ، والنَّرْدِ عمرو بن العاصِ فعلم الحبري (1)، وبه ردَّ على مَن زعَمُوا أنَّ الصولي محمد بن يحيى هو الذي وضَعَه ووفاته سنة ست أو خمس وثلاثين [وثلاثمائة] أثنى عليه الخطيب فقال: كان أحد العُلَماء بفنون الآداب، حسَن المعرفة بالتواريخ، واسع الرِّواية، حسَن الحِفظ للآداب، حاذِقًا بتَصنِيف الكتب، حسَن الاعتقاد، جميل الطريقة، مقبول القول، كثير الشعر، وهو مَنسُوب لجدِّه صُول بضم أوَّله [ز1/ 49/أ] من مُلوك جرجان ثم أسلَمَ، لا لصُول المدينة المشهورة، ونادَمَ عدَّة من الخُلَفاء، وأخَذ عن أبي داود السجستاني،

_________________________________________

(1) أخرجه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (719) بلفظ عن إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت مالك بن أنس يقول: "أوَّل مَن جاءَ بالكتاب العربي والشِّطرَنج والنرد عمرُو بن العاص، تعلم ذلك في الحيرة".


والبزار، والمبرد، وثعلب وآخَرين وروى عنه الدارقطني، وابن شاذان، قيل: لعلَّ السبب فِي نسبه أوَّل واضع الشِّطرَنج إليه أنَّه كان أوحَدَ زمنه فِي لعبه، حتى إنَّه يضرب به المثل فيه (1).

واختلف فِي سبب وضْع صِصَّة له فقيل: مضاهاة، كما مرَّ، وقيل: إنَّ امرأةً كان لها ابن ملك قُتِلَ فِي حرب وحده، فطلبت أنْ تراه عيانًا، فلمَّا عمل لها الشِّطرَنج ورأَتْه تَسلَّت، وقِيل: لأنَّ مُلوك الهند كانوا حُكَماء لا يرَوْن قِتالاً، فوضَعُوه ليروا صُورة ذلك، وقيل: إنَّه وُضِعَ لملكٍ جبان فأدمَنَه حتى صار أشجَع أهل زمنه.

_________________________________________

(1) "تاريخ بغداد" (3/ 427).


القسم الثالث: اللعب بالحزة والقِرق

الأولى بحاء مهملة وزاي مشدَّدة: قطعة خشب تحفر فيها حفر ثلاثة أسطر، ويجعل فيها حصى صِغار يُلعَب بها، وقد تُسمَّى الأربعة عشر، وهي المسمَّاة فِي مصر بالمنقلة، وفسَّرَها سليم فِي "تقريبه" بأنها: خشبة تحفر فيها ثمانية وعشرون حُفرة؛ أربعة عشر من ناحية وأربعة عشر من الجانب الآخَر، ويلعب بها، والظاهر أنها نوعان، فلا تخالف بين هذا وما قبلَه، والثانية بكسر القاف وسُكون الراء، وحكى الرَّافِعِيّ عن خطِّ القاضي الرُّوياني فتحهما، ويسمى شطرنج المغاربة أنْ يُخَطَّ على الأرض خط مربع ويجعل فِي وسطه خطَّان كالصليب، ويُجعَل على رأس الخطوط حصى صغارٌ يلعب بها، هذا حقيقتهما، وأمَّا حُكمهما فاختَلَف أئمَّتنا فيه على رأيين ذكرَهُما الرَّافِعِيُّ فقال: وفي "الشامل" أنَّ اللعب بهما لهوٌ كالنرد، وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنَّه كالشِّطرَنج، ويشبه أنْ يُقال ما يعتمد فيه على إخراج الكعبين فهو كالنرد، وما يعتمد فيه على الفكر فهو كالشِّطرَنج.

