الرئيسيةبحث

دلائل الإعجاز - الجزء الأول

دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني



المدخل إلى إعجاز القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

توكلت على الله وحده

قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين وصلواته على محمد سيد المرسلين وعلى آله أجمعين هذا كلام وجيز يطلع به الناظر على أصول النحو جملة وكل ما به يكون النظم دفعة وينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد ويرى بها مشئما قد ضم إلى معرق ومغربا قد أخذ بيد مشرق وقد دخلت بأخرة في كلام من أصغى إليه وتدبره تدبر ذي دين وفتوة دعاه إلى النظر في الكتاب الذي وضعناه وبعثه على طلب ما دوناه والله تعالى الموفق للصواب والملهم لما يؤدي إلى الرشاد بمنه وفضله قال عبد القاهر رضي الله تعالى عنه معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض والكلم ثلاث اسم وفعل وحرف وللتعليق فيما بينها طرق معلومة وهو لا يعدو ثلاثة أقسام تعلق اسم باسم وتعلق اسم بفعل وتعلق حرف بهما فالاسم يتعلق بالاسم بأن يكون خبرا عنه أو حالا منه أو تابعا له صفة أو تأكيدا أو عطف بيان أو بدلا أو عطفا بحرف أو بأن يكون مضافا الأول إلى الثاني أو بأن يكون الأول يعمل في الثاني عمل الفعل ويكون الثاني في حكم الفاعل له أو المفعول وذلك في اسم الفاعل كقولنا زيد ضارب أبوه عمرا

وكقوله تعالى أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وقوله تعالى وهم يلعبون لاهية قلوبهم واسم المفعول كقولنا زيد مضروب غلمانه وكقوله تعالى ذلك يوم مجموع له الناس والصفة المشبهة كقولنا زيد حسن وجهه وكريم أصله وشديد ساعده والمصدر كقولنا عجبت من ضرب زيد عمرا وكقوله تعالى أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما أو بأن يكون تمييزا قد جلاه منتصبا عن تمام الاسم ومعنى تمام الاسم أن يكون فيه ما يمنع من الإضافة وذلك بأن يكون فيه نون تثنية كقولنا قفيزان برا أو نون جمع كقولنا عشرون درهما أو تنوين كقولنا راقود خلا وما في السماء قدر راحة سحابا أو تقدير تنوين كقولنا خمسة عشر رجلا أو يكون قد أضيف إلى شيء فلا يمكن إضافته مرة أخرى كقولنا لي ملؤه عسلا وكقوله تعالى ملء الأرض ذهبا وأما تعلق الاسم بالفعل فبأن يكون فاعلا له أو مفعولا فيكون مصدرا قد انتصب به

كقولك ضربت ضربا ويقال له المفعول المطلق أو مفعولا له كقولك ضربت زيدا أو ظرفا مفعولا فيه زمانا أو مكانا كقولك خرجت يوم الجمعة ووقفت أمامك أو مفعولا معه كقولنا جاء البرد والطيالسة ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها أو مفعولا له كقولنا جئتك إكراما لك وفعلت ذلك إرادة الخير بك وكقوله تعالى ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله أو بأن يكون منزلا من الفعل منزلة المفعول وذلك في خبر كان وأخواتها والحال والتمييز المنتصب عن تمام الكلام مثل طاب زيد نفسا وحسن وجها وكرم أصلا ومثله الاسم المنتصب على الاستثناء كقولك جاءني القوم إلا زيدا لأنه من قبيل ما ينتصب عن تمام الكلام وأما تعلق الحرف بهما فعلى ثلاثة أضرب أحدها أن يتوسط بين الفعل والاسم فيكون ذلك في حروف الجر التي من شأنها أن تعدي الأفعال إلى ما لا تتعدى إليه بأنفسها من الأسماء مثل أنك تقول مررت فلا يصل إلى نحو زيد وعمرو فإذا قلت مررت بزيد أو على زيد وجدته قد وصل بالباء أو على وكذلك سبيل الواو الكائنة بمعنى مع في قولنا لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها بمنزلة حرف الجر في التوسط بين الفعل والاسم وإيصاله إليه إلا أن الفرق أنها لا تعمل بنفسها شيئا لكنها تعين الفعل على عمله النصب وكذلك حكم إلا في الاستثناء فإنها عندهم بمنزلة هذه الواو الكائنة بمعنى مع في التوسط وعمل النصب في المستثنى للفعل ولكن بوساطتها وعون منها والضرب الثاني من تعلق الحرف بما يتعلق به العطف وهو أن يدخل الثاني في عمل العامل في الأول كقولنا جاءني زيد وعمرو ورأيت زيدا وعمرا ومررت بزيد وعمرو والضرب الثالث تعلقه بمجموع الجملة كتعلق حرف النفي والاستفهام والشرط والجزاء بما يدخل عليه وذلك أن من شأن هذه المعاني أن تتناول ما تتناوله بالتقييد وبعد أن يسند إلى شيء معنى ذلك أنك إذا قلت ما خرج زيد وما زيد خارج لم يكن النفي الواقع بها متناولا الخروج على الإطلاق بل الخروج واقعا من زيد ومسندا إليه ولا يغرنك قولنا في نحو لا رجل في الدار أنها لنفي الجنس فإن المعنى في ذلك أنها لنفي الكينونة في الدار عن الجنس ولو كان يتصور تعلق النفي بالاسم المفرد لكان الذي قالوه في كلمة التوحيد من أن التقدير فيها لا إله لنا أو في الوجود إلا الله فضلا من القول وتقديرا لما لا يحتاج إليه وكذلك الحكم أبدا فإذا قلت هل خرج زيد لم تكن قد استفهمت عن الخروج مطلقا ولكن عنه واقعا من زيد وإذا قلت إن يأتني زيد أكرمه لم تكن جعلت الإتيان شرطا بل الإتيان من زيد وكذا لم تجعل الإكرام على الإطلاق جزاء للإتيان بل الإكرام واقعا منك كيف وذلك يؤدي إلى أشنع ما يكون من المحال وهو أن يكون هاهنا إتيان من غير آت وإكرام من غير مكرم ثم يكون هذا شرطا وذلك جزاء ومختصر كل الأمر أنه لا يكون كلام من جزء واحد وأنه لا بد من مسند ومسند إليه وكذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة كإن وأخواتها ألا ترى أنك إذا قلت كأن يقتضي مشبها ومشبها به كقولك كأن زيدا الأسد وكذلك إذا قلت لو و لولا وجدتهما يقتضيان جملتين تكون الثانية جوابا للأولى

وجملة الأمر أنه لا يكون كلام من حرف وفعل أصلا ولا من حرف واسم إلا في النداء نحو يا عبد الله وذلك أيضا إذا حقق الأمر كان كلاما بتقدير الفعل المضمر الذي هو أعني وأريد وأدعو و يا دليل على قيام معناه في النفس فهذه هي الطرق والوجوه في تعلق الكلم بعضها ببعض وهي كما تراها معاني النحو وأحكامه وكذلك السبيل في كل شيء كان له مدخل في صحة تعلق الكلم بعضها ببعض لا ترى شيئا من ذلك يعدو أن يكون حكما من أحكام النحو ومعنى من معانيه ثم إنا نرى هذه كلها موجودة في كلام العرب ونرى العلم بها مشتركا بينهم وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكملوا بمعرفتها وكانت حقائق لا تتبدل ولا تختلف بها الحال إذ لا يكون للاسم بكونه خبرا لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالا لذي حال أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل والعجيب من الوصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر وقيد الخواطر والفكر وحتى خرست الشقاشق وعدم نطق الناطق وحتى لم يجر لسان ولم يبن بيان ولم يساعد إمكان ولم ينقدح لأحد منهم زند ولم يمض له حد وحتى أسال الوادي عليهم عجزا وأخذ منافذ القول عليهم أخذا أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله ونرده عن ضلاله وأن نطب لدائه ونزيل الفساد عن رائه فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه ويستقصي التأمل لما أودعناه فإن علم أنه الطريق إلى البيان والكشف عن الحجة والبرهان تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقا غيره أومى لنا إليه ودلنا عليه وهيهات ذلك وهذه أبيات في مثل ذلك البسيط إني أقول مقالا لست أخفيه ولست أرهب خصما إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة في النظم إلا بما أصبحت أبديه فما لنظم كلام أنت ناظمه معنى سوى حكم إعراب تزجيه اسم يرى وهو أصل للكلام فما يتم من دونه قصد لمنشيه وآخر هو يعطيك الزيادة في ما أنت تثبته أو أنت تنفيه تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ تلقى له خبرا من بعد تثنيه وفاعل مسند فعل تقدمه إليه يكسبه وصفا ويعطيه هذان أصلان لا تأتيك فائدة من منطق لم يكونا من مبانيه وما يزيدك من بعد التمام فما سلطت فعلا عليه في تعديه هذي قوانين يلفى من تتبعها ما يشسبه البحر فيضا من نواحيه فلست تأتي إلى باب لتعلمه إلا انصرفت بعجز عن تقصيه هذا كذاك وإن كان الذين ترى يرون أن المدى دان لباغيه ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم بما يجيب الفتى خصما يماريه يقول من أين أن لا نظم يشبهه وليس من منطق في ذاك يحكيه وقد علمنا بأن النظم ليس سوى حكم من النحو نمضي في توخيه لو نقب الأرض باغ غير ذاك له معنى وصعد يعلو في ترقيه ما عاد إلا بخسر في تطلبه ولا رأى غير غي في تبغيه ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في أحكامه ونروي في معانيه كانت حقائق يلفى العلم مشتركا بها وكلا تراه نافذا فيه فليس معرفة من دون معرفة في كل ما أنت من باب تسميه ترى تصرفهم في الكل مطردا يجرونه باقتدار في مجاريه فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا حتى غدا العجز يهمي سيل واديه قولوا وإلا فأصغوا للبيان تروا كالصبح منبلجا في عين رائيه الحمد لله وحده وصلواته على رسوله محمد وآله

