الرئيسيةبحث

جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية

جواب أهل السنة النبوية
في نقض كلام الشيعة والزيدية
  ► وهو رد على بعض علماء الزيدية فيما اعترض به على دعوة التوحيد ☰  

☰ جدول المحتويات


بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.

(أما بعد): فإنه قد وصل إلينا كتابكم الذي فيه الاعتراض على الجواب الذي قد أتاكم العام الماضي صحبة رسولكم؛ واعتراض المعترض عليه فاسد من وجوه كثيرة، وهو يدل على جهالة قائله ومكابرته ومعاندته لأهل البيت النبوي وغيرهم من أهل السنة والجماعة المقتدين بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

والجاهل يبين جهله وضلاله بالأدلة، فإذا عاند وكابر صار جهاده بالسيف، كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}.

(الشرك بالله سبب الاختلاف بين أهل نجد والرافضة)

أما قوله: إن سبب الاختلاف بين السائل والمسؤول هو أن عليا عليه السلام فارقه وحاربه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقتل علي رضي الله عنه بعد أن كانت الحرب بينهما أربعين يوما إلى آخره.

فنقول: هذا مما يدل على جهل المعترض أو تجاهله، وذلك أن الاختلاف الذي بيننا وبينكم ليس هذا سببه، وإنما سبب الاختلاف والعداوة والمقاتلة لمن قاتلناه هو الشرك بالله الذي قد انتشر وذاع في سائر البلاد، من يمن وشام ومغرب ومشرق، وهو: الاستغاثة بالصالحين ودعوتهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد الذي قال الله فيه وفيمن فعله: {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}.

وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما}. وقال تعالى في حق الأنبياء: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}. وقال لنبينا ﷺ {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}. وقال تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين}.

وقد صح عندنا بالنقل المتواتر أن هذا يفعل عندكم في كثير من بلاد اليمن ولا تزيلونه ولا تنكرونه على من فعله، والأوثان والبنايات التي على القبور موجودة عندكم. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ ألا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته".

الاختلاف بين علي ومعاوية (ورأي أهل السنة في هذه الفتن)

وأما الاختلاف الذي بين علي ومعاوية: فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما كسبنا، ولا نسأل عما كانوا يعملون، كما قال الله تعالى لأهل الكتاب لما احتجوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}.

وأما قوله: فلما مات الحسن استتم لمعاوية هذا الأمر، فهذا مما يدل على جهله بالسير والأخبار، فإن الأمر قد استتم لمعاوية قبل موت الحسن بسنين، وبايعه جميع المسلمين بالخلافة سنة انخلع الحسن من الخلافة، وسلمها إلى معاوية، وصالحه على ذلك في سنة إحدى وأربعين. وذلك أنه ولي الخلافة بعد قتل أبيه رضي الله عنه فأقام فيها ستة أشهر وأياما، ثم سار إليه معاوية وأرسل إليه الحسن يبذل تسليم الأمر إليه واشترط عليه شروطا، فأجاب معاوية إلى ذلك، وظهرت المعجزة النبوية في قوله ﷺ في الحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد؛ ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".

وكان نزوله عنها في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وقيل في جماد الأول. وتوفي الحسن رضي الله عنه بالمدينة سنة تسع وأربعين، وقيل: في خامس ربيع الأول سنة خمس وأربعين، وقيل سنة إحدى وخمسين. كذا ذكره السيوطي وغيره من أهل التواريخ، وبهذا يتبين لك تخبط المجيب في كلامه وجهله بالنقل.

(نكبة المسلمين الكبرى وفتنتها بقتل عثمان)

وأما قوله: فلما قتل علي، ومات ابنه الحسن استتم لمعاوية الأمر، فذلت له الرقاب، وافترقت الأمة إلى فرقتين إلى آخر كلامه.

فيقال: وهذا أيضا من عجيب جهله، فإن الافتراق العظيم الواقع بين الأمة سببه قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وبعد قتله افترقت القلوب حتى آل الأمر إلى القتال بالسيف، وجرى بين علي وطلحة والزبير وقعة الجمل المشهورة؛ قتل فيها بين الفريقين نحو ثمانية عشر ألفا، ثم جرت بين علي ومعاوية وقعة صفين. ودام القتال بينهم نحو مائة يوم وعشرة أيام، وقتل بين الفريقين نحو مائة ألف وعشرة آلاف، فمن أهل الشام تسعون ألفا ومن أهل العراق عشرون ألفا، كما ذكر ذلك المسعودي وغيره من أهل العلم بالتاريخ.

وجرى في أيام علي من الفتن والحروب والقتل بين المسلمين ما هو معروف، وكل ذلك بسبب قتل عثمان رضي الله عنه.

وقد أخرج ابن عدي وابن عساكر من حديث أنس عن النبي ﷺ أنه قال: "إن لله سيفا مغمودا في غمده ما دام عثمان، فإذا قتل عثمان جرد ذلك السيف فلم يغمد إلى يوم القيامة"، قال السيوطي: تفرد به عمرو بن فائد وله مناكير.

وأخرج ابن عساكر عن حذيفة قال: "أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال. والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا وقع في فتنة الدجال، وإن لم يدركه آمن به في قبره".

وأخرج ابن عساكر: "لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء".

وأخرج عن سمرة قال: "إن الإسلام كان في حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان لا تسد إلى يوم القيامة، وإن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها ولم تعد إليهم".

وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن حميد بن هلال قال: كان عبد الله بن سلام يدخل على محاصري عثمان فيقول: "لا تقتلوه، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له، وإن سيف الله لم يزل مغمودا، وإنكم والله إن قتلتموه لسله الله ثم لا يغمده عنكم أبدا. وما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا قبل أن يجتمعوا". [1]

وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك حيث قال:

فكف يديه ثم أغلق بابه ** وأيقن أن الله ليس بغافل

وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم ** عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل

فكيف رأيت الله صب عليهم ** العداوة والبغضاء بعد التواصل

وكيف رأيت الخير أدبر بعده ** عن الناس إدبار الرياح الجوافل

(اتفاق كلمة المسلمين بنزول الحسن لمعاوية عن الخلافة)

وأما بعد مبايعة الحسن لمعاوية فاجتمعت الكلمة واصطلح الناس، ولأجل ذلك سمي العام عام الجماعة، فكيف يقول هذا الجاهل: افترقت الأمة بعد أن استتم لمعاوية الأمر فرقتين… إلى آخر كلامه.

وقد ذكر أهل العلم بالسير والتواريخ أن معاوية لما تولى الخلافة واستتم له الأمر -حين عزل الحسن نفسه- اتفقت كلمة المسلمين، وكانوا في ولايته متفقين غير مختلفين، يغزون العدو ويجاهدون في سبيل الله. فلما مات معاوية جرت الفتن العظيمة، منها قتل الحسين وأهل بيته، ومنها حصار ابن الزبير بمكة، ووقعة الحرة بالمدينة. ثم لما مات يزيد، جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط. ثم وثب المختار بن عبيد على ابن زياد فقتله، وجرت فتنة مصعب بن الزبير وقتله، ثم حاصر الحجاج ابن الزبير فقتله وجرت فتنة، ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث مع خلق عظيم من القراء وكانت فتنة كبيرة؛ فهذا كله بعد موت معاوية رضي الله عنه. ثم جرى بعد ذلك أيضا فتنة ابن المهلب بخراسان، وقتل زيد بن علي بالكوفة، وجرت فتن. ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان، وجرت فتن يطول وصفها وتزايد شرها.

(مزايا معاوية وفضل ملكه على من بعده)

وبالجملة فلم يكن ملك من ملوك المسلمين خير من معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده.

وقد روى أبو بكر الأثرم: حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا مروان عن يونس عن قتادة قال: لو أصبحت في مثل عمل معاوية لقال الناس هذا المهدي. وكذا رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد، قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي.

وفي الصحيحين: "أن رجلا قال لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، إنه أوتر بركعة؟ فقال: أصاب، إنه فقيه". فهذه شهادة ابن عباس بفقه معاوية. وابن عباس من علماء أهل البيت، ومعاوية ليس من السابقين الأولين، بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح، وقيل بل أسلم قبل ذلك، وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة. ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن أبي بكر وعمر.

وقد تبين بما ذكرنا لكل منصف أريب ولمن له قلب منيب جهل هذا المعترض وطائفته بما عليه أهل البيت، وأن دعواهم ومحبتهم كذب وافتراء ومجرد دعوى لا حقيقة لها، كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع أنبيائهم وهم قد خالفوهم وسلكوا غير طريقهم.

وكذلك الرافضة والشيعة يدعون اتباع علي وأهل بيته، وهم قد خالفوا طريقهم وسلكوا غير منهاجهم، وإن أسعد الناس باتباعهم ومحبتهم أهل السنة والجماعة القائلون بما دل عليه الكتاب والسنة.

مدة الحرب بين علي ومعاوية

وأما قوله: بعد أن كانت الحرب بينهما أربعين يوما، فالجواب أن يقال: هذا مما يدل على جهل هذا المعترض بالسير والأخبار، وأنه يخبط في كلامه خبط عشواء بلا دليل ولا مستند ولا استبصار، ولا معرفة بما نقله أهل تواريخ الإسلام والعلماء الكبار، فإن كان مراده يوم صفين خاصة، فقد ذكر أهل التواريخ الإسلامية أن الحرب أقامت بين علي ومعاوية في يوم صفين نحو مائة يوم وعشرة أيام، وجرى بينهم في تلك المدة نحو تسعين وقعة.

وذلك أنهم ذكروا أن ابتداء القتال في أول يوم من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة، فدامت الحرب بينهم ثلاثة أشهر وعشرين يوما، كما ذكر معنى ذلك المسعودي عن أهل السير والأخبار كما تقدم ذلك عنه. وذكر القرطبي صاحب التفسير الكبير أن مقام علي ومعاوية بصفين سبعة أشهر، وقيل: تسعة، وقيل: ثلاثة، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين يوما زحفا في ثلاثة أيام من أيام البيض، وهي ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وقتل ثلاثة وسبعون ألفا من الفريقين، ذكره الثقة العدل إبراهيم بن الحسن الكسائي الهمذاني. وفي تلك الليالي ليلة الهرير؛ الصوت يشبه النباح؛ لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنوا بالرماح حتى اندقت، وتضاربوا بالسيوف حتى تقصفت، ثم نزل القوم بعضهم إلى بعض، قد كسروا جفون سيوفهم، واضطربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة القوم والحديد في الهام. فلما صارت السيوف كالمناجل، تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس وثار القتام، وارتفع الغبار، وتقطعت الألوية والرايات، ومرت أوقات أربع صلوات؛ لأن القتال كان بعد صلاة الصبح، واقتتلوا إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين، قاله الإمام أحمد في تاريخه. انتهى ما ذكره القرطبي. [2]

وأما إن كان مراده محاربة علي ومعاوية، وعدم تسليم معاوية الأمر له، فهذا أعظم جهلا وأكبر خطأ مما قبله. فإن معاوية أقام محاربا لعلي مدة خلافته كلها من حين قتل عثمان إلى أن قتل علي رضي الله عنه وذلك نحو خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، وقيل أربع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، وقيل وستة أيام، وقيل وأربعة عشر يوما، وقيل أربع سنين وثمانية أشهر وثلاثة وعشرين يوما.

فصل (افتراق الأمة بعد قتل عثمان 3 فرق)

وأما قوله: افترقت الأمة فرقتين: فرقة توالي معاوية باطنا وظاهرا، وهم الذين قاتلوا معه ونصروه وسموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، كما أخبرت بذلك التواريخ.

فالجواب أن يقال: هذا أيضا جهل وتخبيط وقصور فهم وغباوة شديدة، فإن الأمة قد افترقت بعد قتل عثمان رضي الله عنه ثلاث فرق:

فرقة بايعت عليا رضي الله عنه ودخلوا في طاعته، وهم أكثر الصحابة وجمهور المسلمين؛

وفرقة امتنعت عن الدخول في طاعته ومبايعته وأظهروا الطلب بدم عثمان رضي الله عنه، وهم معاوية ومن تابعه، وكان هو الأمير عليهم في خلافة عمر رضي الله عنه وخلافة عثمان، وأرسلوا إلى علي: إن كنت تريد أن نبايعك فادفع إلينا قتلة عثمان، فأبى علي رضي الله عنه ذلك؛

والطائفة الثالثة لم يبايعوا عليا ولا معاوية، واعتزلوا الفريقين جميعا، لم يعينوا هؤلاء ولا هؤلاء ولم يدخلوا في تلك الحروب والفتن ولم يحضروها؛ منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومنهم أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأبو موسى الأشعري وعمران بن حصين الخزاعي وأبو بكرة الثقفي وأهبان بن صيفي. ومن التابعين شريح والنخعي رضي الله عنهم أجمعين.

وأخرج ابن ماجة عن أبي بردة قال: دخلت على محمد بن مسلمة، فقال: إن رسول الله ﷺ قال: "إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذلك فائت بسيفك أحدا فاضربه به حتى ينقطع، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية"، فقد وقعت وفعل ما قال النبي ﷺ.

ومن هؤلاء من بايع عليا رضي الله عنه ولم يقاتل معه في حروبه، قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب: وتخلف عن بيعة علي أقوام، فلم يكرههم علي، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يدخلوا في الباطل. وقال غيره: إن كثيرا من المسلمين حتى من أهل المدينة ومكة لم يكونوا بايعوه، دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب وخراسان والعراق. انتهى.

وقد قال غير واحد من أهل العلم: إن جمهور الصحابة ما دخلوا في الفتنة، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي ثنا إسماعيل، يعني ابن علية، حدثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين. هذا إسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل.

وقال عبد الله: حدثنا أبي، ثنا إسماعيل، ثنا منصور بن عبد الرحمن [3] قال: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب النبي ﷺ غير علي وعمار وطلحة والزبير، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذاب.

وقال عبد الله بن أحمد: ثنا أبي، ثنا أمية بن خالد قال: قيل لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب والله، لقد ذاكرت الحكم بذلك، وذاكرناه في بيته فما وجدنا شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت. وهذا النفي يدل على قلة من حضرها، وقيل: إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب. وكلام ابن سيرين متقارب فما يكاد يذكر مائة واحد. وقد روى ابن بطة بإسناده عن بكير بن الأشج قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه فلم يخرجوا إلا لقبورهم.

فصل (تفضيل أهل السنة عليا على معاوية ومن دون الخلفاء الثلاثة واعتراف معاوية بفضل علي)

وأما قوله في معاوية رضي الله عنه: لما استتم له الأمر فذلت له الرقاب، افترقت الأمة إلى فرقتين: فرقة توالي معاوية باطنا وظاهرا؛ وهم الذين قاتلوا معه، وسموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، كما أخبرت به كتب التواريخ، وبدعوا من والى عليا وأهله.

فالجواب أن يقال: هذا من الكذب والبهتان الظاهر لكل من له معرفة بما عليه أهل السنة والجماعة، بل معاوية وأصحابه الذين قاتلوا عليا ومن معه لا يبدعونه ولا يبدعون من والاه، بل العلماء منهم مقرون بفضله ودينه وورعه وسابقته وحسن بلائه في الإسلام، حتى معاوية نفسه يقر بذلك في المحافل والمجالس، كما ذكر ذلك أهل العلم في كتبهم. فروى يحيى الجعفي في كتاب صفين بإسناده: حدثني يعلى بن عبيد حدثنا أبي قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: أأنت تنازع عليا؟ أم أنت مثله؟ قال: لا والله إني لأعلم أن عليا أفضل مني، وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدمه، فأتوا عليا فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليا فكلموه، فلم يدفعهم إليه.

فانظر وتأمل يتبين لك كذب المعترض ونسبته إلى الصحابة ما لا يليق بهم، كذلك نسبته إلى أهل السنة والجماعة تبديع من والى عليا وأهل بيته وشيعته، فإن هذا كذب وافتراء على القوم، بل جميع أهل السنة يتولون عليا وأهل البيت، ويقدمونه على معاوية، بل وعلى من هو أفضل من معاوية، فإن الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ومن بعد أبي بكر عمر، ثم بعد عمر عثمان، ثم بعد عثمان علي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وأهل السنة يعلمون أن معاوية ليس من السابقين الأولين، بل هو من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم، ولكنه ممن حسن إسلامه بعد ذلك وصار يكتب الوحي لرسول الله ﷺ. ثم لما توفي أبو بكر خرج إلى الجهاد مع أخيه يزيد بن أبي سفيان. ثم لما توفي يزيد استعمله عمر رضي الله عنه على الشام، فأقام أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة، وكانت رعيته تحبه لحسن سيرته.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم". [4] ومما يدل على اعتراف معاوية بفضل علي ما أخرجه غير واحد من أهل السنة في كتبهم، وذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في ترجمة علي حيث قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا يحيى بن مالك، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلد البغدادي بمصر، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن درية، قال: حدثنا الكلبي عن الحرماوي عن رجل من همدان، قال: قال معاوية لضرار الصدائي: يا ضرار، صف لي عليا، قال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: فلتصفه لي، قال: "أما إذ لا بد من وصفه؛ فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقربهم، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيرى، إلي تقربت؟ أم إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، بتتك ثلاثا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال "حزن من ذبح واحدها في حجرها".

وكان معاوية رضي الله عنه يكتب فيما ينزل به إلى علي بن أبي طالب يسأله عن ذلك، فلما بلغه قتله، قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له عتبة أخوه: لا يسمع هذا منك أهل الشام. انتهى ما ذكره أبو عمر.

وكذلك الصحابة الذين قاتلوا عليا مع معاوية ليس فيهم من يقول: إن معاوية أفضل من علي، وإنما قاتلوه ومن معهم من أهل الشام للطلب بدم عثمان رضي الله عنه. وكانوا يقولون: إن معاوية هو ولي عثمان والطالب بدمه، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم بالأخبار والتواريخ وأيام الناس.

قال مجالد عن الشعبي: لما قتل عثمان أرسلت أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إلي بثياب عثمان، وبالخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها فصعد معاوية المنبر وجمع الناس ونشر القميص عليهم وذكر ما صنع بعثمان ودعا إلى الطلب بدمه، فقام أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك وأنت وليه ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوا له.

وقال يونس عن الزهري: لما بلغ معاوية قتل طلحة والزبير وظهور علي، دعا أهل الشام للقتال معه على الشورى، والطلب بدم عثمان، فبايعوه على ذلك أميرا غير خليفة.

وقد روى الطبراني عن ابن عباس قال: ما زلت موقنا أن معاوية سيلي الملك والسلطان من هذه الآية {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا}.

(أهل السنة يتولون عليا وأهل البيت)

وأما سائر أهل السنة والجماعة فكلهم يتولون عليا وأهل البيت ويحبونهم، وينكرون على بني أمية الذين يسبون عليا، وكتبهم مشحونة بالثناء عليه ومحبته وموالاته. وجميع كتب الحديث مذكور فيها فضل علي وأهل البيت، ولكنهم يتولون سائر الصحابة ويحبونهم ويترضون عنهم طاعة لله ولرسوله ﷺ. فإن الله تعالى ذكر الصحابة في كتابه، وأحسن الثناء عليهم، فقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} الآية، [5] وقال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية. [6]

وأثنى تعالى على من جاء من بعدهم، ودعا لهم بالمغفرة، فقال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان} الآية. [7]

فتبين بما ذكرنا جهالة المعترض وكذبه على أهل السنة بأنهم بدعوا من والى عليا وأهل بيته.

وأما قوله: ولذلك قال الشافعي لما رأى التبديع لأهل الحق:

إن كان رفضا حب آل محمد ** فليشهد الثقلان أني رافضي

فجميع أهل السنة وأكثر أهل البدعة من المعتزلة والمرجئة وغيرهم يقولون كما قال الشافعي، ويقولون أيضا كما قال بعض العلماء:

إن كان نصبا حب صحب محمد ** فليشهد الثقلان أني ناصبي

فالبيت الأول إرغام للخوارج وطائفة من بني أمية الذين يبغضون عليا رضي الله عنه وأهل بيته، ومنهم من يكفره، والبيت الثاني إرغام للروافض والزيدية الذين يبغضون بعض أصحاب النبي ﷺ. وذلك أن الله تبارك وتعالى هدى أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}، وذلك أنهم آمنوا بجميع المنزل من عند الله وجميع ما ورد عن رسول الله من الأحاديث الصحيحة الثابتة، ولم يغلوا غلو الروافض والزيدية، ولم يقصروا تقصير الخوارج ومن نحا نحوهم.

فصل (إنصاف أهل السنة وكذب الروافض)

وأما قوله: ولهذا الافتراق روى مسلم في صحيحه عن أبي إسحاق ما معناه: أنه لما وقعت الفتنة قال بعض المحدثين لبعض إذا حدثوا: بينوا لنا رجالكم، وكانوا قبل الفتنة يقبلون المرسل ولا يسألون عن رجال السنة.

فيقال: هذا مما يدل على إنصاف أهل السنة والجماعة ونصحهم لله ولرسوله ولدينه، خصوصا أئمة الحديث وجهابذته. وذلك أنه دين فلا يجوز لهم الأخذ عن كل من روى الحديث حتى يعرفوا حاله هل هو ثقة حافظ ضابط لما يرويه، وهل هو من أهل السنة أو من أهل البدعة. فإذا عرفوا الرجل بالكذب بينوا حاله، وإذا عرفوه بالبدعة بينوا حاله. فإذا عرفوا أن الرجل ثقة أخذوا عنه، وقبلوا حديثه، ولو كان من أهل البدع.

وإذا كان الرجل قليل الضبط أو معروفا بالكذب أو بالتخليط أو الاضطراب في حديثه تركوا حديثه وبينوا حاله وإن كان من أهل السنة ومن أهل الصلاح.

يعرف ذلك من طالع كتب الجرح والتعديل، وفي البخاري ومسلم والسنن الأربعة رجال من أهل البدع يروون عنهم الحديث من الخوارج والقدرية والمرجئة والشيعة وغيرهم؛ إذ كانوا معروفين بالصدق والضبط.

ولكن أهل الحديث وأهل العلم يعلمون أن أكذب الطوائف هم الرافضة والشيعة ومن نحا نحوهم، وذلك أن عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد وكثير من وضع المعروفين بالكذب.

قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك عن الرافضة فقال: لا ترو عنهم ولا تكلمهم فإنهم يكذبون.

وقال أبو حاتم: حدثنا حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة.

وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون.

وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكا يقول: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث فيتخذونه دينا، وشريك هذا هو شريك بن عبد الله القاضي بالكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة، وهذه شهادته.

ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم، مثل كتب يحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني ويحيى بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازي والنسائي وأبي حاتم بن حبان وأبي أحمد بن عدي والدارقطني وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ويعقوب بن سفيان والعجلي والعقيلي والموصلي والحاكم النيسابوري والحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة نقاد ولهم المعرفة التامة بأحوال الإسناد: علم أن المعروف عندهم بالكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، حتى أن أصحاب الصحيح كالبخاري وغيره لم يرووا عن أحد من قدماء الشيعة مثل عاصم بن ضمرة والحارث الأعرج وعبد الله بن سلمة، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروون حديث علي عن أهل بيته كالحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع، وعن أصحاب ابن مسعود كعبيدة السلماني والحارث بن قيس وأشباههم. وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى وأخبرهم بالناس وأقولهم بالحق، لا يخافون في الله لومة لائم.

ولهذا قال أحمد بن حنبل رحمه الله لما قيل له: إن ابن أبي قتيلة يقول: إن أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق.

وقال بعضهم: إذا رأيت من يبغض أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع، وإذا رأيت من يبغض يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب، ولا يبغض يحيى بن معين، ويتكلم فيه وفي أمثاله إلا من هو من أهل الكذب.

فصل (موالاة أهل السنة لعلي وتفسيقهم لمن سبوه وطغوا عليه)

وأما قوله: ونشأ من هذا الافتراق الأمر العظيم، وهو استمرار لعن علي عليه السلام على المنابر حتى قطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

فيقال: أما لعن علي رضي الله عنه فإنما فعله طائفة قليلة من بني أمية، وهم عند أهل السنة ظلمة فسقة، وأهل السنة ينكرون عليهم ذلك بألسنتهم، ويروون الأحاديث الصحيحة في فضائل علي، وذلك أنهم أرادوا وضعه عند الناس، وحط رتبته ومحبته من قلوبهم، فجازاهم الله بنقيض قصدهم، ورفعه الله. وأظهر أهل السنة والجماعة فضائله، وحدثوا بها الناس، فاشتهرت عند العامة فضلا عن الخاصة، وجميع أهل السنة يحبونه ويوالونه رضي الله عنه.

فلما زالت دولة بني أمية، وجاءت دولة بني العباس في سنة ثنتين وثلاثين ومائة انقطع لعن علي رضي الله عنه.

وأما قول المعترض إن ابن تيمية روى في منهاجه أنه استمر لعن علي إلى زمانه، وأما في أيامه فقد انقطع، فهذا كذب ظاهر على ابن تيمية رحمه الله، وقلة حياء فيمن نسب ذلك إليه، ومنهاج السنة موجود عندنا، ولم يذكر هذا فيه. وابن تيمية أجل من أن يخفى عليه هذا الأمر الواضح الذي يعرفه أدنى من له معرفة بالسير والتواريخ، وأنه انقطع من الشام، وغيره من بلاد الإسلام. ثم ظهرت الدولة العباسية وانقطعت الدولة الأموية في أيام السفاح الذي كان هو أول ملوك بني العباس، وقتل مروان الملقب بالحمار الذي هو آخر ملوك بني أمية سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

وأعجب من هذا قوله إن ابن تيمية أيضا روى في منهاج السنة أن كثيرا من علماء السنة والجماعة حكموا بتخطئة علي في حروبه، إلا أحمد بن حنبل إمام الشيعة عند التحقيق، فإنه قال: من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله. انتهى معنى كلام ابن تيمية.

والجواب أن يقال: إن هذا من الكذب الظاهر على ابن تيمية وعلى أحمد ابن حنبل رحمهما الله، وهذا نص لفظ ابن تيمية في المجلد الأول من كتاب منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية:

قال رحمه الله: "ولهذا اضطرب الناس في خلافة علي على أقوال، فقالت طائفة: إنه إمام، وأن معاوية إمام، وأنه يجوز نصب إمامين في وقت واحد إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد، وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم.

وقالت طائفة: لم يكن في ذلك الزمان إمام عام، بل كان زمان فتنة، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين وغيرهم. ولهذا لما أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة وقال: من لم يربع بعلي فهو أضل من حمار أهله، أنكر طائفة من هؤلاء وقالوا: قد أنكر خلافته من لا يقال فيه هو أضل من حمار أهله، يريدون من تخلف عنها من الصحابة. واحتج أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي ﷺ: "تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا" وهذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره. [8]

وقالت طائفة ثالثة: علي هو الإمام وهو مصيب في قتاله لمن قاتله، وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير كلهم مجتهدون مصيبون، وهذا قول من يقول: كل مجتهد مصيب، كقول البصريين من المعتزلة وأبي الهذيل وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر وأبي حامد، وهو المشهور عند أبي الحسن الأشعري. وهؤلاء أيضا يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا في قتاله، كما أن عليا مصيب. وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، ذكره أبو عبد الله بن حامد.

وذكر لأصحاب أحمد في المقتتلين يوم الجمل وصفين ثلاثة أوجه: (أحدها): كلاهما مصيب. (والثاني): المصيب واحد لا بعينه. (والثالث): أن عليا هو المصيب، ومن خالفه مخطئ.

والمنصوص عن أحمد وأئمة السنة أنه لا يذم أحد منهم، وأن عليا أولى بالحق من غيره. أما تصويب القتال فليس هو قول أئمة السنة، بل هم يقولون إن تركه كان أولى.

وطائفة رابعة تجعل عليا هو الإمام، وكان مجتهدا مصيبا في القتال، ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين، وهذا قول كثير من أهل الكلام والرأي من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.

وطائفة خامسة تقول إن عليا مع كونه كان خليفة وهو أقرب إلى الحق من معاوية فكان ترك القتال أولى. وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء فإن النبي ﷺ قال: "ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الساعي". [9] وقد ثبت أنه ﷺ قال في الحسن: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين" [10] فأثنى على الحسن بالإصلاح. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لما مدح تاركه.

قالوا: وقتال البغاة لم يأمر الله به ابتداء، ولم يأمر بقتال كل باغ، بل قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فأمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم، فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت.

قالوا: ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة، والأمر الذي لم يأمر الله به لا بد أن يكون مصلحته راجحة على مفسدته، وفي سنن أبي داود: ثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد، ثنا هشام عن محمد بن سيرين، قال: قال حذيفة: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا تضره الفتنة". فهذا يبين أن النبي ﷺ أخبر أن محمد بن مسلمة لا تضره الفتنة، وهو ممن اعتزل في القتال فلم يقاتل مع علي ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وأبو بكرة وعمران بن حصين وأكثر السابقين الأولين.

وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب؛ إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك مما يمدح به الرجل، بل كان من فعل الواجب أو المستحب أفضل ممن تركه، ودل ذلك أن القتال قتال فتنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي والساعي فيها خير من الموضع". [11] وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أن ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين، وعلى هذا جمهور أئمة الحديث والسنة، وهذا هو مذهب مالك والثوري وأحمد، وغيره. وهذه أقوال من يحسن القول في علي وطلحة والزبير ومعاوية. ومن سوى هؤلاء من الخوارج والروافض والمعتزلة فمقالتهم في الصحابة نوع آخر؛ فالخوارج يكفرون عليا وعثمان ومن والاهما، والروافض يكفرون جمهور الصحابة ومن والاهم أو يفسقوهم ويكفرون من قاتل عليا، ويقولون هو إمام معصوم. وطائفة من المروانية تفسقه وتقول إنه ظالم معتد. وطائفة من المعتزلة تقول قد فسق؛ إما هو وإما من قاتله، لكن لا يعلم عينه. وطائفة أخرى منهم تفسق معاوية وعمرو بن العاص، دون طلحة والزبير وعائشة. انتهى ما ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية في منهاج السنة.

فانظر -رحمك الله- بعين الإنصاف إلى كلام هذا الإمام، ثم انظر إلى كلام المعترض يتبين لك تحريفه للكلم عن مواضعه، فإن ابن تيمية إنما ذكر أن جمهور أئمة السنة يرون أن ترك قتال علي أولى من القتال، وأن تركه أحب إلى الله وإلى رسوله لأحاديث الرسول ﷺ في الحسن بن علي وغيره الدال على هذا المعنى وتقدمت الإشارة إلى بعضها.

وأما تخطئتهم عليا في ذلك فحاشا وكلا، بل كثير من أهل السنة والجماعة يرون أن عليا مصيب في قتاله لمعاوية ومن معه، وكلهم متفقون على أنه أقرب إلى الحق وأولى به من معاوية ومن معه.

وأما ما ذكره عن أحمد بن حنبل، فإنما أراد أحمد بذلك: ومن لم يجعل عليا رابع الخلفاء الراشدين. وقال: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله.

وأما لفظ المعترض الذي ذكره عن أحمد: أن من خطأ عليا في حروبه فهو كحمار أهله، فليس هذا لفظ أحمد ولا هو معنى كلامه، ولا ذكره الشيخ ابن تيمية رحمه الله عن أحمد، ولكن نعوذ بالله من التعصب واتباع الهوى اللذين يصدان عن اتباع الحق ويحملان على كتمان الحق ولبسه بالباطل؛ وقد نهى الله سبحانه في كتابه عن هاتين الخصلتين، فقال تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}.

ومن العجب أن هذا المعترض وأشباهه يعلمون أن الحسن بن علي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت يرون أن ترك القتال أولى من فعله وأحب إلى الله وإلى رسوله، كما اختاره كثير من أهل السنة والحديث، ومع هذا ينكرون على أهل السنة ذلك مع زعمهم أنهم من شيعة أهل البيت. ويزعمون أن أهل السنة يبغضون أهل البيت ومن والاهم؛ وقد كذبوا، فإن أهل السنة والحديث أولى باتباع أهل البيت منهم، وهم شيعتهم على الحقيقة لأنهم سلكوا طريقتهم واتبعوا هديهم. وقد قال تعالى لليهود والنصارى لما ادعى كل طائفة منهم أن إبراهيم كان منهم: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا}.

فصل (الأقوال والآراء في قتال الحسين رضي الله عنه ليزيد)

وأما قوله: ومما نشأ من هذا الافتراق أن كثيرا من علماء أهل السنة، والجماعة حكموا بأن الحسين بن علي باغ على يزيد بن معاوية.

فيقال: قد اختلف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة وكذلك أهل البيت؛ فذهبت طائفة من أهل السنة رضي الله عنهم من الصحابة فمن بعدهم، كسعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وغيرهم، وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الحديث، إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان إن قدر على ذلك، وإلا فبالقلب فقط، ولا يكون باليد وسل السيوف والخروج على الأئمة وإن كانوا أئمة جور. واستدلوا بأحاديث صحاح عن رسول الله ﷺ منها ما أخرجاه في الصحيحين، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ أنه قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرا فمات، إلا مات ميتة جاهلية". وفي لفظ: "من فات الجماعة شبرا فمات، مات ميتة جاهلية". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية" الحديث.

وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: "قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: فهل بعد ذلك الخير شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا.

وذهبت طائفة أخرى من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين ثم الأئمة بعدهم إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يقدر على إزالة المنكر إلا بذلك. وهو قول علي بن أبي طالب وكل من معه من الصحابة رضي الله عنهم كعمار بن ياسر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وهو قول أم المؤمنين ومن معها من الصحابة كعمرو بن العاص والنعمان بن بشير وأبي العادية السلمي وغيرهم، وهو قول عبد الله بن الزبير والحسين بن علي. وهو قول كل من قام على الفاسق الحجاج كعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وأبي البختري الطائي وعطاء السلمي والحسن البصري والشعبي، ومن بعدهم؛ كالناسك الفاضل عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وعبيد الله بن حفص بن عاصم وسائر من خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ومع أخيه إبراهيم بن عبد الله وهشيم بن بشير والوراق، وغيرهم.

(خروج الحسين لقتال يزيد ومخالفة الصحابة له)

وقد ذكر ابن كثير في تاريخه عن طاوس عن ابن عباس قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج إلى العراق، فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لنشبت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب، فكان الذي رد علي أن قال: لأن أقتل في مكان كذا أحب إلي من أن أقتل بمكة، قال: وكان هذا الذي سلى نفسي عنه.

وقال غير واحد عن شبابة بن سوار: حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي، قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر أنه كان بمكة، فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليال، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى، فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا: "إن جبريل أتى النبي ﷺ فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وذلك بضعة من رسول الله ﷺ، والله لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم" فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيل.

وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين بن علي على الخروج، وقد قلت له: اتق الله في نفسك ولا تخرج على إمامك والزم بيتك. وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين فأدركته فناشدته الله أن لا يخرج، فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع.

وقال جابر بن عبد الله: كلمت حسينا فقلت له: اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني.

وقال سعيد بن المسيب: لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له.

وكتب إليه المسور بن مخرمة: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق ويقول لك ابن الزبير: الحق بهم فإنهم ناصروك، إياك أن تبرح الحرم، فإنهم إن كان لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة. فجزاه خيرا، وقال: أستخير الله في ذلك.

وكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كتابا يحذره أهل الكوفة ويناشده الله أن يشخص إليهم، فكتب إليه الحسين: "إني رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله ﷺ وأمرني بأمر أنا ماض له، ولست بمخبر بها أحدا حتى ألاقي عملي".

وذكر محمد بن سعد رحمه الله بأسانيده أنه لما بايع معاوية الناس ليزيد كان حسين ممن لم يبايع له وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى عليهم؛ فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم، فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا ويستطيلوا بنا ويشيطوا دماء الناس ودماءنا. فأقام الحسين على ما هو عليه من الهموم مدة يريد أن يسير إليهم ومدة يجمع الإقامة عنهم، فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله، إني لكم ناصح وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبكم قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم فإني سمعت أباك بالكوفة يقول: "والله لقد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني".

وكلمه في ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فلم يطع أحدا منهم وصمم على المسير.

وقال له ابن عباس: والله أني أظنك ستقتل بين نساءك وولدك كما قتل عثمان؛ فلم يقبل منه.

وكذلك أخوه محمد بن الحنفية نهاه عن ذلك وأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث معه أحدا منهم حتى وجد حسين في نفسه على محمد.

والمقصود من هذا: أن ابن عباس وغيره من الصحابة أنكروا على الحسين خروجه على يزيد ونهوه عن ذلك خوفا عليه مما جرى عليه وعلى أهل بيته، ولكن لا راد لما قضى الله. وما جرى على الحسين رضي الله عنه وعلى أهل بيته مما يعظم الله به أجورهم، ويرفع به درجاتهم رضي الله عنهم أجمعين.

وأهل السنة يبغضون يزيد، ومنهم من يلعنه. ليس كما يظنه المعترض فيهم ويرميهم به من بغضهم عليا وأهل بيته؛ [12] يعرف ذلك كل من طالع كتب القوم.

فصل (بيان مذهب الزيدية من البدع)

وأما قوله: (ومن عجائب الانحراف عن آل محمد: أن عالم أهل السنة والجماعة الذهبي لما عدد في ميزانه المذاهب الإسلامية قال ما معناه عن يحيي بن معين: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع. فهذا يخبرك بأن علماء أهل السنة والجماعة لم يعرفوا طريقة أهل بيت رسول الله ﷺ... إلى آخره.

فيقال: هذا من أعظم الجهل، فإن علماء أهل السنة والجماعة، خصوصا أئمة الحديث كيحيى بن معين وأشباهه، من أخبر الناس بأحوال الرجال ويقولون الحق الذين يدينون الله به، لا يخافون في الله لومة لائم. فإذا كان للزيدية مذهب ينسبونه إلى زيد بن علي -وأهل العلم يعرفون كذبهم وافتراءهم عليه في ذلك- بينوه إذا كان ذلك مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وما كان عليه علماء أهل البيت كعلي وابن عباس. وليس كل من انتسب إلى أحد من أهل البيت أو غيرهم من الأئمة يكون صادقا في انتسابه إليهم ونقله عنهم.

فهؤلاء الروافض الذين يسبون الشيخين وجمهور الصحابة ويكفرونهم ينتسبون إلى علي وأولاده ويقولون: نحن شيعة آل محمد، أفكانوا صادقين في ذلك؟ كلا، بل هم أعداؤهم حقا، وأهل البيت براء منهم. وكذلك اليهود والنصارى ينتسبون إلى أنبيائهم، ويزعمون أنهم على دينهم، وعلى طريقتهم، وهم قد باينوهم أشد المباينة.

وكذلك أهل البدع من هذه الأمة ينسبون مذاهبهم الباطلة إلى رسول الله ﷺ أو إلى أصحابه. وكلام علماء أهل الحديث والسنة في زيد بن علي وأمثاله من علماء أهل البيت معروف مشهور.

