الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة المائدة


☰ جدول المحتويات

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ } * { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

البهيمة: كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري وقال ابن عطية: البهيمةفي كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى. وما كان على فعيل أو فعيلة وعينه حرف حلقاسماً كان أو صفة، فإنه يجوز كسر أوله اتباعاً لحركة عينه وهي لغة بني تميم تقول: رئي وبهيمة، وسعيد وصغير،وبحيرة وبخيل. الصيد: مصدر صاد يصيد ويصاد، ويطلق على المصيد. وقال داود بن عليّ الأصبهاني: الصيد ما كان ممتنعاً ولميكن له مالك وكان حلالا أكله، وكأنه فسر الصيد الشرعي. القلادة في الهدى: ما قلد به من نعل، أوعروة مزاده، أو لحا شجر أو غيره، وكان الحرمي ربما قلّد ركابه بلجاً شجر الحرم، فيقتصم بذلك من السوء.الآمُّ: القاصد أممت الشيء قصدته. جرمه على كذا حمله، قاله: الكسائي وثعلب. وقال أبو عبيدة والفراء: جرمه كسبه، ويقال:فلان جريمة أهله أي كاسبهم، والجارم الكاسب. وأجرم فلان اكتسب الإثم. وقال الكسائي أيضاً: جرم وأجرم أي كسب غيره، وجرميجرم جرماً إذا قطع. قال الرماني: وهو الأصل، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب،وجرم بمعنى حق، لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: لا جرّم أن لهم النار أي لقد حق. الشنآن: البغض،وهو أحد مصادر شيء. يقال: شنيء يشنأ شنأ وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة: وشناء، وشناءة، وشناء، وشنأة، ومشنأة، ومشنئة، ومشنئة،وشنانا، وشنانا. فهذه ستة عشر مصدراً وهي أكثر ما حفظ للفعل. وقال سيبويه: كل بناء كان من المصادر على فعلانبفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن. المعاونة: المساعدة. المنخنقة: هي التي تحتبس نفسها حتى تموت،سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك. الوقد: ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت. وقيل: الموقوذة المضروبةبعصا أو حجر لا حد له، فتموت بلا ذكاة. ويقال: وقذه النعاس غلبه، ووقذه الحكم سكنه. التردّي: السقوط في بئرأو التهوّر من جبل. ويقال: ردى وتردّى أي هلك، ويقال: ما أدري أين ردي؟ أي ذهب. النطيحة: هي التي ينطحهاغيرها فتموت بالنطح، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل، ولذلك ثبت فيها الهاء. السبع: كل ذيناب وظفر من الحيوان: كالأسد، والنمر، والدب، والذئب، والثعلب، والضبع، ونحوها. وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع. قالالشاعر

: وسباع الطير تغدو بطانا     تتخطاهم فما تستقل

ومنالعرب من يخص السبع بالأسد، وسكون الباء لغة نجدية، وسمع فتحها، ولعل ذلك لغة. التذكية: الذبح، وتذكية النار رفعها، وذكىالرجل وغيره أسن. قال الشاعر

: على أعراقه تجري المذاكي     وليس على تقلبه وجهده

النصب، قيل جمع نصاب، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليهالآلهتهم، ولها أيضاً وتلطخ بالدماء، ويوضع عليها اللحم قطعاً قطعاً ليأكل منها الناس. وقيل: النصب مفرد. قال الأعشى: وذا النصبالمنصوب لا تقرينه. الأزلام: القداح واحدها زلم وزُلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام، كان أحدهم إذا أراد سفراً أوغزوا أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي، وعلى بعضهاأمرني ربي، وبعضها غفل، فإن خرج الآمر مضى لطلبته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد الضرب. اليأس:قطع الرجاء. يقال: يئس ييئس وييئس، ويقال: أيس وهو مقلوب من يئس، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنهموجب له. ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب.المخمصة: المجاعة التي يخمص فيها البطون أي تضمر، والخمص ضمور البطن، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال: خمصانة، وبطنخميص، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيراً في الجوع والغرث. قال الأعشى

: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم     وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وقال آخر

: كلوا في بعض بطنكم تعفوا     فإن زمانكم زمن خميص

{عَلِيمٌ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } هذه السورةمدنية، نزلت منصرف رسول الله ﷺ من الحديبية، ومنها ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزلعام الفتح. وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة، أو في سفر، أو بمكة، فهو مدني. وذكروا فضائل هذه السورة وأنهاتسمى: المائدة، والعقود، والمنقذة، والمبعثرة. ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها، ذكرأنه يبين لهم كراهة الضلال، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل. قالوا: وقد تضمنت هذه السورةثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها، وسنبينها أوّلاً فأوّلاً إن شاء الله تعالى. وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال لهأصحابه: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن، فقال: نعم، أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: واللهما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عنالنكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذاإلا في إجلاد انتهى. والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين. وقال ابن جريج: هم أهل الكتاب. وأمر تعالى المؤمنينبإيفاء العقود وهي جمع عقد، وهو العهد، قاله: الجمهور، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي. وقال الزجاج: العقودأوكد من العهود، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني، وتبعه الزمخشري فقال: هو العهد الموثق شبه بعقد الحبلونحوه. قال الحطيئة

: قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم     شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا

والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلامياً أم جاهلياًوقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله ﷺ عن حلف الجاهلية فقال: لعلك تسأل عن حلف تيم الله قال: نعم يا نبي الله. قال: لا يزيده الإسلام إلا شدة وقال صلى اللهعليه وسلم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان: ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماًبمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول. وكان الوليدبن عقبة أميراً على المدينة، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال: لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي، ثملأقومن في مسجد الرسول ﷺ، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير: لئن دعاني لآخذنسيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه، أو نموت جميعاً. وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بنعبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه. ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ،ودية، ونكاح، وبيع، وشركة، وهبة، ورهن، وعتق، وتدبير، وتخيير، وتمليك، ومصالحة، ومزارعة، وطلاق، وشراء، وإجارة، وما عقده مع نفسه للهتعالى من طاعة: كحجٍ، وصومٍ، واعتكافٍ، وقيام، ونذر وشبه ذلك. وقال ابن عباس ومجاهد: هي العهود التي أخذها الله علىعباده فيما أحل وحرم، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم منواجب التكليف، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل. وقال قتادة: هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، قال: ورويلنا عن رسول الله ﷺ أنه قال: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما: هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أوغيره. وقال ابن زيد أيضاً، وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان، وعقدة النكاح، وعقدة العهد، وعقدة البيع، وعقدةالحلف. وقيل: هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها، وقال ابن جريج: هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بهابما جاءهم به الرسول. وقال ابن شهاب: قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول ﷺ لعمرو بن حزم حينبعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب وقيل: العقود هنا الفرائض. {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ } قيل: هذا تفصيل بعد إجمال. وقيل:استئناف تشريع بيَّن فيه فساد تحرم لحوم السوائب، والوصائل، والبحائر، والحوام، وأنها حلال لهم. وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيءإلى جنسه فهو بمعنى مِن، لأن البهيمة أعم، فأضيفت إلى أخص. فبهيمة الأنعام هي كلها قاله: قتادة، والضحاك، والسدي، والربيع،والحسن. وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى. وقال ابن قتيبة: هي الإبل، والبقرة، والغنم، والوحوش كلها. وقال قوم منهمالضحاك والفراء: بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء، وبقر الوحش وخمره. وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم، والإضراروعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام. وقال ابن عمر وابن عباس: بهيمة الأنعامهي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة، وهذا فيه بعد. وقيل: بهيمة الأنعام هي التي ترعى منذوات الأربع، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الأبهام فصار له نظر مّا.{إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى: إلا ما يتلى عليكم تحريمه من نحو قوله:

{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ }

وقال القرطبي: ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة، ومنه {كُلَّ ذِى * هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَاحَرَامٌ }. وقال أبو عبد الله الرازي: ظاهر هذا الاستثناء مجمل، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقيبعد الاستثناء مجملاً، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله:{حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } إلى قوله:

{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ }

ووجه هذا أنّ قوله: أحلت لكم بهيمة الأنعام، يقتضيإحلالها لهم على جميع الوجوه. فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله، أو منخنقة أوموقوذة أو متردية أو نطيحة، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه. وموضع ما نصب على الاستثناء، ويجوز الرفع علىالصفة لبهيمة. قال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل، وعلى أن تكون إلا عاطفة،وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجل إلا زيد،كأنك قلت: غير زيد انتهى. وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصحالبتة، لأنّ الذي قبله موجب. فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلاما يتلى عليكم. وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله: وذلك لايجوز عند البصريين، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف. وقوله: إلا من نكرة، هذا استثناء مبهم لا يدرى منأي شيء هو. وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناهلا بصرى ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصرى ألبتة، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتاً لما قبله فيمثل هذا التركيب. وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة، أو ما قاربها من أسماء الأجناس،فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم. ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلهافي الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقارباً للنكرة من أسماءالأجناس، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف. {غَيْرَ مُحِلّى ٱلصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } قرأ الجمهور غير بالنصب.واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال. ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، واختلفوافي صاحب الحال. فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال الجمهور، الزمخشري، وابن عطية وغيرهما: هو الضمير المجرور فيأحلّ لكم. وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به، وهو الله تعالى. وقال بعضهم: هو ضميرالمجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم، هو استثناء من بهيمة الأنعام. وأنّ قوله:غير محلى الصيد، استثناء آخر منه. فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام، وفي المستثنى منه والتقدير: إلا ما يتلى عليكم إلاالصيد وأنتم محرمون، بخلاف قوله:

{ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ }

على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى ممايليه من الاستثناء. قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا مايتلى عليكم مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذا معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلى الصيد وأنتم حرم إلاما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى. وقال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير، وقدروا تقديماتوتأخيرات، وذلك كله غير مرضي، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه. وهو أيضاً ممن خلط علىما سنوضحه. فأمّا قول الأخفش: ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية، بل هي منشئة أحكاماً، وذلك لايجوز. وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد، ويصير التقدير: أوفوابالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها. وإنْ أريد به الظباءوبقر الوحش وحمره فيكون المعنى: وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد،ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا. ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. وأما قول: منجعله حالاً من الفاعل. وقدّره: وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم، قال كما تقول: أحلتلك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة، فهو فاسد. لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصيرنسياً منسياً، ولا يجوز وقوع الحال منه. لو قلت: أنزل المطر للناس مجيباً لدعائهم، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيباًلدعائهم لم يجز، وخصوصاً على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلاً كماوضعت صيغته مبنياً للفاعل، وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانيةالأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها. وأما ما نقلهالقرطبي عن البصريين، فإنْ كان النقل صحيحاً فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى، فنقول: إنما عرض الإشكالفي الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلل لهم، أو من المحلل وهوالله تعالى، أو من المتلو عليهم. وغرّهم في ذلك كونه كتب محلى بالياء، وقدّره هم أنه اسم فاعل من أحل،وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة. وأصله: غير محلين الصيدوأنتم حرم، إلا في قول من جعله حالاً من الفاعل المحذوف، فلا يقدر فيه حذف النون، بل حذف التنوين. وإنمايزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: محلى الصيد، من باب قولهم: حسان النساء. والمعنى: النساء الحسان، وكذلك هذا أصلهغير الصيد المحل. والمحل صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف. ووصف الصيد بأنه محل على وجهين: أحدهما: أنْ يكونمعناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرّجل أي: دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم. والوجه الثاني: أن يكونمعناه صار ذا حل، أي حلالاً بتحليل الله. وذلك أن الصيد على قسمين: حلال، وحرام. ولا يختص الصيد في لغةالعرب بالحلال. ألا ترى إلى قول بعضهم: إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعاً؟ وقد تجوزت العرب فأطلقتالصيد على ما يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله

: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا     ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

وقال آخر

: وقد ذهبت سلمى بعقلك كله     فهل غير صيد أحرزته حبائله

وقال آخر

: وميّ تصيد قلوب الرّجال     وأفلت منها ابن عمر وحجر

ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب. فمن مجيء أفعللبلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرّجل، وأعرق، وأشأم، وأيمن، وأتهم، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعلبمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض، وأبقلت، وأغد البعير، وألبنت الشاة، وغيرها، وأجرت الكلبة، وأصرم النخل، وأتلت الناقة، وأحصدالزرع، وأجرب الرّجل، وأنجبت المرأة. وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ،أو صار ذا حل، اتضح كونه استثناء من استثناء، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم. لأنّ المستثنى من المحلل محرم،والمستثنى من المحرم محلل. بل إن كان المعنى بقوله: بهيمة الأنعام، الأنعام أنفسها، فيكون استثناء منقطاً. وإن كان المراد الظباءوبقر الوحش وحمره ونحوها، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين.(فإن قلت): ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً؟ (قلت): الصيد الذي في الحرملا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذيفي الحل يحرم على المحرم، وإن كان حلالاً لغيره، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسيريكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله: حرمت عليكم الميتة الآية، استثناءمنقطعاً، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي: تحريمهفهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش، فيكون الاستثناآن راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلىعليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول.وإذا لم يمكن ذلك، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناءبعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيداً، إلا عمراً، إلا بكراً(فإن قلت): ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد، لا من صفة الناس، ولامن صفة الفاعل المحذوف، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس، إذلو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك. (قلت): لا يعكر علىهذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: باييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعدالألف، وبنقصهم منه ألفاً. وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين، وهذا كثير في الرسم. وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز، لأنهلا يوقف على المضاف دون المضاف إليه، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على

{ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ }

من غير واو اتباعاً للرسم. على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاءعلى لغة الازد، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء، فكتب محلى بالياء على الوقف على هذه اللغة، وهذاتوجيه شذوذ رسمي، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه. وقرأ ابن أبي عبلة: غير بالرفع، وأحسن ما يخرج عليهأن يكون صفة لقوله: بهيمة الأنعام، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية، ولايضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية: لأن غير محلى الصيدهو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلى الصيد وأنتمحرم جملة حالية. وحرم جمع حرام. ويقال: أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة، أو بهما، فهومحرم وحرام، وأخرم الرجل دخل في الحرم. وقال الشاعر

: فقلت لها فيىء إليك فإنني     حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي: ملب. ويحتمل الوجهين قوله: وأنتم حرم، إذ الصيد يحرم علىمن كان في الحرم، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة، وهو قول الفقهاء. وقال الزمخشري: وأنتم حرم، حال عن محلالصيد كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى. وقد بينافساد هذا القول، بأنّ الأنعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال. {إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } قال ابنعباس: يحل ويحرم. وقيل: يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهودأحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقاً في الحل والحرم إلا فياضطرار، واستثناء الصيد في حالة الإحرام، وتضمن ذلك حله لغير المحرم، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله: إن الله يحكم مايريد. فموجب الحكم والتكليف هو إراته لا اعتراض عليه، ولا معقب لحكمه، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح. ولذلكقال الزمخشري: إنّ الله يحكم ما يريد من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. وقال ابن عطية: وقد نبه على ماتضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصربالكلام، ولمن عنده أدنى بصيرة. ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه، وفي مثل هذا أقول منقصيدة مدحت بها رسول الله ﷺ معارضاً لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى

: جار على منهج الأعراب أعجزهم     باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل بلاغة عندها كعّ البليغ فلم

يُرِيدُيَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } خرج سريح أحد بني ضبيعة إلى مكة حاجاً وساق الهدى. وفيرواية ومعه تجارة، وكان قبل قد قدم المدينة وتكلم مع الرسول ﷺ وتروّى في إسلامه، وقال الرسولعليه السلام: لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر فمر بسرح بالمدينة فاستاقه، فلما قدم مكة عام الحديبيةأراد أهل السرح أن يغيروا عليه، واستأذنوا الرسول، فنزلت. وقال السدي: اسمه الحطيم بن هند البلدي أحد بني ضبيعة، وأرادالرسول أن يبعث إليه ناساً من أصحابه فنزلت. وقال ابن زيد: نزلت بمكة عام الفتح وحج المشركون واعتمروا فقال المسلمون:يا رسول الله إن هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن. {

{ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ }

والشعائر جمع شعيرة أو شعار، أي: قد أشعر الله أنها حده وطاعته، فهي بمعنى معالم الله،وتقدم تفسيرها في

{ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ }

قال الحسن: دين الله كله يعني شرائعه التي حدهالعباده، فهو عام في جميع تكاليفه تعالى. وقال ابن عباس: ما حرم عليكم في حال الإحرام. وقال أيضاً هو ومجاهد:مناسك الحج. وقال زيد بن أسلم: شعائر الحج وهي ست: الصفا والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. وقال أيضاً:المحرمات خمس: الكعبة الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، حتى يحل. وقال ابن الكلبي: كان عامّة العرب لا يعدونالصفا والمروة ومن الشعائر، وكانت قريش لا تقف بعرفات، فنهوا عن ذلك. وقيل: الأعلام المنصوبة المتفرقة بين الحل والحرم نهواأن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام. وقال أبو عبيدة: هي الهدايا تطعن في سنامها وتقلد. قال: ويدل عليه

{ وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَـٰهَا لَكُمْ مّن شَعَـٰئِرِ ٱللَّهِ }

وضعف قوله، بأنه قد عطف عليه. والهدى والقلائد. وقيل: هي ما حرم الله مطلقاًسواء كان في الإحرام أو غيره. وقال الزمخشري: هي ما أشعر أي جعل إشعاراً وعلماً للنسك من مواقف الحج ومراميالجمار والطواف والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر انتهى. {وَلاَ * وَٱلْمَسْجِدِٱلْحَرَامِ } الظاهر أنه مفرد معهود. فقال الزمخشري: هو شهرالحج. وقال عكرمة وقتادة: هو ذو القعدة من حيث كان أولالأشهر الحرم. وقال الطبري وغيره: رجب. ويضاف إلى مضر لأنها كانت تحرم فيه القتال وتعظمه، وتزيل فيه السلاح والأسنة منالرماح. وكانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة، ومختلفة في رجب، فشدد تعالى أمره. فهذا وجه التخصيص بذكره.وقيل: الشهر مفرد محلى بأل الجنسية، فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. والمعنى: لاتحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب. قال مقاتل: وكان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل يوم فيقول: ألاإني قد حللت كذا وحرمت كذا. {وَلاَ ٱلْهَدْىَ } قال ابن عطية: لا خلاف أن الهدى ما هدى منالنعم إلى بيت الله، وقصد به القربة، فأمر تعالى ىأن لا يستحل، ولا يغار عليه انتهى. والخلاف عن المفسرين فيهموجود. قيل: هو اسم لما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو صدقة، وغيرها من الذبائحوالصدقات. وقيل: هو ما قصد به وجه الله ومنه في الحديث: ثم كالمهدي دجاجة، ثم كالمهدي بيضة فسمىهذه هدياً. وقيل: الشعائر البدن من الأنعام، والهدى البقر والغنم والثياب وكل ما أهدي. وقيل: الشعائر ما كان مشعراً بإسالةالدم من سنامه أو بغيره من العلائم، والهدي ما لم يشعر اكتفى فيه بالتقليد. وقال من فسر الشعائر بالمناسك، ذكرالهدى تنبيهاً على تفصيلها. {وَلاَ ٱلْقَلَـٰئِدَ } قال مجاهد، وعطاء، ومطرف بن الشخير: القلائد هي ما كانوا يتقلّدون بهمن شجر الحرم ليأمنوا به، فنُهي المؤمنون عن فعل الجاهلية، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم. وفي الحديث: لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها وقال الجمهور: القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج، فيكون ذلكعلامة حجة. وقيل: أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة، ليدل ذلك على أنه حرمي، فنهى تعالى عن استحلال منيحرم بشيء من هذه. وحكى الطبري عن ابن عباس: أنّ القلائد هي الهدى المقلد، وأنه إنما سمي هدياً ما لميقلد، فكأنه قال: ولا الهدى الذي لم يقلد ولا المقلد منه. قال ابن عطية: وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس،وليس من كلامه أن الهدى، إنما يقال: لما لم يقلد. وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدى جملة، ثم ذكرالمقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد. وقيل: أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغةفي النهي عن التعرض للهدى، أي: لا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما قال تعالى:

{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ }

نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. وقال الطبري: تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلدهدياً كان أو إنساناً، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوماً عند المخاطب. {وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ} وقرأ عبد الله وأصحابه: ولا آمي بحذف النون للإضافة إلى البيت، أي ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام، وهمالحجاج والعمار. قال الزمخشري: وإحلال هذه أي: يتهاون بحرمة الشعائر، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحجما يصدون به الناس عن الحج، وأن يتعرّض للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله. {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْوَرِضْوٰناً } قرأ الجمهور يبتغون بالياء، فيكون صفة لآمين. وفسر الزمخشري الفضل بالثواب، وهو قول بعضهم. وقيل: الفضل التجارة والأرباحفيها. وقيل: الزيادة في الأموال والأولاد يبتغون رجاء الزيادة في هذا. وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه،وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله. وقيل: هو توزيع على المشركين، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معاداً،ومنهم من يبتغي الراضون بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث، وإن كان لا يحصل لهرضوان الله، فأخبر بذلك على بناء ظنه. وقيل: كان المسلمون والمشركون يحجون، فابتغاء الفضل منهما، وابتغاء الرضوان من المؤمنين. وقالقتادة: هو أن يصلح معايشهم في الدنيا، ولا يعجِّل لهم العقوبة فيها. وقال قوم: الفضل والرضوان في الآية في معنىواحد وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة. نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم واستنكاراً أن يتعرض لمثلهم.وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم، وفي الموسم يسمعون القرآن، وتقوم عليهم الحجة، ويرجىدخولهم في الإيمان كالذي كان. ونزلت هذه الآية عام الفتح، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهومحكم، أو في حق كافر فهو منسوخ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع، إذ حج أبو بكر ونودي في الناسبسورة براءة. وقول الحسن وأبي ميسرة: ليس فيها منسوخ، قول مرجوح. وقرأ حميد بن قيس والأعرج: تبتغون بالتاء خطاباً للمؤمنين،والمعنى على الخطاب أنّ المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته، إذأمر تعالى بقتال المشركين، وقتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقرأ الأعمش: ورضواناً بضم الراء، وتقدمفي آل عمران أنها قراءة أبي بكر عن عاصم، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة، فعنه فيه خلاف.{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ } تضمن آخر قوله: أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام، وآخر قوله: لا تحلوا شعائر الله، النهيعن إحلال آمي البيت، فجاءت هذه الجملة راجعاً حكمها إلى الجملة الأولى، وجاء ما بعدها من قوله:

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ }

راجعاً إلى الجملة الثانية، وهذا من بليغ الفصاحة. فليست هذه الجملة اعتراضاً بين قوله: ولا آمين البيت الحرام، وقوله:ولا يجرمنكم، بل هي مؤسسة حكماً لا مؤكدة مسددة فتكون اعتراضاً، بل أفادت حل الاصطياد في حال الإحرام. ولا تقديمولا تأخير هنا، فيكون أصل التركيب: ولا آمين البيت الحرام بيتغون فضلاً من ربهم ورضواناً ولا يجرمنكم، كما ذهب إليهبعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة، فقال: وجه النظر أن يقال:

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا }

الآية ثم يقال:

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ }

وكثيراً ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن، والعجب منه أنه يجعله منعلم البيان والبديع، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر، وهو من أقبح الضرائر، فينبغي بل يجب أن ينزهالقرآن عنه. قال: والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله، وإنما رتبوه علىتقارب المعاني وتناسق الألفاظ، وهذا الذي قاله ليس بصحيح، بل الذي نعتقد أنّ رسول الله ﷺ هوالذي رتبه لا الصحابة، وكذلك نقول في سورة وإن خالف في ذلك بعضهم. والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع، ولهذاقال الزمخشري: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا انتهى. ولما كان الاصطياد مباحاً، وإنما منع منه الإحرام، وإذا زالالمانع عاد إلى أصله من الإباحة. وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر، وعليها إذا جاءت مجردة عنالقرائن، وعلى ما تحمل عليه، وعلى واقع استعمالها، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه. وقرىء: وإذاأهللتم بل هو كذلك انظر المخشري وهي لغة يقال: حل من إحرامه وأحل. وقرأ أبو واقد، والجراح، ونبيح، والحسن بنعمران: فاصطادوا بكسر الفاء. قال الزمخشري: قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقال ابن عطية: وهي قراءة مشكلة،ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت: اصطادوا بكسر الفاء مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل انتهى.وليس عندي كسراً محضاً بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل، كما أمالوا الفاء في، فإذالوجود كسرة إذا. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } قال ابن عباس وقتادة:ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم، يقال: جرمني كذا على بغضك. فيكون أنْ تعتدوا أصله على أن تعتدوا، وحذف منه الجار.وقال قوم: معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي: اعتداؤكم عليكم. وتتعدى أيضاًإلى واحد تقول: أجرم بمعنى كسب المتعدّية لاثنين، يقال في معناها: جرم وأجرم. وقال أبو علي: أجرم أعرفه الكسب فيالخطايا والذنوب. وقرأ الحسن، وابراهيم. وابن وثاب، والوليد عن يعقوب: يجرمنكم بسكون النون، جعلوا نون التوكيد خفيفة. قال الزمخشري:والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم، لأنّ صدوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنه يمتنعأن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما، فيمتنع أن يكون: أن تعتدوا في محل مفعول به، ومحلمفعول على إسقاط حرف الجر. وقرأ النحويان وابن كثير، وحمزة، وحفص، ونافع: شنآن بفتح النون. وقرأ ابن عامر وأبوبكر بسكونها، ورويت عن نافع. والأظهر في الفتح أن يكون مصدراً، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان، وجوزوا أن يكونوصفاً وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم: حمار قطوان أي: عسير السير، وتيس عدوان كثير العدو، وليس في الكثرة كالمصدر.قالوا: فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم. ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل، لأنه من شنيء بمعنى البغض. وهومتعد وليس مضافاً للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدراً، فإنه يحتمل أن يكون مضافاً للمفعول وهو الأظهر. ويحتمل أنيكون مضافاً إلى الفاعل أي: بغض قوم إياكم، والأظهر في السكون أن يكون وصفاً، فقد حكى رجل شنآن وامرأة شنآنة،وقياس هذا أنه من فعل متعد. وحكى أيضاً شنآن وشنأى مثل عطشان وعطشى، وقياسه أنه من فعلا لازم. وقد يشتقمن لفظ واحد المتعدي واللازم نحو: فغر فاه، وغرَّفوه بمعنى فتح وانفتح. وجوز أن يكون مصدراً وقد حكى في مصادرشنيء، ومجيء المصدر على فعلان بفتح الفاء وسكون العين قليل، قالوا: لويته دينه لياناً. وقال الأحوص

: وما الحب إلا ما تحب وتشتهي     وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

أصله الشنآن، فحذفالهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: إنْصدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية، ويؤيد قراءة ابن مسعود: إنْ صدوكم وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسران، وقالوا:إنما صد المشركون الرسول والمؤمنون عام الحديبية، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، والحديبية سنة ست، فالصد قبل نزول الآية،والكسر يقتضي أن يكون بعد، ولأنّ مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم؟ وهذاالإنكار منهم لهذه القراءة صعب جداً، فإنها قراءة متواترة، إذ هي في السبعة، والمعنى معها صحيح، والتقدير: إن وقع صدّفي المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية، وهذا النهي تشريع في المستقبل. وليس نزول هذه الآية عام الفتحمجمعاً عليه، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدّوهم، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحاً. وقرأ باقي السبعة: أنبفتح الهمزة جعلوه تعليلاً للشنآن، وهي قراءة واضحة أي: شنآن قوم من أجل أنْ صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام.والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم. {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ } لما نهى عن الاعتداء بأمر بالمساعدة والتظافر علىالخير، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير، لأنّ بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون. وشرحالزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء، قال: ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى، فيتناول العفو انتهى. وقال قوم: هما بمعنىواحد، وكرر لاختلاف اللفظ تأكيداً. قال ابن عطية: وهذا تسامح، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوىرعاية الواجب. فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوّز انتهى. وقال ابن عباس: البر ما ائتمرت به، والتقوى ما نهيت عنه.وقال سهل: البر الإيمان، والتقوى السنة. يعني: اتباع السنة. {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } الإثم: المعاصي، والعدوان: التعديفي حدود الله قاله عطاء. وقيل: الإثم الكفر، والعصيان والعدوان البدعة. وقيل: الإثم الحكم اللاحق للجرائم، والعدوان ظلم الناس قاله:ابن عطية. وقال الزمخشري: الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال: ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان. {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ } أمر بالتقوى مطلقة، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيداً لأمرها، ثم علل ذلك بأنهشديد العقاب. فيجب أن يتقى وشدّة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره، فإن غالب الدنيا منقض. وقال مجاهد: نزلت نهياًعن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك، ولقد قيل: ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل. {حُرّمَتْعَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } تقدم مثل هذه الجملة في البقرة. وقال هنا ابنعطية: ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع انتهى. وليس كذلك، فقد خالف فيه داود وغيره، وتكلمنا على ذلك في البقرة، وتأخرهنا به وتقدم هناك تفنناً في الكلام واتساعاً، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلاً أولاً كالفصل، وهنا جاءت معطوفات بعدها، فليستفصلاً ولا كالفصل، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد. {وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ ٱلسَّبُعُ }تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات. قال ابن عباس وقتادة: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها، فإذا ماتت أكلوها. وقالأبو عبد الله: ليس الموقوذة إلا في ملك، وليس في صيد وقيذ. وقال مالك وغيره من الفقهاء في: الصيد ماحكمه حكم الوقيذ، وهو نص في قول النبي ﷺ في المعراض: وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ وقال ابن عباس، وقتادة، والسدي، والضحاك: النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان، أو الشاة تنطحها البقر والغنم. وقالقوم: النطيحة المناطحة، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان. قال ابن عطية: كل ما مات ضغطاً فهو نطيح. وقرأ عبد اللهوأبو ميسرة: والمنطوحة والمعنى في قوله وما أكل السبع: ما افترسه فأكل منه. ولا يحمل على ظاهره، لأن ما فرضأنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله، ولذلك قال الزمخشري: وما أكل السبع بعضه، وهذه كلها كان أهل الجاهليةيأكلونها. وقرأ الحسن والفياض، وطلحة بن سلمان، وأبو حيوة: السبع بسكون الباء، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غيرالمشهور، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ عبد الله: وأكيلة السبع. وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع وهما بمعنى مأكول السبع، وذكرهذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله:

{ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ }

وبهذا صار المستثنى منه والمستثنىمعلومين. {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } قال علي، وابن عباس، والحسن، وقتادة، وابراهيم، وطاووس، وعبيد بن عمير، والضحاك، وابن زيد،والجمهور: هو راجع إلى المذكورات أي من قوله: والمنخنقة إلى وما أكل السبع. فما أدرك منها بطرف بعض، أو بضرببرجل، أو يحرك ذنباً. وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل. وقال بهذا مالك في قول، والمشهور عنه وعن أصحابهالمدنيين: أنّ الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش، ومتى صارت إلى ذلك كانتفي حكم الميتة. وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات. وكان الزمخشريمال إلى مشهور قول مالك فإنه قال: لا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه. وقيل: الاستثناء متصلعائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به، والمعنى: إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه،فإنه حلال. وقيل: هو استثناء منقطع والتقدير: لكنْ ما ذكيتم من غير هذه فكلوه. وكان هذا القائل رأى أنّ هذهالأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها، إما بالخنق، وإما بالوقذ، أو التردي، أو النطح، أو افتراس السبع، ووصلت إلى حدلا تعيش فيه بسب بوصف من هذه الأوصاف على مذهب من اعتبر ذلك، فلذلك كان الاستثناء منقطعاً. والظاهر أنه استثناءمتصل، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أنّهذه الحوادث على المأكول كالذكاة، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب. وظاهر قوله: إلا ماذكيتم، يقتضي أنّ ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتاً، إذا كان استثناءمنقطعاً فيندرج في عموم الميتة، وهذا مذهب أبي حنيفة. وذهب الجمهور إلى جواز أكله. والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجةلأبي حنيفة لا لهم. وهو {بِوٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ } المعنى على التشبيه أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه كماذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته. {وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ} قال مجاهد وقتادة وغيرهما: هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. قال ابن عباس: ويحلون عليها. قال ابن جريج:وليست بأصنام، الصنم مصور، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلماجاء الإسلام قال المسلمون: نحن أحق أنْ نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكره ذلك الرسول ﷺ فنزلت.وما ذبح على النصب ونزل أن ينال الله لحومها ولا دماؤها انتهى. وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها، ويحلونعليها أنصاب مكة، ومنها الحجر المسمى بسعد. قال ابن زيد: ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله شيءواحد. وقال ابن عطية: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، لكنْ خص بالذكر بعد جنسه لشهرةالأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضاً: نصب، لأنه ينصب انتهى. وقرأ الجمهور: النُصُب بضمتين. وقرأ طلحةبن مصرف: بضم النون، وإسكان الصاد. وقرأ عيسى بن عمر: يفتحتين، وروي عنه كالجمهور. وقرأ الحسن: بفتح النون، وإسكان الصاد.{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلاْزْلاَمِ } هذا معطوف على ما قبله أي: وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وهو طلب معرفة القسم، وهوالنصيب أو القسم، وهو المصدر. قال ابن جريج: معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام، أو ما لم يقسملكم انتهى. وقال مجاهد: هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها. وروي عنه أيضاً: أنها سهام العرب، وكعاب فارس،وقال سفيان ووكيع: هي الشطرنج. وقيل: الأزلام حصى كانوا يضربون بها، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله

: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى     ولا زاجرات الطير ما الله صانع