مقدمة المؤلف بقلمه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين

نحمده على عظيم نعمائه وجميل بلائه ونستكفيه نوائب الزمان ونوازل الحدثان ونرغب إليه في التوفيق والعصمة ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله يقينا يملأ الصدر ويعمر القلب ويستولي على النفس حتى يكفها إذا نزغت ويردها إذا تطلعت وثقة بأنه عز وجل الوزر والكالىء والراعي والحافظ وأن الخير والشر بيده وأن النعم كلها من عنده وأن لا سلطان لأحد مع سلطانه نوجه رغباتنا إليه ونخلص نياتنا في التوكل عليه وأن يجعلنا ممن همه الصدق وبغيته الحق وغرضه الصواب وما تصححه العقول وتقبله الألباب ونعوذ به من أن ندعي العلم بشيء لا نعلمه وأن نسدي قولا لا نلحمه وأن نكون ممن يغره الكاذب من الثناء وينخدع للمتجوز في الإطراء وأن يكون سبيلنا سبيل من يعجبه أن يجادل بالباطل ويموه على السامع ولا يبالي إذا راج عنه القول أن يكون قد خلط فيه ولم يسدد في معانيه ونستأنف الرغبة إليه عز وجل في الصلاة على خير خلقه والمصطفى من بريته محمد سيد المرسلين وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين وعلى آله الأخيار من بعدهم أجمعين وبعد فإنا إذا تصفحنا الفضائل لنعرف منازلها في الشرف ونتبين مواقعها من العظم ونعلم أي أحق منها بالتقديم وأسبق في استيجاب التعظيم وجدنا العلم أولاها بذلك وأولها هنالك إذ لا شرف إلا وهو السبيل إليه ولا خير إلا وهو الدليل عليه ولا منقبة إلا وهو ذروتها وسنامها ولا مفخرة إلا وبه صحتها وتمامها ولا حسنة إلا وهو مفتاحها ولا محمدة إلا ومنه يتقد مصباحها وهو الوفي إذا خان كل صاحب والثقة إذا لم يوثق بناصح لولاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلا بتخطيط صورته وهيئة جسمه وبنيته لا ولا وجد إلى اكتساب الفضل طريقا ولا وجد بشيء من المحاسن خليقا ذاك لأنا وإن كنا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلا بالفعل وكان لا يكون فعل إلا بالقدرة فإنا لم نر فعلا زان فاعله وأوجب الفضل له حتى يكون عن العلم صدره وحتى يتبين ميسمه عليه وأثره ولم نر قدرة قط أكسبت صاحبها مجدا وأفادته حمدا دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب وقائدها حيث تؤم وتذهب ويكون المصرف لعنانها والمقلب لها في ميدانها فهي إذا مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره وتقتفي رسمه آلت ولا شيء أحشد للذم على صاحبها منها ولا شين أشين من إعماله لها فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلا يخالفك فيه ولا ترى أحدا يدفعه أو ينفيه فأما المفاضلة بين بعضه وبعض وتقديم فن منه على فن فإنك ترى الناس فيه على آراء مختلفة وأهواء متعادية ترى كلا منهم لحبه نفسه وإيثاره أن يدفع النقص عنها يقدم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن ويحاول الزراية على الذي لم يحظ به والطعن على أهله والغض منهم ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك فمن مغمور قد استهلكه هواه وبعد في الجور مداه ومن مترجح فيه بين الإنصاف والظلم يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم فأما من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلا بالعدل وحتى يصدر في كل أمره عن العقل فكالشيء الممتنع وجوده ولم يكن ذلك كذلك إلا لشرف العلم وجليل محله وأن محبته مركوزة في الطباع ومركبة في النفوس وأن الغيرة عليه لازمة للجبلة وموضوعة في الفطرة وأنه لا عيب أعيب عند الجميع من عدمه ولا ضعة أوضع من الخلو عنه فلم يعاد إذا إلا من فرط المحبة ولم يسمح به إلا لشدة الضن ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا وأبسق فرعا وأحلى جنى وأعذب وردا وأكرم نتاجا وأنور سراجا من علم البيان الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي ويصوغ الحلي ويلفظ الدر وينفث السحر ويقري الشهد ويريك بدائع من الزهر ويجنيك الحلو اليانع من الثمر والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها وتصويره إياها لبقيت كامنة مستورة ولما استبنت لها يد الدهر صورة ولا ستمر السرار بأهلتها واستولى الخفاء على جملتها إلى فوائد لا يدركها الإحصاء ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء الا أنك لن ترى على ذلك نوعا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه ومني من الحيف بما مني به ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم فيه فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة وظنون ردية وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش ترى كثيرا منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين وما يجده للخط والعقد يقول إنما هو خبر واستخبار وأمر ونهي ولكل من ذلك لفظ قد وضع له وجعل دليلا عليه فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فارسية وعرف المغزى من كل لفظة ثم ساعده اللسان على النطق بها وعلى تأدية أجراسها وحروفها فهو بين في تلك اللغة كامل الأداة بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت جاري اللسان لا تعترضه لكنة ولا تقف به حبسة وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية فإن استظهر للأمر وبالغ في النظر فأن لا بلحن فيرفع في موضع النصب أو يخطىء فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة لا يعلم أن ها هنا دقائق وأسرارا طريق العلم بها الروية والفكر ولطائف مستقاها العقل وخصائص معان ينفرد بها قوم قد هدوا إليها ودلوا عليها وكشف لهم عنها ورفعت الحجب بينهم وبينها وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام ووجب أن يفضل بعضه بعضا وأن يبعد الشأو في ذلك وتمتد الغاية ويعلو المرتقى ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يخرج من طوق البشر ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقائق وهذه الخواص واللطائف لم تتعرض لها ولم تطلبها ثم عن لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها وسدا دون أن تصل إليها وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها وعليه المعول فيها وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها ويبين فاضلها من مفضولها فجعلت تظهر الزهد في كل واحد من النوعين وتطرح كلا من الصنفين وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلمهما أما الشعر فخيل إليها أنه ليس فيه كثير طائل وأن ليس إلا ملحة أو فكاهة أو بكاء منزل أو وصف طلل أو نعت ناقة أو جمل أو إسراف قول في مدح أو هجاء وأنه ليس بشيء تمس الحاجة إليه في صلاح دين أو دنيا وأما النحو فظنته ضربا من التكلف وبابا من التعسف وشيئا لا يستند إلى أصل ولا يعتمد فيه على عقل وأن ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب وما يتصل بذلك مما تجده في المبادىء فهو فضل لا يجدي نفعا ولا تحصل منه على فائدة وضربوا له المثل بالملح كما عرفت إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين وآراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه لتعوذوا بالله منها ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بها ذاك لأنهم بإيثارهم الجهل بذلك على العلم في معنى الصاد عن سبيل الله والمبتغي إطفاء نور الله تعالى وذاك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت وبانت وبهرت هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر وكان محالا أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان وتنازعوا فيهما قصب الرهان ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل وزاد بعض الشعر على بعض كان الصاد عن ذلك صادا عن أن تعرف حجة الله تعالى وكان مثله مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويتلوه ويقرؤوه ويصنع في الجملة صنيعا يؤدي إلى أن يقل حفاظه والقائمون به والمقرئون له ذاك لأنا لم نتعبد بتلاوته وحفظه والقيام بأداء لفظه على النحو الذي أنزل عليه وحراسته من أن يغير ويبدل إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر تعرف في كل زمان ويتوصل إليها في كل أوان ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السلف ويأثرها الثاني عن الأول فمن حال بيننا وبين ماله كان حفظنا إياه واجتهادنا في أن نؤديه ونرعاه كان كمن رام أن ينسيناه جملة ويذهبه من قلوبنا دفعة فسواء من منعك الشيء الذي ينتزع منه الشاهد والدليل ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة والاطلاع على تلك الشهادة ولا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفي به من دائك وتستبقي به حشاشة نفسك وبين من أعدمك العلم بأن فيه شفاء وأن لك فيه استبقاء فإن قال منهم قائل إنك قد أغفلت فيما رتبت فإن لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه ولأن الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب واستوى الناس قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجا بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير أن لا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به وطلب الوصول إليه والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها والعلم بها ممكنا لمن التمسه فإذا كنت لا تشك في أن لا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي له كان معجزا قائم فيه أبدا وأن الطريق إلى العلم به موجود والوصول إليه ممكن فانظر أي رجل تكون إذا أنت زهدت في أن تعرف حجة الله تعالى وآثرت فيه الجهل على العلم وعدم الاستبانة على وجودها وكان التقليد فيها أحب إليك والتعويل على علم غيرك آثر لديك ونح الهوى عنك وراجع عقلك واصدق نفسك يبن لك فحش الغلط فيما رأيت وقبح الخطأ في الذي توهمت وهل رأيت رأيا أعجز واختيارا أقبح ممن كره أن تعرف حجة الله تعالى من الجهة التي إذا عرفت منها كانت أنور وأبهر وأقوى وأقهر وآثر أن لا يقوى سلطانها على الشرك كل القوة ولا تعلو على الكفر كل العلو والله المستعان فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور أحدها أن يكون رفضه له وذمه إياه من أجل ما يجده فيه من هزل وسخف وهجاء وسب وكذب وباطل على الجملة والثاني أن يذمه لأنه موزون مقفى ويرى هذا بمجرده عيبا يقتضي الزهد فيه والتنزه عنه والثالث أن يتعلق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر ويقول قد ذموا في التنزيل وأي كان من هذه رأيا له فهو في ذلك على خطأ ظاهر وغلط فاحش وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر وبالضد مما جاء به الأثر وصح به الخبر أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسخف وكذب وباطل فينبغي أن يذم الكلام كله وأن يفضل الخرس على النطق والعي على البيان فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظومه والذي زعم أنه ذم الشعر من أجله وعاداه بسببه فيه أكثر لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون والعامة ومن لا يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل ونحن نعلم أن لو كان منثور الكلام يجمع كما يجمع المنظوم ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثرا في عصر واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظما في الأزمان الكثيرة ولغمره حتى لا يظهر فيه ثم إنك لو لم ترو من هذا الضرب شيئا قط ولم تحفظ إلا الجد المحض وإلا ما لا معاب عليك في روايته وفي المحاضرة به وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك غنى ومندوحة ولوجدت طلبتك ونلت مرادك وحصل لك ما نحن ندعوك إليه من علم الفصاحة فاختر لنفسك ودع ما تكره إلى ما تحب هذا وراوي الشعر حاك وليس على الحاكي عيب ولا عليه تبعة إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر باطلا أو يسوء مسلما وقد حكى الله تعالى كلام الكفار فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر ومن أجله أريد وله دون تعلم أنك قد زغت عن المنهج وأنك مسيء في هذه العداوة وهذه العصبية منك على الشعر وقد استشهد العلماء لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح ثم لم يعبهم ذلك إذ كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش ولم يريدوه ولم يرووا الشعر من أجله قالوا وكان الحسن البصري رحمه الله يتمثل في مواعظه بالأبيات من الشعر وكان من أوجعها عنده الكامل اليوم عندك دلها وحديثها وغدا لغيرك كفها والمعصم وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكره المرزباني في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال أتي عمر رضوان الله عليه بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن طلحة بن عبيد الله ومحمد بن حاطب فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين هؤلاء المحمدون بالباب يطلبون الكسوة فقال ائذن لهم يا غلام فدعا بحلل فأخذ زيد أجودها وقال هذه لمحمد بن حاطب وكانت أمه عنده وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه أيهات أيهات وتمثل بشعر عمارة بن الوليد الطويل أسرك لما صرع القوم نشوة خروجي منها سالما غير غارم بريئا كأني قبل لم أك منهم وليس الخداع مرتضى في التنادم ردها ثم قال ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل وقال أدخل يدك فخذ حلة وأنت لا تراها فأعطهم قال عبد الملك فلم أر قسمة أعدل منها وعمارة هذا هو عمارة بن الوليد بن المغيرة خطب امرأة من قومه فقالت لا أتزوجك أو تترك الشراب فأبى ثم اشتد وجده بها فحلف لها ألا يشرب ثم مر بخمار عنده شرب يشربون فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه ومكثوا أياما ثم خرج فأتى أهله فلما رأته امرأته قالت ألم تحلف ألا تشرب فقال ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ثياب الندامى عندهم كالغنائم ولكننا يا أم عمرو نديمنا بمنزلة الريان ليس بعائم أسرك البيتين فإذا رب هزل أداة في جد وكلام جرى في باطل ثم استعين به على حق كما أنه رب شيء خسيس توصل به إلى شريف بأن ضرب مثلا فيه وجعل مثالا له كما قال أبو تمام الكامل والله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس وعلى العكس فرب كلمة حق أريد بها باطل فاستحق عليها الذم كما عرفت من خبر الخارجي مع علي رضوان الله عليه ورب قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبب به إلى قبيح كالذي حكى الجاحظ قال رجع طاووس يوما عن مجلس محمد بن يوسف وهو يومئذ والي اليمن فقال ما ظننت أن قول سبحان الله يكون معصية لله حتى كان اليوم سمعت رجلا أبلغ ابن يوسف عن رجل كلاما فقال رجل من أهل المجلس سبحان الله كالمستعظم لذلك الكلام ليغضب ابن يوسف فبهذا ونحوه فاعتبر واجعله حكما بينك وبين الشعر وبعد فكيف وضع من الشعر عندك وكسبه المقت منك أنك وجدت فيه الباطل والكذب وبعض ما لا يحسن ولم يرفعه في نفسك ولم يوجب له المحبة من قلبك أن كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب وأن كان مجنى ثمر العقول والألباب ومجتمع فرق الآداب والذي قيد على الناس المعاني الشريفة وأفادهم الفوائد الجليلة وترسل بين الماضي والغابر ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد حتى ترى به آثار الماضين مخلدة في الباقين وعقول الأولين مرددة في الآخرين وترى لكل من رام الأدب وابتغى الشرف وطلب محاسن القول والفعل منارا مرفوعا وعلما منصوبا وهاديا مرشدا ومعلما مسددا وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر والزاهد في اكتساب المحامد داعيا ومحرضا وباعثا ومحضضا ومذكرا ومعرفا وواعظا ومثقفا فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا الرأي منك وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به ولكنك أبيت إلا ظنا سبق إليك وإلا بادىء رأي عن لك فأقفلت عليه قلبك وسددت عما سواه سمعك فعي الناصح بك وعسر على الصديق والخليط تنبيهك نعم وكيف رويت لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا فيريه خير له من أن يمتلىء شعرا ولهجت له وتركت قوله إن من الشعر لحكما وإن من البيان لسحرا وكيف نسيت أمره بقول الشعر ووعده عليه الجنة وقوله لحسان قل وروح القدس معك وسماعه له واستنشاده إياه وعمله به واستحسانه له وارتياحه عند سماعه أما أمره به فمن المعلوم ضرورة وكذلك سماعه إياه فقد كان حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه ويسمع منهم ويصغي إليهم ويأمرهم بالرد على المشركين فيقولون في ذلك ويعرضون عليه وكان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه قال لكعب ما نسي ربك وما كان ربك نسيا شعرا قلته قال وما هو يا رسول الله قال أنشده يا أبا بكر فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه الكامل زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب وأما استنشاده إياه فكثير من ذلك الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسقي قول أبي طالب الكامل وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل الأبيات وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق عن عبد الله قال لما نظر رسول الله إلى القتلى يوم بدر مصرعين قال لأبي بكر رضي الله عنه لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل قال وذلك لقول أبي طالب كذبتم وبيت الله إن جد ما أرى لتلتبسن أسيافنا بالأنامل وينهض قوم في الدروع إليهم نهوض الروايا في طريق حلاحل ومن المحفوظ في ذلك حديث محمد بن مسلمة الأنصاري جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق قال فتذاكرنا الشكر والمعروف قال فقال محمد كنا يوما عند النبي فقال لحسان بن ثابت أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإن الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة السريع علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر فقال النبي يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا فقال يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر فقال النبي يا حسان أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني وفي خبر آخر فشعث مني وإنه سأل هذا عني فأحسن القول فشكره رسول الله على ذلك وروي من وجه آخر أن حسان قال يا رسول الله من نالتك يده وجب علينا شكره ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت كان رسول الله كثيرا ما يقول أبياتك فأقول الكامل ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى قالت فيقول عليه السلام يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده صنع إليك عبدي معروفا فهل شكرته عليه فيقول يا رب علمت أنه منك فشكرتك عليه قال فيقول الله عز وجل لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريته على يده وأما علمه عليه السلام بالشعر فكما روي أن سودة أنشدت عدي وتيم تبتغي من تحالف فظنت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عرضت بهما وجرى بينهن كلام في هذا المعنى فأخبر النبي فدخل عليهن وقال يا ويلكن ليس في عديكن ولا تيمكن قيل هذا وإنما قيل في عدي تميم وتيم تميم وتمام هذا الشعر وهو لقيس بن معدان الكلبي من بني يربوع الطويل فحالف ولا والله تهبط تلعة من الأرض إلا أنت للذل عارف ألا من رأى العبدين أو ذكرا له عدي وتيم تبتغي من تحالف وروى الزبير بن بكار قال مر رسول الله ومعه أبو بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقة مكة الكامل يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد الدار فقال النبي يا أبا بكر أهكذا قال الشاعر قال لا يا رسول الله ولكنه قال الكامل يا أيها الرجل المحول رحله هلا سألت عن آل عبد مناف فقال رسول الله هكذا كنا نسمعها وأما ارتياحه للشعر واستحسانه له فقد جاء فيه الخبر من وجوه من ذلك حديث النابغة الجعدي قال أنشدت رسول الله قولي الطويل بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال النبي أين المظهر يا أبا ليلى فقلت الجنة يا رسول الله قال أجل إن شاء الله ثم قال أنشدني فأنشدته من قولي الطويل ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال أجدت لا يفضض الله فاك قال الرازي فنظرت إليه فكأن فاه البرد المنهل ما سقطت له سن ولا انفلت ترف غروبه ومن ذلك حديث كعب بن زهير روي أن كعبا وأخاه بجيرا خرجا إلى رسول الله حتى بلغا أبرق العزاف فقال كعب لبجير إلق هذا الرجل وأنا مقيم ها هنا فأنظر ما يقول وقدم بجير على رسول الله فعرض عليه الإسلام فأسلم وبلغ ذلك كعبا فقال في ذلك شعرا فأهدر النبي دمه فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي ويقول إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل منه رسول الله وأسقط ما كان قبل ذلك قال فقدم كعب وأنشد النبي قصيدته المعروفة البسيط بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مغلول وما سعاد غداة البين إذ رحلت إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول سح السقاة عليها ماء محنية من ماء أبطح أضحى وهو مشمول ويل امها خلة لو أنها صدقت موعودها أو لو ان النصح مقبول حتى أتى على آخرها فلما بلغ مديح رسول الله إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول في فتية من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل لا يقع الطعن إلا في نحورهم وما بهم عن حياض الموت تهليل شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل أشار رسول الله إلى الحلق أن اسمعوا قال وكان رسول الله يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم يتحلقون حلقة دون حلقة فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة والأثر به مستفيض وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى حتى كأن الوزن عيب وحتى كأن الكلام إذا نظم نظم الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله فقد أبعد وقال قولا لا يعرف له معنى وخالف العلماء في قولهم إنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وقد روي ذلك عن النبي مرفوعا أيضا فإن زعم أنه إنما كره الوزن لأنه سبب لأن يغنى في الشعر ويتلهى به فإنا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل والقول الفصل والمنطق الحسن والكلام البين وإلى حسن التمثيل والاستعارة وإلى التلويح والإشارة وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرفه وإلى الضئيل فتفخمه وإلى النازل فترفعه وإلى الخامل فتنوه به وإلى العاطل فتحلته وإلى المشكل فتجليه فلا متعلق له علينا بما ذكر ولا ضرر علينا بما أنكر فليقل في الوزن ما شاء وليضعه حيث أراد فليس يعنينا أمره ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه وهذا هو الجواب لمتعلق إن تعلق بقوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر ومن حفظه وروايته وذاك أنا نعلم أنه لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولا فضلا وكلاما جزلا ومنطقا حسنا وبيانا بينا كيف وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة وحماه الفصاحة والبراعة وجعله لا يبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة وشرف اللفظ وهذا جهل عظيم وخلاف لما عرفه العلماء وأجمعوا عليه من أنه كان أفصح العرب وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من أجلها ونحذو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية محالا والتعلق بها خطلا من الرأي وانحلالا فإن قال إذا قال الله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له فقد كره للنبي الشعر ونزهه عنه بلا شبهة وهذه الكراهة وإن كانت لا تتوجه إليه من حيث هو كلام ومن حيث إنه بليغ بين وفصيح حسن ونحو ذلك فإنها تتوجه إلى أمر لا بد لك من التلبس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر وذاك أنه لا سبيل لك إلى أن تميز كونه كلاما عن كونه شعرا حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام ولم تلتبس به من حيث هو شعر وهذا محال وإذا كان لا بد لك من ملابسة موضع الكراهة فقد لزم العيب برواية الشعر وإعمال اللسان فيه قيل له هذا منك كلام لا يتحصل وذلك أنه لو كان الكلام إذا وزن حط ذلك من قدره وأزرى به وجلب على المفرغ له في ذلك القالب إثما وكسبه ذما لكان من حق العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو من يريده لمكان الوزن خصوصا دون من يريده لأمر خارج عنه ويطلبه لشيء سواه فأما قولك إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره فإني إذا لم أقصده من أجل ذلك المكروه ولم أرده له وأردته لأعرف به مكان بلاغة وأجعله مثالا في براعة أو أحتج في تفسير كتاب وسنة وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن فأرى موضع الإعجاز وأقف على الجهة التي منها كان وأتبين الفصل والفرقان فحق هذا التلبس أن لا يعتد علي وأن لا أؤاخذ به إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عمد إلى أن تواقع المكروه وقصد إليه وقد تتبع العلماء الشعوذة والسحر وعنوا بالتوقف على حيل المموهين ليعرفوا فرق ما بين المعجزة والحيلة فكان ذلك منهم من أعظم البر إذ كان الغرض كريما والقصد شريفا هذا وإذا نحن رجعنا إلى ما قدمناه من الأخبار وما صح من الآثار وجدنا الأمر على خلاف ما ظن هذا السائل ورأينا السبيل في منع النبي الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام الموزون غير ما ذهبوا إليه وذاك لو كان منع تنزيه وكراهة لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونا وأن ينزه سمعه عنه كما نزه لسانه ولكان لا يأمر به ولا يحث عليه وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرا ولا يؤيد فيه بروح القدس وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة بل سبيل الوزن في منعه عليه السلام إياه سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر والدلالة أقوى وأظهر ولتكون أكعم للجاحد وأقمع للمعاند وأرد لطالب الشبهة وأمنع في ارتفاع الريبة وأما التعلق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذموا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلا يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه والمنع من حفظه وروايته والعلم بما فيه من بلاغة وما يختص به من أدب وحكمة ذاك لأنه يلزم على قود هذا القول أن يعيب العلماء في استشهادهم بشعر امرىء القيس وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن وفي غريبة وغريب الحديث وكذلك يلزمه أن يدفع ما تقدم ذكره من أمر النبي بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له هذا ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله وأن يحمل ذنب الشاعر على الشعر لكان ينبغي أن يخص ولا يعم وأن يستثنى فقد قال الله عز وجل إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا ولولا أن القول يجر بعضه بعضا وأن الشيء يذكر لدخوله في القسمة لكان حق هذا ونحوه أن لا يشاغل به وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره

وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له وإصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعهم في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدم وأشبه بأن يكون صدا عن كتاب الله وعن معرفة معاينه ذاك لأنهم لا يجدون بدا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يعرض عليه والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه ولا ينكر ذلك إلا من نكر حسه وإلا من غالط في الحقائق نفسه وإذا كان الأمر كذلك فليت شعري ما عذر من تهاون به وزهد فيه ولم ير أن يستسقيه من مصبه ويأخذه من معدنه ورضي لنفسه بالنقص والكمال لها معرض وآثر الغبينة وهو يجد إلى الربح سبيلا فإن قالوا إنا لم نأب صحة هذا العلم ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى وإنما أنكرنا أشياء كثرتموه بها وفضول قول تكلفتموها ومسائل عويصة تجشمتم الفكر فيها ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين وتعايوا بها الحاضرين قيل لهم خبرونا عما زعمتم أنه فضول قول وعويص لا يعود بطائل ما هو فإن بدأوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس كقولهم كيف تبني من كذا كذا وكقولهم ما وزن كذا وتتبعهم في ذلك الألفاظ الوحشية كقولهم ما وزن عزويت وما وزن أرونان

وكقولهم في باب ما لا ينصرف لو سميت رجلا بكذا كيف يكون الحكم وأشباه ذلك وقالوا أتشكون أن ذلك لا يجدي إلا كد الفكر وإضاعة الوقت قلنا لهم أما هذا الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به وليس يهمنا أمره فقولوا فيه ما شئتم وضعوه حيث أردتم فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة وعلى وجه الحكمة في الأوضاع وتقرير المقاييس التي اطردت عليها وذكر العلل التي اقتضت أن تجري على ما أجريت عليه كالقول في المعتل وفيما يلحق الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغير بالإبدال والحذف والإسكان أو ككلامنا مثلا على التثنية وجمع السلامة لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد ولم تبع النصب فيهما الجر وفي النون أنه عوض عن الحركة والتنوين في حال وعن الحركة وحدها في حال والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف ولم كان منع الصرف وبيان العلة فيه والقول على الأسباب التسعة وأنها كلها ثوان لأصول وأنه إذا حصل منها اثنان في العلم أو تكرر سبب صار بذلك ثانيا من جهتين وإذا صار كذلك أشبه الفعل لأن الفعل ثان للأسم والأسم المقدم والأول وكل ما جرى هذا المجرى قلنا إنا نسكت عنكم في هذا الضرب أيضا ونعذركم فيه ونسامحكم على علم منا بأن قد أسأتم الاختيار ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظ لكم ومنعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة فدعوا ذلك وانظروا في الذي اعترفتم بصحته وبالحاجة إليه

هل حصلتموه على وجهه وهل أحطتم بحقائقه وهل وفيتم كل باب منه حقه وأحكمتموه إحكاما يؤمنكم الخطأ فيه إذا أنتم خضتم في التفسير وتعاطيتم علم التأويل ووازنتم بين بعض الأقوال وبعض وأردتم أن تعرفوا الصحيح من السقيم وعدتم في ذلك وبدأتم وزدتم ونقصتم وهل رأيتم إذ قد عرفتم صورة المبتدأ والخبر وأن إعرابهما الرفع أن تجاوزوا ذلك إلى أن تنظروا في أقسام خبره فتعلموا أنه يكون مفردا وجملة وأن المفرد ينقسم إلى ما يحتمل ضميرا له وإلى ما لا يحتمل الضمير وأن الجملة على أربعة أضرب وأنه لا بد لكل جملة وقعت خبرا لمبتدأ من أن يكون فيها ذكر يعود إلى المبتدأ وأن هذا الذكر ربما حذف لفظا وأريد معنى وأن ذلك لا يكون حتى يكون في الحال دليل عليه إلى سائر ما يتصل بباب الإبتداء من المسائل اللطيفة والفوائد الجليلة التي لا بد منها وإذا نظرتم في الصفة مثلا فعرفتم أنها تتبع الموصوف وأن مثالها قولك جاءني رجل ظريف ومررت بزيد الظريف هل ظننتم أن وراء ذلك علما وأن هاهنا صفة تخصص وصفة توضح وتبين وأن فائدة التخصيص غير فائدة التوضيح كما أن فائدة الشياع غير فائدة الإبهام وأن من الصفة صفة لا يكون فيها تخصيص ولا توضيح ولكن يؤتى بها مؤكدة كقولهم أمس الدابر وكقوله تعالى فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وصفة يراد بها المدح والثناء كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جدة وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر وبين كل واحد منها وبين الحال وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافتها لثبوت المعنى للشيء ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت وهكذا ينبغي أن تعرض عليهم الأبواب كلها واحدا واحدا ويسألوا عنها بابا بابا ثم يقال ليس إلا أحد أمرين إما أن تقتحموا التي لا يرضاها العاقل فتنكروا أن يكون بكم حاجة في كتاب الله تعالى وفي خبر رسول الله وفي معرفة الكلام جملة إلى شيء من ذلك وتزعموا أنكم إذا عرفتم مثلا أن الفاعل رفع لم يبق عليكم في باب الفاعل شيء تحتاجون إلى معرفته وإذا نظرتم إلى قولنا زيد منطلق لم تحتاجوا من بعده إلى شيء تعلمونه في الابتداء والخبر وحتى تزعموا مثلا أنكم لا تحتاجون في أن تعرفوا وجه الرفع في الصابئون في سورة المائدة إلى ما قاله العلماء فيه وإلى استشهادهم بقول الشاعر الوافر وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق وحتى كأن المشكل على الجميع غير مشكل عندكم وحتى كأنكم قد أوتيتم أن تستنبطوا من المسألة الواحدة من كل باب مسائله كلها فتخرجوا إلى فن من التجاهل لا يبقى معه كلام وإما أن تعلموا أنكم قد أخطأتم حين أصغرتم أمر هذا العلم وظننتم ما ظننتم فيه فترجعوا إلى الحق وتسلموا الفضل لأهله وتدعوا الذي يزري بكم ويفتح باب العيب عليكم ويطيل لسان القادح فيكم وبالله التوفيق هذا ولو أن هؤلاء القوم إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة وإذ زعموا أن قدر المفتقر إليه القليل منه ولم يخوضوا في التفسير ولم يتعاطوا التأويل لكان البلاء واحدا ولكانوا إذ لم يبنوا لم يهدموا وإذ لم يصلحوا لم يكونوا سببا للفساد ولكنهم لم يفعلوا فجلبوا من الداء ما أعيى الطبيب وحير اللبيب وانتهى التخليط بما أتوه فيه إلى حد يئس من تلافيه فلم يبق للعارف الذي يكره الشغب إلا التعجب والسكوت وما الآفة العظمى إلا واحدة وهي أن يجيء من الإنسان أن يجري لفظه ويمشي له أن يكثر في غير تحصيل وأن يحسن البناء على غير أساس وأن يقول الشيء لم يقتله علما ونسأل الله الهداية ونرغب إليه في العصمة ثم إنا وإن كنا في زمان هو على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها وتحويل الأشياء عن حالاتها ونقل النفوس عن طباعها وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفا والغيظ بحتا وإلا ما يدهش عقولهم ويسلبهم معقولهم حتى صار أعجر الناس رأيا عند الجميع من كانت له همة في أن يستفيد علما أو يزداد فهما أو يكتسب فضلا أو يجعل له ذلك بحال شغلا فإن الإلف من طباع الكريم وإذا كان من حق الصديق عليك ولا سيما إذا تقادمت صحبته وصحت صداقته أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام وتضجرك النوائب وتحرجك محن الزمان فتتناساه جملة وتطويه طيا فالعلم الذي هو صديق لا يحول عن العهد ولا يدغل في الود وصاحب لا يصح عليه النكث والغدر ولا يظن به الخيانة والمكر أولى منه بذلك وأجدر وحقه عليك أكبر ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور قرارها وتوضع الأشياء مواضعها والنزاع إلى بيان ما يشكل وحل ما ينعقد والكشف عما يخفى وتلخيص الصفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة واستظهارا على الشبهة واستبانة للدليل وتبيينا للسبيل شيء في سوس العقل وفي طباع النفس إذا كانت نفسا ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه وتوضع لك القاعدة لتبني عليها ووجدت المعول على أن ها هنا نظما وترتيبا وتأليفا وتركيبا وصياغة وتصويرا ونسجا وتحبيرا وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها وأنه كما يفضل هناك النظم النظم والتأليف التأليف والنسخ النسج والصياغة الصياغة ثم يعظم الفضل وتكثر المزية حتى يفوق الشيء نظيره والمجانس له درجات كثيرة وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد كذلك يفضل بعض الكلام بعضا ويتقدم منه الشيء الشيء ثم يزداد فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة ويعلو مرقبا بعد مرقب وتستأنف له غاية بعد غاية حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع وتحسر الظنون وتسقط القوى وتستوي الأقدام في العجز وهذه جملة قد يرى في أول الأمر وبادىء الظن أنها تكفي وتغني حتى إذا نظرنا فيها وعدنا وبدأنا وجدنا الأمر على خلاف ما حسبناه وصادفنا الحال على غير ما توهمناه وعلمنا أنهم لئن أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى وإن لم يغرقوا في النزع لقد أبعدوا على ذاك في المرمى وذاك لأنه يقال لنا ما زدتم على أن قستم قياسا فقلتم نظم ونظم وترتيب وترتيب ونسج ونسج ثم بنيتم عليه أنه ينبغي أن تظهر المزية في هذه المعاني هاهنا حسب ظهورها هناك وأن يعظم الأمر في ذلك كما عظم ثم وهذا صحيح كما قلتم ولكن بقي أن تعلمونا مكان المزية في الكلام وتصفوها لنا وتذكروها ذكرا كما ينص الشيء ويعين ويكشف عن وجهه ويبين ولا يكفي أن تقولوا إنه خصوصية في كيفية النظم وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبينوها وتذكروا لها أمثلة وتقولوا مثل كيت وكيت كما يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقش ما تعلم به وجه دقة الصنعة أو يعلمه بين يديك حتى ترى عيانا كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء وماذا يذهب منها طولا وماذا يذهب منها عرضا وبم يبدأ وبم يثني وبم يثلث وتبصر من الحساب الدقيق ومن عجيب تصرف اليد ما تعلم منه مكان الحذق وموضع الأستاذية ولو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة إنها خصوصية في نظم الكلم وضم بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة أو على وجوه تظهر بها الفائدة أو ما أشبه ذلك من القول المجمل كافيا في معرفتها ومغنيا في العلم بها لكفى مثله في معرفة الصناعات كلها فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التصاوير أن تعلم أنه ترتيب للغزل على وجه مخصوص وضم لطاقات الأبريسم بعضها إلى بعض على طرق شتى وذلك ما لا يقوله عاقل وجملة الأمر أنك لن تعلم في شيء من الصناعات علما تمر فيه وتحلي حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب ويفصل بين الإساءة والإحسان بل حتى تفاضل بين الإحسان والإحسان وتعرف طبقات المحسنين وإذا كان هذا هكذا علمت أنه لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسا وأن تصفها وصفا مجملا وتقول فيها قولا مرسلا بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة وتسميها شيئا شيئا وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الأبريسم الذي في الديباج وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع وكل آجرة من الآجر الذي في البناء البديع وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر وطلبتها هذا الطلب احتجت إلى صبر على التأمل ومواظبة على التدبر وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية ومتى جشمت ذلك وأبيت إلا أن تكون هنالك فقد أممت إلى غرض كريم وتعرضت لأمر جسيم وآثرت التي هي أتم لدينك وفضلك وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه لها وأخلق بأن يزداد نورها سطوعا وكوكبها طلوعا وأن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشك وأبعد من الريب وأصح لليقين وأحرى بأن يبلغك قاصية التبيين واعلم أنه لا سبيل إلى أن تعرف صحة هذه الجملة حتى يبلغ القول غايته وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك وتصويره في نفسك وتقريره عندك إلا أن هاهنا نكتة إن أنت تأملتها تأمل المتثبت ونظرت فيها نظر المتأني رجوت أن يحسن ظنك وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك وهي أنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا لولا أنهم حين سمعوا القرآن وحين تحدوا إلى معارضته سمعوا كلاما لم يسمعوا قط مثله وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريبا منه لكان محالا أن يدعوا معارضته وقد تحدوا إليه وقرعوا فيه وطولبوا به وأن يتعرضوا لشبا الأسنة ويقتحموا موارد الموت فقيل لنا قد سمعنا ما قلتم فخبرونا عنهم عما ذا عجزوا أعن معان في دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول أم عن ألفاظ مثل ألفاظه فإن قلتم عن الألفاظ فماذا أعجزهم من اللفظ أم ما بهرهم منه فقلنا أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه وبدائع راعتهم من مبادىء آيه ومقاطعها ومجاري ألفاظها ومواقعها وفي مضرب كل مثل ومساق كل خبر وصورة كل عظة وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب ومع كل حجة وبرهان وصفة وتبيان وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة وعشرا عشرا وآية آية فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق بل وجدوا اتساقا بهر العقول وأعجز الجمهور ونظاما والتئاما وإتقانا وإحكاما لم يدع في نفس بليغ منهم ولو حك بيافوخه السماء موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول وخلدت القروم فلم تملك أن تصول نعم فإذا كان هو الذي يذكر في جواب السائل فبنا أن ننظر أي أشبه بالفتى في عقله ودينه وأزيد له في علمه ويقينه أأن يقلد في ذلك ويحفظ متن الدليل وظاهر لفظه ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص ما هي ومن أين كثرت الكثرة العظيمة واتسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر وكيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة وكلم معدودة معلومة بأن يؤتى ببعضها في إثر بعض لطائف لا يحصرها العدد ولا ينتهي بها الأمد أم أن يبحث عن ذلك كله ويستقصي النظر في جميعه ويتتبعه شيئا فشيئا ويستقصيه بابا فبابا حتى يعرف كلا منه بشاهده ودليله ويعلمه بتفسيره وتأويله ويوثق بتصوره وتمثيله ولا يكون كمن قيل فيه الطويل يقولون أقوالا ولا يعلمونها ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا قد قطعت عذر المتهاون ودللت على ما أضاع من حظه وهديته لرشده وصح أن لا غنى بالعاقل عن معرفة هذه الأمور والوقوف عليها والإحاطة بها وأن الجهة التي منها يقف والسبب الذي به يعرف استقراء كلام العرب وتتبع أشعارهم والنظر فيها وإذ قد ثبت ذلك فينبغي لنا أن نبتدىء في بيان ما أردنا بيانه ونأخذ في شرحه والكشف عنه وجملة ما أردت أن أبينه لك أنه لا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة ومعان شريفة ورأيت له أثرا في الدين عظيما وفائدة جسيمة ووجدته سببا إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلق بالتأويل وإنه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك وتدافع عن مغزاك ويربأ بك عن أن تستبين هدى ثم لا تهتدي إليه وتدل بعرفان ثم لا تستطيع أن تدل عليه وأن تكون عالما في ظاهر مقلد ومستبينا في صورة شاك وأن يسألك السائل عن حجة يلقى بها الخصم في آية من كتاب الله تعالى أو غير ذلك فلا ينصرف عنك بمقنع وأن يكون غاية ما لصاحبك منك أن تحيله على نفسه وتقول قد نظرت فرأيت فضلا ومزية وصادفت لذلك أريحية فانظر لتعرف كما عرفت وارجع نفسك واسبر وذق لتجد مثل الذي وجدت فإن عرف فذاك وإلا فبينكما التناكر تنسبه إلى سوء التأمل وينسبك إلى فساد في التخيل وإنه على الجملة بحيث ينتقي لك من علم الإعراب خالصه ولبه ويأخذ لك من أناسي العيون وحبات القلوب وما لا يدفع الفضل فيه دافع ولا ينكر رجحانه في موازين العقول منكر وليس يتأتى لي أن أعلمك من أول الأمر في ذلك آخره وأن أسمي لك الفصول التي في نيتي أن أحررها بمشيئة الله عز وجل حتى تكون على علم بها قبل موردها عليك فاعمل على أن هاهنا فصولا لا يجيء بعضها في إثر بعض