قال أبو حاتم البستي لما ذكر قتل زيد بن علي بالكوفة قال: كان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم، وكانت الشيعة تنتحله. انتهى.

ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهم رفضه قوم، فقال: رفضتموني. فسموا رافضة لرفضهم إياه. ولا يبغض علماء أهل الحديث ويتكلم فيهم إلا من هو من أهل البدع والكذب والفجور.

وقد تقدم كلام أحمد في ابن أبي قتيلة لما قيل له: إن أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد ينفض ثوبه ويقول: زنديق، زنديق؛ يعني أنه لا يتكلم فيهم إلا من هو منافق، لأن الله حفظ بهم الدين وميزوا بين صحيح الأخبار وسقيمها، ولهذا قال أحمد بن هارون الفلاس: إذا رأيت الرجل يقع في يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب يضع الحديث.

وقال ابن حجر في كتاب تهذيب التهذيب في معرفة الرجال: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسين المديني، روى عن أبيه وأخيه وأبي جعفر الباقر وأبان بن عثمان وعروة بن الزبير وعبيد الله بن أبي رافع؛ روى عنه ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جعفر بن محمد والزهري والأعمش وشعبة وسعيد بن خثيم [13] وإسماعيل وزبيد اليامي وزكريا بن أبي زائدة وعبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة وأبو خالد عمرو بن خالد الواسطي وابن أبي الزناد؛ وعده ابن حبان في الثقات وقال: روى عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ. وقال السدي عن زيد بن علي: "الرافضة حربي وحرب أبي في الدنيا والآخرة".

وروى الحافظ أبو الحجاج المزي بإسناده عن الفضل بن مرزوق، قال: سألت عمر بن علي، وحسين بن علي: هل فيكم إنسان مفترضة طاعته؟ فقال: لا والله ما هذا فينا، من قال هذا فهو كذاب، فقلت لعمر بن علي: رحمك الله، إنهم يزعمون أن النبي ﷺ أوصى إلى علي، وأن عليا أوصى إلى الحسن، وأن الحسن أوصى إلى الحسين، وأن الحسين أوصى إلى ابنه علي، وابنه علي أوصى إلى ابنه محمد بن علي؟ فقال: "والله لقد مات أبي فما أوصى بحرفين، ما لهم قاتلهم الله؟ والله إن هؤلاء إلا متأكلة بنا".

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: سمعت علي بن الحسين وكان أفضل هاشمي رأيته يقول: "أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا".

فانظر -رحمك الله- إلى ما نقله أهل العلم عن أهل البيت علي بن الحسين وأولاده، يتبين لك أن الشيعة من الرافضة والزيدية هم المنحرفون عن آل محمد، لا أهل السنة والحديث.

فصل (في قول ابن معين في مذهب الزيدية)

وأما قوله: (ويا ليت شعري، هل سمع ابن معين من رسول الله ﷺ أنه عد مذهب أولاده من البدع؟).

فهذا من عظيم جهل المعترض وافترائه على ابن معين وغيره من أهل السنة والجماعة؛ فإن ابن معين لم يقل: إن مذهب زيد بن علي وآبائه وأجداده من البدع، بل قال ما نقله عنه المعترض: وللزيدية مذهب بالحجاز، وهو معدود من مذاهب أهل البدع -يعني بذلك الزيدية الذين ينتسبون إلى زيد بن علي، وليسوا على طريقته-، ومجرد الانتساب إلى زيد أو غيره من أهل البيت لا يصير به الرجل متبعا لطريقتهم حتى يعرف طريقتهم ويتبعهم عليها، كما قال الحسن البصري رحمه الله في قوله ﷺ: "المرء مع من أحب" [14]: إن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم، فلا تغتروا.

وابن معين رحمه الله سمع حديث رسول الله ﷺ أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" [15] فهذه كلمة جامعة بين فيها ﷺ أن كل من أحدث ما يخالف أمر الله ورسوله فهو مردود عليه. وكذلك قوله في حديث العرباض بن سارية: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". [16] والرسول ﷺ أعطي جوامع الكلم، فأفاد أمته، وأعلمهم -صلوات الله وسلامه عليه-: "أن كل بدعة ضلالة". [17]

فإذا تبين لأهل العلم أن طائفة من طوائف الزيدية أو غيرهم، خالفوا ما عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، بينوا للناس أنهم أهل بدعة، وضلالة لئلا يغتر بهم الجاهل، كما بينوا فساد مذهب الرافضة المنتسبين إلى علي وأولاده، وكذلك بينوا فساد مذهب القدرية المنكرين أن يكون الله خلق أعمال العباد وقدرها عليهم، وكذلك بينوا فساد مذهب الخوارج الذين كفروا عليا وعثمان ومن والاهما؛ وهم مع ذلك ينتسبون إلى الرسول ﷺ وإلى أبي بكر، وعمر، ويتولونهما، ويستدلون بآيات من القرآن لا تدل على ما قالوه.

وهذا الجاهل يظن أن من انتسب إلى زيد بن علي، وغيره من أهل البيت لا يذم ولا يعاب، ولو خالف الكتاب والسنة. وهذا جهل عظيم لا يمتري فيه إلا من أضله الله، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، نعوذ بالله من الخذلان.

فصل (الشيعة المعتدلون من أئمة الحديث)

وأما قوله: (وممن رموه بالتشيع: أهل السنة والجماعة المذكورون: علي بن المديني شيخ البخاري، وعبد الرزاق الصنعاني، وأحمد بن عقدة، والدارقطني، والحاكم... إلخ.

فيقال: هذا مما يبين لك معرفة أهل الحديث بأحوال الرجال وبعدهم عن التعصب والهوى، وهؤلاء الأئمة الذين عددتهم هم عند أهل السنة والجماعة من أئمة العلم: يقتدون بهم ويأخذون عنهم ويرحلون إليهم، ولو كان فيهم بعض التشيع الذي لا يخرجهم عن أن يكونوا أئمة هدى يقتدى بهم. والتشيع الذي لا يخرج صاحبه عن الحق لا يذم به صاحبه ولا يخرجه عن أهل السنة والجماعة؛ فإن لفظ التشيع ليس مذموما في الشرع، بل قال تعالى لما ذكر نوحا عليه السلام، قال بعده: {وإن من شيعته لإبراهيم} أي: من أهل دينه، وإنما صار مذموما عند أهل السنة لما كان أهل البدع كالرافضة وأمثالهم الذين يسمون أنفسهم الشيعة يقولون: نحن شيعة آل محمد، وهم قد كذبوا في ذلك، بل هم أعداؤهم لأنهم خالفوا هديهم وسلكوا غير طريقتهم.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين". [18]

فصل (افتراء الشيعة على أهل السنة والانحراف عن آل البيت وتولي الدول الجائرة)

وأما قوله: (وسبب انحراف من ذكر عن أهل البيت وشيعتهم أنهم تولوا اليوم الدول الجائرة، وأطاعوهم وصححوا ولايتهم، واستدلوا على ذلك بأحاديث كثيرة رووها، فلما سمعها أهل بيت رسول الله ﷺ وجدوها مخالفة لكتاب الله تعالى في قوله: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}. وقوله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}. وقوله: {وما كنت متخذ المضلين عضدا}، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم تقريرا لمذهبهم، وردوها للقاعدة التي قررها أهل الأصول، وأهل الحديث في أنه لا يجب على الخصم قبول رواية خصمه، فيما يقرر مذهبه الذي يرى خصمه أنه عنده بدعة).

فيقال: الجواب عن هذا الكلام من وجوه:

(أحدها): أن هذا كذب على أهل السنة والجماعة، لا يمتري فيه أحد عرف مذهبهم وطالع كتبهم، فإنهم لم ينحرفوا عن أهل البيت، بل من أصول الدين عندهم: محبة أهل البيت النبوي وموالاتهم والصلاة عليهم في الصلاة وغيرها، ولو ذهبنا نذكر نصوصهم في ذلك لطال الكلام جدا.

(الثاني): أنهم لم يتولوا الدول الجائرة، كما ذكره هذا المعترض، بل هم يبغضونهم ويكرهونهم، ويسمونهم ظلمة وأئمة جور، وإنما أوجبوا طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، ويستدلون على ذلك بأحاديث ثابتة عن رسول الله ﷺ منها أنه قال: "على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" [19] وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، وأنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا ويموت ميتة جاهلية". [20]

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة من رواية أهل البيت وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد ثابتة بنقل العدول من أهل الحديث.

(الوجه الثالث): أن أهل السنة والجماعة لم يصححوا ولايتهم، إلا إذا تولوا على الناس، وبايعهم على ذلك أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد، فإذا كان كذلك صحت ولايته، ووجبت طاعته في طاعة الله، وحرمت طاعته في المعصية، ولكن لا يجوزون الخروج عليه، ومحاربته بالسيف؛ لأن ذلك يؤول إلى الفتن العظيمة، وسفك الدماء، والهرج الكثير. هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهذا القول هو الذي تدل عليه النصوص النبوية، وعليه كثير من أهل البيت.

(الوجه الرابع): أن قوله في الأحاديث التي يستدل بها أهل السنة على السمع والطاعة لولي الأمر، فلما سمعها أهل البيت وجدوها مخالفة لكتاب الله، كذب ظاهر على أهل البيت -عليهم السلام-؛ فإن كثيرا من أهل البيت، مذهبهم مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، هذا الحسن بن علي رضي الله عنه انخلع لمعاوية رضي الله عنه وبايعه، وأمر كل من بايعه، وبايع أباه بمبايعة معاوية، والسمع والطاعة له، وهو عند هذا المعترض وأمثاله من أئمة الجور. وأما عند أهل السنة والجماعة فهو من خيار ملوك الإسلام، وأعدلهم، وأحسنهم سيرة، ونهى أخاه الحسين عند موته عن طاعة سفهاء الكوفة.

وهذا ابن عباس، وهو من أئمة أهل البيت: نهى ابن عمه الحسين رضي الله عنه عن الخروج، وكذلك محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، وهؤلاء من أئمة أهل البيت، وقد تقدم النقل عنهم بذلك. وذكرنا من رواه من الأئمة.

(الوجه الخامس): أن أهل السنة رحمهم الله بينوا أن هذه الأحاديث المروية عنهم في السمع والطاعة لولي الأمر هي الموافقة لكتاب الله حقا، لا تخالفه، بل القرآن يصدقها، ويدل على ما دلت عليه؛ لأن الجميع من عند الله. والرسول ﷺ أعلم بكتاب الله من أهل البدع، وكذلك أصحابه وأهل بيته.

قال العلماء: كان جبريل ينزل على النبي ﷺ بالسنة كما ينزل بالقرآن، وقد أمر الله بطاعة رسوله ﷺ في القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وأخبر أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر في القرآن، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} الآية، قال أئمة التفسير: هم العلماء والأمراء.

(الوجه السادس): أن هذه الآيات التي ذكر أنها تخالف هذه الأحاديث، قد بين أهل التفسير معناها، وليس فيها ما يخالف كلام الرسول ﷺ ولا ما يدل على مراد هذا المعترض، وأشباهه من أهل البدع؛ كالخوارج، والمعتزلة. ونحن نذكر كلام أئمة التفسير رحمهم الله في هذه الآيات؛ لنبين بطلان ما ذهب إليه هذا المعترض.

قال أبو حيان رحمه الله في تفسيره المسمى بالبحر: والعهد -يعني في الآية- الإمامة، قاله مجاهد، أو النبوة، قاله السدي، أو الأمان، قاله قتادة وروي عن السدي واختاره الزجاج، أو الثواب، قاله قتادة أيضا، أو الرحمة، قاله عطاء، أو الدين، قاله الضحاك والربيع، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه، قاله ابن عباس، أو الأمر من قوله: {إن الله عهد إلينا}. {ألم أعهد إليكم}، أو إدخاله الجنة من قوله: "كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة"، أو طاعتي [21] قاله الضحاك، أو الميثاق أو الأمانة، والظاهر من هذه الأقوال: أنها الإمامة؛ لأنها هي المصدر بها، فأعلم الله إبراهيم عليه السلام أن الإمامة لا تنال الظالمين. انتهى كلامه.

وقد جمع لك كلام المفسرين في هذه الآية في هذا المختصر، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على الخروج على ولي الأمر ومقاتلته بالسيف وأنه لا يطاع إذا أمر بطاعة الله وطاعة رسوله. وأهل السنة أهل عدل وإنصاف واتباع للحق؛ لأنهم لم يأمروا بطاعة ولي الأمر في المعصية، بل أمروا بطاعته إذا أمر بطاعة الله، فإذا أمر بالمعصية فلا سمع له ولا طاعة. لكن لا يجوزون الخروج عليه [22] ولا يكون عندهم إماما في الدين إذا كان ظالما.

والآية تدل على أن الظالم لا يكون إماما في الدين، وليس فيها ما يدل على أنه إذا غصب الناس، وتولى عليهم، وصار معه أهل الشوكة، وأهل الحل والعقد لا تجوز طاعته في الطاعة ومبايعته، فيتبين بما ذكرنا: أن هذه الآية ليس فيها دليل على ما ذهب إليه أهل البدع، والله أعلم.

وأما الآية الثانية التي احتج بها وهي قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، فقال أبو العالية: في معنى {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}، قال: المعنى: لا ترضوا بأعمالهم، وقال ابن عباس: معنى الركون: الميل، وقال السدي، وابن زيد: لا تداهنوا الظلمة، وقال سفيان: لا تدنوا من الذين ظلموا.

وقال جعفر الصادق: {إلى الذين ظلموا} إلى أنفسهم؛ فإنها ظالمة، وقيل: لا تشبهوا بهم. ذكر هذه الأقوال كلها أبو حيان النحوي في تفسيره "البحر"، ولم يذكر أحد من المفسرين أن الآية تدل على أن الظالم إذا تولى على الناس وقهرهم بشوكته وسلطانه، لا تصح ولايته، ولا تجوز طاعته إذا أمر بطاعة الله.

وجميع أهل السنة والجماعة متفقون على أن الركون إلى الظلمة لا يجوز على ما فسره علماء التفسير، كابن عباس وأبي العالمية، فلا يجوز الميل إليهم ولا الرضى بأعمالهم التي تخالف كتاب الله وسنة رسوله. وكذلك لا تجوز مداهنتهم، بل ينكر عليهم ما فعلوه من المنكر بلسانه إذا قدر على ذلك، فإن لم يقدر أنكره بقلبه، كما في الحديث المرفوع أنه لما ذكر الظلمة قال: "من أنكره فقد سلم ومن كره فقد برئ، ولكن من رضي وتابع". [23] فتبين بما ذكرناه أن الآية لا تدل على ما ذهب إليه هذا المعترض، ومن نحا نحوه من أهل البدع.

وأما الآية الثالثة وهي: قوله تعالى: {وما كنت متخذ المضلين عضدا}، قال أهل التفسير: {المضلين} يعني الشياطين؛ لأنهم الذين يضلون الناس، {عضدا} قال قتادة: أعوانا يعضدونني إليها، والعضد كثيرا ما يستعمل في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد، ومنه قوله: {سنشد عضدك بأخيك} أي: سنعينك ونقويك به، فهذا إخبار عن كمال قدرته، واستغنائه عن الأنصار والأعوان، والله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى إعانة أحد من خلقه، بل هو الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فهل في هذه الآية ما يدل على مقصود هذا المعترض، الجاهل بوجه من الوجوه؟

(الوجه السابع): أن يقال: احتجاجه بهذه الآيات على معارضة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ في السمع والطاعة لولي الأمر ومناصحته، من جنس احتجاج الخوارج وأشباههم على بطلان ولاية علي وإمامته، بقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، وإنما أتوا من قلة معرفتهم بتفسير كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ومن جنس احتجاج الرافضة، ومن نحا نحوهم على كفر الصحابة، وظلمهم بقوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه}. وكذلك احتجاجهم على إمامة علي بعد رسول الله ﷺ بقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} الآية. وكذلك احتجاج الجهمية، والمعتزلة على نفي الصفات الواردة في القرآن والسنة بقوله تعالى: {هل تعلم له سميا} وقوله: {ليس كمثله شيء}. وكل هذه الآيات لا تدل على ما ذهبوا إليه، وإنما تدل على ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم؛ لأن القرآن يصدق بعضه بعضا، وكذلك الأحاديث يصدق بعضها بعضا، والسنة الصحيحة لا تخالف الكتاب؛ لأن الجميع من مشكاة واحدة {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

(الوجه الثامن): أن يقال قوله: (ونظروا في الأحاديث الموجبة لطاعة أئمة الجور، فوجدوها قد رواها خصومهم عنه) كذب ظاهر وتمويه على الجهال الأصاغر، فإن الأحاديث التي فيها السمع والطاعة لولي الأمر قد رواها جماعة كثيرة من الصحابة من أهل البيت وغيرهم، ولم يردها علماء أهل البيت، بل تلقوها بالقبول كما تقدم النقل عنهم بذلك. [24] وبينا أن أهل البيت اختلفوا في جواز الخروج على أئمة الجور. فمنهم من يرى ذلك ويفعله، ومنهم من لا يرى ذلك ولا يفعله، بل ينهى عنه ويكرهه. ولو لم يكن إلا فعل الحسن رضي الله عنه لكفى به تكذيبا لما حكاه هذا المعترض، ولكن هذا وأشباهه من أهل البدع ينتسبون إلى أهل البيت، وينقلون مذاهبهم الباطلة عنهم، فينسبونها إليهم، ويكذبون عليهم، ولا يميزون بين الصدق والكذب، فلا نقل صحيح، ولا عقل مليح، نسأل الله العفو والعافية.

فصل (في أهواء الشيعة والخوارج في حديث الردة وحديث الوصية بآل البيت)

وأما قوله: (ولقد قرر هذا الواقع على أهل بيت رسول الله ﷺ ما حذر عنه الأمة والصحابة من لا ينطق عن الهوى ﷺ فيما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: "إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا" الحديث، وكذلك حديث ابن مسعود وما في معناهما، وكذلك قوله: وقد فسر هذين الحديثين للذين ذكرهما ﷺ بمخالفة كتاب الله عز وجل وأهل بيت رسول الله ﷺ ما أخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن أرقم قوله ﷺ: "إني لكم فرط" [25] الحديث وما في معناه من الأحاديث).

فالجواب عن ذلك من وجوه:

(أحدها): أن يقال: حديث ابن عباس وحديث ابن مسعود المتفق عليهما وما في معناهما من الأحاديث الصحيحة [26] قد رواها أهل العلم، وفسروها بأن المراد بها الذين ارتدوا بعد موت رسول الله ﷺ، فقاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة معه، كأصحاب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة، ومن معهم من قبائل العرب، فجهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش، وأمر عليهم خالد بن الوليد، وقاتلهم حتى قتل منهم على الردة جماعة كثيرة، ودخل بقيتهم في الإسلام طوعا وكرها، وظهر مصداق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} الآية. قال الحسن البصري رحمه الله: هم والله أبو بكر، وأصحابه.

وقد روى البخاري في صحيحه تفسير ذلك بما ذكرنا، فقال في ترجمة مريم من (أحاديث الأنبياء)، قال الفربري: عن أبي عبد الله البخاري، عن قبيصة قال: هم الذي ارتدوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر، يعني حتى قتلهم، وماتوا على الكفر.

قال الخطابي: لم يرتد من الصحابة أحد، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا بصيرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المذكورين.

قال الحافظ: ورجح عياض والباجي وغيرهما ما قاله قبيصة راوي الخبر، ولا يبعد أن يدخل في ذلك أيضا من كان في زمنه من المنافقين، كما في حديث الشفاعة: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها"، [27] فدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين.

(الوجه الثاني): أن يقال: الخوارج، ومن سلك سبيلهم يحملون هذه الأحاديث على علي رضي الله عنه ومن والاه، ويقولون: إنهم ارتدوا، وأشركوا، فكما أنهم مخطئون ظالمون في ذلك، فكذلك الروافض، والشيعة الذين يحملون هذه الأحاديث على أصحاب رسول الله ﷺ كأبي بكر وعمر وجمهور الصحابة، أو على معاوية ومن قاتل معه عليا؛ بل قولهم أظهر فسادا، وأبعد عن الحق والصواب من قول الخوارج، فإن كان كلامهم صحيحا فكلام الخوارج أقرب إلى الصحة.

(الوجه الثالث): أن أهل البيت الذين ذكروا في حديث زيد بن أرقم، وما في معناه هم قرابة رسول الله ﷺ الذين حرمت عليهم الصدقة، قال: علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل أبي لهب، كما أخبر بذلك زيد بن أرقم، وهو راوي الخبر، كما ذكر ذلك مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، وغيرهما من أهل الحديث، وهذا لفظهما، وروايتهما: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان اليمني، حدثني يزيد بن حبان، قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة، وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه، قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا؛ رأيت رسول الله ﷺ وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت معه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ﷺ فقال: يا ابن أخي، والله لقد كبر سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ﷺ فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال: قام فينا رسول الله ﷺ يوما خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر ووعظ، ثم قال: "أما بعد؛ ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به"، فحث على كتاب الله ورغب فيه، وقال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس، قال: أكل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. [28]

فانظر -رحمك الله- إلى كلام الصحابي، راوي الخبر، وإخباره أن أهل البيت كل من حرم الصدقة بعده؛ [29] والرافضة والشيعة تحمل هذه الأحاديث على آل علي خاصة. [30]

(الوجه الرابع): أن يقال: هذه الأحاديث أكثرها مطعون في صحتها، لا تقوم بها حجة، والصحيح منها لا يدل على مقصود هذا المعترض وأشباهه من أهل البدع، وذلك لأن مدلولها يعم أهل البيت، كآل علي، وآل العباس، وآل عقيل، وآل جعفر، وغيرهم ممن حرمت عليه الصدقة، وتدل على أن إجماعهم حجة، وأنهم لا يجمعون على مخالفة كتاب الله وسنة رسوله.

وأما إذا اختلفوا لم يكن قول أحدهم حجة على الآخر، بل يجب الرد عند التنازع إلى الله وإلى الرسول، كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.

(الوجه الخامس): أن يقال: الذين ظلموا أهل البيت وقتلوهم، أو أحدا منهم، هم عند أهل السنة والجماعة أئمة جور وظلم، لا يحبونهم ولا يوالونهم، بل يبغضونهم ويعادونهم، ويلعنون من ظلمهم، وهذه كتبهم محشوة بالثناء على أهل البيت، والدعاء لهم، والترضي عنهم، وذم من ظلمهم، ولو ذهبنا نذكر نص كلامهم، لطال الكتاب جدا.

فتبين بما ذكرنا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه، وأن مذهب الرافضة والزيدية هو المخالف لكتاب الله وسنة رسوله، ولما أجمع عليه أهل البيت النبوي. والله أعلم.

فصل (في تفسير قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)

وأما قوله: (وأما أدلة السائل وحجته على أن معتمده وطريقه إلى جده ﷺ أهل الحق، أعني أهل البيت، سلام الله عليهم في الكتاب والسنة، أما الكتاب فآيات قد أضاء نورها، أولها قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} وقوله: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}. ووجه الدلالة: أن الله لا يأمر بمودة من ليس على الحق... إلى آخره.

فيقال: هذا من تمويهه على الجهال الذين لا يميزون بين الحق والباطل، وليس كل من احتج بالقرآن يدل على ما احتج به عليه، وإنما يعرف معاني القرآن والسنة أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، كابن عباس رضي الله عنهما وعلي بن الحسين ومن شابههم من أهل العلم الذين يعرفون مراد الله ورسوله.

وقد صح عن ابن عباس أنه فسر قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} بأن المراد بذلك: أن يصلوا ما بينهم وبين رسول الله ﷺ من قرابة، ويكفوا عنه الأذى، ويدعوه يبلغ رسالات ربه، كما قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، سمعت طاووسا، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله: {إلا المودة في القربى}، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد. فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي ﷺ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة" انفرد به البخاري.

ورواه الإمام أحمد عن يحيى القطان عن شعبة به. قال ابن كثير: وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران، وغير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي، رواه الطبراني بإسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ "لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم". وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: "لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا، إلا أن تودوا الله وتتقربوا إليه بطاعته"، هكذا روى قتادة عن الحسن البصري عن ابن عباس مثله. وهذا كأنه تفسير بقول ثان. وقول ثالث، وهو ما حكاه البخاري وغيره عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال: معنى ذلك أن تودوني في قرابتي، أي تبروهم وتحسنوا إليهم. قال ابن كثير: والحق تفسير الآية بقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه عنه البخاري، [31] ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة وأشرف بيت وجد على ظهر الأرض فخرا وحسبا ونسبا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذويه.

ثم ذكر ابن كثير رحمه الله الأحاديث في وصية رسول الله ﷺ بهم وساقها من وجوه متعددة.

فصل (في تفسير إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وتحريف الشيعة لها)

وأما قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}، فقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذا نص في دخول أزواج النبي ﷺ في أهل البيت لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا. إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح.

وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس في قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} قال: نزلت في نساء النبي ﷺ. وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي ﷺ. فإن كان المراد أنهن سبب النزول دون غيرهن فهذا حق، وإن كان المراد أنها لا تعم غيرهن ففي هذا نظر؛ فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، ثم ساق الأحاديث بطولها. انتهى معنى ما ذكره ابن كثير.

ومن تدبر القرآن لم يشك أن نساء النبي ﷺ داخلات في قوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}؛ لأن سياق الكلام معهن. [32] ولهذا قال بعد هذا كله: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} أي: واعملن بما أنزل الله على رسوله في بيوتكن، من الكتاب والسنة، قاله قتادة، وغير واحد من المفسرين، وعائشة بنت الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها- أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، فإنه لم ينزل على رسوله ﷺ الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك رسول الله ﷺ. قال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج بكرا غيرها، ولم ينم معها رجل في فراشها غيره ﷺ فناسب أن تخص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية.

والمقصود: أن هذه الآية تناقض مذهب هذا المعترض وترد عليه وتنادي ببطلان مذهبه من وجوه كثيرة:

(منها): أنها عامة في جميع أهل البيت كآل العباس وآل جعفر وآل الحارث بن عبد المطلب، وهو إنما يظن أن المراد بها آل علي خاصة.

(ومنها): أن أزواجه داخلات في جملة أهل البيت، وهم يزعمون أن عائشة ومن معها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مخطئون عاصون في قتالهم عليا وأصحابه.

(ومنها): أنه ليس فيها دليل على عصمة أهل البيت، لأن العلماء رحمة الله عليهم ذكروا أن الإرادة في القرآن نوعان: إرادة شرعية دينية، وإرادة قدرية كونية؛ فالأولى كقوله في هذه الآية: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وقوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} الآية وقوله: {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}. وأخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين ويطهرهم؛ وفيهم من تاب ومن لم يتب ومن تطهر ومن لم يتطهر، فلا يكون فيها دليل على العصمة ولا الإمامة. [33] وأما الإرادة الكونية القدرية فكقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} الآية، وقوله: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا} وقوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية} الآية، وقوله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} الآية. وهذه هي الكلمات التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر.

ولفظ (الرجس) أصله القذر، ويراد به الشرك كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}، ويراد به الخبائث المحرمة كقوله: {أو لحم خنزير فإنه رجس}. ونحن نقطع أن الله أذهب عنهم الرجس والخبائث، فمن تاب وقع ذنبه مكفرا أو مغفورا له، فقد طهره الله تطهيرا.

فتبين بما ذكرنا: أن الآيات التي احتج بها قد أضاء نورها في بطلان ما ذهب إليه هذا المعترض، وهو المطلوب.

فصل (في أهواء الشيعة في مناقب أحاديث آل البيت)

وأما قوله: (وأما الأحاديث ففي الترمذي عن زيد بن أرقم قوله ﷺ: "إني تارك فيكم ما إن استمسكتم به لن تضلوا بعدي" إلى آخره، وكذلك حديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن أبي شيبة وابن سعد وأحمد، وكذلك حديث أبي ذر: "مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه" إلى آخره، وكذلك حديث ابن الزبير، وكذلك حديث أبي سعيد وغيره مما ذكر).

(فالجواب) أن يقال: قد تقدم الجواب عن حديث الثقلين وما في معناه قريبا، وبينا أنها لا تدل على مقصود هذا المعترض، بل تدل على نقيض مقصوده، وإنما تدل على أن إجماع أهل البيت حجة، وأنهم لا يجمعون على باطل لأن الله عصمهم من ذلك، كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيره، ذكره القاضي في المعتمد.

ومن العجب قوله: قال بعض أهل التحقيق: إن حديث الثقلين متلقى بالقبول، والأمة مجمعة على صحة هذا الحديث. وهذا كذب ظاهر، فإن حديث زيد بن أرقم الذي في صحيح مسلم الذي فيه ذكر الثقلين، قد طعن فيه غير واحد من أهل العلم بالأحاديث والأخبار كأبي حاتم الرازي وأبي داود السجستاني، فأهل الحديث اختلفوا في صحته: فصححه بعضهم وطعن فيه بعضهم، فضلا عن جميع الأمة.

وأما الأحاديث الأخرى التي ذكرها فليست في دواوين الإسلام المعتمدة كالصحيحين والسنن الأربعة، وإنما يرويها بعض أهل الحديث المتأخرين الذين يروون الصحيح والضعيف والموضوع. وعلى تقدير صحتها فليس فيها حجة على العصمة ولا على الإمامة؛ لأنها عامة في جميع أهل البيت. ومعلوم أن بني العباس من أهل البيت، وهم عند هذا المعترض من أئمة الجور والظلم، فمدلول هذه الأحاديث يناقض مذهب هذا المعترض وأشباهه من أهل البدع، والله أعلم.

فصل (جدليات الشيعة في أهل السنة وآل البيت)

وأما قوله: (فلنرجع إلى الكلام على السؤال والجواب، وإظهار ما فيه من خطأ وصواب)، وقوله في الجواب (اعلم أن قولنا في هذه الآيات وما أشبهها من آيات الصفات الواردة في القرآن العزيز والأحاديث الواردة في الصحاح، وغيرها هو مذهب السلف الصالح، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...) إلى آخره. ثم قال معترضا عليه: أقول: قد تحجرت واسعا، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، فقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين رحمة لك ولأهل مذهبك وللمتسمين بأهل السنة والجماعة خاصة، وأضفته إلى رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، وجعلتهم سلفا لك ولأهل نحلتك، فيا ليت شعري أين تضع أهل بيت رسول الله ﷺ وقد أخرجتهم عن أن يكون سلفهم جدهم ﷺ وأصحابه وتابعيهم لما فسروا كتاب الله وتأولوا صفات الله على ما تقتضيه لغة العرب، فقد قال تعالى: {قرآنا عربيا غير ذي عوج}. فلقد فرقت بين النبي ﷺ وآله وقطعت ما وصله الله ورسوله وخالفت قوله ﷺ فيما قاله لعلي: "أما [34] تكون رابع أربعة: أول من يدخل الجنة أنا وأنت، والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذرياتنا خلف أزواجنا" أخرجه الثعلبي وأحمد في المناقب، وفي رواية أخرى أخرجها بعد ذكر الذرية: "وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا" إلى آخره.

(فالجواب) أن يقال: في هذا الكلام من الكذب والزور والظلم أنواع كثيرة:

(الأول): قوله: قد تحجرت واسعا، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين رحمة لك ولأهل مذهبك؛ وهذا كذب ظاهر على المجيب لأنه لم يخص أحدا معينا، بل أخبر أن مذهبه في هذه الآيات وما أشبهها من الأحاديث مذهب السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهذا كلامه صريحا في تكذيب هذا المعترض.

(الثاني): قوله: فقد جعلت سيد المرسلين الذي هو رحمة للعالمين رحمة لك ولأهل مذهبك، وهذا أيضا كذب ظاهر على المجيب؛ لأن ظاهر كلامه على صريحه يناقض ما ذكره هذا المعترض، وكل من اتبع كتاب الله وسنة رسوله من جميع الطوائف فهو عنده من أهل الرحمة الناجين، ولا يخالف في هذه المسألة أحد من أمته ﷺ؛ لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة، وإنما الشأن في تحقيق هذه الدعوى بالعمل، وقد قال تعالى في كتابه: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} الآية، فدلت هذه الآية الكريمة على أن كل من أطاع الله ورسوله من الأولين والآخرين، فهو من أهل الجنة الناجين.

(الثالث): قوله: وللمتسمين بأهل السنة والجماعة خاصة. وهذا أيضا كذب على المجيب، لأن الذي ذكر المجيب -كما نقله هو عنه- أنه ما درج عليه رسول الله ﷺ والمجيب يعلم أن كثيرا من أهل البدع يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة، وليسوا كذلك، بل هم مخالفون للسنة الثابتة عن رسول الله ﷺ ولجماعة أهل الحق، كالخوارج والمعتزلة الذين يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وهم في الحقيقة أهل ظلم وشرك.

وكذلك الروافض والشيعة الذين يسمون أنفسهم شيعة آل محمد، وهم أعداء آل محمد في الحقيقة كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع الأنبياء، وينتسبون إليهم، وهم أعداؤهم حقا، ولهذا امتحنهم الله تبارك وتعالى بهذه الآية الكريمة لما ادعوا محبة الله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} الآية.

(أئمة آل البيت في مقدمة السلف الصالح عند أهل السنة)

(الرابع): قوله: فيا ليت شعري، أين تضع أهل بيت رسول الله ﷺ فقد أخرجتهم عن أن يكون سلفهم جدهم ﷺ وتابعيهم؟ وهذا من أظهر الكذب والفجور على المجيب؛ لأن أهل بيت رسول الله ﷺ هم أئمته وسلفه فيما ذكر؛ لأنه بين في كلامه أن مذهبه ما درج عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، وتابعوهم إلى يوم الدين، فأين في هذا أنه أخرج أهل بيت رسول الله ﷺ من هذه الجملة؟ بل صريح كلامه أنهم داخلون فيمن انتسب إليهم؛ لأن قوله: وأصحابه وتابعوهم إلى يوم الدين، يعم؛ فيدخل فيه علي وسبطا رسول الله ﷺ، وابن عباس، وأبوه العباس، وغيرهم من أهل البيت الذين اتبعوا سلفهم الصالح، فكيف يقول هذا الكاذب الفاجر أن المجيب أخرجهم من هذه الجملة؟

(تأويل الصفات ابتدعه الجهمية وتبعهم الخوارج)

وأما قوله: فقد أخرجتهم عن أن يكون سلفهم جدهم ﷺ وأصحابه، وتابعيهم لما فسروا كتاب الله، وتأولوا صفات الله على ما تقتضيه لغة العرب، فقد قال تعالى: {قرآنا عربيا غير ذي عوج}، فالمجيب إنما أخرج من هذه الجملة أهل البدع والضلال الذين يكذبون على رسول الله ﷺ وأهل بيته، وينسبون أقوالهم الباطلة إليهم، ويتأولون كتاب الله على غير تأويله، وعلى غير ما فسره به الصحابة والتابعون، بل يحرفون الكلم عن مواضعه، كفعل اليهود والنصارى كالجهمية والمعتزلة، ومن شابههم من هذه الأمة؛ الخوارج، والشيعة الذين يعطلون صفات الله، ويصفونه بصفات المعدومات، ويجحدون ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ أو يتأولونه على غير ما دل عليه عند علماء العربية.

والمقصود أنه بين في كلامه أن المذهب الصحيح الصواب في مسألة الصفات هو ما درج عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحق لا يخرج عنهم، بل الحق يدور معهم حيث داروا؛ لأن الطرق كلها مسدودة إلى الله، وإلى جنته إلا من طريقه -صلوات الله وسلامه عليه- وهذا مجمع عليه بين فرق الأمة، وإنما الشأن في تحقيق الدعوى وتحقيق المنقول عنه -صلوات الله عليه-، والتمييز بين الصحيح والكذب، وأهل العلم كلهم من جميع الفرق يتفقون على أن طريقة أهل التأويل مبتدعة؛ ابتدعها أوائل الجهمية والمعتزلة الذين أخذوها عن الصابئين من المشركين أعداء الإسلام، ولا تؤثر عن أحد من السلف الصالح، لا عن رسول الله ﷺ ولا عن أهل بيته، ولا عن أحد من أصحابه، ولا التابعين لهم بإحسان.

ولما حدثت هذه البدعة في أواخر دولة بني أمية، أمر العلماء كالحسن البصري وغيره من أهل العلم بقتل من ابتدعها، وهو الجعد بن درهم، فضحى به الأمير خالد بن عبد الله القسري بواسط بالعراق، فخطب الناس وقال: "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما"، ثم نزل فذبحه لإنكاره الخلة والتكليم، وذلك أن أهل البدع يزعمون أن الله لا يتكلم ولا يحب خلقه ولا يخالل أحدا، ويزعمون أن هذا من صفات المخلوقين، ويتأولون الآيات التي فيها إن الله يتكلم أو يحب أو يتخذ إبراهيم خليلا على غير مدلولها، كما ذكر ذلك أهل العلم من أهل التواريخ وغيرهم. فقد خالفت ما عليه رسول الله ﷺ وأهل بيته والتابعون لهم بإحسان، واتبعت سبيل المبتدعة الضالين، وذممت طريقة رسول الله ﷺ وأصحابه وكل من اتبعهم، وزعمت أنها تقتضي التشبيه والتجسيم، ومدحت طريقة جهم بن صفوان وجعد بن درهم، وزعمت أنها هي الحق الذي يجب اتباعه، ونسبتها بجهلك إلى رسول الله، وأهل بيته.

وقد ذكر البخاري رحمه الله في كتابه خلق أفعال العباد قصة جهم بن صفوان وجعد بن درهم، وكان جعد أخذ هذا المذهب عن الصابئين وأخذه عنه الجهم بن صفوان. قال [35] رحمه الله: حدثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب، عن أبيه عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم الأضحى وقال: "ارجعوا وضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا" ثم نزل فذبحه. قال أبو عبد الله: بلغني أن جهما كان يأخذ هذا الكلام عن الصابئة.

فصل (أهل البدع والضلال شاقوا الله ورسوله واتبعوا غير سبيل السلف)

وأما قوله: فلقد فرقت بين النبي ﷺ وقطعت ما وصله الله ورسوله، فهذا كذب وافتراء على المجيب، لا يمتري فيه ذو قلب منيب. وذلك أن المجيب قرر في كلامه مذهب السلف الصالح، وهو ما عليه رسول الله وأصحابه، وذكر الأدلة على ذلك من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم. وإنما الذي قطع ما أمر الله به أن يوصل وفرق بين رسول الله ﷺ هم أهل البدع والضلال الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى واتبعوا غير سبيل المؤمنين، [36] فأولئك يوليهم الله ما تولوا ويصليهم جهنم وساءت مصيرا، ولو ادعوا اتباعهم وانتحلوا طريقتهم كذبا وافتراء عليهم.

فصل (اتهام الزيدي المجيب بالتكفير)

وأما قوله: أولم تدر أنك ضللت، وكفرت من خالف مذهبك؟ استنادا إلى الأوزاعي الذي يدعي أن الحق معه، وأن التابعين أجمعوا على ما ادعاه.