قال الأذرعي، وهذا صحيح مليح، موافق لفَرْقِ الجمهور بين النرد والشِّطرَنج، ثم نازَع الرَّافِعِيّ فيما نقَلَه عن الشيخ أبي حامد أنَّه كالشِّطرَنج بأنَّ المحاملي نقل عنه أنَّ الحزة كالنرد، وسليمًا نقل عنه أنهما كالنرد، وبأنَّ البندنيجي صَرَّحَ بأنهما كالنرد، وهؤلاء الثلاثة هم رُواة طريقة الشيخ أبي حامد، وتعليقه وهو ما أورَدَه الروياني والعمراني، ونقل ابن الرفعة فِي "المطلب" أنَّ تحريمهما هو ما ذهَب إليه [ز1/ 49/ب] العراقيُّون كما صرَّح به البندنيجي، وابن الصَّبَّاغ ثم ذكَر ابن الرفعة حكايةَ الرَّافِعِيِّ عن تعليق أبي حامد وما بَحَثَّه وأقرَّه، وقال الأسنوي: يُؤخَذ من بحث الرَّافِعِيِّ الفَرق



السابق حلهما؛ لأنَّ كلاًّ منهما يعتَمِد فيه الفكر لا على شيءٍ يُرمَى، وأسقط من "الروضة" هذا البحث، ا. هـ.

واعترضه الأذرعي بما مرَّ عن سليم وغيره من أنهما فِي معنى النرد سواء؛ إذ لو كان المعتمَد فيهما الفكر لم يكونا كالنرد سواء.

ثم قال الأذرعي: ولعلَّ ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد أو غير ذلك، ا. هـ.

والحق أنَّ الخلاف فِي ذلك ليس له كبيرُ جَدوَى؛ لأنَّ الضابط السابق في ذلك فِي كلام الرَّافِعِيِّ أخذًا من فرقهم السابق بين النرد والشِّطرَنج، إذا عرف وتقرَّر أُدِيرَ الأمرُ عليه، فمتى كان المعتمد على الفِكر والحساب فلا وجْه إلا الحل كالشِّطرَنج، ومتى كان المعتمَد على الحزر والتخمين فلا وجْه إلا الحرمة كالنرد.

(تَنْبِيه) قال أبو حنيفة: يُكرَه اللعب بالنرد، وبالشِّطرَنج، وبالأربعة عشر، ونقل مجليٌّ من أصحابنا عنه ما نصُّه: أكرهه كراهةَ تحريم، فظاهره أنَّه يكره ذلك كله كراهة تحريم.



[القسم الرابع: اللعب بما تسميه العامة الطاب والدك]

هو حَرام كما اقتَضاهُ الفرق المذكور؛ لأن معتمده ليس إلا على الحزر والتخمين؛ إذ هو أنْ يُؤخَذ أربع قصبات أو جريدات لكلِّ بطن وظهر، فتُرمَى ثم ننظُر كم فيها بطن وكم فيها ظهر، ثم يتَرتَّب على ذلك ما اتَّفَقَا عليه أو اقتضَتْه قاعدة هذا اللعب، فليس فيه اعتمادٌ على حساب ولا فكر ألبتَّة، وإنما الاعتمادُ فيه على ما تخرجه تلك التي تُرمَى من ظهر وثلاثة بطون، أو عكسه، أو بطنين، أو ظهرين، أو محض بُطون أو ظُهور، وممَّا يقتضي الحرمة أيضًا فِي ذلك قول الماوردي: والصحيح الذي ذهب إليه الأكثرون تحريمُ اللعب بالنرد، وأنَّه فسقٌ تُرَدُّ به الشهادة، وهكذا اللعب بالأربعة عشر المفوضة إلى الكعاب، وما ضاهاها فهي فِي حُكم النرد فِي التحريم، ا. هـ.

وما أشار إليه الماوردي فِي الأربعة عشر موجودٌ الآن؛ فإنَّه تُؤخَذ الخشبة السابقة ويجعل فيها بُيوت أربعة عشر ثم يرمي تلك القصبات، وينقل من تلك البُيوت بحسب ما يخرجه من تلك الكعاب التي يرمى بها.

وأمَّا توقُّف الأذرعي [ز1/ 50/أ] فِي التحريم فِي هذه فهو مبنيٌّ على ما مرَّ عنه من المنازعة للرافعي، وقد مرَّ أنَّه نِزاعٌ لا جَدوَى له، وأنَّ الصواب فِي ذلك التعويل على الفَرْقِ الذي أبْداه الرَّافِعِيُّ وصرَّح به كلامُهم أنَّ ما كانت العُمدة فيه على الحزر والتخمين يكون كالنرد، وقد علمت أنَّ هذا اللعب ليست العمدة فيه إلا على ذلك، ثم رأيتُ الأذرعي جزَم بِحُرمة الطاب فِي توسُّطه كالنرد، وهو واضحٌ جَلِيٌّ لا غبار عليه، واعتمده الزركشي وغيره.