وهذا أولها

فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة

وكل ما شاكل ذلك مما يعبر به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم ومن المعلوم أن لا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب وأولى بأن تطلق لسان الحامد وتطيل رغم الحاسد ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت من صاحبتها على ما هي موسومة به حتى يقال إن رجلا أدل على معناه من فرس على ما سمي به وحتى يتصور في الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه وأبين كشفا عن صورته من الآخر فيكون الليث مثلا أدل على السبع المعلوم من الأسد وحتى إنا لو أردنا الموازنة بين لغتين كالعربية والفارسية ساغ لنا أن نجعل لفظة رجل أدل على الآدمي الذكر من نظيره في الفارسية وهل يقع في وهم وإن جهد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية أو أن تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن ومما يكد اللسان أبعد وهل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعنى جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها وهل قالوا لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقربها إلى آخرها وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية قل ابلعي واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها وكذلك فاعتبر سائر ما يليها وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء ب يا دون أي نحو يا أيتها الأرض ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال ابلعي الماء ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها ثم أن قيل وغيض الماء فجاء الفعل على صيغة فعل الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى قضي الأمر ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو استوت على الجودي ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن ثم مقابلة قيل في الخاتمة ب قيل في الفاتحة أفترى لشيء.

من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب فقد اتضح إذا اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر كلفظ الأخدع في بيت الحماسة من الطويل تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا وبيت البحتري الطويل وإني وإن بلغتني شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع أخدعي فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام من المنسرح يا دهر قوم من أخدعيك فقد أضججت هذا الأنام من خرقك فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة ومن أعجب ذلك لفظة الشيء فإنك تراها مقبولة حسنة في موضع وضعيفة مستكرهة في موضع وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي ومن مالىء عينيه من شيء غيره إذا راح يخو الجمرة البيض كالدمى وإلى قول أبي حية الطويل إذا ما تقاضي المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول ثم انظر إليها في بيت المتنبي الطويل لو الفلك الدوار أبغضت سعيه لعوقه شيء عن الدوران فإنك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم وهذا باب واسع فإنك تجد متى شئت الرجلين قد استعملا كلما بأعيانها ثم ترى هذا قد فرع السماك وترى ذاك قد لصق بالحضيض فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ وإذا استحقت المزية والشرف واستحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم لما اختلف بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبدا ولم تر قولا يضطرب على قائله حتى لا يدري كيف يعبر وكيف يرؤد ويصدر كهذا القول بل إن أردت الحق فإنه من جنس الشيء يجري به الرجل لسانه ويطلقه فإذا فتش نفسه وجدها تعلم بطلانه وتنطوي على خلافه ذاك لأنه مما لا يقوم بالحقيقة في اعتقاد ولا يكون له صورة في فؤاد فصل في الفروق بين الحروف المنظومة والكلم ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل الفرق بين قولنا حروف منظومة وكلم منظومة وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط وليس نظمها بمقتضى عن معنى ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه فلو أن واضع اللغة كان قد قال ربض مكان ضرب لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك لأنك تقتضي في نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس فهو إذا نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق وكذلك كان عندهم نظيرا للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هناك وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصح والفائدة في معرفة هذا الفرق أنك إذا عرفته عرفت أن ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل وكيف يتصور أن يقصد به إلى توالي الألفاظ في النطق بعد أن ثبت أنه نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض وأنه نظير الصياغة والتحبير والتفويف والنقش وكل ما يقصد به التصوير وبعد أن كنا لا نشك في أن لا حال للفظة مع صاحبتها تعتبر إذا أنت عزلت دلالتهما جانبا وأي مساغ للشك في أن الألفاظ لا تستحق من حيث هي ألفاظ أن تنظم على وجه دون وجه ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ التي هي لغات دلالتها لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء ولا يتصور أن يجب فيها ترتيب ونظم ولو حفظت صبيا شطر كتاب العين أو الجمهرة من غير أن تفسر له شيئا منه وأخذته بأن يضبط صور الألفاظ وهيئتها ويؤديها كما يؤدي أصناف أصوات الطيور لرأيته ولا يخطر ببال أن من شأنه أن يؤخر لفظا ويقدم آخر بل كان حاله حال من يرمي الحصى ويعد الجوز اللهم إلا أن تسومه أنت أن يأتي بها على حروف المعجم ليحفظ نسق الكتاب ودليل آخر وهو أنه لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس ثم النطق بالألفاظ على حذوها لكان ينبغي ألا يختلف حال اثنين في العلم بحسن النظم أو غير الحسن فيه لأنهما يحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساسا واحدا ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئا يجهله الآخر وأوضح من هذا كله وهو أن النظم الذي يتواصفه البلغاء وتتفاضل مراتب البلاغة من أجله صنعة يستعان عليها بالفكرة لا محالة وإذا كانت مما يستعان عليه بالفكرة ويستخرج بالروية فينبغي أن ينظر في الفكر بماذا تلبس أبالمعاني أم بالألفاظ فأي شيء وجدته الذي تلبس به فكرك من بين المعاني والألفاظ فهو الذي تحدث فيه صنعتك وتقع فيه صياغتك ونظمك وتصويرك فمحال أن تتفكر في شيء وأنت لا تصنع فيه شيئا وإنما تصنع في غيره لو جاز ذلك لجاز أن يفكر البناء في الغزل ليجعل فكره فيه وصلة إلى أن يصنع من الآجر وهو من الإحالة المفرطة