(فالجواب) أن يقال: في هذا الكلام من الكذب والظلم والجهل أنواع كثيرة:

(الأول) قوله: إنك ضللت وكفرت من خالف مذهبك في مسألة الصفات، فإن الأمة اختلفوا في هذه المسائل اختلافا كثيرا ولم يكفر بعضهم بعضا، وإنما يكفرون من خالف نص كتاب أو سنة وقامت عليه الحجة واعتقد أن الحق خلاف ذلك. وأما نحن فلم نكفر أحدا بهذه الأمور، وإنما كفرنا من أشرك بالله وعبد معه غيره وقامت عليه الحجة، واستهزأ بالدين الذي جاء به محمد ﷺ من عند الله أو شيء منه، أو كرهه وأبغضه.

والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار}. وقال تعالى لنبيه ﷺ: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}. وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وقال تعالى: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء} الآية. وقال تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}. وقال تعالى: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}.

(الثاني): قوله: استنادا إلى الأوزاعي الذي ادعى أن الحق معه، لأن الأوزاعي رحمه الله لم يدع أن الحق معه بل ذكر أن مذهبه هو ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه وما أجمع عليه التابعون. ومعلوم أن الحق معهم، لا يمتري في ذلك مسلم. وإذا تنازع الناس في مسألة من المسائل الأصولية والفروعية، فالصواب والحق مع من كان الدليل معه كائنا من كان.

(الثالث): قوله: وإن التابعين أجمعوا على ما ادعاه؛ لأن الإجماع في هذه المسألة قد حكاه غير واحد من أهل العلم، كمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأبي عمر بن عبد البر وغيرهما. فثبت عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال: "اتفق الفقهاء من الشرق والغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله ﷺ في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا تشبيه، فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي ﷺ وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، فمن قال بقول جهم فارق الجماعة". انتهى.

فانظر -رحمك الله- إلى هذا الإمام، كيف حكى الإجماع في هذه المسألة؟ ولا خير فيما خرج عن إجماعهم، ولو لزم التجسيم عن السكوت عن تأويلها لفروا منه، فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله وما يمتنع عليه. وثبت عن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد بها رسوله ﷺ، على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية". وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتشبيه، ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتشبيه، واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. وبقوله تعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}.

فتبين بما ذكرنا بطلان قول المعترض؛ استدلالك بما رواه الأوزاعي من الإجماع آحادي، ولا يجوز تكفير المسلمين إلا بقطعي المتن والدلالة.

فصل (قول السلف في الاستواء على العرش)

وأما قوله: (إنك ادعيت أن الذي تذهب إليه ترك التعرض لتفسير آيات الصفات، والأوزاعي روى خلاف ما تدعي، فإنه قال: كنا والتابعون نقر بأن الله فوق عرشه. وإذا أثبت التابعون والأوزاعي الفوقية لله على العرش فقد فسروا، [37] فكأنهم قالوا معنى قوله: {الرحمن على العرش استوى} أي كان فوقه، وأنت تقول: إنك لا تتعرض لتفسير آيات الصفات، فما الجامع بين كلامك وكلام الأوزاعي والتابعين؟ فكيف تستدل به على تكفير المسلمين؟.

(فالجواب) أن يقال: هذا الكلام من المعترض مما يدل على جهله وقلة معرفته بكلام الأئمة ومرادهم، فإن كلام الأوزاعي وغيره من أهل السنة معناه: أنهم لا يفسرون ولا يكيفون صفات الله كالاستواء على العرش والنزول والمجيء والغضب والرضى والمحبة وغير ذلك من الصفات. فيقولون مثلا في الاستواء: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقيل له: يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى}، كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلاه الرحضاء- يعني العرق- وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، وقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج.

ومن أول الاستواء بالاستيلاء فذاك هو الذي فسر، وهذا تأويل الجهمية والمبتدعة الضالين، وهم أئمة هذا المعترض، الذين فارقوا ما عليه أصحاب رسول الله ﷺ وابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله، والدليل على أن مذهب السلف ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار رسول الله ﷺ، نقل مصدق لها يؤمن بها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات بتأويل ولا غيره، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم، ولم يجز أن يكتم بالكلية، إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته؛ لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب، وفعل ما لا يحل، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا، أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وزجره، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته.

ولذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن صبيغا يسأل عن المتشابه، أعد له عراجين النخل، ثم أمر به فضرب ضربا شديدا، وبعث به إلى البصرة، وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب لا يأتي مجلسا إلا قالوا: عزله أمير المؤمنين فتفرقوا عنه.

وقال سعيد بن جبير: ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين.

وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله تعالى، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تتعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف الله به نفسه أو على لسان نبيه ﷺ.

وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير أنه قال: أصول السنة -فذكر أشياء- ثم قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} ومثل: {والسماوات مطويات بيمينه} وما أشبه هذا من القرآن والحديث، ولا نزيد فيه ولا نفسره. ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول: {الرحمن على العرش استوى}. فمن زعم غير هذا فهو جهمي. فمذهب السلف رحمة الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها

فصل (في إنكار الزيدي صفة العلو والفوقية لله تعالى والرد عليه)

وأما قوله: (وأنت أيضا قد ناقضت كلامك بكلامك؛ حيث قلت: وذلك مثل وصف نفسه تبارك وتعالى بأنه فوق السماوات مستو على عرشه. فقد فسرت كتاب الله، وأثبت له صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم، وليست الفوقية مذكورة في قوله: {الرحمن على العرش استوى}.

(فالجواب) أن يقال: قد ذكرنا أن تفسير الصفات -الذي نفيناه في كلامنا وذكرنا نفيه عن السلف- هو تأويل آيات الصفات وأحاديثها بتأويلات الجهمية والمعتزلة، الذين يفسرون الاستواء بالاستيلاء والفوقية بالقهر واليد بالنعمة، وما أشبه ذلك. ويفسرونها بتفسير المشبهة الذين يقولون: استوى كاستواء المخلوق على سريره، ويفسرون اليد بالجارحة كجارحة المخلوق.

فكل هذا من التفسير المردود المبتدع المحدث في الدين، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف بإسناد صحيح ولا ضعيف، حتى إن المخالفين لهم في ذلك يقرون بأن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها إمرارها كما جاءت، من غير تعرض لتفسير أو تأويل، مع نفي التشبيه عنها، ويقولون: هذا أسلم. وأما مذهب الخلف فهو تأويلها وتفسيرها بما يليق بالله سبحانه، فحصل الاتفاق من الموافق والمخالف على أن مذهب السلف ما ذكرنا، ولله الحمد والمنة.

وأما وصف الرب بالفوقية فقد صرحت الآيات الكريمات بذلك، وكذلك الأحاديث الثابتة المتواترة، وأجمعت عليه الأمم عربهم وعجمهم؛ لأن الله فطرهم على ذلك، إلا من شذ واجتالته الشياطين عن فطرته التي فطره الله عليها، وهذا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ.

وعامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة مملوء بما هو؛ إما نص، وإما ظاهر، في أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، وأنه عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، {إني متوفيك ورافعك إلي}، {أأمنتم من في السماء}، {تعرج الملائكة والروح إليه}، {يخافون ربهم من فوقهم}، {ثم استوى على العرش} في ستة مواضع، إلى أمثال ذلك مما لا يحصى إلا بكلفة.

يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول ﷺ يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضي مقاييسكم، فإنه الحق، وما خالفه فلا تعتقدوه وانفوه.

ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم شقاء وضلالا. ونحن لم نصف الله بالفوقية، وإنما هو سبحانه هو الذي وصف نفسه بذلك، فبطل قول المعترض، وكلامه صريح بأنه اتبع ما قاله الله ورسوله، وأن الله هو الذي وصف نفسه بذلك.

وأما قوله: "فقد فسرت كتاب الله". فهذا كذب وافتراء على المجيب، يعرفه كل منصف لبيب، وهذا المعترض لا يستحي من كثرة الكذب، نعوذ بالله من ارتكاب الهوى، والتعصب على الباطل، اللذين يصدان عن اتباع الحق وإرادته.

وقوله: "وأثبت لله صفة وهي الفوقية المستلزمة للتجسيم". كذب ظاهر؛ لأن إثبات الفوقية لا يلزم منه ذلك عند من قال به، والله سبحانه وتعالى أعلم من خلقه بما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، يردون ما جاء به الرسول ﷺ من عند الله بهذه الأمور القبيحة، كما أن الجهمية أنكروا تكليم الله لموسى عليه السلام وغيره من خلقه، وزعموا أن القرآن مخلوق، قالوا: لأن الكلام إذا أطلق على ظاهره يلزم منه الجسم.

وكذلك أنكروا رؤية الله في الآخرة، وزعموا أن المرئيات لا تكون إلا جسما. ولهذا لما ظهرت الفتنة في إمارة المأمون العباسي، وامتحن العلماء بالضرب والحبس على أن يقولوا: "القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة"، وجرى أمور عظيمة وقتلوا بعض العلماء، وضربوا الإمام أحمد لما امتنع من القول بذلك. ولما ناظره برغوث تلميذ حسين النجار بأن الله لو كان متكلما لكان جسما، قال الإمام أحمد: لا أدري ما تقولون، ولكن أقول: {الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} فأجابهم الإمام أحمد بطريقة الأنبياء وأتباعهم، وهو الاعتصام بكتاب الله وترك البدع والمقاييس التي لم يأت بها كتاب ولا سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل (لا يكفر إلا من أنكر ما علم مجيء الرسول به ضرورة)

وأما قوله: (إن روايتك عن الأوزاعي مرسلة لم تذكر طريقها، ولا مخرجها، ولا من صححها، فكيف تكفر بها المسلمين؟).

(فالجواب) أن يقال: هذا المعترض لا يعرف معنى المرسل عند أهل الحديث، ولا يميز بينه وبين المنقطع أو المعضل؛ لأن هذا لا يسمى مرسلا، وإنما المرسل ما أرسله التابعي عن النبي ﷺ وسقط الصحابي، كما إذا روى سعيد بن المسيب أو الزهري أو الحسن أو مكحول وأمثالهم عن النبي ﷺ، وأما مثل هذا فلا يسمى مرسلا، وإنما يسمى معضلا أو منقطعا.

ويقال أيضا: استنادنا في هذه المسألة ليس إلى قول الأوزاعي خاصة، ولا إلى قول من هو أجل من الأوزاعي، وإنما استنادنا في هذه المسألة وأمثالها من صفات الله إلى نصوص الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم من السلف الصالح، فقد نقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد كما تقدم التنبيه عليه.

وقوله: "فكيف يكفر بها المسلمين؟" فيا سبحان الله! كيف تفتري الكذب الظاهر على المجيب؟ فقد بينا فيما تقدم أننا لم نكفر أحدا بالجهل في هذه المسألة -أعني تأويل آيات الصفات وأحاديثها، ومخالفة ما عليه السلف- ولا نكفر إلا من أنكر ما علم مجيء الرسول ﷺ به ضرورة.

فصل (في بدعة إنكار القدر وتقدمها على بدعة تأويل الصفات)

وأما قولك: (إن الأوزاعي -الراوي لذلك الإجماع- قد ناقض نفسه، فقد حكى عنه الذهبي أنه قال: لا نعلم أحدا ينسب إلى القدر من التابعين أجل من الحسن ومكحول رحمهما الله).

فالجواب: أن هذا المعترض لا يعرف المناقضة؛ لأن إثبات القدر أو نفيه من باب إثبات فعل العبد لله تعالى أو نفيه، لا من باب تفسير الصفات وتأويلها، والذي ذكره الأوزاعي عن التابعين إثبات الصفات لله تبارك وتعالى وعدم تفسيرها وتأويلها، فأين في هذا ما يناقض ما ذكره الأوزاعي في قوله: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته؟ وقد رواه البيهقي وغيره، بإسناده عن الأوزاعي.

وإثبات خلق الله تعالى للأشياء المخلوقة لا ينازع فيه أحد من الناس، حتى عبدة الأوثان يقرون بذلك، كما أخبر الله عنهم بقوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون}. وقوله: {قل من يرزقكم من السماء والأرض} إلى قوله: {ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون}. وإنما نازع من نازع من المعتزلة في فعل العبد خاصة، فالمعتزلة ينكرون أن الله خلق أفعال العباد؛ خيرها وشرها.

وفي صحيح مسلم: أن أول من قال ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما ذكر ذلك لعبد الله بن عمر تبرأ منه، واستدل على إثباته بما سمعه من رسول الله ﷺ في إثبات القدر حين سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، كما ذكر ذلك مسلم في أول كتاب الإيمان من صحيحه. وكذلك ابن عباس ثبت عنه أنه تبرأ ممن أنكر ذلك.

ومن العجب قوله: (وأيضا ينتقض بما روي عن عامر الشعبي التابعي أنه قال: "إن أحببنا أهل البيت هلكت دنيانا، وإن أبغضناهم هلك ديننا"). فأين المناقضة في هذا الكلام يا جاهل؟ وأهل السنة كلهم يحبون آل محمد، مع إثباتهم لصفات الله تعالى التي نطق بها القرآن.

فإن قلت: إن أهل البيت ينكرون هذه الصفات، ويتأولون ظواهر هذه الآيات، طالبناك بصحة النقل عنهم بذلك، وهيهات؛ لأن أهل البيت لا يفارقون كتاب الله ولا يخالفونه، كما ورد في الحديث أنه قال: "ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض" [38] كما تقدم في حديث زيد بن أرقم وغيره.

وأنت لا تنكرن ظواهر الآيات والأحاديث المذكورة فيها صفة الرب بصفاته العلى وأسمائه الحسنى، كالعلي الأعلى، وأنه فوق عرشه استوى، وأنه فوق عباده. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فسر هذه الآيات بتفسير المعتزلة والجهمية الذي يذهب إليه هذا المعترض، ولا قالوا للناس: اعلموا أن ظاهر هذه النصوص غير مراد فلا تعتقدوه فإنه يقتضي التشبيه والتجسيم، بل سكتوا عن ذلك، ووصى بعضهم بعضا بالسكوت عنها، وإنما فسرها وتأولها أهل الضلال والبدع.

وما أحسن ما قال عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون: "عليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضوا به، فإنهم عن علم وقفوا، وببصرنا قد كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها كانوا أحرى، وإنهم لهم السابقون. وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم، ولئن قلتم حدث حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما تحته، فكره على ما تلقوه عن نبيهم، وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمح آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم".

فصل (إثبات السلف للقدر ونفي المعتزلة له)

وأما قوله: (وقد روي التكلم في القدر عن محمد بن سيرين وقتادة -إلى قوله- ومن تكلم في القدر فقد تكلم في الصفات، وسواء كان من جانب المعتزلة؛ كالحسن ومكحول، ومن ذكروا من جانب الأشعرية، فمن التابعين من هو سلف للأشاعرة. وقلنا: إن التكلم في القدر تكلم في الصفات، إذ معناه عند الحسن ومكحول أن الله تعالى متصف بعدم خلق أفعال العباد، أي: لم يؤثر فيها، ومن أثبت لله خلق الأفعال فقد وصف الله بأنه مؤثر فيها. وهذان المذهبان قد اشتهرا وشاعا في التابعين؛ فمنهم الذاهب مذهب المعتزلة كالحسن ومكحول ومن ذكرنا، ومنهم الذاهب مذهب الأشعرية).

(فالجواب) من وجوه:

(أحدها) أن يقال: إثبات القدر أو نفيه ليس من باب إثبات الصفات، ولا تفسيرها عند المثبتين ولا عند النافين كما تقدم التنبيه عليه، وإنما ذلك من باب إثبات الفعل والخلق. فالمعتزلة ينفون أن الله قدر أفعال العباد، ويقولون: إن الله لا يقدرها عليهم ثم يعذبهم عليها، وإنما يكون ذلك ابتداء من عند أنفسهم، ويوردون على ذلك شبهات من الكتاب والسنة.

وأما السلف وأهل السنة، ومن اتبعهم من أتباع الأئمة الأربعة من الأشعرية وغيرهم، فيثبتون أن الله قدر أفعال العباد وشاءها منهم، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، ويستدلون على ذلك بالآيات القرآنية الصريحة في أن الله خلق العباد وأعمالهم، كقوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}، وقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقوله: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}، وبالأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة عن رسول الله ﷺ بأن الله قدر أعمال العباد، وأن كلا ميسر لما خلق له، كما قال تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.

(الوجه الثاني) أن يقال: هؤلاء الذين ذكرهم مع المعتزلة -كالحسن وابن سيرين ومكحول- كلهم قد صح عنهم الإيمان بالقدر وإثباته؛ موافقة لأهل السنة، وإن كان قد نسب إلى بعضهم موافقة المعتزلة، فليس كل ما ينسب إلى شخص يكون ثابتا عنه، فليس مجرد نسبة بعض الناس إليهم ذلك يكون صدقا؛ وذلك لأن المعتزلة إنما اشتهر أمرهم بعد موت الحسن البصري، لأنهم اعتزلوا أصحاب الحسن بعد موته فسموا المعتزلة لذلك، وهم الذين يسمون القدرية؛ لأنهم ينكرون أن يكون الله تبارك وتعالى قدر أفعال العباد وشاءها منهم. وغلاتهم ينكرون أن يكون الله علم ذلك، ومن أنكر علم الله بذلك فقد كفر عند أئمة أهل السنة، ولهذا قال من قال من أئمة أهل السنة: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أنكروه كفروا، وإن أقروا به خصموا.

(الثالث): أن أهل السنة الذين حكينا مذهبهم في الصفات، وأنهم لا يتعرضون لها بتفسير ولا تأويل، بل يثبتونها صفات لله، ولا يلزم من إثباتهم الصفات لله أنهم يفسرونها أو يتأولونها. كما أنهم وغيرهم يثبتون لله ذاتا وفعلا وحياة وقدرة، ولا يكيفونها، ولا يفسرونها، بل يثبتون ما أثبته لنفسه، ويسكتون عما سكت عنه، وينزهونه عن مشابهة المخلوقات، ومذهبهم وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، فلا يتأولونها تأويل المبتدعة، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين، وقد قال تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.

(الوجه الرابع) أن هذا المعترض جزم في كلامه بأن الحسن ومكحولا ومن ذكر معهم قد ذهبوا مذهب المعتزلة، وهذا كذب ظاهر عليهم، فإن كان مراده أن هؤلاء نسب إليهم القول بمذهب المعتزلة، فقد بينا أن مجرد نسبته إليهم لا يلزم منه صحة ذلك عنهم، والمنقول عنهم في ذلك -من موافقة أهل السنة والجماعة في إثبات القدر والإيمان به- هو الثابت عنهم.

وأنت تعلم أن كثيرا من الناس قد نقل عن علي رضي الله عنه وأهل البيت أشياء كثيرة، ونسبوا إليهم أقوالا قد برأهم الله منها، والرسول ﷺ قد نسب إليه أقوال كثيرة، وأهل العلم يعرفون أنها مكذوبة عليه.

ومن هؤلاء المذكورين من تكلم في شيء من القدر ثم رجع عنه كوهب بن منبه، كما قال الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه، قال أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق: سمعت أبي يقول: "حج عامة الفقهاء سنة مائة، وحج وهب بن منبه، فلما صلوا العشاء أتاه نفر فيهم عطاء والحسن بن أبي الحسن، وهم يريدون أن يذاكروه في باب من الحمد، فما زال فيه حتى طلع الفجر، فافترقوا ولم يسألوه عن شيء". قال أحمد: "وكان يتهم بشيء من القدر ورجع".

وقال حماد بن سلمة عن أبي سنان، قال: سمعت ابن منبه يقول: كنت أقول بالقدر، حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء، في كلها: "من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر". فتركت قولي.

فتبين بما ذكرنا أن جزم هذا المعترض -بأن هؤلاء الأئمة المذكورين يقولون بمقالة المعتزلة، كذب ظاهر، وقول بلا دليل.

(الوجه الخامس): أن من المعلوم عند أهل العلم أن أول من تكلم في آيات الصفات وأحاديثها بهذه التأويلات الباطلة المخالفة للظاهر هم المعتزلة والجهمية خاصة، وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان فكلهم متفقون على الإيمان بها، والسكوت عن البحث عن كيفيتها.

فصل (المبتدعة ترد ما وصف الله به نفسه بزعم التجسيم)

وأما قوله: فمن أعجب ما سمعنا: قولك بأن مذهبك الذي درج عليه رسول الله ﷺ كما هو معنى كلامك، فإن أهل السنة والجماعة هم الذين ملؤوا كتبهم بروايات التجسيم لله تعالى والكيفية في الصفات، وفسروا صفاته، فلو ادعيت ذلك التنزيه على ما في نفسك، لكان أحسن من تحجر الواسع الذي يريد قومك من أهل السنة والجماعة. فاسمع ما رواه السيوطي في الدر المنثور قال: أخرج ابن جرير والحاكم [39] وابن مردويه "أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه أحب أن ينظر إليه، فسأله فقال: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل}. قال: فحف حول الجبل الملائكة، وحف حول الملائكة بنار، وحف حول النار بملائكة، وحف حولهم بنار، ثم تجلى ربك للجبل، تجلى منه مثل الخنصر، وجعل الجبل دكا فخر موسى صعقا" إلى آخر الحديث الذي في تفسير قوله تعالى: {قال رب أرني أنظر إليك}. ثم ذكر حديث ابن عباس نحو ما تقدم، وكذلك أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "لما تجلى الله لموسى كان ينظر إلى دبيب النمل في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ" فهذا في التجسيم والتكييف.

(فالجواب) أن يقال: كلام هذا المعترض يدل على رسوخه في الجهل العظيم، واتباعه لأهل البدع والضلال، وعداوته لله ورسوله وعباده المؤمنين، وذلك أن مثل هذا الذي زعم أنه تجسيم وتكييف قد ورد ما هو مثله أو أبلغ منه في كتاب الله، وفي الأحاديث الثابتة عن رسول الله ﷺ؛ فإذا كان هذا عنده تجسيما وتكييفا فلازم كلامه أن الله وصف نفسه بالتجسيم والتكييف، وكذلك رسوله ﷺ، ومن زعم هذا فقد انسلخ من العقل والدين.

فاسمع الآن ما ذكر الله في كتابه: قال الله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة}. وقال تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك}. وقال تعالى: {ثم استوى على العرش} في ستة مواضع من كتابه العزيز.

وقال تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا}، ووصف نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين.

وكذلك وصف نفسه بالغضب والسخط في غير آية من القرآن، وكذلك وصف نفسه بأنه سميع بصير، وبأن له يدين، كقوله تعالى: {لما خلقت بيدي }، وقوله: {بل يداه مبسوطتان}، وبأنه يقبض الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: "أن الله يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه، ثم يهزهن بيده، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟". [40]

وقال تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا}. وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة، وقد أمرنا الله بتدبر القرآن وتفهمه.

إذا تبين هذا، فقد أوجب الله تصديق الرسول ﷺ على كل مسلم فيما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته، مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.

فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم، قد أخبروا أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا".

ولم يقل الرسول ﷺ يوما من الدهر ولا أحد من أصحابه -فيما بلغنا- أن ظواهر هذه الآيات وما في معناها من الأحاديث تقتضي التشبيه والتكييف والتجسيم فلا تعتقدوها، بل أولوها على التأويلات المستكرهة، كما يقول من يقوله من الجهمية والرافضة وغيرهم من أهل البدع والضلال، بل أطلقوا هذه النصوص وبلغوها لجميع الخلق.

ومعلوم أن في زمانهم الذكي والبليد من أهل البادية والحاضرة والرجال والنساء، فلم يقولوا لأحد منهم: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص، ولا فسروها بما يخالف ظاهرها.

فهذا سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ومن أعرض عن ذلك واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.

فصل (في شبهة تأويل بعض السلف للصفات)

وأما قوله: (وأما تفسير الصفات وتأويلها فروى أيضا السيوطي في الدر المنثور في قوله تعالى: {وهو شديد المحال} قال: أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله تعالى: {وهو شديد المحال} قال: شديد القوة. وعنه أيضا: شديد المكر والعداوة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا: شديد الحول. وأخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: شديد الأخذ. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: شديد الانتقام. وأخرج أبو الشيخ عن علي قال: شديد الحقد. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة: شديد المحال: القوة والحيلة، انتهى.

قال المعترض: فهؤلاء الأجلة من الصحابة والتابعين، قد روى عنهم من هو إمام في حزبك وسلفك: السيوطي، ما ترى من تفسير الصفات وتأويلها، بل روى التجسيم عن سيد المرسلين ﷺ، وقد اشتهر اشتهار الشمس في كتب قومك وسلفك حديث: "سترون ربكم كالقمر ليلة البدر" [41] فهل بعد هذا التكييف من بلاء وعمى؟ نسأل الله لك الهداية، والسلامة من نزغات الشيطان).

(فالجواب) من وجوه كثيرة:

(أحدها) أن يقال: ما ذكرت من رواية السيوطي عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين ليس من باب تفسير الصفات وتأويلها الذي ينكره أهل السنة والجماعة، بل فسروها على ظواهر الآيات، ووصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ﷺ، وهذا من أوضح الدلائل في الرد عليك أيها المعترض وعلى أشباهك المنكرين لصفات الله تعالى، فلم يفعلوا فعل الجاهلية النفاة الذين لم يثبتوا لله صفة ولا فعلا، الممثلة المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه.

(الوجه الثاني): أن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان يصفون الله بأنه شديد القوة، وكذلك شديد المكر وشديد الأخذ، كما وصف نفسه بذلك في غير آية من كتابه، كقوله: {إن أخذه أليم شديد} وقوله: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}. وقال: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. وقال: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}. وقال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة}. فيمرون هذه الآيات على ظواهرها، ويعرفون معناها ولكن لا يكيفونها، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين. هذا مجمع عليه بينهم، ولله الحمد والمنة.

فأين في هذا ما يدل علي أنهم أولوا صفات الله بتأويلات الجهمية والمعتزلة والرافضة، ومن نحا نحوهم ممن أزاغ الله قلبه واتبع المتشابه وترك المحكم؟ كما قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}.

جعلنا الله وسائر إخواننا ممن يقول هذه المقالة التي علمنا الله إياها، وأعاذنا من طريق المغضوب عليهم والضالين.

فأما المغضوب عليهم فيتركون الحق ولا يريدونه، مع معرفتهم به، وأما الضالون فالجهال الذين جهلوا الحق فلم يعرفوه، بل عملوا على جهل.

وذكر المفسرون أن المراد من المغضوب عليهم اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق معرفة تامة وتركوا اتباعه، والمراد بالضالين النصارى؛ لأنهم عبدوا الله على جهل، وقد نزه الله نبيه عن هذين الوصفين، فقال تعالى: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى} وقد قال سفيان بن عيينة وغير واحد من السلف: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى".

(الوجه الثالث) أن يقال: قوله: بل قد روي التجسيم عن سيد المرسلين، كذب ظاهر، لأن السيوطي وغيره من أهل السنة ينفون عن الله مشابهة المخلوقات ومماثلة الأجسام المصنوعات. فإن قال: إن لازم كلامهم يقتضي التجسيم والتشبيه. قلنا هذا ممنوع عند أهل السنة، فإنهم يقولون: إن إثبات الصفات لله تبارك وتعالى، وإثبات رؤيته تعالى لا يقتضي ذلك ولا يلزم منه التجسيم، ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، يردون كتاب الله وسنة رسوله بهذه الخرافات الباطلة، والجهالات والضلالات الكاذبة الفاسدة.

(الوجه الرابع) أن يقال: القرآن مملوء من صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه الحسنى، وقصص الأنبياء المتضمنة لإثبات الصفات والأفعال الاختيارية لله تبارك وتعالى، كالمجيء والمناداة والتكلم والقبض والبسط والغضب والرضى. أفيقول مسلم أو عاقل إن الله وصف نفسه بالتجسيم والتكييف أو وصفه به رسله وأنبياؤه؟ فإذا قلتم: إن لازم تلك النصوص إثبات التجسيم والتكييف، فهذه النصوص الواردة في القرآن أبلغ منها فيما ذكرتم. سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل، ولازم هذه المقالة أن ظواهر القرآن والسنة تجسيم وتكييف.

(الوجه الخامس) أن يقال: قوله قد اشتهر اشتهار الشمس في كتب قومك وسلفك حديث: "إنكم سترون ربكم" [42] إلخ، فيقال: هذا حق وصدق تواترت به الأحاديث عن رسول الله ﷺ، ودل على ذلك آيات كثيرة من القرآن كقوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أنه سبحانه نفى إدراك الأبصار له، وأثبت له إدراكها، ونفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، فمفهوم الآية أن الله يرى ولا يدرك. وبما ذكرنا فسر الآية حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- كما روى ذلك أئمة التفسير عنه، كابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه، فقلت: أليس الله يقول {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} الآية، فقال لي: لا أم لك، ذلك نور إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، قال عكرمة لمن قال له لا تدركه الأبصار: ألست ترى السماء؟ قال بلى، قال؟ فكلها ترى؟ [43]

ولابن أبي حاتم بسنده عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ في قوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال: "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا، ما أحاطوا بالله عز وجل."

ويدل على ذلك قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} فسرها أئمة التفسير بأن المراد بذلك أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية:

(باب بيان ما جحدت الجهمية) {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}

فقلنا لهم: لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟ فقالوا: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه؛ لأن المنظور إليه معمول موصوف، فقلنا لهم: أليس الله يقول: {إلى ربها ناظرة}؟ فقالوا: إنما معناه أنها تنظر الثواب من ربها، وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته، وتلوا آية من القرآن: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} المعنى: ألم تر إلى فعل ربك.

فقلنا: إن فعل الله لم يزل العباد يرونه، وإنما قال: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}، فقالوا: إنما تنتظر الثواب من ربها. فقلنا: إنها مع ما تنتظر من الثواب، هي ترى ربها. فقالوا: إن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وتلوا آية من المتشابه من قوله جل ثناؤه: {لا تدركه الأبصار}. وقد كان النبي ﷺ يعرف معنى قول الله: {لا تدركه الأبصار} وقال: "إنكم سترون ربكم" [44] وقال الله لموسى عليه السلام: {لن تراني} ولم يقل لن أرى، فأيهما أولى أن يتبع؟ النبي ﷺ حين قال: "إنكم سترون ربكم" أم جهم حين قال: لا ترون ربكم؟ والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي ﷺ أن أهل الجنة يرون ربهم، لا يختلف أهل العلم في ذلك.

ومن حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد في قول الله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال: النظر إلى وجه الله.

ومن حديث ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "إذا استقر أهل الجنة في الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن الله قد أذن لكم في الزيارة، قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إلى الله لا إله إلا هو".

وإنا لنرجو أن يكون جهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله؛ لأن الله قال للكفار: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}. فإذا كان الكافر يحجب عن الله، والمؤمن يحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟ فالحمد لله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع، ولم يجعلنا ممن ابتدع. انتهى كلام أحمد بحروفه ولفظه.

وهذا الكتاب الذي نقلت منه هذا الكلام رواه عن أحمد أئمة أصحابه وهو مشهور عند العلماء، وفي هذا ما يبين أن هذا المعترض اتبع قول جهم وشيعته، وترك ما عليه رسول الله ﷺ وأهل بيته وأصحابه.

ومن العجب أنه يدعي أن الإمام أحمد هو إمام الشيعة عند الحقيقة، وقد خالف مذهبه في هذه المسألة وغيرها من مسائل أصول الدين، فكيف بمسائل الفروع؟

وأعجب من هذا قوله: إن رواية هذا الحديث -أعني حديث الرؤية وما شابهه- تكييف وعماء وضلال، فإذا كان موسى عليه السلام قال لربه: {أرني أنظر إليك} أفيسأل موسى عليه السلام ما هو تكييف وتجسيم وعماء وضلال؟ ويكون موسى عليه السلام لا يعرف ما يجوز على الله وما يمتنع عليه، ويعرف ذلك جهم وشيعته؟ فلا إله إلا الله ما أقبح هذا الجهل وأبعده عن السداد والصواب عند أولي الألباب!

وقد صرح بعض شياطين هؤلاء المبتدعة الضلال بأن عيسى عليه السلام شبه حيث قال: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك}، وكذلك موسى عليه السلام حيث قال: {رب أرني أنظر إليك}.

وكذلك جهم، ذكر البخاري رحمه الله في كتاب خلق أفعال العباد بسنده أن جهما قرأ في المصحف، فلما أتى على هذه الآية {الرحمن على العرش استوى} قال: "والله لو قدرت لحككتها من المصحف".

وذكر أبو الحجاج المزي في كتاب تهذيب الكمال في معرفة الرجال أن عمرو بن عبيد شيخ القدرية قال في حديث الصادق المصدوق المخرج في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام عن عبد الله بن مسعود قال: "حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة" [45] إلخ، فقال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لقلت له: كذبت، ولو سمعت زيد بن وهب يقول ذلك لقلت له: كذبت، ولو سمعت ابن مسعود يقول ذلك ما قبلته، ولو سمعت رسول الله ﷺ يقول ذلك لرددته، ولو سمعت الله يقول ذلك لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا، أو كلاما هذا معناه.

فنسأل الله العظيم المنان أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه الوهاب.

فصل (تشنيع المبتدع على أهل السنة في مسألة الصفات ورده)

وأما قوله: (فاركب السفينة، وادخل من باب حطة، حتى تدخل بنور قلبك، حقيقة عاقبة أمرك، وما حصلت عليه من التكفير للمسلمين بسبب الاستناد والركون إلى سلفك، والمتسمين بأهل السنة والجماعة، والحال أنهم قد نقضوا غزلك، فبينا أنت تأوي إلى كهفهم من أنهم لا يفسرون ولا يؤولون آيات الصفات، إذ جاؤوك بالمدلهمات من التجسيمات والتأويلات، ورووها عمن ركنت إلى إجماعهم، وهم التابعون الذين رووه لك عن الأوزاعي، فكنت كالساعي إلى مثعب موائلا من سل لراعد، وانظر -هداك الله- وتدبر، فإنك تخوض في بحر الغرق، وهو تكفير أهل الإسلام، ولم تأو إلى ركن شديد، ولم تركب سفينة نوح، فقد أردت أن تنزه ربك بما يلزم منه التجسيم، كما نبينه إذا جاء قومك بالقراقر، وهو صريح التجسيم والتكييف).

(فالجواب) أن يقال: قد تقدم ما يبطل دعواك فيما ذكرت في هذا الكلام بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.

وهذا الكلام فيه أنواع من الكذب والزور والبهتان، يتضح لكل من له أدنى بصيرة من علم وإيمان.

(منها): قوله: "وما حصلت عليه من تكفير المسلمين"، فأين في كلام المجيب أنه صرح بتكفير المسلمين؟

(الثاني): قوله: "والحال أنهم قد نقضوا غزلك"، فأين فيما ذكرت عنهم أيها الجاهل في النقض على المجيب؟ وقد بينا أن كلامهم موافق لما ذكره المجيب لا مخالف له، وإنما فيه النقض عليك وعلى سلفك من المعتزلة والجهمية الذين ينفون صفات الله ويعطلونها عن حقائقها.

(الثالث): قوله: "فبينا أنت تأوي إلى كهفهم من أنهم لا يفسرون ولا يؤولون آيات الصفات، إذ جاؤوك بالمدلهمات من التجسيمات والتأويلات". وهذا أيضا من أظهر الكذب والفجور عليهم؛ لأن جميع ما ذكره عنهم لا يدل على التجسيم ولا التأويل الباطل بوجه من الوجوه، وإنما يدل على أنهم يصفون الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهم قد صرحوا بذلك، وتحملوا إثمه عنك وعن سلفك؛ طاعة لربهم ومعبودهم ونبيهم ﷺ كما قال القائل:

وعيرها الواشون أني أحبها ** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

ويقال لهذا وأشباهه من أهل البدع والضلال: أأنتم أعلم أم الله؟

(الرابع): قوله: "فإنك تخوض في بحر الغرق، وهو تكفير أهل الإسلام". فيقال: أين في كلام المجيب أنه كفر أحدا من المسلمين بتأويل آيات الصفات وأحاديثها؟ أما تستحي من كثرة الكذب وترداده في السطر الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة من كلامك؟ أما عندكم رجل رشيد ينصح هذا الجاهل، ويستر عورته إذا كشفها؟

(الخامس): قوله: "ولم تأو إلى ركن شديد، ولا ركبت سفينة نوح". وهذا أيضا من الكذب والزور والبهتان؛ لأن المجيب قد أوى إلى ركن شديد، وركب سفينة نوح التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد احتج في كلامه بكتاب الله وسنة رسوله، وبما أجمع عليه السلف الصالح من صدر هذه الأمة.

(السادس) قوله: "وقد أردت أن تنزه ربك بما يلزم منه التجسيم". كذب ظاهر؛ لأنا قد بينا أن ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله حق وصدق وصواب، ولازم الحق حق بلا ريب، ولا نسلم أن ذلك يلزم منه التجسيم، بل جميع أهل السنة المثبتة للصفات ينازعون في ذلك، ويقولون لمن قال لهم ذلك: لا يلزم منه التجسيم كما لا يلزم من إثبات الذات لله تعالى، والحياة، والقدرة، والإرادة، والكلام، تجسيم وتكييف عند المنازع.

ومعلوم أن المخلوق له ذات، ويوصف بالحياة والقدرة والإرادة والكلام، ومع هذا لا يلزم من إثبات ذلك لله تبارك وتعالى إثبات التجسيم والتكييف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومعلوم أن هذه الصفات في حق المخلوق إما جواهر وإما أعراض، وأما في حقه تبارك وتعالى فلا يعلمها إلا هو، بلا تفسير ولا تكييف.

(السابع) قوله: "إذ جاء قومك بالقراقر". وهو صريح التكييف والتجسيم؛ لأن ما ذكره عن أهل السنة ليس فيه تصريح بالتجسيم، وإنما يقول المخالف: إنه يلزم منه ذلك، وقد تقرر عند علماء الأصول وغيرهم أن: "لازم المذهب ليس بمذهب"، وهو نفسه ذكر أن ذلك يلزم منه التجسيم، ومنازعه يقول: لا يسلم له ذلك.

ثم في آخر كلامه، في موضع واحد يقول: "وهو صريح التجسيم"، وليس فيما ذكره عن المجيب ولا عن سلفه من أهل السنة ما هو صريح في ذلك، والصريح في ذلك أن يقول القائل: أن لله جسما كما يقوله بعض أئمة الرافضة، كهشام بن الحكم وغيره من أهل الكوفة، كما يذكر ذلك عنهم أهل المقالات.

فاتق الله أيها الرجل، واحذر أن تكون من الذين يفترون الكذب، وقد قال تعالى: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون}.