[القسم الخامس: اللعب بالكنجفة]

هو حَرامٌ أيضًا كاللعب بالطاب والدك كما صرَّح به فِي "الخادم"؛ لأنَّه ليسَت العمدة فيه إلا على الحزر والتخمين، كما أنها العمدة فِي الطاب كما تقرَّر، ثم رأيتُ الأذرعيَّ نقَل ذلك عن بعض مُتقدِّمي أصحابنا فقال: وممَّا أظهَرَه المردة للترك فِي هذه الأعصار أوراق مزوقة بنُقوش سموها كنجفةٍ يلعَبُون بها، فإنْ كان بعِوَضٍ فقِمارٌ، وإلا فهي كالنَّرد ونحوه ممَّا سبق من التوجيه، ا. هـ.


[القسم السادس: اللعب بالخاتم ونحوه]

ظاهر كلام الصيمري من أصحابنا جَوازُه، وجرى عليه الأذرعي فقال فِي "توسطه": اللاعب بالمداحي والخاتم مقبولُ الشهادة إذا لم يتَظاهَر بذلك، وواضحٌ أنَّ محلَّ ذلك حيث لم يكنْ فيه حزر ولا تخمين، وإلا فهو حَرام كما عُلِمَ ممَّا مَرَّ.



[القسم السابع: اللعب بالجوز]

جزَم بعضُ أصحابنا بتحريمه، وقال شريح الروياني: اللعب به أخفُّ من اللعب بالحمام والشِّطرَنج، وهذا حيث لا قمار، وإلا فهو حرام إجماعًا، ولا يجوز عقْد المسابقة على المداحاة وهي رمْي بَنادق أو حصًى إلى حُفرةٍ، قال الدارمي: وإنْ كان مجانًا فهو لعب، ا. هـ.

وحقيقة اللعب بالخاتم، والجوز، والمداحاة لا أعرفها، ولكن قد علمت أنَّ الضابط الذي عليه المعوَّل أنَّ ما كان مُعتَمده الحساب والفكر حلالٌ، وما كان معتمده الحزر والتخمين حرام، فإنْ وجد في شيءٍ ممَّا ذُكِرَ حزر وتخمين فهو حرام على المعتمد، وقد سبَق فِي النرد رأي غلط لا مُعول عليه أنَّه مكروه، فلعلَّ مَن قال بالحلِّ مع وجود الحزر والتخمين جرَى على ذلك الرأي الذي قد عرفت أنَّه غلطٌ، فتنبَّه لذلك.



القسم الثامن: اللعب بالحمام [ز1/ 50/ب]

قال الشيخان والعبارة للرافعي: اتِّخاذ الحمام للبيض والفرخ أو الأنس أو حمل الكتب جائزٌ بلا كَراهة، وأمَّا اللعب به بالتطيير والمسابقة ففيه وجه أنَّ حكمه كذلك؛ لأنَّ فيه تعليمها وترسيخها لإنهاء الأخبار.

والظاهر وعبارة "الروضة": والصحيح أنَّه مكروهٌ كالشِّطرَنج (1)، وهذه الفائدة تتعلَّق بتَطييرها دون المسابقة واللعب بها، ثم لا تُرَدُّ الشهادة بمجرَّده، فإنِ انضمَّ إليه قمارٌ وما فِي معناه رُدَّتِ الشهادة، ا. هـ.

وذكَر الماوردي لمتَّخِذ الحمام ثلاثة أحوال:

أحدها: اتخاذه للفرخ وغيره كما سبق فلا تُرَدُّ به الشهادة.

الثاني: أنْ يخرج باتِّخاذها إلى السَّفاهة، أمَّا للمُتدلِّه فِي أفعاله والخنا فِي أقواله فتُرَدُّ بذلك شَهادته.