فإن قيل النظم موجود في الألفاظ على كل حال ولا سبيل إلى أن يعقل الترتيب الذي تزعمه في المعاني ما لم تنظم الألفاظ ولم ترتبها على الوجه الخاص قيل إن هذا هو الذي يعيد هذه الشبهة جذعة أبدا والذي يحلها أن تنظر أتتصور أن تكون معتبرا مفكرا في حال اللفظ مع اللفظ متى تضعه بجنبه أو قبله وأن تقول هذه اللفظة إنما صلحت هاهنا لكونها على صفة كذا أم لا يعقل إلا أن تقول صلحت هاهنا لأن معناها كذا ولدلالتها على كذا ولأن معنى الكلام والغرض فيه يوجب كذا ولأن معنى ما قبلها يقتضي معناها فإن تصورت الأول فقل ما شئت واعلم أن كل ما ذكرناه باطل وإن لم تتصور إلا الثاني فلا تخدعن نفسك بالأضاليل ودع النظر إلى ظواهر الأمور واعلم أن ما ترى أنه لا بد منه من ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورة من حيث إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا في نظم الألفاظ أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر تستأنفه لأن تجيء بالألفاظ على نسقها فباطل من الظن ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظر حقه وكيف تكون مفكرا في نظم الألفاظ وأنت لا تعقل أوصافا وأحوالا إذا عرفتها عرفت أن حقها أن تنظم على وجه كذا ومما يلبس على الناظر في هذا الموضع ويغلطه أنه يستبعد أن يقال هذا كلام قد نظمت معانيه فالعرف كأنه لم يجر بذلك إلا أنهم وإن كانوا لم يستعملوا النظم في المعاني قد استعملوا فيها ما هو بمعناه ونظير له وذلك قولهم إنه يرتب المعاني في نفسه وينزلها ويبني بعضها على بعض كما يقولون يرتب الفروع على الأصول ويتبع المعنى المعنى ويلحق النظير وإذا كنت تعلم أنهم استعاروا النسج والوشي والنقش والصياغة لنفس ما استعاروا له النظم وكان لا يشك في أن ذلك كله تشبيه وتمثيل يرجع إلى أمور وأوصاف تتعلق بالمعاني دون الألفاظ فمن حقك أن تعلم أن سبيل النظم ذلك السبيل وأعلم أن من سبيلك أن تعتمد هذا الفصل حدا وتجعل النكت التي ذكرتها فيه على ذكر منك أبدا فإنها عمد وأصول في هذا الباب إذ أنت مكنتها في نفسك وجدت الشبه تنزاح عنك والشكوك تنتفي عن قلبك ولا سيما ما ذكرت من أنه لا يتصور أن تعرف للفظ موضعا من غير أن تعرف معناه ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك فإذا تم لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها وأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها ولاحقة بها وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق فصل واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض وتجعل هذه بسبب من تلك هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحد من الناس وإذا كان كذلك فبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله وإذا نظرنا في ذلك علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثاني صفة أو حالا أو تمييزا أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى أو بعد اسم من الأسماء التي ضمنت معنى ذلك الحرف وعلى هذا القياس وإذا كان لا يكون في الكلم نظم ولا ترتيب إلا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه وكان ذلك كله مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء ومما لا يتصور أن يكون فيه ومن صفته بان بذلك أن الأمر على ما قلناه من أن اللفظ تبع للمعنى في النظم وأن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتا وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم وأن يجعل لها أمكنة ومنازل وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك والله الموفق للصواب فصل وهذه شبهة أخرى ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن يقدم على القول من غير روية وهي أن يدعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي وتعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان كالذي أنشده الجاحظ من قول الشاعر السريع وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر وقول ابن يسير الخفيف لا أذيل الآمال بعدك إني بعدها بالآمال جد بخيل كم لها موقفا بباب صديق رجعت من نداه بالتعطيل لم يضرها والحمد لله شيء وانثنت نحو عزف نفس ذهول قال الجاحظ فتفقد النصف الأخير من هذا البيت فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض ويزعم أن الكلام في ذلك على طبقات فمنه المتناهي في الثقل المفرط فيه كالذي مضى ومنه ما هو أخف منه كقول أبي تمام الطويل كريم متى أمدحه أمدحه والورى جميعا ومهما لمته لمته وحدي ومنه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان إلا أنه لا يبلغ أن يعاب به صاحبه ويشهر أمره في ذلك ويحفظ عليه ويزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه كان الفصيح المشاد به والمشار إليه وأن الصفاء أيضا يكون على مراتب يعلو بعضها بعضا وأن له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز والذي يبطل هذه الشبهة إن ذهب إليها ذاهب أنا إن قصرنا صفة الفصاحة على كون اللفظ كذلك وجعلناه المراد بها لزمنا أن نخرج الفصاحة من حيز البلاغة ومن أن تكون نظيرة لها وإذا فعلنا ذلك لم نخل من أحد أمرين إما أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين ولا نعرج على غيره وإما أن نجعله أحد ما نفاضل به ووجها من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام فإن أخذنا بالأول لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه حتى لا يكون الإعجاز إلا به وفي ذلك ما لا يخفى من الشناعة لأنه يؤدي إلى أن لا يكون للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة من وضوح الدلالة وصواب الإشارة وتصحيح الأقسام وحسن الترتيب والنظام والإبداع في طريقة التشبيه والتمثيل والإجمال ثم التفصيل ووضع الفصل والوصل موضعهما وتوفيه الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شروطهما مدخل فيما له كان القرآن معجزا حتى ندعي أنه لم يكن معجزا من حيث هو بليغ ولا من حيث هو قول فصل وكلام شريف النظم بديع التأليف وذلك أنه لا تعلق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف وإن أخذنا بالثاني وهو أن يكون تلاؤم الحروف وجها من وجوه الفضيلة وداخلا في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة لم يكن لهذا الخلاف ضرر علينا لأنه ليس بأكثر من أن يعمد إلى الفصاحة فيخرجها من حيز البلاغة والبيان وأن تكون نظيرة لهما وفي عداد ما هو شبههما من البراعة والجزالة وأشباه ذلك مما ينبىء عن شرف النظم وعن المزايا التي شرحت لك أمرها وأعلمتك جنسها أو يجعلها اسما مشتركا يقع تارة لما تقع له تلك وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ مما يثقل على اللسان وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده وإن تعسف متعسف في تلاؤم الحروف فبلغ به أن يكون الأصل في الإعجاز وأخرج سائر ما ذكروه في أقسام البلاغة من أن يكون له مدخل أو تأثير فيما له كان القرآن معجزا كان الوجه أن يقال له إنه يلزمك على قياس قولك أن تجوز أن يكون هاهنا نظم للألفاظ وترتيب لا على نسق المعاني ولا على وجه يقصد به الفائدة ثم يكون مع ذلك معجزا وكفى به فسادا فإن قال قائل إني لا أجعل تلاؤم الحروف معجزا حتى يكون اللفظ ذلك دالا وذاك أنه إنما تصعب مراعاة التعادل بين الحروف إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني كما أنه إنما تصعب مراعاة السجع والوزن ويصعب كذلك التجنيس والترصيع إذا روعي معه المعنى قيل له فأنت الآن إن عقلت ما تقول قد خرجت من مسألتك وتركت أن يستحق اللفظ المزية من حيث هو لفظ وجئت تطلب لصعوبة النظم فيما بين المعاني طريقا وتضع له علة غير ما يعرفه الناس وتدعي أن ترتيب المعاني سهل وأن تفاضل الناس في ذلك إلى حد وأن الفضيلة تزداد وتقوى إذا توخي في حروف الألفاظ التعادل والتلاؤم وهذا منك وهم وذلك أنا لا نعلم لتعادل الحروف معنى سوى أن تسلم من نحو ما تجده في بيت أبي تمام كريم متى أمدحه أمدحه والورى وبيت ابن يسير وانثنت نحو عزف نفس ذهول وليس اللفظ السليم من ذلك بمعوز ولا بعزيز الوجود ولا بالشيء لا يستطيعه إلا الشاعر المفلق والخطيب البليغ فيستقيم قياسه على السجع والتجنيس ونحو ذلك مما إذا رامه المتكلم صعب عليه تصحيح المعاني وتأدية الأغراض فقولنا أطال الله بقاءك وأدام عزك وأتم نعمته عليك وزاد في إحسانه عندك لفظ سليم مما يكد اللسان وليس في حروفه استكراه وهكذا حال كلام الناس في كتبهم ومحاوراتهم لا تكاد تجد فيه هذا الاستكراه لأنه إنما هو شيء يعرض للشاعر إذا تكلف وتعمل فأما المرسل نفسه على سجيتها فلا يعرض له ذلك هذا والمتعلل بمثل ما ذكرت من أنه إنما يكون تلاؤم الحروف معجزا بعد أن يكون اللفظ دالا لأن مراعاة التعادل إنما تصعب إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني إذا تأملت يذهب إلى شيء ظريف وهو أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى وذلك محال لأن الذي يعرفه العقلاء عكس ذلك وهو أن يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ فصعوبة ما صعب من السجع هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ وذاك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجعة وبين معاني الفصول التي جعلت أردافا لها فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب أو دخلت في ضرب من المجاز أو أخذت في نوع من الاتساع وبعد أن تلطفت على الجملة ضربا من التلطف وكيف يتصور أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى وأنت إن أردت الحق لا تطلب اللفظ بحال وإنما تطلب المعنى وإذا ظفرت بالمعنى فاللفظ معك وإزاء ناظرك وإنما كان يتصور أن يصعب مرام اللفظ من أجل المعنى أن لو كنت إذا طلبت المعنى فحصلته احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة وذلك محال هذا وإذا توهم متوهم أنا نحتاج إلى أن نطلب اللفظ وأن من شأن الطلب أن يكون هناك فإن الذي يتوهم أنه يحتاج إلى طلبه هو ترتيب الألفاظ في النطق لا محالة وإذا كان ذلك فينبغي لنا أن نرجع إلى نفوسنا فننظر هل يتصور أن نرتب معاني أسماء وأفعال وحروف في النفس ثم تخفى علينا مواقعها في النطق حتى يحتاج في ذلك إلى فكر وروية وذلك ما لا يشك فيه عاقل إذا هو رجع إلى نفسه وإذا بطل أن يكون ترتيب اللفظ مطلوبا بحال ولم يكن المطلوب أبدا إلا ترتيب المعاني وكان معول هذا المخالف على ذلك فقد اضمحل كلامه وبان أنه ليس لمن حام في حديث المزية والإعجاز حول اللفظ ورام أن يجعله السبب في هذه الفضيلة إلا التسكع في الحيرة والخروج عن فاسد من القول إلى مثله والله الموفق للصواب فإن قيل إذا كان اللفظ بمعزل عن المزية التي تنازعنا فيها وكانت مقصورة على المعنى فكيف كانت الفصاحة من صفات اللفظ البتة وكيف امتنع أن يوصف بها المعنى فيقال معنى فصيح وكلام فصيح المعنى قيل إنما اختصت الفصاحة باللفظ وكانت من صفته من حيث كانت عبارة عن كون اللفظ على وصف إذا كان عليه دل على المزية التي نحن في حديثها وإذا كانت لكون اللفظ دالا استحال أن يوصف بها المعنى كما يستحيل أن يوصف المعنى بأنه دال مثلا فاعرفه فإن قيل فماذا دعا القدماء إلى أن قسموا الفضيلة بين المعنى واللفظ فقالوا معنى لطيف ولفظ شريف وفخموا شأن اللفظ وعظموه حتى تبعهم في ذلك من بعدهم وحتى قال أهل النظر إن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ فأطلقوا كما ترى كلاما يوهم كل من يسمعه أن المزية في حاق اللفظ قيل له لما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ وكان لا سبيل للمرتب لها والجامع شملها إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره إلا بترتيب الألفاظ في نطقه تجوزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ بحذف الترتيب ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد كقولهم لفظ متمكن يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه ولفظ قلق ناب يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه كالحاصل في مكان لا يصلح له فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ مما يعلم أنه مستعار له من معناه وأنهم نحلوه إياه بسبب مضمونه ومؤداه هذا ومن تعلق بهذا وشبهه واعتراضه الشك فيه بعد الذي مضى من الحجج فهو رجل قد أنس بالتقليد فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من هاهنا وثم ومن كان هذا سبيله فليس له دواء سوى السكوت عنه وتركه وما يختاره لنفسه من سوء النظر وقلة التدبر قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك وتعمل رويتك وتراجع عقلك وتستنجد في الجملة فهمك وبلغ القول في ذلك أقصاه وانتهى إلى مداه وينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزية وبيان الجهات التي منها تعرض وإنه لمرام صعب ومطلب عسير ولولا أنه على ذلك لما وجدت الناس بين منكر له من أصله ومتخيل له على غير وجهه ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة ولا تملك فيه إلا الإشارة وأن طريق التعليم إليه مسدود وباب التفهيم دونه مغلق وأن معانيك فيه معان تأبى أن تبرز من الضمير وأن تدين للتبيين والتصوير وأن ترى سافرة لا نقاب عليها ونادية لا حجاب دونها وأن ليس للواصف لها إلا أن يلوح ويشير أو يضرب مثلا ينبىء عن حسن قد عرفه على الجملة وفضيلة قد أحسها من غير أن يتبع ذلك بيانا ويقيم عليه برهانا ويذكر له علة ويورد فيه حجة وأنا أنزل لك القول في ذلك وأدرجه شيئا فشيئا وأستعين بالله تعالى عليه وأسأله التوفيق فصل في اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره اعلم أن لهذا الضرب اتساعا وتفننا لا إلى غاية إلا أنه على اتساعه يدور في الأمر الأعم على شيئين الكناية والمجاز والمراد بالكناية هاهنا أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومىء به إليه ويجعله دليلا عليه مثال ذلك قولهم هو طويل النجاد يريدون طويل القامة وكثير رماد القدر يعنون كثير القرى وفي المرأة نؤوم الضحى والمراد أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها فقد أرادوا في هذا كله كما ترى معنى ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود وأن يكون إذا كان أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد وإذا كثر القرى كثر رماد القدر وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها ردف ذلك أن تنام إلى الضحى وأما المجاز فقد عول الناس في حده على حديث النقل وأن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو مجاز والكلام في ذلك يطول وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في موضع آخر وأنا أقتصر هاهنا على ذكر ما هو أشهر منه وأظهر والاسم والشهرة فيه لشيئين الاستعارة والتمثيل وإنما يكون التمثيل مجازا إذا جاء على حد الاستعارة فالاستعارة أن تريد تشبيه الشي بالشيء فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه تريد أن تقول رأيت رجلا هو كالأسد في شجاعته وقوة بطشه سواء فتدع ذلك وتقول رأيت أسدا وضرب آخر من الاستعارة وهو ما كان نحو قوله الكامل إذ أصبحت بيد الشمال زمامها هذا الضرب وإن كان الناس يضمونه إلى الأول حيث يذكرون الاستعارة فليسا سواء وذاك أنك في الأول تجعل الشيء الشيء ليس به وفي الثاني تجعل للشيء الشيء ليس له تفسير هذا أنك إذا قلت رأيت أسدا فقد ادعيت في إنسان أنه أسد وجعلته إياه ولا يكون الإنسان أسدا وإذا قلت إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فقد ادعيت أن للشمال يدا ومعلوم أنه لا يكون للريح يد وهاهنا أصل يجب ضبطه وهو أن جعل المشبه المشبه به على ضربين أحدهما أن تنزله منزلة الشيء تذكره بأمر قد ثبت له فأنت لا تحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته وذلك حيث تسقط ذكر المشبه من الشيئين ولا تذكره بوجه من الوجوه كقولك رأيت أسدا والثاني أن تجعل ذلك كالأمر الذي يحتاج إلى أن تعمل في إثباته وتزجيته وذلك حيث تجري اسم المشبه به صراحة على المشبه فتقول زيد أسد وزيد هو الأسد أو نجيء به على وجه يرجع إلى هذا كقولك إن لقيته لقيت به أسدا وإن لقيته ليلقينك منه الأسد فأنت في هذا كله تعمل في إثبات كونه أسدا أو الأسد وتضع كلامك له وأما في الأول فتخرجه مخرج ما لا يحتاج فيه إلى إثبات وتقرير والقياس يقتضي أن يقال في هذا الضرب أعني ما أنت تعمل في إثباته وتزجيته أنه تشبيه على حد المبالغة ويقتصر على هذا القدر ولا يسمى استعارة وأما التمثيل الذي يكون مجازا لمجيئك به على حد الاستعارة فمثاله قولك للرجل يتردد في الشيء بين فعله وتركه أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فالأصل في هذا أراك في ترددك كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ثم اختصر الكلام وجعل كأنه يقدم الرجل ويؤخرها على الحقيقة كما كان الأصل في قولك رأيت أسدا رأيت رجلا كالأسد ثم جعل كأنه الأسد على الحقيقة وكذلك تقول للرجل يعمل غير معمل أراك تنفخ في غير فحم و تخط على الماء فتجعله في ظاهر الأمر كأنه ينفخ ويخط والمعنى على أنك في فعلك كمن يفعل ذلك وتقول للرجل يعمل الحيلة حتى يميل صاحبه إلى الشيء قد كان يأباه ويمتنع منه ما زال يفتل في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد فتجعله بظاهر اللفظ كأنه كان منه فتل في ذروة وغارب والمعنى على أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال الرجل يجيىء إلى البعير الصعب فيحكه ويفتل الشعر في ذروته وغاربه حتى يسكن ويستأنس وهو في المعنى نظير قولهم فلان يفرد فلانا يعنى به أنه يتلطف له فعل الرجل ينزع القراد من البعير ليلذه ذلك فيسكن ويثبت في مكانه حتى يتمكن من أخذه وهكذا كل كلام رأيتهم قد نحوا فيه التمثيل ثم لم يفصحوا بذلك وأخرجوا اللفظ مخرجه إذا لم يريدوا تمثيلا فصل قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع من التصريح وأن للاستعارة مزية وفضلا وأن المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة إلا أن ذلك وإن كان معلوما على الجملة فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب العلم به حتى يبلغ فيه غايته وحتى يغلغل الفكر إلى زواياه وحتى لا يبقى عليه موضع شبهة ومكان مسألة فنحن وإن كنا نعلم أنك إذا قلت هو طويل النجاد وهو جم الرماد كان أبهى لمعناك وأنبل من أن تدع الكناية وتصرح بالذي تريد وكذا إذا قلت رأيت أسدا كان لكلامك مزية لا تكون إذا قلت رأيت رجلا هو في معنى الشجاعة وفي قوة القلب وشدة البطش وأشباه ذلك وإذا قلت بلغني أنك تقدم رجلا وتؤخر أخرى كان أوقع من صريحه الذي هو قولك بلغني أنك تتردد في أمرك وأنك في ذلك كمن يقول أخرج ولا أخرج فيقدم رجلا ويؤخر أخرى ونقطع على ذلك حتى لا يخالجنا شك فيه فإنما تسكن أنفسنا تمام السكون إذا عرفنا السبب في ذلك والعلة ولم كان كذلك وهيأنا له عبارة تفهم عنا من نريد إفهامه وهذا هو قول في ذلك أعلم أن سبيلك أولا أن تعلم أن ليست المزية التي تثبتها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره والمبالغة التي تدعي لها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره إياها تفسير هذا أن ليس المعنى إذا قلنا إن الكناية أبلغ من التصريح أنك لما كنيت عن المعنى زدت في ذاته بل المعنى أنك زدت في إثباته فجعلته أبلغ وآكد وأشد فليست المزية في قولهم جم الرماد أنه دل على قرى أكثر بل المعنى أنك أثبت له القرى الكثير من وجه وهو أبلغ وأوجبته إيجابا هو أشد وادعيته دعوى أنت بها أنطق وبصحتها أوثق وكذلك ليست المزية التي تراها لقولك رأيت أسدا على قولك رأيت رجلا لا يتميز من الأسد في شجاعته وجرأته أنك قد أفدت بالأول زيادة في مساواته الأسد بل أنك أفدت تأكيدا وتشديدا وقوة في إثباتك له هذه المساواة وفي تقريرك لها فليس تأثير الاستعارة إذا في ذات المعنى وحقيقته بل في إيجابه والحكم به وهكذا قياس التمثيل ترى المزية أبدا في ذلك تقع في طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه فإذا سمعتهم يقولون إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نبلا وفضلا وتوجب لها شرفا وأن تفخمها في نفوس السامعين وترفع أقدارها عند المخاطبين فإنهم لا يريدون الشجاعة والقرى وأشباه ذلك من معاني الكلم المفردة وإنما يعنون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له ويخبر بها عنه هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبدا وأن يعلم أن ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل ولا هي منا بسبيل وإنما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب وإذ قد عرفت مكان هذا المزية والمبالغة التي لا تزال تسمع بها وأنها في الإثبات دون المثبت فإن لها في كل واحد من هذه الأجناس سببا وعلة أما الكناية فإن السبب في أن كان للإثبات بها مزية لا تكون للتصريح أن كل عاقل يعلم إذا رجع إلى نفسه أن إثبات الصفة بإثبات دليلها وإيجابها بما هو شاهد في وجودها آكد وأبلغ في الدعوى من أن تجيء إليها فتثبتها ساذجا غفلا وذلك أنك لا تدعي شاهد الصفة ودليلها إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط وأما الاستعارة فسبب ما ترى لها من المزية والفخامة أنك إذا قلت رأيت أسدا كنت قد تلطفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول وكالآمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده وذلك أنه إذا كان أسدا فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة وكالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها وإذا صرحت بالتشبيه فقلت رأيت رجلا كالأسد كنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجح بين أن يكون وبين أن لا يكون ولم يكن من حديث الوجوب في شيء وحكم التمثيل حكم الاستعارة سواء فإنك إذا قلت أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحير والتردد كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر فتقول قد جعلت تتردد في أمرك فأنت كمن يقول أخرج ولا أخرج فيقدم رجلا ويؤخر أخرى فصل اعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة وأن تتفاوت التفاوت الشديد أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتذل كقولنا رأيت أسدا ووردت بحرا ولقيت بدرا والخاصي النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال كقوله الطويل وسالت بأعناق المطي الأباطح أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة وكانت سرعة في لين وسلاسة كأنه كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللطف وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر البسيط سالت عليه شعاب الحي حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير أراد أنه مطاع في الحي وأنهم يسرعون إلى نصرته وأنه لا يدعوهم لحرب أو نازل خطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه حتى تجدهم كالسيول تجيء من هاهنا وهاهنا وتنصب من