فصل (تلقي الصحابة والتابعين ومنهم أهل البيت آيات الصفات بالقبول)

وأما قوله جوابا عن كلام المجيب: "وهو ما درج عليه رسول الله ﷺ". فنقول: (هات لنا حديثا واحدا عن رسول الله ﷺ قطعي الدلالة، متواتر المتن، أو متلقى بالقبول عند الأمة، بأن رسول الله ﷺ منع من تفسير آيات الصفات وتأويلها؛ حتى يكون حجة لك على من خالفك في تكفيرك له. وأما أنه ﷺ لم يتعرض للتفسير والتأويل فإنه لا يكفيك في تكفير المسلمين، مع أنا قد ذكرنا لك أن قومك قد رووا عنه ﷺ التفسير والتأويل والتجسيم، فاختر لنفسك ما يحلو، ولا حول ولا قوة إلا بالله).

(فالجواب) من وجوه:

(أحدها) أن يقال: أن المجيب قد ذكر من الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة أن الله وصف نفسه بالاستواء واليدين والمجيء والرضى والسخط والغضب والمحبة وغير ذلك من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ما يشفي ويكفي لمن أراد الله هدايته.

(الثاني): أنه لم يدع أن معه دليلا حديثا قطعي الدلالة بأن رسول الله ﷺ منع من تفسير آيات الصفات وتأويلها حتى يقال له: هات ما ادعيت. وإنما دعواه أن آيات الصفات وأحاديثها قد وردت في الكتاب والسنة، وتلقاها رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعون لهم بإحسان بالقبول والتصديق والإيمان.

ولم يرد عن أحد منهم -لا بإسناد صحيح ولا حسن- أنهم فسروا ذلك، أو قال الرسول أو أحد من أصحابه للناس: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص بل تأولوها على ما تقتضيه عقولكم ومقاييسكم، بل سكتوا عن ذلك، وأمروا بتبليغ القرآن والسنة، وأن رسول الله ﷺ قال: "بلغوا عني ولو آية"، [46] وقال الله لنبيه ﷺ {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الآية، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}، {ما على الرسول إلا البلاغ}.

(الثالث): أنك قد أقررت أنه صادق في هذه الدعوى بقولك: وأما أنه ﷺ لم يتعرض للتفسير والتأويل فإنه لا يكفيك، فقد صرحت بأنه ﷺ لم يتعرض لها بتفسير ولا تأويل، وهو المطلوب.

فإذا كان رسول الله ﷺ وأصحابه قد درجوا على ما ذكره المجيب من إمرارها كما جاءت من غير تعرض لها بتفسير ولا تأويل، وقد أقررت بذلك ولم تنكره، أفلا يسعك ما وسع رسول الله ﷺ وخلفاءه الراشدين المهديين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأولاده، والعباس وابنه عبد الله بن عباس، والحسن والحسين ابني علي وأخاهما محمد بن الحنفية، وعبد الله بن جعفر وعلماء العترة رضي الله عنهم؟ فلا وسع الله لمن لا يسعه ما وسعهم؛ فإنهم أئمة المتقين وهداة الغر المحجلين.

وقد قال تعالى في سورة المائدة -وهي من آخر القرآن نزولا-: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا}.

والإسلام هو ما درج عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، فما ترك رسول الله ﷺ وسكت عنه وجب على الأمة السكوت عنه، فالأمور التي ترك رسول الله ﷺ وأصحابه الكلام فيها يجب على الأمة اتباعهم فيها، كما أن الأمور التي فعلها وأمر بها يجب على الأمة اتباعه في ذلك، وهذا هو دين الإسلام الذي رضيه الله لهذه الأمة حيث قال: {ورضيت لكم الأسلام دينا} وقال {ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه}.

وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" [47] وفي حديث أنه قال: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". [48]

وقال أبو ذر: "لقد توفي رسول الله ﷺ وما من طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علما". [49]

وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي وغيرهما: "عن سلمان أنه قيل له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال سلمان: أجل".

أفليس في هذا بيان للمؤمن أن كل ما حدث بعدهم فليس من دين الإسلام، بل من البدع والمنكرات العظام؟ وقد قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وأثنى الله تبارك وتعالى على من اتبع سبيلهم، واقتفى منهاجهم، فقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}.

(الوجه الرابع) أن يقال: الرسول ﷺ وأصحابه كانوا أقدر على تفسيرها وتأويلها ممن بعدهم، فلم يسكتوا عن ذلك إلا لعلمهم بأن الصواب فيما سلكوه، والحق فيما أصلوه، فإنهم ينابيع العلم، ومصابيح الدجى، كما قال عبد الله بن مسعود (رض): "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد ﷺ أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".

وقال رضي الله عنه لقوم رآهم قد تحلقوا في مسجد الكوفة، وواحد منهم يقول لهم: سبحوا مائة. فيسبحون جميعا، فإذا فرغوا قال: كبروا مائة. فإذا فرغوا قال: هللوا مائة. فجاءهم، فلما رأى صنيعهم قال: "والذي نفسي بيده لقد فضلتم أصحاب محمد علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما". قالوا: والله ما جئنا ببدعة ظلما، ولا فضلنا أصحاب محمد علما. قال: "بلى، والذي نفس ابن مسعود بيده لقد فضلتم أصحاب محمد علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما".

فانظر -رحمك الله- إلى كلام هذا الإمام الذي هو من سادات الصحابة ونجبائهم وفضلائهم، كيف أخبر وأقسم على ذلك بأن من فعل ما لم يفعله أصحاب محمد فقد جاء ببدعة، نسأل الله أن يرزقنا سلوك طريقهم وسيرتهم وهديهم.

(الوجه الخامس): قوله: "وأما أنه ﷺ لم يتعرض للتفسير والتأويل، فإنه لا يكفيك في تكفير المسلمين". فيقال: هذا كذب ظاهر على المجيب، من جنس ما تقدم من كذب هذا المعترض وفجوره، فإن المجيب لم يذكر في كلامه تكفير أحد من المسلمين خالفه في هذه المسألة؛ لأن ذلك مما تنازعت فيه الأمة، حتى إن طوائف من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم يذهبون إلى تأويل آيات الصفات وأحاديثها، وهم من جملة أهل السنة والجماعة، وإن كانوا عند المجيب مخطئين في ذلك؛ لأن مذهبه وعقيدته اتباع السلف الصالح في السكوت عنها، وإمرارها كما جاءت، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها.

(الوجه السادس): قوله: "مع أنا قد ذكرنا أن قومك قد رووا عنه ﷺ التفسير والتأويل والتجسيم". وهذا كذب ظاهر؛ فإنه لم يذكر فيما نقل عن أهل السنة شيئا مرفوعا إلى النبي ﷺ في تفسير الصفات، فضلا عن التأويل والتجسيم.

وقد ذكرنا نص كلامه بحروفه، وجميع ما نقله من الدر المنثور عن الصحابة والتابعين من تفسير قوله: {شديد المحال} أي: شديد القوة أو المكر أو الحول، قد بينا أن ذلك ليس هو تفسير آيات الصفات وتأويلها الذي وقع النزاع فيه بين أهل الإثبات وأهل النفي، بل ذلك من باب وصف الله سبحانه بأسمائه بالحسنى، وصفاته وأفعاله اللازمة، والتعدية مع قطع النظر عن معرفة كيفية ذلك، أو تأويله بالتأويلات المبتدعة.

(الوجه السابع): قوله: "فاختر لنفسك ما يحلو، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فنقول: قد اخترنا لأنفسنا ما اختاره الله لنا في كتابه، وهو الاقتداء والتأسي بما درج عليه رسول الله ﷺ وأصحابه في هذه المسألة وغيرها، كما وصانا الله بذلك في كتابه حيث قال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، وقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}، وقال في آخر السورة: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}، وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه بإجماع المفسرين، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا إذ هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل (اختيار التأسي بالرسول واتباع سنته مذهبا)

وأما قوله: (ثم لا يخفى أن المجيب قد جعل أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث الذين لم يتكلموا في القدر، ولم يفسروا آيات الصفات ولا تأولوها، فنطلب منه التحقيق والإفادة، بأن يبين لنا من روى من أهل العلم المحقق بأن هذا الاصطلاح مخصوص بمن ذكره؛ فإن العلماء مختلفة أقوالهم في إطلاقهم أهل السنة والجماعة كما عرفت).

(فالجواب) أن يقال: المجيب إنما ذكر كلاما عاما في أن أهل السنة والجماعة هم الذين اقتفوا ما عليه رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ومعلوم أن أهل الحديث هم أعظم طوائف الأمة بحثا ومعرفة بسنة رسول الله ﷺ وذلك لأنهم قد اشتغلوا بذلك، وأفنوا أعمارهم في طلب ذلك ومعرفته، واعتنوا بضبط ذلك وجمعه وتنقيته؛ حتى بينوا صحيح ذلك من ضعيفه من كذبه، ولا ينازع في ذلك إلا عدو لله ولرسوله ﷺ ولعباده المؤمنين.

(الوجه الثاني): أن ظاهر كلام المجيب.. [50] وكلامه يبين أنه لم يخص بذلك طائفة معينين، بل كل من سلك هذه الطريقة فهو منهم من جميع الطوائف، وهو داخل في قوله: وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة.

(الوجه الثالث): قوله: "الذين لم يتكلموا في القدر"، وهذا كذب ظاهر على المجيب وعلى أهل الحديث، فإن أهل السنة والحديث من هذه الأمة يتكلمون في القدر، بمعنى أنهم يؤمنون به ويثبتونه، ويقولون: إن الله قدر أفعال العباد؛ خيرها وشرها. وهو من أصول الإيمان عندهم، كما ثبت ذلك في الصحيحين في حديث جبرائيل عليه السلام لما سأل النبي ﷺ عن الإيمان فأخبره بأنه: "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره". [51] فهذا هو الذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة والحديث، وعليه يدل كتاب الله والأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ؛ ولولا خوف الإطالة لذكرنا من ذلك شيئا كثيرا، وليس هذا موضع بسط ذلك وذكر الدلائل عليه.

وأما المعتزلة الذين ينفون أن الله قدر أفعال العباد عليهم أو شاءها منهم، فهم الذين ينكرون ذلك، ومن اتبعهم من الروافض والزيدية الذين ينكرون أن الله قدر أفعال العباد وشاءها منهم.

(الوجه الرابع): أن الاصطلاح لا حجة فيه عند أهل العلم وغيرهم، فإذا سمى أحد طائفة من الناس بأنهم أهل السنة والجماعة، لم يمنع من ذلك إلا إذا كانوا مخالفين لما عليه جماعة أهل السنة والجماعة، كأهل البدع الذين يسمون أنفسهم بذلك مع مباينتهم لطريقة الرسول ﷺ وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

(الوجه الخامس): أن كثيرا من علماء السنة ذكروا أن أهل الحديث هم الفرقة الناجية التي قال فيها رسول الله ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة" [52] كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما.

وذكر البخاري عن علي بن المديني أنهم أهل الحديث، وكذلك قال أحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟".

فصل (الطائفة الناجية)

وأما قوله: (وأنت خبير أن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين ﷺ هم أهل بيته، فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم، فكن -أيها المجيب- من تلك الطائفة الناطقة بالحق، الخارجة عن حزب أهل الشام؛ لتحشر في الطائفة المخالفة لهم، ولا تكن في حزب أهل الشام محبا لهم، فإن المرء يحشر مع من أحب).

(فالجواب) من وجوه: (أحدها): أن الطائفة الناجية جاء في الحديث أن رسول الله ﷺ بينها لما سئل عنها، فقال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" [53] فمن سلك سبيلهم واقتفى منهاجهم وتبعهم بإحسان فهو من هذه الطائفة، سواء كان من أهل البيت رضي الله عنهم أو من غيرهم من جميع الطوائف، ومن خالف ما عليه رسول الله ﷺ وأصحابه فهو مع الهالكين، سواء كان من أهل البيت أو من غيرهم؛ ولهذا قال تعالى في نساء النبي ﷺ، وهن من أهل البيت قطعا: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} إلى قوله: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} الآية. وثبت في الصحيحين أنه قال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله وصالح المؤمنين". [54] وفي الحديث الصحيح: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، [55] قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقال تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}، وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} الآية.

(الوجه الثاني): قوله: "فإن الناس أذعنوا لأهل الشام، ولم يقدروا على منازعتهم، إلا أهل البيت وشيعتهم". وهذا كذب ظاهر يعرفه من له أدنى معرفة بالأخبار والتواريخ؛ وذلك لأن بني أمية قد نازعهم في خلافتهم غير أهل البيت، فنازعهم ابن الزبير حتى تولى على الحجاز والعراق واليمن وغير ذلك من بلاد الإسلام، ولم يخرج عن ولايته إلا طائفة قليلة من أهل الشام، فأرسل مروان بن الحكم إليهم ليأخذ بيعته، فخلعه وأخذ البيعة لنفسه، وبايعه كثير من أهل الشام، كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في سيرته.

ثم خرج على مروان كثير من أهل الشام، فنازعوه وقاتلوه، ثم جرت وقعة بمرج راهط" بين الضحاك ومروان، وقتل النعمان بن بشير رضي الله عنهما، والأصح -كما قال الذهبي وغيره من أهل العلم- أن مروان لا يعد في إمرة المؤمنين، بل باغ خارج على ابن الزبير، ولا عهده -على ابنه عبد الملك- صحيح، وإنما صحت خلافة عبد الملك حين قتل ابن الزبير. وذلك أن عبد الملك جهز لقتاله الحجاج في أربعين ألفا، فحصره بمكة أشهرا، ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابن الزبير أصحابه، فتسللوا إلى الحجاج فظفر به وقتله وصلبه.

وفي أيام ابن الزبير خرج المختار بن أبي عبيد وتبعه طوائف من الناس، وقاتلوا عبد الله بن زياد فقتلوه، وأرسل المختار برأسه إلى زين العابدين علي بن الحسين بالمدينة، وتولى على العراق وطرد بني أمية عنه، ثم بعد ذلك ادعى النبوة، فأرسل إليه عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا معه جيش، فحاربوه حتى قتلوه وأخذوا منه العراق. وفي أيام يزيد بن معاوية خرج عليه أهل المدينة وخلعوه، وأخرجوا أميره من المدينة، فأرسل إليهم يزيد مسلم بن عقبة المري بجيش عظيم حتى قتل أهل المدينة، وجرت فتنة عظيمة قتل فيها من الصحابة رضي الله عنهم معقل بن يسار الأشجعي، وعبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني، وقتل من أولاد المهاجرين والأنصار نحو ثلاثمائة وستة أنفس.

وفي أيام ابن الزبير خرجت طوائف من الخوارج يسمون الأزارقة، فتولى محاربتهم المهلب بن أبي صفرة، وأباد منهم ألوفا، كما ذكره الذهبي وغيره.

وفي أيام عبد الملك خرج عبد الرحمن بن الأشعث، وتبعه خلق عظيم من القراء وغيرهم، وقاتلوا الحجاج، وجرت بينهم وقائع عظيمة، فغلب الحجاج حتى قتل ابن الأشعث، وقتل معه خلق عظيم.

ولو ذهبنا نذكر كل من خرج على بني أمية وبني العباس لطال الكلام جدا، وبعض من خرج عليهم يبغضون عليا رضي الله عنه ويكفرونه، فتبين لكل ذي معرفة بالسير والأخبار بطلان قول هذا المعترض: "إن الناس أذعنوا لأهل الشام ولم يقدروا على منازعتهم إلا أهل البيت وشيعتهم".

(الوجه الثالث): أن يقال: إن هذا المعترض جعل الفرقة الناجية هم أهل البيت وشيعتهم، وجعل الدليل على ذلك هو منازعتهم لأهل الشام، فعلى كلامه أن كل من نازعهم وخرج عليهم هو الناجي، ومن الطائفة التي أشار إليها سيد المرسلين ﷺ مع أن أكثر الناس خروجا عليهم هم الخوارج الذين يكفرون عليا رضي الله عنه ومعاوية وغيرهما من الصحابة ومن والاهما.

فانظر -رحمك الله- إلى هذا الجهل والتخبيط الذي لا يصدر ممن له أدنى مسكة من علم وعقل.

(الوجه الرابع): أنه جعل أهل الشام كلهم قد والوا بني أمية، وصاروا معهم المستقدمين منهم كالذين كانوا في زمانهم، والمستأخرين من أهل الشام بعد انقراض الدولة الأموية، وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن كثيرا من أهل الشام -من العلماء وغيرهم- يبغضون أئمة الجور من بني أمية، ويطلقون ألسنتهم بذمهم والطعن عليهم. وقد تقدم كلام الذهبي في مروان وابنه عبد الملك قريبا.

ولو ذهبنا نذكر كلام علماء الشام -من المتقدمين والمتأخرين- في ذم بني أمية والطعن عليهم لطال الكلام جدا، وليس هذا الجواب محل التطويل والبسط، فمن أراد ذلك فلينظر في كتب القوم حتى يتبين له جهل هذا المعترض وتخبيطه في كلامه بما تمجه الأسماع، وتنبو منه الطباع. والله أعلم.

فصل (جدل المعترض في صفات الله تعالى)

وأما قول المعترض: (قولك: "ونقر بها ونعلم أنها صفات". فإما أن تجعل الواو عاطفة في قولك: "ونعلم"، أو تكون جملة أخرى منفصلة، فما معنى الإقرار بها؟ هل المراد الإقرار بمتونها أو كلماتها، أو كونها من عند الله جل وعلا؟ فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين، فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟ وإن أردت بالواو أنها للحال، أي: نقر بها حال كونها صفات. فإما أن تريد بها قول الواصف فلا معنى لذلك، وتريد أنها تضمنت معنى خاصا للموصوف، أو أنها لفظ دل على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ وهذان التعريفان قد ذكرهما العلماء اصطلاحا وتعريفا في محاورتهم. فإن ترد أنها تدل على معنى زائد على الذات لزمك ما لزم الأشاعرة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته تعالى بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت. وإن ترد أن الصفة دلت على معنى لذاته تعالى، وتغمض عن كيفيته وتصوره في الذهن بأي كيفية، وهذا هو المفهوم من كلامك، فلا تساعدك لغة العرب؛ لأن الصفات قوالب لمعاني مفهومة معقولة مبينة للموصوف معينة له، فقد جزمت بأنها غير مكيفة، كما يفهم من كلامك أيضا مع مخالفة لغة العرب ولزمك التجسيم. أما مخالفة لغة العرب فلا يجوز لك أن تخالفها وتفسر كتاب الله -جل وعلا- بغيرها؛ لمخالفتك لما أنزل الله فيه، وقد قال تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} وقال تعالى: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} إلى غير ذلك من الآيات. فهل يجوز لك أن تقول: استوى بلا كيف. بعد أن قال مبين، وقال: {لعلكم تعقلون}؟ ما كأنك إلا قلت: ما تبين لنا ولا عقلناه، فخاطبنا ربنا بما لا نتبينه ولا نعقله، وليس هو من جنس لغة العرب ولو كان عربيا لتبين لنا وعقلناه. ووجه المخالفة على التحقيق أن كلمات كتاب الله تعالى على مقتضى لغة العرب، مبينة مفهومة، فلا بد أن تدل الكلمة على معنى حقيقي أو مجازي على مقتضى استعماله، فنقول لك: قد صرحت بأن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} دل على الاستواء على العرش، كما فهمناه من كلامك وخطابك.ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض، تعالى الله عن ذلك. فهذا حقيقته عند العرب، فلما أن خشيت لزوم التجسيم في حق الباري، ولجأت إلى التنزيه له تعالى، فلم تجد مهربا، وتوحشت من هذا الأمر الشنيع؛ لفطرة التعظيم لربك -جل وعلا-، فلم تجد إلى الهرب سبيلا إلا بالبلكفة التي قد تستر بها مشايخك، فقلت: استوى بلا كيف، واستأنست بذلك الطيف. فلما ظننت إنك قد حفظت نفسك من التجسيم قلنا لك: هل تقول العرب استوى، أي: جلس جلوسا غير مكيف -بتعطيف الأرجل- ولا مستقر ونحو ذلك، حيث يريدون حقيقة الاستواء والجلوس؟ فإن كان هذا من روايتك عن العرب، وأنهم يطلقون على ما أردت من عدم الكيف ما ذكرناه لك، وهيهات، فلن تستطيع له طلبا. وإن لم يكن، قلنا لك: يا هذا، قد خالفت القرآن العربي المبين، وفسرته بلسان قومك الذين تستروا بالبلكفة، ولم يستروا عوراتهم، ولم تخرج عن شبهة التجسيم، إذ قد أثبت لله تعالى الاستواء فوق العرش، وأقررت بذلك الحدث واعتقدته له تعالى، وهو يستلزم التجسيم عقلا ولغة، فإن العقل -أولا- يحكم بالذات، وبأن هذا الحدث -وهو الاستواء- لا يكون إلا من جسم قبل أن تلتفت إلى كيفيته. وكذلك اللغة، فإن مفهوم الاستواء الحدث، وقد فسروا الحدث بالأثر أو مؤثره على خلاف بين اللغويين، وقد حكمت على الله ووصفته بالاستواء، وجعلته تعالى محلا له كما هو قاعدة الصفة، ولم تقدر أن تخرجه عن الحدث وتجعله غير الحدث بعد أن أقررت بالاستواء الذي هو غير الحدث كما عرفناك، فلزمك أن يكون الله تعالى محلا للاستواء، والمحل لا يكون إلا جسما... إلى قوله: وقد كان له مندوحة عن هذا، وتخلص كما تخلص أهل بيت رسول الله ﷺ من حملها على المجاز، وإخراجها عن الحقائق، التي أوقعته في المضايق، ولم يسعه بعد ذلك إلا أضغاث أحلام ظن بها أنها أخرجته إلى التنزيه ولم تفده، فلو أخرجها إلى المجاز المأنوس المألوف في لغة العرب المنادي بفصاحة كتاب الله وأحاديث رسول الله ﷺ على الوجه الأكمل والتنزيه لله تعالى على الطريق اللائق بجلاله الأعدل، لكان مناسبا لكمال إعجازه والرد إلى محكمه على وجه أبلغ من الحقيقة، وأسلم من التستر بالبلكفة التي كشفت ضعف كلامه وسخفه).

(الوجه الأول في الرد على شبهات المعترض)

(فالجواب) أن يقال: الواو عاطفة، والمعنى نقر بها بألسنتنا ونعلم أنها صفات لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وإن رغمت أنوف أهل البدع والضلال.

فقوله: "فما معنى الإقرار بها؟"، هل المراد الإقرار بمتونها وكلماتها؟ فذلك هو مراد المجيب، مع اعتقاد أنها صفات لله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين. فهذا معنى قول المجيب: ونعلم أنها صفات لله تبارك وتعالى، فالواو الأولى عاطفة، والثانية حالية أي نقر بها حال كوننا نعلم أنها صفات لله، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

(الوجه الثاني المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله وإقراره بأصول الدين)

(الوجه الثاني): قوله: "فالمسلمون جميعا مثلك، ولا يخالفك أحد من المسلمين فما فائدة إخبارك بأنك تقر بها؟"

فنقول: هذا يدل على جهله، فإن المؤمن يخبر بإيمانه بالله ورسوله، وإقراره بأصول الدين التي هي أشهر وأعظم من هذه المسألة، كالشهادتين وغيرهما من الأصول العظيمة. ولا يقال: إن ذلك يعرفه المسلمون كلهم، ولهذا شرع الأذان دائما وتكراره دائما كل وقت، وشرع للرجل إذا فرغ من الوضوء أن يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وأن يقول إذا صلى: "لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن" وأمثال ذلك كثير.

(الوجه الثالث وجوب الإيمان بما جاء عن الله ورسوله كما جاء)

(الوجه الثالث): قوله: "فأما أن تريد بها قول الواصف ولفظه". فلا معنى لذلك، أو تريد أنها تضمنت معنى حاصلا للموصوف، أو أنها لفظ دل على ذات باعتبار معنى هو المقصود كما ذكره ابن الحاجب؟ فمراد المجيب أنها تدل على معنى حاصل للموصوف على ما أراده الله ورسوله كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله".

وذلك أنه يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي ﷺ من القرآن والسنة المعلومة جملة وتفصيلا، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي ﷺ جملة، وذلك هو تحقيق "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله عز وجل من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه، ووعده ووعيده، وأمره ونهيه، وخبره عما كان وما يكون، فإن هذا هو حقيقة الشهادة له بالرسالة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو متفق عليه بين الأمة.

إذا تقرر هذا فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته مما جاء في القرآن، وفي السنة الثابتة عنه ﷺ كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه.

(الوجه الرابع)

(الوجه الرابع): قوله: "فإن ترد أنها تدل على صفات زائدة على الذات لزمك ما لزم الأشاعرة، وهو أن يكون مع الله قدماء، وهي المعاني التي لحقت ذاته تعالى بالوصف، ونحن نبرأ من هذا نحن وأنت". فيقال: أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تبارك وتعالى موجود كامل بجميع صفاته، فإذا قال القائل: "دعوت الله" أو "عبدت الله"، كان اسم الله متناولا للذات المتضمنة لصفاتها، ليس اسم الله اسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها، وحقيقة ذلك أنه لا يكون نفسه إلا بنفسه، ولا يكون ذاته إلا بصفاته، ولا يكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق.

ولكن قول القائل: إنه يلزم أن يكون مع الله قدماء، تلبيس. فإن ذلك يشعر أن مع الله قدماء غيره منفصلة عنه، وهذا لا يقوله إلا من هو أكفر الناس وأجهلهم بالله كالفلاسفة؛ لأن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان، ويراد به ما أمكن العلم دونه.

فالصفة لا تسمى غيرا له، فعلى المعنى الأول يمتنع أن يكون معه غيره، وأما على المعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات، وأن يكون مستلزما لصفات لازمة له، وإثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منها لكل عاقل، ولا خروج عن ذلك إلا بجحد وجود الموجودات مطلقا.

وأما من جعل وجود العلم هو وجود القدرة، ووجود القدرة هو وجود الإرادة، فطرد هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى، وهذا منتهى الاتحاد، وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد، ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

وذلك أن نفاة الصفات -من المتفلسفة ونحوهم- يقولون: إن العاقل والمعقول، والعاشق والمعشوق، واللذة واللذيذ والملتذ هو شيء واحد، وأنه موجود واجب له عناية، ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله، ثم يقولون: وعلمه أو عقله هو ذاته، وقد يقولون: إنه حي عليم قدير، مريد متكلم، سميع بصير.

ويقولون: إن ذلك شيء واحد، فإرادته عين قدرته، وقدرته عين علمه، وعلمه عين ذاته؛ وذلك لأن من أصلهم أنه ليس له صفة ثبوتية، بل صفاته؛ إما سلبية، كقولهم: "ليس بجسم، ولا متحيز، ولا جوهر، ولا عرض". وإما إضافة، كقولهم: "مبدأ وعلة". وإما مؤلف منهما، كقولهم: "عاقل ومعقول وعقل".

ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة، كقولهم: إنه ليس فيه كثرة "كم" ولا كثرة "كيف"، وإنه ليس له أجزاء "حد" ولا أجزاء "كم"، أو إنه لا بد من إثبات واحد موحدا توحيدا منزها عن المقولات العشر، عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة، ونحو ذلك.

ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته التي جاء بها الرسول ﷺ، وهم يسمون نفي الصفات توحيدا، وكذلك المعتزلة ومن ضاهاهم من الجهمية يسمون ذلك توحيدا، وهم ابتدؤوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا، وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين.

فإن التوحيد -الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه- هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.

ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، فيصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، كما قال تعالى: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }.

ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين، وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا: هو الوجود بشرط الإطلاق، كما قاله طائفة منهم، أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه، أو يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط، كما يقوله القونوي وأمثاله، ومعلوم بصريح العقل -الذي لم يكذب قط- أن هذه الأقوال متناقضة باطلة من وجوه:

(أحدها): أن جعل عين العلم عين القدرة، ونفس القدرة هي نفس الإرادة، ونفس الحياة هي نفس العلم، ونفس العلم نفس الفعل، ونفس الحياة هي نفس العلم والإبداع، ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن هذه حقائق متنوعة، فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنزلة من يقول: أن حقيقة السواد حقيقة البياض، وحقيقة البياض حقيقة الطعم، وحقيقة الطعم حقيقة اللون. وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة فمن قال: إن العلم هو المعلوم، والمعلوم هو العلم فضلاله بين، فالتمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول، والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر الناس وعقولهم، وفي لغات جميع الأمم، ومن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى بما لا يخفى فساده على من تصور ما يقول.

فمن قال: إن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فقوله معلوم البطلان، ممتنع وجود ذلك في الأعيان. ولو قدر إمكان ذلك، وفرض العبد في نفسه ذاتا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية فليس ذلك معرفة بالله البتة، وليس رب العالمين ذاتا مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي، ولهذا كان كثير من الملاحدة لا يصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما يقول أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة: نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. فيقال لهم: إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لا يوجب أن يكون هو في نفسه مجردا عن النقيضين، بل يفيد كفركم بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم.

(الوجه الخامس)

(الوجه الخامس): أن يقال: مذهب أهل السنة والجماعة ومن تبعهم بإحسان أن كل ما وصف به الرب نفسه من صفاته فهي صفات مختصة به، غير مخلوقة بائنة منفصلة عنه، بل يمتنع أن يكون له فيها مشارك أو مماثل، فإن ذاته المقدسة لا تماثل شيئا من الذوات، وكذلك صفاته المختصة به لا تماثل شيئا من الصفات؛ لأنه سبحانه أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فاسمه الأحد دل على نفي المشاركة والمماثلة، واسمه الصمد دل على أنه مستحق لصفات الكمال.

والمقصود هنا أن صفات التنزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة:

(أحدهما): نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى عنه النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصمد.

(والثاني): أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة، وهذا من مدلول اسمه الأحد.

فهذان الاسمان العظيمان -الأحد الصمد- يتضمنان تنزيهه عن كل نقص وعيب، وتنزيهه في صفات الكمال أن يكون له مماثل في شيء منهما.

فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت كل ما يجب إثباته لله من وجهين؛ من جهة اسمه "الصمد"، ومن جهة أن ما نفي عنه من الأصول والفروع والنظير استلزم ثبوت صفات الكمال؛ فإن كل ما يمدح به الرب تبارك وتعالى من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، بل وكذلك كل ما يمدح به شيء من الموجودات من النفي فلا بد أن يتضمن ثبوتا، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، فضلا عن أن يكون صفة كمال.

وهذا كما يذكر سبحانه في آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم}، فنفي أخذ السنة والنوم له مستلزم لكمال حياته وقيوميته، فإن النوم أخو الموت، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون.

ثم قال: {له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}، فنفي الشفاعة بدون إذنه مستلزم لكمال ملكه، إذ كل من يشفع إليه شافع بلا إذنه، فقبل شفاعته كان منفعلا عن ذلك الشافع، قد أثرت شفاعته فيه، فصيرته فاعلا بعد أن لم يكن، وكان ذلك الشافع شريك المشفوع إليه في ذلك الأمر المطلوب بالشفاعة إذا كان بدون إذنه، لا سيما والمخلوق إذا شفع إليه بغير إذنه فقبل الشفاعة فإنما يقبلها لرغبة أو لرهبة، إما من الشافع وإما من غيره.

وإلا فلو كانت داعيته من تلقاء نفسه، تامة مع القدرة لم يحتج إلى شفاعته، والله تعالى منزه عن ذلك كما قال في الحديث الإلهي: "إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" [56] ولهذا كان النبي ﷺ يأمر أصحابه بالشفاعة إليه إذا أتاه طالب حاجة يقول: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء". أخرجاه في الصحيحين. [57] وهو إنما يفعل ما أمر الله به. ثم قال: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، بين أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا}؛ فكان في هذا النفي إثبات أنه عالم، وأن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي يعلمهم لا ينالون العلم إلا منه، فإنه الذي خلق الإنسان من علق، وعلم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.

ثم قال: {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما} أي: لا يثقله ولا يكربه، وهذا النفي يتضمن كمال قدرته، فإنه -مع حفظه السماوات والأرض- لا يثقل ذلك عليه كما يثقل على من في قوته ضعف، وهذا كقوله: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} فنزه نفسه عن اللغوب. قال أهل اللغة: "اللغوب" هو الإعياء والتعب.

وكذلك قوله: {لا تدركه الأبصار} والإدراك -عند السلف والأكثرين- هو الإحاطة، وقالت طائفة: هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية لا مدح فيه، فإن العدم لا يرى، وكل وصف لا يشترك فيه الوجود، والعدم لا يستلزم أمرا ثبوتيا، ولا يكون فيه مدح، إذ هو عدم محض بخلاف ما إذا قيل: لا يحاط به، فإنه يدل على عظم الرب -جل جلاله-، وأن العباد -مع رؤيتهم له- لا يحيطون به رؤية، كما أنهم -مع معرفتهم- لا يحيطون به علما، وكما أنهم -مع مدحهم له وثنائهم عليه- لا يحصون ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه المقدسة، كما قال أفضل الخلق ﷺ: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". [58]

(الوجه السادس)

(الوجه السادس): أن يقال: قد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يقول: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك" [59] أخرجاه في الصحيحين، وهذا مما يدل على تغاير صفات الله؛ لأنه استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، فدل ذلك على أن الرضى غير السخط، والمعافاة غير العقوبة، ومن جعل نفس إرادته هي رحمته وهي غضبه يكون معنى قوله ﷺ: "أعوذ برضاك من سخطك" عنده أنه استعاذ بنفس الإرادة منها، وهذا ممتنع؛ فإنه ليس عنده للإرادة صفة ثبوتية يستعاذ بها من أحد الوجهين باعتبار ذلك الوجه منها باعتبار الوجه الآخر، بل الإرادة لها عنده مجرد تعلق بالمخلوق، والتعلق أمر عدمي، وهذا بخلاف الاستعاذة به منه؛ لأن له صفات متنوعة، فيستعاذ به باعتبار ومنه باعتبار.

ومن قال: إنه ذات لا صفة لها، أو وجود مطلق لا يتصف بصفة ثبوتية. فهذا يمتنع وجوده في الخارج، وإنما يمكن تقدير هذا في الذهن كما تقدر الممتنعات، فضلا عن كونه يكون ربا خالقا للمخلوقات.

وهؤلاء إنما ألجأهم إلى هذا مضايقات الجهمية والمعتزلة لهم في مسائل الصفات، فإنهم صاروا يقولون: كلام الله هو الله أو غير الله؟ فإن قلتم: هو غيره. فما كان غير الله فهو مخلوق، وإن قلتم: هو هو، فهو مكابرة، وهذا أول ما احتجوا به على الإمام أحمد رحمه الله في المحنة، فإن المعتصم لما قال لهم: ناظروه. قال له عبد الرحمن ابن إسحاق: ما تقول في القرآن، أو قال: في كلام الله، أهو الله أو غيره؟ فقال له أحمد: ما تقول في علم الله، أهو الله أو غيره؟

فعارض أحمد بالعلم فسكت، وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله رحمه الله بالمناظرة، فإن المبتدع بنى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه لما قام بنفسه من الشبهة.

فينبغي -إذا كان المناظر مدعيا أن الحق معه- أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق أعطيه، وإلا فما دام معتقدا نقيض الحق لم يدخل الحق أذن قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل، فامحه أولا ثم اكتب فيه الحق، فهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم، فذكر لهم أحمد من المعارضة والنقض ما يبطلها.

وقد تكلم أحمد في رده على الجهمية في جواب هذا، وبين أن لفظ الغير مجمل، يراد بالغير ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير ما ليس هو الشيء، فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلمه ونحو ذلك هو هو؛ لأن هذا باطل، ولا يطلق أنه غيره؛ لئلا يفهم أنه بائن عنه، منفصل عنه كما رواه الخلال رحمه الله قال: أخبرني الخضر ابن المثنى الكندي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: هذا ما أخرجه أبي رحمه الله في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته غير تأويله. فقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه:

رد الإمام أحمد على الزنادقة والجهمية

"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا مقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين، وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا.

"فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، فلقي أناسا من المشركين يقال لهم: السمنية، فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك. فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة؟ قال لا. قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما.

ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار.

فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال: نعم. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا. قال: فكذلك الله، لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.

ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه؛ قوله عز وجل: {ليس كمثله شيء} {وهو الله في السماوات وفي الأرض} و {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.

فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله ﷺ وزعم أن من وصف الله بشيء -مما وصف به نفسه أو حدث عنه رسوله- كان كافرا، وكان من المشبهة، وأضل بكلامه بشرا كثيرا، واتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية.

فإذا سألهم الناس عن قول الله: {ليس كمثله شيء} يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف، ولا يعرف بصفة ولا بفعل، ولا له غاية، ولا له منتهى، ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواح ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو ثقيل ولا خفيف، ولا له نور ولا جسم، وليس هو بمعلوم ولا معقول، [60] وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.

فقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء. فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية.

فإذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتون بشيء، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون. فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم، ولا يتكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منفية.

فإذا سمع الجاهل قولهم ظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله، ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلال وكفر، فما يسأل عنه الجهمي يقال له: تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فتجد في سنة رسول الله أنه قال: إن القرآن مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فمن أين قلت؟ فيقول: من قول الله: {إنا جعلناه قرآنا عربيا}.

وزعم أن جعل بمعنى خلق، فكل مجعول هو مخلوق، [61] فادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها، وكما يبتغي الفتنة في تأويلها، وذلك أن "جعل" في القرآن من المخلوقين على وجهين: على معنى تسمية، وعلى معنى فعل من أفعالهم، فقوله: {الذين جعلوا القرآن عضين}، قالوا: هو شعر وأساطير الأولين، وأضغاث أحلام. فهذا على معنى تسمية.

وقال: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} يعني: إنهم سموهم إناثا، ثم ذكر "جعل" على غير معنى تسمية، فقال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} فهذا على معنى فعل من أفعالهم.

وقال: {حتى إذا جعله نارا} هذا على معنى "جعل"، فهذا على جعل المخلوقين، ثم جعل من أمر الله على معنى خلق لا يكون إلا خلق، ولا يقوم إلا مقام خلق لا يزول عنه المعنى.

وإذا قال الله: "جعل" على غير معنى خلق لا يكون خلق، ولا يقوم مقام خلق، ولا يزول عنه المعنى، فمما قال الله جعل على معنى خلق قوله: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور}، يعني: وخلق الظلمات والنور. وقال: {وجعل لكم السمع والأبصار}. يقول: وخلق لكم. وقال: {وجعلنا الليل والنهار آيتين}، يقول: وخلقنا الليل والنهار آيتين. وقال: {وجعل الشمس سراجا}، وقال: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها}، يقول: وخلق منها زوجها، يقول: خلق من آدم. وقال: {وجعل لها رواسي}، يقول: وخلق لها رواسي، ومثله في القرآن كثير، فهذا وما كان على مثاله لا يكون إلا على معنى خلق.