الثالث: ما اختُلِف فِي ردِّ الشهادة به، وهو اتِّخاذها للمسابقة، وفيه وجهان بِناءً على ما سبق فِي خبر: ((لا سَبَقَ)) وقد سبق؛ أي: ولفظه: ((لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافِرٍ)) (2)، وهو حديث صحيح، والسَّبَق بفتح السين والباء الموحدة ما يجعل للسابق على سبقه من جُعْلٍ، واقتصر الدارمي وغيره على قولهم: ويكره اللعب بالشِّطرَنج، والحمام، وعبارة مجموع المحاملي: فأمَّا اللعب بها فهو مكروهٌ نصَّ عليه الشَّافِعِي. ومن أصحابنا مَن قال: مُباح لإنهائه بعلم المجيء من البلاد ونقل الأخبار، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ اللعب بها لا يحصل به منفعةٌ، والكلام إنما هو فِي كراهته دُون إرسالها

_________________________________________

(1) "روضة الطالبيين" (11/ 227). (2) أخرجه أبو داود (2574)، والنسائي (6/ 226)، والترمذي (1700)، وابن ماجَهْ (2878)، وأحمد (2/ 256)، وصحَّحه ابن حبان (4690) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.


من البلاد، وإذا ثبَت أنَّه مكروهٌ فلا يفسق به ولا تسقط الشهادة، وَعَنْ مالكٍ وأبي حنيفة: يفسق وتسقُط شهادته، والدليل على هذا ما ذكَرَاه فِي الشِّطرَنج، ا. هـ.

قال الأذرعي: واعلَمْ أنَّ اتِّخاذ الحمام لحمل الكتب من شَأن الملوك ونوَّابهم لا من أغْراض العامَّة ومَقاصدهم، فالمختار الجاري على القَواعد أنَّ مَن أظهَرَ اللعب بها بالتطيير والمسابقة مجانًا - أي: من غير قمار - وعرف بذلك مردود الشهادة؛ إذ العرف [فِي هذه الأعصار] (1) مطَّردٌ بأنَّه لا يَتعاطَى ذلك إلاَّ أراذل الناس وسفلتهم، ومَن خلَع جِلبابَ الحياء والمروءة على أنَّ الذي يُقتَنَى للعب به بالتطيير نوعٌ غير ما يُقتنَى لحمل الكتب، والأوَّل لا يكاد يخرج عن سَماء الدار أو البلد [ز1/ 51/أ] إلا نادرًا.

وقال الشيخ الموفَّق الحنبلي: اللاعب بالحمام بتطييرها لا شَهادة له؛ لأنَّه سفهٌ ودَناءة وقلَّة مُروءة، ويتضمَّن أذَى الجيران بتطييره وإشْرافه على دُورِهم ورميه إيَّاها بالحجارة، وقد رأَى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً يتبعُ حَمامةً، فقال: شَيْطانٌ يَتْبَعُ شَيْطانةً (2)، ا. هـ (3).

وصرَّح صاحب "الترغيب" بأنَّ اللعب بها مكروهٌ واقتناؤها مباح، إلا إذا اقتناها لسرقةِ حمامِ غيرِه، وظاهرٌ أنَّ الحمام مثال وأنَّ غيرها ممَّا يُقتَنى للعب به من الحيوانات كذلك.

_________________________________________

(1) في (ز2): في الأخبار. (2) أخرجه أبو داود (4940)، وابن ماجَهْ (3765)، وأحمد (2/ 345)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1300)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 19)، و"الشعب" (6534)، وصحَّحه ابن حبان (5874) من حديث أبي هريرة. (3) "المغني" (10/ 173) ط دار إحياء التراث العربي.


(تَنْبِيه) ممَّا يدلُّ لقٌبح اللعب بالحمام بل لحرمته حديثٌ أبي داود فِي "المراسيل"، والبَغَوي فِي "الصحابة" وهو مرسلٌ أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثةٌ من المَيْسِرِ: القِمارُ، والضَّربُ بالكِعاب، والصفيرُ بالحمامِ)) (1).

(فائدة) نقَل بعض المفسِّرين أنَّ اللعب بالحمام كان من دأب قومِ لوط، وأنَّه من جملة المنكر الذي كانوا يأتونه فِي ناديهم كما أخبر الله - تعالى - عنهم به (2).