وروي هذا عنابن جبير قالوا: وأزلام العرب ثلاثة أنواع: أحدها: الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه في أحدها افعل وفي الآخر لاتفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة، فإذا أراد فعل شيء دخل يده في الخريطة منسابة، وائتمر بما خرج له منالآمر أو الناهي. وإن خرج الغفل أعاد الضرب. والثاني: سبعة قداح كانت عندها في جوف الكعبة، في أحدها العقل فيأمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل، وفي آخر تصح، وفي آخر لا،فإذا أرادوا أمراً ضرب فيتبع ما يخرج، وفي آخر منكم، وفي آخر من غيركم، وفي آخر ملصق، فإذا اختلفوا فيإنسان أهو منهم أمْ من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياهضربوا بالقداح، وفيها ذلك القداح، فحيث ما خرج عملوا به. وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العربوحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل. والثالث: قداح الميسر وهي عشرة، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة.{ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } الظاهر أنّ الإشارة إلى الاستقسام خاصة، ورواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الزمخشري: إشارة إلى الاستقسام،وإلى تناول ما حرم عليهم، لأن المعنى: حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا. (فإن قلت): لم كان استقسام المسافر وغيرهبالأزلام ليعرف الحال فسقاً؟ (قلت): لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب، وقال:

{ لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }

واعتقاد أن إليه طريقاً وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي افتراءعلى الله تعالى، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة، وإن كان أراد بالرب الصنم. فقد رويأنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم، وأمره ظاهر انتهى. قال الزمخشري في اسم الإشارة رواه عن ابن عباس عليّ بنأبي طلحة، وهو قول ابن جبير. قال الطبري: ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون، لما يتعلق بهامن الكلام في المغيبات. وقال غيره: العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل، وكانوا إذا أرادوا أنيختنوا غلاماً أو ينكحوا أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور، فالمائة للضارب بالقداح،والجزور ينحر ويؤكل، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل: يا إلهنا هذا فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه، ويضرب صاحبالقداح فما خرج عمل به، فإن خرج لا أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في كل أمورهم إلىما خرجت به القداح. {ٱلْيَوْمَ * بِئْسَ * ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } الألف واللام فيه للعهد وهو يومعرفة قاله: مجاهد، وابن زيد. وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليهوسلم في الموقف على ناقته، وليس في الموقف مشرك. وقيل: اليوم الذي دخل فيه الرسول ﷺ مكةلثمان بقين من رمضان سنة تسع. وقيل: سنة ثمان، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام، ولمن وضع السلاح، ولمنأغلق بابه. وقال الزجاح: لم يرد يوماً بعين، وإنما المعنى: الآن يئسوا، كما تقول: أنا اليوم قد كبرت انتهى. واتبعالزمخشري الزجاج فقال: اليوم لم يرد به يوماً بعينه، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضيةوالآتية، كقولك: كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه الآن فيقوله

: الآن لما ابيض مسربتي     وعضضت من نابي على جدم

انتهى.والذين كفروا: مشركو العرب. قال ابن عباس، والسدي، وعطاء: أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم. وقال ابن عطية: ظهور أمرالنبي ﷺ وأصحابه، وظهور دينه، يقتضي أن يئس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذزمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه، لأنّ هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار.ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة. ألا بطل السحر اليوم.وقال الزمخشري: يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعدما حرمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوهلأنّ الله وفى بوعده من إظهاره على الدين كله انتهى. وقرأ أبو جعفر: ييس من غير همز، ورويت عن أبيعمرو. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ } قال ابن جبير: فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم. وقال ابن السائب: فلا تخشوهم أنيظهروا على دينكم. وقيل: فلا تخشوا عاقبتهم. والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى.{ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يحتمل اليوم المعاني التي قيلت في قوله: اليوم يئس. قال الجمهور: وإكماله هو إظهاره، واستيعابعظم فرائضه، وتحليله وتحريمه. قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا، وآية الكلالة، وغير ذلك، وإنما كمل معظمالدين، وأمر الحج، إنْ حجوا وليس معهم مشرك. وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال: كفيتكم أمر عدوكم، وجعلت اليد العليالكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك، ووصلوا إلى أغراضهمومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام، والتوقيف على الشرائع، وقوانين القياس، وأصول الاجتهاد انتهى. وهذاالقول الثاني هو: قول ابن عباس والسدي قالا: كمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم، فعلىهذا يكون المعنى: أكملت لكم شرائع دينكم. وقال قتادة وابن جبير: كما له أن ينفي المشركين عن البيت، فلم يحجمشرك. وقال الشعبي: كمال الدين هو عزه وظهوره، وذل الشرك ودروسه، لا تكامل الفرائض والسنن، لأنها لم تزل تنزل إلىأن قبض. وقيل: كما له إلا من من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدّم. وقال القفال: الدين ما كانناقصاً البتة، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالماً في أولالمبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم، وأمافي آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة. وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحجالأكبر، وقرأها رسول الله ﷺ بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله ﷺ: ما يبكيك؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص.فقال له النبي ﷺ: صدقتَ { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } أي فيظهور الإسلام، وكمال الدين، وسعة الأحوال، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية، إلى دخول الجنة، والخلود، وحسَّن العبارة الزمخشريفقال: بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وإن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان انتهى. فكلامهمجموع أقوال المتقدّمين. قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة: إتمام النعمة منع المشركين من الحج. وقال السدي: هو الإظهار علىالعدو. وقال ابن زيد: بالهداية إلى الإسلام. وقال الزمخشري: وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: وأتممت عليكمنعمتي بذلك، لأنه لا نعمة من نعمة الإسلام. {وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً } يعني: اخترته لكم من بين الأديان،وأذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه إن هذه أمتكم أمة واحدة قاله الزمخشري. وقال ابن عطية الرضافي: هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة، ويحتمل أن يكون صفةفعل عبارة عن إظهار الله إياه، لأنّ الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال، والله تعالى قد رضيالإسلام وأراده لنا، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا برضاها. والإسلام هنا هو الدين في قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِٱلإِسْلَـٰمُ } انتهى وكلامه يدل على أنّ الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة. وقيل: المعنى أعلمتكمبرضائي به لكم ديناً، فإنه تعالى لم يزل راضياً بالإسلام لنا ديناً، فلا يكون الاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إنْحمل على ظاهره. وقيل: رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم. وقيل: رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليومديناً كاملاً إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء. {فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌرَّحِيمٌ } هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم، لأن تحريم هذه الخبائث من جملةالدين الكامل والنعم التامة، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملك. وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة. وقراءة ابن محيصن: فمناطرّ بإدغام الضاد في الطاء. ومعنى متجانف: منحرف ومائل. وقرأ الجمهور: متجانف بالألف. وقرأ أبو عبد الرحمن، والنخعي وابن وثاب:متجنف دون ألف. قال ابن عطية وهو أبلغ في المعنى من متجانف، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه. ألاترى أنك إذا قلت: تمايل الغصن، فإنّ ذلك يقتضي تاوّداً ومقاربة ميل، وإذا قلت؛تميل، فقد ثبت الميل. وكذلك تصاون الرجلوتصوّن وتغافل وتغفل انتهى. والإثم هنا قيل: أنْ يأكل فوق الشبع. وقيل: العصيان بالسفر. وقيل: الإثم هنا الحرام، ومن ذلكقول عمر: ما تجأنفنا فيه لإثم، ولا تعهدنا ونحن نعلمه. أي: ما ملنا فيه لحرام.

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

الجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين.وسميت بذلك لأنها تجرخ ما تصيد غالباً، أو لأنها تكتسب، يقال امرأة: لا جارح لها، أي لا كاسب. ومنه:

{ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ }

أي ما كسبتم. ويقال: جرح واجترح بمعنى اكتسب. المكلب بالتشديد: معلم الكلاب ومضرّيها علىالصيد، وبالتخفيف صاحب كلاب. وقال الزجاج: رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب. الغسل في اللغة: إيصال الماء إلى المغسولمع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم، وقال آخرون: هو إمرار الماء على الموضع، ومن ذلك قول بعض العرب

:فيـا حسنهـا إذ يغسـل الـدمع كحلهـا    

المرفق: المفصل بين المعصم والعضد، وفتح الميم وكسر الراء أشهر.الرجل: معروفة، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة. والكعب: هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل. الحرج:الضيق، والحرج الناقة الضامر، والحرج النعش. {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } سبب نزولها فيما قال: عكرمة ومحمد بن كعب،سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة. ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟ وكان إذ ذاك أمرالرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه السلام: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب وفي صحيحأبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع. قال: أمرني رسول الله ﷺ بقتل الكلاب فقال الناس: يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذاأحل لهم الآيات. وقال ابن جبير: نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا: يا رسول الله، إنا نصيد بالكلابوالبزاة، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمروالظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما يقتل فلاندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت. وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤالعنه، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم، فأجيبوا بما سألوا عنه، وبشيء عام في المطعم. ويحتمل أن يكونماذا كلها استفهاماً، والجملة خبر. ويحتمل أن يكون ما استفهاماً، وذا خبراً. أي: ما الذي أحل لهم؟ والجملة إذ ذاكصلة. والظاهر أنّ المعنى: ماذا أحل لهم من المطاعم، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه منالخبائث، سألوا عما يحل لهم؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ماذاأحل لنا، كما تقول: أقسم زيد ليضربن ولأضربن، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسمعليها. وقال الزمخشري: في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم، كأنه قيل: يقولون: ماذا أحل لهم انتهى.ولا يحتاج إلى ما ذكر، لأنه من باب التعليق كقوله: سلهم أيهم بذلك زعيم، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثانيليسألونك. ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق، وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنه سبب للعلم، فكما تعلق العلم فكذلكسببه. وقال أبو عبد الله الرازي: لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل،لأنهم لا يقولون ذلك، وإنما يقولون: ماذا أحل لنا. بل الصحيح: أنّ هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم، بل هو بيانكيفية الواقعة انتهى. {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ } لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام،بغير إذن من الله تعالى، قرر هنا أنّ الذي أحل هي الطيبات. ويقوي قول الشافعي: أن المعنى المستلذات، ويضعف أنالمعنى: قل أحل لكم المحللات، ويدل عليه قوله:

{ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَـئِثَ }

كالخنافس والوزع وغيرهما. والطيبفي لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة،كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات. وهذه الجملة جاءت فعلية، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا علىاللفظ، لأن الجملة السابقة وهي: ماذا أحل لهم اسمية، وهذه فعلية. {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ } ظاهر علمتميخالف ظاهر استئناف مكلبين، فغلّب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا: الجوارح هي الكلاب خاصة. وكان ابنعمر يقول: إنما يصطاد بالكلاب. وقال هو وأبو جعفر: ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل، إلا أنتدرك ذكاته فتذكيه. وجوز قوم البزاة، فجوزا صيدها لحديث عدي بن حاتم. وغلب الجمهور ظاهر: وما علتمتم، وقالوا: معنى مكلبينمؤدبين ومضرين ومعودين، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم. وأقصى غاية التعليم أنْ يشلي فيستشلي، ويدعى فيجيب،ويزجر بعد الظفر فينزجر، ويمتنع من أن يأكل من الصيد. وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله: علمتم، فكان يستغنىعنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية فيالجوارح على سبيل التغليب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه. قالأبو سليمان الدمشقي: وإنما قيل مكلبين، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى. واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال:هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به. قال الزمخشري: أو لأن السبع يسمى كلباً، ومنه قوله عليه السلام: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد، ولا يصح هذا الاشتقاق، لأنّ كون الأسد كلباً هو وصف فيه، والتكليبمن صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم. وظاهر قوله: وما علمتم، أنه خطاب للمؤمنين. فلو كان المعلميهودياً أو نصرانياً فكره الصيد به الحسن، أو مجوسياً فكره الصيد به: جابر بن عبد الله، والحسن، وعطاء، ومجاهد، والنخعي،والثوري، وإسحاق. وأجاز أكل صيد كلابهم: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي إذا كان الصائد مسلماً. قالوا: وذلك مثل شفرته. والجمهور: علىجواز ما صاد الكتابي. وقال مالك: لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته. وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله: عطاء،وابن جبير، والنخعي، ومالك، وأبو حنيفة، والليث، والشافعي. وقال أبو ثور: فيه قول أنهم أهل كتاب، وأن صيدهم جائز، وماعلمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات، ويكون حذف مضاف أي: وصيد ما علمتم، وقدره بغضهم: واتخاذ ماعلمتم. أو رفع على الابتداء، وما شرطية، والجواب: فكلوا. وهذا أجود، لأنه لا إضمار فيه. وقرأ ابن عباس وابنالحنفية: وما عُلمتم مبنياً للمفعول أي: من أمر الجوارح والصيد بها. وقرأ: مكلبين من أكلب، وفعل وأفعل، قد يشتركان. والظاهردخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح، وأنه يجوز أكل صيده، وبه قال الجمهور. ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر:أنه لا يجوز أكل صيد، لأنه مأمور بقتله، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده. وقال أحمد: لا أعلمأحداً رخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال: ابن راهويه. وكره الصيد به: الحسن، وقتادة، والنخعي. وقد تقدم ذكر أقصىغاية التعليم في الكلب، أنه إذا أمر ائتمر، وإذا زجر انزجر. وزاد قوم شرطاً آخر وهو أن لا يأكل مماصاد، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور. وقال ربيعة: ما أجاب منها فهو المعلم. وقال ابن حبيب:لا يشترط فيها إلا شرط واحد: وهو أنه إذا أمرها أطاعت، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها. وظاهر قوله:وما علمتم، حصول التعليم من غير اعتبار عدد. وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عدداً. وقال أصحابنا: إذا صادالكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم. وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلماً. {تُعَلّمُونَهُنَّمِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } أي: إنّ تعليكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم، إنما هو من العلم الذي علمكم الله، وهوأن جعل لكم روية وفكراً بحيث قبلتم العلم. فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك مّا وشعور، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار. وفيقوله: مما علمكم الله، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان. ومفعول علم وتعلمونهنّ الثانيمحذوف تقديره: وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلمحرام أكله، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم. والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله: فكلوا مماأمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه. ومعنى مما علمكم الله أي: من الأدب الذي أدّبكم به تعالى، وهو اتباعأوامره واجتناب نواهيه، فإذا أمر فائتمر، وإذا زجر فانزجر، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى. وقال الزمخشري: مما علمكم اللهمن كلم التكليف، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى. والجملة من قوله: تعلمونهن، حال ثانية. ويجوز أن تكونمستأنفة على تقدير: أن لا تكون ما من قوله: وما علمتم من الجوارح، شرطية، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرطوجزائه. وخطب الزمخشري هنا فقال: وفيه فائدة جليلة وهي أنّ كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من قبل أهلهعلماً وأبحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل، فكم من أخذ من غير متقنفقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله. {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } هذا أمر إباحة. ومِن هنا للتبعيضوالمعنى: كلوا من الصيد الذي أمسكن عليكم. ومن ذهب إلى أن مِن زائدة فقوله ضعيف، وظاهره أنه إذا أمسك علىمرسله جاز الأكل سواء أكل الجارح منه، أو لم يأكل، وبه قال: سعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وأبو هريرة،وابن عمر. وهو قول مالك وجميع أصحابه. ولو بقيت بضعة بعد أكله جاز أكلها ومن حجتهم: أنّ قتله هي ذكاته،فلا يحرم ما ذكى. وقال أبو هريرة أيضاً وابن جبير، وعطاء، وقتادة، وعكرمة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا يؤكلما بقي من أكل الكلب ولا غيره، لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على مرسله. ولأنّ في حديث عديّ وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وعن عليّ: إذا أكل البازي فلا تأكل وفرققوم ما أكل منه الكلب فمنعوا من أكله، وبين ما أكل منه البازي، فرخصوا في أكله منهم: ابن عباس، والشعبي،والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو جعفر محمد بن عليّ الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، لأنّ الكلب إذا ضرب انتهى، والبازيلا يضرب. والظاهر أنّ الجارح إذا شرب من الدم أكل الصيد، وكره ذلك سفيان الثوري. والظاهر أنه إذا انفلت منصاحبه فصاد من غير إرسال أنه لا يجوز أكل ما صاد. وقال عليّ، والأوزاعي: إن كان أخرجه صاحبه للصيد جازأكل ما صاد. وممن منع من أكله إذا صاد من غير إرسال صاحبه: ربيعة، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور.والظاهر جواز أكل ما قتله الكلب بفمه من غير جرح لعموم مما أمسكن. وقال بعضهم: لا يجوز لأنه ميت.{وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } الظاهر عود الضمير في عليه إلى المصدر المفهوم من قوله: فكلوا، أي على الأكل. وفيالحديث في صحيح مسلم سم الله وكل مما يليك وقيل: يعود على ما أمسكن، على معنى: وسموا عليهإذا أدركتم ذكاته، وهذا فيه بعد. وقيل: على ما علمتم من الجوارح أي: سموا عليه عند إرساله لقوله: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل واختلفوا في التسمية عند الإرسال: أهي على الوجوب؟ أو على الندب؟ والمستحب أنيكون لفظها بسم الله والله أكبر. وقول من زعم: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وإنّ الأصل: فاذكروا اسم الله عليهوكلوا مما أمسكن عليكم، قول مرغوب عنه لضعفه. {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } لما تقدم ذكر ماحرَّم وأحلَّ من المطاعم أمر بالتقوى، فإنّ التقوى بها يمسك الإنسان عن الحرام. وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحسابلمن خالف ما أمر به من تقواه، فهو وعيد بيوم القيامة، وأن حسابه تعالى إياكم سريع إتيانه، إذ يوم القيامةقريب. أو يراد بالحساب المجازاة، فتوعد مَن لم يتق بمجازاة سريعة قريبة، أو لكونه تعالى محيطاً بكل شيء لا يحتاجفي الحساب إلى مجادلة عدّ، بل يحاسب الخلائق دفعة واحدة. {ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ } فائدة إعادة ذكر إحلالالطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله:

{ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى }

على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين. ومن زعم أنّ اليوم واحد قال: كرره ثلاث مراتتأكيداً، والظاهر أنها أوقات مختلفة. وقد قيل في الثلاثة: إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت، لا وقت معين. والظاهر أنّالطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل. {وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ } طعامهم هنا هي الذبائح كذا قالمعظم أهل التفسير. قالوا: لأنّ ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلففي حلها باختلاف حال أحد، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشرة لها كتابياً، أو مجوسياً، أم غير ذلك. وأنهالا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى.وذهب قوم إلى أنّ المراد بقوله: وطعام، جميع مطاعمهم. ويعزي إلى قوم ومنهم بعض أئمة الزيدية حمل الطعام هنا علىما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة، وبه قالت الإمامية. قال الشريف المرتضى: نكاح الكتابية حرام، وذبائحهم وطعامهم وطعاممن يقطع بكفره. وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم، أيحل لناأم يحرم؟ فذهب الجمهور إلى أنّ تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل، فيجوز لناأكله. وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة، وهذا هو الظاهرلقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم. وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك. والظاهر حلطعامهم سواء سموا عليه اسم الله، أم اسم غيره، وبه قال: عطاء، والقاسم بن بحصرة، والشعبي، وربيعة، ومكحول، والليث، وذهبإلى أنّ الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال: أبو الدرداء، وعبادةبن الصامت، وجماعة من الصحابة. وبه قال: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك. وكره النخعي والثوري أكل ما ذبحوأهلّ به لغير الله. وظاهر قوله: «أوتوا الكتاب» أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، دون مَندخل في دينهم من العرب أو العجم، فلا تحل ذبائحهم لنا كنصارى بني تغلب وغيرهم. وقد نهى عن ذبائحهم عليّرضي الله عنه، وقال: لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر. وذهب الجمهور ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وابن المسيب، والشعبي،وعطاء، وابن شهاب، والحكم، وقتادة، وحماد، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه: أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهوّد أوتنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم. والظاهر أنّ ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذينأوتوا الكتاب. وما روي عن مالك أنه قال: هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال: رزادشت لا يصح. وقد أجازقوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ }. وقال ابن المسيب: إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسيأن يذكر الله ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور: وإنْ أمر بذلك في الصحة فلا بأس. والظاهر أنّ ذبيحة الصابىءلا يجوز لنا أكلها، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب. وخالف أبو حنيفة فقال: حكمهم حكم أهل الكتاب. وقال صاحباه:هم صنفان، صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرؤون كتاباً ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. {وَطَعَامُكُمْحِلٌّ لَّهُمْ } أي: ذبائحكم وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب. لما كان الأمر يقتضي أن شيئاً شرعت لنا فيهالتذكية، ينبغي لنا أن نحميه منهم، فرخص لنا في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز، فلا علينا بأس أن نطعمهم ولوكان حراماً عليهم طعام المؤمنين، لما ساغ للمؤمنين إطعامهم. وصار المعنى: أنه أحل لكم أكل طعامهم، وأحل لكم أن تطعموهممن طعامكم، والحل الحلال ويقال في الاتباع هذا حل بل. {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } هذا معطوف على قوله: وطعامالذين أوتوا الكتاب. والمعنى: وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات. {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } والإحصانأن يكون بالإسلام وبالتزويج، ويمتنعان هنا، وبالحرية وبالعفة. فقال عمر بن الخطاب، ومجاهد، ومالك، وجماعة: الإحصان هنا الحريّة، فلا يجوزنكاح الأمة الكتابية. وقال جماعة: منهم مجاهد، والشعبي، وأبو ميسرة، وسفيان، الإحصان هنا العفة، فيجوز نكاح الأمة الكتابية. ومنع بعضالعلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني. قال الحسن: إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها. وعن مجاهد:يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب. وقال الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة. وقالعطاء: رخص في التزويج بالكتابية، لأنه كان في المسلمات قلة، فأما الآن ففيهنّ الكثرة، فزالت الحاجة إليهن. والرخصة في تزويجهنولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات، واتفق على ذلك الصحابة إلا شيئاً روي عن ابنعمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال: اقرأ آية التحليل يشير إلى هذه الآية، وآية التحريم يشير إلى

{ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ }

وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن. وتزوج عثمان بنعفان رضي الله عنه نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه، وتزوج طلحة بن عبد الله يهودية من الشام، وتزوج حذيفةيهودية. (فإن قلت): يكون ثم محذوف أي: والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتابباعتبار ما كن عليه كما قال:

{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ }

وقال:

{ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ }

ثم قال بعد

{ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ }

(قلت): إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهودوالنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب، كما لا يطلق عليه يهودي ولانصراني. فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيداً بذكر الإيمان فيهما، ولا يوجد مطلقاً في القرآن بغير تقييد، إلا والمراد بهم اليهودوالنصارى. وأيضاً فإنه قال: والمحصنات من المؤمنات، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات، فوجب أن يحمل قوله:والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلاّ زالت فائدته، إذ قد اندرجن في قوله:والمحصنات من المؤمنات. وأيضاً فمعلوم من قوله تعالى:

{ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ }

أنه لم يرد بهطعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب، بل المراد اليهود والنصارى، فكذلك هذه الآية. (فإن قيل): يتعلق في تحريمالكتابيات بقوله تعالى:

{ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }

(قيل): هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلماً، أو الحربي تخرجامرأته مسلمة: ألا ترى إلى قوله:

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ }

ولو سلمنا العموم لكان مخصوصاً بقوله:والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، والظاهر جواز نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم. والمحصنات من الذين أوتوا الكتابمن قبلكم. وخص ابن عباس هذا العموم بالذمية، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية، وتلا قوله تعالى: {قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله

{ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ }

ولم يفرق غيره من الصحابة من الحربيات والذميات. وأما نصارى بني تغلب فمنعنكاح نسائهن عليّ وابراهيم وجابر بن زيد، وأجازه ابن عباس. {ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ } أي مهورهن. وانتزع العلماء منهذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به، ومن جوزأن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى. وفي ظاهر قوله: إذا آتيتموهن أجورهن، دلالة علىأنّ إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله: والمحصنات، فيقوى أن يراد به الحرائر، إذ الإماء لا يعطون أجورهن، وإنما يعطيالسيد. إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن. وفيه دلالة أيضاً على أن أقل الصداق لا يتقدر، إذ سماهأجراً، والأجر في الإجارات لا يتقدر. {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } تقدم تفسيره نظيره في النساء.{وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى ٱلاْخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابنعباس: أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنينتزويجنا، فنزلت. وقال مقاتل: فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن منالكفر انتهى. ولما ذكر فرائض وأحكاماً يلزم القيام بها، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها.وقال القفال: ما معناه، لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم، وأكل ذبائحهم، من الفرق في الآخرة بأنَّ منكفر حبط عمله انتهى. والكفر بالإيمان لا يتصور. فقال ابن عباس، ومجاهد: أي: ومن يكفر بالله. وحسن هذا المجاز أنهتعالى رب الإيمان وخالقه. وقال الكلبي: ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله، جعل كلمة التوحيد إيماناً. وقال قتادة:إن ناساً من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله تعالى: ومن كفر بالإيمان، أيبالمنزل في القرآن، فسمي القرآن إيماناً لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان. قال الزجاج: معناهمن أحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله فهو كافر. وقال أبو سليمان الدمشقي: من جحد ما أنزلهالله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام. وتبعه الزمخشري في هذا التفسير فقال: ومن يكفر بالإيمان أي: بشرائع الإسلام،وما أحل الله وحرم. وقال ابن الجوزي: سمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول: إنما أباح الله الكتابيات لأن بعضالمسلمين قد يعجبه حسنهن، فحذر نكاحهن من الميل إلى دينهن بقوله: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله. وقرأ ابن السميقع:حبط بفتح الباء وهو في الآخرة من الخاسرين حبوط عمله وخسرانه. في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر. {ٱلْخَـٰسِرِينَ يَـأَيُّهَاٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها حينفقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم، وكان الوضوء متعذراً عندهم، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم، وذلك فيغزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وفيها كان هبوب الريح وقول عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلىالمدينة وحديث الافك. وقال علقمة بن الفعواء وهو من الصحابة: إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملاً إلاعلى وضوء، ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً على غير ذلك، فأعلمه الله أنّ الوضوء إنما هو عند القيام إلىالصلاة فقط دون سائر الأعمال. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود، وذكر تحليلاً وتحريماًفي المطعم والمنكح واستقصى ذلك، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسانوهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه سبحانه وتعالى،ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء، وذكر البدل عنه عندتعذر الماء. ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام، جاءت العبارة: إذا قمتم أي: إذا أردتم القيام إلىفعل الصلاة. وعبر عن إرادة القيام بالقيام، إذ القيام متسبب عن الإرادة، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل فيقولهم: الأعمى لا يبصر أي لا يقدر على الأبصار، وقوله:

{ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَـٰعِلِينَ }

أي قادرينعلى الإعادة. وقوله:

{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ }

أي إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسبباً عن القدرةوالإرادة أقيم المسبب مقام السبب. وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة، فصدتموها، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كانقاصداً له، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلىالصلاة متطهراً كان أو محدثاً، وقال به جماعة منهم: داود. وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة. وقال ابن شيرين: كانالخلفاء يتوضؤون لكل صلاة. وذهب الجمهور: إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين،لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله:

{ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ }

وكأنهقيل: إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء، وامسحوا هذين العضوين. وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد.وقال قوم منهم: السدي، وزيد بن أسلم: إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم. وقالوا: في الكلام تقديم وتأخير أي: إذاقمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم. وهذاالتأويل ينزه حمل كتاب الله عليه، وإنما ذكروا ذلك طلباً لأن يعم الإحداث بالذكر. وقال قوم: الخطاب خاص وإنكان بلفظ العموم، وهو رخصة للرسول ﷺ أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك، فأمر بالسواك،فرفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال قوم: الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب، وكان كثير من الصحابة بفعلهطلباً للفضل منهم: ابن عمر. وقال قوم: الوضوء عند كل صلاة كان فرضاً ونسخ. وقيل: فرضاً على الرسول خاصة، فنسخعنه عام الفتح. وقيل: فرضاً على الأمة فنسخ عنه وعنهم. ولا يجوز أن يكون: فاغسلوا، أمر للمحدثين على الوجوب وللمتطهرينعلى الندب، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري. فاغسلوا وجوهكم، الوجه: ما قابل الناظروحده، طولاً منابت الشعر فوق الجهة مع آخر الذقن. والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه، لأنها ليست منه.وكذلك الأذنان عرضاً من الأذن إلى الأذن. ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجبالدلك، وهو مذهب مالك، والجمهور لا يوجبونه. والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأموراً بهما في الآية في غسل الوجه، ويرونذلك سنة. وقال مجاهد: الاستنشاق شطر الوضوء. وقال عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق: منترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة. وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة: والإجماع علىأنه لا يلزم غسل داخل العينين، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه. وأيديكمإلى المرافق، اليد: في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب، وقد غيا الغسل إليها. واختلفوا في دخولها في الغسل، فذهبالجمهور إلى وجوب دخولها، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب. وقال الزمخشري: إلى، تفيد معنى الغاية مطلقاً، ودخولها فيالحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. ثم ذكر مثلاً مما دخل وخرج ثم قال: وقوله:

{ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ * وَإِلَى *ٱلْكَعْبَينِ }

لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه. وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينةدخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافاً. منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل،وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين: وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل، فإذاعرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر. وأيضاً فإذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضعالذي انتهى إليه المكان المشتري، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منهشيء إلا أن يتجوز، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء. فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلاً إلا بمجاز، وجب أنيحمل على أنه غير داخل، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجازعلى الحقيقة. فقول الزمخشري: عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج، لا دليل فيه على أحد الأمرين، مخالف لنقل أصحابنا، إذذكروا أنّ النحويين على مذهبين: أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج. وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف، ويكون من المحملحتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام. وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين، فلا يتوقف على شيءمن خارج في بيانه. وقال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليسمما قبلها فالحد أول المذكور بعدها، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكوربعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. فالرّوايتان محفوظتان عن مالك. روى أشهب عنه: أنهما غير داخلتين، وروى غيره أنهماداخلتان انتهى. وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال: إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل فيالحكم. والظاهر أنّ الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية، لأنه أمر بالوضوء للصلاة، فالآتي بها دونه تاركللمأمور، وتارك المأمور يستحق العقاب. وأيضاً فقد بيّن أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم، فدل على اشتراطه عند القدرةعليه. والظاهر أنّ أول فروض الوضوء هو غسل الوجه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الجمهور: النية أولها. وقال أحمد وإسحاق:تجب التسمية في أول الوضوء، فإن تركها عمداً بطل وضوءه. وقال بعضهم: يجب ترك الكلام على الوضوء، والجمهور على أنهيستحب. والظاهر أنّ الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة. والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضعمنه. والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وبه قال: أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي. وقال أبو يوسف وغيره: لايجب. والظاهر أنّ ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يجب وأنّ ما استرسلمن الشعر تحت الذقن لا يجب غسله. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والمزني: يجب. وعن الشافعي القولان. والظاهر أنقوله: وأيديكم، لا ترتيب في غسل اليدين، ولا في الرجلين، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة.وقال أحمد: هو واجب. والظاهر أنّ التغيية بإلى تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها، ولا يجوز الابتداء منالمرفق حتى يسيل الماء إلى الكف، وبه قال بعض الفقهاء. وقال الجمهور: لا يخل ذلك بصحة الوضوء. والسنة أن يصبّالماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق. {وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } هذا أمر بالمسح بالرأس، واختلفوافي مدلول باء الجرّ هنا فقيل: إنها للإلصاق. وقال الزمخشري: المراد إلصاق المسح بالرأس، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهماملصق المسح برأسه انتهى. وليس كما ذكر، ليس ماسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه، إنما يطلق عليه أنهملصق المسح ببعضه. وأما أنْ يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز،وتسمية لبعض بكل. وقيل: الباء للتبعيض، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم، وقال من لا خبرة له بالعربية.الباء في مثل هذا للتبعيض وليس بشيء يعرفه أهل العلم. وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله

{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ }

{ وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ }

{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ }

أي إلحاد أو جذع وأيديكم. وقالالفراء: تقول العرب هزه وهزّ به، وخذ الخطام وبالخطام، وحز رأسه وبرأسه، ومده ومد به. وحكى سيبويه: خشنت صدره وبصدره،ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد، وهذا نص في المسألة. وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسحالرأس، فروي عن ابن عمر: أنه مسح اليافوخ فقط، وعن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه، وعن ابراهيموالشعبي: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وعن الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها. وأما فقهاء الأمصار فالمشهورمن مذهب مالك: وجوب التعميم. والمشهور من مذهب الشافعي: وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، ومشهور أبي حنيفة والشافعي:أن الأفضل استيعاب الجميع. ومن غريب ما نقل عمن استدل على أنّ بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى: وامسحوا برؤسكم،كقولك: مسحت بالمنديل يدي، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية، فتكونالرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأسوالرجل، ويكون في اليد فرضان: أحدهما: غسل جميعها إلى المرفق، والآخر: مسح بللها بالرأس والأرجل. وعلى من ذهب إلى التبعيضيلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم:

{ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه }

أن يقتصر على مسح بعضالوجه وبعض اليد، ولا قائل به. وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضاً ذلك، ويلزم أن يكون المأمور به فيالتيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد. والظاهر أنّ الأمر بالغسل والمسح بقع الامتثال فيه بمرة واحدة، وتثليثالمعسول سنة. وقال أبو حنيفة ومالك: ليس بسنة. وقال الشافعي: بتثليث المسح. وروي عن أنس، وابن جبير، وعطاء مثله. وعنابن سيرين: يمسح مرتين. والظاهر من الآية: أنه كيفما مسح أجزأه. واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا، ثمإلى الوسط، ثلاثة أقوال الثابت منها في السنة الصحيحة الأول، وهو قول: مالك، والشافعي، وأحمد، وجماعة من الصحابة والتابعين. والثاني:منها قول الحسن بن حي. والثالث: عن ابن عمر. والظاهر أنّ رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض، فتحقق المسحبدون الرد. وقال بعضهم: هو فرض. والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزىء، لأنه ليس مسحاً للرأس. وقال الأوزاعي، والثوري،وأحمد: يجزىء، وأنّ المسح يجزىء ولو بأصبع واحدة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجزىء بأقل من ثلاث أصابع.والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول: أبي العباس بن القاضي منالشافعية، ويقتضيه مذهب الظاهرية. وقال ابن العربي: لا نعلم خلافاً في أنّ الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لناالشاشي في الدرس عن ابن القاضي أنه لا يجزئه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر، وهي قراءةأنس، وعكرمة، والشعبي، والباقر، وقتادة، وعلقمة، والضحاك: وأرجلِكم بالخفض. والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس. وروىوجوب مسح الرجلين عن: ابن عباس، وأنس، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر الباقر، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء:فرضهما الغسل. وقال داود: يجب الجمع بين المسح والغسل، وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري، وابنجرير الطبري: يخير بين المسح والغسل ومن أوجب الغسل تأول أنّ الجر هو خفض على الجواز، وهو تأويل ضعيف جداً،ولم يرد إلا في النعت، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية، أو تأول على أنّالأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء أي: وافعلوا بأرجلكم الغسل، وحذف الفعل وحرف الجرّ، وهذا تأويل في غاية الضعف. أوتأول على أنّ الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهى عنه، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح،ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل: إلى الكعبين، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأنّالمسح لم يضرب له غاية انتهى هذا التأويل. وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام. وروي عن أبيزيد: أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون: تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي. وقرأ نافع، والكسائي، وابن عامر، وحفص:وأرجلكم بالنصب. واختلفوا في تخريج هذه القراءة، فقيل: هو معطوف على قوله: وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، وفيهالفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض، بل هي منشئة حكماً. وقال أبو البقاء: هذا جائز بلا خلاف. وقال الأستاذ أبوالحسن بن عصفور: وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، قال: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل قوله هذا علىأنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج. وهذا تخريج من يرى أنّ فرض الرجلين هو الغسل، وأما مَن يرى المسحفيجعله معطوفاً على موضع برؤوسكم، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجرِّ دالة على المسح. وقرأ الحسن: وأرجلكم بالرفع، وهو مبتدأ محذوفالخبر أي: اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح. وتقدم مدلول الكعب.قال ابن عطية: قول الجمهور هما حدّ الوضوء بإجماع فيما علمت، ولا أعلم أحداً جعل حدّ الوضوء إلى العظم الذيفي وجه القدم. وقال غيره: قالت الإمامية: وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب هو الذي في وجه القدم، فيكونالمسح مغياً به. وقال ابن عطية: روى أشهب عن مالك: الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهرالذي في وجه القدم، ويظهر ذلك من الآية في قوله: في الأيدي إلى المرافق، إذ في كل يد مرفق. ولوكان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر انتهى. ولا دليل في قولهفي الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك: متوالياً وغير متوال، وهومشهور مذهب أبي حنيفة ومالك، وروي عن مالك والشافعي في القديم: أنها شرط. وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرطلعطفها بالواو وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، ومذهب الشافعي أنه شرط واستيفاء حجج. هذه المسائل مذكورة في الفقه، ولم تتعرّضالآية للنص على الأذنين. فمذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري، والأوزاعي، ومالك فيما روى عنه أشهب وابن القاسم: أنهما من الرأسفيمسحان. وقال الزهري: هما من الوجه فيغسلان معه. وقال الشافعي: من الوجه هما عضو قائم بنفسه، ليسا من الوجه ولامن الرأس، ويمسحان بماء جديد. وقيل: ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضيةالمسح أو الغسل وسنية ذلك. {وإن كنتم جنباً فاطهروا} لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى، وتقدم مدلولالجنب في

{ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ }

والظاهر أنّ الجنب مأمور بالاغتسال. وقال عمر، وابن مسعود: لا يتيممالجنب البتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، والجمهور على خلاف ذلك، وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور.والظاهر أنّ الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله:

{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء }

أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباًفدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد، وهو قول الجمهور. وذهب الأوزاعي والأصم: إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميعالمائعات الطاهرة. والظاهر أنّ الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء. ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة، ولا دلك،ولا مضمضة، ولا استنشاق، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء إليه. وقال داود وأبو ثور: يجب تقديم الوضوء على الغسل.وقال إسحاق: تجب البداءة بأعلى البدن. وقال مالك: يجب الدلك، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري: أنه يجزئه الانغماس فيالماء دون تدلك. وقال أبو حنيفة: وزفر، وأبو يوسف، ومحمد، والليث، وأحمد: تجب المضمضة والاستنشاق فيه، وزاد أحمد الوضوء. وقالالنخعي: إذا كان شعره مفتولاً جدّاً يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه. وقرأ الجمهور: فاطّهروا بتشديدالطاء والهاء المفتوحتين، وأصله: تطهروا، فأدغم التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل. وقرىء: فاطْهروا بسكون الطاء، والهاء مكسورة من أطهررباعياً، أي: فأطهروا أبدانكم، والهمزة فيه للتعدية. {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِأَوْ لَـٰمَسْتُمُ ٱلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ } تقدّم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء، إلا أنّ في هذهالجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء. وفي لفظه: منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلىالوجه واليدين، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصلإلى الوجه، وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بهاأجزأه. وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد، والأمر بالمسح، أنه لو يممه غيره، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديهوأمرّ يده عليه، أو لم يمر، أو ضرب ثوباً فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه، أنّ ذلك لا يجزئه. وفيكل من المسائل الثلاث خلاف. {مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ } أي من تضييق، بل رخص لكمفي تيمم الصعيد عند فقد الماء. والإرادة صفة ذات، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها، فإنها تجيء مؤتنقةمن نفي الحرج، ووجود التطهير، وإتمام النعمة. وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله:

{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ }

فأغنى عن إعادته. ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام، جعل زيادة من في الواجب للنفيالذي في صدر الكلام، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث دين الله يسر، وبعثت بالحنيفية السمحة » وجاء لفظ الدين بالعموم، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم.{وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ } أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء. وفي الحديث: التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج وقال الجمهور: المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث. وقيل: المعنى ليطهركم من أدناس الخطايابالوضوء والتيمم، كما جاء في مسلم: {إِذَا * تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزرِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَـٰماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ *إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء } إلى آخر الحديث. وقيل: المعنى ليطهركم عن التمرّد عن الطاعة.وقرأ ابن المسيب: ليطهرْكم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء. {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه. وقيل:الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء: ويتم نعمتهعليكم، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين. وقيل: تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكداً لقوله:

{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } وقيل: بغفران ذنوبهم. وفي الخبر: تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار }. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم .

{ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }

{وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }الخطاب للمؤمنين، والنعمة هنا الإسلام، وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة. والميثاق: هو ما أخذه الرسول عليهم في بيعةالعقبة وبيعة الرضوان، وكل موطن قاله: ابن عباس، والسدي، وجماعة. وقال مجاهد: هو ما أخذ على النسم حين استخرجوا منظهر آدم. وقيل: هو الميثاق المأخوذ عليهم حين بايعهم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر، والمنشط والمكره. وقيل: الميثاقهو الدلائل التي نصبها لأعينهم وركبها في عقولهم، والمعجزات التي أظهرها في أيامهم حتى سمعوا وأطاعوا. وقيل: الميثاق إقرار كلمؤمن بما ائتمر به. وروي عن ابن عباس: أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل حين قالوا: آمنا بالتوراةوبكل ما فيها، ومن جملته البشارة بالرسول ﷺ، فلزمهم الإقرار به. ولا يتأتى هذا القول إلا أنيكون الخطاب لليهود، وفيه بعد. والقولان بعده يكون الميثاق فيهما مجاز، والأجود حمله على ميثاق البيعة، إذ هو حقيقة فيه،وفي قوله: إذا قلتم سمعنا وأطعنا. {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي: واتقوا الله ولا تتناسوانعمته، ولا تنقضوا ميثاقه. وتقدم شرح شبه هذه الجملة في النساء فأغنى عن إعادته. {بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْكُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى فيالنساء، إلا أنّ هناك بدىء بالقسط، وهنا أخر. وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة. ويلزم مَن كان قائماًلله أن يكون شاهداً بالقسط، ومن كان قاتماً بالقسط أن يكون قائماً لله، إلا أنَّ التي في النساء جاءت فيمعرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين، فبدىء فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والدولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاحن، فبدىء فيها بالقيام لله تعالى أولاً لأنه أردع للمؤمنين، ثم أردفبالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيه بما هو آكد وهو القسط، وفي معرض العداوة والشنآن بدىء فيهابالقيام لله، فناسب كل معرض بما جيء به إليه. وأيضاً فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله:

{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ }

وقوله:

{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن }

فناسب ذكر تقديم القسط، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورهاذكر القسط، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها، وهو خلاف الأصل. {تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُلِلتَّقْوَىٰ } أي: العدل نهاهم أولاً أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانياً تأكيداً، ثم استأنف فذكر لهموجه الأمر بالعدل وهو قوله: هو أقرب للتقوى، أي: أدخل في مناسبتها، أو أقرب لكونه لطفاً فيها. وفي الآية تنبيهعلى مراعاة حق المؤمنين في العدل، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين. {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌبِمَا تَعْمَلُونَ } لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم،ولكنها تختص بما لطف إدراكه، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية. {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * لَّمّاً * ذُكِرَ * تَعَالَى * تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّىلَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلاْولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ* لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَـٰمِلُونَ * أَذٰلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَـٰهَا فِتْنَةً لّلظَّـٰلِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌتَخْرُجُ فِى أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ ٱلشَّيَـٰطِينِ * فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْعَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ * فَهُمْ عَلَىٰ ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ* وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاْوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ * فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُنذَرِينَ * إِلاَّ عِبَادَٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ * وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَـٰقِينَ *وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلاْخِرِينَ * كما رفع تركنا على قوله:

{ سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِى ٱلْعَـٰلَمِينَ }

كأنه قيل: وعدهمهذا القول، وإذا وعدهم مَن لا يخلف اليمعاد فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم، وهذا القول يتلقونه عند اتلموتويوم القيامة، فيسرون ويستريحون إليه، وتهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى التراب انتهى. وهي تقادير محتملة، والأول أوجهها. {وَٱلَّذِينَكَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } لما ذكر ما لمن آمن، ذكر ما لمن كفر. وفي المؤمنين جاءت الجملةفعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع، فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به، متشوفة إلفيه مبتهجة طول الحياة بهذاالوعد الصادق. وفي الكافرين جاءت الجملة إسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم، وأنهم أصحاب النار، فهم دائمون في عذابٍ،إذْ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم، ولم يأت بصورة الوعيد، فكان يكون الرجاء لهم في ذلك. {ٱلْجَحِيمِ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِٱلْمُؤْمِنُونَ } روى أبو صالح عن ابن عباس: أنها نزلت من أجل كفار قريش، وقد تقدم ذكرهم في قوله:

{ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ * مّنكُمْ * شَنَانُ قَوْمٍ }

وبه قال مقاتل، وقال الحسن: بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى اللهعليه وسلم، فأطلعه الله على ذلك. وقال مجاهد وقتادة: إنه عليه السلام ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في ديةفهموا بقتله. وقال جماعة من المفسرين: أتى بني قريظة ومعه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم يستقرضهم دية مسلمينقتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ حسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم اجلسْ حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في صفةوهموا بالقتل به، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك الله يده، ونزل جبريل عليه السلام فأخبرهفخرج. وقيل: نزل منزلاً في غزوة ذات الرقاع بني محارب بن حفصة بن قيس بن غيلان، وتفرق الناس في العضاةيستظلون بها، فعلق الرسول سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي فسلّ سيف الرسول ﷺ واسمه غورث، وقيل: دعثور بنالحرث، ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله قالها ثلاثاً وقال: أتخافني؟ قال: لا، فشام السيفوحبس. وفي البخاري: أن النبي ﷺ دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي ﷺلم يعاقبه. قيل: أسلم. وقيل: ضرب برأسه ساق الشجرة حتى مات. وروي أن المشركين رأوا المسلمين قاموا إلى صلاة الظهريصلون معاً بعسفان في غزوة ذي انمار، فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم فقالوا: إن لهم صلاة بعدهاهي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي صلاة العصر، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فنزل جبريل عليه السلامبصلاة الخوف. وقد طوّلوا بذكر أسباب أخر. وملخص ما ذكروه أنّ قريشاً، أو بني النضير، أو قريظة، أو غورثا، هموابالقتل بالرسول، أو المشركين هموا بالقتل بالمسلمين، أو نزلت في معنى

{ ٱلْيَوْمَ * بِئْسَ * ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ }

قاله الزجاج، أو عقيب الخندق حين هزم الله الأحزاب

{ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ }

والذي تقتضيه الآيةأنّ الله تعالى ذكر المؤمنين بنعمه إذا أراد قوم من الكفار لم يعينهم الله بل أبهمهم أن ينالوا المسلمين بشر،فمنعهم الله، ثم أمرهم بالتقوى والتوكل عليه. ويقال: بسط إليه لسانه أي شتمه، وبسط إليه يده مدها ليبطش به. وقالتعالى:

{ وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوء }

ويقال: فلان بسيط الباغ، ومد يد الباع، بمعنى. وكف الأيدي منعها وحبسها.وجاء الأمر بالتقوى أمر مواجهة مناسباً لقوله اذكروا. وجاء الأمر بالتوكل أمر غائب لأجل الفاصلة، وإشعاراً بالغلبة، وإفادة لعموم وصفالإيمان، أي: لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن، ولابتداء الآية بمؤمنين على جهة الاختصاص وختمها بمؤمنين على جهة التقريب.

{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } * { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } * { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } * { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } * { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَالَمِينَ } * { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } * { قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } * { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } * { قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } * { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }

نقب في الجبل والحائط فتح فيه ما كان منسدّاً، والتنقيب التفتيش، ومنه{فَنَقَّبُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ } ونقب على القوم ينقب إذا صار نقيباً، أي يفتش عن أحوالهم وأسرارهم، وهي النقابة. والنقاب الرجلالعظيم، والنقب الجرب واحده النقبة، ويجمع أيضاً على نقب على وزن ظلم، وهو القياس. وقال الشاعر

: متبذلاً تبدو محاسنه     يضع الهناء مواضع النقب

أي الجرب. والنقبة سراويل بلا رجلين، والمناقبالفضائل التي تظهر بالتنقيب. وفلانة حسنة النقبة النقاب أي جميلة، والظاهر أنّ النقيب فعيل للمبالغة كعليم، وقال أبو مسلم: بمعنىمفعول، يعني أنهم اختاروه على علم منهم. وقال الأصم: هو المنظور إليه المسند إليه الأمر والتدبير، عزر الرجل قال يونسبن حبيب: أثنى عليه بخير. وقال أبو عبيدة: عظمة. وقال الفراء: رده عن الظلم: ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودةالقبيح. قال القطامي

: ألا بكرت ميّ بغير سفاهة     تعاتب والمودود ينفعه العزر

أي المنع. وقال آخر في معنى التعظيم

: وكم من ماجد لهم كريم     ومن ليث يعزّر في النديّ

وعلى هذه النقول يكون من باب المشترك. وجعله الزمخشري من باب المتواطىءقال: عزرتموه نصرتموه ومنعتموه من أيدي العدوّ، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد، وهو قول الزجاج، قال: التعزيرالرّدع، عزرت فلاناً فعلت به ما يردعه عن القبيح، مثل نكلت به. فعلى هذا يكون تأويل عزرتموهم رددتم عنهم أعداءهمانتهى. ولا يصح إلا إن كان الأصل في عزرتموهم أي عزرتم بهم. طلع الشيء برز وظهر، واطلع افتعل منه.غرا بالشيء غراء، وغر ألصق به وهو الغرى الذي يلصق به. وأغرى فلان زيداً بعمرو ولعه به، وأغريت الكلب بالصيدأشليته. وقال النضر: أغرى بينهم هيج. وقال مورج: حرش بعضهم على بعض. وقال الزجاج: ألصق بهم. الصنع: العمل. الفترة: هيالانقطاع، فتر الوحي أي انقطع. والفترة السكون بعد الحركة في الإجرام، ويستعار للمعاني. قال الشاعر

:وإنـي لتعـرونـي لـذكـراك فـتـرة    

والهاء فيه ليست للمرة الواحدة، بل فترة مرادف للفتور. ويقال: طرف فاتر إذا كان ساجياً. الجبار:فعال من الجبر، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختارونه. والجبارة النخلة العالية التي لا تتال بيد، واسم الجنسجبار. قال الشاعر

: سوابق جبار أثيث فروعه     وعالين قنوانا من البسر أحمرا

التيه في اللغة: الحيرة، يقال منه: تاه، يتيه، ويتوه، وتوهته، والتاء أكثر، والأرض التوهاء التي لا يهتدى فيها، وأرض تيه.وقال ابن عطية: التيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصود. الأسى: الحزن، يقال منه: أسى يأسى. {وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَبَنِى إِسْرٰءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه اللهعلى المؤمنين في قوله:

{ وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ }

ثم ذكر وعده إياهم، ثم أمرهم بذكر نعمته عليه إذكف أيدي الكفار عنهم، ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم، ووعده لهم بتكفير السيآت، وإدخالهم الجنة، فنقضوا الميثاقوهموا بقتل الرسول، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل هو بالإيمان والتوحيد. وبعث النقباء قيل: هم الملوك بعثوافيهم يقيمون العدل، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر. والنقيب: كبير القوم القائم بأمورهم. والمعنى في الآية: أنه عدد عليهم نعمهفي أنْ بعث لأعدائهم هذا العدد من الملوك قاله النقاش. وقال: ما وفى منهم إلا خمسة: داود. وسليمان ابنه، وطالوت،وحزقيل، وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء، وخرج خلال الاثنى عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف، ويعبث فيهم،والبعث: من بعث الجيوش. وقيل: هو من بعث الرسل وهو إرسالهم والنقباء الرسل جعلهم الله رسلاً إلى قومهم كل نبيمنهم إلى سبط. وقيل: الميثاق هنا والنقباء هو ما جرى لموسى مع قومه في جهاد الجبارين، وذلك أنه لمااستقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام، وكان يسكنها الكفار الكنعانيون الجبابرة وقاللهم: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها، وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم. وأمر موسى أنْ يأخذ من كل سبطنقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقه عليهم، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل لهمبه النقباء، وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظاماً وقوة وشوكة، فهابوا ورجعوا وحدثواقومهم، وقد نهاهم موسى أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبطأفراثيم بن يوسف وكانا من النقباء. وذكر محمد بن حبيب في المحبر أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذهالقصة بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا ينضبط أيضاً. وذكروامن خلق هؤلاء الجبارين وعظم أجسامهم وكبر قوالبهم ما لا يثبت بوجه، قالوا وعدد هؤلاء النقباء كان بعدد النقباء الذيناختارهم رسول الله ﷺ من السبعين رجلاً والمرأتين الذين بايعوه في العقبة الثانية، وسماهم: النقباء. {وَقَالَٱللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ } أي بالنصر والحياطة. وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة، وتحليل ما شرطه عليهم ممايأتي بعد، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعاً. وقال الربيع: هو خطاب للنقباء، والأول هو الراجح لانسحاب الأحكام التي بعدهذه الجملة على جميع بني إسرائيل. {لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلوٰةَ وَءاتَيْتُمْ ٱلزَّكَوٰةَ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لاكَفّرَنَّعَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ } اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها، وبعدأداة الشرط أن يكون جواباً للقسم، ويحتمل أن يكون القسم محذوفاً، ويحتمل أن يكون لأكفرن جواباً لقوله: ولقد أخذ اللهميثاق بني إسرائيل، ويكون قوله: وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال، أو يكونان جملتي اعتراض، وجواب الشرط محذوف لدلالةجواب القسم عليه. وقال الزمخشري: وهذا الجواب يعني لأكفرنّ، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً انتهى. وليس كما ذكر لايسدّ وكفرن مسدَّهما، بل هو جواب القسم فقط، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا. والزكاة هنا مفروض من المال كان عليهم،وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه قاله: ابن عطية. والأولوهو الراجح. وآمنتم برسلي، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاؤا به عن الله تعالى. وقدّم الصلاة والزكاة علىالإيمان تشريفاً لهما، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله: ابن عطية. وقال أبو عبد الله الرازي:كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا مكذبين بعض الرسل، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل، وأنهلا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم انتهى ملخصاً. وقرأ الحسن: برسلي بسكون السين في جميع القرآن، وعزرتموهم. وقرأ عاصم الجحدري:وعزرتموهم خفيفة الزاي. وقرأ في الفتح:

{ وَتُعَزّرُوهُ }

فتح التاء وسكون العين وضم الزاي، ومصدره العزر. وأقرضتم الله قرضاًحسناً: إيتاء الزكاة هو في الواجب، وهذا القرض هو في المندوب. ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموعتشريفاً وتعظيماً لموقعها من النفع المتعدي. قال الفراء: ولو جاء إقراضاً لكان صواباً، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى:

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا }

لم يقل بتقبيل ولا إنباتاً انتهى. وقد فسر هذا الإقراض بالنفقةفي سبيل الله، وبالنفقة على الأهل، وبالزكاة. وفيه بعد، لأنه تكرار. ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى،وأما لأنه عن طيب نفس. لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات: رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيآت، وذلك إشارة إلىإزالة العقاب، وإدخال الجنات، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب. {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ }أي بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم. وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد، وهو الذيشرعه الله. وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالاً عن الطريق المستقيم، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادقالأمين العظيم أفحش وأعظم، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمةالمكفورة. {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ } تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. {لَعنَّـٰهُمْ } أي طردناهم وأبعدناهم من الرحمةقاله: عطاء والزجاج. أو عذبناهم بالمسح قردة وخنازير كما قال:

{ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَـٰبَ ٱلسَّبْتِ }

أي نمسخهمكما مسخناهم قاله: الحسن، ومقاتل. أو عذبناهم بأخذ الجزية قاله: ابن عباس. وقال قتادة: نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوابعد موسى وقتلهم الأنبياء بغير حق وتضييع الفرائض. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } قال ابن عباس: جافية جافة. وقيل: غليظةلا تلين. وقيل: منكرة لا تقبل الوعظ، وكل هذا متقارب. وقسوة القلب غلظه وصلابته حتى لا ينفعل لخير. وقرأ الجمهورمن السبعة: قاسية اسم فاعل من قسا يقسو. وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي: قسية بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعيلللمبالغة كشاهد وشهيد. وقال قوم: هذه القراءة ليست من معنى القسوة، وإنما هي كالقسية من الدراهم، وهي التي خالطها غشوتدليس، وكذلك القلوب لم يصل الإيمان بل خالطها الكفر والفساد. قال أبو زبيد الطائي

: لهم صواهل في صم السلاح كما     صاح القسيات في أيدي الصياريف

وقال آخر

: فما زادوني غير سحق عمامة     وخمس ميء فيها قسي وزائف

قال الفارسي: هذه اللفظة معربة وليستبأصل في كلام العرب. وقال الزمخشري وقرأ عبد الله قسية أي رديئة مغشوشة من قولهم: درهم قسي، وهو من القسوة،لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة. والقاسي والقاسح بالحاء إخوان في الدلالة على اليبس والصلابة انتهى.وقال المبرد: سمى الدرهم الزائف قسييًّا لشدته بالغش الذي فيه، وهو يرجع إلى المعنى الأول، والقاسي والقاسح بمعنى واحد انتهى.وقول المبرد: مخالف لقول الفارسي، لأن المعهود جعله عربياً من القسوة، والفارسي جعله معرباً دخيلاً في كلام العرب وليس منألفاظها. وقرأ الهيصم بن شراح: قسية بضم القاف وتشديد الياء، كحنى. وقرىء بكسر القاف اتباعاً. وقال الزمخشري: خذلناهم ومنعناهمالألطاف حتى قست قلوبهم، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي. وأما أهل السنةفيقولون: إن الله خلق القسوة في قلوبهم. {يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها،كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره، وقالوا: التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ،ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن. ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم؟ وقال مقاتل: تحريفهم الكلم هو تغييرهمصفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظوالمعنى، ومن اطلع على التوراة علم ذلك حقيقة، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى. وهذه الجملة وما بعدها جاءت بياناًلقسوة قلوبهم، ولا قسوة أشد من الافتراء على الله تعالى وتغيير وحيه. وقرأ أبو عبد الرحمن والنخعي الكلام بالألف. وقرأأبو رجاء: الكلم بكسر الكاف وسكون اللام. وقرأ الجمهور: الكلم بفتح الكاف. {وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } وهذاأيضاً من قسوة قلوبهم وسوء فعلهم بأنفسهم، حيث ذكروا بشيء فنسوه وتركوه، وهذا الحظ من الميثاق المأخوذ عليهم. وقيل: لماغيروا ما غيّروا من التوراة استمروا على تلاوة ما غيروه، فنسوا حظاً مما في التوراة قاله مجاهد. وقيل: أنساهم نصيباًمن الكتاب بسبب معاصيهم، وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، وتلا هذه الآية. وقال الشاعر

: شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأومأ لي إلى ترك المعاصي

وقيل: تركوانصيبهم مما أمروا به من الإيمان بالرسول وبيان نعته. {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ }أي هذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء. فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك،ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالقتل بك، وأن يسموك. ويحتمل أن يكون الخائنة مصدراً كالعافية، ويدل على ذلك قراءة الأعمش علىخيانة، أو اسم فاعل، والهاء للمبالغة كراوية أي خائن، أو صفة لمؤنث أي قرية خائنة، أو فعلة خائنة، أو نفسخائنة. والظاهر في الاستثناء أنه من الأشخاص في هذه الجملة، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه قاله: ابن عباس. وقالابن عطية: ويحتمل أن يكون في الأفعال أي: إلا فعلاً قليلاً منهم، فلا تطلع فيه على خيانة. وقيل: الاستثناء منقوله:

{ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً }

والمراد به المؤمنون، فإنّ القسوة زالت عن قلوبهم، وهذا فيه بعد. {فَٱعْفُ عَنْهُمْوَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } ظاهره الأمر بالمعروف والصفح عنهم جميعهم، وذلك بعث على حسن التخلق معهم ومكارم الأخلاق.وقال ابن جرير: يجوز أن يعفو عنهم في مغدرة فعلوها ما لم ينصبوا حرباً، ولم يمتنعوا من أداء جزية. وقيل:الضمير عائد على من آمن منهم، فلا تؤاخذهم بما سلف منهم، فيكون عائداً على المستثنين. وقيل: هذا الأمر منسوخ بآيةالسيف. وقيل: بقوله:

{ قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ }

وقيل: بقوله:

{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً }

وفسرقوله: يحب المحسنين، بالعافين عن الناس، وبالذين أحسنوا عملهم بالإيمان، وبالمستثنين وهم الذين ما نقضوا العهد والذين آمنوا وبالنبي عليهالسلام لأنه المأمور في الآية بالصفح والعفو. {وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَهُمْ }. الظاهر أنّ من تتعلقبقوله: أخذنا وأنَّ الضمير في ميثاقهم عائد على الموصول، وأنّ الجملة معطوفة على قوله:

{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ }

والمعنى: أنه تعالى أخذ من النصارى ميثاق أنفسهم وهو الإيمان بالله والرسل وبأفعال الخير. وقيل: الضمير في ميثاقهمعائد على بني إسرائيل، ويكون مصدراً شبيهاً أي: وأخذنا من النصارى ميثاقاً مثل ميثاق بني إسرائيل. وقيل: ومن الذين معطوفعلى قوله: منهم، من قوله:

{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ }

منهم أي من اليهود، ومن الذين قالوا إنانصارى. ويكون قوله: أخذنا ميثاقهم مستأنفاً، وهذا فيه بعد للفصل، ولتهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه دون ضرورة. وقالقتادة: أخذ على النصارى الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد ﷺ، فتركوا ما أمروابه. وقال غيره: أخذ الميثاق عليهم بالعمل بالتوراة، وبكتب الله المنزلة وأنبيائه ورسله. وفي قوله: قالوا إنا نصارى، توبيخ لهموزجر عما ادعوه من أنهم ناصر ودين الله وأنبيائه، إذ جعل ذلك منهم مجرد دعوى لا حقيقة. وحيث جاء النصارىمن غير نسبة إلى أنهم قالوا عن أنفسهم ذلك، فإنما هو من باب العلم لم يلحظ فيه المعنى الأول الذيقصدوه من النصر، كما صار اليهود علماً لم يحلظ فيه معنى قوله اهدنا إليك. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فهلا قيل:ومن النصارى؟ (قلت): لأنهم إنما سموا بذلك أنفسهم ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله ثم اختلفوابعد إلى نسطورية ويعقوبية وملكانية انتهى. وقد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل: سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمىناصرة، وقوله: وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون، وهم عند الزمخشري كفار، وقد أوضح ذلكعلى زعمه في آخر هذه السورة، وعند غيرهم مؤمنون، ولم يختلفوا هم، إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم.{فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } قال أبو عبد الله الرازي: في مكتوب الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد صلى اللهعليه وسلم. والحظ هو الإيمان به، وتنكيراً لحظ يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الإيمان بالرسول، وخص هذاالواحد بالذكر مع أنهم تركوا أكثر ما أمرهم الله به، لأنّ هذا هو المعظم والمهم. {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاءإِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } الضمير في بيتهم يعود على النصارى قاله الربيع. وقال الزجاج: النصارى منهم والنسطورية واليعقوبية والملكاتية، كلفرقة منهم تعادي الأخرى. وقيل: الضمير عائد على اليهود والنصارى، أي: بين اليهود والنصارى قاله مجاهد، وقتادة، والسدّي: فإنهم أعداءيلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً. {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } هذا تهديد ووعيد شديد بعذاب الآخرة،إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار. {يَصْنَعُونَ يَـأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّاكُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } قال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه لسورة هاتانالآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع. وأهل الكتاب يعم اليهود والنصارى. فقيل: الخطابلليهود خاصة، ويؤيده ما روى خالد الحذاء عن عكرمة قال: أتى اليهود الرسول ﷺ يسألونه عن الرجم،فاجتمعوا في بيت فقال: أيكم أعلم فأشاروا إلى ابن صوريا فقال: أنت أعلمهم قال: سل عماشئت قال: أنت أعلمهم قال إنهم يقولون ذلك، قال: « فناشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى، والذيرفع الطور فناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه إفكل، فقال: إنّ نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل، فاختصرنا فجلدنامائة مائة، وحلقنا الرؤوس، وخالفنا بين الرؤوس على الدابرات أحسبه قال: الإبل. قال: فأنزل الله يا أهل الكتاب قد جاءكمرسولنا. وقيل: الخطاب لليهود والنصارى الذين يخفون صفة رسول الله ﷺ والرجم ونحوه. وأكثر نوازل الإخفاء إنمانزلت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجرة. والمعنى بقوله: رسولنا محمد ﷺ، وأضيف إلى الله تعالىإضافة تشريف. وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوّته، لأنّ إعلامه بما يخفون من كتابهم وهو أمّي لا يقرأ ولايكتب ولا يصحب القرّاء، دلالة على أنه إنما يعلمه الله تعالى. وقوله: من الكتاب، يعني التوراة، ويعفو عن كثير أي:مما يخفون لا يبينه إذا لم تدع إليه مصلحة دينية، ولا يفضحكم بذلك إبقاء عليكم. وقال الحسن: ويعفو عن كثير،هو ما جاء به الرسول من تخفيف ما كان شدّد عليهم، وتحليل ما كان حرم عليهم. وقيل: لا يؤاخذكم بها،وهذا المتروك الذي لا يبين هو في معنى افتخارهم ونحوه مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم به وتكذيبهم، والظاهرأن فاعل يبين ويعفو عائد على رسولنا، ويجوز أن يعود على الله تعالى. {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌمُّبِينٌ } قيل: هو القرآن سماه نوراً لكشف ظلمات الشرك والشك، أو لأنه ظاهر الإعجاز. وقيل: النور الرسول. وقيل: الإسلام.وقيل: النور موسى، والكتاب المبين التوراة. ولو اتبعوها حق الاتباع لآمنوا بمحمد ﷺ إذ هي آمرة بذلكمبشرة به. {يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ * سَبِيلٍ * ٱلسَّلَـٰمُ } أي رضا الله سبل السلام طرقالنجاة، والسلامة من عذاب الله. والضمير في به ظاهره أنه يعود على كتاب الله، ويحتمل أن يكون عائداً على الرسول.قيل: ويحتمل أن يعود على الإسلام. وقيل: سبل السلام، قيل دين الإسلام. وقال الحسن والسدي: السلام هو الله تعالى، وسبلهدينه الذي شرعه. وقيل: طرق الجنة. وقرأ عبيد بن عمير، والزهري، وسلام، وحميد، ومسلم بن جندب: به الله بضم الهاءحيث وقع. وقرأ الحسن، وابن شهاب: سبل ساكنة الباء. {وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ } أي من ظلماتالكفر إلى نور الإيمان، أي بتمكينه وتسويغه. وقيل: ظلمات الجهل ونور العلم. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هو دينالله وتوحيده. وقيل: طريق الجنة. وقيل: طريق الحق، وروي عن الحسن. والظاهر أنّ هذه الجمل كلها متقاربة المعنى، وتكرر للتأكيد،والفعل فيها مسند إليه تعالى. {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } ظاهره أنهم قالوابأن الله هو المسيح حقيقة، وحقيقة ما حكاه تعالى عنهم ينافي أن يكون الله هو المسيح، لأنهم قالوا ابن مريم،ومن كان ابن امرأة مولوداً منها استحال أن يكون هو الله تعالى. واختلف المفسرون في تأويل هذه الآية. فذهب قومإلى أنهم كلهم قائلون هذا القول وهم على ثلاث فرق كما تقدم، وأنهم أجمعوا وإن اختلفت مقالاتهم على أنّ معبودهمجوهر واحد أقانيم ثلاثة: الأب، والابن، والروح أي الحياة ويسمونها روح القدس. وأن الابن لم يزل مولوداً من الأب، ولميزل الأب والداً للابن، ولم تزل الروح منتقلة بين الأب والابن. وأجمعوا على أن المسيح لاهوت وناسوت أي: إله وإنسان.فإذا قالوا: المسيح إله واحد، فقد قالوا الله هو المسيح. وذهب قوم إلى أنّ القائلين هذا القول فرقة غير معينةيقولون: إن الكلمة اتخذت بعيسى سواء قدرت ذاتاً أم صفة. وذهب قوم إل أنّ اليعقوبية من النصارى هي القائلة بهذهالمقالة، ذكره البغوي في معالم التنزيل. قال بعض المفسرين: وكل طوائفهم الثلاثة اليعقوبية، والملكانية، والنسطورية، ينكرون هذه المقالة، والذييقرون به أن عيسى ابن الله تعالى، وأنه إله. وإذا اعتقدوا فيه أنه إله لزم من ذلك قولهم بأنه اللهانتهى. وقد رأيت من نصارى بلاد الأندلس من كان ينتمي إلى العلم فيهم، وذكر لي أنّ عيسى نفسه هو اللهتعالى، ونصارى الأندلس ملكية. قلت له: كيف تقول ذلك، ومن المتفق عليه أن عيسى كأن يأكل ويشرب، فتعجب من قوليوقال: إذا كنت أنت بعض مخلوقات الله قادراً على أن تأكل وتشرب، فكيف لا يكون الله قادراً على ذلك؟ فاستدللتمن ذلك على فرط غباوته وجهله بصفات الله تعالى. وذهب ابن عباس إلى نهم أهل نجران، وزعم طائفة منهم أنهإله الأرض، والله إله السماء. ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالىفي الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج، والشوذى، وابن أحلى، وابن العربي المقيم كان بدمشق،وابن الفارض. وأتباع هؤلاء كابن سبعين، والتستري تلميذه، وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار المقتول بغرناطة، وابن اللباج، وأبو الحسن المقيمكان بلورقة. وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك إشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطعالمقيم كان بدمشق، وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداءبالقاهر من ديار مصر، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بحارة زويلة. وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدينالله يعلم الله ذلك وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله تعالى ورسله ويقولون بقدمالعالم، وينكرون البعث. وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوّف بتعظيم هؤلاء وادّعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه، والردّ على النصارى والحلوليةوالقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين. وقال ابن عطية: القائلون بأن الله هو المسيح فرقة من النصارى، وكلفرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح حظاً من الألوهية. وقال الزمخشري: قيل: كان في النصارى من يقول ذلك، وقيل: ماصرحوا به، ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيـي ويميت ويدبر العالم. {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِشَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً } هذا ردّ عليهم. والفاء في: فمنللعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم التقدير: قل كذبوا، وقل ليس كما قالوا فمن يملك، والمعنى: فمن يمنعمن قدرة الله وإرادته شيئاً؟ أي: لا أحد يمنع مما أراد الله شيئاً إن أراد أن يهلك من ادعوه إلهاًمن المسيح وأمه. وفي ذلك دليل على أنه وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما، بلتنفذ فيهما إرادة الله تعالى، ومن تنفذ فيه لا يكون إلهاً، وعطف عليهما: ومن في الأرض جميعاً، عطف العام علىالخاص ليكونا قد ذكرا مرّتين: مرّة بالنص عليهما، ومرة بالاندراج في العام، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة في تعلق نفاذالإرادة فيهما. وليعلم، أنهما من جنس من في الأرض لا تفاوت بينهما في البشرية، وفي ذلك إشارة إلى حلول الحوادثبهما، والله سبحانه وتعالى منزه أن تحلّ به الحواث، وأن يكون محلاً لها. وفي هذا رد على الكرامية. {وَللَّهِمُلْكُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا } والمسيح وأمه من جملة ما في الأرض، فهما مقهوران لله تعالى، مملوكانله، وهذه الجملة مؤكدة لقوله: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه، ودلالة على أنه إذا أراد فعل، لأنّمن له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء. {يَخْلُقُ مَا يَشَاء } أي أنّ خلقه ليس مقصوراً علىنوع واحد، بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أو جده واخترعه، فقد يوجد شيئاً لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليهالسلام، وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض. وقد يخلق من ذكر وأنثى، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معهاكالمسيح. ففي قوله: يخلق ما يشاء، إشارة إلى أنّ المسيح وأمه مخلوقان. وقيل: معنى يخلق ما يشاء كخلق الطير علىيد عيسى معجزة، وكإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، فيجب أن تنسب إليه ولا تنسب إلى البشر المجرى علىيده. وتضمن الرد عليهم أن من كان مخلوقاً مقهوراً بالملك عاجزاً عن دفع ما يريد الله به لا يكون إلهاً.{وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء * قَدِيراً } تقدم تفسير هذه لجملة، وكثيراً ما يذكر القدرة عثيب الاختراع وذكر الأشياءالغريبة. {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلكوليس كذلك، بل في الكلام لف وإيجاز. والمعنى: وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة: نحن أبناء اللهوأحباؤه، وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء. والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة. وما ذكروامن أن الله أوحى إلى إسرائيل أنّ أولادك بكرى فضلوا بذلك. وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، لا يصح. ولو صحّما رووا، كان معناه بكراً في التشريف والنبوة ونحو ذلك. وجعل الزمخشري قولهم: أبناء الله، على حذف مضاف، وأقيم هذامقامه أي: نحن أشياع الله ابني الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبيون، وكماكان يقول رهط مسلمة: نحن أبناء الله، ويقول أقرباء الملك وحشمه: نحن الملوك. وأحباؤه جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول، أيمحبوبوه، أجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو: لبيب وألباء. وقائل هذه المقالة: بعض اليهود الذين كانوابحضرة الرسول، فنسب إلى الجميع لأنّ ما وقع من بعض قد ينسب إلى الجميع. قال الحسن: يعنون في القرب منهأي: نحن أقرب إلى الله منكم له، يفخرون بذلك على المسلمين. قال ابن عياش: هم طائفة من اليهود خوفهم الرسولعقاب الله فقالوا: أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟ وروي أيضاً عن ابن عباس: أن يهود المدينة كعب بن الأشرفوغيره من نصارى نجران السيد والعاقب، خاصموا أصحاب الرسول ﷺ، فعيرهم الصحابة بالكفر وغضب الله عليهم، فقالتاليهود: إنما غضب الله علينا كما يغضب الرّجل على ولده، نحن أبناء الله وأحباؤه. هذا قول اليهود، وأما النصارى فإنهمزعموا أنّ عيسى قال لهم: اذهبوا إلى أبي وأبيكم. {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي إن كنتم كما زعمتم،فلم يعذبكم بذنوبكم؟ وكانوا قد قالوا للنبي ﷺ في غير ما موطن: نحن ندخل النار فنقيم فيهاأربعين يوماً، ثم تخلفوننا فيها. والمعنى: لو كانت منزلتكم منه فوق منزلة البشر لما عذبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم،وهذا على أنّ العذاب هو في الآخرة. ويحتمل أن يريد به العذاب في الدّنيا بمسخ آبائهم على تعديهم في السبت،وبقتل أنفسهم على عبادة العجل، وبالتيه على امتناعهم من قتال الجبارين، وبافتضاح من أذنب منهم بأن يصبح مكتوباً على بابهذنبه وعقوبته عليه فتنفذ فيهم، والإلزام بكلا التعذيبين صحيح. أما الأول فلإقرارهم أن ذلك سيقع، وأما الآخر فلوقوع ذلك فيمامضى لا يمكن إنكار شيء منه. والاحتجاج بما وقع أقوى. وخرَّج الزمخشري التعذيبين: الدنيوي، والأخراوي في كلامه، وأشرب تفسير الآيةبشيء من مذهبه الاعتزالي، وحرف التركيب القرآني على عادته، فقال: إن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكمفتمسخون، وتمسكم النار في أيام معدودات على زعمكم؟ ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين للقبائح، ولامستوجبين للعذاب. ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، ولما عاقبكم انتهى. ويظهر من قوله: ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، أن يكونأحباؤه جمع حبيب بمعنى محب، لأن المحب لا يعصي من يحبه، بخلاف المحبوب فإنه كثيراً ما يعصي محبه. وقال القشيري:البنوّت تقتضي المحبة، والحق منزه عنها، والمحبة التي بين المتجانسين تقتضي الاختلاط والمؤانسة، والحق مقدس عن ذلك، والمخلوق لا يصلحأن يكون بعضاً للقديم، والقديم لا بعض له، لأن الأحدية حقه، وإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكونله ولد، وإذا لم يكن له ولد لم يجز على الوجه الذي اعتقدوه أن بينهم وبينه محبة. {بَلْ أَنتُمْبَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أضرب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلاله آخر من ثبوت كونهم بشراً من بعضمن خلق، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة. فإنّ القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه،فامتنع بهذين الوجهين البنوة، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما. {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أييهديه للإيمان فيغفر له. {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } أي يورطه في الكفر فيعذبه، أو يغقر لمن يشاء وهم أهلالطاعة، ويعذب من يشاء وهم العصاة. قاله الزمخشري. وفيه شيء من دسيسة الاعتزال، لأنّ من العصاة عندنا من لا يعذبهالله تعالى بل يغفر له. وقيل: المعنى أنه ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له، أو يمنعه أن يعذبه،ولذلك عقبه بقوله: {وَللَّهِ مُلْكُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَمَا بَيْنَهُمَا } فله التصرف التام يفعل ما يشاء لامعقب لحكمه. {وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي الرجوع بالحشر والمعاد. {ٱلْمَصِيرُ يَـَأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَىٰفَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والرسول هو محمدﷺ. وقيل: المخاطب بأهل الكتاب هنا هم اليهود خاصة، ويرجحه ما روي في سبب النزول: وأن معاذبن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله.ويبين لكم أي يوضح لكم ويظهر. ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار، أو يكون هو المذكور في الآية. قبلهذا، أي: يبين لكم ما كنتم تخفون، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي: شرائع الدين. أو حذف اقتصاراً واكتفاءبذكر التبيين مسنداً إلى الفاعل، دون أن يقصد تعلقه بمفعول، والمعنى: يكون منه التبيين والإيضاح. ويبين لكم هنا وفي الآيةقبل في موضع نصب على الحال. وعلى فترة متعلق بجاءكم، أو في موضع نصب على الحال، والمعنى: على فتور وانقطاعمن إرسال الرسل. والفترة التي كانت بين رسول الله ﷺ وعيسى عليه السلام قال قتادة: خمسمائةسنة وستون. وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة. وقيل: أربعمائة ونيف وستون. وذكر محمد بن سعد في كتاب الطبقاتله عن ابن عباس: أن كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث فيأولها ثلاثة أنبياء. وهو قوله تعالى:

{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ }

وهو شمعون وكان من الحواريين.وقال الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال: بينهما أربعة أنبياء، واحد من العرب من بني عبس وهو خالدبن سنان الذي قال فيه النبي ﷺ: ضيعه قومه وروي عن الكلبي أيضاً خمسمائة وأربعون.وقال وهب: ستمائة سنة وعشرون. وقيل: سبعمائة سنة. وقال مقاتل: ستمائة سنة، وروي هذا عن قتادة والضحاك. وذكر ابن عطيةأن هذا روي في الصحيح. فإن كانا كما ذكر وجب أن لا يعدل عنه لسواه. وهذه التواريخ نقلها المفسرون منكتب اليونان وغيرهم ممن لا يتحرّى النقل. وذكر ابن سعد في الطبقات عن ابن عباس والزمخشري عن الكلبي قالا: كانبين موسى وعيسى ألف سنة وسبعمائة سنة، وألف نبيّ، زاد ابن عباس من بني إسرائيل دون من أرسل من غيرهم،ولم يكن بينهما فترة. والمعنى: الامتنان عليهم بإرسال الرسل على حين انطمست آثار الوحي، وهم أحوج ما يكونون إليه ليعدوهأعظم نعمة من الله وفتح باب إلى الرحمة، ويلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم منغلفتهم. وأن تقولوا: مفعول من أجله فقده البصريون: كراهة أو حذار أن تقولوا. وقدره الفراء: لئلا تقولوا. ويعني يوم القيامةعلى سبيل الاحتجاج. {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } قيل: وفي الكلام حذف أي: لا تعتدوا فقد جاءكم بشير، أيلمن أطاع بالثواب، ونذير لمن عصى بالعقاب. وفي هذا ردّ على اليهود حيث قالوا: ما أنزل الله من كتاب بعدموسى ولا أرسل بعده. {وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } هذا عامّ فقيل على كل شيء من الهداية والضلال.وقيل: من البعثة وإمساكها. والأولى العموم فيندرج فيه ما ذكروا. {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَـٰقَوْمِ * قَوْمٌ * ٱذْكُرُواْنِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ * أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءاتَـٰكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن ٱلْعَـٰلَمِينَ } مناسبة هذهالآية لما قبلها أنه تعالى بين تمرّد أسلاف اليهود على موسى، وعصيانهم إياه، مع تذكيره إياهم نعم الله وتعداده لماهو العظيم منها، وأن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول هم جارون معكم مجرى أسلافهم مع موسى. ونعمة الله يراد بهاالجنس، والمعنى: واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحققوا نبوّتك. وينتظم في ذلك ذكر نعم الله عليهم،وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة. وعدّد عليهم من نعمه ثلاثاً: الأولى: جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف، إذ همالوسائط بين الله وبين خلقه، والمبلغون عن الله شرائعه. قيل: لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل منالأنبياء. وقال ابن السائب ومقاتل: الأنبياء هنا هم السبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وكانوا من خيار قومه. وقيل: همالذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل كموسى ذكره الماوردي وغيره، وعلى هذا القول يكون جعل لا يراد بها حقيقةالماضي بالفعل، إذ بعضهم كان قد ظهر عند خطاب موسى إياهم، وبعضهم لم يخلق بل أخبر أنه سيكون فيهم. الثانية:جعلهم ملوكاً ظاهره الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكاً إذ جعل منهم ملوكاً، إذ الملك شرف في الدنيا واستيلاء، فذكرهم بأنمنهم قادة الآخرة وقادة الدنيا. وقال السدي وغيره: وجعلكم أحراراً تملكون ولا تملكون، إذ كنتم خدماً للقبط فأنقذكم منهم، فسمياستنقاذكم ملكاً. وقال قوم: جعلهم ملوكاً بإنزال المن والسلوى عليهم وتفجير الحجر لهم، وكون ثيابهم لا تبلى ولا تنسخ وتطولكلما طالوا، فهم ملوك لرفع هذه الكلف عنهم. وقال قتادة: ملوكاً لأنهم أول من اتخذ الخدام واقتنوا الأرقاء. وقال ابنعطية وقتادة: وإنما قال وجعلكم ملوكاً، لأنا كنا نتحدث أن أول من خدمه آخر من بني آدم. قال ابن عطية:وهذا ضعيف، لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم يسخر بعضاً مدة تناسلوا وكثروا انتهى.وهذه الأقوال الثلاثة عامة في جميع بني إسرائيل، وهو ظاهر قوله: وجعلكم ملوكاً. وقال عبد الله بن عمر، والحسن،ومجاهد، وجماعة: من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك. وقيل: من له مسكن ولا يدخل عليه فيه إلا بإذنفهو ملك. وقيل: من له زوجة وخادم، وروي هذا عن ابن عباس. وقال عكرمة: من ملك عندهم خادماً وبيتاً دعيعندهم ملكاً. وقيل: من له منزل واسع فيه ماء جار. وقيل: من له مال لا يحتاج فيه إلى تكلف الأعمالوتحمل المشاق. وقيل: ملوك لقناعتهم، وهو ملك خفي. ولهذا جاء في الحديث: القناعة كنز لا ينفذ وقيل: لأنهمملكوا أنفسهم وذادوها عن الكفر ومتابعة فرعون. وقيل: ملكوا شهوات أنفسهم ذكر هذه الأقوال الثلاثة التبريزي في تفسيره. الثالثة: إيتاؤهإياهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، فسره ابن عباس فيما روى عنه مجاهد: بالمن والسلوى، والحجر، والغمام. وروى عنهعطاء الدار والزوجة والخادم. وقيل: كثرة الأنبياء. وقال ابن جرير: ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ماأوتوا، خصوا بفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر، ومد الغمام فوقهم. ولم تجمع النبوة والملكلقومٍ كما جمعا لهم، وكانوا في تلك الأيام هم العلماء بالله وأحباؤه وأنصار دينه انتهى. وأن المراد كثرة الأنبياء، أوخصوصات مجموع آيات موسى. فلفظ العالمين مقيد بالزمان الذي كان فيه بنو إسرائيل، لأن أمة محمد قد أوتيت من آياتمحمد ﷺ أكثر من ذلك: قد ظلل رسول الله ﷺ بغمامة قبل مبعثه، وكلمتهالحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة، وحن له الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وشبع كثير من الناس من قليل الطعامببركته، وانشق له القمر، وعد العود سيفاً، وعاد الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً إلى غير ذلك من آياته العظمىومعجزاته الكبرى. وهذه المقالة من موسى لبني إسرائيل وتذكيرهم بنعم الله هي توطئة لنفوسهم، وتقدم إليهم بما يلقى من أمرقتال الجبارين ليقوي حاشهم، وليعلموا أنّ من أنعم الله عليه بهذه النعم العظيمة لا يخذله الله، بل يعليه على عدوهويرفع من شأنه، ويجعل له السلطنة والقهر عليه. والخطاب في قوله: وآتاكم، ظاهره أنه لبني إسرائيل كما شرحناه، وأنهمن كلام موسى لهم، وبه قال الجمهور. وقال أبو مالك، وابن جبير: هو خطاب لأمة محمد ﷺ،وانتهى الكلام عند قوله: وجعلكم ملوكاً، ثم التفت إلى هذه الأمة لما ذكر موسى قومه بنعم الله، ذكر الله أمةمحمد ﷺ بهذه النعمة الظاهرة جبراً لقلوبهم، وأنه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وعلى هذاالمراد بالعالمين العموم، فإن الله فضل أمة محمد ﷺ على سائر الأمم، وآتاهم ما لم يؤت أحداًمن العالمين، وأسبغ عليهم من النعم ما لم يسبغها على أحد من الأمم، وهذا معنى قول ابن جرير وهو اختياره.وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما ضعف عنده لأن الكلام في نسق واحد من خطاب موسى لقومه، وهو معطوف علىما قبله، ولا يلزم ما قاله، لأن القرآن جاء على قانون كلام العرب من الالتفات والخروج من خطاب إلى خطاب،لا سيما إذا كان ظاهر الخطاب لا يناسب من خوطب أولاً، وإنما يناسب من وجه إليه ثانياً، فيقوي بذلك توجيهالخطاب إلى الثاني إذا حمل اللفظ على ظاهره. وقرأ ابن محيصن: ياقُوم بضم الميم، وكذا حيث وقع في القرآن، وروىذلك عن ابن كثير. وهذا الضم هو على معنى الإضافة، كقراءة من قرأ: قل رب احكم بالحق بالضم وهي إحدىاللغات الخمس الجائزة في المنادى المضاف لياء المتكلم. {مِنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } المقدسةالمطهرة، وهي أريحا قاله: السدي وابن زيد، ورواه عكرمة عن ابن عباس. وقيل: موضع بيت المقدس. وقيل: ايليا. قال ابنقتيبة. قرأت في مناجاة موسى قال: اللهم إنك اخترت فذكر أشياء ثم قال: رب ايليا بيت المقدس. وقال ابن الجوزي:قرأت على أبي منصور اللغوي قال: ايليا بيت المقدس. قال الفرزدق

: وبيتان بيت الله نحن نزوره     وبيت بأعلى ايلياء مشرف

وقيل: الطور، رواه مجاهد عن ابن عباس، واختاره الزجاج. وقيل: فلسطينودمشق وبعض الأردن. قال قتادة: هي الشام. وقال الكلبي: صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقال له جبريل: انظر فماأدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك. وقيل: ما بين الفرات وعريش مصر. قال الطبري: لا يختلف أنها ما بينالفرات وعريش مصر قال: وقال الادفوي: أجمع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار أنها ما بين الفرات وعريش مصر. وقال الطبري:تظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين انتهى. والتقديس: التطهير قيل: من الآفات. وقيل: من الشرك، جعلت مسكناً وقراراًللأنبياء، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة. وقيل: المقدسة المباركة طهرت من القحط والجوع، وغير ذلك قالهمجاهد. وقيل: سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب، ومنه قيل: للسطل قدس لأنه يتوضأ به ويتطهر.ومعنى كتبها الله لكم: قسمها، وسماها، أو خط في اللوح أنها لكم مسكن وقرار. وقال ابن إسحاق: وهبها لكم. وقالالسدي: أمركم بدخولها، وفي ذلك تنشيط لهم وتقوية إذا خبرهم بأنّ الله كتبها لهم. والظاهر استعمال كتب في الفرض كقوله:

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ }

و

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ }

وأما إن كان كتبها بمعنى خط في الأزل، وقضى،فلا يحتاج ظاهر هذا اللفظ ظاهر قوله: محرمة عليهم. فقيل: اللفظ عام. والمراد الخصوص كأنه قال: مكتوبة لبعضهم وحرام علىبعضهم، أو ذلك مشروط بقيد امتثال القتال، فلم يمتثلوا، فلم يقع المشروط أو التحريم، مقيد بأربعين سنة فلما انقضت جعلما كتب. وأما إن كان كتبها لهم بمعنى أمركم بدخولها، فلا يعارض التحريم. حرم عليهم دخولها وماتوا في التيه، ودخلمع موسى أبناؤهم الذين لم تحرم عليهم. وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التيه، وإنما خرج أبناؤهم معحزقيل. وقال ابن عباس: كانت هبة، ثم حرمها عليهم بعصيانهم. {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـٰسِرِينَ } أي لاتنكصوا على أعقابكم من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً. وقيل: حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر،وقالوا: تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر. ويحتمل أن يراد: لا ترتدوا على أدباركم، في دينكم لمخالفتكم أمرربكم وانقلابهم خاسرين، إن كان الارتداد حقيقياً وهو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه فمعناه: يصيرون إلى الذل بعد العزوالخلاص من أيدي القبط. وإن كان الارتداد مجازاً وهو ارتدادهم عن دينهم فمعناه: يخسرون خير الدنيا وثواب الآخرة. وحقيق بالخسرانمَن خالف ما فرضه الله عليه من الجهاد وخالف أمره. {قَالُواْ يأَبَانَا * مُوسَىٰ أَنِ * فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} أي: قال النقباء الذين سيرهم موسى لكشف حال الجبابرة، أو قال رؤساؤهم الذين عادتهم أن يطلعوا على الأسرار وأنيشاوروا في الأمور. وهذا القول فيه بعد لتقاعسهم عن القتال أي: أنّ فيها من لا نطيق قتالهم. قيل: هم منبقايا عاد، وقيل: من الروم من ولد عيص بن إسحاق. وقرأ ابن السميقع: قالوا يا موسى فيها قوم جبارون.{وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } هذا تصريح بالامتناع التام من أن يقاتلوا الجبابرة، ولذلك كان النفي بلن. ومعنىحتى يخرجوا منها: بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله به فيخرجون. {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دٰخِلُونَ } وهذا توجيهمنهم لأنفسهم بخروج الجبارين منها، إذ علقوا دخولهم على شرط ممكن وقوعه. وقال أكثر المفسرين: لم يشكوا فيما وعدهم اللهبه، ولكن كان نكوصهم عن القتال من خور الطبيعة والجبن الذي ركبه الله فيهم، ولا يملك ذلك إلا من عصمهالله وقال تعالى:

{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ }

وقيل قالوا ذلك على سبيل الاستبعاد أنيقع خروج الجبارين منها كقوله تعالى ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط. {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَيَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ } الأشهر عند المفسرين أنّ الرجلين هما يوشع بن نون بن افراثيم بنيوسف وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران ويقال فيه: كلاب، ويقال: كالوب،وهما اللذان وفيا من النقباء الذين بعثهم موسى في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلاعن موسى، وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا عن القتال. وقيل: الرجلانكانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، وأنعم الله عليهما بالإيمان. فإن كان الرجلان هما يوشع وكالب فمعنى قوله: يخافون، أي:يخافون الله، ويكون إذ ذاك مع موسى أقوام يخافون الله فلا يبالون بالعدو لصحة إيمانهم وربط جأشهم، وهذان منهم. أويخافون العدو، ولكن أنعم الله عليهما بالإيمان والثبات، أو يخافهم بنو إسرائيل فيكون الضمير في يخافون عائداً على بني إسرائيل،والضمير الرابط للصلة بالموصول محذوفاً تقديره: من الذين يخافونهم أي: يخافهم بنو إسرائيل. ويدل على هذا التأويل قراءة ابن عباس،وابن جبير، ومجاهد، يخافون بضم الياء. وتحتمل هذه القراءة أن يكون الرجلان يوشع وكالب. ومعنى يخافون أي: يهابون ويوقرون ويسمعكلامهم لتقواهم وفضلهم، ويحتمل أن يكون من أخاف أي يخيفون: بأوامر الله ونواهيه وزجره ووعيده، فيكون ذلك مدحاً لهم كقوله

{ أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ }

والجملة من أنعم الله عليهما صفة لقوله: رجلان، وصفا أولاً بالجار والمجرور،ثم ثانياً بالملة. وهذا على الترتيب الأكثر في تقديم المجرور أو الظرف على الجملة إذا وصفت بهما، وجوز أن تكونالجملة حالاً على إضمار قد، وأن تكون اعتراضاً، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وفي قراءة عبد الله. أنعم اللهعليهما ويلكم ادخلوا عليهم الباب. والباب: باب مدينة الجبارين، والمعنى: اقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب، وهذا يدلعلى أنّ موسى كان قد أنزل محلته قريباً من المدينة. {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَـٰلِبُونَ } قالا ذلك ثقة بوعدالله في قوله:

{ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }

وقيل: رجاء لنصر الله رسله، وغلب ذلك على ظنهم. وما غزىقوم في عقر ديارهم إلا ذلوا، وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم، فلأن لا يحفظوا ماوراء الباب أولى. وعلى قول أنّ الرجلين كانا من الجبارين فقيل: إنهما قالا لهم: إنّ العمالقة أجسام لا قلوب فيهافلا تخافوهم، وارجعوا إليهم فإنكم غالبوهم تشجيعاً لهم على قتالهم. {وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لما رأيابني إسرائيل قد عصوا الرسول في الإقدام على الجهاد مع وعد الله لهم السابق، استرابا في إيمانهم، فأمراهم بالتوكل علىالله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد، وعلق ذلك بشرط الإيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل. {قَالُواْ يأَبَانَا* مُوسَىٰ * لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيدبالموليين، وقيدوا أولاً نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقته التأييد، وقد يطلق على الزمان المتطاول فكأنهم نفوا الدخول طول الأبد،ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومة الجبارين فيها، فأبدلوا زماناً مقيداً من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل،فهو بدل بعض من كل. {فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } ظاهر الذهاب الانتقال، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة،ولذلك قال الحسن: هو كفر منهم بالله تعالى. قال الزمخشري: والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسله وقلة مبالاة بهماواستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وجفائهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل، وسألوا بها رؤية الله جهرة، والدليل عليه مقابلةذهابهما بقعودهم. ويحكى أنّ موسى وهارون خرّا لوجوههما ما قدامهم لشدة ما ورد عليهما فسموا برجمهما، ولأمر ما قرن اللهاليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى:

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ }

وقيل: يحتملأن لا يقصدوا الذهاب حقيقة، ولكن كما تقول: كلمته فذهب يجبيني، يريد معنى الإرادة والقصد للجواب، كأنهم قالوا: اريد إقبالهم.والمراد بالرّب هنا هو الله تعالى. وذكر النقاش عن بعض المفسرين هنا أن المراد بالرّب هارون، لأنه كان أسنمن موسى، وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا: اذهب أنت وكبيرك. وهو تأويل بعيديخلص بني إسرائيل من الكفر. وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل، وقد تقدّم الكلام على ذلكفي قوله:

{ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ }

ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوفيمكن رفعه الظاهر، فيكون من عطف الجمل التقدير: فاذهب وليذهب ربك. وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال، وربكمرفوع بالابتداء، والخبر محذوف. أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما: وربك يعينك، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا. {إِنَّا هَـٰهُنَاقَـٰعِدُونَ } هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال، ولا على الرجوع من حيث جاءوا،بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم. وها من قوله هاهنا للتنبيه، وهنا ظرف مكان للقريب، والعامل فيه قاعدون.ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له.وهو أفصح. {قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى } لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمعمنهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك،وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه، ورقة القلب التي تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة ونحوه قوليعقوب:

{ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ٱللَّهِ }

وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتالالمنافقين فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال: أين تتبعان مما أريد؟ والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي،ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعاً بالابتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: وأخي لا يملك إلا نفسه، فيكون قدعطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة، أو منصوباً عطفاً على اسم إنّ أي: وإن أخي لا يملك إلا نفسه،والخبر محذوف، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو: إن زيداً قائم وعمراً شاخص، أي: وإنّ عمراً شاخص. وأجازابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكن في أملك، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور. ويلزممن ذلك أنّ موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان الأنفس موسى فقط، وليس المعنى على ذلك، بل الظاهر أنّ موسىيملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط. وجوز أيضاً أن يكون مجروراً معطوفاً على ياء المتكلم في نفسي، وهو ضعيف علىرأي البصريين. وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا: ادخلوا عليهم الباب، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاينمن أحوال قومه وتلونهم مع طول الصحبة، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته. قيل: أو قالذلك على سبيل الضجر عندما سمع منهم تعليلاً لمن يوافقه، أو أراد بقوله: وأخي، من يوافقني في الدين لا هارونخاصة. وقرأ الحسن: إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما. {فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ } ظاهره أنه دعا بأنيفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى، ولذلك نبهعلى العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه،

{ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً }

{يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ } وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم فيالتيه، بل فرق بينه وبينهم، لأن التيه كان عقاباً خص به الفاسقون العاصون. وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى فافصلبيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلمّ الشعث. وقيل: المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلةالعاصي الفاسق. وقال الزمخشري: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم،ولذلك وصل به قوله: فإنها محرمة عليهم، على وجه التشبيه. وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود: فافرِق بكسر الراءوقال الراجز

: يا رب فافرق بينه وبيني     أشدّ ما فرّقت بين اثنين

وقرأ ابن السميقع: ففرق. والفاسقون هنا قال ابن عباس: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. وقال أبو عبيد: الكافرون.{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى ٱلاْرْضِ } أي قال الله تعالى فأضمر في قال وضمير، فإنها إلىالأرض المقدّسة محرّمة عليهم، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وتقدّم الكلام على انتظام قوله:

{ كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ }

معقوله محرمة عليهم، ودل هذا على أنهم بعد الأربعين لا تكون محرمة عليهم. فروي أن موسى وهارون عليهما السلام كانامعهم في التيه عقوبة لهم وروحاً وسلاماً لهما، لا عقوبة، كما كانت النار لابراهيم ولملائكة العذاب. فروي أن موسى ساربعد الأربعين بمن بقي من بني إسرائيل، وكان يوشع وكالب على مقدمته، ففتح اريحا وقتل عوج بن عنق، وذكروا منوصف عوج وكيفية قتل موسى له ما لا يصح. وأقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض. وقيل: مات هارونفي التيه. قال ابن عطية: ولم يختلف في هذا. وروي: أنّ موسى مات في التيه بعد هارون بثمانية أعوام. وقيل:بستة أشهر ونصف. وقيل: بسنة ونبأ الله يوشع بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل، وأخبرهم أن الله تعالى أمرهبقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه، وسار فيهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل. وفي تلك الحرب وقفتله الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وقد ألمّ بذكر وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في شعره فقال

: فردت علينا الشمس والليل راغم     بشمس بدت من جانب الخدر تطلعنضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوىلبهجتها ثوب السماء الجزع فوالله ما أدري أأحلام نائمألمت بنا أم كان في الركب يوشع

والظاهر أن العامل في قوله: أربعين محرمة،فيكون التحريم مقيداً بهذه المدة، ويكون يتيهون مستأنفاً أو حالاً من الضمير في عليهم. ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي:يتيهون هذه المدة في الأرض، ويكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، بل يكون إخباراً بأنهم لا يدخلونها، وأنهممع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة يموت فيها من مات. وروي أنه من كان جاوز عشرين سنة لم يعشإلى الخروج من التيه، وأنّ من كان دون العشرين عاشوا، كأنه لم يعش المكلفون العصاة، أشار إلى ذلك الزجاج، ولذلكذهب إلى أن العامل في أربعين محرمة. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهونالمتأخر انتهى. ولا أدري ما الحامل له على قوله: إن العامل مضمر كما ذكر؟ بل الذي جوز الناس في ذلكأن يكون العامل فيه يتيهون نفسه، لا مضمر يفسره قوله: يتيهون في الأرض. والأرض التي تاهوا فيها على ما حكىطولها ثلاثون ميلاً، في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام. وقال ابن عباس: تسعة فراسخ، قال مقاتل: هذاعرضها وطولها ثلاثون فرسخاً. وقيل: ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخاً، وقيل: تسعة فراسخ. وتظافرت أقوال المفسرين على أنهذا التيه على سبيل خرق العادة، فإنه عجيب من قدرة الله تعالى، حيث جاز على جماعة من العقلاء أن يسيروافراسخ يسيرة ولا يهتدون للخروج منها. روي أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم فيالموضع الذي ابتدأوا منه، ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا أذاهم بحيث ارتحلوا عنه، فيكون سيرهم تحليفاً. قال مجاهد وغيره:كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً، فيمسون حيث أصبحوا، ويصبحون حيث يمسون، وذلك في مقدار ستة فراسخ، وكانوا في سيارةلا قرار لهم انتهى. وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين، وذكروا أنّ حكمة التيه هو أنهم لما قالوا:

{ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ }

عوقبوا بالقعود، فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون، كلما ساروا يوماً أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه.وذكروا أن حكمة كون المدّة التي تاهوا فيها أربعين سنة هي كونهم عبدوا العجل أربعين يوماً، جعل عقاب كل يومسنة في التيه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة، وقلة اجتماع الرأي، وأنه تعالى رماهم بالاختلاف، وعلمواأنها حرّمت عليهم أربعين سنة، فتفرّقت منازلهم في ذلك الفحص، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماعحتى كملت هذه المدة، وأذن الله تعالى بخروجهم، وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكره مجاهد إنماهو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى. {فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ } الظاهر أن الخطاب من اللهتعالى لموسى عليه السلام. قال ابن عباس: ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم انتهى. فهذه مسلاة لموسى عليهالسلام عن أن يحزن على ما أصاب قومه، وعلل كونه لا يحزن بأنهم قوم فاسقون بهوت أحقاء بما نالهم منالعقاب. وقيل: الخطاب لمحمد ﷺ، والمراد بالفاسقين معاصروه أي: هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهمالخبيثة معك وردّهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.