"ثم ذكر جعل على معنى غير خلق قوله: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة}، لا يعني: ما خلق الله من بحيرة ولا سائبة، وقال الله لإبراهيم: {إني جاعلك للناس إماما}، لا يعني: إني خالقك للناس إماما؛ لأن خلق إبراهيم كان متقدما. [62]

قال إبراهيم: {رب اجعل هذا البلد آمنا}. وقال إبراهيم: {رب اجعلني مقيم الصلاة}، لا يعني: اخلقني مقيم الصلاة. وقال: {يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة}.

وقال لأم موسى: {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} لا يعني: وخالقوه من المرسلين؛ لأن الله وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعده رسولا، وقال: {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم} وقال: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة} لا يعني: ونخلقهم أئمة، وقال: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا}، ومثله في القرآن كثير.

"فهذا -وما كان على مثاله- لا يكون على معنى خلق، فإذا قال الله: "جعل" على معنى خلق، وقال: "جعل" على غير معنى خلق، فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى خلق؟ فإن رد الجهمي الجعل إلى المعنى الذي وصفه الله فيه، وإن كان لا كان من الذين يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.

فلما قال الله: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} يقول: "جعله عربيا" جعله جعلا على معنى فعل من أفعال على غير معنى خلق، وقال في سورة الزخرف: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، وقال: {لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين}، وقال: {فإنما يسرناه بلسانك}. فلما جعل الله القرآن عربيا، ويسره بلسان نبيه ﷺ كان ذلك فعلا من أفعال الله تبارك وتعالى جعل القرآن به عربيا بينا يعني هذا بيان، لمن أراد الله هداه.

ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر وهو من المحال، فقال: أخبرونا عن القرآن، هو الله أو غير الله؟ فادعى في القرآن أمرا، فوهم للناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن: هو الله أو غير الله؟ فلا بد له من أن يقول أحد القولين، [63] فإن قال: هو الله. قال له الجهمي: كفرت. وإن قال: هو غير الله. قال: صدقت. فلم لا يكون غير الله مخلوقا؟ فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قول الجهمي، وهذه المسألة من الجهمي هي من المغاليط.

(فالجواب) للجهمي إذا سأل فقال: أخبرونا عن القرآن: هو الله أو غير الله؟ قيل له: إن الله -جل ثناؤه- لم يقل: في القرآن إن القرآن أنا، ولم يقل: هو غيري، وقال: هو كلامي، فسميناه باسم سماه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم غيره كان من الضالين.

وقد فصل الله بين قوله وبين خلقه، ولم يسمه قولا، فقال: {ألا له الخلق والأمر}، فلما قال: {ألا له الخلق} لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق فقال: {والأمر} فأمره هو قوله: {تبارك الله رب العالمين} أن يكون قوله خلقا.

وقال: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم}، ثم قال للقرآن: {أمرا من عندنا}، وقال: {لله الأمر من قبل ومن بعد} يقول: لله القول من قبل الخلق ومن بعد الخلق، فالله يخلق ويأمر، وقوله غير خلقه. وقال: {ذلك أمر الله أنزله إليكم}، وقال: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور}. ثم قال أحمد رحمه الله:

(باب بيان ما فصل الله به بين قوله وبين خلقه)

وذلك أن الله -جل ثناؤه- إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسام فهو مرسل غير مفصل، وإذا سمى شيئين مختلفين لم يدعهما مرسلا حتى يفصل بينهما، من ذلك قوله: {يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا} فهذا شيء واحد سماه بثلاثة أسام وهو مرسل، ولم يقل: إن له أبا وشيخا وكبيرا.

وقال: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات}، ثم قال: {وأبكارا} فلما كانت البكر غير الثيب لم يدعه مرسلا حتى فصل بينهما، وذلك قوله: {وأبكارا}.

وقال: {وما يستوي الأعمى}، ثم قال: {والبصير}. فلما كان البصير غير الأعمى فصل بينهما، ثم قال: {ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور}. فلما كان كل واحد من هذا غير الشيء الآخر فصل بينها، ثم {هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور}، كله شيء واحد، فهذا مرسل ليس بمفصل.

فكذلك إذا قال الله: {ألا له الخلق والأمر} لأن الخلق غير الأمر، فهو مفصل. انتهى ما ذكره أحمد رحمه الله.

وهذا الذي ذكره أحمد رحمه الله هو الذي عليه الحذاق من أئمة السنة، وهو قول ابن كلاب وغيره، فهؤلاء لا يطلقون القول بأن صفات الله هي الله، ولا أنها غيره؛ وذلك لأن هذا إثبات قسم ثالث وهو خطأ، ففرق بين إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجماع، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقا وإثبات معنى ثالث خارج من مسمى اللفظين.

فجاء بعد هؤلاء أبو الحسن الأشعري وكان أحذق ممن بعده، فقال بنفي مفرد لا مجموعا، فيقول مفردا: ليست الصفة هي الموصوف؟ ويقول مفردا: ليست غيره؟ ولا يجمع بينهما، فلا يقال: لا هي هو، ولا هي غيره؛ لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق. وجاء بعده أقوام فقالوا: بل ينفى مجموعا، فيقال: لا هي هو، ولا هي غيره، ثم كثير من هؤلاء إذا بحثوا يقولون: هذا المعنى إما أن يكون هذا وإما أن يكون غيره؛ فيتناقضون، وسبب ذلك أن لفظ الغير مجمل يراد بالغير: المباين المنفصل، ويراد به ما ليس هو غير الشيء، وقد يعبر عن الأول بأن الغيرين ما جوز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو وجود، ويعبر عن الثاني بأنه ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر. فبين هذا وهذا فرق ظاهر.

فصفات الرب اللازمة لا تفارقه البتة، فلا يكون غيرا بالمعنى الأول، ويجوز أن يعلم بعض الصفات دون بعض، ويعلم الذات دون الصفة فيكون غيرا باعتبار الثاني.

ولهذا أطلق كثير من مثبتة الصفات عليها أنها أغيار للذات، وقالوا: إنها غير الذات. ولا يقولون إنها غير الله، فإن لفظ الذات لا يتضمن الصفات، بخلاف اسم الله فإنه يتناول الصفات.

ولهذا كان الصواب -على قول أهل السنة- هو أن لا يقال في الصفات: إنها زائدة على اسم الله، بل من قال ذلك فقد غلط عليهم، وإذا قيل: هي زائدة على الذات أم لا؟ كان الجواب أن الذات الموجودة في نفس الأمر مستلزمة للصفات، فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات، بل ولا يوجد شيء من الذوات مجردا عن جميع الصفات، بل لفظ "الذات" تأنيث "ذو"، ولفظ "ذو" مستلزم للإضافة، وهذا اللفظ مولد، وأصله أن يقال: ذات علم وذات قدرة، وذات سمع، كما قال الله تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ويقال: فلانة ذات مال وجمال.

ثم لما علموا أن نفس الرب ذات علم وقدرة، وسمع وبصر، عرفوا لفظ الذات ردا على من نفى صفاتها، وصار التعريف يقوم مقام الإضافة، بحيث إذا قيل لفظ الذات فهو ذات كذا. فالذات لا يكون إلا ذات علم وقدرة، ونحوه من الصفات لفظا ومعنى.

وإنما يريد محققو أهل السنة بقولهم: "الصفات زائدة على الذات" أنها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة لا صفات لها، فأثبت أهل السنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر، لا زيادة على نفس الله -جل جلاله-، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات، لا يمكن أن تفارقها، ولا توجد الصفات بدون الذات، ولا الذات بدون الصفات.

والمقصود هنا بيان بطلان كلام هذا المعترض وقوله: إن من أثبت الصفات لله تبارك وتعالى لزمه أن يكون مع الله قدما، فظهر -بما ذكرنا عن أهل السنة والجماعة- أن كلامه هذا تلبيس وجهل وضلال، وأن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات الثابتة في القرآن والسنة هو الصواب الموافق لصريح المعقول، كما أنه هو الوارد في صحيح المنقول.

(الوجه السابع الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها)

(الوجه السابع) أن يقال: الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجري على ظواهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتان.

أما الأولون فقسمان:

(أحدهما): من يجريها على ظواهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل بالكتاب والسنة، ولهذا أنكره السلف عليهم، وإليه توجه الرد بالحق.

(والثاني): من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري اسم الله العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين؛ إما جوهر محدث، وإما عرض قائم، فالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والرضى والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض. والوجه واليدان والعين في حق المخلوق أجسام.

فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، فلم لا يجوز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجساما لا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين؟

وهذا هو المذهب الذي حكيناه عن أهل السنة، وهو الذي نعتقده وندين لله به، وهو الذي يدل عليه كلام علماء السنة، وهذا أمر واضح، ولله الحمد والمنة، ولا يلزم عليه شيء من اللوازم الباطلة؛ وذلك لأنه حق، ولازم الحق حق، فإن الصفات كالذات.

فكما أن ذاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس ذوات المخلوقات، فكذلك صفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات، فمن قال: لا أعقل علما ويدا واستواء إلا من جنس العلم واليد والاستواء المعهود. قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟

(الوجه الثامن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته)

(الوجه الثامن) أن يقال: صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوقين فقد ضل في عقله ودينه، وخالف لغة العرب وما فطر الله عليه عباده.

فتبين -بما ذكرنا- أن هذه اللوازم التي ذكرها هذا المعترض لا تلزم على قولنا الذي حكيناه عن أهل السنة والجماعة.

(الوجه التاسع لوازم الصفات التي يدعيها المبتدعة إنما تلزم على مذهبهم دون مذهب السلف)

(الوجه التاسع) أن يقال: اللوازم الشنيعة الفظيعة المخالفة لصحيح المعقول وصريح المنقول، إنما تلزم على قول هذا المعترض وسلفه المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والقدرية، ومن نحا نحوهم من الشيعة والزيدية.

وبيان ذلك أنه إذا كان الكتاب والسنة مملوءان مما ظاهره عندهم تشبيه وتجسيم وتكييف، كيف يجوز على الله تعالى، ثم على رسوله ﷺ ثم على الصحابة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا يدلون عليه، حتى يجيء أنباط الفرس والروم والفلاسفة فيثبتون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل اعتقادها؟

لئن كان الحق فيما يقوله هؤلاء المتكلمون لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم -معاشر العباد- لا تطلبوا معرفة الله ولا ما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به، وإليه عند التنازع فارجعوا؛ فإنه الحق الذي تعبدتكم به.

وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا فاجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو اسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء، وهو لازم لهم لزوما لا محيد عنه.

ومضمونه أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول ﷺ معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وما أشبه حال هؤلاء بالذين قال الله فيهم: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} إلى قوله: {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا}.

فإن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو إلى سنته بعد وفاته، فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ذلك أعرضوا، ورأيتهم يصدون عنه صدودا، ويقولون: يلزم منه كذا، وما قصدنا إلا إحسانا وتوفيقا بين هذه الطريقة التي سلكناها وبين الدلائل النقلية.

ثم عامة هذه الشبهات -التي يسمونها دلائل- إنما قلدوا فيها طاغوتا من طواغيت المشركين والصابئين أو بعض ورثته الذين أمروا أن يكفروا به، وقد قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.

وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} إلى قوله: {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.

(الوجه العاشر لا يجوز تفسير كتاب الله تعالى بغير لغة العرب)

(الوجه العاشر) قوله: "أما مخالفة لغة العرب فلا يجوز لك أن تخالفها وتفسر كتاب الله -جل وعلا- بغيرها؛ لمخالفتك لما أنزل الله فيه، فقد قال تعالى: {نزل به الروح الأمين} الآية، وقال: {قرآنا عربيا} ".

فهذا الكلام حق أريد به باطل، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه للخوارج، لما قالوا له: أشركت؛ لأنك حكمت الرجال في دين الله، وقد قال تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} قال: "كلمة حق أريد بها باطل". وهذا من أعظم حجج المشبهة القائلين بأنا لا نعقل من هذه الصفات إلا مثل صفاتنا؛ لأنه نزل بلغة العرب، فهم أسعد منك بهذه الحجة؛ لأن اللفظ يحمل على ظاهره عند العرب كما تزعم.

وأما السلف وأهل السنة والجماعة فلا تلزمهم هذه الحجة؛ لأنهم يقولون: إنها على ظاهرها في حقه تبارك وتعالى، لكنها كما يليق بجلاله وعظمته؛ لأن الصفات تابعة للذات، كما تقدم تقريره قريبا.

(الوجه الحادي عشر لو كانت أسماء الصفات مجازات لجاز نفيها ككل مجاز)

(الوجه الحادي عشر) قوله: "هل يجوز لك أن تقول: استوى بلا كيف بعد أن قال: {مبين} وقال: {لعلكم تعقلون}؟ ما كأنك إلا قلت: ما تبين لنا ولا عقلناه، فخاطبنا ربنا بما لا نتبينه ولا نعقله، وليس هو من جنس لغة العرب، ولو كان عربيا لتبين لنا وعقلناه..." إلى آخر كلامه.

فيقال: هذا مما يدل على جهلك وعدم معرفتك بالحجج التي تحتج بها؛ وذلك لأن المشبهة يردون عليك بكلامك هذا: "نحن لا نعقل من لغة العرب إلا ما قلنا"، والعرب يحملون الكلام على حقيقته، فما المانع من حمل هذه النصوص على ظواهرها في حقنا، والمجاز إنما يصار إليه عند الضرورة، ولا ضرورة هنا. وأيضا يقولون: من قاعدة المجاز جواز نفيه، ولا يجوز لأحد أن ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل فيقول: ليس بسميع، ليس بحي، ليس ببصير، ليس بقادر، ليس بمتكلم، ليس بمستو على العرش، فكيف تقولون: إنها من المجاز ومن قاعدة العرب أنهم يجوزون نفي المجاز؟

فإذا قالوا للشجاع: هذا أسد، إذا أرادوا تشبيهه بالأسد في الشجاعة، جوزوا أن ينفى ذلك عنه، ويقال ليس بأسد، بل هذا إنسان ناطق متكلم عاقل.

وكذلك إذا قالوا للبليد: حمار، تشبيها له بالحمار في الجهالة، جوزوا أن ينفى ذلك عنه فيقال: ليس هذا بحمار، وإنما هو شبه له بالجهل، وأشباه ذلك كثير في كلامهم.

وأما إذا قال أهل السنة: إن الله أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا بكيفية ذلك، فقلنا بما قال الله، وسكتنا عما سكت الله عنه، وحملنا الاستواء على حقيقته في حق الباريء تعالى، فإذا قيل لنا: كيف استوى؟ قلنا: لم يخبرنا الله بذلك، فهذا معنى قولنا: "بلا كيف"، فأين في هذا ما يخالف لغة العرب؟

وما أحسن ما قال بعض أهل السنة: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه؟ أو نحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو، وذات الباريء غير معلومة للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لذلك الموصوف، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء". وقد أخبر الله تعالى أنه: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الآية، وقال ﷺ: "يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". [64]

فإذا كان نعيم الجنة -وهو خلق من خلق الله- كذلك، فما الظن بالخالق -سبحانه وتعالى؟ أفلا يعتبر العاقل بهذا عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ وقد قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.

وبما ذكرنا يتبين للمنصف اللبيب أن أهل السنة والجماعة هم أسعد الناس بفهم كتاب الله وتعقله وتفهمه وتدبره، وقد هداهم الله لما اختلف فيه من الحق، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

(الوجه الثاني عشر حقيقة الاستواء في لغة العرب)

(الوجه الثاني عشر): قوله: (قد صرحت بأن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} دل على الاستواء على العرش كما فهمناه من كلامك وخطابك. ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها إلى بعض، تعالى الله عن ذلك، فهذا حقيقته عند العرب).

فيقال: هذا كذب ظاهر على اللغة العربية، وليس هذا حقيقته عند العرب في حق الباريء تعالى، وإذا كان علماء العربية قد بينوا أن الاستواء في حق المخلوق يطلق على معان كثيرة، كالاستيلاء والاستقرار وغير ذلك، فكيف يقول هذا الجاهل: إن لغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض، تعالى الله عن ذلك، فهذا حقيقته عند العرب.

ولكن هذا المعترض وشيعته -لظلمة قلوبهم وزيغها عن الحق- لا يفهمون من صفات الله إلا ما يفهمونه من صفات المخلوقين؛ ولذلك زعموا أن ظاهر هذه النصوص الواردة في القرآن والسنة تشبيه وتجسيم وتكييف، وكلامنا في هذا الوجه وما قبله من الوجوه شاف كاف في نقض كلامه وبيان بطلانه لمن أراد الله هدايته، والله أعلم.

فصل (مذهب آل البيت في الصفات)

وأما قوله: (فإن قلت: قد أبنت خطأ المجيب وتخليطه، وذكرت في كلامك أن المرجع عند الشبه إلى قرناء كتاب الله تعالى أهل بيت رسول الله ﷺ، فما تحقيق مذهبهم في الصفات؟ وما أثبت الله تعالى لنفسه في صريح الآيات من اليد والاستواء وغيرهما حتى تطمئن القلوب إليه، ويكون المعول في الاعتقاد عليه). ثم نقل عن محمد بن عز الدين المفتي في كتاب "البدر الساري شرح واسطة الدراري في توحيد الباري" من نحو قادر وعالم وموجود وقديم وحي... إلى آخر كلامه، وكذلك ما ذكره عن عقد النظام وغيره. ثم قال: "ولو اتسع المقام، لذكرنا أقوال علماء الآل -عليهم السلام- قولا قولا، والوجه على ما ذهبوا إليه، هو أنهم اطلعوا على حقيقة ما هو قرينهم كتاب الله تعالى الذين هم تراجمته، وفهموه بفهم جدهم ﷺ حيث قال: "فهمهم فهمي".

(فالجواب) أن يقال:

(أولا): نطالبك بصحة هذا عن زين العابدين رضي الله عنه.

ويقال: (ثانيا): من رواه من الأئمة المعروفين بالعلم ومعرفة الحديث: كالإمام أحمد ومالك بن أنس والشافعي والزهري والحسن بن أبي الحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة، وأمثال هؤلاء الذين اشتهر عند الأمة أنهم أهل صدق فيما نقلوه عن أهل البيت وغيرهم.

ومجرد نقل من ذكرت عنه لا يوجب صحة النقل عنه بذلك، وهؤلاء الذين ذكرت أنهم نقلوا ذلك عنه لا يعرفون عند أهل العلم بصدق ولا أمانة ولا ديانة كما يعرف أئمة أهل البيت: مثل زين العابدين، وابنه زيد بن علي، وأشباههم رضي الله عنهم.

ويقال: (ثالثا): قد نقل عن أهل البيت ما يخالف ما نقلته عمن ذكرت، فمن ذلك ما نقل البغوي في تفسيره المشهور، قال فيه: قال ابن عباس رضي الله عنه وأكثر المفسرين من السلف: "استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء". وكذلك قال الخليل بن أحمد، وهو من أئمة اللغة المشهورين.

وروى البيهقي بإسناده: قال الفراء: "استوى إلى السماء أي: صعد." قاله ابن عباس. والتفاسير المأثورة عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين مثل: تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل: تفسير الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد، ومن قبلهم، مثل: تفسير عبد بن حميد، وتفسير سنيد، وتفسير عبد الرازق، ووكيع بن الجراح، فيها من هذا الباب الموافق لقول أهل السنة والجماعة ما لا يحصى، فمن أراد ذلك فليطالع في تلك الكتب.

وهؤلاء الأئمة هم الذين يعرفون مذهب أهل البيت، ويميزون بين صحيح القول من ذلك والمكذوب منه، وهم المتبعون لأهل البيت حقا؛ وبهذا تبين بطلان قول المعترض.

فصل (الكلام عن الاستواء)

وأما قوله في الكلام على الاستواء: (وقوله: قال الإمام الأعظم القاسم بن محمد في كتابه "الأساس": جمهور أئمتنا أن العرش عبارة عن عز الله وملكه... إلى آخره) قال في شرحه: (اعلم أن تأويل الاستواء على العرش متفق عليه إلا عند مثل ابن عربي والمجسمة)، ثم ذكر الحامل له على التأويل.

(فالجواب) أن يقال: هذا يدل على جهل المعترض، وأنه لا يعرف المذاهب في هذه المسألة، وجهل من نقل عنه ذلك؛ فإن مذهب أهل السنة في هذه المسألة من التابعين وأتباعهم، والأئمة الأربعة وأصحابهم، أمر مشهور معلوم عند من له أدنى معرفة بمذاهب الناس، حتى المأولة من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يقرون بذلك إذا ذكروا آيات الصفات، وأحاديثها في تفاسيرهم، وعقائدهم يقولون: فيها مذهبان: مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت مع اعتقاد أنها صفات لله، لا تشبه صفات المخلوقين. وقالوا ذلك أسلم، (والثاني) مذهب الخلف: وهو تأويلها وصرفها عن ظاهرها كتأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة والنعمة، وأشباه ذلك.

وقد نقل مذهب السلف في هذه المسألة -كما ذكرنا- غير واحد من الأئمة: كحرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في مسائله، والإمام البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، والخلال في كتاب السنة، وأبي عثمان إسماعيل الصابوني، وعثمان بن سعيد الدارمي الذي هو من أقران البخاري ومسلم، وذكروا مذهب التأويل عن جهم بن صفوان وبشر المريسي وأشباههم ممن هو معروف بالبدعة والضلالة، وهذا نص كلامهم بحروفه:

(نقول مصنفي السلف في مذهب أهل السنة في صفات الله تعالى)

قال أبو محمد حرب الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما، وذكر من الآثار عن النبي ﷺ وأصحابه وغيرهم ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات. قال في آخره في الباب الجامع:

(قول الإمام الكرماني في مذهب السلف)

(باب القول في المذهب): هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل الشام والعراق والحجاز وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا منها، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع خارج من الجماعة، وزائل عن منهج السنة وسبيل الحق.

وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وبقي بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، وذكر الإيمان في القدر والوعد والوعيد والإمامة، وما أخبر به الرسول ﷺ من أشراط الساعة، وغير ذلك... إلى أن قال: "وهو سبحانه بائن عن خلقه، لا يخلو من علمه مكان". ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه -عز ذكره وتعالى جده، ولا إله غيره-. والله سبحانه سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك [65] ويسمع ويبصر وينظر، ويقبض ويبسط ويعرج، ويحب ويكره، ويبغض ويرضى، ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو ويغفر، ويعطي ويمنع، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} إلى أن قال: ولم يزل الله متكلما عالما، فتبارك الله أحسن الخالقين".

(قول الإمام الأثرم في مذهب السلف)

وقال الفقيه الحافظ أبو بكر الأثرم صاحب الإمام أحمد في كتاب السنة، وقد نقله عنه الخلال في السنة: حدثنا إبراهيم بن الحارث- يعني: العبادي- حدثني الليث بن يحيى، سمعت إبراهيم بن الأشعث: قال أبو بكر صاحب الفضيل: سمعت الفضيل ابن عياض يقول: "ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؟ لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }.

فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك. فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ وإذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يتحرك، أو يزول عن مكانه. فقل: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء.

وقد ذكر هذا الكلام الأخير عن الفضيل بن عياض رحمه الله البخاري: رحمه الله في كتاب خلق أفعال العباد، هو وغيره من أئمة أهل السنة، وتلقوه بالقبول، قال البخاري، وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال: "من زعم أن {الرحمن على العرش استوى} على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي".

(قول إسحاق بن إبراهيم في كتاب السنة)

وقال إسحاق بن إبراهيم في كتاب السنة: أخبرني عبيد الله بن حنبل أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال: قال عمي أحمد بن حنبل: "نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء بلا حد، ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده أحد، فصفات الله له ومنه، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار، وهو عالم الغيب والشهادة، وعلام الغيوب، ولا يدركه وصف واصف، وهو كما وصف نفسه. وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علم قدرته أحد، غلب الأشياء كلها بقدرته وسلطانه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وكان الله قبل أن يكون شيء. والله هو الأول والآخر لا يبلغ أحد حد صفاته".

قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى "أن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا." و"أن الله يرى." و"أن الله يضع قدمه." وما أشبه هذه الأحاديث.

فقال أبو عبد الله: "نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى" أي: لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل، فنقول: معناها كذا، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.

وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد، قال: "ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه، وقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، فصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه. قال: فهو سميع بصير بلا حد، ونؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفات من صفاته لشناعة شنعت، لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر. "يضحك الله" ولا يعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول ﷺ. لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد. تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة".

قلت: والمشبهة ما يقولون؟ قال: "من قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي. فقد شبه الله بخلقه، وهذا يحده، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه". انتهى.

والكتب الموجودة فيها ألفاظهم الثابتة بأسانيدها عنهم، وغير أسانيدها كثير، مثل: كتاب الرد على الجهمية لابن أبي حاتم، والرد عليهم لمحمد بن عبد الله الجعفي شيخ البخاري، والرد عليهم للحكم بن معبد الخزاعي، وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة لحنبل بن عم الإمام أحمد، والسنة لأبي داود السجستاني، والسنة للأثرم، والسنة لأبي بكر الخلال، والرد على الجهمية للدارمي، ونقضه على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد. وكتاب التوحيد لابن خزيمة، والسنة للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني، وشرح السنة للألكائي، والإبانة لابن بطة، وكتب ابن منده، والسنة لأبي ذر الهروي، والأسماء والصفات للبيهقي، والأصول لأبي عمر الطلمنكي، وكتاب الفاروق لأبي إسماعيل الأنصاري، والحجة لأبي القاسم التيمي..، وغير ذلك من الكتب التي يذكر مصنفوها مذاهب السلف بالنقول الثابتة بألفاظهم الكثيرة المتواترة في إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه تبارك وتعالى.

فكيف يقول هذا الجاهل: "إن تأويل الاستواء متفق عليه إلا عند ابن عربي والمجسمة؟ اللهم إلا أن يريد بالمجسمة أهل السنة والحديث: كالصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وأتباعهم من أهل الحديث وغيرهم كما يلقبهم بذلك الجهمية والمعتزلة؛ فإنهم يسمون كل من أثبت صفات الله مجسما.

وأما ابن عربي وأمثاله من أهل وحدة الوجود، فهم من غلاة الجهمية، وإنما حملهم على ذلك المبالغة في إنكار الصفات؛ وذلك أن الجهمية لما أنكروا أن يكون الله تكلم بالقرآن، قالوا: "إن الله خلقه، وأحدثه في بعض الأجسام، فنسبة ذلك إلى الله مجاز، فلزم أن يكون كلام جميع الخلق كلام الله؛ لأنه خلق ذلك فيهم". ولهذا قال ابن عربي:

وكل كلام في الوجودكلامه ** سواء علينا نثره نظامه

ومعلوم أن من خالف ما جاءت به الرسل عن الله بمجرد عقله، فهو أولى بالكفر والجهل والتشبيه والتجسيم ممن لم يخالف ما جاءت به الرسل، وإنما خالف ما علم بالعقل؛ إن كان ذلك حقا، كما قال بعض نفاة الصفات لما تأمل أحوال أصحابه، وحال مثبتيها، قال: لا ريب أن حال هؤلاء عند الله خير من حالنا؛ فإنهم إن كانوا مصيبين نالوا الدرجات العالية، والرضوان الأكبر، وإن كانوا مخطئين، فإنهم يقولون: يا رب نحن صدقنا ما دل عليه كتابك وسنة رسولك، إذ لم يتبين لنا بالكتاب والسنة نفي الصفات كما دل كلامك على إثباتها.

فنحن أثبتنا ما دل عليه كلامك، وكلام رسولك محمد ﷺ، فإن كان الحق بخلاف ذلك، فلم يبين لنا الرسول ﷺ ما يخالف ذلك، ولم يكن خلاف ذلك مما يعلم ببدائه العقول، بل إن قدر أنه حق، فإنما يعلمه الأفراد، فكيف والمخالفون في ذلك يقرون بالحيرة والارتياب.

قال النافي: فإن كنا نحن المصيبين، فإنه يقال لنا: أنتم قلتم شيئا لم آمركم بقوله، وطلبتم علما لم آمركم بطلبه، فالثواب إنما يكون لأهل الطاعة، وأنتم لم تمتثلوا أمري. قال: وإن كنا مخطئين فقد خسرنا خسرانا مبينا.

فصل (في إبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء)

وأما قوله في تأويل الاستواء بالاستيلاء، ويساعده من كلام العرب ما نقله الغزالي من قول الشاعر:

قد استوى عمرو على العراق ** من غير سيف أو دم مهراق

(فالجواب) أن يقال: أنت قد نقضت كلامك المتقدم، وقولك: ولغة العرب حاكمة بأن حقيقة الاستواء على العرش: الجلوس عليه، وهو القعود مع تعطف الرجلين ورجوع بعضها على بعض.

وبيان ذلك أن الشاعر أخبر أن عمرا استوى على العراق، أي ملكه، فتقول: إن معناه جلس على العراق كله، وعطف رجليه على جميعه! فإن قلت هذا، فهذا مكابرة، وإن قلت: إن المعنى باستواء عمرو على العراق ملكه، فقد نقضت ما أصلته وهدمت ما قررته، فاعجب لبان يخرب ما بنى. ولم تعلم بجهلك بلغة العرب، وما يجوز على الله، وما يمتنع عليه أن ذلك لا يجوز في حقه تبارك وتعالى، وذلك أن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلها. فأي فائدة في تخصيص العرش؟ وأيضا الاستيلاء يكون بعد قهر وغلبة، والله تعالى منزه عن ذلك.

وقد أخرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي -وهو من أكابر أئمة اللغة- أنه سئل عن معنى: {استوى على العرش} فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقيل: يا أبا عبد الله، معناه استولى؟ فقال: اسكت. لا يقال استولى على الشيء إلا إذا كان له مضاد، فإذا غلب أحدهما. قيل: استولى.

وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن الاستواء في لغة العرب يطلق على معان متعددة:

(أحدها): بمعنى الاستقرار، كقوله: {واستوت على الجودي}.

(ثانيها): بمعنى الاستيلاء، ومنه قول الشاعر:

فلما علونا واستوينا عليهم ** تركناهم صرعى لنسر وكاسر

(وثالثها): القصد والإقبال على الشيء، كقول القائل: "كان الأمير يدبر أمر الشام، ثم استوى إلى أهل الحجاز". أي: تحول فعله وتدبيره إليهم.

(رابعها): أنه بمعنى التمام والكمال، كقوله تعالى: {ولما بلغ أشده واستوى} أي: كمل عقله.

فتبين بذلك كذب هذا المفتري وجهله بلغة العرب، وما أحسن ما قال بعضهم: "أكثر ما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان".

فصل (نقض حجة الزيدي من كلام من احتج بهم)

أما قوله: (وقد ذكر القاضي العلامة إسحاق بن محمد العبدي رحمه الله في كتاب "الاحتراس" بعد أن طول بما يشفي الصدور في تقرير حجة المأولين للعرش بالعز، والملك والاستواء بالاستيلاء والقهر. ولكنه كلام طويل تضيق عنه هذه الرسالة، فاقتصرنا على آخر كلامه، قال ما لفظه: (إذا استبان لك ما أشرنا إليه، فأمر الاختيار مفوض إليك. فأما جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم، فقد جنحوا إلى التأويل، ورأوا أن ذلك أوفق وأليق لمن يرد إلى سواء السبيل. وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذلك التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل، وما التفتوا إلى التأويل، وما يرفع الشبه لا بد منه عند الفريقين، إما في نفس العرش، أو الاستواء عليه، وإما أن يكون التأويل تفصيليا أو إجماليا، وإذا كان لا بد من التأويل، فالتأويل بما يرفع مطالبة الوهم بالكيف، ويقطع مادة تلفته إلى إدراك تلك الحقيقة أحق وأوفق وأليق. وقد كشفت لك الغطاء في التعيين والتوقف والتأويل، وأنت بعد ذلك مخير على أي جانبيك تميل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).

(فالجواب) أن يقال: هذا الذي نقلته من هذا الكلام، قد نقض عليك ما نقلته قبل ذلك بأسطر يسيرة من أن تأويل الاستواء على العرش متفق عليه، إلا عند مثل ابن عربي والمجسمة، وذلك أنه ذكر في كلامه الأقوال في المسألة.

فذكر أن جمهور العدلية من المعتزلة وغيرهم يميلون إلى التأويل. فكلامه يدل على أن بعض المعتزلة يميل إلى القول المقابل لقول أهل التأويل؛ ولهذا قال: وأما المحافظون على بقاء الظواهر، وكذا التاركون للتفصيل والتأويل، فقد ظنوا أن في ذلك نوعا من التعطيل. ثم إنه خير الناظر في كلامه على أي وجه يميل إليه من تلك الأقوال، وإن كان القول الأول هو الأوفق والأليق والراجح عنده. فلو أن هذا المعترض قال مثل مقالة هذا الرجل لكان أليق به وأوفق.

وأما ما ذكره من كلام الزمخشري وغيره من أئمة المعتزلة. فكلامهم في نفي الصفات والقول بخلق القرآن مشهور معروف، وليسوا من أئمة العلم والدين المقتدى بهم، بل هم من أئمة البدع والضلال؛ ولهذا نقل عن بشر بن غياث المريسي حديثا عن ابن عباس رضي الله عنهما. فإذا كان رجاله الذين ينقل عنهم كلام أهل البيت مثل بشر بن غياث المريسي وأضرابه الذين كفرهم أهل العلم، وبدعوهم، واشتهروا بينهم بالزندقة والكفر والكذب، تبين لك أن عامة ما ينقله هذا وأشباهه عن أهل البيت كذب وافتراء عليهم. نسأل الله أن ينتقم لأهل البيت ممن كذب عليهم وأبغضهم، وقد قال البخاري رحمه الله في كتاب خلق أفعال العباد: حدثني أبو جعفر، حدثني أحمد بن خالد الخلال، قال: سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم وبشر المريسي، فقال: "هما والله زنديقان، كافران بالرحمن، حلالا الدم".

وقال الخطيب في تاريخه المشهور: "وبشر بن غياث من أصحاب الرأي، أخذ الفقه من أبي يوسف القاضي، إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكى عنه أقوالا شنيعة، ومذاهب مستنكرة، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها". ثم ذكر الخطيب كلام أهل العلم في تكفيره والأمر بقتله.

وقد صنف علماء السنة مصنفات كثيرة في الرد على بشر المريسي ونحوه من أئمة الجهمية والمعتزلة. فمن ذلك ما صنفه أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي، الإمام المشهور من طبقة البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وطبقتهم، وسماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال فيه: "وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء، إلا المريسي الضال وأصحابه، حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث، قد عرفوه بذلك: إذا ضرب الصبي رفع يده إلى السماء يدعو ربه، وكلامه بالله وبمكانه أعلم من الجهمية"، حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا معاوية، عن شبيب بن شيبة، عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال لأبيه: "يا حصين كم تعبد اليوم؟ قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحدا في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء" [66] فلم ينكر النبي ﷺ على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء.

فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل من بشر المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام، إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء، وبين الآلهة والأصنام المخلوقة في الأرض.

(قال): وادعى المعارض أيضا أن قول النبي ﷺ "إن الله ينزل إلى سماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من داع؟ هل من تائب؟" [67] فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينزل أمره ورحمته، وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال؛ لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه لا يزول.

(قال): فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزلان في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي ﷺ يحد لنزوله الليل دون النهار؟ ويوقت من الليل شطره أو الأسحار؟ فأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولان: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله. وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟

وقد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطرا من الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه في حديثه حتى ينفجر الفجر، وقد علمتم -إن شاء الله- أن هذا التأويل أبطل باطل، ولا يقبله إلا كل جاهل.

وأما دعواك أن تفسير الحي القيوم: الذي لا يزول عن مكانه، ولا يتحرك، فلا يقبل هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله ﷺ أو عن بعض أصحابه أو التابعين؛ لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط إذا شاء، ويجلس إذا شاء؛ لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، فكل حي متحرك لا محالة.

ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووقت لنزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا.

(قال): ثم أجمل المعارض جميع ما تنكره الجهمية من صفات الله - تعالى- وذاته المسماة في كتابه، وفي آثار رسوله ﷺ، فعد منها بضعة وثلاثين صفة نسقا، وأخذ يحكم عليها، ويفسرها بما حكم به المريسي، وفسرها وتأولها حرفا حرفا، معتمدا فيها على تفسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث المريسي، متسترا عند الجهال بالتشنيع على قوم يؤمنون بها، ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا تمثيل.

فزعم أن هؤلاء مؤمنين بها يكيفونها، ويشبهونها بذوات أنفسهم، وأن العلماء -بزعمه- قالوا: ليس في شيء منها اجتهاد رأي ليدرك كيفية ذلك، أو يشبه شيئا منها بشيء مما هو للخلق موجود. قال: وهنا خطأ، كما أن الله ليس كمثله شيء، فكذلك ليس ككيفيته شيء.

قال أبو سعيد: فقلنا لهذا المعارض المشنع: أما قولك: إن كيفية هذه الصفات، وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ. فإنا لا نقول: إنه خطأ كما قلت، بل هو عندنا كفر، ونحن بكيفيتها، وتشبيهها بما هو في الخلق موجود أشد اتقاء منكم، غير أنا كما أنا لا نشبهها ولا نكيفها، ولا نكفر بها ولا نكذب بها، ولا نبطلها بتأويل الضلال كما أبطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك.

وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله. فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا، ونسمعها في آذاننا، فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون، وقصرت عنها الظنون؟ غير أنا لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي: إن هذه الصفات كلها كشيء واحد، وليس السمع منه غير البصر، ولا الوجه منه غير اليد، ولا اليد منه غير النفس، وأن الرحمن ليس يعرف-بزعمكم- لنفسه سمعا من بصر، ولا وجها من يدين، ولابصرا من سمع، هو كله -بزعمكم- سمع وبصر، ووجه ويد، ونفس وعلم، ومشيئة وإرادة، مثل الأرضين والسماء والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات.

والله تعالى عندنا متعال أن يكون كذلك، فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر، فقال: {إنني معكما أسمع وأرى}، وقال: {إنا معكم مستمعون}، وقال: {ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم}، ففرق بين الكلام والنظر دون السمع، فقال عند السماع: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} إلى قوله: {إن الله سميع بصير}، وقال تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}، ولم يقل: قد رأى الله، وقال في موضع الرؤية: {الذي يراك حين تقوم (وتقلبك في الساجدين}، وقال: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله}، ولم يقل: سمع الله تقلبك، وسمع عملكم. فلم يذكر الرؤية فيما يسمع، ولا السماع فيما يرى، كما أنهما عنده خلاف ما عندكم. وكذلك قال الله تعالى: {تجري بأعيننا}، وقال: {ولتصنع على عيني} ولم يقل لشيء من ذلك: على سمعي. فكما أنا لا نكيف هذه الصفات، لا نكذب بها كتكذيبكم، ولا نفسرها كباطل تفسيركم. انتهى.

فتأمل -رحمك الله-كلام هذا الإمام بعين البصيرة يتبين لك بطلان كلام هذا المعترض، وكذبه على أهل البيت، وأنه هو وشيعته من أبعد الناس عن اتباعهم، وإنما يتبعون أعداء الملة الإسلامية والطريقة المحمدية، كجهم والمريسي وأحزابهما من أهل البدع والضلال، والله أعلم.