_________________________________________

(1) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (1/ 350 رقم 518) عن يزيد بن شريح مرسلاً. (2) القرطبي (13/ 342)، وابن كثير (3/ 413).



[القسم التاسع: اللعب بغير الحمام]

وحكمه أنَّه يأتي فيه ما مرَّ فِي اللعب بالحمام، ومحله إنْ لم يكن فيه إضرار بحيوان وإلا كان حرامًا تحريمًا غليظًا كنطاح الكباش والثيران ومهارشة الديوك وغير ذلك ممَّا فِي معناه، فكلُّ ذلك حَرامٌ كما صرَّحوا به فِي البعض ويُقاس به الباقي، والكلام كلُّه حيث لا قمار، وإلا بانَ شرطُ المال من الجانبين، فالكلُّ حرامٌ إجماعًا، وكذا إذا وُجِدَ المال من إحدى الجانبين فإنَّ ذلك يكون حَرامًا أيضَا؛ لأنَّ تَعاطِي العقد الفاسد حَرام، فإنْ أخَذ المال كان أخذُه فِسقًا مع عِلم تحريمه؛ لأنَّه حينئذٍ كالغصب.



القسم العاشر: اللعب بأمورٍ أخرى في معنى ما مرَّ

كما ذكره الصيمري فِي "شرح كفايته" حيث قال: ويُلحَق باللعب بالنرد اللعبُ بالأربعة عشر، وبالصرير، والمنقلة، والنواقيل، والكعاب، والرباريب، والدرامات، قال: وكلُّ مَن لعب بهذا الجنس فسخيفٌ مردودُ الشهادة، قمارًا أو غيره، ا. هـ.

قال الأذرعي: وبعض ما ذكره لا أعرفه، ا. هـ.

وإذا حفظتَ ما مرَّ من الضابط الذي عليه المعوَّل فِي ذلك وهو: أنَّ ما كان المعتمَد فيه الحزر والتخمين حَرامٌ، وما كان المعتمَد فيه الفكر والحساب حَلال، ظهر لك الحقُّ فِي كلِّ ما عُرِضَ عليك من أنواع اللعب التي ذكروها [ز1/ 51/ب] ولم [تعرف] مدلولها والتي لم يذكروها أصلاً.



[القسم الحادي عشر: اللعب بالمسابقة بالجري ونحوه وبالمصارعة ونحوها]

هو جائزٌ حيث لا مالَ من الجانبين ولا قِمار، والأصل فِي ذلك أَنَّ رسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تسابَقَ هو وعائشة؛ رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: سابَقتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسبقتُه، فلمَّا حملت اللحم سابقته، فسبقني، فقال: ((هذه بتلك)) (1).

واختُلِف فيه على هشامٍ، فقيل هكذا، وقيل: عن رجل، عن أبي سلمة، وقيل: عن أبيه، وعن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها (2).

وأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صارَع ركانة على شاة؛ رواه بو داود، والترمذي [من حديث أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة:] (3) أنَّ ركانة صارَع النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال ركانة:

_________________________________________

(1) أخرجه أبو داود (2578)، وابن ماجَهْ (1979)، وأحمد (6/ 39)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5/ 303 رقم 8942)، والحميدي (1/ 128 رقم 261)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 47)، وصححه ابن حبان (4691) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضِي الله عنها. وأحمد (6/ 280)، وابن أبي شيبة (6/ 531 رقم 33590)، وابن الجعد (1/ 480 رقم 3331) من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن عائشة - رضِي الله عنها. وأبو داود (2578)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 17) من طريق هشام بن عروة عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عائشة - رضي الله عنها. وابن أبي شيبة (6/ 531 رقم 33590) من طريق هشام، عن رجل، عن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها. (2) "تلخيص الحبير"؛ لابن حجر (4/ 298) ط مؤسسة قرطبة. (3) ما بين المعقوفين استُدرِك مِمَّن نقل عنه المصنف، وفي المخطوطتين: رواه أبو داوُد، والترمذيُّ عن محمد بن رُكانةَ أنَّ ركانة صارعَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال ركانةُ ...