هذا المسيل وذلك حتى يغص بها الوادي ويطفح منها ومن بديع الاستعارة ونادرها إلا أن جهة الغرابة فيه غير جهتها في هذا قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له وأنه مؤدب وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود إليه الكامل عودته فيما أزور حبائبي إهماله وكذاك كل مخاطر وإذا احتبى قربوسه بعنانه علك الشكيم إلى انصراف الزائر فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه وفي أن استدراك أن هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج كالهيئة في موضع الثوب من ركبة المحتبي وليست الغرابة في قوله وسالت بأعناق المطي الأباطح على هذه الجملة وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح فإن هذا شبه معروف ظاهر ولكن الدقة واللطف في خصوصية أفادها بأن جعل سال فعلا للأباطح ثم عداه بالباء ثم بأن أدخل الأعناق في البيت فقال بأعناق المطي ولم يقل بالمطي ولو قال سالت المطي في الأباطح لم يكن شيئا وكذلك الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى سال ولكن في تعديته ب على والباء وبأن جعله فعلا لقوله شعاب الحي ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا الحسن وهذا موضع يدق الكلام فيه وهذه أشياء من هذا الفن من البسيط اليوم يومان مذ غيبت عن بصري نفسي فداؤك ما ذنبي فأعتذر أمسي وأصبح لا ألقاك واحزنا لقد تأنق في مكروهي القدر سوار بن المضرب وهو لطيف جدا الوافر بعرض تنوفة للريح فيها نسيم لا يروع الترب وان بعض الأعراب الكامل ولرب خصم جاهدين ذوي شذا تقذي عيونهم بهتر هاتر لد ظأرتهم على ما ساءهم وخسأت باطلهم بحق ظاهر المقصود لفظة خسأت ابن المعتز الرجز حتى إذا ما عرف الصيد الضار وأذن الصبح لنا في الإبصار المعنى حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئا لما كان تعذر الإبصار منعا من الليل جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا من الصبح وله من مجزوء الوافر بخيل قد بليت به يكد الوعد بالحجج وله الطويل يناجيني الإخلاف من تحت مطله فتختصم الآمال واليأس في صدري ومما هو في غاية الحسن وهو من الفن الأول قول الشاعر أنشده الجاحظ لقد كنت في قوم عليك أشحة بنفسك إلا أن ما طاح طائح يودون لو خاطوا عليك جلودهم ولا يدفع الموت النفوس الشحائح قال وإليه ذهب بشار في قوله الرجز وصاحب كالدمل الممد حملته في رقعة من جلدي ومن سر هذا الباب أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة الجسر في قول أبي تمام البسيط لا يطمع المرء أن يجتاب لجته بالقول ما لم يكن جسرا له العمل وقوله البسيط بصرت بالراحة العظمى فلم ترها تنال إلا على جسر من التعب فترى لها في الثاني حسنا لا تراه في الأول ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرقي البسيط قولي نعم ونعم إن قلت واجبة قالت عسى وعسى جسر إلى نعم فترى لها لطفا وخلابة وحسنا ليس الفضل فيه بقليل ومما هو أصل في شرف الاستعارة أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات قصدا إلى أن يلحق الشكل بالشكل وأن يتم المعنى والشبه فيما يريد مثاله قول امرىء القيس الطويل فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل لما جعل لليل صلبا قد تمطى به ثنى ذلك فجعل له أعجازا قد أردف بها الصلب وثلث فجعل له كلكلا قد ناء به فاستوفى له جملة أركان الشخص وراعى ما يراه الناظر من سواده إذا نظر قدامه وإذا نظر إلى ما خلفه وإذا رفع البصر ومدده في عرض الجو القول في النظم وفي تفسيره واعلم أن هاهنا أسرارا ودقائق لا يمكن بيانها إلا بعد أن نعد جملة من القول في النظم وفي تفسيره والمراد منه وأي شيء هو وما محصوله ومحصول الفضيلة فيه فينبغي لنا أن نأخذ في ذكره وبيان أمره وبيان المزية التي تدعى له من أين تأتيه وكيف تعرض فيه وما أسباب ذلك وعلله وما الموجب له وقد علمت إطباق العلماء على تعظيم شأن النظم وتفخيم قدره والتنويه بذكره وإجماعهم أن لا فضل مع عدمه ولا قدر لكلام إذا هو لم يستقم له ولو بلغ في غرابة معناه ما بلغ وبتهم الحكم بأنه الذي لا تمام دونه ولا قوام إلا به وأنه القطب الذي عليه المدار والعمود الذي به الاستقلال وما كان بهذا المحل من الشرف وفي هذه المنزلة من الفضل وموضوعا هذا الموضع من المزية وبالغا هذا المبلغ من الفضيلة كان حرى بأن توقظ له الهمم وتوكل به النفوس وتحرك له الأفكار وتستخدم فيه الخواطر وكان العاقل جديرا أن لا يرضى من نفسه بأن يجد فيه سبيلا إلى مزية علم وفضل استبانة وتلخيص حجة وتحرير دليل ثم يعرض عن ذلك صفحا ويطوي دونه كشحا وأن يربأ بنفسه وتدخل عليه الأنفة من أن يكون في سبيل المقلد الذي لا يبت حكما ولا يقتل الشيء علما ولا يجد ما يبرىء من الشبهة ويشفي غليل الشاك وهو يستطيع أن يرتفع عن هذه المنزلة ويباين من هو بهذه الصفة فإن ذلك دليل ضعف الرأي وقصر الهمة ممن يختاره ويعمل عليه واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها وذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق و زيد ينطلق وينطلق زيد و منطلق زيد و زيد المنطلق و المنطلق زيد و زيد هو المنطلق و زيد هو منطلق وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك إن تخرج أخرج وإن خرجت خرجت وإن تخرج فأنا خارج وأنا خارج إن خرجت وأنا إن خرجت خارج وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك جاءني زيد مسرعا وجاءني يسرع وجاءني وهو مسرع أو هو يسرع وجاءني قد أسرع وجاءني وقد أسرع فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى فيضع كلا من ذلك في خاص معناه نحو أن يجيء ب ما في نفي الحال وب لا إذا أراد نفي الاستقبال وب إن فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون وب إذا فيما علم أنه كائن وينظر في الجمل التي تسرد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء وموضع الفاء من موضع ثم وموضع أو من موضع أم وموضع لكن من موضع بل ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام كله وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار فيضع كلا من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له هذا هو السبيل فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي له فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه ووجدته يدخل في أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه هذه جملة لا تزداد فيها نظرا إلا ازددت لها تصورا وازدادت عندك صحة وازددت بها ثقة وليس من أحد لأن يقول في أمر النظم شيئا إلا وجدته قد اعترف لك بها أو ببعضها ووافق فيها درى ذلك أو لم يدر ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أردناه حيث ذكروا فساد النظم فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق الطويل وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه وقول المتنبي الكامل ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عمل السيوف عوامل وقوله الطيب أنت إذا أصابك طيبه والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل وقوله الطويل وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه وقول أبي تمام الكامل ثانيه في كبد السماء ولم يكن لاثنين ثان إذ هما في الغار وقوله البسيط يدي لمن شاء رهن لم يذق جرعا من راحتيك درى ما الصاب والعسل وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم وعابوه من جهة سوء التأليف أن الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف وإضمار أو غير ذلك ما ليس له أن يصنعه وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم وإذا ثبت أن سبب فساد النظم واختلاله أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها ثم إذا ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم ثبت أن الحكم كذلك في مزيته والفضيلة التي تعرض فيه وإذا ثبت جميع ذلك ثبت أن ليس هو شيئا غير توخي معاني هذا العلم وأحكامه فيما بين الكلم والله الموفق للصواب وإذ قد عرفت ذلك فاعمد إلى ما تواصفوه بالحسن وتشاهدوا له بالفضل ثم جعلوه كذلك من أجل النظم خصوصا دون غيره مما يستحسن له الشعر أو غير الشعر من معنى لطيف أو حكمة أو أدب أو استعارة أو تجنيس أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم وتأمله فإذا رأيتك قد ارتحت واهتززت واستحسنت فانظر إلى حركات الأريحية مم كانت وعند ماذا ظهرت فإنك ترى عيانا أن الذي قلت لك كما قلت اعمد إلى قول البحتري من المتقارب بلونا ضرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا هو المرء أبدت له الحادثات عزما وشيكا ورأيا صليبا تنقل في خلقي سؤدد سماحا مرجى وبأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا وكالبحر إن جئته مستثيبا فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ووجدت لها اهتزازا في نفسك فعد فانظر في السبب واستقص في النظر فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر وعرف ونكر وحذف وأضمر وأعاد وكرر وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو فأصاب في ذلك كله ثم لطف موضع صوابه وأتى مأتى يوجب الفضيلة أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله هو المرء أبدت له الحادثات ثم قوله تنقل في خلقي سؤدد بتنكير السؤدد وإضافة الخلقين إليه ثم قوله فكالسيف وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ لأن المعنى لا محالة فهو كالسيف ثم تكريره الكاف في قوله وكالبحر ثم أن قرن إلى كل واحد من التشبيهين شرطا جوابه فيه ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالا على مثال ما أخرج من الآخر وذلك قوله صارخا هناك ومستثيبا هاهنا لا ترى حسنا تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو في حكم ما عددت فأعرف ذلك وإن أردت أظهر أمرا في هذا المعنى فانظر إلى قول إبراهيم بن العباس فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب وسلط أعداء وغاب نصير تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور وإني لأرجو بعد هذا محمدا لأفضل ما يرجى أخ ووزير فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة ومن الحسن والحلاوة ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو إذ نبا على عامله الذي هو تكون وأن لم يقل فلو تكون عن الأهواز داري بنحوة إذ نبا دهر ثم أن قال تكون ولم يقل كان ثم أن نكر الدهر ولم يقل فلو إذ نبا الدهر ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد ثم أن قال وأنكر صاحب ولم يقل وأنكرت صاحبا لا ترى في البيتين الأولين شيئا غير الذي عددته لك تجعله حسنا في النظم وكله من معاني النحو كما ترى وهكذا السبيل أبدا في كل حسن ومزية رأيتهما قد نسبا إلى النظم وفضل وشرف أحيل فيهما عليه فصل في أن مزايا النظم بحسب الموضع وبحسب المعنى المراد والغرض المقصود وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم عل معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازديادا بعدها ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام ثم بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض تفسير هذا أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد من قوله تنقل في خلقي سؤدد وفي دهر من قوله فلو إذ نبا دهر فإنه يجب أن يروقك أبدا وفي كل شيء ولا إذا استحسنت لفظ ما لم يسم فاعله في قوله وأنكر صاحب فإنه ينبغي أن لا تراه في مكان إلا أعطيته مثل استحسانك هاهنا بل ليس من فضل ومزية إلا بحسب الموضع وبحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤم وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يتهد إليه صاحبه فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالآجزاء من الصبغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له بالحذق والأستاذية وسعة الذرع وشدة المنة حتى تستوفي القطعة وتأتي على عدة أبيات وذلك ما كان من الشعر في طبقة ما أنشدتك من أبيات البحتري ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل وموضعه من الحذق وتشهد له بفضل المنة وطول الباع وحتى تعلم إن لم تعلم القائل أنه من قبل شاعر فحل وأنه خرج من تحت يد صناع وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء فقلت هذا هذا وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر والكلام الفاخر والنمط العالي الشريف والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البزل ثم المطبوعين الذي يلهمون القول إلهاما ثم إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد بل أن تفلي ديوانا من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات وذلك ما كان مثل قول الأول وتمثل به أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم الوافر تمنانا ليلقانا بقوم تخال بياض لأمهم السرابا فقد لاقيتنا فرأيت حربا عوانا تمنع الشيخ الشرابا انظر إلى موضع الفاء في قوله فقد لاقيتنا فرأيت حربا ومثل قول العباس بن الأحنف البسيط قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا انظر إلى موضع الفاء و ثم قبلها ومثل قول ابن الدمينة الطويل أبيني أفي يمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيرتني في شمالك أبيت كأني بين شقين من عصا جذار الردى أو خيفة من زيالك تعاللت كي أشجى وما بك علة تريدين قتلي قد ظفرت بذلك انظر إلى الفصل والاستئناف في قوله تريدين قتلي قد ظفرت بذلك ومثل قول أبي حفص الشطرنجي وقاله على لسان علية أخت الرشيد وقد كان الرشيد عتب عليها البسيط لو كان يمنع حسن العقل صاحبه من أن يكون له ذنب إلى أحد كانت علية أبرا الناس كلهم من أن تكافا بسوء آخر الأبد ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي انظر إلى قوله قد كنت أحسب وإلى مكان هذا الاستئناف ومثل قول أبي دؤاد الخفيف ولقد أغتدي يدافع ركني أحوذي ذو ميعة إضريج سلهب شرجب كأن رماحا حملته وفي السراة دموج انظر إلى التنكير في قوله كأن رماحا ومثل قول ابن البواب من مجزوء الوافر أتيتك عائذا بك منك لما ضاقت الحيل وصيرني هواك وبي لحيني يضرب المثل فإن سلمت لكم نفسي فما لاقيته جلل وإن قتل الهوى رجلا فإني ذلك الرجل انظر إلى الإشارة والتعريف في قوله فإني ذلك الرجل ومثل قول عبد الصمد السريع مكتئب ذو كبد حرى تبكي عليه مقلة عبرى يرفع يمناه إلى ربه يدعو وفوق الكبد اليسرى انظر إلى لفظ يدعو وإلى موقعها ومثل قول جرير لمن الديار ببرقة الروحان إذ لا نبيع زماننا بزمان صدع الغواني إذ رمين فؤاده صدع الزجاجة ما لذاك تدان انظر إلى قوله ما لذاك تدان وتأمل حال هذا الاستئناف ليس من بصير عارف بجواهر الكلام حساس متفهم لسر هذا الشأن ينشد أو يقرأ هذه الأبيات إلا لم يلبث أن يضع يده في كل بيت منها على الموضع الذي أشرت إليه يعجب ويكبر شأن المزية فيه والفضل فصل في شواهد على النظم يتحد في الوضع ويدق فيه الصنع واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعها بعد الأولين وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معا كقول البحتري الطويل إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر وقوله طويل إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها فهذا نوع ونوع منه آخر قول سليمان بن داود القضاعي الوافر فبينا المرء في علياء أهوى ومنحط أتيح له اعتلاء وبينا نعمة إذ حال بؤس وبؤس إذ تعقبه ثراء ونوع ثالث وهو ما كان كقول كثير طويل وإني وتهيامي بعزة بعدما تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت وكقول البحتري طويل لعمرك إنا والزمان كما جنت على الأضعف الموهون عادية الأقوى ومنه التقسيم وخصوصا إذا قسمت ثم جمعت كقول حسان البسيط قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلم شرها البدع ومنه ومن ذلك وهو شيء في غاية الحسن قول القائل البسيط لو أن ما أنتم فيه يدوم لكم ظننت ما أنا فيه دائما أبدا لكن رأيت الليالي غير تاركة ما سر من حادث أو ساء مطردا فقد سكنت إلى أني وأنكم سنستجد خلاف الحالتين غدا قوله سنستجد خلاف الحالتين غدا جمع فيما قسم لطيف وقد ازداد لطفا بحسن ما بناه عليه ولطف ما توصل به إليه من قوله فقد سكنت إلى أني وأنكم وإذا قد عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحد أجزاؤه حتى يوضع وضعا واحدا فاعلم أنه النمط العالي والباب الأعظم لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه ومما ندر منه ولطف مأخذه ودق نظر واضعه وجلى لك عن شأو قد تحسر دونه العتاق وغاية يعيا من قبلها المذاكي القرح الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين بيت امرىء القيس الكامل كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي وبيت الفرزدق من الكامل والشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار وبيت بشار طويل كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ومما أتى في هذا الباب مأتى أعجب مما مضى كله قول زياد الأعجم طويل وإنا وما تلقي لنا إن هجوتنا لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق وإنما كان أعجب لأن عمله أدق وطريقه أغمض ووجه المشابكة فيه أغرب واعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أن لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم له بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق وكمن نضد أشياء بعضها على بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأي العين وذلك إذا كان معناك معنى لا يحتاج أن تصنع فيه شيئا غير أن تعطف لفظا على مثله كقول الجاحظ جنبك الله الشبهة وعصمك من الحيرة وجعل بينك وبين المعرفة نسبا وبين الصدق سببا وحبب إليك التثبت وزين في عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى وأشعر قلبك عز الحق وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذل اليأس وعرفك ما في الباطل من الذلة وما في الجهل من القلة وكقول بعضهم لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين ما أفصح لسانه وأحسن بيانه وأمضى جنانه وأبل ريقه وأسهل طريقه ومثل قول النابغة في الثناء المسجوع أيفاخرك الملك اللخمي فوالله لقفاك خير من وجهه ولشمالك خير من يمينه ولأخمصك خير من رأسه ولخطؤك خير من صوابه ولعيك خير من كلامه ولخدمك خير من قومه وكقول بعض البلغاء في وصف اللسان اللسان أداة يظهر بها حسن البيان وظاهر يخبر عن الضمير وشاهد ينبئك عن غائب وحاكم يفصل به الخطاب وواعظ ينهى عن القبيح ومزين يدعو إلى الحسن وزارع يحرث المودة وحاصد يحصد الضغينة ومله يونق الأسماع فما كان من هذا وشبهه لم يجب به فضل إذا وجب إلا بمعناه أو بمتون ألفاظه دون نظمه وتأليفه وذلك لأنه لا فضيلة حتى ترى في الأمر مصنعا وحتى تجد إلى التخير سبيلا وحتى تكون قد استدركت صوابا فإن قلت أفليس هو كلاما قد اطرد على الصواب وسلم من العيب أفما يكون في كثرة الصواب فضيلة قيل أما والصواب كما ترى فلا لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان والتحرز من اللحن وزيغ الإعراب فنعتد بمثل هذا الصواب وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر اللطيفة ودقائق يوصل إليها بثاقب الفهم فليس درك صواب دركا فيما نحن فيه حتى يشرف موضعه ويصعب الوصول إليه وكذلك لا يكون ترك خطأ تركا حتى يحتاج في التحفظ منه إلى لطف نظر وفضل رؤية وقوة ذهن وشدة تيقظ وهذا باب ينبغي أن تراعيه وأن تعنى به حتى إذا وازنت بين كلام وكلام ودريت كيف تصنع فضممت إلى كل شكل شكله وقابلته بما هو نظير له وميزت ما الصنعة منه في لفظه مما هي منه في نظمه واعلم أن هذا أعني الفرق بين أن تكون المزية في اللفظ وبين أن تكون في النظم باب يكثر فيه الغلط ترى مستحسنا قد أخطأ بالاستحسان موضعه فينحل اللفظ ما ليس له ولا تزال ترى الشبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه فظننت أن حسنه ذلك كله للفظ منه دون النظم مثال ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز طويل وإني على إشفاق عيني من العدا لتجمح مني نظرة ثم أطرق فترى أن هذه الطلاوة وهذا الظرف إنما هو لأن جعل النظر يجمح وليس هو لذلك بل لأن قال في أول البيت وإني حتى دخل اللام في قوله لتجمح ثم قوله مني ثم لأن قال نظرة ولم يقل النظر مثلا ثم لمكان ثم في قوله ثم أطرق وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله على إشفاق عيني من العدا وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك فانظر إلى قوله وقد تقدم إنشاده قبل سالت عليه شعاب الحي حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير فإنك ترى هذه الاستعارة على لطفها وغرابتها إنما تم لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى بما توخي في وضع الكلام من التقديم والتأخير وتجدها قد ملحت ولطفت وبمعاونة ذلك ومؤازرته لها وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف فأزل كلا منها عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه فقل سالت شعاب الحي بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره ثم انظر كيف يكون الحال وكيف يذهب الحسن والحلاوة وكيف تعدم أريحيتك التي كانت وكيف تذهب النشوة التي كنت تجدها وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للفظ دون النظم وآخر حسنه للنظم دون اللفظ وثالثا قد أتاه الحسن من الجهتين ووجبت له المزية بكلا الأمرين والإشكال في هذا الثالث وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه وتراك قد حفت فيه على النظم فتركته وطمحت ببصرك إلى اللفظ وقدرت في حسن كان به وباللفظ أنه للفظ خاصة وهذا هو الذي أردت حين قلت لك إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى واشتعل الرأس شيبا لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا للمزية موجبا سواها هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك ولا هذا الشرف العظيم ولا هذه المزية الجليلة وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه فيرفع به ما يسند إليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده مبينا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم طاب زيد نفسا وقر عمرو عينا وتصبب عرقا وكرم أصلا وحسن وجها وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه وذلك أنا نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى وإن كان هو للرأس في اللفظ كما أن طاب للنفس وقر للعين وتصبب للعرق وإن أسند إلى ما أسند إليه يبين أن الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك وتوخي به هذا المذهب أن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحا فتقول اشتعل شيب الرأس والشيب في الرأس ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة وهل ترى الروعة التي كنت تراها فإن قلت فما السبب في