فصل (اختلاف أهل البيت في الصفات وغيرها كغيرهم)

قال المعترض: (فإن قلت: أنت تروي إجماع أهل البيت في هذه المسائل، وقد عرفت تفرقهم في المذاهب: فمنهم الأشعري، والحنبلي وغير ذلك. قلت: أجل، ولكن لم يحدث التفرق إلا بعد انعقاد إجماع الآل في العصور المتقدمة، ولا يضر ذلك التفرق بعد وشب فروخ من ذكر عن منهج أهل البيت الأولين نشأتهم بين من لم يعرف أهل البيت ولا كتبهم فأخذوا عن العلماء... إلى آخره).

(فالجواب) أن يقال: قد نقضت بكلامك هذا الأصل الذي أصلته، وهو أن جميع أهل البيت لا يخالفون كتاب الله، وأنهم العصمة، وباب حطة، وجميع دلائلك التي استدللت بها من الآيات والأحاديث ينازعك خصومك في دلالتها على ما أردت، وقد تقدم جواب ذلك مبينا. وهذا على التقدير والتنزل؛ وإلا فأكثر هذه الأحاديث التي رويتها عن رسول الله ﷺ قد طعن فيها أهل العلم بالإخبار، وبينوا أنها من وضع الكذابين على رسول الله ﷺ.

فإذا كنت قد أقررت أن أهل البيت في هذا الزمان وقبله بأزمنة متطاولة- قد افترقوا وصار بعضهم مع خصومكم. فكذلك أهل البيت في العصر الأول، ودعواك إجماعهم كذب ظاهر.

وهذه نصوص أهل البيت، قد نقلناها لك فيما تقدم من الرد عليك. وهذا ابن عباس -رضي الله عنهما- من أكابر علماء أهل البيت، وقد فسر الاستواء في حقه تبارك وتعالى بالاستقرار، كما حكى ذلك مقاتل والكلبي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "استوى بمعنى استقر". وقد ذكر الطبرسي، وهو من أئمة الشيعة في كتاب "مجمع البيان بعلوم القرآن" في تفسير قوله: {وسع كرسيه السماوات والأرض} فقال ما لفظه: اختلف فيه على أقوال:

(أحدها): وسع علمه السماوات والأرض. عن ابن عباس ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله، ويقال للعلماء: "كراسي"، كما يقال لهم: "الأوتاد"؛ لأن بهم قوام الدين والدنيا.

(وثانيها): أن الكرسي ههنا: هو العرش. عن الحسن: وإنما سمي كرسيا لتركيب بعضه على بعض.

(وثالثها): أن المراد بالكرسي ههنا الملك والسلطان والقدرة.

(ورابعها): أن الكرسي سرير دون العرش.

وقد روي ذلك عن أبي عبد الله، وقريب منه ما روي عن عطاء، أنه قال: "ما السماوات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة في فلاة".

ومنهم من قال: إن السماوات والأرض جميعا على الكرسي، والكرسي تحت العرش، والعرش فوق السماوات.

وروى الأصبغ بن نباتة أن عليا رضي الله عنه قال: "السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله تعالى" انتهى. وهذا يبين كذب هذا المعترض على أهل البيت في دعوى الاتفاق منهم في هذه المسائل.

فصل (ما قيل في إسرار النبي إلى بعض أزواجه حديثا)

وأما قوله في الاعتراض على قول المجيب في قوله: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا}، ثم ذكر أن مراد السائل من ذلك استظهار ما عند المسؤول، هل يقدم أبا بكر رضي الله عنه على علي رضي الله عنه في الخلافة أم العكس؟ وأن المجيب أتى بما يعهده من تفسير الآية، فأعرض عن غرض السائل وقصده.

ثم إنه قد اطلع على روايات مسندة أن الحديث الذي أسره رسول الله ﷺ هي خلافة علي على الأمة، وتقديمه على أبي بكر رضي الله عنه. ثم قال المعترض: وأنا أقول: ينظر في تصحيح هذه الروايات، وإذا صحت فما فائدة الإسرار بولاية علي رضي الله عنه؟

(فالجواب) أن يقال: هذا المعترض قد كفانا المؤنة في رد هذه الروايات الباطلة، وذكر أنها إذا صحت فما فائدة الإسرار بولاية علي رضي الله عنه، وذلك أن الأمر إذا صح عن رسول الله ﷺ أنه فعله أو أمر به، لا يقال فيه: فما فائدة الإسرار بذلك؟ بل إذا صح أن رسول الله ﷺ فعل شيئا أو أمر به، فلا يفعله ولا يأمر به إلا لما فيه من الفائدة العظيمة والمصلحة العميمة؛ ولا يقول مثل هذا الكلام إلا من هو من أجهل الجاهلين، وأبطل المبطلين. كيف يجوز عند من له أدنى مسكة من العقل والدين أن يصح عنده أن رسول الله ﷺ فعل شيئا أو أمر به ولا يكون في ذلك فائدة أصلا؟ ولكن هذا شأن أهل البدع والضلال، لا يقدرون رسول الله ﷺ حق قدره، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.

فصل (رأي الزيدية في الإمامة وغلو الإمامية والباطنية)

وأما قوله: (وقد علمنا بالتواتر المعنوي من السنة أن النبي ﷺ قد أعلن وأنذر وأفصح وأكثر في تقديم علي رضي الله عنه على غيره من الصحابة رضي الله عنهم في الولاية، ولكن أهل البيت بعد علمهم بتقديم علي لم يخوضوا في جانب من تقدم إلا كخوضه رضي الله عنه من إبانة الحق للأمة وأنه الأقدم والتوجع فقط في مواطن، خروجا منه عن التلبيس والمداهنة في الدين، إذ الحق لله تعالى. فإذا هو رضي الله عنه قد فرض أنه أسقط حقه وجب عليه إبانة ما هو لله إذ هو المولى له، فلم يسكت بل أعلن رضي الله عنه بما يجب عليه، وأهل البيت وصفوة شيعته لم يصنعوا إلا كما صنع علي، فلم يغلوا غلو الإمامية ولا الباطنية، نسأل الله السلامة).

(فالجواب) من وجوه:

(أحدها): أن هذا من أظهر الكذب على الله وعلى رسوله ﷺ وعلى علي رضي الله عنه، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره بالأسانيد الثابتة قصة خروج علي والعباس من عند النبي ﷺ في مرضه الذي توفي فيه حين قال الناس لعلي: "يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله ﷺ؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا. فقال له العباس رضي الله عنه: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله ﷺ نسأله فيمن هذا الأمر، فإن كان فينا عرفنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال علي رضي الله عنه: إنا والله لئن سألناها رسول الله ﷺ فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله ﷺ" أخرجه البخاري عن إسحاق.

أخبرنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة، حدثني أبي عن الزهري، أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، وكان كعب أحد الثلاثة الذين تيب عليهم: أن ابن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله ﷺ في وجعه الذي توفي منه، وذكر الحديث كنحو ما سقناه. وكل هؤلاء الذين رووا هذا الحديث أئمة مشاهير.

(الوجه الثاني): ما أخرجه أحمد والبيهقي بسند حسن، عن علي أنه قال لما ظهر يوم الجمل: "أيها الناس، إن رسول الله ﷺ لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام، ثم ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها".

(كلام علي في الخلافة والخلفاء قبله ومعاوية)

(الوجه الثالث): ما روى جمع من أهل الحديث كالدارقطني وابن عساكر والذهبي وغيرهم: أن عليا أقام بالبصرة حين بايعه الناس، فقام إليه رجلان فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه لتستولي على الأمر وعلى الأمة، تضرب بعضها ببعض، أعهد من رسول الله ﷺ عهده إليك؟ فحدثنا، فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت. فقال: "أما أن يكون عندي عهد من رسول الله ﷺ في ذلك فلا، والله لأن كنت أول من صدق به فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي منه عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يثبان على منبره، ولقاتلتهما بيدي ولو لم أجد إلا بردي هذه، ولكن رسول الله ﷺ لم يقتل قتلا، ولم يمت فجأة، ومكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه لصلاة، فيأمر أبا بكر، فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني. ولقد أرادت امرأة من نسائه تصريفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال: "أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس". [68] فلما قبض رسول الله ﷺ نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه رسول الله ﷺ لديننا، وكانت الصلاة أعظم شعائر الإسلام، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر رضي الله عنه فكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه منا اثنان- وفي رواية- فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جنوده، فكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما قبض رضي الله عنه بايعنا عمر، لم يختلف عليه منا اثنان، فأديت له حقه، وغزوت معه، وعرفت طاعته، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما قبض رضي الله عنه تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يعدل بي، ولكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده شيئا إلا لحقه في قبره. فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة لآثر بها ولده وبرىء منها لرهط أنا أحدهم، فظننت ألا يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مواثيقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم بايع عثمان، فنظرت فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه، وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما أصيب فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد من رسول الله ﷺ إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له ميثاقي قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين- الكوفة والبصرة- فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه. يعني معاوية. أخرجه هؤلاء الأئمة. وأخرجه إسحاق بن راهويه من طرق أخرى، قال الذهبي: وهذه طرق يقوي بعضها بعضا، قال: وأصحها ما رواه إسماعيل بن علية، فذكره وفيه: لما قيل لعلي: أخبرنا عن مسيرك، أعهد عهده إليك النبي ﷺ أم رأي رأيته؟

فهذه الطرق كلها عن علي رضي الله عنه متفقة على نفي النص بإمامته؛ ووافقه على ذلك علماء أهل بيته.

فقد أخرج أبو نعيم عن المثني بن الحسن السبط، أنه لما قيل له: "من كنت مولاه فعلي مولاه" نص في إمامة علي.

فقال: "أما والله لو أراد النبي ﷺ بذلك الإمارة والسلطان، لأفصح لهم به؛ فإن رسول الله ﷺ كان أفصح الناس، ولقال لهم: يا أيها الناس هذا ولي أمري، والقائم عليكم بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. ما كان من هذا شيء، فوالله لئن كان الله ورسوله اختارا عليا لهذا الأمر، والقيام به للمسلمين من بعده، ثم ترك علي أمر الله ورسوله أن يقوم به، أو يعذر فيه للمسلمين، إن كان أعظم الناس خطيئة لعلي إذ ترك أمر الله ورسوله، وحاشاه من ذلك"

وكلام علي وأهل بيته في الثناء على أبي بكر وعمر كثير جدا بعد ما أفضت إليه الخلافة، وتواتر عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر".

وروى البخاري في صحيحه عن سفيان الثوري عن منذر عن محمد بن الحنفية، قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله ﷺ؟ قال: "يا بني، أبو بكر". قلت: ثم من؟ قال: "عمر". فخشيت أن يقول: ثم عثمان. فقلت: ثم أنت؟ فقال: "يا بني، إنما أنا رجل من المسلمين". وصح هذا عنه من وجوه كثيرة، وطرق متغايرة يصدق بعضها بعضا.

قال بعض أهل الحديث: إنه رواه عن أكثر من ثمانين نفسا من خواص أصحابه وأهل بيته. فقد تبين بما ذكرنا بطلان دعوى المعترض أن رسول الله ﷺ نص على إمامته. فإذا ادعوا أن هذا مكذوب على أهل البيت، أمكن خصومهم أن يدعوا الكذب فيما رووه عن أهل البيت.

والدلائل الصحيحة التي احتجوا بها على النص على إمامة علي رضي الله عنه كقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله}، وكحديث غدير خم وقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فكل هذا ليس بصريح في النص على إمامته، والله تبارك وتعالى قد فرض على رسوله ﷺ البلاغ المبين الذي يفهمه عامة الناس وخاصتهم، وتلك الدلائل معارضة بما هو أصح منها وأصرح، لكن هؤلاء لا يقبلون رواية أهل السنة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها.

(مذاهب فرق المسلمين في الإمامة)

(الوجه الرابع): أن دعواهم النص على إمامته رضي الله عنه قد عارضها أقوام ادعوا النص على العباس وعلى غيره، فالدعاوى الباطلة تمكن كل واحد. وقد قال الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب الملل والنحل:

"اتفق جميع فرق أهل القبلة وجميع المعتزلة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج- حاشا النجدات [69] من الخوارج خاصة - على وجوب الإمامة فرضا، وأن على الأمة الانقياد لإمام عدل يقيم فيهم أحكام الله عز وجل ويسوسهم بأحكام الشريعة. ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على فرقتين: فذهب أهل السنة وجميع الشيعة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش، خاصة من كان من ولد فهر بن مالك. وذهبت الخوارج كلها وبعض المرجئة وبعض المعتزلة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة، قرشيا كان أو عربيا أو عجميا. قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك نقول؛ لنص رسول الله ﷺ على أن الأئمة من قريش. وهذه رواية جاءت مجيء التواتر، رواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية رضي الله عنهم، وروى (جابر) بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم معناها. ومما يدل على معناها إذعان الأنصار يوم السقيفة، وهم أهل الدار والمنعة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم، ومن المحال الممتنع الباطل أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله ﷺ على أن الحق لغيرهم في ذلك."

(اختلاف الفرق في الإمامة)

ثم قال: "ولا يخلو قول رسول الله ﷺ: "الأئمة من قريش" [70] من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون أمرا، وإما أن يكون خبرا، فإن كان أمرا، فمخالف أمر رسول الله ﷺ فاسق، وعمله مردود، وإن كان خبرا، فمجيز تكذيب رسول الله ﷺ كافر."

"ثم اختلف القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في صلبة قريش، فقالت طائفة: هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط، وهذا قول أهل السنة، وجميع المرجئة، وبعض المعتزلة. وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وقال بعض بني الحارث بن عبد المطلب: لا تجوز الخلافة إلا لبني عبد المطلب خاصة، وهم أربعة فقط لم يعقب لعبد المطلب غيرهم، وهم العباس والحارث وأبو طالب وأبو لهب. وبلغنا عن رجل من أهل طبرية الأردن: لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس، وكان له في ذلك تأليف مجموع. ورأينا كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقط."

قال أبو محمد: "وهذه الفرق الأربعة لم نجد لهم شبهة تستحق أن يشتغل بها إلا دعاوى كاذبة لا وجه لها مع انقطاع القائلين بها ودثورهم".

"وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس، وهو قول الراوندية، [71] واحتجوا بأن العباس كان عاصب رسول الله ﷺ ووارثه. قالوا: فإذا كان كذلك، فقد ورث مكانه، وهذا ليس بشيء؛ لأن الميراث لو صح له، لما كان ذلك إلا في المال خاصة، وأما المرتبة فما جاء قط في الديانة أنها تورث، فبطل هذا التمويه جملة، ولله الحمد."

"وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة -حاشا الروافض- أن رسول الله ﷺ قال: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة" [72] فاعترضوا بقول الله عز وجل: {وورث سليمان داود} وقوله تعالى حاكيا عن زكريا: {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب}. وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الرواة، وحملة الأخبار، وجميع التواريخ القديمة، وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم: أن داود عليه السلام كان له بنون ذكور جماعة غير سليمان؛ فصح أن سليمان ورث النبوة، وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا عليهما السلام وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قول زكريا عليه السلام: {يرثني ويرث من آل يعقوب}. فأي شيء كان يرث من آل يعقوب؟ لكل سبط من أسباط يعقوب عصبات عظيمات، وهم مئو ألوف، فصح أنه إنما رغب في ولد يرث عنه وعن آل يعقوب النبوة فقط. وأيضا فمن المحال أن يرغب زكريا في ولد يحجب عصبته عن ميراث إذ إنما يرغب في هذا ذو الحرص على الدنيا وحطامها. وقد كان العباس حيا قائما إذ مات رسول الله ﷺ فما ادعى العباس لنفسه في ذلك حقا، لا حينئذ ولا بعد ذلك. فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه للاشتغال به، وما رضيه أحد قط من خلف ولده ولا من أماثلهم ترفعا عن سقوط هذه الدعوى ووهنها، وبالله التوفيق.

(مذهب الروافض والزيدية في الإمامة)

"وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنهم انقسموا قسمين: فقالت طائفة: إن رسول الله ﷺ نص على علي رضي الله عنه بأنه الخليفة بعده، وإن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته اتفقوا على ظلم علي رضي الله عنه وعلى كتمان ذلك النص. وهؤلاء هم الروافض. وطائفة قالت: لم ينص النبي ﷺ على علي، لكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ وأحقهم بالخلافة، وهؤلاء هم الزيدية "نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم"، ثم اختلفت الزيدية فرقا، فقالت طائفة إن الصحابة ظلموه، فكفروا كل من خالفه من الصحابة رضي الله عنهم وهم الجارودية. وقالت طائفة: لم يظلموه، لكن طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنهما إماما هدى، ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم. وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع بني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة، وجب سل السيف معه."

"وقالت الروافض بأجمعهم: الإمامة في علي رضي الله عنه وحده بالنص عليه، ثم في الحسن ثم في الحسين رضي الله عنهما -وادعوا نصا آخر من النبي ﷺ عليهما بعد أبيهما- ثم علي بن الحسين؛ لقول الله عز وجل: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}. قالوا: فولد الحسين أحق من بني أخيه الحسن، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم في جعفر بن محمد، ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد. فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر وادعوا أنه حي لم يمت، والذي لا شك فيه أنه مات في حياة أبيه، وهو كان أكبر بنيه. وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر. وقالت طائفة جعفر بن محمد حي لم يمت."

"وقال جمهور الروافض بإمامة ابنه موسى بن جعفر، ثم علي بن موسي، ثم محمد بن علي بن موسى، ثم علي بن محمد بن على بن موسى، ثم الحسن بن علي، ثم مات الحسن عن غير عقب، فافترقوا فرقا، وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن ولد فأخفاه، وقيل: بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل."

"وكانت طائفة قديمة رئيسهم المختار بن أبي عبيد الثقفي وكيسان المكنى بأبي عمرة وغيرهم يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين بن علي رضي الله عنه أخوه محمد المعروف بابن الحنفية، ومن هذه الطائفة السيد بن إسماعيل الحميري الشاعر وكثير عزة الشاعر، وكانوا يقولون: إن محمد بن الحنفية حي بجبل رضوى، ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف الكثيرة."

"وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث مكذوبة موضوعة، لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء."

قال أبو محمد: "لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدقونها، وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام به عليه الحجة سواء صدقه المحتج به أو لم يصدقه؛ لأن من صدق شيئا لزمه القول به، أو بما يوجب العلم الضروري، فيصير الخصم حينئذ -إن خالفه- مكابرا بالباطل منقطعا. إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحيحة، منها: قول رسول الله ﷺ لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". [73]

قال أبو محمد: "وهذا لا يوجب فضل علي على من سواه، ولا استحقاق الإمامة بعده؛ لأن هارون عليه السلام لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام فتاه يوشع بن نون، وهو صاحبه الذي سافر معه في طلب الخضرعليهما السلام. كما ولي الأمر بعد رسول الله ﷺ صاحبه في الغار الذي سافر معه إذ هاجر ﷺ إلى المدينة. وإذا لم يكن علي نبيا كما كان هارون، ولا كان هارون خليفة على بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، فقد صح أن كونه من رسول الله ﷺ بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام إنما هو في القرابة فقط. وأيضا فإنما قال رسول الله ﷺ هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، فقال المنافقون: استثقله فخلفه. فلحق علي رضي الله عنه برسول الله ﷺ حينئذ فشكا إليه، فقال ﷺ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" لاستخلافه إياه على المدينة مختارا له. ثم قد استخلف ﷺ قبل تبوك وبعدها على المدينة في غزواته وعمره وحجه رجالا سوى علي رضي الله عنه، فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلا على غيره ممن استخلفه، ولا يوجب أيضا ولاية الأمر بعده ﷺ كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين."

قال أبو محمد: "وعمدة ما احتجت به الإمامية أنه لا بد أن يكون إمام معصوم، عنده جميع علم الشريعة، يرجع الناس إليه في أحكام الدين، ليكونوا مما تعبدوا به على يقين."

قال أبو محمد: "هذا لا شك فيه، وهو معروف ببراهينه الواضحة، وأعلامه المعجزة وآياته الباهرة، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله إلينا ببيان دينه الذي ألزمنا إياه ﷺ، فكان كلامه وعهوده وما بين وبلغ من كلام الله عز وجل حجة باقية معصومة من كل آفة إلى كل من بحضرته وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته وإلى كل من يأتي بعد موته ﷺ إلى يوم القيامة من جن وإنس، قال عز وجل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}. فهذا نص ما قلنا، وإبطال اتباع أحد دون رسول الله ﷺ. وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لينفذ الإمام عهود الله عز وجل الواردة إلينا من عنده فقط، لا لأن يأتي الناس بما لا يشاؤونه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله ﷺ. ووجدنا عليا رضي الله عنه إذا دعي إلى التحاكم بالقرآن أجاب، وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق، فإن كان علي رضي الله عنه أصاب في ذلك فهو قولنا، وإن كان أجاب إلى الباطل، فهذه غير صفته رضي الله عنه. ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجب إلا بحضرة الإمام لقال علي حينئذ: كيف تطلبون تحكيم القرآن، وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله ﷺ."

(دحض ابن حزم شبهة الروافض في الإمام المعصوم)

"فإن قالوا: إذ مات رسول الله ﷺ فلا بد من إمام يبلغ الدين. قلنا: هذا باطل ودعوى بلا برهان وقول لا دليل على صحته، وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله ﷺ فهو بيانه ﷺ وتبليغه فقط، سواء في ذلك من كان بحضرته، ومن غاب عنه ومن جاء بعده، إذ ليس في شخصه المقدس ﷺ إذا لم يتكلم أو يعمل بيان عن شيء من الدين فالمراد عنه ﷺ كلام باق أبدا مبلغ إلى كل من في الأرض."

"وأيضا فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبدا؛ لكان ذلك منتقضا عليهم بمن كان غائبا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض، إذ لا سبيل إلى مشاهدة الإمام لجميع أهل الأرض في المشرق والمغرب، من فقير وضعيف، وامرأة ومريض، ومشغول بمعاشه الذي يهلك إن أغفله، فلا بد من التبليغ عن الإمام. فالتبليغ عن رسول الله ﷺ أولى بالاتباع من التبليغ عمن دونه. وهذا ما لا انفكاك منه."

قال أبو محمد: "لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي بن أبي طالب والحسن والحسين ابنيه رضي الله عنهم، ما أمروا قط في غير منازل سكناهم، ولا حكموا على قرية فما فوقها بحكم. فما الحاجة إليهم لا سيما منذ مائة ونيف وثمانين عاما! فإنهم ينتظرون إماما ضالة من الضوال، لم يخلق كعنقاء مغرب، هم أولو فحش وقحة وبهتان، ودعوى كاذبة لا يعجز عنها أحد."

(قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب)

ويقال لهم أيضا: كون الدين كله عند إمام واحد معصوم من حين موت النبي ﷺ إلى انقضاء الدهر، لا يخلو من أن يكون أحكام الدين عند ذلك الإمام من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما عن وحي من الله عز وجل فهذه نبوة. ومن قال بنبوة بعد رسول الله ﷺ غير المسيح، فقد كفر وارتد وحل دمه. أو عن إلهام، وهذا وسواس من الشيطان، وليس هو أولى بدعوى الإلهام من غيره، أو بتعليم من رسول الله ﷺ فإن كان رسول الله ﷺ أعلم سائر الناس بما أعلم به علي بن أبي طالب، فعلي وغيره في ذلك سواء ولا فرق، وإن كان ﷺ كتم من سائر الناس ما علمه علي بن أبي طالب، فلم يبلغ كما أمر. قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فمن قال: إنه ﷺ لم يبين للناس ما أنزل الله إليه، بل كتمهم إياه وخص به علي بن أبي طالب سرا، فقد كفر إذ وصف النبي ﷺ بأنه عصى أمر ربه تعالى له بالبيان للناس جهارا. فبطل ما ادعوه يقينا من كل وجه، والحمد لله رب العالمين.

وأيضا فنقول لهؤلاء المخاذيل، وبالله التوفيق: هل بين هؤلاء ما ادعوه من الدين أو لم يبينوا؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: بينوا ما عندهم. قلنا: وتبيين أولهم يكفي عن الآخر منهم؛ لأنه يصير ما بين عند الناس ينقلونه جيلا عن جيل، فبطلت الحاجة إليهم. فإن قالوا: لم يبينوا -وهو قولهم- لأنهم عندهم صامتون حتى يأتي الإمام الناطق (الثاني عشر).

قلنا لهم: فهل حاقت بهم اللعنة من الله تعالى بنص القرآن إذ لم يبينوا ما عندهم من الهدى. [74] وبالجملة فما أمة أحمق من الروافض والنصارى جملة.

قال أبو محمد: "وبرهان آخر ضروري، وهو أن رسول الله ﷺ مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حضور- حاشا من كان منهم في النواحي- فما منهم أحد أشار إلى الناس في علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله ﷺ نص عليه، ولا ادعى ذلك علي رضي الله عنه قط، لا في ذلك الوقت ولا بعده، ولا ادعاه أحد له، ولا بعده في ذلك الوقت. ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة، ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب، أكثرهم موتور من صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهده ﷺ إليهم. وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى، إلا رواية موضوعة واهية عن قوم مجهولين، لا يعرفهم أحد، عن مجهول يكني أبا الحمراء لا يعرف من هو، ووجدنا عليا رضي الله عنه قد توقف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعا مبادرا، راجعا عن تأخره عنها، مختارا غير مكره. فكيف حل لعلي عند هؤلاء النوكى أن يبايع طائعا لرجل كافر أو فاسق، جاحد لنص رسول الله ﷺ وأن يعينه على أمره، وأن يشاهد في مجلسه، وأن يواليه إلى أن مات. ثم بايع بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه مبادرا غير متردد ساعة فما فوقها، غير مكره، بل طائعا، وصحبه وأعانه على أمره، وأنكحه ابنته من فاطمة رضي الله عنها، ثم قبل إدخاله في الشورى أحد ستة رجال؟ فكيف حل لعلي رضي الله عنه عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضلالة أو كفر وأن يغر الأمة هذا الغرور؟ هذا الأمر أدى أبا كامل- وهو من أئمة الروافض- إلى تكفير علي؛ لأنه زعم أنه أعان الكفار على كفرهم، وأيدهم على كتمان الديانة، وعلى ستر ما لا يتم الدين إلا به."

(البراهين على بطلان دعوى النص على إمامة علي)

قال أبو محمد: "ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت، وهو الأسد شجاعة، قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله ﷺ مرات، ثم يوم الجمل وصفين، فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين؟ وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي رضي الله عنه ومنعه حقه مذ مات رسول الله ﷺ إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه؟ ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا لنفسه، فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة، وبذلوا دماءهم دونه، ورأوه حينئذ صاحب الأمر، والأولى بالحق ممن نازعه؟ فما الذي منعه ومنعهم من الكلام، وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام، أو يوم السقيفة؟"

"وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكا عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر، فما سئلها ولا أجبر عليها ولا كلفها، وهو متصرف بينهم في أموره، فلولا أن رأى الحق فيها، فاستدرك أمره، فبايع طالبا حظ نفسه في دينه راجعا عن الخطأ إلى الحق لما بايع. فإن قالت الروافض: إنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع عن الحق إلى الباطل، فقولهم هو الباطل حقا، لا ما فعل علي رضي الله عنه، ثم ولي علي رضي الله عنه فما غير حكما من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا أبطل عهدا من عهودهم، ولو كان ذلك عنده باطلا، لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه، وقد ارتفعت التقية عنه. وأيضا فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة. ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وقعد علي رضي الله عنه في بيته، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ليس معه أحد غير الزبير بن العوام رضي الله عنه ثم استبان الحق للزبير فبايع سريعا، وبقي علي وحده لا يرقب عليه، ولا يمنع من لقاء الناس، ولا يمنع أحد من لقائه. فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه من أن يكون عن أحد ثلاثة أوجه، لا رابع لها البتة: إما عن غلبة، وإما عن ظهور حقه إليهم، فأوجب عليهم الانقياد لبيعته، وإما فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى. فإن قالوا: بايعوه بغلبة، ظهر فاحش كذبهم؛ لأنه لم يكن هناك قتال ولا تضارب، ولا سباب ولا تهديد، ولا وقت طويل ينفسح للوعيد، ولا سلاح مأخوذ، ومن المحال الممتنع أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال، كلهم عشيرة واحدة، وقد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه، وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم، موطنين على الموت، متعرضين مع ذلك لحرب قيصر والروم بمؤتة وغيرها، ولحروب كسرى والفرس ببصرى، من يخاطبهم يدعوه ويدعوهم إلى اتباعه، وأن يكونوا كأحد من بين يديه. هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب."

"فمن المحال الممتنع الذي لا يمكن ألبتة أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا إلى مجلسهم فقط، وأبو بكر رضي الله عنه لا يرجع إلى عشيرة كثيرة، ولا إلى موالي، ولا إلى عصبة، ولا إلى مال، فرجعوا إليه- وهو عندهم مبطل- وبايعوه بلا تردد نصف يوم فأكثر."

"وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم، وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم، وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا معنى ولا خوف ولا ظهور الحق إليهم. فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك، ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه، بل فيما فيه ترك العز والرياسة والدنيا، وتسليم كل ذلك لرجل أجنبي لا عشيرة له ولا منعة، ولا حاجب ولا حراس على بابه، ولا قصر يمنعه ولا موالي ولا مال، فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في الشجاعة، ومعه جماعة بني هاشم وبني المطلب، من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالما، أو عن منعه وزجره إن لم يستحل قتله؟ بل قد علم -والله-علي أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق، وأن من خالفه على الباطل، فأذعن للحق إذ تبينه بعد ما عرضت له فيه كبوة."

"وكذلك الأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعته بلا شك ولا مرية؛ لبرهان حق صح عندهم عن النبي ﷺ لا لاجتهاد كاجتهادهم ولا لظن كظنهم إذ لم يبق غير ذلك، وبطل كل ما سواه يقينا. وإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار، وزالت الرياسة عنهم. فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي ﷺ على إمامة علي رضي الله عنه؟ ومن المحال الممتنع أن تتفق آراؤهم كلهم على معاونة من ظلمهم، وغصبهم حقهم بالباطل، إلا أن يدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد. فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة، ثم لو أمكنت، لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان، وأن الناس كلهم نسوه، وهذا إبطال الحقائق كلها."

"وأيضا فإن كان جميع أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه، واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه، فمن أين وقع إلى الروافض علمه ومن بلغه إليهم؟ وهذا هوس ومحال. فبطل الأمر في دعوى النص على علي رضي الله عنه بيقين لا يشك فيه، والحمد لله رب العالمين."

"فإن قال قائل: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله ﷺ، فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ فلذلك انحرفوا عنه. قلنا لهم: هذا تمويه ضعيف كاذب؛ لأنه إن ساغ لكم في بني عبد شمس وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني عامر بن لؤي؛ لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلا أو رجالا، فقتل من بني عامر بن لؤي رجلا واحدا فقط، وهو عمرو بن عبد ود، وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالا، وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عتبة بن ربيعة، وقيل: إنه قتل عقبة بن أبي معيط، وقيل: لم يقتله إلا عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل ولا لأحد منها يوم السقيفة عقد ولا حل ولا رأي ولا أمر، اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلا إلى علي رضي الله عنه في ذلك تعصبا للقرابة لا تدينا، وكان ابنه يزيد وخالد بن سعيد بن العاص والحارث بن هشام المخزومي رضي الله عنهم مائلين مع الأنصار تدينا، والأنصار رضي الله عنهم قتلوا أبا جهل أخا الحارث. وكان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي رضي الله عنه حين قصة عثمان رضي الله عنه وبعد ذلك؛ ولذلك قتله معاوية رضي الله عنه صبرا على عثمان رضي الله عنه. فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة، أو من بني عدي بن كعب، أو من بني الحارث بن فهر رهط أبي عبيدة رضي الله عنه حتى يظن أهل القحة أنهم حقدوا عليه؟ ثم أخبرونا من قتل علي من الأنصار رضي الله عنهم أو من جرح منهم أو من آذى منهم؟ ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها، بعضهم متقدم وبعضهم مساو له وبعضهم متأخر عنه؟ فأي حقد له في قلوب الأنصار حتى يطبقوا كلهم على جحد النص عليه وعلى إبطال حقه وعلى ترك ذكر اسمه جملة وعلى إيثار سعد بن عبادة عليه، وعلى إيثار أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم عليه، والمسارعة إلى بيعتهم دونه بالخلافة، وهو بين أظهرهم، يرونه غدوا وعشيا، لا يحول أحد بينهم وبينه؟"

"ثم أخبرونا من قتل علي من أقارب المهاجرين من العرب من مضر وربيعة واليمن وقضاعة حتى يطبقوا كلهم على كراهة ولايته، ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه؟ وإن هذه العجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلا."

"ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي، فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له لو كان للروافض حياء وعقل؟ ولقد كان لأبي بكر رضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي، فما منعهم ذلك من بيعته، وهو أسوأ الناس أثرا عندهم في حال كفرهم. ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش، وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي."

"فليت شعري ما الذي أذهب آثار هؤلاء، وأوجب أن ينسى وأوجب أن يعادوا عليا من بينهم كلهم، لولا قلة حياء الروافض وصفاقة وجوههم، حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد وأسامة وابن عمر رضي الله عنهم، وعلى رافع بن خديج ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة وأبي الدرداء، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم سواء هؤلاء من المهاجرين والأنصار: أنهم لم يبايعوا عليا إذ دعا إلى نفسه، ثم بايعوا معاوية رضي الله عنه ويزيد ابنه -من أدركه منهم- وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك."

قال أبو محمد: "حمق الروافض وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار والعار والنار وقلة المبالاة بالفضائح. وليت شعري! أي خماشة، وأي كلمة خشنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو واحد منهم؟ وإنما كان هؤلاء، ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة، فلما أصفق المسلمون على من أصفقوا عليه كائنا ما كان دخلوا في الجماعة، وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير ومروان؛ فإنهم قعدوا عنهما، فلما انفرد عبد الملك بن مروان دخلوا في الجماعة، وبايعه من أدركه منهم لا رضى عنه، ولا عداوة لابن الزبير، ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير، لكن لما ذكرناه. وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية رضي الله عنهما. فلاحت نوكة هؤلاء المجانين، والحمد لله رب العالمين."

"فصح ضرورة بكل ما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير عالين ولا مقصرين رضي الله عنهم أجمعين، وأنهم قدموا الأحق فالأحق والأفضل فالأفضل وساووه بنظرائه منهم. ثم أوضح برهان وأبين بيان في بطلان أكاذيب الرافضة أن عليا رضي الله عنه إذ دعى إلى نفسه بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف المهاجرين والأنصار إلى بيعته فهل ذكر أحد من الناس أن أحدا منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان؟ أو هل تاب أحد منهم من جحده للنص على إمامته؟ أو قال أحد منهم لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر هذا الرجل؟ إن عقولا خفي عليها هذا الظاهر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أن يهديها."

"ثم مات عمر رضي الله عنه وترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة علي أحدهم ولم يكن في تلك الأيام الثلاثة سلطان يخاف ولا رئيس يتوقى ولا مخافة من أحد ولا جند معد للتغلب. أفترى لو كان لعلي رضي الله عنه حق ظاهر يختص به من نص عليه من رسول الله ﷺ أو من فضل بائن على من معه ينفرد به عنهم أما كان الواجب على علي أن يقول أيها الناس كم هذا الظلم لي وكم هذا الكتمان بحقي وكم هذا الجحد لنص رسول الله ﷺ وكم هذا الإعراض عن فضلي البائن على هؤلاء المقرونين بي؟ فإذ لم يفعل لا يدري لماذا؛ أما كان في بني هاشم أحد له دين يقول هذا الكلام: إما العباس عمه - وجميع العالمين على توقيره وتعظيمه حتى أن عمر توسل به إلى الله تعالى بحضرة الناس في الاستسقاء - وإما أحد بنيه وإما عقيل أخوه وإما أحد بني جعفر أخيه أو غيرهم؟ فإذ لم يكن في بني هاشم أحد يتقي الله عز وجل ولا يأخذه في قول الحق مداهنة: أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار وغيرهم واحد يقول: يا معشر المسلمين، قد زالت الرقبة، وهذا الرجل علي بن أبي طالب له حق واجب بالنص عليه، وله فضل بائن ظاهر لا يمترى فيه، فبايعوه، فأمره بين. [ إن ] إصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها، من برقة إلى خراسان ومن أذربيجان وأرمينية إلى أقصى اليمن، إذ بلغهم الخبر، على السكوت عن حق هذا الرجل واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه وليس هنالك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع؛ وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه وقتلوا أنفسهم دونه. فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال بعد مائة وخمسين عاما؟ ثم مع هذا الكتمان والنسيان كيف بلغ الروافض علمه ومن بلغه إليهم؟ ثم العجب إذا كان غيظهم عليه -هذا الغيظ الذي تزعمه الروافض- كذبا منهم، واتفاقهم على جحد حقه هذا الاتفاق، كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه؟ أم كيف أكرموه وبروه؟"

انتهى ما ذكرته من كلام الإمام أبي محمد بن حزم ملخصا، وهو شاف كاف في الرد على هذا المعترض وأهل مذهبه.

فصل (في وصف العالم الزيدي الشيعة الإمامية بالغلو كالباطنية وإثبات غلو الزيدية دون غلوهما)

وأما قوله: (وأهل البيت وصفوة شيعهم لم يصنعوا إلا كما صنع علي، فلم يغلوا غلو الإمامية ولا الباطنية، نسأل الله العافية).

(فالجواب) أن يقال: ما ذكره هذا المعترض كاف في غلوه في حق علي رضي الله عنه وفي الكذب على الله، وعلى رسوله ﷺ وفي قلة الحياء، ودعواه تشبه دعوى الإمامية؛ لأن دعوى الفريقين من أبطل الباطل، وأبين المحال، وإن كان قول الإمامية والباطنية أظهر بطلانا، وأبين ضلالا، وعندهم من الدلائل الباطلة، والأحاديث المكذوبة أكثر مما عند هذا وسلفه، حتى إنهم يستدلون بآيات كثيرة من القرآن كما رأيناه مسطورا في كتبهم. وفي هذا لك عبرة عظيمة، تبين لك أن ليس كل من ادعى اتباع أهل البيت مصيب في دعواه. والله أعلم.

وأما قوله في المسألة الرابعة: ما المراد بقوله تعالى: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} ثم ذكر ما ذكره ابن مردويه عن أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "وصالح المؤمنين: علي بن أبي طالب"، فهذا أصل دعوى أهل البيت -سلام الله عليهم- وشيعتهم في تخصيص علي بالآية الكريمة... إلى قوله: "وانظر بعين الإنصاف في آية المباهلة حين جعل علي عليه السلام مع أخيه المصطفى نفس الأنفس، وهل أخرج رسول الله ﷺ بيانا للأنفس غير علي؟ بل ترك القريب والبعيد، وأبرز عليا وفاطمة والحسين سلام الله عليهم).