{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ آدَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } * { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } * { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } * { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } * { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } * { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

الغراب: طائر معروف ويجمع في القلة على أغربة، وفي الكثرة على غربان. وغراباسم جنس وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء، فإن وجد فيها ما يمكناشتقاقه حمل على أنه مشتق، إلا أنَّ ذلك قليل جدّاً، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة نحو: تراب، وحجر، وماء.ويمكن غراب أن يكون مأخوذاً من الاغتراب، فإن العرب تتشاءم به وتزعم أنه دال على الفراق. وقال حران العود:وأما الغراب فالغريب المطوّح. وقال الشنفري

: غراب لاغتراب من النوى     وبالباذين من حبيب تعاشره

البحث في الأرض نبش التراب وإثارته، ومنه سميت براءة بحوث. وفي المثل: لا تكن كالباحث عنالشفرة. السوأة: العورة. العجز:عدم الإطاقة، وماضيه على فعل بفتح العين، وهي اللغة الفاشية. وحكى الكسائي فيه: فعل بكسر العين. الندم:التحسر يقال منه: ندم يندم. الصلب معروف وهو إصابة صلبة بجذع، أو حائط كما تقول: عانه أي أصاب عينه، وكيدهأصاب كيده. الخلاف: المخالفة، ويقال: فرس به شكال من خلاف إذا كان في يده. نفاة: طرده فانتفى، وقد لا يتعدّىنفي. قال القطامي: فأصبح جاراكم قتيلاً ونافيا. أي منفيا. الوسيلة الواسلة ما يتقرب منه. يقال: وسله وتوسل إليه، واستعيرتالوسيلة لما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات. وقال لبيد

: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم     ألا كل ذي لب إلى الله واسل

وأنشد الطبري

: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا     وعاد التصابي بيننا والوسائل

السارق اسم فاعل من سرق يسرق سرقاًوالسرق والسرقة الاسم كذا قال بعضهم وربما قالوا سرقة مالاً. قال ابن عرفة السارق عند العرب من جاء مستتراً إلىحرز فأخذ منه ما ليس له. {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءادَمَ بِٱلْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـٰناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْمِنَ ٱلاْخَرِ } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر تمرّد بني إسرائيل وعصيانهم، أمر الله تعالىفي النهوض لقتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى،وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذ ظهرت على يديه خوارق عظيمة،وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة:

{ ٱذْهَبْ أَنتَ * وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ }

وانتهىقابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتوّ وقوة النفس وعدم المبالاة بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعدالشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها، بحيث كان أول من سنّ القتل، وكان عليه وزره ووزر من عملبه إلى يوم القيامة، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه، ومن حيث المعصية بهما. وأيضاً فتقدم قولهأوائل الآيات

{ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ }

وبعده

{ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ }

وقوله:

{ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }

ثم قصة محاربة الجبارين، وتبين أنّ عدم اتباعبني إسرائيل محمداً ﷺ إنما سببه الحسد هذا مع علمهم بصدقه. وقصة ابني آدم انطوت علىمجموع هذه الآيات من بسط اليد، ومن الأخبار بالمغيب، ومن عدم الانتفاع بالقرب، ودعواه مع المعصية، ومن القتل، ومن الحسد.ومعنى واتل عليهم: أي اقرأ واسرد، والضمير في عليهم ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل إذ هم المحدث عنهم أولاً،والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول. والمؤمنين فاعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلقللرسول بها إلا من جهة الوحي، لتقوم الحجة بذلك عليهم، إذ ذلك من دلائل النبوّة. والنبأ: هو الخبر. وابنا آدمفي قول الجمهور عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهما: هما قابيل وهابيل، وهما ابناه لصلبه. وقال الحسن: لم يكونا ولديهلصلبه، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل. قال: لأن القربان إنما كان مشروعاً في بني إسرائيل، ولم يكن قبل، ووهمالحسن في ذلك. وقيل عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدى فيه بالغراب؟ وأيضاً فقد قال الرسول عنه: إنه أول من سن القتل وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل. ويحتمل قوله: بالحق، أن يكونحالاً من الضمير في: واتل أي: مصحوباً بالحق، وهو الصدق الذي لا شك في صحته، أو في موضع الصفة لمصدرمحذوف أي: تلاوة ملتبسة بالحق، والعامل في إذ نبأ أي حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونبدلاً من النبأ أي: اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف انتهى. ولا يجوز ما ذكر، لأنإذ لا يضاف إليها إلا الزمان، ونبأ ليس بزمان. وقد طوّل المفسرون في سبب تقريب هذا القربان وملخصه: أنّحواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، وكان آدم يزوّج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن، وأنثى هذا ذكرذلك، ولا يحل للذكر نكاح توءمته، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها اقليميا، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمهالبوذا، فأبى قابيل إلا أن يتزوّج توءمته لا توءمة هابيل وأن يخالف سنة النكاح إيثاراً لجمالها، ونازع قابيل هابيل فيذلك، فقيل: أمرهما آدم بتقريب القربان. وقيل: تقرباً من عند أنفسهما، إذ كان آدم غائباً توجه إلى مكة لزيارة البيتبإذن ربه. والقربان الذي قرباه: هو زرع لقابيل، وكان صاحب زرع، وكبش هابل وكان صاحب غنم، فتقبل من أحدهما وهوهابيل، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل. أي: فتقبل القربان، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل،وترك غير المتقبل. وقال مجاهد: كانت النار تأكل المردود، وترفع المقبول إلى السماء. وقال الزمخشري: يقال: قرب صدقة وتقرب بها،لأن تقرب مطاوع قرب انتهى. وليس تقرّب بصدقة مطاوع قرب صدقة، لاتحاد فاعل الفعلين، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل، فيكون منأحدهما فعل، ومن الآخر انفعال نحو: كسرته فانكسر، وفلقته فانفلق، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلطفاحش. {قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ } هذا وعيد وتهديد شديد، وقد أبرز هذا الخبر مؤكداً بالقسم المحذوف أي: لأقتلنك حسداً علىتقبل قربانك، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي. وقرأ زيد بن علي: لأقتلنك بالنون الخفيفة. {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَٱلْمُتَّقِينَ } قال ابن عطية: قبله كلام محذوف تقديره: لم تقتلني وأنا لم أجن شيئاً ولا ذنب لي في قبولالله قرباني؟ أما أني أتقيه؟ وكتب علي: لأحب الخلق إنما يتقبل الله من المتقين، وخطب الزمخشري هنا فقال: (فإن قلت):كيف كان قوله: إنما يتقبل الله من المتقين، جواباً لقوله: لأقتلنك؟ (قلت): لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هوالذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلمتقتلني؟ وما لك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول، فأجابه بكلام حكيم مختصرجامع لمعان. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملينأعمالهم. وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت: قال: إنيأسمع الله يقول:

{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }

انتهى كلامه. ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته، يحتاجالكلام في فهمه إلى هذه التقديرات، والذي قدرناه أولاً كاف وهو: أنّ المعنى لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك، فعرض لهبأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقياً، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قرّرها اللهتعالى، وقصد خلافها ونازع، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمهاالله. قال ابن عطية: وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التيتصدق فيها نيته مقبولة. وقال عدي بن ثابت وغيره: قربان هذه الأمة الصلاة. وقول من زعم أن قوله: إنما يتقبلالله من المتقين، ليس من كلام المقتول، بل هو من كلام الله تعالى للرسول اعتراضاً بين كلام القاتل والمقتول، والضميرعائد في قال على الله ليس بظاهر. {لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ }قال ابن عباس: المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي. وقال عكرمة: المعنى ما كنت لأبتدئك بالقتل. وقال مجاهد والحسن: لم يكنالدفع عن النفس في ذلك الوقت جائزاً. وقال عبد الله بن عمرو وابن عباس والجمهور: كان هابيل أشد قوّة منقابيل، ولكنه تحرج من القتل، وهذا يدل على أن القاتل ليس بكافر وإنما هو عاص، إذ لو كان كافراً لماتحرّج هابيل من قتله، وإنما استسلم له كما استسلم عثمان بن عفان. وقيل: إنما ترك الدفع عن نفسه لأنه ظهرتله مخيلة انقضاء عمره فبنى عليها، أو بإخبار أبيه، وكما جرى لعثمان إذ بشره الرسول بالجنة على بلوى تصيبه، ورآهفي اليوم الذي قتل في النوم وهو يقول: إنك تفطر الليلة عندنا فترك الدفع عن نفسه حتى قتل،وقال له رسول الله ﷺ: الق على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وقيل: إنّ هابيل لاحت له أمارات غلبة الظن من قابيل على قتله، ولكن لم يتحقق ذلك، فذكر لههذا الكلام قبل الإقدام على القتل ليزدجر عنه وتقبيحاً لهذا الفعل، ولهذا يروى أنّ قابيل صبر حتى نام هابيل فضربرأسه بحجر كبير فقتله. وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أنّ المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثمترك الدفع عن نفسه. قال الزمخشري: (فإن قلت): لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله: لئنبسطت ما أنا بباسط؟ (قلت): ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفيانتهى. وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري، وهو كلام فيه انتقاد. وذلك أن قوله: ماأنا بباسط، ليس جزاء بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في لئن المؤذنة بالقسم والموطئة للجواب، لا للشرط. وجوابالشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، ولو كان جواباً للشرط لكان بالفاء، فإنه إذا كان جواب الشرط منفياً بما فلابد من الفاء كقوله:

{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا بَيّنَاتٍ }

ما كان حجتهم إلا أن قالوا: ولو كان أيضاًجواباً للشرط للزم من ذلك خرم القاعدة النحوية من أنه إذا تقدم القسم على الشرط فالجواب للقسم لا للشرط. وقدخالف الزمخشري كلامه هذا بما ذكره في البقرة في قوله:

{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ }

فقال: ما تبعوا جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط، وتكلمنا معه هناك فينظر. {إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَرَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } هذا ذكر لعلة الامتناع في بسط يده إليه للقتل، وفيه تنبيه على أن القاتل لا يخاف الله.{إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } ذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا مجاز لامحبة إيثار شهوة، وإنما هي تخيير في شرين كما تقول العرب: في الشر خيار، والمعنى: إنْ قتلتني وسبق بذلك قدر،فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة. وذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا حقيقة لا مجاز، لا يقال:كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار، لأن جزاء الظالم حسن أن يراد، وإذا جاز أن يريده الله تعالىجاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري، وفيه دسيسة الاعتزال. وقال ابن كيسان: إنماوقعت الإرادة بعد ما بسط يده للقتل وهو مستقبح، فصار بذلك كافراً لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر،والكافر يريد أن يراد به الشر. وقيل: المعنى أنه لما قال: لأقتلنك استوجب النار بما تقدم في علم الله، وعلىالمؤمن أن يريد ما أراد الله، وظاهر الآية أنهما آثمان. قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن وقتادة: تحمل إثم قتليوإثمك الذي كان منك قبل قتلي، فحذف المضاف، هذا قول عامة المفسرين. وقال الزجاج: أئم قتلي وإثمك الذي من أجلهلم يتقبل قربانك، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله. وقيل: المعنى بإثمي إنْ لو قاتلتك وقتلتك، وإثم نفسك فيقتالي وقتلي، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله ﷺ: إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه فكأنّ هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحملهأنت مع إثمك في قتلي. قال الزمخشري (فإن قلت): كيف يحتمل إثم قتله له

{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }

(قلت): المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهواتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره. (فإن قلت): فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراًفي شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله، فيجتمع عليه الإثمان؟ (قلت): هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثمالمقدر، كأنه قال: إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى. وقيل: بإثمي، الذي يختص بي فيمافرط لي، أي: يؤخذ من سيئآتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلي. ويعضد هذا قول النبي صلىالله عليه وسلم: يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه وتلخص من قوله بإثمي وإثمك وجهان: أحدهما: بإثمي اللاحقلي، أي: بمثل إثمي اللاحق لي على تقدير وقوع قتلي لك، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي. والثاني: بإثمي اللاحق لكبسبب قتلي، وإضافة إليه لما كان سبباً له، وإثمك اللاحق لك قبل قتلي. وهذان الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية.وقيل المعنى على النفي، التقدير: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كقوله:

{ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ }

أيأن لا تميد، وأن تضلوا أي: لا تضلوا، فحذف لا. وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشرّ لأخيه المؤمن، وضعفالقرطبي هذا الوجه بقول ﷺ: لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل فثبت بهذا أنّ إثم القاتل حاصل انتهى. ولا يضعف هذا القول بماذكره القرطبي، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل، بل قد لا يريده ويقع.ونصر تأويل النفي الماوردي وقال: إن القتل قبيح، وإرادة القبيح قبيحة، ومن الأنبياء أقبح. ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأإني أريد، أي كيف أريد؟ ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال، بعض المفسرين: إنّ هذا الإستفهام على جهة الإنكار، أي: أني،فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى. وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورةوقد تقدم إيضاح الإرادة، وجواز ورودها هنا، واستدل بقوله: فتكون من أصحاب النار، على أنّ قابيل كان كافراً لأنّ هذااللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار، وعلى هذا القول ففيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولا يقويهذا الاستدلال لأنّه يكنى عن المقام في النارمدة بالصحبة. {وَذَلِكَ جَزَاء * لّلظَّـٰلِمِينَ } أي وكينونتك من أصحاب النارجزاؤك، لأنك ظالم في قتلي. ونبه بقوله: الظالمين، على السبب الموجب للقتل، وأنه قتل بظلم لا بحق. والظاهر أنه منكلام هابيل نبهه على العلة ليرتدع. وقيل: هو من كلام الله تعالى، لا حكاية كلام هابيل، بل إخبار منه تعالىللرسول ﷺ. {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ } قال ابن عباس: بعثته على قتله. وقالأيضاً هو ومجاهد: شجعته. وقال قتادة: زينت له. وقال الأخفش : رخصت. وقال المبرد: من الطوع، والعرب تقول: طاع لهكذا أي أتاه طوعاً. وقال ابن قتيبة: تابعته وانقادت له. وقال الزمخشري: وسعته له ويسرته، من طاع له المرتع إذااتسع. وهذه أقوال متقاربة في المعنى، وهو فعل من الطوع وهو الانقياد، كأن القتل كان ممتنعاً عليه متعاصياً. وأصله: طاعله قتل أخيه أي انقاد له وسهل، ثم عدى بالتضعيف فصار الفاعل مفعولاً والمعنى: أنّ القتل في نفسه مستصعب عظيمعلى النفوس، فردّته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى أوقعه صاحب هذه النفس. وقرأ الحسن وزيد بنعلي والجراح، والحسن بن عمران، وأبو واقد: فطاوعته، فيكون فاعل فيه الاشتراك نحو: ضاربت زيداً، كان القتل يدعوه بسبب الحسدإصابة قابيل، أو كان النفس تأبى ذلك ويصعب عليها، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعتالنفس القتل فوافقته. وقال الزمخشري: فيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أن قتل أخيه،كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك: حفظت لزيد ماله انتهى. فأما الوجه الثانيفهو موافق لما ذكرناه، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه: ضاعفت وضعفت مثل: ناعمت ونعمت. وقال: فجاءوا به على مثالعاقبته، وقال: وقد يجيء فاعلت لا يريد بها عمل اثنين، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت، وذكر أمثلةمنها عافاه الله. وهذا المعنى وهو أنّ فاعل بمعنى فعل، أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف: كابن عصفور، وابنمالك، وناهيك بهما جمعاً واطلاعاً، فلم يذكر أنّ فاعل يجيء بمعنى فعل، ولا فعل بمعنى فاعل. وقوله: وله لزيادة الربط،يعني: في قوله فطوعت له نفسه، يعني: أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلامالعرب، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام، إذ الربط يحصل بدونه. كما إنك لو قلت: حفظت مال زيدكان كلاماً تاماً فقتله، أخبر تعالى أنه قتله وتكلم المفسرون في أشياء من كيفيته، ومكان قتله، وعمره حين قتل، ولهمفي ذلك اختلاف، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك. {فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } أصبح: بمعنى صار. وقال ابن عطية:أقيم بعض الزمان مقام كله، وخص الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط، ومنه قول الربيع: أصبحتلا أحمل السلاح ولا. وقول سعد: ثم أصبحت بنو سعد تعززني على الإسلام، إلى غير ذلك من استعمال العرب لماذكرناه انتهى. وهذا الذي ذكره من تعليل كون أصبح عبارة عن جميع أوقاته، وأقيم بعض الزمان مقام كله بكون الصباحخص بذلك لأنه بدء النهار، ليس بجيد. ألا ترى أنهم جعلوا أضحى وظل وأمسى وبات بمعنى صار، وليس منها شيءبدء النهار؟ فكما جرت هذه مجرى صار كذلك أصبح لا للعلة التي ذكرها ابن عطية. قال ابن عباس: خسر فيالدنيا بإسخاط والديه وبقائه بغير أخ، وفي الآخرة بإسخاط ربه وصيرويته إلى النار. وقال الزجاج: من الخاسرين للحسنات. وقال القاضيأبو يعلى: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إياها. وقال مجاهد: خسرانه أن علقت إحدى رجلي القاتل لساقها إلى فخذها من يومئذإلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة منثلج. قال القرطبي: ولعلّ هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر، فيكون خسرانه في الدنيا. وقيل: من الخاسرينباسوداد وجهه، وكفره باستحلاله ما حرم من قتل أخيه، وفي الآخرة بعذاب النار. وثبت في الحديث: ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، وذلك لأنه أول من سن القتل وروي عن عبد اللهبن عمر أنه قال: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة في العذاب عليه شطر عذابهم.{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى ٱلاْرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ } روي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض،ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فخاف السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح، وعكفتعليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فقال: يا ويلتيأعجزت. وقيل: حمله مائة سنة. وقيل: طلب في ثاني يوم إخفاء قتل أخيه فلم يدر ما يصنع. وقيل: بعث اللهغراباً إلى غراب ميت، فجعل يبحث قي الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت. وقيل: بعث الله غراباً واحداً فجعل يبحثويلقي التراب على هابيل. وروي أنه أول ميت مات على وجه الأرض، وكذلك جهل سنة المواراة. والظاهر أنه غراب بعثهالله يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة هابيل، فاستفاد قابيل ببحثه في الأرض أن يبحث هو في الأرضفيستر فيه أخاه، والمراد بالسوءة هنا قيل: العورة، وخصت بالذكر مع أنّ المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها، ولأن سترهاأوكد. وقيل: جميع جيفته. قيل: فإن الميت كله عورة، ولذلك كفن بالأكفان. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسوءة هذهالحالة التي تسوء الناظر بمجموعها، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة، لا على جهة الغض منه، بل الغضلاحق للقاتل وهو الذي أتى بالسوءة انتهى. والسوءة الفضيحة لقبحها قال الشاعر

:يــا لقـومـي للســوءة الســوآء    

أي للفضيحة العظيمة. قالوا: ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غراباً أو كان ميتاً، أن يكون الضمير في أخيه عائداًعلى الغراب، أي: ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه وهو الغراب الميت، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءةهابيل، وهذا فيه بعد. لأن الغراب لا تظهر له سوءة، والظاهر أنّ الإرادة هنا من جعله يرى أي: يبصر، وعلقليريه عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني، وكيف معمولة ليواري. وليريه متعلق بيبحث. ويجوز أنيتعلق بقوله: فبعث، وضمير الفاعل في ليريه الظاهر أنه عائد على الله تعالى، لأن الإراءة حقيقة هي من الله، إذليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها. ويجوز أن يعود على الغراب أي: ليريه الغراب، أي: ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمهفكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غراباً دون غيره من الحيوان ومنالطيور كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب، وذلك مناسب لهذه القصة. وقيل: فبعث جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره: فجهلمواراته فبعث. {قَالَ يَـاءادَمُ * يَـٰوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى } استقصر إدراكه وعقلهفي جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والرؤيا والتدبير من طائر لا يعقل. ومعنىهذا استفهام: الإنكار على نفسه، والنعي أي: لا أعجز عن كوني مثل هذا الغرب، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لهابقوله: مثل هذا الغراب. وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم:يا عجباً ويا حسرة، والمراد بذلك التعجب. كأنه قال: انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة، فالمعنى: تنبهوا لهذه الهلكة. وتأويله هذاأوانك فاحصري. وقرأ الجمهور: يا ويلتا بألف بعد التاء، وهي بدل من ياء المتكلم، وأصله يا ويلتي بالياء، وهي قراءةالحسن. وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي. وقرأ الجمهور: أعجزت بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وفياض، وطلحة، وسليمان:بكسرها وهي لغة شاذة، وإنما مشهور الكسر في قولهم: عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها. وقرأ الجمهور: فأواريَ بنصب الياء عطفاًعلى قوله: أن أكون. كأنه قال: أعجزتُ أن أواريَ سوءة أخي. وقال الزمخشري: فأواري بالنصب على جواب الاستفهام انتهى. وهذاخطأ فاحش، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء، وهنا تقول: أتزورني فأكرمك، والمعنى: إنتزرني أكرمك. وقال تعالى:

{ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا }

أي إن يكن لنا شفعاء يشفعوا. ولو قلتهنا: إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارِ سوءة أخي لم يصح، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عنكونه مثل الغراب. وقرأ طلحة بن مصرف، والفياض بن غزوان: فأواريْ بسكون الياء، فالأولى أن يكون على القطع أي: فأناأواري سوءة أخي، فيكون أواري مرفوعاً. وقال الزمخشري: وقرىء بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيفانتهى. يعني: الزمخشري: وقرىء بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني: أنه حذف الحركةوهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة. وقال ابن عطية: هي لغة لتوالي الحركات انتهى. ولا ينبغي أن يخرج علىالنصب، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفاً كما أشار إليه الزمخشري، ولا ذلك لغةكما زعم ابن عطية، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات، لأنه لم يتوال فيه الحركات. وهذا عند النحويين ـ أعني النصبـ بحذف الفتحة، لا يجوز إلا في الضرورة، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على جه صحيح، وقد وجدوهو الاستئناف أي: فأنا أواري. وقرأ الزهري: سوة أخي بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الواو. ولا يجوز قلب الواو ألفاًلتحركها وانفتا ما قبلها، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعل. وقرأ أبو حفص: سوة بقلب الهمزة واواً، وأدغم الواوفيه، كما قالوا في شيء شي، وفي سيئة سية. قال الشاعر

: وإن رأوا سية طاروا بها فرحا     مني وما علموا من صالح دفنوا

{فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ } قيل: هذه جملة محذوفة تقديره: فوارىسوءة أخيه. والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه، وتبشيره أنه من أصحاب النار.وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً. قيل: ولم ينفعه ندمه، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة. وقيل:من النادمين على جملة. وقيل: من النادمين خوف الفضيحة. وقال الزمخشري: من النادمين على قتله لما تعب من حمله، وتحيرهفي أمره، وتبين له من عجزه ونلمذته للغراب، واسوداد لونه، وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين انتهى. وقد اختلفالعلماء في قابيل، أكان كافراً أم عاصياً؟ وفي الحديث: إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرها ودعوا شرها وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل هابيل من رجفان الأرض سبعة أيام، وشرب الأرض دمه، وإيسال الشجر،وتغير الأطعمة، وحموضة الفواكه، ومرارة الماء، واغبرار الأرض، وهرب قابيل بأخته إقليميا إلى عدن من أرض اليمن، وعبادته النار، وانهماكأولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان، والله أعلم بصحة ذلك. قال الزمخشري. ورويأن آدم مكث بعد قتله مائة سنةلا يضحك، وأنه رثاه بشعر. وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقدصح أن الأنبياء معصومون من الشعر. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال: من قال إنّ آدم قالشعراً فهو كذب، ورمى ردم بما لا يليق بالنبوّة، لأن محمداً والأنبياء عليهم السلام، كلهم في النفي عن الشعر سواء.قال الله تعالى:

{ وَمَا عَلَّمْنَـٰهُ ٱلشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ }

ولكنه كان ينوح عليه، وهو أول شهيد كان علىوجه الأرض ويصف حزنه عليه نثراً من الكلام شبه المرئية، فتناسخته القرون وحفظوا كلامه، فلما وصل إلى يعرب بن قحطانوهو أول من خط بالعربية فنظمه فقال

: تغيرت البلاد ومن عليها     فوجه الأرض مغبر قبيح

وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات، وأنّ إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات.وقول الزمخشري في الشعر: إنه ملحون، يسير فيه إلى البيت وهو الثاني

: تغير كل ذي لون وطعم     وقل بشاشة الوجه المليح

يرويه بشاشة الوجه المليح على الاقواء، ويروى بنصب بشاشةمن غير تنوين، ورفع الوجه المليح. وليس بلحن، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة، ونصبه على التمييز، وحذف التنوينلالتقاء الألف واللام. قد جاء في كلامهم قرىء:

{ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ }

وروي ولا ذاكر الله بحذف التنوين{مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ }الجمهور على أنّ من أجل ذلك متعلق بقوله: كتبنا. وقال قوم بقوله: من النادمين، أي ندم من أجل ما وقع.ويقال: أجل الأمر أجلاً وآجلاً إذا اجتناه وحده. قال زهير

: وأهل خباء صالح ذات بينهم     قد احتربوا في عاجل أنا آجله

أي جانبه، ونسب هذا البيت ابن عطية إلى جواب، وهو فيديوان زهير. والمعنى: بسبب ذلك. وإذا قلت: فعلت ذلك من أجلك، أردت أنك جنيت ذلك وأوجبته. ومعناه ومعنى من جراكواحد أي: من جريرتك. وذلك إشارة إلى القتل أي: من جني ذلك القتل كتبنا على بني إسرائيل. ومن لابتداء الغايةأي: ابتداء الكتب، ونشأ من أجل القتل، ويدخل على أجل اللام لدخول من، ويجوز حذف حرف الجر واتصال الفعل إليهبشرطه في المفعول له. ويقال: فعلت ذلك من أجلك ولأجلك، وتفتح الهمزة أو تكسر. وقرأ ابن القعقاع: بكسرها وحذفها ونقلحركتها إلى الساكن قبلها، كما قرأ ورش بحذفها وفتحها ونقل الحركة إلى النون. ومعنى كتبنا أي: كتب بأمرنا في كتبمنزلة عليهم تضمنت فرض ذلك، وخص بنو إسرائيل بالذكر، وإن كان قبلهم أمم حرم عليهم قتل النفس وكان القصاص فيهم،لأنهم على ما روي أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، ولتظهرمذمتهم في أنْ كتب عليهم هذا، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا يفقهون، بل هموا بقتل النبي صلى الله عليهوسلم ظلماً. ومعنى بغير نفس: أي بغير قتل نفس فيستحق القتل. وقد حرّم الله نفس المؤمن إلا بإحدى موجبات قتله.وقوله: أو فساد، هو معطوف على نفس أي: وبغير فساد، والفساد قيل: الشرك بالله. وقيل: قطع الطريق، وقطع الأشجار، وقتلالدواب إلا لضرورة، وحرق الزرع وما يجري مجراه، وهو الفساد المشار إليه بعد هذه الآية. وقال ابن عطية: لم يتخلصالتشبيه إلى طرفي شيء من هذه الأقوال، والذي أقول: إنّ التشبيه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرف من جميعالجهات، لكن الشبه قد يحصل من ثلاث جهات. إحداها: القود فإنه واحد. والثانية: الوعيد، فقد وعد الله قاتل النفس بالخلودفي النار، وتلك غاية العذاب. فإن ترقبناه يخرج من النار بعد ذلك بسبب التوحيد، فكذلك قاتل الجميع أن لو اتفقذلك. والثالثة: انتهاك الحرمة فإن نفساً واحدة في ذلك وجميع الأنفس سواء، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع. ومثالذلك رجلان حلفا على شجرتين أن لا يطعما من ثمرتيهما شيئاً،فطعم أحدهما واحدة من ثمرة شجرته، وطعم الآخر ثم شجرتيهكله، فقد استويا في الحنث انتهى. وقال غيره: قيل المشابهة في الإثم، والمعنى: أن عليه إثم من قتل الناس جميعاًقاله: الحسن والزجاج. وقيل: التشبيه في العذاب ومعناه أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قال قتل الناس قاله: مجاهدوعطاء، وهذا فيه نظر. لأن العذاب يخفف ويثقل بحسب الجرائم. وقيل: التشبيه من حيث القصاص قاله: ابن زيد. وتقدم. وقيل:التشبيه من جهة الإنكار على قبح الفعل والمعنى: أنه ينبغي لجميع الناس أن يعينوا وليّ المقتول حتى يقيدوه منه، كمالو قتل أولياءهم جميعاً ذكره: القاضي أبو يعلى. وهذا الأمر كان مختصاً ببني إسرائيل، غلظ عليهم كما غلظ عليهم بقتلأنفسهم. قاله بعض العلماء. وقال قوم: هذا عام فيهم وفي غيرهم. قال سليمان بن عليّ: قلت: للحسن يا أبا سعيدهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: أي والذي لا إلۤه غيره، ما كان دماء بني إسرائيل أكرم على اللهمن دمائنا. وقيل في قوله: ومن أحياها أي: استنقذها من الهلكة. قال عبد الله، والحسن، ومجاهد أي من غرق أوحرق أو هلاك. وقيل من عضد نبياً أو إماماً عادلاً، لأن نفعه عائد على الناس جميعاً. وقيل: من ترك قتلالنفس المحرمة فكأنما أحيا الناس بكفه أذاه عنهم. وقيل: من زجر عن قتل النفس ونهى عنه. وقيل: من أعان علىاستيفاء القصاص لأنه قال:

{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ }

قال الحسن: وأعظم إحيائها أن يحييها من كفرها، ودليه:

{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا }

انتهى والإحياء هنا مجاز، لأنّ الإحياء حقيقة هو لله تعالى، وإنماالمعنى: ومن استسقاها ولم يتلفها، ومثل هذا المجاز قول محاج ابراهيم: أنا أحيي سمي الترك إحياء. {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَابِٱلّبَيّنَـٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِى ٱلاْرْضِ لَمُسْرِفُونَ } أخبر تعالى أنّ الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيءالرسل بالبينات من الله، وكان مقتضى مجيء رسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف وهو المجاوزة في الحد،فخالفوا هذا المقتضى. والعامل في بعد، والمتعلق به في الأرض خبر إن، ولم تمنع لام الابتداء من العمل في ذلكوإن كان متقدماً، لأنّ دخولها على الخبر ليس بحق التأصل، والإشارة بذلك إلى مجيء الرسل بالبينات، والمراد بالأرض أي: حيثما حلوا أسرفوا. وظاهر الإسراف أنه لا يتقيد. وقيل لمسرفون أي: قاتلون بغير حق كقوله:

{ فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ }

وقيل: هو طلبهم الكفاءة في الحسب حتى يقتل بواحد عدة من قتلتهم. {إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُوَيَسْعَوْنَ فِى ٱلاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ } قال أنس بن مالك، وجرير بنعبد الله، وعبد الله بن عمر، وابن جبير، وعروة: نزلت في عكل وعرينة وحديثه مشهور. وقال ابن عباس فيما رواهعكرمة عنه: نزلت في المشركين، وبه قال: الحسن وعطاء. وقال ابن عباس في رواية والضحاك: نزلت في قوم من أهلالكتاب كان بينهم وبين الرسول عهد فنقضوه، وأفسدوا في الدّين. وقيل: نزلت في قوم أبي بردة هلال بن عامر قتلواقوماً مرّوا بهم من بني كنانة يريدون الإسلام، وأخذوا أموالهم، وكان بين الرسول ﷺ وبين أبي بردةموادعة أن لا يعين عليه، ولا يهيج من أتاه مسلماً ففعل ذلك قومه ولم يكن حاضراً، والجمهور على أنّ هذهالآية ليست ناسخة ولا منسوخة. وقيل: نسخت ما فعل النبي ﷺ بالعرنيين من المثلة، ووقف الحكم علىهذه الحدود. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغيرنفس ولا فساد في الأرض، أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو، فإن بعض ما يكون فساداًفي الأرض لا يوجب القتل، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام.ومذهب مالك وجماعة: أن المحارب هو من حمل السلاح على الناس في مصر أو برية، فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دونثائرة، ولا دخل ولا عداوة. ومذهب أبي حنيفة وجماعة: أن المحاربين هم قطاع الطريق خارج المصر، وأمّا في المصر فيلزمهحدّ ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك، وأدنى الحرابة إخافة الطريق ثم أخذ المال مع الإخافة،ثم الجمع بين الإخافة وأخذ المال والقتل ومحاربة الله تعالى غير ممكنة، فيحمل على حذف مضاف أي: محاربون أولياء اللهورسوله، وإلا لزم أن يكون محاربة الله ورسوله جمعا بين الحقيقة والمجاز. فإذا جعل ذلك على حذف مضاف، أو حملاًعلى قدر مشترك اندفع ذلك، وقول ابن عباس: المحاربة هنا الشرك، وقول عروة: الارتداد، غير صحيح عند الجمهور، وقد أوردما يبطل قولهما. وفي قوله: يحاربون الله ورسوله، تغليظ شديد لأمر فساداً لأمر الحرابة، والسعي في الأرض فساداً يحتملأن يكون المعنى بمحاربتهم، أو يضيفون فساداً إلى المحاربة. وانتصب فساداً على أنه مفعول له، أو مصدر في موضع الحال،أو مصدر من معنى يسعون في الأرض معناه: يفسدون، لمّا كان السعي للفساد جعل فساداً. أي: إفساداً. والظاهر في قوله:العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب على قدّمناها،وبه قال: النخعي، والحسن، في رواية وابن المسيب، ومجاهد، وعطاء، وهو: مذهب مالك، وجماعة. وقال مالك: استحسن أن يأخذ فيالذي لم يقتل بأيسر العقاب، ولا سيما: أن لم يكن ذا شرور معروفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله.وقال ابن عباس، وأبو مجلز، وقتادة، والحسن أيضاً وجماعة: لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب، فمن قتل قتل،ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف، ومن أخاف فقط فالنفي، ومن جمعها قتل وصلب. والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا،فقال: أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي، وجماعة، وروي عن مالك: يصلب حياً ويطعن حتى يموت. وقال جماعة: يقتل ثم يصلب نكالاًلغيره، وهو قول الشافعي. والقتل إما ضرباً بالسيف للعنق، وقيل: ضرباً بالسيف أو طعناً بالرمح أو الخنجر، ولا يشترط فيقتله مكافأة لمن قتل. وقال الشافعي: تعتبر فيه المكافأة في القصاص. ومدة الصلب يوم أو ثلاثة أيام، أو حتى يسيلصديده، أو مقدار ما يستبين صلبه. وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ، والرجل الشمال من المفصل. وروي عن علي: أنهمن الأصابع ويبقى الكف، ومن نصف القدم ويبقى العقب. وهذا خلاف الظاهر، لأن الأصابع لا تسمى يثداً، ونصف الرجل لايسمى رجلاً. وقال مالك: قليل المال وكثيرة سواء، فيقطع المحارب إذا أخذه. وقال أصحاب الرأي والشافعي لا يقطع إلا منأخذ ما يقطع فيه السارق. وأما النفي فقال السدي: هو أن يطالب أبداً بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حدالله ويخرج من دار الإسلام. وروي عن ابن عباس وأنس: نفيه أن يطلب، وروي ذلك عن الليث ومالك، إلا أنمالكاً قال: لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك. وقال ابن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس، والزهري، والضحاك: النفي مندار الإسلام إلى دار الشرك. وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة: ينفى من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد.وقال أبو الزناد: كان النفي قديماً إلى دهلك وناصع، وهما من أقصى اليمن. وقال الزمخشري: دهلك في أقصى تهامة، وناصعمن بلاد الحبشة. وقال أبو حنيفة: النفي السجن، وذلك إخراجه من الأرض. قال الشاعر: قال ذلك وهو مسجون