أن كان اشتعل إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه وأنه قد استغرقه وعم جملته حتى لم يبق من السواد شيء أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به وهذا ما لا يكون إذا قيل اشتعل شيب الرأس أو الشيب في الرأس بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة ووزان هذا أنك تقول اشتعل البيت نارا فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه وتقول اشتعلت النار في البيت فلا يفيد ذلك بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانبا منه فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل وفجرنا الأرض عيونا التفجير للعيون في المعنى وأوقع على الأرض في اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس وقد حصل بذلك من معنى الشمول هاهنا مثل الذي حصل هناك وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد كانت صارت عيونا كلها وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها ولو أجري اللفظ على ظاهره فقيل وفجرنا عيون الأرض أو العيون في الأرض لم يفد ذلك ولم يدل عليه ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض وتبجس من أماكن منها واعلم أن في الآية الأولى شيئا آخر من جنس النظم وهو تعريف الرأس بالألف واللام وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة وهو أحد ما أوجب المزية ولو قيل واشتعل رأسي فصرح بالإضافة لذهب بعض الحسن فاعرفه وأنا أكتب لك شيئا مما سبيل الاستعارة فيه هذا السبيل ليستحكم هذا الباب في نفسك ولتأنس به فمن عجيب ذلك قول بعض الأعراب الرجز الليل داج كنفا جلبابه والبين محجور على غرابه ليس كل ما ترى من الملاحة لأن جعل لليل جلبابا وحجر على الغراب ولكن في أن وضع الكلام الذي ترى فجعل الليل مبتدأ وجعل داج خبرا له وفعلا لما بعده وهو الكنفان وأضاف الجلباب إلى ضمير الليل ولأن جعل كذلك البين مبتدأ وأجرى محجورا خبرا عليه وأن أخرج اللفظ على مفعول يبين ذلك أنك لو قلت وغراب البين محجور عليه أو قد حجر على غراب البين لم تجد له هذه الملاحة وكذلك لو قلت قد دجا كنفا جلباب الليل لم يكن شيئا ومن النادر فيه قول المتنبي الخفيف غصب الدهر والملوك عليها فبناها في وجنة الدهر خالا قد ترى في أول الأمر أن حسنه أجمع في أن جعل للدهر وجنة وجعل البنية خالا في الوجنة وليس الأمر على ذلك فإن موضع الأعجوبة في أن أخرج الكلام مخرجه الذي ترى وأن أتى بالخال منصوبا على الحال من قوله فبناها أفلا ترى أنك لو قلت وهي خال في وجنة الدهر لوجدت الصورة غير ما ترى وشبيه بذلك أن ابن المعتز قال يا مسكة العطار وخال وجه النهار وكانت الملاحة في الإضافة بعد الإضافة لا في استعارة لفظة الخال إذ معلوم أنه لو قال يا خالا في وجه النهار أو يا من هو خال في وجه النهار لم يكن شيئا ومن شأن هذا الضرب أن يدخله الاستكراه قال الصاحب إياك والإضافات المتداخلة فإن ذلك لا يحسن وذكر أنه يستعمل في الهجاء كقول القائل الخفيف يا علي بن حمزة بن عماره أنت والله ثلجة في خياره ولا شبهة في ثقل ذلك في الأكثر ولكنه إذا سلم من الاستكراه لطف وملح ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا طويل وظلت تدير الراح أيدي جآذر عتاق دنانير الوجوه ملاح ومما جاء منه حسنا جميلا قول الخالدي في صفة غلام له من المسرح ويعرف الشعر مثل معرفتي وهو على أن يزيد مجتهد وصيرفي القريض وزان دينار المعاني الدقاق منتقد ومنه قول أبي تمام الكامل خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى والليل أسود رقعة الجلباب ومما أكثر الحسن فيه بسبب النظم قول المتنبي طويل وقيدت نفسي في ذراك محبة ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا الاستعارة في أصلها مبتذلة معروفة فإنك ترى العامي يقول للرجل يكثر إحسانه إليه وبره له حتى يألفه ويختار المقام عنده قد قيدني بكثرة إحسانه إلي وجميل فعله معي حتى صارت نفسي لا تطاوعني على الخروج من عنده وإنما كان ما ترى من الحسن بالمسلك الذي سلك في النظم والتأليف فصل في التقديم والتأخير هو باب كثير الفوائد جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية لا يزال يفتر لك عن بديعة ويفضي بك إلى لطيفة ولا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ عن مكان إلى مكان واعلم أن تقديم الشيء على وجهين تقديم يقال إنه على نية التأخير وذلك في كل شيء أقررته مع التقديم على حكمه الذي كان عليه وفي جنسه الذي كان فيه كخبر المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ والمفعول إذا قدمته على الفاعل كقولك منطلق زيد وضرب عمرا زيد معلوم أن منطلق وعمرا لم يخرجا بالتقديم عما كانا عليه من كون هذا خبر مبتدأ ومرفوعا بذلك وكون ذلك مفعولا ومنصوبا من أجله كما يكون إذا أخرت وتقديم لا على نية التأخير ولكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى حكم وتجعل له بابا غير بابه وإعرابا غير إعرابه وذلك أن تجيء إلى اسمين يحتمل كل واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون الآخر خبرا له فتقدم تارة هذا على ذاك وأخرى ذاك على هذا ومثاله ما تصنعه بزيد والمنطلق حيث تقول مرة زيد المنطلق وأخرى المنطلق زيد فأنت في هذا لم تقدم المنطلق على أن يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير فيكون خبر مبتدأ كما كان بل على أن تنقله عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ وكذلك لم تؤخر زيدا على أن يكون مبتدأ كما كان بل على أن تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبرا وأظهر من هذا قولنا ضربت زيدا وزيد ضربته لم تقدم زيدا على أن يكون مفعولا منصوبا بالفعل كما كان ولكن على أن ترفعه بالابتداء وتشغل الفعل بضميره وتجعله في موضع الخبر له وإذ قد عرفت هذا التقسيم فإني أتبعه بجملة من الشرح واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم ولم يذكر في ذلك مثالا وقال النحويون إن معنى ذلك أنه قد تكون أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر في الأذى أنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه ولا يعنيهم منه شيء فإذا قتل وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول قتل الخارجي زيد ولا يقول قتل زيد الخارجي لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم ويتصل بمسرتهم ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد وأنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه ثم قالوا فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أنه يقتل فقتل رجلا وأراد المخبر أن يخبر بذلك فإنه يقدم ذكر القاتل فيقول قتل زيد رجلا ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن هذا القتل طرافته وموضع الندرة فيه وبعده كان من الظن ومعلوم أنه لم يكن نادرا وبعيدا من حيث كان واقعا بالذي وقع به ولكن من حيث كان واقعا من الذي وقع منه فهذا جيد بالغ إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قدم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال إنه قدم للعناية ولأن ذكره أهم من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية وبم كان أهم ولتخيلهم ذلك قد صغر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم وهونوا الخطب فيه حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبعه والنظر فيه ضربا من التكلف ولم تر ظنا أزرى على صاحبه من هذا وشبهه وكذلك صنعوا في سائر الأبواب فجعلوا لا ينظرون في الحذف والتكرار والإظهار والإضمار والفصل والوصل ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهم لك بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها وصد أوجههم عن الجهة التي هي فيها والشق الذي يحويها والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه وإحراز فضيلته كثيرة وهذه من أعجبها إن وجدت متعجبا وليت شعري إن كانت هذه أمورا هينة وكان المدى فيها قريبا والجدا يسيرا من أين كان نظم أشرف من نظم وبم عظم التفاوت واشتد التباين وترقى الأمر إلى الإعجاز وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزية عليها ونجعل الإعجاز كان بها فتكون تلك الحوالة لنا عذرا في ترك النظر في هذه التي معنا والإعراض عنها وقلة المبالاة بها أو ليس هذا التهاون إن نظر العاقل خيانة منه لعقله ودينه ودخولا فيما يزري بذي الخطر ويغض من قدر ذوي القدر وهل يكون أضعف رأيا وأبعد من حسن التدبر منك إذا أهمك أن تعرف الوجوه في أأنذرتهم والإمالة في رأى القمر وتعرف الصراط والزراط وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة ولا يدفعك عن بيان ولا يدخل عليك شكا ولا يغلق دونك باب معرفة ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل وإلى الخطأ في تأويل وإلى ما يعظم فيه المعاب عليك ويطيل لسان القادح فيك ولا يعنيك ولا يهمك أن تعرف ما إذا جهلته عرضت نفسك لكل ذلك وحصلت فيما هنالك وكان أكثر كلامك في التفسير وحيث تخوض في التأويل كلام من لا يبني الشيء على أصله ولا يأخذه من مأخذه ومن ربما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره وتشنع آثاره ونسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين فيجعل مفيدا في بعض الكلام وغير مفيد في بعض وأن يعلل تارة بالعناية وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب حتى تطرد لهذا قوافيه ولذاك سجعه ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلا على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكل حال ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال فأما أن يجعله بين بين فيزعم أنه للفائدة في بعضها وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض فمما ينبغي أن يرغب عن القول به وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت أفعلت فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده وإذا قلت أأنت فعلت فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل من هو وكان التردد فيه ومثال ذلك أنك تقول أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه مجوز أن يكون قد كان وأن يكون لم يكن وتقول أأنت بنيت هذه الدار أأنت قلت هذا الشعر أأنت كتبت هذا الكتاب فتبدأ في ذلك كله بالأسم ذلك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان وكيف وقد أشرت إلى الدار مبنية والشعر مقولا والكتاب مكتوبا وإنما شككت في الفاعل من هو فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ولا يشك فيه شاك ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر فلو قلت أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه خرجت من كلام الناس وكذلك لو قلت أبنيت هذه الدار أقلت هذا الشعر أكتبت هذا الكتاب قلت ما ليس بقول ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك أموجود أم لا ومما يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاتسم أنك تقول أقلت شعرا قط أرأيت اليوم إنسانا فيكون كلاما مستقيما ولو قلت أأنت قلت شعرا قط أأنت رأيت إنسانا أخطأت وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا لأن ذلك إنما يتصور إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول من قال هذا الشعر ومن بنى هذه الدار ومن أتاك اليوم ومن أذن لك في الذي فعلت وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين فأما قيل شعر على الجملة ورؤية إنسان على الإطلاق فمحال ذلك فيه لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا من أن يكون السؤال عن الفاعل من هو وكان يصح أن يكون سؤالا عن الفعل أكان أم لم يكن لكان ينبغي أن يستقيم ذلك واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في الهمزة وهي للاستفهام قائم فيها إذا كانت هي للتقرير فإذا قلت أأنت فعلت ذاك كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل يبين ذلك قوله تعالى حكاية عن قول نمروذ أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان ولكن أن يقر بأنه منه كان وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم أأنت فعلت هذا وقال هو عليه السلام في الجواب بل فعله كبيرهم هذا ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل فإن قلت أو ليس إذا قال أفعلت فهو يريد أيضا أن يقرره بأن الفعل كان منه لا بأنه كان على الجملة فأي فرق بين الحالين فإنه إذا قال أفعلت فهو يقرره بالفعل من غير أن يردده بينه وبين غيره وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة وإذا قال أأنت فعلت كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره ولم يكن منه في نفي الفعل تردد ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن بدلالة أنك تقول ذلك والفعل ظاهر موجود مشار إليه كما رأيت في الآية واعلم أن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان وإنكار له لم كان وتوبيخ لفاعله عليه ولها مذهب آخر وهو أن يكون لإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله ومثاله قوله تعالى أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما وقوله عز وجل أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون فهذا رد على المشركين وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدي إلى هذا الجهل العظيم وإذا قدم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعرا أأنت قلت هذا الشعر كذبت لست ممن يحسن مثله أنكرت أن يكون القائل ولم تنكر الشعر وقد تكون إذ يراد إنكار الفعل من أصله ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل مثال ذلك قوله تعالى قل آلله أذن لكم الإذن راجع إلى قوله قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك لأن يجعلوا في صورة من غلط فأضاف إلى الله تعالى إذنا كان من غير الله فإذا حقق عليه ارتدع ومثال ذلك قولك للرجل يدعي أن قولا كان ممن تعلم أنه لا يقوله أهو قال ذاك بالحقيقة أم أنت تغلط تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل لينصرف الإنكار إلى الفاعل فيكون أشد لنفي ذلك وإبطاله ونظير هذا قوله تعالى قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد ثبت تحريم في أحد أشياء ثم أريد معرفة عين المحرم مع أن المراد إنكار التحريم من أصله ونفي أن يكون قد حرم شيء مما ذكروا أنه محرم وذلك أن كان الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنه قد كان ثم يقال لهم أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو أفي هذا أم ذاك أم في الثالث ليتبين بطلان قولهم ويظهر مكان الفرية منهم على الله تعالى ومثل ذلك قولك للرجل يدعي أمرا وأنت تنكره متى كان هذا أفي ليل أم نهار تضع الكلام وضع من سلم أن ذلك قد كان ثم تطالبه ببيان وقته لكي يتبين كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتا ويفتضح ومثله قولك من أمرك بهذا منا وأينا أذن لك فيه وأنت لا تعني أن أمرا قد كان بذلك من واحد منكم إلا أنك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيق عليه وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول فلان وأن يحيل على واحد وإذ قد بينا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل ماض فينبغي أن ينظر فيه والفعل مضارع والقول في ذلك أنك إذا قلت أتفعل وأأنت تفعل لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال فإن أردت الحال كان المعنى شبيها بما مضى في الماضي فإذا قلت أتفعل كان المعنى على أنك أردت أن تقرره بفعل هو يفعله وكنت كمن يوهم أنه لا يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن وإذا قلت أأنت تفعل كان المعنى على أنك تريد أن تقرره بأنه الفاعل وكان أمر الفعل في وجوده ظاهرا وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن وإن أردت ب تفعل المستقبل كان المعنى إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه وتزعم أنه لا يكون أو أنه لا ينبغي أن يكون فمثال الأول طويل أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال فهذا تكذيب منه لإنسان تهدده بالقتل وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله فتجهله في طمعه فتقول أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره أتجد عنده ما تحب وقد فعلت وصنعت وعلى ذلك قوله تعالى أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ومثال الثاني قولك للرجل يركب الخطر أتخرج في هذا الوقت أتذهب في غير الطريق أتغرر بنفسك وقولك للرجل يضيع الحق أتنسى قديم إحسان فلان أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغير الزمان كما قال طويل أأترك إن قلت دراهم خالد زيارته إني إذا للئيم جملة الأمر أنك تنحو بالإنكار نحو الفعل فإن بدأت بالاسم فقلت أأنت تفعل أو قلت أهو يفعل كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممن يجيء منه وأن يكون بتلك المثابة تفسير ذلك أنك إذا قلت أأنت تمنعني أأنت تأخذ على يدي صرت كأنك قلت إن غيرك الذي يستطيع منعي والأخذ على يدي ولست بذاك ولقد وضعت نفسك في غير موضعك هذا إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز ولأنه ليس في وسعه وقد يكون أن تجعله لا يحيء منه لأنه لا يختاره ولا يرتضيه وأن نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه ومثاله أن تقول أهو يسأل فلانا هو أرفع همة من ذلك أهو يمنع الناس حقوقهم هو أكرم من ذاك وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته وأن نفسه نفس لا تسمو وذلك قولك أهو يسمح بمثل هذا أهو يرتاح للجميل هو أقصر همة من ذلك وأقل رغبة في الخير مما تظن وجملة الأمر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل إنه يفعل أو قال هو إني أفعل وأردت ما تريده إذا قلت ليس هو بالذي يفعل وليس مثله يفعل ولا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت أتفعل ألا ترى أن المحال أن تزعم أن المعنى في قول الرجل لصاحبه أتخرج في هذا الوقت أتغرر بنفسك أتمضي في غير الطريق أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك وبموضع من يجيء منه ذاك ذاك لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا أنلزمكموها وأنتم لها كارهون أنا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام وأن غيرنا من يفعله جل الله تعالى وقد يتوهم المتوهم في الشيء من ذلك أنه يحتمل فإذا نظر لم يحتمل فمن ذلك قوله أيقتلني والمشرفي مضاجعي وقد يظن الظان أنه يجوز أن يكون في معنى أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي ويتعلق بأنه قال قبل يغط غطيط البكر شد خناقه ليقتلني والمرء ليس بقتال ولكنه إذا نظر علم أنه لا يجوز وذاك لأنه قال والمشرفي مضاجعي فذكر ما يكون منعا من الفعل ومحال أن يقول هو ممن لا يجيء منه الفعل ثم يقول إني أمنعه لأن المنع يتصور فيمن يجيء منه الفعل ومع من يصح منه لا من هو منه محال ومن هو نفسه عنه عاجز فاعرفه واعلم أنا وإن كنا نفسر الاستفهام في مثل هذا بالإنكار فإن الذي هو محض المعنى أنه لتنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب إما لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه فإذا ثبت على دعواه قيل فافعل فيفضحه ذلك وإما لأنه هم بأن يفعل ما لا يستصوب فعله فإذا روجع فيه تنبه وعرف الخطأ وإما لأنه جوز وجود أمر لا يوجد مثله فإذا ثبت على تجويزه وبخ على تعنته وقيل له فأرناه في موضع وفي حال وأقم شاهدا على أنه كان في وقت ولو كان يكون للإنكار وكان المعنى فيه من بدء الأمر لكان ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل إنه يكون حتى ينكر عليه كقولهم أتصعد إلى السماء أتستطيع أن تنقل الجبال أإلى رد ما مضى سبيل وإذ قد عرفت ذلك فإنه لا يقرر بالمحال وبما لا يقول أحد إنه يكون إلا على سبيل التمثيل وعلى أن يقال له إنك في دعواك ما ادعيت بمنزلة من يدعي هذا المحال وإنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع وإذ قد عرفت هذا فمما هو من هذا الضرب قوله تعالى أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ليس إسماع الصم مما يدعيه أحد فيكون ذلك للإنكار وإنما المعنى فيه التمثيل والتشبيه وأن ينزل الذي يظن بهم أنهم يسمعون أو أنه يستطيع إسماعهم منزلة من يرى أنه يسمع الصم ويهدي العمي ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل أتسمع الصم هو أن يقال للنبي أأنت خصوصا قد أوتيت أن تسمع الصم وأن يجعل في ظنه أنه يستطيع إسماعهم بمثابة من يظن أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصم ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة الكامل فدع الوعيد فما وعيدك ضائري أطنين أجنحة الذباب يضير جعله كأنه قد ظن أن طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير حتى ظن أن وعيده يضير واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال الفاعل أعني تقديم اسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع من أن يكون بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل فإذا قلت أزيدا تضرب كنت قد أنكرت أن يكون زيد بمثابة أن يضرب أو بموضع أن يجترأ عليه ويستجاز ذلك فيه ومن أجل ذلك قدم غير في قوله تعالى قل أغير الله أتخذ وليا وقوله عز وجل قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون وكان له من الحسن والمزية والفخامة ما علم أنه لا يكون لو أخر فقيل قل أتتخذ غير الله وليا وأتدعون غير الله وذلك لأنه حصل بالتقديم معنى قولك أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ وليا وأيرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك وأيكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل أأتخذ غير الله وليا وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط ولا يزيد على ذلك فاعرفه وكذلك الحكم في قوله تعالى فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه وذلك لأنهم بنوا كفرهم على أن من كان مثلهم بشرا لم يكن بمثابة أن يتبع ويطاع وينتهى إلى ما يأمر ويصدق أنه مبعوث من الله تعالى وأنهم مأمورون بطاعته كما جاء في الأخرى إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا وكقوله عز وجل ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة فهذا هو القول في الضرب الأول وهو أن يكون يفعل بعد الهمزة لفعل لم يكن وأما الضرب الثاني وهو أن يكون يفعل لفعل موجود فإن تقديم الاسم يقتضي شبها بما اقتضاه في الماضي من الأخذ بأن يقر أنه الفاعل أو الإنكار أن يكون الفاعل فمثال الأول قولك للرجل يبغي ويظلم أأنت تجيء إلى الضعيف فتغضب ماله أأنت تزعم أن الأمر كيت وكيت وعلى ذلك قوله تعالى أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ومثال الثاني أهم يقسمون رحمة ربك