(فالجواب) من وجوه:

(الوجه الأول): أن يقال: ذكر صاحب الدر المنثور في تفسير الآية أقوالا عن المفسرين.

فأول ما ذكر في ذلك قال: أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان أبي يقرؤوها: وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر.

وأخرج ابن عساكر عن ميمون بن مهران مثله، وأخرج ابن عساكر، عن الحسن البصري في قوله: {وصالح المؤمنين} عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان قال: أبو بكر وعمر وعلي. وأخرج ابن عساكر من طريق مالك بن أنس، عن زيد بن زيد في قوله: {وصالح المؤمنين}، قال: الأنبياء.

وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي ﷺ في قوله: {وصالح المؤمنين} أبو بكر وعمر.

وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي ﷺ في قوله: {وصالح المؤمنين}. قال: "صالح المؤمنين أبو بكر وعمر".

وأخرج في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس في قوله: {وصالح المؤمنين} قال: "نزلت في أبي بكر وعمر".

وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وصالح المؤمنين} قال: "نزلت في عمر بن الخطاب خاصة". وأخرج الحاكم عن أبي أمامة في قوله: {وصالح المؤمنين} قال: أبو بكر وعمر.

فكل هذه الروايات نقلها السيوطي، ثم ذكر الروايات في أنها في علي، وذكر أن إسنادها ضعيف. فهؤلاء أئمة التفسير قد نقضوا عليك ما ادعيت من الخصوص.

(الوجه الثاني): قوله: (الملازم له في جميع الطرائق، المؤنس له في مدلهمات المضايق).

فيقال: تخصيص علي بذلك دون سائر الصحابة كذب ظاهر، ومكابرة عند أولي البصائر، كما يعرف ذلك من طالع كتب السير والتواريخ، وهو رضي الله عنه من صغار السابقين الأولين في السن.

(الوجه الثالث): قوله: (وعند ابتداء النبوة والتفرد عن الناس بدين الله الأتم المستنكر عند أهله وقومه ﷺ استوحش غاية الوحشة، وكان علي هو الولي الأتم، والفاضل الأقدم).

فيقال: تخصيص علي بذلك دون خديجة وزيد بن حارثة وأبي بكر الصديق -رضي الله عنهم أجمعين- كذب ظاهر فاحش، وغلو لا يمتري فيه إلا كل جاهل غبي. ومعلوم أن خديجة -عليها السلام ورضي الله عنها- أعظم من آنسه عند ابتداء الوحي، كما ثبت في الصحيحين والمسانيد والسنن والسير وكتب التفاسير: "أنه عليه السلام لما نزل عليه الوحي في غار حراء، وغطه الملك ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، وقال له {اقرأ باسم ربك الذي خلق} إلى قوله: {ما لم يعلم}، فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة، وقال: "زملوني زملوني...وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق، ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل- وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ الكتب- فقالت: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبره رسول الله ﷺ بما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله ﷺ أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" الحديث بطوله؛ ولهذا استحقت أن يرسل إليها ربها تبارك وتعالى بالسلام على لسان رسوليه جبرائيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، كما ثبت ذلك بالأسانيد الصحيحة.

(الوجه الرابع): أنه من المعلوم المقرر عند أهل الأخبار والسير أن علي بن أبي طالب كان حال البعثة صغيرا، قيل: ابن ثمان سنين، وقيل: عشر. فهم متفقون على أنه لم يبلغ الحلم حين البعثة. وأما أبو بكر الصديق وزيد بن حارثة وغيرهما من كبار الصحابة فلم يختلف أحد من أهل العلم في أنهم حال البعثة رجال بالغون، وهم أعظم ملازمة ومؤانسة للنبي ﷺ إذ ذاك من علي، ولهذا ذكر أهل العلم أن زيد بن حارثة هو الذي كان معه حال خروجه إلى الطائف يدعوهم إلى الله، وأن أهل الطائف لما ضربوه وأخرجوه وأمروا سفهاءهم وصبيانهم يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، جعل زيد بن حارثة يقيه بنفسه؛ ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله ﷺ "هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: لقد أتى علي من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب" الحديث.

وكذلك أبو بكر رضي الله عنه ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قيل له: أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ﷺ؟ قال: "بينما النبي ﷺ يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي ﷺ وقال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} ")الآية- الحديث، وكان رفيقه وأنيسه، وصاحبه في الغار وسفر الهجرة. كما اتفق عليه الموافق والمخالف.

(الخامس): قوله: حتى أحجم أصحاب أخيه ﷺ... ثم ذكر قصة قتل علي رضي الله عنه عمرو بن عبد ود.

(فيقال): قوله إن الصحابة أحجموا عن عمرو كذب ظاهر، وأما كون علي رضي الله عنه هو الذي قتله فأمر مشهور، وذلك لا يقتضي فضله على من سواه.

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال يوم الخندق: "من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. فقال النبي ﷺ: "إن لكل نبي حواري، وإن حواريي الزبير". [75] وفي رواية: "إن رسول الله ﷺ ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي ﷺ إن لكل نبي حواري وإن حواريي الزبير"، [76] فالسابقون الأولون قد ورد لهم من الفضائل والخصائص مثل ما ورد لعلي.

(الوجه السادس): قوله: "حتى ردت راية رسول الله ﷺ... حتى قال: لأبعثن بالراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".

فيقال: قد ثبت أن رسول الله ﷺ قال هذا لغيره من الصحابة، وليست من خصائصه، بل هي فضيلة شاركه فيها غيره، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر؛ فإن كثيرا منها خصائص لهما لا سيما فضائل أبي بكر، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره، كما ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر" [77] وقال: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر". [78]

(الوجه السابع): احتجاجه بحديث: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، [79] تقدم الجواب عليه في كلام ابن حزم بما يكفي

وأما احتجاجه بحديث المباهلة، فنفس الحديث يدل على أن ذلك ليس من خصائص علي رضي الله عنه؛ لأنه قد شاركه فيه فاطمة وحسن وحسين، كما شاركوه في حديث الكساء، فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة، بل شركه فيه المرأة والصبي؛ فإن الحسنين كانا صغيرين عند المباهلة.

فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة سنة تسع أو سنة عشر، والنبي ﷺ مات ولم يستكمل الحسين سبع سنين، والحسن أكبر منه بنحو سنة، وإنما دعا هؤلاء لأن الله أمر أن يدعو كل واحد من المتباهلين الأبناء والنساء والأنفس، فيدعو الواحد من أولئك أبناءه ونساءه وأخص الرجال به نسبا، وهؤلاء أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ وإلا كان غيرهم أفضل منهم عنده، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه؛ لأن المقصود أن يدعو كل واحد أخص الناس به، لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه؛ ولهذا خصهم في حديث الكساء لهم. والمباهلة مبناها على العدل، فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا، فهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل (الاستدلال بالأحاديث الضعيفة والموضوعة)

وأما قوله: حتى روى المحدثون من فضائله قول رسول الله ﷺ: "أنت مني كرأسي من جسدي".

فالجواب أن يقال: هذا الحديث لا يعرف في شيء من الكتب المعتمدة: كالصحيحين والسنن والمسانيد، ولم يصححه أحد من أهل الحديث المعروفين بنقد الحديث، والتمييز بين صحيحه من موضوعه. ومجرد رواية بعض أهل الكتب لا توجب صحته؛ لأن كثيرا من أهل الكتب يروون في كتبهم الصحيح والحسن والضعيف والموضوع؛ وذلك لأنهم يميزون بين الحديث الذي تقوم به الحجة مما لا تقوم به الحجة. ولهذا كانوا يخرجون في كتبهم جميع الأحاديث الصحيحة والضعيفة والحسنة والموضوعة، وأهل الخبرة بالحديث وعلله ورجاله يميزون الحديث الصحيح من غيره، كما يميز الصيرف البصير الدراهم المغشوشة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل (انصراف وصيته ﷺ بأهل بيته إلى من في زمنه منهم)

ثم قال المعترض: (فإذا تقرر ذلك، فقد قال كثير من العلماء المحققين: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع والترطب، ولا يدخل تحريم غير الأكل بالآية بأدلة السنة، فكذلك نصنع في قوله: {وصالح المؤمنين} فإنه مطلق فيصرف إلى تخصيص الولاية بعلي رضي الله عنه. ويؤيد التخصيص الإضافة؛ لتتم فائدتها وهو التخصيص، إذ هو أولى من جعلها للعموم كما ذكره المجيب؛ لأن العموم يوجب المصير إلى كون الإضافة بيانية، وهو خلاف الغالب في الإضافة، ولو جازت غلبت الولاية، وحصلت لصحابي بملازمته لرسول الله ﷺ مثل علي عليه السلام؛ لتلقيناه بالقبول، ووضعناه على الرأس، ولا نحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله).

(فالجواب) من وجوه:

(أحدها): أن يقال: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، ونقضت الأصل الذي أصلت، والدلائل التي أوردت من الأحاديث التي سطرت، كحديث زيد بن أرقم في قوله: "فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي"... إلخ. فيقول لك خصمك: هذا محمول على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية.

وهذا عكس مراد المعترض؛ لأنه قرر في كلامه أن أهل البيت كلهم، من كان منهم من الصحابة، ومن جاء بعدهم من ذرياتهم- أنهم كلهم داخلون في عموم هذه الآيات التي أورد، والأحاديث التي ذكر، فكيف يقول هذا الجاهل بكلام الله ورسوله، وكلام أهل العلم: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود.

فيقول لك خصمك: دلائلك هذه التي أوردت محمولة على أهل بيته المعهودين المعروفين في زمانه: كالعباس وأولاده، وجعفر وأولاده، وعقيل وأولاده، وأبي سفيان بن الحارث وأولاده، وأولاد أبي لهب، وعلي وأولاده منهم، ولا يدخل فيهم من بعدهم من الذرية، فما هذا الاعتراض البارد الذي كشف الله به عورتك، وجعلك به ضحكة عند من نظر في كلامك؟ وهذا الوجه كاف في رد كلام هذا المعترض.

(دخول الصور النادرة والمجاز في صيغة العموم)

(الوجه الثاني): أن يقال قوله عن كثير من العلماء المحققين: "إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود، مثل تحريم الميتة في قوله: {حرمت عليكم الميتة}، فإنه ينصرف إلى الأكل خاصة دون الانتفاع، والترطب… إلخ. فهذا يدل على جهل هذا المعترض بما ذكره علماء الأصول المحققون. فقد قال أبو زرعة أحمد بن الإمام عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في "شرحه على جمع الجوامع" لابن السبكي تقي الدين رحمه الله، وهذا لفظ الماتن والشارح:

(العام لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر) (ش) فهم من تصدير تعريف العام باللفظ أنه من عوارض الألفاظ، والمراد لفظ واحد للاحتراز عن الألفاظ المتعددة الدالة على أشياء متعددة، وخرج بقوله: (يستغرق) المطلق، فإنه لا يدل على شيء من الإفراد أصلا. والنكرة في سياق الإثبات مفردة كانت أو مثناة أو مجموعة أو عددا، فإنها إنما تتناول الإفراد على سبيل البدل. واحترز بقوله: (الصالح له عما لا يصلح، فعدم استغراق "ما" -لمن يعقل- إنما هو لعدم صلاحيتها له، أي: عدم صدقها عليه، لا لكونها غير عامة. وخرج بقوله: (من غير حصر) أسماء العدد، فإنها متناولة للصالح لها، لكن مع الحصر، وهذا مبني على أنها ليست عامة. وتبعه المصنف هناك، وزاد البيضاوي وغيره في هذا التعريف "بوضع واحد" ليخرج المشترك إذا أريد به معناه فإنه مستغرق لما يصلح له، لكن بوضعين لا بوضع واحد، فتناوله لهما ليس من العموم.

(ص) والصحيح دخول النادرة، وغير المقصودة تحته، وأنه قد يكون مجازا، وأنه من عوارض الألفاظ، قيل والمعاني وقيل به في الذهن، ويقال للمعنى أعم، واللفظ عام.)

(ش) فيه مسائل:

(الأولى): الصحيح أن الصورة النادرة تدخل في العموم، وقال الشارح: زعم المصنف أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي حكى فيه خلافا، ولم أجده في كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين: (أصحهما) نعم؛ لقوله عليه السلام: "لا سبق إلا في خف أو حافر" [80] (والثاني) لا؛ لأنه نادر عند المخاطبين في الحديث.

(الثانية): الصحيح دخول الصور التي ليست مقصودة في العموم؛ فإن اللفظ متناول لها، ولا انضباط للمقاصد، وممن حكى الخلاف في ذلك القاضي عبد الوهاب، ويوجد في كلام أصحابنا؛ ولهذا قال في البسيط، بعد حكاية الخلاف في ذلك، فيما لو وكله بشراء عبد، فاشترى من يعتقه على الموكل. ومثار الخلاف التعلق بالعموم، والالتفات إلى المقصود.

(الثالثة): الصحيح أن المجاز كالحقيقة في أنه قد يكون عاما، فلم ينقل عن أحد من أئمة اللغة أن الألف واللام، أو النكرة في سياق النفي، أو غيرهما من صيغ العموم، لا تفيد العموم إلا في الحقيقة، وخالف فيه بعض الحنفية، فزعم أن المجاز لا يعم بصيغته؛ لأنه على خلاف الأصل.

(الرابعة): لا خلاف أن العموم من عوارض الألفاظ، وليس المراد وصف اللفظ به مجردا عن المعنى، بل باعتبار معناه الشامل للكثرة. وعطف المصنف ذلك على ما عبر فيه بالأصح يقضي خلافا فيه. قال الشارح: وينبغي أن يجعل استئنافا لا عطفا على ما قبله. قلت: يمكن أنه أراد أنه من عوارض الألفاظ فقط، فيرجع التصحيح إلى تضعيف القول بأنه من عوارض المعاني أيضا، لا إلى كونه من عوارض الألفاظ؛ ولذلك عقبه بقوله: (قيل والمعاني). والذاهبون إليه اختلفوا في أن عروضه للمعاني: هل هو حقيقة أو مجاز، فقال بعضهم: حقيقة، فكما صح في الألفاظ شمول أمر لمتعدد، صح في المعاني شمول معنى لمعاني متعددة بالحقيقة فيها.

وقال القاضي عبد الوهاب: مراد قائله حمل الكلام على عموم الخطاب، وإن لم يكن هناك صيغة تعمها، كقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} إن نفس الميتة وعينها لما لم يصح تناول التحريم لها، عممنا بالتحريم جميع التصرف فيها، من الأكل والبيع واللبس وسائر أنواع الانتفاع، وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم لا بعموم ولا بخصوص.

انتهى ما ذكره ابن السبكي وأبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم في الشرح المذكور.

(تحريم الميتة يشمل جميع أنواع الانتفاع بها)

وقال المقدسي من الحنابلة: قوله: {حرمت عليكم الميتة} هي ظاهرة في جميع أنواع التصرف، واستدل على أن المراد جميع أنواع التصرف فيها بأدلة ذكرها.

وكذلك قال ابن عقيل: يحرم جميع الأفعال فيها، وقد ذكر أنه قول الجبائي، وابنه وعبد الجبار، فظاهر هذا، بل صريحه أن هذه الآية عامة في كل نوع من الانتفاع، ولهذا احتج بها أحمد في دباغ جلود الميتة. قال في رواية صالح: إن الله قال: {حرمت عليكم الميتة}، فالجلد هو من الميتة، وههنا احتج بها أحمد على عدم الانتفاع بالجلد.

فظهر بما ذكر عن هؤلاء الأئمة بطلان ما ذكره هذا المعترض في عدم شمول الآية في أنواع الانتفاع؛ ولهذا ثبت في الصحيح والسنن من حديث جابر أن رسول الله ﷺ قال عام الفتح وهو بمكة: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال رسول الله ﷺ: لا، هو حرام. قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوها، ثم باعوها فأكلوا ثمنها". [81]

وروى أبو داود في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله ﷺ جالسا عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السماء، فضحك، فقال: "لعن الله اليهود -ثلاثا- إن الله تعالى حرم عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله عز وجل إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم أكل ثمنه".

فصل (رواة أهل السنة لا يتعصبون في الروايات كالشيعة)

وأما قوله: (فلو جاءت غلبة الولاية وحصلت لصحابي لملازمته لرسول الله ﷺ مثل علي لتلقيناه بالقبول ووضعناه على الرأس، ولا نحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله).

(فالجواب) أن يقال: قد كذبت في هذه الدعوى، فقد علمتم أنه قد ورد لغيره من الفضائل ما هو مثل فضائل علي رضي الله عنه أو أعظم، ولم تضعونها على الرأس، بل كذبتم به، ورددتموه بمجرد الدعاوي الباطلة التي يمكن كل أحد أن يدعيها فيمن يحبه ويهواه. فإن كنت صادقا كما زعمت فقل لنا، حتى نكتب لك ذلك، وننقله من الكتب الصحيحة والتفاسير المأثورة.

فإن قلتم: لا نقبل رواية خصومنا. قال لكم خصومكم: لا نقبل روايتكم؛ لأنكم خصومنا، والروايات التي رويناها في فضائل أهل البيت قد روينا في فضائل الصحابة ما هو مثلها أو أعظم منها، ولم يمكنكم أن تحتجوا عليهم بحجة صحيحة لا معارض لها. فاستحيوا من الله تعالى ومن خلقه من هذا الجنون والخبال الذي يفضحكم عند الرجال والنساء.

فصل (بغي بعض المسلمين على بعض لا يقتضي الكفر ولا ينفي محبتهم جميعا)

وأما قوله في الاعتراض على كلام المجيب على حديث عمار رضي الله عنه وذكر أن المجيب قد أقر على لسان أهل السنة والجماعة بأن معاوية رضي الله عنه قد أخطأ وأذنب، وقد قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} ثم قال: وقد نص تعالى على موجب الظلم، وما يحكم به لصاحبه فقال عز من قائل: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}. ثم إنك أقررت ببغي معاوية رضي الله عنه وأصحابه، ثم حكمت له بالمغفرة وبالجنة بعد ثبوت الفاحشة منه، وهو البغي. وقد قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والأحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، ويقرنه بالفحشاء والمنكر، ويدخل فاعله -الذي لم يتب منه، ومات مصرا عليه- الجنة. ما هذا حكم بالعدل!

(فالجواب) من وجوه:

(أحدها): أن يقال: أنت قد نقضت كلامك هذا كله في كلامك الذي قبل هذا بأسطر يسيرة بقولك: قال كثير من العلماء المحققين: إن المطلق إذا ورد صرف، وخص بالأغلب المألوف المعروف حال الورود... إلى آخره. وذلك أنه من المعلوم أن هذه الآيات التي جعلتها متناولة لأصحاب رسول الله ﷺ وهو معاوية رضي الله عنه ومن معه، يقول لك منازعوك: إن المعروف المشهور عند أهل التفسير أنها نزلت في أهل الشرك والكفر، فكيف جعلتها في أصحاب رسول الله ﷺ، ولم تخص بها أهل الكفر المألوف المعروف في حقهم؟

(الوجه الثاني): أن المجيب ذكر أن الحديث على ظاهره ولم يغيره ولم يؤوله، ولكن ذكر أن إثبات البغي لهم لا يوجب فسقهم ولا كفرهم إذا كانوا متأولين مخطئين في ذلك. والمجيب لا ينزههم من الذنوب والخطأ، لكنه ذكر ما دل عليه كتاب الله من أن البغي لا ينفي الإيمان عمن فعله، كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، فسماهم الله مقتتلين مع الإيمان.

(الوجه الثالث): قوله: فأين فائدة كلام الحكيم ﷺ؟ فيقال: إنما يعرف فائدة كلام الرسول ﷺ أهل العلم والإيمان، فهم الذين يهتدون به ويعرفون معناه ويعقلونه، كعلي رضي الله عنه وأصحابه، ومن شابههم من أهل الفهم والمعرفة لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ. وأما أهل الجهل والضلال فهو عليهم عمى وضلال كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد}، كهذا المعترض ومن شاكله الذي يتناقض في السطر الواحد ويرد كلامه بعضه بعضا، وهو لا يشعر ولا يدري.

والفائدة في حديث عمار قد عقلها أهل السنة والجماعة، وهو أنهم علموا أن قتلة عمار فئة باغية على الإمام، وأن عليا رضي الله عنه وأصحابه أولى بالحق من معاوية رضي الله عنه وأصحابه، وهذا هو الفائدة في الحديث؛ ومن فهم منه غير ذلك فقد أبعد النجعة، وتكلف ما لا علم له به.

(الوجه الرابع): أن يقال: حمله هذه الآيات التي ذكرها على معاوية وأصحابه مثل حمل الخوارج آيات الشرك والكفر والظلم على علي رضي الله عنه وأصحابه سواء بسواء، فكما أن كلام الخوارج معلوم البطلان بضرورة العقل، فكذلك حمل هذه الآيات على معاوية رضي الله عنه وأصحابه معلوم البطلان بالضرورة. فما هذه الوقاحة وقلة الحياء وصفاقة الوجوه؟

(الوجه الخامس): أن يقال قوله: ما هذه السوابق والحسنات التي لهم؟ هل قتل عمار وخزيمة ذي الشهادتين وأبي الهيثم بن التيهان وغيرهم من المهاجرين والأنصار؟ فيقال: الحسنات العظيمة التي لا مطمع لأحد فيها هي صحبتهم لرسول الله ﷺ وجهادهم معه الذي لو أنفق الرجل مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه.

كما ثبت أن رسول الله ﷺ قال لخالد بن الوليد لما جرى بينه وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما كلام ومنازعة، فقال له النبي ﷺ: "يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما بلغت مد أحدهم ولا نصيفه" [82] هذا كلامه في خالد وهو من جملة الصحابة. لكنه ليس من السابقين الأولين، فكيف بمن لم يصحبه؟

وأما قتل عمار وخزيمة وأبي الهيثم وغيرهم رضي الله عنهم فإنما فعلوا ذلك بتأويل واجتهاد، وكل من الفريقين يظن أن الحق والصواب معه. وعلي رضي الله عنه وأصحابه قتلوا الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وغيرهم من السابقين ومن الصحابة رضي الله عنهم فما ذكرت في معاوية وأصحابه ففي علي وأصحابه ما هو مثلهم.

فصح يقينا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الحق والصواب، وهو محبة جميع الصحابة رضي الله عنهم والترضي عنهم، والدعاء لهم، والكف عما شجر بينهم، رضي الله عنهم أجمعين.

فصل (مخالفة الشيعة لأهل السنة في الصحابة وآل البيت)

وأما قوله: (فهذا ابن رسول الله ﷺ محمد بن علي بن القاسم أبو طالب -حفظه الله- قد حكمك وفوض إليك بسؤاله بأن تحكم بين جده علي بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين والأنصار وشيعة أهل العراق وأهل اليمن أهل الإيمان من حمير وهمدان وبين معاوية ومن معه من أهل الشام الطغام أعداء الرحمن، فحكمت بما قاله خصماء علي بن أبي طالب، وهم ممن رضي فواقر معاوية وصنيعه، وهم الموالون له المحبون له ولأصحابه المتسمون بأهل السنة والجماعة. فكأن السائل عندكم لم يعرف كتاب الله، ولا ما جاء به جده ﷺ... إلى قوله: وهيهات أن يطمع في ذلك طامع، فقلوبهم قد نبت فيها حب آل محمد ﷺ ورسخ لما رأوا من حلاوته، وقد سقاه حسن الوفاء بأجر سيد المرسلين من المودة لذريته المباركة، نجوم أهل الأرض، وباب حطة، وباب السلام، وسفينة نوح، وقرناء القرآن، والله المستعان).

(فالجواب) من وجوه:

(أحدها): أن يقال: قوله فحكمت بما قاله خصماء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم ممن رضي فواقر معاوية وصنيعه: كذب ظاهر؛ فإن المجيب قد بين أن قوله هو الذي يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وبما تواتر عن علي رضي الله عنه أنه كان يسمي أهل الشام إخوانه، وقال: "هؤلاء إخواننا قد بغوا علينا" كما ذكره غير واحد من علماء السير والتواريخ.

(الوجه الثاني): قوله في أهل الشام: الطغام أعداء الرحمن، كذب وفجور وقول بلا دليل ومخالفة لما عليه جماعة جميع أهل البيت، ولازمه الطعن في أكابر أهل البيت كالحسن والحسين وابن عباس وابن جعفر، لأن هؤلاء كلهم قد بايعوا معاوية رضي الله عنه وصاروا من جملة رعيته بلا إكراه كما تقدم تقريره، وكما سيأتي في فصل كلام أهل البيت رضي الله عنهم في معاوية رضي الله عنه.

(الوجه الثالث): قوله في أهل السنة: وهم ممن رضي فواقر معاوية. وهذا أيضا كذب بين وبهتان، فإن المجيب وسلفه من أهل السنة لا يرضون بقتال معاوية وأصحابه لعلي، بل الصواب عندهم أن معاوية ومن معه في طاعة أمير المؤمنين وبيعته، ولا يرضون بسب علي وأهل بيته، بل ينكرونه على من فعله أو رضيه، كما ملئت كتبهم بذلك، وهذا المعترض يعلم ولكنه ممن يجادل بالباطل.

(الوجه الرابع): قوله: وهم الموالون له المحبون له ولأصحابه. فهذا صدق وصواب؛ فإن أهل السنة يتولون جميع الصحابة كلهم، ويطهرون ألسنتهم من الخوض في تلك الحروب الواقعة بينهم، بمعنى أنهم يحملون ذلك على المحمل الحسن اللائق بهم، لأن الله أثنى على جميع الصحابة في كتابه العزيز بقوله: {(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} ويعرفون للسابقين الأولين حقهم على من بعدهم، وينزلون كلا منزلته التي أنزله الله إياها فلم يفعلوا كفعل الروافض والزيدية والخوارج الذين يفرقون بينهم، فيتولون بعضهم ويبغضون ويتبرؤون من بعضهم، وهذا هو الذي تدل عليه الدلائل الصحيحة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة بالأسانيد المرضية.

(الوجه الخامس): قوله: فوجدك قد قلت بمقالة أهل الانحراف عن الآل. وهذا أيضا من نمط ما تقدم من كذبه وفجوره وقلة حيائه من الناس؛ فإن المجيب قد بين أن مقالته التي ذهب إليها هو وسلفه هي التي عليها آل محمد ﷺ. وقد نقل في كلامه لفظهم بحروفه، وبين أن دعوى المعترض اتباع الآل كذب وجهل وخبال، لا يعجز عنه أحد من الناس.

(الوجه السادس): قوله عن أهل السنة: أنهم أصلوا أصولهم، وقعدوا قواعدهم على أساس أسسه لهم بنو أمية وبنو العباس. وهذا أيضا من كذبه وفجوره، وذلك أن أهل السنة إنما أصلوا أصولهم على ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من وجوب طاعة أولي الأمر كما تقدم ذكر الدلائل على ذلك من الكتاب والسنة أول هذا الجواب بما أغنى عن إعادته.

فإن قال: إن تلك الآيات والأحاديث لا تدل على ذلك، أو إنها مخالفة لكتاب الله، أو إنها مكذوبة على رسول الله ﷺ، أمكن خصمك أن يقول مثل ذلك في الأصول التي أصلت، والدلائل التي قررت.

فصل (بغض الشيعة لبني العباس وهم من آل محمد وعترته)

(الوجه السابع): أن يقال: أنت قد تبرأت وتنصلت من الملوك الظلمة من بني العباس، وهم من آل محمد بالإجماع، وداخلون في مسمى عترته عند جميع فرق الأمة، فهذا يبطل جميع ما أوردته من الدلائل التي معك في اتباع أهل البيت، فإذا كان من أهل البيت من هو من الملوك الظلمة أئمة جور.

فكذلك يقال في من خالفوا الكتاب والسنة من آل علي سواء بسواء، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة لا معارض لها في دخول آل علي في تلك الدلائل، وخروج غيرهم منها، فأبطلت بكلامك ما أصلته ورددت على نفسك بنفسك ما قررته وأنت لا تشعر، وهذا حال من يتكلم في مثل هذه الأمور العظيمة بمثل هذه الجهالات والخبالات التي يأنف منها أهل العرفان، بل ينفر منها الصبيان، عياذا بالله من الخزي والخذلان.

(اختلاف جيش علي عليه واتفاق جيش معاوية عليه)

(الوجه الثامن) أن يقال: قوله عن السائل وشيعته، وهم أهل اليمن من همدان وحمير وذرية من قاتل معاوية، وأهل الشام في صفين مع وصي رسول الله ﷺ وأخيه القائل في همدان، حين شقت سيوفهم قلوب العدوان من أهل الشام الطغام في ذلك الأوان:

فلو كنت بوابا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

فهذا من أظهر الكذب وأفجر الفجور في أنه قد مدحهم بما ليس فيهم، والدليل على ذلك ما ذكره أهل الأخبار والسير من أن عسكر علي اختلفوا عليه اختلافا كثيرا، وآذوه أذى عظيما، حتى مل منهم، وتمنى الموت.

وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام -وهو من أئمة الحديث والفقه واللغة- عمن حدثه عن أبي سنان العجلي قال: قال ابن عباس لعلي رضي الله عنه: "ابعثني إلى معاوية، فوالله لأفتلن له حبلا لا ينقطع وسطه." فقال: "لست من مكري ومكره في شيء، ولا أعطيه إلا السيف حتى يغلب الحق الباطل." فقال ابن عباس رضي الله عنه: "أوغير ذلك؟" قال: "كيف؟" قال: "إنه يطاع ولا يعصى، وأنت عن قريب تعصى ولا تطاع." قال: فلما جعل أهل العراق يختلفون على علي رضي الله عنه قال: "لله ابن عباس إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق".

وحدثني خلاد بن يزيد الجعفي، حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الشعبي أو أبي جعفر الباقر - شك خلاد- قال: "لما ظهر أمر معاوية رضي الله عنه دعا علي رضي الله عنه رجلا وأمره أن يسير إلى دمشق، فيعقل راحلته على باب المسجد ويدخل بهيئة السفر، ففعل الرجل، وكان قد وصاه، فسألوه: من أين جئت؟ قال من العراق. قالوا: ما وراءك؟ قال: تركت عليا قد حشد إليكم، ونهد في أهل العراق، فبلغ معاوية رضي الله عنه، فأمر أبا الأعور السلمي يحقق أمره، فأتاه فسأله، فأخبره بالأمر الذي شاع، فنودي: الصلاة جامعة، فامتلأ الناس في المسجد، فصعد معاوية المنبر، وتشهد ثم قال: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأي؟ فضرب الناس أذقانهم على صدورهم، ولم يرفع إليه أحد طرفه، فقام ذو الكلاع الحميري، فقال: عليك الرأي وعلينا أم فعال -يعني الفعال-. فنزل معاوية، ونودي في الناس: اخرجوا إلى معسكركم، ومن تخلف بعد ثلاث أحل نفسه. فخرج رسول علي حتى وافاه، وأخبره بذلك، فأمر علي رضي الله عنه فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي، وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ قال: فأضب أهل المسجد يقولون: يا أمير المؤمنين، الرأي كذا الرأي كذا، فلم يفهم علي كلامهم من كثرة كلامهم، وكثرة اللغط، فنزل وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب بها ابن أكالة الأكباد"، يعني: معاوية رضي الله عنه.

وقال الأعمش: حدثني من رأى عليا يوم صفين يصفق بيديه ويعض عليها، ويقول: "يا عجبا أعصى ويطاع معاوية!"

(ظلم بسر بن أرطاة وعدم ثبوت صحبته)

وذكر ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد عن هشام بن محمد عن أبي مخنف لوط [83] قال: لما توجه بسر بن أبي أرطاة أخبر عبيد الله بن عباس بذلك، وهو على اليمن عامل لعلي رضي الله عنه فدخل بسر بن أبي أرطاة اليمن، فأتى بابني عبيد الله بن عباس، فذبحهما وهما صغيران، فنال أمهما عائشة بنت عبد الدان من ذلك أمر عظيم.

وذكر أبو عمرو الشيباني في خروج بسر أنه أغار على همدان، فقتل وسبى نساءهم وكن أول نساء سبين في الإسلام، وبسر هذا له أخبار سوء بجانب علي رضي الله عنه ولا تصح له صحبة، قاله الإمام أحمد ويحيى بن معين، قال يحيى بن معين: كان رجل سوء، وذكر أن عليا رضي الله عنه دعا عليه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله، فكان كذلك.

قال ابن دحية: ولما ذبح الصغيرين وفقدت أمهما عقلها، كانت تقف بالمواسم تنشد شعرا يبكي العيون، ويهيج بلابل الأحزان والغبون:

ها من أحس بني اللذين هما ** كالدرتين تشظى عنهما الصدف

ها من أحس بني اللذين هما ** سمعي وعقلي فقلبي اليوم مختطف

حدثت بسرا وما صدقت ما زعموا ** من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا

أحنى على ودجي ابني مرهفة ** مشحوذة وكذاك الإثم يقترف

(خذلان أهل العراق للحسين ووجود بعض أهل اليمن مع معاوية)

ومعلوم عند من له أدنى معرفة بالأخبار ما جرى من أهل الكوفة مع الحسين بن علي رضي الله عنهما ما حين كاتبوه، وأمروه بالشخوص والقدوم عليهم، ووعدوه أن يبايعوه، فاغتر بهم وبمواعيدهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة، فشخص إليهم بأهله وولده، وكان قد أرسل إليهم قبل ذلك ابن عمه مسلم بن عقيل رضي الله عنهما، فلما قرب الحسين منهم خذلوه، وأسلموه للقتل، وقتل معه اثنان وثمانون رجلا من أصحابه مبارزة، ثم قتل جميع بنيه إلا عليا المسمى بعد ذلك بزين العابدين، كان مريضا فأخذ أسيرا، وقتل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه.

فهؤلاء شيعة أهل البيت الذين أثنى عليهم هذا المعترض، وهم أهل اليمن من همدان وحمير، وقد كان مع معاوية رضي الله عنه جموع كثيرة من حمير وغيرها من قبائل اليمن، منهم: ذو الكلاع الحميري، كان من أشراف أصحاب معاوية وساداتهم وقتل يومئذ، ومن أصحاب معاوية وأمرائه يومئذ كريب بن الصباح الحميري أحد الأبطال، قتل يومئذ جماعة ثم بارزه علي فقتله.

فصل (في اعتدال أهل السنة بين غلو الشيعة وجفوة النواصب)

وأما قوله: (وانظر تواريخ الإسلام وما قال الناس، هل أحد روى أن معاوية وأصحابه ضمنوا ما أفسدوا من حقوق المسلمين، وأنهم تابوا من تلك الطامة والفاحشة العامة والمعصية الكبيرة، وهو البغي الذي أقررت به، وهل ودوا عمارا وخزيمة وأبا الهيثم وأويسا القرني -سيد التابعين- وغيرهم، وسلموا دياتهم إلى أهليهم، أم ماتوا متلطخين بدمائهم وبالفسق والعصيان؟)

(فالجواب): أن يقال كل ما ذكرت في معاوية وأصحابه قد جرى مثله لعلي وأصحابه أو ما هو أعظم من ذلك، وهو قتل طلحة والزبير ومن معهما من المهاجرين والأنصار، وأعظم من ذلك أن قتلة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه كانوا مع علي وكانوا من رؤوس عسكره، فما قلت في معاوية يقال في علي رضي الله عنه؛ فكما تأول علي رضي الله عنه في الدماء كذلك تأول معاوية وأصحابه، فإن صحت هذه الدعوى ففيها من القدح والغضاضة في علي والحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنهم ما لا يخفى.

وهذه الحجة التي ذكرت مما يحتج بها معاوية رضي الله عنه وأصحابه على علي رضي الله عنه وأصحابه، ولا يمكنك أن تأتي بحجة صحيحة تبريء بها عليا وأصحابه دون معاوية وأصحابه، إلا بالمكابرة والمعاندة.

فظهر بما ذكرناه أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يتناقض؛ لأن الباغي قد يكون متأولا معتقدا أنه على حق، وقد يكون متعمدا يعلم أنه باغ، وقد يكون بغيه مركبا من شبهة وشهوة وهو الغالب، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فأصلهم مستقيم مطرد في هذا الباب، وأما أنتم فمتناقضون.

وذلك أن النواصب من الخوارج وغيرهم الذين يكفرون عليا أو يفسقونه أو يشكون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم لو قالوا لكم: ما الدليل على إيمان علي وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة، فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته، قالوا لكم: وهذا متواتر عن الصحابة والتابعين والخلفاء الثلاثة وغيرهم. فليس قدحنا في إيمان علي وأصحابه إلا مثل قدحكم في إيمان معاوية وأصحابه. وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح على الصحابة، قالوا: آيات القرآن عامة تتناول غير علي منهم مثل ما تتناول عليا رضي الله عنه، وإن أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء، فإخراجنا عليا أيسر وأهون، فإن احتججتم عليهم بالنص الذي تدعونه، كان احتجاجهم بالنصوص التي يدعونها في أبي بكر، بل في العباس معارضا لذلك رضي الله عنهم، ولا ريب عند كل من يعرف الحديث أن تلك أولى بالقبول والتصديق. فإذا قال الرافضي: إن معاوية رضي الله عنه كان باغيا ظالما، قال له الناصبي: وعلي كان باغيا ظالما، قتل المسلمين على إمارته، وبدأهم بالقتال، وصال عليهم، وسفك دماء الأمة بغير فائدة لهم لا في دينهم ولا في دنياهم، وكان السيف في خلافته مسلولا على أهل الملة مكفوفا عن الكفار.

والقادحون في علي رضي الله عنه طوائف: طائفة تقدح فيه وفيمن قاتل جميعا. وطائفة تقول: فسق أحدهما لا بعينه، كما يقول ذلك عمرو بن عبيد وغيره من شيوخ المعتزلة، يقولون في أهل الجمل: فسقت إحدى الطائفتين لا بعينها، وهؤلاء يفسقون معاوية. وطائفة تقول: هو الظالم دون معاوية كما تقوله المروانية. وطائفة تقول: كان في أول الأمر مصيبا فلما حكم الحكمين كفر وارتد، وهؤلاء الخوارج، وكلهم مخطئون في ذلك ضالون مبتدعون، وخطأ الشيعة مثله أو أظهر بطلانا منه.

فإن قال الذاب عن علي رضي الله عنه هؤلاء الذين قاتلهم علي كانوا بغاة؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية"، [84] فللناس في هذا الحديث أقوال منهم: من قدح في حديث عمار، ومنهم من تأوله على أن الباغي الطالب، وهو ضعيف، ومنهم من تأوله على علي وأصحابه كما قال معاوية لما قيل له: إن عمارا قتل، وقد قال النبي ﷺ: "تقتلك الفئة الباغية"، فقال: "أفنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين أسيافنا ورماحنا، وإنما ندفع عن أنفسنا". وهذا تأويل باطل؛ ولهذا رده أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بما لا حيلة فيه، فقال: إذا فرسول الله ﷺ قتل حمزة رضي الله عنه حين جاء به يقاتل المشركين.