: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها     فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا وتعجبنا الرؤيا بحل حديثنا     آذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا

والظاهر أن نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها إن كانت الألف واللام للعهد فينفى منذلك العمل، وإن كانت للجنس فلا يزال يطلب ويزعج وهو هارب، فزع إلى أن يلحق بغير عمل الإسلام. وصريح مذهبمالك أنه إذا كان مخوف الجانب غرب وسجن حيث غرّب، والتشديد في أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع قراءة الجمهور،وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن. {ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌفِى ٱلدُّنْيَا } ي ذلك الجزاء من القطع والقتل والصلب والنفي. والخزي هنا الهوان والذل والافتضاح. والخزي الحياء عبر بهعن الافتضاح لما كان سبباً له افتضح فاستحيا. {وَلَهُمْ فِى ٱلاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ظاهره أن معصية الحرابة مخالفةللمعاصي غيرها، إذ جمع فيها بين العقاب في الدنيا والعقاب في الآخرة تغليظاً لذنب الحرابة، وهو مخالف لظاهر قوله صلىالله عليه وسلم في حديث عبادة فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ويحتمل أن يكون ذلك على حسب التوزيع، فيكون الخزي في الدنيا إن عوقب، والعقاب في الآخرة إنْ سلم في الدنيامن العقاب، فتجري معصية الحرابة مجرى سائر المعاصي. وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب، ولكنْفي الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد. {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ظاهره أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ماترتب على الحرابة، وهذا فعل عليّ رضي الله عنه بحارثة بن بدر العراني فإنه كان محارباً ثم تاب قبل القدرةعليه، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً. وقالوا: لا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين،فإن طولب بدم نظر فيه أو قيد منه بطلب الولي، وإنْ طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي: يؤخذ ماوجد عنده من مال غيره، ويطالب بقيمة ما استهلك. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطالب بما استهلك، ويؤخذ ماوجد عنده بعينه. وحكى الطبري عن عروة: أنه لا تقبل توبة المحارب، ولكن لو فر إلى العدوّ ثم جاءنا تائباًلم أر عليه عقوبة. قال الطبري: ولا أدري هل أراد ارتد أم لا؟ وقال الأوزاعي نحوه، إلا أنه قال: إذالحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام، أو بقي عليه، ثم جاءنا تائباً من قبل أن نقدر عليه قبلت توبته.{رَّحِيمٌ يَـئَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُواْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَـٰهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها،أنه تعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً من العقوبات الأربع، والعذاب العظيم المعد لهمفي الآخرة، أمر المؤمنين بتقوى الله، وابتغاء القربات إليه، فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين. ولما كانتالآية نزلت في العرنيين والكلبيين، أو في أهل الكتاب اليهود، أو في المشركين على الخلاف في سبب النزول، وكل هؤلاءسعى في الأرض فساداً، نص على الجهاد، وإنْ كان مندرجاً تحت ابتغاء الوسيلة لأن به صلاح الأرض، وبه قوام الدين،وحفظ الشريعة، فهو مغاير لأم المحاربة، إذ الجهاد محاربة مأذون فيها، وبالجهاد يدفع المحاربون. وأيضاً ففيه تنبيه على أنه يجبأن تكون القوّة والبأس الذي للمحارب مقصوراً على الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن لا يضع تلك النجدة التي وهبهاالله له للمحاربة في معصية الله تعالى، وهل الوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها، أو الحاجة، أو الطاعة، أوالجنة، أو أفضل درجاتها، أقوال للمفسرين. وذكر رجاء الفلاح على تقدير حصول ما أمر به قبل من التقوى وابتغاء الوسيلةوالجهاد في سبيله. والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه، والفوز بالمرجوّ. {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِىٱلاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَا } لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة،وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا من الفلاح، شرح حال الكفار وعاقبه كفرهم، وما أعد لهم من العذاب. والجملة منلو وجوابها في موضع خبر إنّ، ومعنى ما في الأرض: من صنوف الأموال التي يفتدى بها، ومثله معطوف على اسمإن، ولام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن وهو لهم. والمعنى: لو أنّ ما في الأرض ومثله معه مستقرلهم على سبيل الملك ليجعلوه فدية لهم ما تقبل، وهذا على سبيل التمثيل ولزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل إلىنجاتهم منه. وفي الحديث يقال للكافر: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول: نعم. فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك ووجد الضمير في به، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف، وهوما في الأرض ومثله معه، إمّا لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد كما قالوا: رب يوم وليلة مرّ بي، وإما لإجراءالضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال: ليفتدوا بذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في: ومثله، بمعنى مع، فيوحد المرجوعإليه. (فإن قلت): فبم ينتصب المفعول معه؟ (قلت): بما تستدعيه لو من الفعل، لأن لو ثبت أنّ لهم ما فيالأرض انتهى. وإنما يوحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر، والحال، وعود الضمير متأخراً حكمة متقدماً، تقول:الماء والخشبة استوى، كما تقول: الماء استوى والخشبة وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول: الماء معالخشبة استويا، ومنع ذلك ابن كيسان. وقول الزمخشري: تكون الواو في: ومثله، بمعنى مع ليس بشيء، لأنه يصير التقدير معمثله معه، أي: مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض، إنْ جعلت الضمير في معه عائداً على مثلهأي: مع مثله مع ذلك المثل، فيكون المعنى مع مثلين. فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عيّ، إذ الكلام المنتظمأن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه. وقول الزمخشري. فإنْ قلت إلى آخر السؤال، وهذا السؤال لا يردّ،لأنّا قد بينا فساد أنْ تكون الواو واو مع، وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أنّ الواو إذا جاءتبعد لو كانت في موضع رفع على الفاعلية، فيكون التقدير على هذا: لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثلهلهم ليفتدوا به، فيكون الضمير عائداً على ما فقط. وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد في أنّأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية، وهو مذهب مرجوح. ومذهب سيبويه أنّ أنْ بعد لو في موضع رفععلى الابتداء. والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة،وعلى التفريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون ومثله مفعولاً معه، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل، وهوثبت بوساطة الواو لما تقدم من وجود لفظ معه. وعلى تقدير سقوطها لا يصح، لأنّ ثبت ليست رافعة لما العائدعليها الضمير، وإنما هي رافعة مصدراً منسبكاً من أن وما بعدها وهو كون، إذ التقدير: لو ثبت كون ما فيالأرض جميعاً لهم ومثله معه ليفتدوا به، والضمير عائد على ما دون الكون. فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه، إذلو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحباً للمثل، والمعنى: على كينونة ما في الأرض مصاحباً للمثل، لا علىثبوت ذلك مصاحباً للمثل، وهذا فيه غموض، وبيانه، أنك إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمر، أو جعلت عمراً مفعولاً معه،والعامل فيه يعجبني، لزم من ذلك أنّ عمراً لم يقم، وأنه أعجبك القيام وعمرو، وإن جعلت العامل فيه القيام كانعمرو قائماً، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحباً لقيام عمرو. (فإن قلت): هلا، كان ومثله معه مفعولاً معه، والعامل فيههو العامل في لهم، إذ المعنى عليه. (قلت): لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة، وعلى تقديرسقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أنّ قولك: هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وقال سيبويه: وأما هذا لك وأباك،فقبيح لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفاً فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فأفصح سيبويه بأن اسمالإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه، ولو كان أحدهما يجوز أن ينتصب المفعول معه لخيربين أن ينسب العمل لاسم الإشارة أو لحرف الجر. وقد أجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرفالجر، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله: معه، أن يكون ومثله مفعولاً معه على أنّ العاملفيه هو العامل في لهم. وقرأ الجمهور: ما تقبل مبنياً للمفعول. وقرأ يزيد بن قطيب: ما تقبل مبنياً للفاعل أي:ما تقبل الله منهم. وفي الكلام جملة محذوفة التقدير: وبذلوه وافتدوا به ما تقبل منهم، إذ لا يترتب انتفاء التقبلعلى كينونة ما في الأرض ومثله معه، إنما يترتب على بذل ذلك أو الافتداء به. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }هذا الوعيد هو لمن وافى على الكفر، وتبينه آية آل عمران

{ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ }

الآية وهذهالجملة يجوز أن تكون عطفاً على خبر: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ويجوز أن تكون عطفاً على

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }

وجوزوا أنْ تكون في موضع الحال وليس بقوي. {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } أي يرجون، أو يتمنون،أو يكادون، أو يسألون، أقوال متقاربة من حيث المعنى، والإرادة ممكنة في حقهم، فلا ينبغي أن تخرج عن ظاهرها. قالالحسن: إذا فارت بهم النار فروا من بأسها، فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون فيه، وذلك قوله: يريدون أن يخرجوا من النار.وقيل لجابر بن عبد الله: إنكم يا أصحاب محمد تقولون: إن قوماً يخرجون من النار والله تعالى يقول:

{ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا }

فقال جابر إنما هذا في الكفار خاصة. وحكى الطبري عن نافع بن الأزراق الخارجي أنه قاللابن عباس: يا أعمى البصر، يا أعمى القلب، أتزعم أن قوماً يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: وما همبخارجين منها؟ فقال له ابن عباس: إقرأ ما فوق هذه الآية في الكفار. وقال الزمخشري: وما يروى عن عكرمة أننافع بن الأزرق قال لابن عباس وذكر الحكاية، ثم قال: فمما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وافترائهم، وكفاك بما فيهمن مواجهة ابن الأزرق لابن عم رسول الله ﷺ وهو بين أظهر أعضاده من قريش، وأنضاده منبني عبد المطلب، وهو حبر هذه الأمة وبحرها، ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا، ويرفعهإلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية انتهى. وهو على عادته وسفاهته في سب أهل السنة، ومذهبه:أن من دخل النار لا يخرج منها. وقرأ الجمهور: أن يخرجوا مبنياً للفاعل، ويناسبه: وما هم بخارجين منها. وقرأ النخعي،وابن وثاب، وأبو واقد: أن يخرجوا مبنياً للمفعول. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي متأبد لا يحول. {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُفَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } قال السائب: نزلت في طعمة بن أبيرق، ومضت قصته في النساء. ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكرجزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ثم أمر بالتوقى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة،ثم ذكر حال الكفار، ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن، والأرجل بالسنة على ما يأتي ذكره، وهو أيضاًحرابة من حيث المعنى، لأنّ فيه سعياً بالفساد إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور. والسرقة على سبيلالاختفاء والتستر، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة، وهو ظاهر النص. يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى، شرقشيئاً مّا قليلاً أو كثيراً قطعت يده، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين منهم: الحسن، وهو مذهب الخوارجوداود. وقال داود ومن وافقه: لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة، بل أقل شيء يسمى مالاً، وفيأقل شيء يخرج الشح والضنة. وقيل: النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعداً، أو قيمتها من غيرها، روى ذلكعن: ابن عباس، وابن عمرو، أيمن الحبشي، وأبي جعفر، وعطاء، وابراهيم، وهو قول: الثوري، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، ومحمد.وقيل: ربع دينار فصاعداً، وروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول: الأوزاعي، والليث، والشافعي، وأبيثور. وقيل: خمسة دراهم وهو قول: أنس، وعروة، وسليمان بن يسار، والزهري. وقيل: أربعة دراهم وهو مروي عن أبي سعيدالخدري، وأبي هريرة. وقيل: ثلاثة دراهم وهو قول: ابن عمر، وبه قال مالك، وإسحاق، وأحمد، إلا إن كان ذهباً فلاتقطع إلا في ربع دينار. وقيل: درهم فما فوقه، وبه قال عثمان البتي. وقطع عبد الله بن الزبير في درهم.وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه. وقرأ الجمهور: والسارق والسارقة بالرفع. وقرأ عبد الله: والسارقون والسارقاتفاقطعوا أيمانهم، وقال الخفاف: وجدت في محصف أبيّ والسُّرق والسرقة بضم السين المشددة فيهما كذا ضبطه أبو عمرو. قال ابنعطية: ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه.والرفع في والسارق والسارقة على الابتداء، والخبر محذوف والتقدير: فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم، السارق والسارقة أي: حكمهما.ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله: فاقطعوا، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور،أي جملة صالحة لأداة الشرط. والموصول هنا ألْ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول، وما كان هكذا لا تدخل الفاءفي خبره عند سيبويه. وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني: أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ، والخبر جملة الأمر، أجرواأل وصلتها مجرى الموصول المذكور، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه: الذي سرق والتي سرقت. ولما كان مذهب سيبويهأنه لا يجوز ذلك، تأوله على إضمار الخبر فيصير تأوله: فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة. جملة ظاهرها أن تكونمستقلة، ولكن المقصود هو في قوله: فاقطعوا، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى. وقرأعيسى بن عمر وابن أبي عبلة: والسارقَ والسارقة بالنصب على الاشتغال. قال سيبويه: الوجه في كلام العرب النصب كما تقول:زيداً فاضربه، ولكنْ أبت العامة إلا الرفع، يعني عامة القراء وجلهم. ولما كان معظم القراء على الرفع، تأوله سيبويه علىوجه يصح، وهو أنه جعله مبتدأ، والخبر محذوف، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجاً على غير الوجه فيكلام العرب، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده. وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بنعمر المدعو بالفخر الرازي بن خطيب الري على سيبويه وقال عنه ما لم يقله فقال: الذي ذهب إليه سيبويه ليسبشيء، ويدل على فساده وجوه: الأول: أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول، وعن أعلام الأمة، وذلك باطل قطعاً.(قلت): هذا تقول على سيبويه، وقلة فهم عنه، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع، بل وجهها التوجيه المذكور، وأفهم أنّالمسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الاتبداء فيه، وكون جملة الأمر خبره، أو لم ينصب الاسم، إذ لوكانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيداً أضربه على ما تقرر في كلام العرب، فكون جمهور القراء عدلواإلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر، لأنه لا يجوز ذلك لأجلالفاء. فقوله: أبت العامة إلا الرفع تقوية لتخريجه، وتوهين للنصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لايجوز، إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال، وهنا لا يجوز ذلك لأجلالفاء الداخلة على الخبر، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب. فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر، فكيف يكونطاعناً في الرفع؟ وقد قال سيبويه: وقد يحسن ويستقيم: عبد الله فاضربه، إذا كان مبنياً على مبتدأ مضمر أو مظهر،فأما في المظهر فقولك: هذا زيد فاضربه، وإن شئت لم تظهر هذا ويعمل عمله إذا كان مظهراً وذلك قولك: الهلالوالله فانظر إليه، فكأنك قلت: هذا الهلال ثم جئت بالأمر. ومن ذلك قول الشاعر

: وقائلة خولان فانكح فتاتهم     واكرومة الحيين خلو كما هيا

هكذا سمع من العرب تنشده انتهى. فإذا كانسيبويه يقول: وقد يحسن ويستقيم. عبد الله فاضربه، فكيف يكون طاعناً في الرفع، وهو يقول: أنه يحسن ويستقيم؟ لكنه جوزهعلى أنّ يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر، كما تأوله في السارق والسارقة، أو خبر مبتدأ محذوف كقوله: الهلال والله فانظرإليه. وقال الفخر الرازي: (فإن قلت): ـ يعني سيبويه ـ لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول:القراءة بالنصب أولى، فنقول له: هذا أيضاً رديء، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر علىقراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود. (قلت): هذا السؤال لم يقله سيبويه، ولا هو ممنيقوله، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه؟ وأيضاً فقوله: لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بهاإلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين تشنيع، وإيهام أن عيسى بن عمر قرأهامن قبل نفسه، وليس كذلك، بل قراءته مستندة إلى الصحابة وإلى الرسول، فقراءته قراءة الرسول أيضاً، وقوله: وجميع الأمة، لايصح هذا الإطلاق لأنّ عيسى بن عمر وابراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هممن الأمة. وقال سيبويه: وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني، فأخبر أنها قراءة ناس. وقوله: وجميع الأمة لا يصحهذا العموم. قال الفخر الرازي: الثاني: من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه أن القراءة بالنصب لو كانت أولىلوجب أن يكون في القراء من قرأ:

{ وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَـئَاذُوهُمَا }

بالنصب، ولما لم يوجد في القراءة أحدقرأ كذلك، علمنا سقوط هذا القول. (قلت): لم يدّع سيبويه أنّ قراءة النصب أولى فيلزمه ما ذكر، وإنما قال سيبويه:وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلاالقراءة بالرفع. ويعني سيبويه بقوله: من القوة، لو عرى من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء، وجملةالأمر خبره، ولكن أبت العامة أي ـ جمهور القراء ـ إلا الرفع لعلة دخول الفاء، إذ لا يصح أن تكونجملة الأمر خبراً لهذا المبتدأ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع. ولذلك لما ذكر سيبويه اختيار النصب في الأمر والنهي،لم يمثله بالفاء بل عارياً منها. قال سيبويه: وذلك قولك: زيداً اضربه وعمراً أمرر به، وخالداً اضرب أباه، وزيداً اشترله ثوباً ثم قال: وقد يكون في الأمر والنهي أن يبني الفعل على الاسم وذلك قوله: عبد الله فاضربه، ابتدأتعبد الله فرفعت بالابتداء، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر. فإذا قلت:زيداً فاضربه، لم يستقم، لم تحمله على الابتداء. ألا ترى أنك لو قلت: زيد فمنطلق، لم يستقم؟ فهذا دليل علىأنه لا يجوز أن يكون مبتدأ يعني مخبراً عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء الجائز دخولها على الخبر. ثم قال سيبويه:فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره. لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء، أجازنصبه على الاشتغال، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ. وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه: أنالجملة الواقعة أمراً بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب ويجوز فيه الابتداء، وجملة الأمر خبره، فإنْ دخلت عليه الفاءفإمّا أنْ تقدرها الفاء الداخلة على الخبر، أو عاطفة. فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسممبتدأ وجملة الأمر خبره، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى اسم الشرط لشبهه به، وله شروط ذكرت في النحو. وإنكانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعاً، إما مبتدأ كما تأول سيبويه في قوله: والسارق والسارقة، وإما خبر مبتدأ محذوف كماقيل: القمر والله فانظر إليه. والنصب على هذا المعنى دون الرفع، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليهابالفاء، وإلى حذف الفعل الناصب، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها. فإذا قلت زيداً فاضربه، فالتقدير: تنبه فاضرب زيداً اضربه.حذفت تنبه، وحذفت اضرب، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر. وكان الرفع أولى، لأنه ليس فيه لا حذف مبتدأ، أوحذف خبر. فالمحذوف أحد جزئي الإسناد فقط، والفاء واقعة في موقعها، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام والمعنى. قال سيبويه:وأما قوله عز وجل:

{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا }

{ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }

فإنّهذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى:

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ }

ثم قالبعد فيها:

{ أَنْهَارٌ * فِيهَا }

كذا وكذا، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده، وذكر بعد أخبار وأحاديث كأنهقال: ومن القصص مثل الجنة أو مما نقص عليكم مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار أو نحوه والله أعلم.وكذلك الزانية والزاني لما قال تعالى:

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا }

قال في الفرائض:

{ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى * أَوْ *ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى }

في الفرائض ثم قال: فاجلدوا، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع كما قال: وقائلة خولان فانكحفتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير، وكذلك السارق والسارقة. كأنه قال: مما فرض عليكم السارق والسارقة، أو السارقوالسارقة فيما فرض عليكم. وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى. فسيبويه إنما اختار هذا التخريج لأنه أقلكلفة من النصب مع وجود الفاء، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ، لأن سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة.فالآيتان عنده من باب زيد فاضربه، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين. وقول الرازي: لوجب أن يكونفي القراء من قرأ:

{ وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا مِنكُمْ فَـئَاذُوهُمَا }

بالنصب إلى آخر كلامه، لم يقل سيبويه أن النصب فيمثل هذا التركيب أولى، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب واللذان يأتيانها، بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله:والسارق والسارقة، لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف وهو قوله:

{ وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مِن نّسَائِكُمْ }

فخرجسيبويه الآية على الإضمار. وقال سيبويه: وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء، أوتوصي، ثم تقول: زيد أي زيد فيمن أوصى فأحسن إليه وأكرمه، ويجوز في: واللذان يأتيانها منكم، أن يرتفع على الابتداء،والجملة التي فيها الفاء خبر لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره لشبهه باسم الشرط، بخلافقوله: والسارق والسارقة، فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط، فلا يشبهبه في دخول الفاء. قال الفخر الرازي: الثالث يعني: من وجوه فساد قول سيبويه إنا إنما قلنا السارق والسارقةمبتدأ، وخبره هو الذي يضمره، وهو قولنا: فيما يتلى عليكم، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله: فاقطعوا أيديهما. (قلت):تقدم لنا حكمه المجيء بالفاء وما ربطت، وقد قدره سيبويه: ومما فرض عليكم السارق والسارقة، والمعنى: حكم السارق والسارقة، لأنهاآية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم، فناسب تقدير سيبويه. وجيء بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى، والثانية جاءت موضحة للحكمالمبهم فيما قبل ذلك. قال الفخر الرازي: فإن قال ـ يعني سيبويه ـ الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله:والسارق والسارقة، يعني: أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده، فنقول: إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول السارق والسارقة تقديرهمن سرق، فاذكر هذا أولاً حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته. (قلت): هذا لا يقوله سيبويه، وقد بينا حكمالفاء وفائدتها. قال الفخر الرازي: الرابع: يعني من وجوه فساد قول سيبويه إذا اخترنا القراءة بالنصب، لم تدل علىأنّ السرقة علة لوجوب القطع. وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم إنّ هذا المعنى متأكد بقوله: جزاءبما كسبت، فثبت أن القراءة بالرفع أولى. (قلت): هذا عجيب من هذا الرجل، يزعم أنّ النصب لا يشعر بالعلة الموجبةللقطع ويفيدها الرفع، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم؟ فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب لوقلت: السارق ليقطع، أو اقطع السارق، لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل. وكذلك الزاني ليجلد، أو اجلد الزاني. ثمقوله: إن هذا المعنى متأكد بقوله: جزاء بما كسباً، والنصب أيضاً يحسن أن يؤكد بمثل هذا، لو قلت: اقطع اللصجزاء بما كسب صح. وقال الفخر الرازي: الخامس: يعني من وجوه فساد قول سيبويه، أن سيبويه قال: وهم يقدمونالأهم فالأهم. والذي هم ببيانه أعني: فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكونأكثر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث أنه سارق، وأمّا القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكونالعناية ببيان القطع أثم من العناية بكونه سارقاً. ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقةوالمبالغة في الزجر عنها، فثبت أنّ القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً. (قلت): الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذيبيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول. قال سيبويه: فإن قدمت المفعول وأخرتالفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول يعني: في ضرب عبد الله زيداً قال: وذلك ضرب زيداً عبد الله، لأنكإنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه وإن كان مؤخراً في اللفظ،فمن ثم كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدماً، وهو عربي جيد كثير كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم، وهمببيانه أعني: وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم انتهى. والرازي حرف كلام سيبويه وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه وهوالمبتدأ والخبر، فإنه ليس فيه إلا نسبة واحدة بخلاف الفاعل والمفعول، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر منصدر منه الضرب فيقدم الفاعل، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول، لأن نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما.وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده. وما ذكره الرازيلا يتفرع على كلام سيبويه بوجه، والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتاباً سماه المحرر،وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو ومن مقاصدهم، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية، وقدسمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف ويقول: إنه ليس جارينا على مصطلح القوم، وإنْ ما سلكه فيذلك من التخليط في العلوم، ومن غلب عليه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن أو قريباً منهمن هذا المعنى، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتابويستزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله. وكان أبو جعفر يقول: لكل علم حد ينتهيإليه، فإذا رأيت متكلماً في فن مّا ومزجه بغيره فاعلم أنّ إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه، وإما أنيكون من قلة محصوله وقصوره في ذلك العلم، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه. وقال الزمخشري بعد أن ذكرمذهب سيبويه في إعراب والسارق والسارقة ما نصه: ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر فاقطعوا أيديهما، ودخول الفاء لتضمنهامعنى الشرط، لأن المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما، والاسم الموصول تضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب،وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر، لأن زيداً فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى. وهذا الوجه الذي أجازه وإنكان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط، ولا بما قام مقامهامن ظرف أو مجرور، بل الموصول هنا ال وصلة، ال لا تصلح لأداة الشرط، وقد امتزج الموصول بصلته حتى صارالإعراب في الصلة بخلاف الظرف والمجرور، فإن العامل فيهما جملة لا تصلح لأداة الشرط. وأما قوله: في قراءة عيسى، إنسيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه أنهما تركيبان: أحدهما زيداً اضربه، والثاني زيدفاضربه. فالتركيب الأول اختار فيه النصب، ثم جوزوا الرفع بالابتداء. والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء، وتكون الجملة الأمرية خبراًله لأجل الفاء. وأجاز نصبه على الاشتغال، أو على الإغراء، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان، ويكون زيدخبر مبتدأ محذوف أي: هذا زيد فاضربه، ثم ذكر الآية فخرجها على حذف الخبر، ودل كلامه أنّ هذا التركيب هولا يكون إلا على جملتين: الأولى ابتدائية، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ولم يرجحها على قراءة العامة، إنما قال: وهيفي العربية على ما ذكرت لك من القوة أي: نصبها على الاشتغال أو الإغراء، وهو قوي لا ضعيف، وقد منعسيبويه رفعه على الابتداء، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء. وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره، أوخبر حذف مبتدئه، وبين نصبه على الاشتغال بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمارأخرى، وزحلقة الفاء عن موضعها. وظاهر قوله: والسارق أنه لا يشترط حرز للمسروق، وبه قال: دواود، والخوارج. وذهب الجمهورإلى أنّ شرط القطع إخراجه من الحرز، ولو جمع الثياب في البيت ولم يخرجها لم يقطع. وقال الحسن: يقطع. والظاهراندراج كل من يسمى سارقاً في عموم والسارق والسارقة، لكن الإجماع منعقد على أنّ الأب إذا سرق من مال ابنهلا يقطع، والجمهور على أنه لا يقطع الابن. وقال عبد الله بن الحسن: إن كان يدخل عليهما فلا قطع، وإنكانا ينهيانه عن الدخول قطع، ولا يقطع ذوو المحارم عند أبي حنيفة، ولا الأجداد من جهة الأب، والأم عند الجمهوروعند أشهب. وقال أبو ثور: يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد، إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع.وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها، ولا هو إذا سرق من مال زوجته. وقالمالك: يقطعان. والظاهر أنّ من أقرّ مرة بسرقة قطع، وبه قال: أبو حنيفة، وزفر، ومالك، والشافعي، والثوري. وقال ابن شبرمةوأبو يوسف وابن أبي ليلى: لا يقطع حتى يقر مرتين. وقال أبو حنيفة: لا يقطع سارق المصحف. وقال الشافعي، وأبويوسف، وأبو ثور، وابن القاسم: يقطع إذا كانت قيمته نصاباً. والظاهر قطع الطرار نصاباً وبه قال: مالك، والأوزاعي، وأبو ثور،ويعقوب، وهو قول الحسن: وذهب أبو حنيفة، ومحمد، وإسحاق إلى أنه إن كانت الدراهم مصرورة في كمه لم يقطع، أوفي داخله قطع. واختلف في النبّاش إذا أخذ الكفن، فقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، ومحمد: لا يقطع، وهو قول ابنعباس ومكحول. وقال الزهري: أجمع أصحاب رسول الله ﷺ في زمن كان مروان أميراً على المدينة أنّالنباش يعزر ولا يقطع، وكان الصحابة متوافرين يومئذ. وقال أبو الدرداء، وابن أبي ليلى، وربيعة، ومالك، والشافعي، وأبو يوسف: يقطع،وهو مروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومسروق، والحسن، والنخعي، وعطاء، والظاهر أنه إذا كرّر السرقة فيالعين بعد القطع فيها لم يقطع، وبه قال الجمهور.. وقال أبو حنيفة: لا يقطع، وأنه إذا سرق نصاباً منسارق لا يقطع، وبه قال الشافعي. وقال مالك: قطع والمخاطب بقوله:

{ فَٱقْطَعُواْ }

الرسول أو ولاة الأمر كالسلطان، ومنأذن له في إقامة الحدود، أو القضاة والحكام، أو المؤمنون، ليكونوا متظافرين على إقامة الحدود أقوال أربعة. وفصل بعض العلماءفقال: إن كان في البلد إمام أو نائب له فالخطاب متوجه إليه، فإنْ لم يكن وفيها حاكم فالخطاب متوجه إليه،فإن لم يكن فإلى عامة المؤمنين، وهو من فروض الكفاية إذ ذاك، إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. والظاهرمن قوله: فاقطعوا أيديهما أنه يقطع من السارق الثنتان، لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر، وإنما يقطع من السارق يمناه،ومن السارقة يمناها. قال الزمخشري: أيديهما يديهما ونحوه:

{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }

اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف،وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم انتهى. وسوى بين أيديهما وقلوبكما وليسا بشيئين، لأن بابصغت قلوبكما يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية، وهو ما كان اثنين من شيئين كالقلب والأنف والوجه والظهر، وأمّا إنكان في كل شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين فإن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد، وإنما يحفظ ولا يقاسعليه. لأن الذهن إنما يتبادر إذا أطلق الجمع لما يدل عليه لفظه، فلو قيل: قطعت آذان الزيدين، فظاهره قطع أربعةالآذان، وهو استعمال اللفظ في مدلوله. وقال ابن عطية: جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة، وهي المعرّضةللقطع في السرقة، وللسراق أيد، وللسارقات أيد، كأنه قال: اقطعوا إيمان النوعين، فالتثنية للضمير إنما هي للنوعين. وظاهر قوله: أيديهما،أنه لا يقطع الرجل، فإذا سرق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق عزّر وحبس،وهو مذهب مالك والجمهور، وبه قال: أبو حنيفة والثوري. وقال عليّ، والزهري، وحماد بن أبي سلمة، وأحمد: تقطع يده اليمنى،ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق عزّر وحبس. وروي عطاء: لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنىفقط، ثم إن سرق عزّر وحبس. وقال الشافعي: إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى، ثم في الثانية رجله اليسرى، ثمفي الثالثة يده اليسرى، ثم في الرابعة رجله اليمنى، وروي هذا عن عمر. قيل: ثم رجع إلى قول عليّ. وظاهرقطع اليد أنه يكون من المنكب من المفصل. وروي عن عليّ: أنه في اليد من الأصابع، وفي الرّجل من نصفالقدم وهو معقد الشراك. وروي مثله عن عطاء، وأبي جعفر. وقال أبو صالح السمان: رأيت الذي قطعه عليّ مقطوعاً منأطراف الأصابع، فقيل له: من قطعك؟ قال: خير الناس. والظاهر أنّ المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط. فإن كانالمال قائماً بعينه أخذه صاحبه، وإن كان السارق استهلكه فلا ضمان عليه، وبه قال: مكحول، وعطاء، والشعبي، وابن سيرين، والنخعيفي قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الحسن، والزهري، والنخعي في قول حماد، وعثمان البتي، والليث، والشافعي، وأحمد وإسحاق: يضمن ويغرم.وقال مالك: إن كان موسراً ضمن أو معسراً فلا شيء عليه. {جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـٰلاً مّنَ ٱللَّهِ } قالالكسائي: انتصب جزاء على الحال. وقال قطرب: على المصدر، أي: جازاهم جزاء. وقال الجمهور: هو على المفعول من أجله، وبمامتعلق بجزاء، وما موصولة أي: بالذي كسباه. ويحتمل أن تكون مصدرية أي: جزاء بكسبهما، وانتصاب نكالاً على المصدر، أو علىأنه مفعول من أجله. والعذاب: النكال، والنكل القيد تقدّم الكلام فيه في قوله:

{ فَجَعَلْنَـٰهَا نَكَـٰلاً }

وقال الزمخشري: جزاءونكالاً مفعول لهما انتهى، وتبع في ذلك الزجا. قال الزجاج: هو مفعول من أجله يعني جزاء. قال: وكذلك نكالاً منالله انتهى. وهذا ليس بجيد. إلا إذا كان الجزاء هو النكال، فيكون ذلك على طريق البدل. وأما إذا كانا متباينينفلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف. {وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ } قيل: المعنى عزيز في شرعالرّدع، حكيم في إيجاب القطع. وقيل: عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعصية، حكيم في فرائضه وحدوده. رويأنّ بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ: والسارق والسارقة إلى آخرها وختمها بقوله: والله غفور رحيم فقال: ما هذا كلام فصيح،فقيل له: ليس التلاوة كذلك، وإنما هي والله عزيز حكيم فقال: بخ بخ عز، فحكم، فقطع.

{ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة. وظلمه مضاف إلى الفاعل أي: من بعد أنظلم غيره بأخذ مال أو سرقة. قيل: أو مضاف إلى المفعول أي: من بعد أن ظلم نفسه. وفي جواز هذاالوجه نظر إذ يصير التقدير: من بعد أن ظلمه. ولو صرح بهذا لم يجز، لأن فيه تعدي الفعل الرافع الضميرالمتصل إلى الضمير المتصل المنصوب، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن، وفقد، وعدم. ومعنى يتوب عليه أي: يتجاوز عنهويقبل توبته. وظاهر الآية أنه بمجرد التوبة لا يقبل إلا إن ضم إلى ذلك الإصلاح وهو التنصل من التبعات بردهاإنْ أمكن، وإلا بالاستحلال منها، أو بإنفاقها في سبيل الله إن جهل صاحبها. والغفران والرحمة كناية عن سقوط العقوبة عنهفي الآخرة. قرأ الجمهور على أن الحد لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق، وهوأحد قولي الشافعي. وقال مجاهد: التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ *ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } لما ذكر تعالى تصرفه في أحكام المحاربين وأحكام السرّاق، ولميحاب ما ذكر من العقوبات عليهم، نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه، وملكه لا معقب لحكمه، فيعذب منيشاء عذابه وهم المخالفون لأمره، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون. والخطاب في ألم تعلم قيل: للنبي ﷺ،وقيل: لكل مكلف، وقيل: للمجترىء على السرقة وغيرها من المحظورات. فالمعنى: ألم تعلم أنّك عاجز عن الخروج عن ملكي، هارباًمني ومن عذابي، فلم اجترأت على ما منعتك منه؟ وأبعد من ذهب أنه خطاب اليهود كانوا بحضرة الرسول، والمعنى: ألمتعلموا أنه له ملك السموات والأرض، لا قرابة ولا نسب بينه وبين أحد حتى يحابيه، ويترك القائلين نحن أبناء اللهوأحباؤه. قال الزمخشري: من يشاء من يجب في الحكم تعذيبه والمغفرة له من المصرّين والتائبين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. وقديسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا نسقطه عن المسلم لأنفي إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة

{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ }

وقال ابن عباس والضحاك: يعذب من يشاء، أي منمات على كفره، ويغفر لمن يشاء ممن تاب عن كفره. وقيل: ذلك في الدنيا، يعذب من يشاء في الدنيا علىمعصيته بالقتل والخسف والسبي والأسر وإذهاب المال والجدب والنفي والخزي والجزية وغير ذلك، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبةعليه من كفره ومعصيته فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة. {وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } كثيراً ما يعقبهذه الجملة ما دل على التصرّف التام، والملك والخلق والاختراع، وهي في غاية المناسبة عقيب ما ذكروه من ذلك قولهتعالى:

{ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ }

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } * { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } * { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } * { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } * { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } * { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } * { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

السَّحْت والسحُت بسكون الحاء وضمها الحرام، سمي بذلك لأنه يسحت البركةأي يذهبها. يقال: سحته الله أي أهلكه، ويقال: أسحته، وقرىء بهما في قوله:

{ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ }

أي يستأصلكم يهلككم،ومنه قول الفرزدق

: وعض زمان يا ابن مروان لم يدع     من المال إلا مسحتاً أو مجلف

ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين، وسحت بإسكان الحاء. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع ويقال: فلان مسحوت المعدة إذاكان لا يلقى أبداً إلا خائفاً، وهو راجع لمعنى الهلاك. الحبر: بفتح الحاء وكسرها العالم، وجمعه الأحبار. وكان أبوعبيد ينكر ذلك ويقول: هو بفتح الحاء. وقال الفراء: هو بالكسر، واختار أبو عبيد الفتح. وتسمى هذه السورة سورة الأحبار،ويقال: كعب الأحبار. والحبر بالكسر الذي يكتب به، وينسب إليه الحبري الحبار. ويقال: كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به،وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه. وقيل: سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر.العين: حاسة الرؤية وهي مؤنثة، وتجمع في القلة على أعين وأعيان، وفي الكثرة على عيون. وقال الشاعر

: ولكنني أغدو عليّ مفاضة     دلاص كأعيان الجراد المنظم

ويقال للجاسوس: ذو العينين، والعينلفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون. الأنف: معروف والجمع آناف وأنف وأنوف. المهيمن: الشاهد الرقيب على الشيء الحافظله، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا: ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ: هيمن، وسيطر، وبيطر، وحيمر، وبيقر،ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب، ومعناه: سار من الحجاز إلى اليمن، ومن أفق إلى أفق. وهيمنبنا أصل. وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمناً اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال: فأصله مأمن قلبت الهمزةالثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا: اهراق في اراق، وهياك في إياك،وهذا تكلف لا حاجة إليه، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها. وأيضاً فالهمزة في مؤمن اسمفاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبةمن أنه تصغير مؤمن، وأبدلت همزته هاء، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول. واعلم أنّ أسماءالله تعالى لا تصغر. الشرعة: السنة والطريقة شرع يشرع شرعاً أي سنّ، والشارع الطريق الأعظم، ومنزل شارع إذا كان بابهقد شرع إلى طريق نافذ. المنهاج والمنهج: الطريق الواضح، ونهج الأمر استبان، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته، ونهجت الطريق سلكته.{قَدِيرٌ يأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } روي عنأبي هريرة وابن عباس وجماعة: أن سبب نزولها أنّ يهودياً زنى بيهودية، قيل: بالمدينة. وقيل: بغيرها من أرض الحجاز، فسألواالرسول ﷺ وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما، وكان في التوراة رجم، فأنكروا ذلك أن يكون فيالتوراة وافتضحوا إذ أحضروها، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه. وقال قتادة: السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة،فإن قتل قرظي نضيرياً قتل به، أو نضيري قرظياً أعطى الدية. وقيل: كانت دية القرظي على نصف دية النضيري، فلماجاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابنا عم، وطلبت الحكومة إلى الرسول ﷺ فقالت بنو النضير:إنْ حكم بما نحن عليه فخذوه، وإلا فاحذروا. وقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية.وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم، فأشارإلى حلقه بمعنى أنه الذبح. وقال الشعبي: نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر، فكلفوا رجلاً من المسلمينأن يسأل الرسول قالوا: فإنْ أفتى بالدية قبلنا، وإن أفتى بالقتل لم نقبل. وهذا نحو من قول قتادة في النضيروقريظة. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربونالله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهمبه وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض. ونصب المحاربة لله ولرسوله وغيرذلك من الرذائل الصادرة عنهم. ونداؤه تعالى له: يا أيها الرسول هنا، وفي

{ يَعْمَلُونَ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ }

وياأيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال:

{ أَجْمَعِينَ وَيَــئَادَمُ ٱسْكُنْ }

و

{ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ }

{ أَن يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا }

{ قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ }

{ *يا عيسى إني متوفيتك }

{ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ }

وقال مجاهد وعبد الله بن كثير: من الذين قالوا آمنابأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، هم اليهود المنافقون، وسماعون للكذب هم اليهود. والمعنى على هذا: لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفرواليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله، فإنّ ناصرك عليهم ويقال: أسرع فيه السبب، وأسرعفيه الفساد، إذا وقع فيه سريعاً. ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه. أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها، وتكونمن الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي: هم سماعون، والضميرعائد على المنافقين وعلى اليهود. ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك: سماعين، وانتصابه على الذم نحو قوله

: أقارع عوف لا أحاول غيرها     وجوه قرود تبتغي من تخادع

ويجوز أن يكون: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ } استئنافاً، وسماعون مبتدأ وهم اليهود، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى: أنهم لم يجاوز قولهمأفواههم، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: لا يحزنك المسارعون في الكفر مناليهود، وصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها، فهم يقولونبأفواههم: نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد صلى الله عليهوسلم وغير ذلك مما ينكرونه. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا { وَمَا أُوْلَـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } ويجيء على هذاالتأويل قوله: من الذين قالوا كأنه قال: ومنهم، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّلالتوراة على علم منها انتهى. وهو احتمال بعيد متكلف، وسماعون من صفات المبالغة، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إنكان للكذب مفعولاً من أجله، ويكون المعنى: إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك، وينقلون حديثك، ويزيدون معالكلمة أضعافها كذباً. وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله: سماعون، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل، فمعنى السماع هنا قبولهمما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم: الملك يسمع كلام فلان، ومنه سمع الله لمن حمده وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً. وقرأ السلمي: يسرعون بغير ألف من أسرع. وقرأ الحسنوعيسى بن عمر: للكذب بكسر الكاف وسكون الذال. وقرأ زيد بن عليّ: الكذب بضم الكاف والذال جمع كذوب، نحو صبوروصبر، أي: سماعون للكذب الكذب. {سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ } فيحتمل أن يكون المعنى: سماعون لكذب قوم آخرينلم يأتوك أي كذبهم، والذين لم يأتوه يهود فدك. وقيل: يهود خيبر. وقيل: أهل الرأبين. وقيل: أهل الخصام في القتلوالدية. ويحتمل أن يكون المعنى: سماعون لأجل قوم آخرين، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين، وهذاالوصف يمكن أن يتصف به المنافقون، ويهود المدينة. وقيل: السماعون بنو قريظة، والقوم الآخرون يهود خيبر. وقيل لسفيان بن عيينة:هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله؟ فقال: نعم. وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين، لم يأتوك: صفة لقوم آخرين.ومعنى لم يأتوك: لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء، فعلى هذا الظاهر أنالمعنى: هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. {يُحَرّفُونَٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } قرىء الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي: يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها.قال ابن عباس والجمهور: هي حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم أي: وضعوا الجلد مكان الرجم. وقال الحسن:يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه. وقيل: بإخفاء صفة الرسول. وقيل: بإسقاط القود بعد استحقاقه. وقيل: بسوءالتأويل. قال الطبري: المعنى يحرفون حكم الكلام، فحذف للعلم به انتهى. ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط، ويحتمل أنيكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت، وهذا هوالكذب الذي يقرب قبوله. ومعنى من بعد مواضعه: قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه.{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } الإشارة بهذا قيل: إلى التحميم والجلد في الزنا. وقيل: إلى قبول الدية فيأمر القتل. وقيل: على إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول. وقال الزمخشري: إن أوتيتم،هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق، واعملوا به انتهى. وهو راجع لواحد مما ذكرناه، والفاعل المحذوف هوالرسول أي: إن أتاكم الرسول هذا. {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } أي: وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم منقبوله فهو الباطل والضلال. وقيل: فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد. وقيل: أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به.وقيل: فاحذروا أن تسألوه بعدها، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله: فخذوه. فالمعنى: وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله.{وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } قال الحسن وقتادة: فتنته أي عذابه بالنار. ومنه يومهم على النار يفتنون أي يعذبون. وقال الزجاج: فضيحته. وقيل: اختباره لما يظهر به أمره. وقيل: إهلاكه. وقال ابن عباسومجاهد: كفره وإضلاله، يقال: فتنه عن دينه صرفه عنه، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه. وقال الزمخشري:ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى. وهذا على طريقة الاعتزال.وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر. وقطعاً لرجائه من فلاحهم. {أُوْلَـئِكَٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ } أي سبق لهم في علم الله ذلك، وأن يكونوا مدنسين بالكفر. وفيهذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة. وقال الزمخشري: أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يظهربه قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها. إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لايهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي. {لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ }أي ذل وفضيحة. فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزيةعليهم، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته. وقال مقاتل: خزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي بني النضير بإجلائهم.{وَلَهُمْ فِى ٱلاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له، أو لتزايد ألمه أو لهما. {سَمَّـٰعُونَلِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ } قال الحسن: يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هماليهود ويسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب ليس بنبي، وليس في التوراة الرجم، وهم يعلمون كذبهم. وقيل: الكذبهنا شهادة الزور انتهى. وهذا الصوف إن كان قوله أوّلاً: سماعون للكذب، وصفاً لبني إسرائيل. وتقدم أن السحت المالالحرام. واختلف في المراد به هنا، فعن ابن مسعود: أنه الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، والنرد،والخمر، والخنزير، والميتة، والدم، وعسب الفحل، وأجرة النائحة والمغنية، والساحر، وأجر مصوّر التماثيل، وهدية الشفاعة. قالوا وسمي سحتاً المال الحراملأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق: أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت.وعن الحسن: أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت. وقيل لعبد الله: كنا نرى أنه ماأخذ على الحكم يعنون الرشا، قال: ذلك كفر، قال تعالى:

{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم يعزل، وفي الحديث: كُلٌّ * لَحْمَ * نَّبَـٰتٍ * مِنْ * بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا وقال علي وأبو هريرة: كسب الحجاج سحت، يعني أنه يذهب المروءة، وما ذكر في معنى السحتفهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه. ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم، وهي المشار إليها في الآية.كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلهافي كمه فأراه إياها، وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وقرأ النحويان وابن كثير:السحت بضمتين. وقرأ باقي السبعة: بإسكان الحاء. وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع: بفتح السين وإسكان الحاء، وقرىءبفتحتين. وقرأ عبيد بن عمير: بكسر السين وإسكان الحاء، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض، وبالفتح والسكون مصدرأريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد، أو سكنت الحاء طلباً للخفة. {فَانٍ * جَاءوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي فإن جاؤك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم، أو تعرض. والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكامالمسلمين. وعن عطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والأصم، وأبي مسلم، وأبي ثور: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاؤا حكمواوإن شاؤا أعرضوا. وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وعطاء الخراساني، وعمر بن عبد العزيز، والزهري: التخيير منسوخ بقوله:

{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم. والمعنى عند غيرهم: وأن احكمبينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم. وعن أبي حنيفة: إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكمالإسلام، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة، والسارق من مسلم. وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهمقد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود، ويقولون: إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية. وقال ابن عطية: الأمةمجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك حبس السلع المبيعةوغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك جنس السلع المبيعة وغصب المال. فأمانوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، وإنما هي دعاء ومحتملة، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى. وفيه بعض تلخيص. وظاهرالآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم، ورضاهما يحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما. وقال ابن القاسم: لا بدمع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين، أو الخصمان دون الأساقفة، فليس له أن يحكم. وقالابن عباس، ومجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم: فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين، ثم الآية تتناول سائر النوازل. وقال قوم: فيقتيل اليهود من قريظة والنضير. وقال قوم: التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم. ومذهب الشافعي: أنه يجب على حاكم المسلمين أنيحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم، فأما المعاهدون الذين لهم معالمسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم، بل يتخير في ذلك، وهو التخيير الذي في الآية وهومخصوص بالمعاهدين. وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي. {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي أنت آمنمن ضررهم، منصور عليهم على كل حال. وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم، فالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهموأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه، فأمنه الله منهم، وأخبره أنهم ليسوا قادرينعلى شيء من ضرره. {وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ } أي: وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكمبين المسلمين. والقسط: هو المبين في قوله: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } وهو ﷺلا يحكم إلا بالقسط، فهو أمر معناه الخبر أي: فحكمك لا يقع إلا بالعدل، لأنك معصوم من اتباع الهوى.{إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } وأنت سيدهم، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم. وفيه حث على توخي القسط وإيثاره، حيثذكر الله أنه يحب من اتصف به. {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } هذا تعجيب من تحكيمهمإياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه. وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي، فليسواقاصدين حكم الله حقيقة، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده ﷺ رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاًلأهوائهم، وأنهماكاً في شهواتهم. ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لايؤمن به ولا بكتابه، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس علىوفق شهواتهم، فلأنْ يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى. والواو في: وعندهم، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر، وقوله: فيها. حكمالله، حال من التوراة، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي: كائناً فيها حكم الله. ويجوز أن يكون فيها فيموضع رفع خبراً عن التوراة كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. وأو لا محل له، وتكون جملة مبينة، لأن عندهمما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ وهذان الإعرابان للزمخشري. {ثُمَّيَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعدصدوره منهم، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به. وقال ابن عطية: من بعد ذلك، أي من بعد حكم الله فيالتوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى. وهذه الجملة مستأنفة أي: ثم هم يتولون بعد. وهيأخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا. قال الزمخشري: (فإن قلت): علامعطف ثم يتولون؟ (قلت): على يحكمونك انتهى. ويكون إذ ذاك داخلاً في الاستفهام الذي يراد به التعجب، أي ثمّ كيفيتولون بعد ذلك، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه، ثم من توليهم عنه. أي: كيف رضوا به ثم سخطوه؟.{وَمَا أُوْلَـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } ظاهره نفي الإيمان عنهم، أي: من حكم الرسول، وخالف كتابه، وأعرض عما حكم له، إذ وافىكتابه فهو كافر. وقيل: هو إخبار عنهم أنهم لا يؤمنون أبداً، فهو خبر عن المستقبل لا الماضي. وقيل: نفي الإيمانبالتوراة وبموسى عنهم. وقيل: هو تعليق بقوله: وكيف يحكمونك، أي اعجب لتحكيمهم إياك، وليسوا بمؤمنين بك، ولا معتقدين في صحةحكمك، وذلك يدل على أنهم إنما قصدهم تحصيل منافع الدنيا وأغراضهم الفاسدة دون اتباع الحق. {إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَاهُدًى وَنُورٌ } قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن: نزلت في الجاحدين حكم الله، وهي عامة في كل من جحدحكم الله. وقال البراء بن عازب: نزل { يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } في اليهود خاصة وذكرقصة رجم اليهوديين. وقيل لحذيفة: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } نزلت في بني إسرائيل؟قال نعم. وقال الحسن وأبو محلز وأبو جعفر: هي في اليهود. وقال الحسن: هي علينا واجبة. وقال قتادة: ذكر لناأن رسول الله ﷺ كان يقول لما نزلت هذه الآية: {نَحْنُ } وفي الآية ترغيب لليهود بأنيكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم. وقال جماعة: الهدى والنور سواء، وكرر للتأكيد. وقال قوم: ليسا سواء،فالهدى محمول على بيان الأحكام، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد. قال الزمخشري: يهدي للعدل والحق، ونور يبين ما استبهم منالأحكام. وقال ابن عطية: الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها. وقيل: المعنى فيها بيان أمرالرسول وما جاءوا يستفتون فيه. {وَمَا أُوْلَـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْلِلَّذِينَ هَادُواْ } ظاهر قوله: النبيون، الجمع. قالوا: وهم من لدن موسى إلى عيسى. وقال عكرمة: محمد ومن قبله منالأنبياء. وقيل: النبيون الذين هم على دين ابراهيم. وقال الحسن والسدي: هو محمد ﷺ، وذلك حين حكمعلى اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله: { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ * وَٱلَّذِينَ * أَسْلَمُواْ } وصف مدح الأنبياء كالصفاتالتي تجري على الله تعالى، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى، حيث قالت اليهود: إن الأنبياء كانوا يهوداً، والنصارى قالت: كانوانصارى، فبين أنهم كانوا مسلمين، كما كان ابراهيم عليه السلام. ولذلك جاء: { هو سماكم المسلمين من قبل } ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً. والظاهرأنّ الذين هادوا متعلق بقوله: يحكم بها النبيون. وقيل: بأنزلنا. وقيل: التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. وفيقوله: للذين هادوا، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين، بل هم بعداء من ذلك. واللام في للذين هادوا إذا علقن بيحكمللاختصاص، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه. وقيل: ثم محذوف أي: للذين هادوا وعليهم. وقيل: اللام بمعنى على، أيعلى الذين هادوا. {*} ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام، وأنه كاندين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً. والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله: يحكم بها النبيون. وقيل: بأنزلنا. وقيل: التقدير هدى ونورللذين هادوا يحكم بها النبيون. وفي قوله: للذين هادوا، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين، بل هم بعداء من ذلك. واللامفي للذين هادوا إذا علقن بيحكم للاختصاص، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه. وقيل: ثم محذوف أي: للذين هادواوعليهم. وقيل: اللام بمعنى على، أي على الذين هادوا. {وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلاْحْبَارُ } هما بمعنى واحد، وهم العلماء. قاله الأكثرونومنهم: ابن قتيبة والزجاج. وقال مجاهد: الربانيون الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار الفقهاء. وقال ابنزيد: الربانيون الولاة، والأحبار العلماء. وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علما اليهود، وقد تقدم شرح الرباني. وقال الزمخشري: والربانيون والأحبارالزهاد، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا، دين اليهود. وقال السدي: المراد هنا بالربانيين والأحبار الذين يحكمونبالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانياً، والآخر حبراً، وكانا قد أعطيا النبي عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمرالتوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه، فنزلت الآية مشيرة إليهما. قال ابن عطية: وفيهذا نظر. والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام، وإنما اللفظ فيكل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان، وأما في مدة محمد ﷺ فلو وجد لأسلم، فلم يسمحبراً ولا ربانياً انتهى. {بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } الباء في بما للسبب، وتتعلق بقوله: يحكم. واستفعل هناللطلب، والمعنى: بسبب ما استحفظوا. والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي: بسبب ما طلب الله منهم حفظهملكتاب الله وهو التوراة، وكلفهم حفظها، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها، وقد أخذ الله على العلماء حفظالكتاب من وجهين: أحدهما: حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم. والثاني: حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه. وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتىتبدلت التوراة. وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة، بل طلبمنهم حفظها وكلفهم بذلك، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه، فلا يمكن أنيقع فيه تبديل ولا تغيير. قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ }

وقيل: الضمير في استحفظواعائد على الربانيين والأحبار فقط. والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء. {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } الظاهر أنّ الضمير عائد علىكتاب الله أي: كانوا عليه رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبيللذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله ﷺ منحملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد. وقيل: الهاء تعود على الحكم أي: وكانوا شهداءعلى الحكم. وقيل: عائد على الرسول أي: وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل. {فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْبِـئَايَـٰتِى ثَمَناً قَلِيلاً } هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروابه من العدل بخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء. ولا تستعطوا بآيات الله ثمناً قليلاً وهوالرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا. وهذانهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه: لا تخشوا الناسفي إظهار صفة محمد ﷺ والعمل بالرجم، واخشون في كتمان ذلك. ولما كان الإقدام على تغيير أحكامالله سببه شيئآن: الخوف، والرغبة، وكان الخوف أقوى تأثيراً من الرغبة، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع.والظاهر أنّ هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية، والقول لعلماء بني إسرائيل. وقال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة قيل لهم: لاتخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، واخشوني في كتمانه انتهى. وهذا وإن كان خطاباً لعلماء بني إسرائيل، فإنه يتناول علماءهذه الأمة. وقال ابن جريج: هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق.{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } ظاهر هذا العموم، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كانقبلهم، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود، وإلى أنها عامة في اليهود غيرهم. ذهب ابن مسعود، وابراهيم، وعطاء،وجماعة ولكنْ كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق يعني: إنّ كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر، وكذلكظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله: ابن عباس وطاووس. وقال أبو مجلز: هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشركوفيهم نزلت. وبه قال: أبو صالح قال: ليس في الإسلام منها شيء. وروي في هذا حديث عن البراء عن رسولالله ﷺ: {أَنَّهَا * ٱلثَّلَـٰثَةِ * فِى * ٱلْكَـٰفِرِينَ } قال عكرمة، والضحاك: هي في أهل الكتاب،وقاله: عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال: إنّ بشراً من الناسيتأوّلون الآيات على ما لم تنزل عليه، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير، وذكر حكايةالقتل بينهم. وقال الحسن: نزلت في اليهود وهي علينا واجبة. وقيل لحذيفة: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال: نعم،الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك، وعن ابن عباس، واختارهابن جرير: إنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم، وما كان منمرّ فهو لأهل الكتاب. من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق. وعن الشعبي:الكافرون في أهل الإسلام، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى. وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه، إذ قبل الأولى:

{ فَانٍ * جَاءوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ }

و

{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم }

و

{ كَيْفَ * يُحَكّمُونَكَ }

و

{ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ }

وقبل الثانية:

{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا }

وقبل الثالثة:

{ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }

الآية. وقال الزمخشري: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به، فأولئك هم الكافرونوالظالمون والفاسقون، وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها انتهى. وقال السدّي:من خالف حكم الله وتركه عامداً وتجاوزه وهو يعلم، فهو من الكافرين حقاً، ويحمل هذا على الجحود، فهو الكفر ضدالإيمان كما قال: ابن عباس. واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر، وقالوا: هينص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل اللهفوجب أن يكون كافراً. وأجيبوا: بأنها نزلت في اليهود، فتكون مختصة بهم. وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.ومنهم من قال: تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل، وهذا ضعيف، لأنّ منشرط وهي عام، وزيادة ما قدر زيادة في النقص، وهو غير جائز. وقيل: المراد كفر النعمة، وضعف بأنّ الكفر إذاأطلق انصرف إلى الكفر في الدّين. وقال ابن الأنباري: فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وضعف بأنه عدول عن الظاهر. وقالعبد العزيز بن يحيـى الكناني: ما أنزل صيغة عموم، فالمعنى: من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله،والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق. وضعف بأنه لوكان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم. وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناولاليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم، فدل على سقوطه هذا. وقال عكرمة: إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحدبلسانه، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاد، فهو حاكم بماأنزل الله، لكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية. {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِوَٱلاْنْفَ بِٱلاْنْفِ وَٱلاْذُنَ بِٱلاْذُنِ وَٱلسّنَّ بِٱلسِنّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أنحكم الزاني المحصن الرجم، وغيره اليهود، وبين هنا أنّ في التوراة: أن النفس بالنفس وغيره اليهود أيضاً، ففضلوا بني النضيرعلى بني قريظة، وخصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير. ومعنى وكتبنا: فرضنا. وقيل: قلنا والكتابة بمعنى القولويجوز أن يراد الكتابة حقيقة، وهي الكتابة في الألواح، لأن التوراة مكتوبة في الألواح، والضمير في فيها عائد على التوراة،وفي: عليهم، على الذين هادوا. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم: بنصب، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أنّالنصب، وخبر أنّ هو المجرور، وخبر والجروح قصاص. وقدَّر أبو عليّ العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات، وقدرهالزمخشري أولاً: مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق، وكذلك العين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مأخوذة مقطوعةبالأذن، والسن مقلوعة بالسن. وينبغي أن يحمل قول الزمخشري: مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب،لأن المجرور إذا وقع خبراً لا بد أن يكون العامل فيه كوناً مطلقاً، لا كوناً مقيداً. والباء هنا باء المقابلةوالمعاوضة، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ. فإذا قلت: بعت الشاء شاة بدرهم، فالمعنى مأخوذ بدرهم، وكذلك الحربالحر، والعبد بالعبد. التقدير: الحر مأخوذ بالحر، والعبد مأخوذ بالعبد. وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم. وقالالحوفي: بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره: يجب، أو يستقر. وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق، والمعنى: يستقر قتلهابقتل النفس. وقرأ الكسائي: برفع والعين وما بعدها. وأجاز أبو عليّ في توجيه الرفع وجوهاً. الأول: أنّ الواو عاطفة جملةعلى جملة، كما تعطف مفرداً على مفرد، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي: وكتبنا، فلا تكونتلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداءتشريع. الثاني: أنّ الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله: إن النفس بالنفس، أي: قل لهم النفس بالنفس، وهذا العطفهو من العطف على التوهم، إذ يوهم في قوله: إن النفس بالنفس، إنه النفس بالنفس، والجمل مندرجة تحت الكتب منحيث المعنى، لا من حيث اللفظ. الثالث: أن تكون الواو عاطفة مفرداً على مفرد، وهو أن يكون: والعين معطوفاً علىالضمير المستكن في الجار والمجرور، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها. وتكون المجرورات على هذا أحوالاً مبينة للمعنى، لأنالمرفوع على هذا فاعل، إذ عطف على فاعل. وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان: لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم،وهو لا ينقاس، إنما يقال منه ما سمع. والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينهوبين حرف العطف، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة، وفيه لزوم هذهالأحوال. والأصل في الحال أن لا تكون لازمة. وقال الزمخشري: الرفع للعطف على محل: أنّ النفس، لأن المعنى: وكتبنا عليهمالنفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما أنّ معنى الجملة التي هي قولك: النفس بالنفس، مما يقع عليه الكتبكما تقع عليه القراءة يقول: كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. وكذلك قال الزجاج: لو قرىء أنّ النفس لكان صحيحاًانتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه، وهو أنمثل هذا لا يسمى عطفاً على المحل، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع، وهذا ليس من العطف علىالموضع، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه، وإنما هو عطف على التوهم. ألا ترى أنا لا نقولأن قوله: إنّ النفس بالنفس في موضع رفع، لأن طالب الرفع مفقود، بل نقول: إنّ المصدر المنسبك من أنّ واسمهاوخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب، والتقدير: وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس، إمّا لإجراء كتبنا مجرى قلنا، فحكيت بها الجملة:وإمّا لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأنّ الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات، ولا نقول:إن موضع أنّ النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار. وقرأ العربيان وابن كثير: بنصب والعين، والأنف، والأذن، والسن، ورفع والجروح.وروي ذلك عن: نافع. ووجه أبو علي: رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها. ورويأنس أن النبي ﷺ قرأ أنّ النفس بتخفيف أن، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين: أحدهما:أن تكون مصدرية مخففة من أنّ، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، والجملة في موضع رفع خبر أنّ فمعناها معنى المشدّدةالعاملة في كونها مصدرية. والوجه الثاني: أن تكون أن تفسيرية التقدير أي: النفس بالنفس، لأن كتبنا جملة في معنى القول.وقرأ أبيّ بنصب النفس، والأربعة بعدها. وقرأ: وأنْ الجروح قصاص بزيادة أن الخفيفة، ورفع الجروح. ويتعين في هذه القراءة أنتكون المخففة من الثقيلة، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشدّدة غيرعاملة من حيث التفسيرية، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك. وقرأ نافع: والأذن بالأذْنبإسكان الذال معرفاً ومنكراً ومثنى حيث وقع. وقرأ الباقون: بالضم. فقيل: هما لغتان، كالنكر والنكر. وقيل: الإسكان هو الأصل، وإنماضم اتباعاً. وقيل: التحريك هو الأصل، وإنما سكن تخفيفاً. ومعنى هذه الآية: أن الله فرض على بني إسرائيل أنّمن قتل نفساً بحد أخذ نفسه، ثم هذه الأعضاء كذلك، وهذا الحكم معمول به في ملتنا إجماعاً. والجمهور على أنّقوله أنّ النفس بالنفس عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وقال قوم: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، وبه قال أبوحنيفة: وأجمعوا على أنّ المسلم لا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي، ولا يقتل والد بولده، ولا سيد بعبده. وتقتل جماعة بواحدخلافاً لعلي، وواحد بجماعة قصاصاً، ولا يجب مع القود شيء من المال. وقال الشافعي: يقتل بالأول منهم وتجب دية الباقين،قد مضى الكلام في ذلك في البقرة في قوله:

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى }

الآية. وقال ابن عباس:كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت. وقال أيضاً: رخص الله تعالى لهذه الأمة ووسع عليها بالدية، ولم يجعل لبني إسرائيلدية فيما نزل على موسى وكتب عليهم. وقال الثوري: بلغني عن ابن عباس أنه نسخ