فصل في التقديم والتأخير في النفي

وإذ قد عرفت هذه المسائل في الاستفهام فهذه مسائل في النفي إذا قلت ما فعلت كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول وإذا قلت ما أنا فعلت كنت نفيت عنك فعلا ثبت أنه مفعول تفسير ذلك أنك إذا قلت ما قلت هذا كنت نفيت أن تكون قد قلت ذاك وكنت نوظرت في شيء ثبت أنه مقول وكذلك إذا قلت ما ضربت زيدا كنت نفيت عنك ضربه ولم يجب أن يكون قد ضرب بل يجوز أن يكون قد ضربه غيرك وأن لا يكون قد ضرب أصلا وإذا قلت ما أنا ضربت زيدا لم تقله إلا وزيد مضروب وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأول أن يكون المنفي عاما كقولك ما قلت شعرا قط وما أكلت اليوم شيئا وما رأيت أحدا من الناس ولم يصلح في الوجه الثاني فكان خلفا أن تقول ما أنا قلت شعرا قط وما أنا أكلت اليوم شيئا وما أنا رأيت أحدا من الناس وذلك لأنه يقتضي المحال وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كل شعر في الدنيا وأكل كل شيء يؤكل ورأى كل أحد من الناس فنفيت أن تكونه ومما هو مثال بين في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله من المتقارب وما أنا أسقمت جسمي به ولا أنا أضرمت في القلب نارا المعنى كما لا يخفي على أن السقم ثابت موجود وليس القصد بالنفي إليه ولكن إلى أن يكون هو الجالب له ويكون قد جره إلى نفسه ومثله في الوضوح قوله طويل وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله الشعر مقول على القطع والنفي لأن يكون هو وحده القائل له وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق ويصير العلم به كالضرورة أحدهما أنه يصح لك أن تقول ما قلت هذا ولا قاله أحد من الناس وما ضربت زيدا ولا ضربه أحد سواي ولا يصح ذلك في الوجه الآخر فلو قلت ما أنا قلت هذا ولا قاله أحد من الناس وما أنا ضربت زيدا ولا ضربه أحد سواي كان خلفا من القول وكان في التناقض بمنزلة أن تقول لست الضارب زيدا أمس فتثبت أنه قد ضرب ثم تقول من بعده ما ضربه أحد من الناس ولست القائل ذلك فتثبت أنه قد قيل ثم تجيء فتقول وما قاله أحد من الناس والثاني من الأمرين أنك تقول ما ضربت إلا زيدا فيكون كلاما مستقيما ولو قلت ما أنا ضربت إلا زيدا كان لغوا من القول وذلك لأن نقض النفي بإلا يقتضي أن تكون ضربت زيدا وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفي أن تكون ضربته فهما يتدافعان فاعرفه ويجيء لك هذا الفرق على وجهه في تقديم المفعول وتأخيره فإذا قلت ما ضربت زيدا فقدمت الفعل كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثبات وتركته مبهما محتملا وإذا قلت ما زيدا ضربت فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضربا وقع منك على إنسان وظن أن ذلك الإنسان زيد فنفيت أن يكون إياه فلك أن تقول في الوجه الأول ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس وليس لك في الوجه الثاني فلو قلت ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس كان فاسدا على ما مضى في الفاعل ومما ينبغي أن تعلمه أنه يصح لك أن تقول ما ضربت زيدا ولكني أكرمته فتعقب الفعل المنفي بإثبات فعل هو ضده ولا يصح أن تقول ما زيدا ضربت ولكني أكرمته وذاك أنك لم ترد أن تقول لم يكن الفعل هذا ولكن ذاك ولكنك أردت أنه لم يكن المفعول هذا ولكن ذاك فالواجب إذا أن تقول ما زيدا ضربت ولكن عمرا وحكم الجار مع المجرور في جميع ما ذكرنا حكم المنصوب فإذا قلت ما أمرتك بهذا كان المعنى على نفي أن تكون قد أمرته بذلك ولم يجب أن تكون قد أمرته بشيء آخر وإذا قلت ما بهذا أمرتك كنت قد أمرته بشيء غيره التقديم والتأخير في الخبر المثبت واعلم أن هذا الذي بان لك في الاستفهام والنفي من المعنى في التقديم قائم مثله في الخبر المثبت فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدث عنه بفعل فقدمت ذكره ثم بنيت الفعل عليه فقلت زيد قد فعل وأنا فعلت وأنت فعلت اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل إلا أن المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين أحدهما جلي لا يشكل وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر أو دون كل أحد ومثال ذلك أن تقول أنا كتبت في معنى فلان وأنا شفعت في بابه تريد أن تدعي الانفراد بذلك والاستبداد به وتزيل الاشتباه فيه وترد على من زعم أن ذلك كان من غيرك أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت ومن البين في ذلك قولهم في المثل أتعلمني بضب أنا حرشته والقسم الثاني أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع أنه قد فعل وتمنعه من الشك فأنت لذلك تبدأ بذكره وتوقعه