وأما أهل السنة والجماعة رحمهم الله فكلامهم مستقيم، ولا مطعن فيه لأحد؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين، وإن قالوا في إحداهما إنهم كانوا بغاة؛ لأنهم كانوا متأولين مجتهدين، والمجتهد المخطئ لا يكفر ولا يفسق، وإن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وشفاعة النبي ﷺ ودعاء المؤمنين، وغير ذلك من الأسباب؛ ولهذا قال محمد بن شهاب الزهري وهو من أئمة التابعين: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون، فأجمع رأيهم على أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فهو هدر" أو كلاما هذا معناه، أخرجه غير واحد من الأئمة.

فصل (مذهب الزيدية في لعن معاوية)

وأما قوله في تحقيق مذهب الزيدية في لعن معاوية: (إنهم يظهرون -حيث يخشون التهمة- بموالاته المحرمة بنص الكتاب العزيز، حيث قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} فلا يوجبونها مطلقا ولا يستحبونها مطلقا...) إلى آخر كلامه.

(فالجواب) أن يقال: أنت قررت في أول اعتراضك أنه لو جاء ملك بلعن إبليس -لعنه الله- على المنابر لعد مبتدعا، فكيف استجزتم -أيها المنتسبون إلى زيد رضي الله عنه- لعن معاوية رضي الله عنه؟ ما هذا التناقض العظيم والتهور فيما يوجب العذاب الأليم؟

وأما استدلاله بهذه الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وقوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} الآية، فهي دعوى باطلة كدعوى الخوارج والمبغضين لعلي رضي الله عنه وأهل بيته بأن هذه الآيات فيهم، فكما أن دعواهم ظاهرة البطلان، فكذلك دعواكم.

وأما دعواه أن أهل السنة قد رضوا بسب علي رضي الله عنه فكذب عليهم لا يمتري فيه أحد، بل هم ينكرون سب علي رضي الله عنه أشد الإنكار في قديم الزمان وحديثه، وهم الذين عملوا بقوله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} الآية.

فصل (لا أحد يشهد لأحد بالجنة أو النار إلا من ثبت له ذلك)

وأما قوله: (قد حكمت بدخوله الجنة).

(فالجواب) أن يقال: هذا كذب ظاهر على المجيب؛ وذلك أنه هو وسلفه من أهل السنة والجماعة لا يشهدون لمعين بالجنة إلا لمن شهد له رسول الله ﷺ بأنه من أهل الجنة، كالعشرة وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم، الذين ثبتت الأحاديث في تعيينهم أنهم من أهل الجنة. وأما من سواهم فلا يشهدون له بذلك، ولكنهم يرجون لجميع المؤمنين دخول الجنة، ويخافون على من أذنب من النار، ولا يقطعون لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ثبت له ذلك في القرآن كأبي لهب والوليد بن المغيرة وقوم نوح، وجميع المهلكين من الأمم، ومن ذكره رسول الله ﷺ.

ويقال أيضا: إن كان ما قلت حقا فأول من يدخل في هذه الآيات الحسن بن علي رضي الله عنهما وأخوه الحسين ومن معهما من أهل البيت وربيعة ومضر وهمدان، حين انخلع الحسن لمعاوية رضي الله عنه من الخلافة، وولى عليها من هو عدو لله ورسوله ﷺ عندكم، ووافقه على ذلك أخوه الحسين، وكل من معه من المسلمين، ورضوا بذلك من غير إكراه ولا غلبة من معاوية وأهل الشام، بل بمجرد ما تقابل الجمعان جرت بينهما المفاوضة في الصلح قبل أن يقع بينهما قتال، أفلا يستحي العاقل من هذه الخرافات التي تنادي على قائلها بالارتكاس في الظلمات؟ وهذا كاف في بطلان كلامك.

فصل (حمل الشيعة أخبار المرتدين على من قاتلهم من الصحابة لا عليهم)

وأما قوله: (وإذا كان معاوية في الجنة، فليت شعري، أين تضع الأحاديث الواردة في دواوين الإسلام، كقوله عليه الصلاة والسلام: "يؤتى برجال من أصحابي فيؤخذ بهم ذات الشمال" [85] إلى آخره، أفتنزه معاوية ومن معه مثل عمرو بن العاص وابنه عبد الله، وتضعها في سعد بن معاذ وعمار وخزيمة ذي الشهادتين ومن قاتل مع علي رضي الله عنه بصفين؟ أم في العشرة المبشرة بالجنة رضي الله عنهم؟ فاختر لنفسك أين تضعها على مقتضى شهواتك أنت وأهل السنة والجماعة...) إلى آخره.

(فالجواب) أن يقال: قد بينا فيما تقدم أن أهل العلم الذين رووا هذه الأخبار حملوها على من ارتد من جفاة الأعراب بعد موت الرسول ﷺ وماتوا على الردة، كالأسود العنسي وأصحابه الذي تنبأ بصنعاء، وتبعه خلق من أهل اليمن حتى قتله الله، وكمسيلمة صاحب اليمامة وأصحابه، وكأصحاب طليحة الأسدي الذين قتلهم خالد وأصحاب رسول الله ﷺ، وكانوا خلقا عظيما ومنهم من قدم على النبي ﷺ وصحبه. أفتنكر أنه لم يقع ردة بعد النبي ولا كفر أحد ممن أسلم في حياة النبي ﷺ حتى جرى قتال معاوية لعلي رضي الله عنهما؟

ويقال أيضا: دعواك أن هذه الأحاديث محمولة على معاوية ومن معه من الصحابة من جنس دعوى الخوارج الذين يكفرون عليا ومن والاه ويحملون هذه الأحاديث عليهم، فما يمكنك أن تأتي بحجة إلا عارضوك بما هو من جنسها، فاتق الله ولا تكن من الذين يجادلون بالباطل فتكون مع الهالكين.

فصل (تفسير الشيعة وأهل السنة لآية وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)

وأما قوله: (إن المراد بقوله تعالى: {إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} أي: أرادوا الاقتتال، وأنها كقوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه}، وقول الرسول ﷺ "من بدل دينه فاقتلوه" [86] إلى آخر كلامه).

(فالجواب) أن يقال: هذا لو عارضناه بكلام أهل التفسير من أهل السنة والجماعة، أو بما رووه من الأحاديث لم يقبل ذلك، فالواجب معارضته بما لا يقدر على إنكاره، وهو ما اتفقنا نحن وهم عليه، وهو أن الحسن بن علي رضي الله عنهما انخلع من الخلافة لمعاوية مع حضور أهل البيت وجمهور المسلمين معه، أفتقول إن الحسن لا يفهم كلام الله ولا كلام رسوله ﷺ، وإنما عرفته أنت وشيعتك؟ فيلزم من كلامك أن الحسن ومن معه هم الذين سلطوا الكفار والفساق على فساد الدين، والكفر برب العالمين.

(وجواب ثان): وهو أنه تواتر عن علي رضي الله عنه أنه لما قتل أهل الجمل، لم يفعل فيهم كفعله في الكفار المرتدين من السبي وأخذ الأموال والإجهاز على الجريح، كما احتج بهذه الحجة على الخوارج حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما.

(وجواب ثالث): وهو أن يقال: الآية نفسها مصرحة بنقيض ما فسرها به هذا المعترض؛ لأن الله تبارك وتعالى قال في أولها: "اقتتلوا" وهذا فعل ماض بإجماع النحويين، ثم قال: {فإن بغت إحداهما على الأخرى} أي: بعد الاقتتال والإصلاح، ثم قال: {فإن فاءت} أي: رجعت عن البغي {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} ثم قال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}. فالآية من أولها إلى آخرها تنادي بتكذيب هذا المعترض الذي يفسر كتاب الله برأيه.

(وجواب رابع): وهو أن يقال: إذا جوزت أن يكون المراد بقوله تبارك وتعالى: {إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} أن يكون المعنى أي: أرادوا الاقتتال، أو قوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى} أي: أرادوا البغي؛ جاز أن يقال ذلك في قوله ﷺ "من بدل دينه فاقتلوه"، [87] فيكون معنى الحديث عندكم: من أراد تبديل دينه وهم بذلك -وإن لم يتكلم ويعمل- فاقتلوه.

وهذا لا يقوله من يفهم ما يقول؛ وذلك لأن ما في القلوب من الإرادات والنيات لا يعلمه إلا الله، وجاز أن يكون معنى قوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} أي: يرد قتله وإن لم يقتله، وجازه أيضا ذلك في جميع آيات الوعد والوعيد كقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا} أي: يرد أن يعصي الله ورسوله ويتعد حدوده، وإن لم يفعل ذلك، فإن طردت ما قلت لزمك أن تقول ذلك في جميع ما شابهها في آيات الوعد والوعيد والأمر والنهي.

وأما الحكاية التي ذكرها أن معاوية رضي الله عنه أظهر لأهل الشام، أن عليا لا يصلي، حتى حاج بذلك بعض أهل الشام هاشم بن عتبة رضي الله عنه فهي من أظهر الكذب والبهتان عند من له أدنى معرفة بهذا الشأن، وقد ذكرنا بالنقول المتواترة أن أهل الشام إنما قاتلوا عليا ومن معه للطلب بدم عثمان رضي الله عنه؛ لأن قتلة عثمان كانوا رؤوس جيش علي، ولا يحكي مثل هذه الحكاية إلا من لا يستحي من الكذب.

فصل (حديث غدير خم وزيادة الشيعة فيه لفظا ومعنى)

وأما ذكره من استدلاله بحديث غدير خم، وأنه ورد من روايات جماعة من الصحابة، فقد قدمنا الجواب عنه، وقد بين أهل العلم أنه لا يدل على ما ذهب إليه الروافض والزيدية؛ لأن المولى يطلق على معاني متعددة.

وأما قوله: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه"، فهذا ليس في الأحاديث الصحيحة التي صححها أهل العلم بالحديث، بل طعن كثير منهم في هذه الزيادة، قالوا: والواقع يشهد بكذبها؛ لأن النصر والغلبة والإعانة وقع لمن حاربه وقاتله، ومعلوم أن دعاء الرسول ﷺ مجاب، فلو كان هذا حقا وصدقا لوقع الأمر بخلاف ما وقع، وأنت لا تنكر أن الغلبة والظفر والإعانة كان لمن قاتله وحاربه. فبطل ما ذكرت، ولله الحمد والمنة.

وأكثر هذه الأحاديث التي ذكرها في أول هذا الاعتراض وآخره قد بين أهل العلم بالحديث أنها كذب موضوعة مفتراة على رسول الله ﷺ.

ثم من العجب استدلاله بكلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين ذكروا عثمان وعليا وطلحة والزبير رضي الله عنهم وما كان منهم، فأكثروا وعمر ساكت، فقال القوم: ألا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: "لا أقول شيئا، تلك دماء طهر الله منها كفي، فلا أغمس فيها لساني". ا هـ.

وهذا هو الذي أراد المجيب؛ لأن الله أثنى عليهم في كتابه جملة قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، وأثنى على من جاء بعدهم، فدعا لهم بالمغفرة، فقال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.

فإن قلت: إن هؤلاء الآيات في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،

قلنا: جاءتك قاصمة الظهر، وهي قوله تبارك وتعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى}.

ومعلوم بإجماعنا وإجماعكم أن معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما ممن أسلم بعد الفتح، والأحاديث الواردة في فضل معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما قد رواها من روى تلك الأحاديث في فضل علي رضي الله عنه وأهل البيت، فإما أن تقبل الجميع، وإما أن ترد الجميع، وأما أن تقبل ما وافق هواك وترد ما خالفه بلا برهان ولا حجة يوافقك عليها أهل المعرفة، فهذا تناقض.

(أحاديث في مناقب معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما)

وقد قال السيوطي: أخرج الترمذي وحسنه عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الصحابي رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هاديا مهديا". [88]

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب". [89]

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير قال: "قال لي معاوية رضي الله عنه: ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله ﷺ يا معاوية، إذا ملكت فأحسن".

وأخرج الترمذي عن أبي إدريس الخولاني قال: "لما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عن حمص وولى معاوية رضي الله عنه، فقال الناس: عزل عميرا وولى معاوية، فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: اللهم اهد به". [90]

وقال آدم عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ "أبناء العاص مؤمنان عمرو وهشام". [91]

وقال عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة قال طلحة: "ألا أحدثكم عن رسول الله ﷺ بشيء؟ ألا إني سمعته يقول: عمرو بن العاص من صالح قريش" [92] وسمعته ﷺ يقول: "نعم أهل البيت: أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله". [93] ا هـ ما ذكره الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه.

فصل (كذب الشيعة على معاوية وما أنكره أهل السنة عليه)

وأما ما ذكره من إحداثات معاوية، منها: إلحاقه زياد بن سمية بأبيه، فأهل العلم ينكرون ذلك على معاوية في قديم الزمان وحديثه، وكذلك أخذ البيعة لابنه الظالم، ينكرون ذلك ولا يرضونه حتى أنكر من أنكر منهم ذلك عليه بنفسه في حياته، وأما قوله: إنه أمر علماء السوء بأن يضعوا أحاديث في فضائل الصحابة الذين تقدموا عليا وفي مثالب علي، فهذا من أظهر الكذب عند الخاصة والعامة من أهل العلم بالأخبار والسير، وأهل الوضع للحديث هم الشيعة كما تقدم ذكره عن أهل الحديث. وأما لعن علي رضي الله عنه فهو من المنكرات، وأهل السنة والجماعة ينكرون على من فعله كائنا من كان.

ومن العجب قوله: ولو لم يقطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لبقي في الشام إلى اليوم. فيقال: وما يدريك بذلك، أقرأت في اللوح المحفوظ فكتبت هذا الكلام منه؟ أم بلغك ذلك في حديث صحيح عن رسول الله ﷺ أنه أخبر بذلك فهو الصادق فيما أخبر به؟ وأيضا أنت ذكرت عن ابن تيمية رحمه الله في أول كتابك وفي هذا الموضع أنه لم ينقطع إلا قبل وقته، فهذا يرد قولك إنه لو لم يقطعه عمر لبقي إلى اليوم، وأيضا أنت كذبت على ابن تيمية، فإنه لم يقل ذلك، وابن تيمية رحمه الله أجل من أن يقول مثل هذه الخرافات والجهالات في المنقولات.

وأيضا من المعلوم المتواتر أن بني أمية بعد موت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه استمروا على سب علي، ولم ينقطع من الشام ولا من غيره من بلاد الإسلام إلا بعد انقراض دولة بني أمية في ولاية بني العباس.

وأما قوله: ومن إحداثاته ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في أول السورة، فهذا كذب ظاهر، وما ذكره عن الرازي دعوى مجردة لا دليل عليها، وأيضا معارضة بما هو من أصح الأسانيد، وهو ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "صليت مع النبي ﷺ ومع أبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الر حيم في أول القراءة ولا في آخرها".[94]

وأما تشريعه الإقامة في صلاة العيدين، فكذب ظاهر، فإن الذي أحدثه بنو أمية بعد معاوية في العيدين هو تقديم الخطبة على الصلاة، كما في الصحيحين أن أول من فعل ذلك مروان بن الحكم، فأنكر عليه أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

فصل (دعوى الزيدية العصمة لعلي كدعوى الإمامية النص على إمامته)

وأما دعواه العصمة لعلي رضي الله عنه وقوله: (قد حصل القطع بها ولا ينكرها إلا مكابر) إلى آخره.

(فالجواب) أن يقال:

(أولا) هذه الدعوى من جنس دعوى الإمامية بالنص والعصمة لعلي وأولاده، ومن جنس دعوى الباطنية وجنس دعوى السبائية في محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، وما أحسن ما قال بعضهم:

لي حيلة فيمن ينم ** وليس في الكذاب حيلة

من كان يخلق ما يقو ** ل فحيلتي فيه قليلة

وقد تقدم الجواب عن أدلته التي ذكر مفصلا مبينا، ولكن نذكر فصلا نختم به كتابنا هذا، ننقل فيه كلام أهل البيت في الرد على هذا المعترض وأشباهه؛ ليتبين الحق لمن أراد الله هدايته، وأما من أراد الله به الشقاء والخذلان، فذلك لا حيلة فيه كما قال تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي} الآية.

فصل (في كلام بعض أهل البيت في الثناء على معاوية)

في ذكر شيء من كلام أهل البيت رضي الله عنهم في الثناء على معاوية رضي الله عنه.

من ذلك ما أخرجه غير واحد من أهل العلم أن عليا رضي الله عنه قال: "لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر على كواهلها".

وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية أنه أوتر بركعة؟ فقال: "أصاب إنه فقيه" فهذه شهادة ابن عباس، وهو من أكابر علماء أهل البيت.

(ترك الحسن الخلافة لمعاوية وكلامه في إمامة والده)

ومن ذلك انسلاخ الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب في ترجمة الحسن بن علي رضي الله عنه: "كان رحمه الله حليما ورعا، دعاه ورعه وفضله إلى أن ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله". وقال: "والله ما أحب منذ عرفت ما ينفعني وما يضرني أن ألي أمر أمة محمد ﷺ على أن يهراق في ذلك محجمة دم". وكان من المبادرين إلى نصرة عثمان رضي الله عنه والذابين عنه، ولما قتل أبوه علي رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفا كلهم قد بايعوا أباه عليا قبل موته على الموت، وكانوا أطوع للحسن وأحب فيه منهم في أبيه. فبقي نحو سبعة أشهر خليفة في العراق وما وراءها من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه -وذكر ما جرى بينهما، إلى أن قال-: وكان كما قال رسول الله ﷺ: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". [95] وكان أصحاب الحسن يقولون: "يا عار المؤمنين". فيقول: "العار خير من النار" وذكر بإسناده عن أبي روق الهمداني أن أبا العريف حدثه قال: "كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفا مستميتين، تقطر أسيافنا من الجد والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمرطة، فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يكنى أبا عامر فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال: لا تقل هكذا يا أبا عامر، فإني لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم على طلب الملك.

قال أبو عمر: وروينا من وجوه أن الحسن بن علي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: "يا أخي، إن أباك رحمه الله لما قبض رسول الله ﷺ استشرف لهذا الأمر، ورجا أن يكون صاحبه، فصرف الله ذلك عنه، ووليها أبو بكر. فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوف إليها، وصرفت عنه إلى عمر. فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم، فلم يشك أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان. فلما هلك عثمان بويع، ثم نوزع حتى جرد السيف، فطلبها وما صفا له شيء منها. وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا- أهل البيت- النبوة والخلافة، فلأعرفن ربما استخفك سفهاء الكوفة فأخرجوك". انتهى. فانظر -رحمك الله- إلى كلام هذا السيد، وما فيه من الرد على هذا المعترض من دعواه النص على علي رضي الله عنه وغير ذلك من الدعاوى الباطلة يتبين لك مخالفته لأهل البيت، وأن دعواه محبة أهل البيت كذب وافتراء ودعوى لا حقيقة لها.

(كيف كان الصلح بين الحسن ومعاوية)

ومن العجب أن يدعي عصمة أهل البيت فيحتج بالأحاديث والآيات على ذلك، وأنهم كسفينة نوح وباب حطة، ثم يخالفهم ويرد كلامهم، ولازم كلامه أن فعل الحسن رضي الله عنه من نزوله عن الخلافة ومصالحته معاوية هو سبب افتراق الأمة وضلالتها، وأن كلام الحسن لأخيه الحسين -رضي الله عنهما- كلام باطل، بل الواجب على الحسن وغيره من المسلمين الخروج على معاوية رضي الله عنه ومقاتلته وانتزاع الخلافة منه. ونحن نقول: بل الحسن مصيب بار راشد ممدوح، وليس يجد في صدره مما صنع حرجا ولا تلوما ولا ندما، بل هو راض بذلك مستبشر به، وإن كان هذا قد ساء خلقا من ذويه وشيعته ولا سيما بعد ذلك بمدد وهلم جرا إلى يومنا هذا.

والحق في ذلك اتباع السنة، وقد مدحه جده ﷺ كما ثبت في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن الحسن البصري -وكان من سادات التابعين وأفاضلهم- قال: "استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية- وكان والله خير الرجلين-: أي عمر، وإن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور المسلمين، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه وتكلما وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن رضي الله عنه إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا له: فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال: من لي بهذا، من لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به، قال الحسن: فصالحه، قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة رضي الله عنه يقول: سمعت النبي ﷺ والحسن بن علي رضي الله عنه إلى جنبه، وهو ينظر إلى الناس مرة، وإليه مرة، ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".

ففي هذا الحديث الصحيح أن معاوية رضي الله عنه هو الذي طلب إليه الصلح، والذي ذكره أهل السير والأخبار أن الحسن هو الذي كتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على شروط اشترطها عليه.

وقد أخرج الحاكم عن جبير بن نفير قال: قلت للحسن: إن الناس يقولون: إنك تريد الخلافة؟ فقال: "قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، تركتها ابتغاء وجه الله، وحقن دماء أمة محمد ﷺ من أهل الحجاز". أو كما قال.

ففي هذا من الرد على المعترض ما يعرفه كل منصف، وذلك أن هذا المعترض جعل هذا الصلح والاجتماع الذي فعله الحسن بن علي، ووافقه عليه أهل بيته وجمهور المسلمين هو سبب فساد الأمة وافتراقها، فعلى كلامه يكون الحسن هو الذي تسبب في فساد الأمة، وظهور الفتن فيها.

فإن قال: ألجأه إلى ذلك الخوف والضعف.

قلنا: هذا باطل من وجوه كثيرة: (منها): ما تقدم من كثرة جيش الحسن رضي الله عنه ومحبة الناس له وانقيادهم معه، وقد بين رضي الله عنه أن الذي حمله على ذلك هو كف الفتنة، وإيثار الآخرة على الدنيا؛ ولهذا مدحه النبي ﷺ على فعله ذلك.

قال العلماء رحمة الله عليهم: فدل هذا على أن قتال أهل الشام ليس بواجب قد أوجبه الله ورسوله، ولو كان واجبا لم يمدح النبي ﷺ الحسن بتركه. فدل الحديث على أن ما فعله الحسن بن علي مما يحبه الله ورسوله، وتواترت الأخبار عن علي رضي الله عنه بكراهة القتال في آخر الأمر، لما رأى اختلاف الناس، واختلاف شيعته عليه وتفرقهم، وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل، وكان يقول رضي الله عنه ليالي صفين "لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد بن مالك: إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطره ليسير"، وكان يقول لابنه الحسن رضي الله عنه: "يا حسن، يا حسن، ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة".

(ما كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من المهادنة بعد صفين)

حتى ذكر ابن كثير وغيره من أهل التواريخ أن في سنة أربعين بعد وقعة صفين جرت بين علي ومعاوية المهادنة على وضع الحرب، وأن يكون ملك العراق لعلي، ولمعاوية ملك الشام، ولا يدخل أحد على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غيرها، ذكر ذلك من رواية زياد عن ابن إسحاق؛ وذلك لأن معاوية رضي الله عنه بعد أن رجع من صفين إلى الشام، ورجع علي رضي الله عنه إلى الكوفة فرق معاوية رضي الله عنه جيوشا كثيرة في أطراف معاملات علي رضي الله عنه، فبعث النعمان بن بشير في ألفي فارس على عين النمر، وبها مالك بن كعب في ألف فارس مسلحة لعلي رضي الله عنه، فلما سمعوا بقدوم الشاميين ارفضوا عنهم، فلم يبق مع مالك إلا مائة رجل، فكتب إلى علي يخبره بأمر النعمان، فندب علي الناس إلى إغاثته، فتثاقلوا عليه ونكلوا ولم يجيبوا إلى الخروج، فخطبهم علي رضي الله عنه فقال في خطبته: "يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمسير لأهل الشام قد أظلكم انحجر كل امرئ منكم في بيته، وغلق عليه بابه انحجار الضب في جحره، والضبع في وجاره، المغرور من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند الالتجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، ما هذا ملئت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون". قال أهل الأخبار: حتى كره الحياة بينهم وتمنى الموت، وكان يكثر أن يقول: "ماذا يحبس أشقاها؟" أي: ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟ ثم يقول: "والله لتخضبن هذه -ويشير إلى لحيته- من هذه -ويشير إلى هامته-".

قال ابن كثير في تاريخه: وقد روى ذلك عن النبي ﷺ من طرق كثيرة ثم سرد تلك الطرق.

وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال: خطبنا علي رضي الله عنه قال: "نبئت أن قراءكم قد خلعوا الإمام، وإني والله لأحسب هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخياناتكم أماناتكم، وأدائهم أمانتهم، وإفسادكم في أرضكم، وإصلاحهم في أرضهم، قد بعثت فلانا فخان وغدر، وبعثت فلانا فخان وغدر، وبعث بالمال إلى معاوية، لو أئتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته. اللهم سئمتهم وسئموني وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحني منهم وأرحهم مني". قال فما صلى الجمعة الأخرى حتى قتل. انتهى ما نقله من تاريخ ابن كثير الذي سماه البداية والنهاية.

وقد كان رآه عليا رضي الله عنه في دماء أهل القبلة لم يعهده إليه رسول الله ﷺ ولا أمره به، كما في سنن أبي داود وغيره: "عن قيس بن عباد قال: قلت لعلي أخبرنا عن مسيرك هذا، عهد عهده إليك رسول الله ﷺ أم رأي رأيته؟ قال: ما عهد إلي النبي ﷺ شيئا". [96] وهذا أمر ثابت عنه؛ ولهذا لم يرو علي في قتال أهل الجمل وصفين عن النبي ﷺ كما روى في قتال الخوارج، فإنه روى هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج أحاديث كثيرة، أخرجها علماء أهل السنة كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الإمام أحمد: "صح الحديث في الخوارج عن النبي ﷺ من عشرة أوجه".

وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قال أهل العلم بهذا الشأن: إنه حديث موضوع على النبي ﷺ.

(ما جرى بعد موت معاوية من فتن قتل الحسين غيرها)

وقد روى البخاري وغيره عن سهل بن حنيف -وهو ممن قاتل مع علي بصفين: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ﷺ لرددته، وما أردت بذلك إلا الخير، وما رفعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسلمنا بها إلى أمر نعرفه غير أمركم هذا، ما سددنا خصما إلا انفجر لنا خصم آخر". [97] وذلك لأن هذا القتال لم يحصل به مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، بل أريقت به دماء ألوف مؤلفة من المسلمين، ونقص الخير عما كان، وزاد الشر على ما كان، ولما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة واستتم له الأمر اتفقت الكلمة، وكان الناس في ولايته متفقين يغزون العدو، ويجاهدون في سبيل الله، فلما مات معاوية رحمه الله جرت فتن عظيمة منها قتل الحسين وأهل بيته، ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة، ثم حصر ابن الزبير بمكة. ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط، وجرت فتنة مصعب بن الزبير، وقتل مصعب، ثم حاصر الحجاج ابن الزبير وقتله. وجرت فتنة لما تولى الحجاج العراق، وخرج عليه عبد الرحمن بن الأشعث معه خلق عظيم من القراء، وكانت فتنة كبيرة.

(من أثنى من علماء التابعين على معاوية)

وبالجملة، فلم يكن ملك من ملوك الإسلام خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمن ملك من ملوك المسلمين خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده.

وقد روى أبو بكر الأثرم حدثنا محمد بن عمرو حدثنا محمد بن مروان عن يونس عن قتادة قال: "لو أصبحت في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي"، وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: "لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي".

ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي -رضي الله عنهما- فضلا عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فكيف يشبه غير الصحابة بهم، والله أعلم.

وروى أسد بن موسى قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة قال: "ما بلغني أن عمر بن عبد العزيز جلد سوطا في خلافته إلا رجلا شتم معاوية عنده، فجلده ثلاثة أسواط".

وروى أسد أيضا قال: حدثنا أبو هلال قال: حدثنا قتادة قال: قلت للحسن: "يا أبا سعيد، إن ههنا أناسا يشهدون على معاوية أنه من أهل النار. قال: لعنهم الله، وما يدريهم من في النار".

فقد تبين بما ذكرنا لكل منصف أريب، ولمن له قلب منيب، جهل هذا المعترض وأشباهه بما عليه أهل البيت، وأن دعواه اتباعهم ومحبتهم كذب وافتراء، ومجرد دعوى لا حقيقة لها، كما أن اليهود والنصارى يدعون اتباع أنبيائهم، وهم قد خالفوهم وسلكوا غير طريقهم، وكذلك الإمامية والغالية من الرافضة يدعون اتباع علي وأهل بيته، وهم قد خالفوا طريقتهم وسلكوا غير منهاجهم.

فقد تقرر وظهر -ولله الحمد والمنة- أن أسعد الناس باتباع أهل البيت ومحبتهم هم أهل السنة والجماعة، القائلون بما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وقد قال تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} الآية، وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} الآية.

ونسأل الله أن يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، وأن يجنبنا ما يسخطه من الخطأ والزلل، ويرينا الحق حقا ويوفقنا إلى اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويوفقنا إلى اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل.

(الدعاء المأثور عند الاشتباه)

وينبغي للمؤمن عند الاشتباه أن يلجأ إلى الله، ويضرع إليه، ويدعو بما دعا به رسول الله ﷺ في صلاة الليل وهو: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". [98]

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. انتهى. [99]


هامش

  1. من مرويات عبد الله بن سلام من كتب بني إسرائيل ا هـ من حاشية الأصل.
  2. ولا يخفى ما في كلام القرطبي من الكذب والغلو والتشنيع المخالف لصحيح التاريخ ا هـ من حاشية الأصل. والقرطبي لم يكن هو المفتري ولكنه اغتر ببعض ما كتبه أصحاب الأهواء في ذلك.
  3. قال أبو حاتم: لا يحتج به ا هـ من حاشية الأصل.
  4. مسلم
  5. {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما}
  6. {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير}
  7. {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}
  8. أبو داود والترمذي وأحمد
  9. متفق عليه
  10. البخاري
  11. الموضع كالمسرع وزنا ومعنى.
  12. لعلها: "ليس... فيهم... من يبغض عليا وأهل بيته."
  13. في الأصل: سعيد بن هشيم، والتصحيح من التهذيب وكتب الرجال.
  14. متفق عليه
  15. متفق عليه
  16. أبو داود والدارمي
  17. أبو داود وابن ماجه
  18. متفق عليه
  19. متفق عليه
  20. متفق عليه
  21. هذا تفسير لكلمة (عهدي) من الآية، وبقية الألفاظ تفسير للعهد فيها غير مضاف.
  22. لأن خروج الناس عليه والشوكة بيده مدعاة للفتن الداخلية، واقتتال الأمة بما يجعل بأسها بينها، ويقوي أعداءها عليها، ولكن عدم طاعتها له في المعصية تضطره إلى التزام الشريعة. وأما أهل الحل والعقد فيجب عليهم إقرار الإمامة في قرارها الشرعي إذا قدروا.
  23. في صحيح مسلم: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا (أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه). وفي رواية: بنحو ذلك غير أنه قال: فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم. وفي رواية: فذكر مثله إلا قوله: ولكن من رضي وتابع. لم يذكره.
  24. بقي شيء آخر: وهو أن رواة الأحاديث الذين دونوها ومحصوا أسانيدها، ليسوا خصوما فيها لآل البيت، ولا للشيعة وغيرهم من المبتدعة بل يروون عن كل من ثبت عندهم عدالته في الرواية، وإن كان مخالفا لهم في بعض الأصول والفروع، لا يتعصبون لمذهب أحد في الرواية؛ فالمجتهد منهم يروي كل ما سمعه من الرواة، ويتبع ما صح عنده بحسب فهمه، ومن نشأ على مذهب كالذهبي والمزي وابن حجر العسقلاني لا يأبى أن يصحح ما خالف مذهبه، وأن يضعف ما وافقه، فتمحيص الأسانيد عندهم مقدم على كل شيء، وعلماء الشيعة المتعصبون من الزيدية والإمامية يعلمون هذا، ولكنهم يوهمون عوامهم أن حفاظ الحديث خصوم لهم ليقطعوا طريق الأدلة الصحيحة عليهم.
  25. متفق عليه
  26. التي فيها أن بعض من يرد عليه ﷺ الحوض تذودهم الملائكة ويعللون طردهم بقولهم له ﷺ: "إنك لا تدري مما أحدثوا بعدك"، فيقول: "بعدا لهم وسحقا".
  27. متفق عليه
  28. مسلم
  29. والتحقيق أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
  30. قال في رسالة الرد على الرافضة: "ومنها قولهم إن الحسن بن علي لم يعقب وأن عقبه انقرض وإنه لم يبق من نسله الذكور أحد، وهذا القول شائع فيهم وهم مجمعون عليه ولا يحتاج إلى إثباته؛ كذا قيل." ومن أشراف أهل البيت من كذبته الشيعة مثل جعفر بن موسى الكاظم الذي لقبه الإمامية بالكذاب لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن. (عمدة الطالب في أنساب أبي طالب: ص199.) ويروون الروايات في تكذيبه ولعنه وينسبونها إلى النبي ﷺ رغم أنه من سادات أهل البيت، فقد أخرج الطوسي عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين فقلت له: يا سيدي كيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون؟ فقال: حدثني أبي عن أبيه: أن رسول الله قال: « إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسموه الصادق، فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراء على الله وكذبا عليه، فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله، المدعي لما ليس له بأهل، المخالف على أبيه والحاسد لأخيه، ذلك الذي يكشف سر الله عند غيبة ولي الله ». الاحتجاج: ص 318؛ وأخرجه أيضا القطب الراوندي، الخرائج: 1/268؛ والمجلسي في بحار الأنوار: 50/277
  31. نعم هذا هو الحق وما عداه باطل، مخالف لنصوص القرآن القطعية الناطقة بأن رسل الله تعالى لم يسألوا على تبليغ وحي الله ودينه أجرا، بل صرحوا بأن أجرهم على الله وحده، كما تراه في قصص الرسل في سورتي هود والشعراء وغيرهما، وما كان خاتم النبيين بدعا من الرسل، فما ينبغي له وهو أفضلهم أن يسأل قومه أجرا على تبليغ الدين، أن يودوا قرابته، وأكثر البشر يسعون ويكدحون لأجل أولي قرباهم، وقد حكى الله تعالى عنه ذلك، كما حكى عنهم في سور الأنعام ويوسف والفرقان وسبأ وص، والشورى، وفيها استثناء (إلا المودة في القربى)، وهو استثناء منقطع قطعا لئلا تختلف مع بقية الآيات التي جاءت على أصل العقيدة في سائر الرسل عليهم السلام، فمعناها: لا أسألكم عليه أجرا مطلقا، ولكن أسألكم المودة في القرابة، وصلة الرحم بيني وبينكم كسائر الأقربين، كما استثنى في آية الفرقان (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا).
  32. التحقيق المتبادر من الآيات أنها في نساء النبي وحدهن دون غيرهن، وإنما ذكر الضمير في قوله (ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) لدخوله ﷺ معهن في ذلك، ولكون ما أريد من التشديد عليهن بهذه الوصايا، وحكمته هو تطهير بيته (ص) مما يدنسه بانحرافهن عن صراط التقوى (برأهن الله من ذلك)، ومن المعلوم بالبداهة: أن الرجل لا يلحقه من العار بارتكاب أحد أولاد عمه لفاحشة ما مثل ما يلحقه باقتراف زوجه للفاحشة.
  33. ومثله في حكمة الرخصة في الصيام (يريد الله بكم اليسر) الآية.
  34. كذا في الأصل، ولعله "أما ترضى أن تكون، إلخ" أو نحو هذا.
  35. البخاري في خلق أفعال العباد
  36. قال تعالى في سورة النساء: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}؛ وفي سورة التوبة: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}؛ وفي سورة الفتح: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}
  37. التفسير في اللغة المبالغة في توضيح ما فيه خفاء، وبهذا المعنى كان يذكره المتقدمون، فقول الأوزاعي بعدم تفسير الصفات الإلهية أنهم يرونها على ظاهر مدلول اللغة مع اعتقاد تنزيهه تعالى عن مشابهة خلقه.
  38. الترمذي
  39. راجعت المستدرك للحاكم في تفسير قوله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل). فلم أجده في المستدرك، وهو من رواية ابن إسحاق عن بني إسرائيل ا هـ من هامش الأصل.
  40. متفق عليه
  41. متفق عليه
  42. متفق عليه
  43. يعني أنها لو كانت ترى كلها لكانت رؤيتها إدراكا، فإن الإدراك هو الإحاطة، فنفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية التي دون الإحاطة بالمرئي.
  44. متفق عليه
  45. متفق عليه
  46. البخاري
  47. متفق عليه
  48. ابن ماجه وأحمد
  49. مسند أحمد
  50. هنا في الأصل بياض قدر كلمة.
  51. مسلم
  52. متفق عليه
  53. الترمذي
  54. متفق عليه
  55. مسلم
  56. مسلم
  57. البخاري، ومسلم بلفظ "اشفعوا فلتؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب."
  58. مسلم
  59. مسلم
  60. في الأصل: "وليس هو معلول" والتصحيح من الرد على الجهمية.
  61. في الأصل. وزعم أن جعل مخلوق مجعول هو مخلوق؛ والتصحيح من الرد.
  62. أي: متقدما على إمامته.
  63. الظاهر أن العبارة هكذا: فلا بد أن يقول أحد القولين، ا هـ من الأصل. وكان فيه: "فادعى في ال من أن يقول أحد القولين" والتصحيح من الرد.
  64. متفق عليه
  65. يعني بالتحرك: ما ورد في مجيئه وإتيانه، وهو في القرآن، ومن نزوله إلى سماء الدنيا في الحديث، ولكن لفظ التحرك لا نعرفه في الكتاب والسنة ولا آثار الصحابة.
  66. الترمذي
  67. مسلم
  68. متفق عليه
  69. وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة.
  70. أحمد
  71. نسبة إلى ابن الراوندي.
  72. البخاري
  73. متفق عليه
  74. لقوله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}
  75. متفق عليه
  76. متفق عليه
  77. متفق عليه
  78. الترمذي وابن ماجه وأحمد
  79. متفق عليه
  80. الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد
  81. متفق عليه
  82. متفق عليه
  83. أبو مخنف قال يحيى بن معين ليس بثقة وقال أبو حاتم متروك الحديث وقال الدارقطني أخباري ضعيف.
  84. مسلم
  85. متفق عليه
  86. البخاري
  87. البخاري
  88. الترمذي وأحمد
  89. أحمد
  90. الترمذي
  91. أحمد
  92. الترمذي
  93. أحمد
  94. متفق عليه
  95. البخاري
  96. أبو داود
  97. متفق عليه
  98. مسلم
  99. وقع الفراغ من نسخه نهار الأربعاء عاشر رجب سنة 1343 بقلم الفقير إلى رحمة ربه القدير، المقر بالذنب والتقصير عبد الرحمن بن محمد بن براك، غفر الله له ولوالديه ولإخوانه المسلمين. آمين.

نص مائل