وسمعت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((فرق ما بيننا وبين أهل الكتاب العمائمُ على القلانس)) (1).

وقال الترمذي: غريبٌ، وليس إسناده بالقائم (2).

وروى أبو داود في "مراسيله" عن سعيد بن جبير قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالبَطحاء، فأتى عليه يزيد بن ركانة - أو ركانة بن يزيد - ومعه أعنزٌ له، فقال له: يا محمد، هل لك أن تصارعني؟ قال: ((ما تسبقني؟)) قال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه، فأخذ شاة، فقال ركانة: هل لك في العود؟ ففعل ذلك مرارًا، فقال: يا محمد، والله ما وضع جنبي أحدٌ إلى الأرض، وما أنت بالذي تصرعني؛ يعني: فأسلم، فردَّ عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غنمَه (3).

إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير لكنَّه لم يُدرِك ركانة ولا يضرُّه؛ لأنَّه جاء موصولاً من طريقٍ أخرى، فقد رواه أبو بكرٍ الشافعي، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مطولاً (4)، ورواه أبو نعيم [في "معرفة

_________________________________________

(1) أخرجه أبو داود (4078)، والترمذي (1784)، وأبو يعلى (3/ 5 رقم 1412)، والطبراني في "الكبير" (5/ 71 رقم 4614)، والبيهقي في "الشعب" (5/ 175 رقم 6258)، والحاكم في "المستدرك" (5903)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 82 رقم 221)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 374) من طريق أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفرٍ محمد بن علي بن ركانة عن أبيه، وقال البخاري: محمد بن ركانة القرشي إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض، وقال الترمذي: هذا حديثٌ إسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني، ولا ابن ركانة. (2) "تلخيص الحبير"؛ لابن حجر (4/ 299) ط مؤسسة قرطبة. (3) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (1/ 235)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 250) وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيحٌ إلى سعيد بن جبير. (4) أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (4/ 28) من طريق حسين بن حسن الأزدي قال: ثنا محمد بن حبيب، عن هشام - يعني: ابن الكلبي - عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عرَض على ركانة بن عبديزيد بن هاشم بن المطلب بن عبدمناف الإسلام، ودعاه إلى الله - تعالى - وكان ركانة من أشد العرب، لم يصرعه أحدٌ قط، فقال: لا يسلم حتى تدعو شجرة فتُقبِل إليك، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لشجرةٍ وهو بظهر مكة: ((أقبلي بإذن الله - عزَّ وجلَّ)) وكانت طلحة أو سمرة قال: فأقبلت ورُكانة يقول: ما رأيت كاليوم سحرًا أعظم من هذا، مُرْها فلترجع، فقال لها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ارجعي بإذن الله - تعالى)) فرجعت، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسلم)) قال: لا والله حتى تدعو نصفَها فيُقبِل إليك، ويَبقى نصفها في موضعه، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لنصفها: ((أقبل بإذن الله - تعالى)) فأقبل وركانة يقول: ما رأيت كاليوم سحرًا أعظم من هذا، مُرْها فلترجع، فقال لها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ارجعي بإذن الله - عزَّ وجلَّ)) فرجعت، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسلم))، فقال له ركانة: لا حتى تصارعني؛ فإنْ صرعتني أسلمت، وإنْ صرعتك كففت عن هذا المنطق قال: فصارعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصرعه، وأسلم رُكانة - رضِي الله عنه - بعد ذلك.


الصحابة"] (1) من حديث أبي أمامة مطولاً وسندهما ضعيف (2)، ورواه

_________________________________________

(1) ما بين المعقوفين استدرك مِمَّنْ نقل عنه المصنف. (2) أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 252) من طريق محمد بن وهب بن أبي كريمة، أنبأ محمد بن سلمة، عن أبي عبدالرحيم، حدثني أبو عبدالملك، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: كان رجلٌ يقال له: ركانة وكان من أفتك الناس وأشدِّهم، وكان مشركًا، وكان يرعى غنمًا له في وادٍ يُقال له: أضم، فخرج نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بيت عائشة ذات يوم فتوجَّه قبل ذلك الوادي فلقيه رُكانة وليس مع نبيِّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحدٌ، فقام إليه رُكانة فقال: يا محمد، أنت الذي تشتم آلهتنا اللات والعزى، وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم، لولا رحمٌ بيني وبينك ما كلمت الكلام - يعني: حتى أقتلك - ولكن ادعُ إلهك العزيز الحكيم ينجيك منِّي اليوم وسأعرض عليك أمرًا؛ هل لك إنْ صارعتك وتدعو إلهك العزيز الحكيم فيعينك عليَّ، وأنا أدعو اللات والعزى، فإن أنت صرعتَنِي فلك عشرٌ من غنَمِي هذه تختارها؟ فقال عند ذلك نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعم، إن شئت فاتَّحَدا، فدعا نبي الله إلهه العزيز الحكيم أنْ يعينه على رُكانة، ودعا رُكانة اللات والعزى: أعنِّي اليوم على محمد، فأخذه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصَرَعه وجلس على صدْره، فقال رُكانة: قُمْ، فلست الذي فعلت بي هذا إنما إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، وما وضع جنبي أحدٌ قبلك، فقال له رُكانة: فإنْ أنت صرعتني فلك عشرٌ أخرى تختارها، فأخذه نبيُّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودعا كلُّ واحدٍ منهما إلهه، كما فعَلا أوَّل مرَّة، فصَرَعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجلس على كَبِدِه، فقال له رُكانة: لست أنت الذي فعلتَ بي هذا، إنما فعله إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، وما وضع جنبي أحدٌ قبلك، فقال ركانة: فإنْ أنت صرعتني فلك عشرٌ أخرى تختارها، فأخذه نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودعا كلُّ واحد منهما إلهه، كما فعلا أوَّل مرَّة فصرعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الثالثة، فقال له ركانة: لست أنت الذي فعلت بي هذا، إنما فعَلَه إلهك العزيز الحكيم، وخذلني اللات والعزى، فدونك ثلاثين شاة من غنمي فاخترها، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أريدُ ذلك، ولكن أدعوك إلى الإسلام يا رُكانة، وأنفس بك أنْ تصير إلى النار، إنَّك إن تُسْلِم تَسْلَم))، فقال له ركانة: لا، إلا أنْ تريني آية، فقال له نبيُّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الله عليك شهيدٌ، لئنْ أنا دعوت ربَّك فأريتك آيةً لتجيبني إلى ما أدعوك إليه؟)) قال: نعم، وقريب منهما شجرة سمر ذات فروع وقضبان، فأشار إليها نبيُّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال لها: ((أقبِلي بإذن الله فانشقَّت باثنين، فأقبلت على نصف ساقها وقضبانها وفُروعها حتى كانت بين يدي نبيِّ الله وبين رُكانة، فقال له رُكانة: أريتني عظيمًا، فمُرْها فلترجع، فقال له نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليك الله شهيد، إنْ أنا دعوت ربي ثم أمرتها فرجعت لتجيبني إلى ما أدعوك إليه؟)) قال: نعم، فأمرها، فرجعت بقضبانها وفروعها، حتى إذا التأمَتْ بشقِّها، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسلِمْ تسلَمْ))، فقال له ركانة: ما بي إلاَّ أنْ أكون قد رأيت عظيمًا، ولكني أكره أنْ تسامع نساء المدينة وصبيانهم أنِّي إنما أجبتك لرعب دخل قلبي منك ولكن قد علمت نساء المدينة وصبيانهم أنَّه لم يُوضَع جنبي قط ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلاً ولا نهارًا، ولكن دونك، فاختر غنمك، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس بي حاجة إلى غنمك إذا أبيت أنْ تسلم))، فانطلق نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - راجعًا وأقبل أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يلتمسانه في بيت عائشة فأخبرتهما أنَّه قد توجَّه قِبَلَ وادي أضم، وقد عرفا أنَّه وادي ركانة لا يكاد يخطئه، فخرجا في طلبه وأشفقا أنْ يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يتصاعدان على كلِّ شرفٍ ويتشرَّفان له، إذ نظَرَا نبيَّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقبلاً فقالا: يا نبي الله، كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك وقد عرفت أنَّه جهة ركانة، وأنَّه من أقتل الناس وأشدِّهم تكذيبًا لك؟ فضَحِكَ إليهما، ثم قال: أليس يقول الله - تعالى - لي: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟ إنَّه لم يكن يصل إلَيَّ والله معي، فأنشأ يحدثهما حديثَ ركانة والذي فعل به والذي أراه، فعجبا من ذلك، فقالا: يا رسول الله، أصرعت ركانة، فلا والذي بعَثَك بالحق ما وضع جنبَيْه إنسان قط، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي دعوت الله ربي فأعانني عليه، وإنَّ ربي أعانني ببضع عشرة وبقوَّة عشرة)).


عبدالرزَّاق [عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، أحسبه] (1) عن عبدالله بن الحارث، قال: صارَع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبا رُكانة في الجاهليَّة، وكان شديدًا، فقال: شاة بشاة، فصرَعَه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: عاودني في أخرى، فصرعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: عاودني، فصرعه الثالثة، فقال أبو ركانة: ماذا أقول لأهلي؛ شاة أكلها الذئب، وشاة نشزت، فما أقول في الثالثة؟ فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما كنَّا لنجمع عليك أنْ نصرعك ونغرمَك، خُذْ غَنَمَك)) (2)

_________________________________________

(1) ما بين المعقوفين استدرك مِمنْ نقل عنه المصنف. (2) أخرجه عبدالرزاق (11/ 427) من طريق مَعْمَرٍ، عن يزيدَ بن أبي زِيادٍ، أحسَبُه عن عبدالله بن الحارثِ.


[ز1/ 52/أ] وسندُه ضعيفٌ، وصَوابه رُكانة لا أبو رُكانة الذي وقَع فيه (1).

(تَنْبِيه) أخْذُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - المالَ منه لا يقتضى جَواز أخْذه فِي المُصارَعة ويُوجَّه بوجهين:

أحدهما: أنَّ الظاهر أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنما أراد أنْ يُبيِّن غلبَه وعجزَه من وجهين صرَعَه وأخذ ماله فلمَّا ظهر ذلك ردَّه إليه.

ثانيهما: لو سلَّمنا خلاف هذا الظاهر لم يكن فيه حجَّة أيضًا؛ لأنَّ رُكانة إذ ذاك كان كافرًا، فهو حربيٌّ يجوزُ أَخْذُ ماله مُطلقًا، ومن ثَمَّ لَمَّا أسلم تفضَّل عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وردَّ إليه غنمه، ثم بتقدير صحَّة تلك الأحاديث يتعيَّن حملُها على أنهما واقعتان.

(تَنْبِيه ثانٍ) قال الحافظ عبدالغني: ما رُوِيَ من مُصارَعة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبا جهلٍ لا أصلَ له، وحديث رُكانة أمثلُ ما رُوِيَ في مصارعة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم وشرَّف وكرَّم (2).

وليكنْ هذا آخِرَ ما أرَدْناه، ونهايةَ ما قصَدْناه، والحمد لله الذي هَدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أنْ هَدانا الله.

يا ربَّنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سُلطانك، حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه أبدَ الآبِدين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارِك أفضل صلاةٍ وأفضل سلامٍ وأفضل بركة على أفضل مخلُوقاتك وزين عِبادك سيدنا محمَّد، وعلى آله وأصْحابه وتابعيهم كلهم بإحسانٍ عدد معلُوماتك أبدًا.

ختَم الله لنا بالحُسنَى في عافيةٍ بلا محنة ... أمين.

_________________________________________

(1) "تلخيص الحبير"؛ لابن حجر (4/ 299) ط مؤسسة قرطبة. (2) "تلخيص الحبير"؛ لابن حجر (4/ 299) ط مؤسسة قرطبة.


وحسبُنا الله ونعمَ الوكيل، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العليِّ العظيم.

وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الثلاثاء أربعة وعشرون الحجة 1293 على يد كاتبه علي حسانين غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ... آمين (1).

  • * * * *

_________________________________________

(1) في نهاية (ز2): تَمَّ الكتاب بعون الملك الوهاب، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، تَمَّ وكمل.