{ ٱلْحُرُّ بِالْحُرّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ }

قوله: أن النفس بالنفس، والظاهر في قوله: النفس بالنفس العموم، ويخرج منه ما يخرج بالدليل، ويبقى الباقي علىعمومه. والظاهر في قوله: العين بالعين فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عنين، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، ورويعن عثمان وعمر في آخرين: أن عليه الدية. وقال مالك: إن شاء فقأ وإن شاء أخذ الدية كاملة. وبه قال:عبد الملك بن مروان، وقتادة، والزهري، والليث، ومالك، وأحمد، والنخعي. وروى نصف الدية عن: عبد الله بن المغفل، ومسروق، والنخعي،وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والشافعي. قال ابن المنذر: وبه نقول. وتفقأ اليمنى باليسرى، وتقلع الثنية بالضرس، وعكسهما لعموماللفظ، وبه قال ابن المنذر: وبه نقول. وتفقأ اليمنى باليسرى، وتقلع الثنية بالضرس، وعكسهما لعموم اللفظ، وبه قال ابن شبرمة.وقال الجمهور: هذا خاص بالمساواة، فلا تؤخذ يمنى بيسرى مع وجودها إلا مع الرضا. ولو فقأ عيناً لا يبصر بهافعن زيد بن ثابت: فيها مائة دينار، وعن عمر: ثلث ديتها. وقال مسروق، والزهري، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور،وابن المنذر: فيها حكومة. ولو أذهب بعض نور العين وبقي بعض، فمذهب أبي حنيفة: فيها الارش. وعن علي: اختبار بصره،ويعطى قدر ما نقص من مال الجاني. وفي الأجفان كلها الدية، وفي كل جفن ربع الدية قاله: زيد بنثابت، والحسن، والشعبي، وقتادة، وابراهيم، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي. وقال الشعبي: في الجفن الأعلى ثلث الدية، وفي الأسفل ثلثاها.واختلف فيمن قطع أنفاً هل يجري فيها القصاص أم لا؟ فقال أبو حنيفة: إذا قطعه من أصله فلا قصاصفيه، وإنما فيه الدية. وروي عن أبي يوسف: أن في ذلك القصاص إذا استوعب. واختلف في كسر الأنف: فمالك يرىالقود في العمد منه، والاجتهاد في الخطأ. وروي عن نافع: لا دية فيه حتى يستأصله. وروي عن علي: أنه أوجبالقصاص في كسرة. وقال الشافعي: إن جبر كسره ففيه حكومة، وما قطع من المارن بحسابه، وروي ذلك عن عمر بنعبد العزيز والشعبي، وبه قال الشافعي: وفي المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف الدية كاملة، قاله: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة،وأصحابه. والمارن ما لان من الأنف، والأرنبة والروثة طرف المارن. ولو أفقده الشم أو نقصه: فالجمهور على أنّ فيه حكومةعدل. والأذن بالأذن يقتضي وجوب القصاص إذا استوعب، فإن قطع بعضها ففيه القصاص إذا عرف قدره. وقال الشافعي: فيالأذنين الدية، وفي إحداهما نصفها. وقال مالك: في الأذنين حكومة، وإنما الدية في السمع، ويقاس نقصانه كما يقاس في البصر.وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها. والسن بالسن يتقضي أنّ القلع قصاص، وهذالا خلاف فيه، ولو كسر بعضها. والأسنان كلها سواء: ثناياها، وأنيابها، وأضراسها، ورباعياتها، في كل واحدة خمس من الإبل منغير فضل. وبه قال: عروة، وطاووس، وقتادة، والزهري، والثوري، وربيعة، والأوزاعي، وعثمان البتي، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.وروي عن علي، وابن عباس، ومعاوية. وروى ابن المسيب عن عمر: أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض وذلكخمسون ديناراً، كل فريضة عشر دنانير، وفي الأضراس بعير بعير. قال ابن المسيب: فلو أصيب الفم كله في قضاء عمرنقصت الدية، أو في قضاء معاوية زادت، ولو كنت إنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين. قال عمر: الأضراس عشرون، والأسناناثنا عشر: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربع أنياب. والخلاف إنما هو في الأضراس لا في الأسنان، ففي قضاء عمر الديةثمانون، وفي قضاء معاوية مائة وستون. وعلى قول ابن المسيب مائة، وهي الدية كاملة من الإبل. وقال عطاء في الثنيتينوالرباعيتين والنابين: خمس خمس، وفيما بقي بعيران بعيران، أعلى الفم وأسفله سواء. ولو قلعت سن صبي لم يثغر فنبتت فقالأبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا شيء على القالع. إلا أن مالكاً والشافعي قالا: إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربهاأخذ له من ارشها بقدر نقصها. وقالت طائفة: فيها حكومة، وروي ذلك عن الشعبي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. ولوقلعت سن كبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك: لا يرد ما أخذ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يرد، والقولان عنالشافعي. ولو قلعت سن قوداً فردها صاحبها فالتحمت فلا يجب قلعها عند أبي حنيفة، وبه قال عطاء الخراساني وعطاء بنأبي رباح. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: يجبر على القلع، به قال ابن المسيب، ويعيد كل صلاة صلاها بها. وكذا لوقطعت أذنه فردها في حرارة الدم فالتزقت، وروي هذا القول عن عطاء أبو بكر بن العربي قال: وهو غلط. ولوقلع سناً زائدة فقال الجمهور: فيها حكومة، فإن كسر بعضها أعطى بحساب ما نقص منها، وبه قال: مالك، وأبو حنيفة،والشافعي، وأحمد. قال الأدفوي: وما علمت فيه خلافاً. وقال زيد بن ثابت: في السن الزائدة ثلث السن، ولو جنى علىسن فاسودت ثم عقلها، روي ذلك عن زيد، وابن المسيب، وبه قال: الزهري، والحسن، وابن سيرين، وشريح، والنخعي، وعبد الملكبن مروان، وأبو حنيفة، ومالك، والثوري. وروي عن عمران: فيها ثلث ديتها، وبه قال: أحمد وإسحاق. وقال النخعي والشافعي وأبوثور: فيها حكومة، فإن طرحت بعد ذلك ففيها عقلها، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة، وإنْ اسود بعضهاكان بالحساب قاله: الثوري. والجروح قصاص أي ذات قصاص. ولفظ الجروح عام، والمراد به الخصوص، وهو ما يمكن فيهالقصاص. وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. ومدلول: والجروحقصاص، يقتضي أن يكون الجرح بمثله، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص. واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء، وبين العبدوالحر. وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله: والجروح قصاص، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرهاليتناول ما نص عليه وما لم ينص، فيحصل العموم. معنى: وإن لم يحصل لفظاً. ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكنفيه القصاص، فلا خلاف في وجوبها فيه، وما فلا قصاص فيه كالمأمومة. وقال أبو عبيد: فليس في شيء من الشجاجقصاص إلا في الموضحة خاصة، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهي إليه سواها، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديتهانتهى. وقال غيره: في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية، وأقاد ابن الزبير من المأمومة، وأنكر الناس عليه.قال عطاء: ما علمنا أحداً أقاد منها قبله. وأما الجروح في اللحم فقال: فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاصفيها ممكن بأن يقاس بمثل، ويوضع بمقدار ذلك الجرح. {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } المتصدق صاحب الحق.ومستو في القصاص الشامل للنفس والأعضاء وللجروح التي فيها القصاص، وهو ضمير يعود على التصدق أي: فالتصدق كفارة للتصدق، والمعنى:أنّ من تصدق بجرحه يكفر عنه، قاله: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمرو، وجابر،وأبو الدرداء، وقتادة، والحسن، والشعبي. وذكر أبو الدرداء أنه سمع النبي ﷺ يقول: من من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي: أنه يحط عنه من ذنوبه ما عفى عنه من الدية وعن عبد الله بن عمر: يهدم عنه ذنوبهبقدر ما تصدق. وقيل: الضمير في له عائد على الجاني وإنْ لم يتقدّم له ذكر، لكنه يفهم من سياق الكلام،ويدل عليه المعنى. والمعنى: فذلك العفو والتصدق كفارة للجاني يسقط عنه ما لزمه من القصاص. وكما أن القصاص كفارة كذلكالعفو كفارة، وأجر العافي على الله تعالى قاله: ابن عباس، والسبيعي، ومجاهد، وابراهيم، والشعبي، وزيد بن أسلم، ومقاتل. وقيل: المتصدقهو الجاني، والضمير في له يعود عليه. والمعنى: إذا جنى جان فجهل وخفى أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكنمن نفسه، فذلك الفعل كفارة لذنبه. وقال مجاهد: إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيبفهو كفارة للمصيب. وأصار عروة عند الركن إنساناً وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة: أنا أصبتك،وأنا عروة بن الزبير، فإن كان يلحقك بها بأس فأنابها. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون تصدق تفعل من الصدقة،ويحتمل أن يكون من الصدق. وقرأ أبي: فهو كفارة له يعني: فالتصدق كفارته، أي الكفارة التي يستحقها له لاينقص منها، وهو تعظيم لما فعل لقوله:

{ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ }

وترغيب في العفو. وتأول قوم الآية على معنى:والجروح قصاص، فمن أعطى دية الجرح وتصدق به فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت. وفي مصحف أبي: ومن يتصدقبه فإنه كفارة له. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين،لأنه جاء عقيب قوله:

{ إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }

الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكمبجميعها، بل يخالف رأساً. ولذلك جاء:

{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً }

وهذا كفر، فناسب ذكر الكافرين. وهنا جاءعقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية، وإشارة إلى ما كانوا قرروه منعدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة. {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ} مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ التوراة يحكم بها النبيون، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيهاً علىأنه من جملة الأنبياء، وتنويهاً باسمه، وتنزيهاً له عما يدعيه اليهود فيه، وأنه من جملة مصدقي التوراة. ومعنى: قفينا،أتينا به، يقفو آثارهم أي يتبعها. والضمير في آثارهم يعود على التبيين من قوله:

{ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ }

وقيل:على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام. وعلى آثارهم، متعلق بقفينا، وبعيسى متعلق به أيضاً. وهذا على سبيل التضمين أي: ثمجئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافياً لهم، وليس التضعيف في قفينا للتعدية، إذ لو كان للتعدية ما جاء معالباء المعدية، ولا تعدى بعلى. وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى:

{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }

وتقول: قفا فلان الأثر إذا اتبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين، وكان يكون التركيب: ثم قفيناعلى آثارهم عيسى ابن مريم، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول، وآثارهم المفعول الثاني، لكنه ضمن معنى جاء وعدى بالياء،وتعدى إلى آثارهم بعلى. وقال الزمخشري: قفيته مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال: قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثانيبزيادة الباء. (فإن قلت): فأين المفعول الأول في الآية؟ (قلت): هو محذوف، والظرف الذي هو على آثارهم كالسادّ مسده،لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى. وكلامه يحتاج إلى تأويل، وذلك أنه جعل قفيته المضعفبمعنى قفوته، فيكون فعل بمعنى فعل نحو: قدرالله،وقدر الله، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل، ثم عداه بالباء، وتعديةالمتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد. ولا يجوز فلا يقال: في طعم زيداللحم، أطعمت زيداً باللحم، والصحيح أنه جاء على قلة تقول: دفع زيد عمراً، ثم تعديه بالباء فتقول: دفعت زيداً بعمر.وأي: جعلت زيداً يدفع عمراً، وكذلك صك الحجر الحجر. ثم تقول: صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه. وأما قوله: المفعولالأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه، لأنّ المفعول هو مفعول به صريح، ولا يسد الظرف مسده، وكلامه مفهم التضمينوإن لم يصرح به. ألا ترى إلى قوله: لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه؟ وقول الزمخشري: فقدقفى به إياه فصل الضمير، وحقه أن يكون متصلاً، وليس من مواضع فصل لو قلت: زيد ضربت بسوط إيتاه لميجز إلا في ضرورة شعر، فإصلاحه زيد ضربته بسوط، وانتصب مصدقاً على الحال من عيسى. ومعنى: لما بين يديه، لماتقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله، كما أن الرسول بين يدي الساعة. وتقدم الكلام في هذا. وتصديقه إياها هو بكونهمقراً أنها كتاب منزل من الله حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها.{وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ } هذه الجملة معطوفة على قوله: وقفينا. وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاهكتاباً إلهيّاً. وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربياً. وقوله: فيه هدى ونور،في موضع الحال، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور، إذ قد اعتمد بأن. وقع حالاً لذي حال أي: كائناً فيههدى. ولذلك عطف عليه

{ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ }

والضمير في يديه عائد على الإنجيل، والمعنى: أنعيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل، والنبي المرسل المنزلعليه ذلك الكتاب. ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد، وعلىالإرشاد والدعاء إلى الله تعالى، وإلى إحياء أحكام التوراة، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكامالشريعة وتفاصيلها. قال ابن عطية: ومصدقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضعالحال انتهى. وإنما قال: إن مصدقاً، حال مؤكدة من حيث المعنى، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتاباً إلا هيا أنيكون مصدقاً للكتب الإلهية، لكن قوله: معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح،لأنّا قد بينا أنّ قوله: فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة، إذ قدرناه كائناً فيه هدىونور، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفرداً أو جملة، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكونذلك من القليل، لأنها جملة اسمية، ولم تأت بالواو، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير، لكن الأسْن والأكثرأن يأتي بالواو، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ، وإن كان ثم ضمير، وتبعه على ذلك الزمخشر. قالعلي بن أبي طالب: ومصدقاً معطوف على مصدقاً الأول انتهى. ويكون إذ ذاك حالاً من عيسى، كرره على سبيل التوكيد،وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعانى، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقاً. {وَهُدًىوَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } قرأ الضحاك: وهدى وموعظة بالرفع، وهو هدى وموعظة. وقرأ الجمهور: بالنصب حالاً معطوفة على قوله: ومصدقاً، جعلهأولاً فيه هدى ونور، وجعله ثانياً هدى وموعظة. فهو في نفسه هدى، وهو مشتمل على الهدى، وجعله هدى مبالغة فيهإذ كان كتاب الإنجيل مبشراً برسول الله ﷺ والدلالة منه على نبوته ظاهرة. ولما كانت أشد وجوهالمنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك، أعاد الله ذكر الهدى تقريراً وبياناً لنبوّة محمدﷺ، ووصفه بالموعظة لاشتمالهعلى نصائح وزواجر بليغة، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما قال تعالى:

{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }

فهم المقصودونفي علم الله تعالى، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدىوموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله: وليحكم. قال: كأنه قيل: وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل الله فيه منالأحكام. وينبغي أن يكون الهدي والموعظة مسندين في المعنى إلى الله، لا إلى الإنجيل، ليتحد المفعول من أجله مع العاملفي الفاعل، ولذلك جاء منصوباً. ولما كان: وليحكم، فاعله غير الله، أتى معدي إليه بلام العلة. ولاختلاف الزمان أيضاً، لأنالإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء، فعدى أيضاً لذلك باللام، وهذا الذي أجازهالزمخشري خلاف الظاهر. قال الزمخشري: فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله: وليحكم؟ (قلت): أصنع به كماصنعت بهدى وموعظة، حين جعلتهما مفعولاً لهما، فأقدر: ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى. وهو جواب واضح.{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ } أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه منالأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية، وقلنا لهم: احكموا، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لايمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد ﷺ، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، أو بما أنزل اللهفيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله ﷺ وهو قول الأصم، أو بخصوص الزمان إلى بعثةرسول الله ﷺ، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره. فالمعنى: وليقرأه أهلالإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه، وهذا بعيد. وظاهر الأمر يرد قول من قال: إن عيسى كانمتعبداً بأحكام التوراة. وقال تعالى:

{ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً }

ولهذا القائل أن يقول: بما أنزل الله فيهمن إيجاب العمل بأحكام التوراة. والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة، وهنما أكثره زواجر. وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراةأمروا بالعمل بها، ولهذا جاء:

{ وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ }

وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمرساكنة، وبعض القراء يكسرها. وقرأ أبيّ: وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به. وقالابن عطية: والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى. فعطف وليحكم علىتوهم علة ولذلك قال: ليتضمن الهدى. والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال: وللهديوالموعظة وللحكم أي: جعله مقطوعاً مما قبله، وقدر العامل مؤخراً أي: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه.وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة، إنما جيء بقوله: فيههدى ونور، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحال، والحال لا يكون علة. فقول ابن عطية: ليتضمن كيتوكيت، وليحكم، بعيد. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } ناسب هنا ذكر الفسق، لأنه خرجعن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: وليحكم، وهو أمر. كما قال تعالى:

{ ٱسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ }

أي: خرج عن طاعة أمره تعالى. فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولىبالكافرين، والثانية بالظالمين، والثالثة بالفاسقين. وقال ابن عطية: وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهةالتوكيد، وأصوب ما يقال فيها: أنها تعم كل مؤمن وكافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمنعلى معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها. وقال القفال: هي لموصوف واحد كما تقول: من أطاع الله فهو البر، ومن أطاعفهو المؤمن، ومن أطاع فهو المتقي. وقيل: الأول في الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني فياليهود، والثالث في النصارى. وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك فيقدر مشترك. {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } لما ذكر تعالى أنهأنزل التوراة فيها هدى ونور، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى، فترك ذكره للمعرفةبذلك، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء، إذ اليهود تنكر نبوّته، وإذا أنكرته أنكرتكتابه، فنص تعالى عليه وعلى كتابه. ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله ﷺ، فذكر الكتاب، ومنأنزله مقرّراً لنبوّته وكتابه، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكرالمنزل إليه بكاف الخطاب، لأنه أنص على المقصود. وكثيراًما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق: ملتبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه، لما كان متضمناً حقائقالأمور، فكأنه نزل بها. ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي: أنزلناه بأن حق ذلك، لا أنه وجب على الله، لكنه حقفي نفسه. والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف. وانتصب مصدقاً على الحال لما بين يديه، أي: لماتقدمه من الكتاب. الألف واللام فيه للجنس، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للعهد، لأنه لم يردبه ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق، وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن. والفرقبينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة، وأنها حذفت، والتقدير: من الكتاب الإلهي. وفي الثاني لا يحتاج إلى هذاالتقدير، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم، فلا يحتاج إلى تقدير حذف. ومهيمناً عليهأي أميناً عليه، قاله ابن عباس في رواية التيمي، وابن جبير، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، والحسن. وقال ابن جريج: القرآن أمينعلى ما قبله من الكتب، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدّقوا، وإلا فكذبوا. وقال ابنعباس في رواية أبي صالح: شاهداً. وبه قال الحسن أيضاً وقتادة، والسدّي، ومقاتل، وقال ابن زيد: مصدّقاً على ما أخبرمن الكتب، وهذا قريب من القول الأول. وقال الخليل: المهيمن هو الرقيب الحافظ. ومنه قوله

: إن الكتاب مهيمن لنبينا     والحق يعرفه ذوو الألباب

وحكاه الزجاج، وبه فسر الزمخشري قال:ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى. وقال الشاعر

: مليك على عرش السماء مهيمن     لعزته تعنو الوجوه وتسجد

فسر بالحافظ، وهذا في صفات الله. وأما في القرآنفمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام. وقال الضحاك أيضاً: معناه قاضياً. وقال عكرمة أيضاً: معناه دالاً. وقال ابن عطية: وقد ذكرأقوالاً أنه شاهد، وأنه مؤتمن، وأنه مصدّق، وأنه أمين، وأنه رقيب، قال: ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمنعلى الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله، فلا يدخل فيه ما ليس منه، والقرآن جعله الله مهيمناًعلى الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف. وقرأ مجاهد وابن محيصن:ومهيمناً بفتح الميم الثانية، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه، أي: حفظ من التبديل والتغيير. والفاعل المحذوف هو الله أوالحافظ في كل بلد، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك. وردّ ففي قراءة اسمالفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني. وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول، وفي كلا الحالين هوحال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقاً والمعطوف على الحال حال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتحوقال: معناه محمد مؤتمن على القرآن. قال الطبري: فعلى هذا يكون مهيمناً حالاً من الكاف في إليك. وطعن في هذاالقول لوجود الواو في ومهيمناً، لأنها عطف على مصدّقاً، ومصدّقاً حال من الكتاب لا حال من الكاف، إذ لو كانحالاً منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عننظم القرآن، وتقديره: وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه أبعد. وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن. {فَٱحْكُمبَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله، وتقدم قول من قال: إنها ناسخة لقوله:

{ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }

وقول الجمهور: إنْ اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله، وهذا على قول من جعلالضمير في بينهم عائداً على اليهود، ويكون على قول الجمهور أمر ندب، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموماً، فالخطاب للوجوب ولانسخ. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع، وغيرذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع. {عَمَّا جَاءكَ مِنَ ٱلْحَقّ } الذي هو القرآن. وضمن تتبعمعنى تنحرف، أو تنصرف، فلذلك عدي بعن أي: لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم، أو بسبب أهوائهم. وقالأبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي: عادلاً عما جاءك، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن، وهذا ليسبجيد. لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة، كما لا يصلح أن يكون خبراً، وإذا كانناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه. {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً }الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو: أمة أي: لكل أمّة. والخطاب في منكم للناس أي: أيها الناس لليهود شرعةومنهاج، وللنصارى كذلك، قاله: عليّ، وقتادة والجمهور، ويعنون في الأحكام. وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد، وإيمان بالرسل، وكتبها وماتضمنته من المعاد، والجزاء الأخروي. وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال:

{ أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ }

والمعنى في المعتقدات. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكرما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيهاً لمحمد ﷺ أي: فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلكاليهود وغيرهم في شيء منه انتهى. فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي، أي: لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء. والشرعة والمنهاجلفظان لمعنى واحد أي: طريقاً، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر

:وهـند أتـى مـن دونهـا النـأي والبعـد    

وقال ابن عباس والحسن وغيرهما: سبيلاً وسنة. وقال مجاهد: الشرعة والمنهاج دين محمد ﷺ، فيكون المعنىلكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديانكلها. وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. وقال ابن الأنباري: الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحاً وغير واضح،والمنهاج لا يكون إلا واضحاً. وقيل: الشرعة الدين، والمنهاج الدليل. وقيل: الشرعة النبي، والمنهاج الكتاب. قال ابن عطية: والمنهاج بناءمبالغة من النهج، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى.قيل: وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا. وقرأ النخعي وابن وثاب: شَرعة بفتح الشين، والظاهر أنّجعلنا بمعنى صيرنا، ومفعولها الثاني هو لكل، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره: أعني منكم. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكونمنكم صفة لكل، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام، ويوجب أيضاً أن يفصلبين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى. فيكون في التركيب كقولك: من كل ضربت تميمي رجلاً، وهو لا يجوز.{وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً } أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة علىشريعة واحدة في الضلال. وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق. {وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَكُمْ * فِيمَا * ءاتَـٰكُمُ } أي: ولكنلم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. وقال الزمخشري: من الشرائع المختلفة، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالحقد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبهوتفرطون في العمل انتهى؟ وقال ابن جريج وغيره: ولكنه لم يشأ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع،فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر. {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله: مقاتل. وهي التيعاقبتها أحسن الأشياء. وقال ابن عباس والضحاك: الخيرات الإيمان بالرسول. {إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } هو استئناف في معنىالتعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات، كأنه يقول: يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته.{فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي فيخبركم بأعمالكم، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب، وهو أخبار إيقاع. قالابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج، وغداً يبينه بالمجازاة انتهى. وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل،والمسبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ولميضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة.

{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ } * { أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }

{وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } قال ابن عباس: قال بعض اليهودلبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا:يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وإنْ اتبعناك اتبعك كل اليهود، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضيلنا عليهم ونؤمن بك، فأبى ذلك الرسول ﷺ فنزلت. وقال مقاتل: قال جماعة من بني النضير له:هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل، ونبايعك؟ فنزلت.قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكراراً لما تقدم، وإنما نزلت في شيئين مختلفين: أحدهما: شأن الرجم، والآخر التسويةانتهى. وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله:

{ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }

وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في:وأن احكم، أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكتاب، أي: والحكم. وفي موضع جر عطفاً على بالحق، وفي موضعرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً، والتقدير: وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا. أو مقدماً والتقدير: ومن الواجبحكمك بما أنزل الله. وقيل: أنْ تفسيرية، وأبعد ذلك من أجل الواو، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمرفعلاً محذوفاً فيه معنى القول أي: وأمرناك أن احكم، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها، وذلكلا يحفظ من كلام العرب. وقُرىء بضم النون من: وأن احكم، اتباعاً لحركة الكاف، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين. والضميرفي بينهم عائد على اليهود. وقيل: على جميع المتحاكمين. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } تقدم شرح هذه الجملة. {وَٱحْذَرْهُمْأَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } أي يستزلوك. وحذره عن ذلك، وإنْ كان مأيوساً من فتنتهم إياهلقطع أطماعهم، وقال: عن بعض، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه.وموضع أن يفتنوك نصب على البدل، ويكون مفعولاً من أجله. {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِذُنُوبِهِمْ } أي فإنْ تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره. ومعنى: أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، أن يعذبهم ببعضآثامهم. وأبهم بعضاً هنا ويعني به ـ والله أعلم ـ التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضعذلك، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي، وفرط إسرافهمفي ارتكابه، ونظيره قول لبيد

:أو يـرتبـط بعـض النفـوس حمـامهــا    

أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذاالإبهام، كأنه قال: نفساً كبيرة أو نفساً أي نفس، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصةقريظة والنضير وإجلاء عمر رضي الله عنه أهل خيبر وفدك وغيرهم. قال ابن عطية: وخصص إصابتهم ببعض الذنوب، لأن هذاالوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان: نوع يخصهم كشرب الخمر وزناهم ورشاهم، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمالأتهمللكفار، وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة. وقالابن عطية أيضاً: فإن تولوا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر تقديره: لا تتبع واحذر، فإن حكموك مع ذلكواستقاموا فنعما ذلك، وإن تولوا فاعلم. ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل لقوله: لفاسقون انتهى. ولا يحتاج إلى تقدير هذا.{وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ } أي متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله. وقال ابن عباس: المراد بالفسقهنا الكفر. وقال مقاتل: المعاصي. وقال ابن زيد: الكذب وظاهر الناس العموم، وإنْ كان السياق في اليهود، وجاء بلفظ العموملينبه من سواهم. ويحتمل أن يكون الناس للعهد، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم. {أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } هذا استفهاممعناه الإنكار على اليهود، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارونعليه حكم الجاهلية، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول، وفي هذا أشدالنعى عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل. وقال الحسن: هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله.والحكم خكمان: حكم بعلم، فهو حكم الله. وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعضفقرأ هذه الآية. وقرأ الجمهور: أفحكمَ بنصب الميم، وهو مفعول يبغون. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وأبو رجاء، والأعرج: أفحكمُ الجاهليةبرفع الميم على الابتداء. والظاهر أن الخبر هو قوله: يبغون، وحسن حذف الضمير قليلاً في هذه القراءة كون الجملة فاصلة.وقال ابن مجاهد: هذا خطأ. قال ابن جني: وليس كذلك، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى.وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين. وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام، وبعضهم يخصه بالشعر، وبعضهم يفصل. وهذه المذاهبودلائلها مذكورة في علم النحو. وقال الزمخشري: وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في «أهذا الذي بعث الله رسولاً وعنالصفة في: الناس رجلان، رجل أهنت ورجل أكرمت. وعن الحال في: مررت بهند تضرب زيداً انتهى. فإنْ كان جعل الإسقاطفيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن، فليس كما ذكر عند البصريين، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح، وحذفه منالصفة قليل، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر، أو في نادر. وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح.وقال ابن عطية: وإنما تتجه القراء على أن يكون التقدير: أفحكم الجاهلية حكم تبغون، فلا تجعل تبغون خبراً بل تجعلصفة خبر محذوف، ونظيره:

{ مِنَ ٱلَّذِينَ * يُحَرّفُونَ }

تقديره قوم يحرفون انتهى. وهو توجيه ممكن. وقرأ قتادة والأعمش:أفحكَمَ بفتح الحاء والكاف والميم، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه قيل: أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذينكانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام.وقرأ الجمهور: يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدّمة. وقرأ ابن عامر بالتاء على لخطاب، وفيه مواجهتهم بالإنكار والرّدع والزجر، وليسذلك في الغيبة، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أيلا أحد أحسن من الله حكماً. وتقدّم

{ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ }

فجاءت هذه الآية مشيرة لهذاالمعنى والمعنى: أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل. وهو استفهام معناه التقرير، ويتضمن شيئاً من التكبر عليهم.واللام في: لقوم يوقنون، للبيان فتتعلق بمحذوف أي: في هيت لك وسقيا لك أي: هذا الخطاب. وهذا الاستفهام لقوم يوقنونقاله الزمخشر. وقال ابن عطية: وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك، ويظهر لقوم يوقنون. وقيل: اللامبمعنى عند أي عند قوم يوقنون، وهذا ضعيف. وقيل: تتعلق بقوله: حكماً، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر. ومتعلقيوقنون محذوف تقديره: يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس. وقيل: يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل. وقال الزجاج: يوقنون يثبتون عهد اللهتعالى في حكمه، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكماً.

{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } * { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } * { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } * { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } * { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } * { قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } * { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } * { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } * { وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ آمَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } * { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } * { يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } * { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } * { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } * { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ }

الدائرة: واحدة الدوائر، وهي صروف الدهر، ودوله، ونوازله. وقال الشاعر

:ويـعــلــم أن الــدائــرات تـــدور    

اللعب معروف وهو مصدر على غير قياس، وفعله لعب يلعب. الإطفاء: الإخماد حتى لا يبقىأثر. الإفك: بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه، أي قلبه وصرفه. ومنه:

{ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا }

يؤفك عنه من أفك. قالعروة بن أذينة

: إن كنت عن أحسن المروءة مأ     فوكاً ففي آخرين قد أفكوا

وقال أبو زيد: المأفوك المأفون، وهو الضعيف العقل. وقال أبو عبيدة: رجل مأفوك لا يصيب خيراً، وائتفكتالبلدة بأهلها انقلبت، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى. والمؤتفكات أيضاً الرياح التي تختلف مهابّها. {يُوقِنُونَيَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } قال الزهري وغيره: سبب نزولها ولها قصة عبدالله بن أبيّ واستمساكه بحلف يهود، وتبرؤ عبادة بن الصامت من حلفهم عند انقضاء بدر وعبادة، في قصة فيها طولهذا ملخصها. وقال عكرمة: سببها أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيهفي نزولهم عن حكم سعد بن معاذ. وقال السدّي: لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم، وقال بعضهم لبعض:نأخذ من اليهود عهداً يعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش أو سائر العرب. وقال آخرون: بل نلحق بالنصارى فنزلت.وقيل: هي عامّة في المنافقين أظهروا الإيمان وظاهروا اليهود والنصارى. نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرونبهم، ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين. وقراءة أبيّ وابن عباس: أرباباً مكان أولياء، بعضهم أولياء بعض جملة معطوفة من النهي مشعرة بعلةالولاية وهو اجتماعهم في الكفر والممالأة على المؤمنين، والظاهر أن الضمير في بعضهم يعود على اليهود والنصارى. وقيل: المعنى علىأن ثمّ محذوفاً والتقدير: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى، ولا النصارى أولياءاليهود، ويمكن أن يقال: جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال، ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل، وأنّ بعض اليهودلا يتولى إلا جنسه، وبعض النصارى كذلك. قال الحوفي: هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء، والظاهر أنهاجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب. {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال ابن عباس: فإنه منهم فيحكم الكفر، أي ومن يتولهم في الدين. وقال غيره: ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة. وقيل: ومن يتولهممنكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر. وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر، وترك موالاتهم، وأنحاء عبدالله بن أبي ومن اتصف بصفته. ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مضافاة، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقدهولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر. وقد استدل بهذا ابنعباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب، وقال: من دخل في دين قوم فهو منهم. وسئل ابن سيرين عنرجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة: فتلا هذه الآية. وفي الحديث: لا تراءى ناراهما وقال عمر لأبي موسىفي كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى. وقالله أبو موسى لأقوام للبصرة إلا به، فقال عمر: مات النصراني والسلام. {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }ظاهره العموم والمعنى على الخصوص، أي: من سبق في علم الله أنه لا يهتدي. قال ابن عطية: أو يراد التخصيصمدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه. وقال أبوالعالية: الظالم من أبي أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وقال ابن إسحاق: أراد المنافقين. وقيل:الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها. وقال الزمخشري قريباً من هذا، قال: يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفريمنعهم الله ألطافه، ويخذلهم مقتالهم انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. {فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰأَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } الخطاب للرسول ﷺ، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبيّ ومن تبعهمن المنافقين، أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية. ومعنىيسارعون فيهم: أي في موالاتهم ويرغبون فيها. وتقدّم الكلام في المرض في أول البقرة. وقرأ ابراهيم بن وثاب: فيرىبالياء من تحت، والفاعل ضمير يعود على الله، أو الرأي. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى، والمعنى:أن يسارعوا، فحذفت أن إيجازاً انتهى. وهذا ضعيف لأنّ حذف إنْ من نحو هذا لا ينقاس. وقرأ قتادة والأعمش: يسرعونبغير ألف من أسرع، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالاً، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعولالثاني، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أُبيّ، وقاله معه منافقون كثيرون. قال ابنعباس: معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا. وقيل: الدائرة من جدب وقحط. ولا يميروننا ولا يقرضوننا.وقيل: دائرة تحوج إلى يهود وإلى معونتهم. {فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } هذا بشارةللرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة. قال قتادة: عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي. وقال السدّي: يعني بهفتح مكة. قال ابن عطية: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله ﷺ وعلو كلمته فيستغنيعن اليهود. وقيل: فتح بلاد المشركين. وقيل: فتح قرى اليهود، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما. وقيل: الفتح الفرج،قاله ابن قتيبة. وقيل في قوله تعالى:

{ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ }

هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم، لميكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب،وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله: ابن السائب ومقاتل. وقيل: إذلالهم حتى يعطوا الجزية. وقيل: الخصب والرّخا قاله ابن قتيبة. وقالالزجاج: إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر. وقال ابن عطية: ويظهر أنّ هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هومما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم، فوعد الله تعالى إمّا بفتح يقتضي تلك الأعمال، وإما بأمر منعنده يهلك أعداء الشرع، هو أيضاً فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى. {فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْنَـٰدِمِينَ } أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أنّ أمر النبي لا يتم، ولا تكون الدولة لهم إذا أتىالله بالفتح أو أمر من عنده. وقيل: موالاتهم. وقرأ ابن الزبير: فتصبح الفساق جعل الفساق مكان الضمير. قال ابن عطية:وخص الإصباح بالذكر لأنّ الإنسان في ليله مفكر، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى. وتقدم لنا نحو منهذا الكلام، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أنقوله: فيصبحوا معطوف على قوله:

{ أَن يَأْتِىَ }

وهو الظاهر، ومجور ذلك هو الفاء، لأن فيها معنى التسبب، فصارنظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح، لأنه كان يكون معطوفاً على أن يأتيخبر لعسى، وهو خبر عن الله تعالى، والمعطوف على الخبر خبر، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاجإلى الرابط، ولا رابط هنا، فلا يجوز العطف. لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحدفيما تضمن جملتين من صلة كما مثله، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو، أو خبر نحو زيد يقومفيقعد بشر. وجوز أن لا يكون معطوفاً على أن يأتي، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني، إذعسى تمنّ وترج في حق البشر، وهذا فيه نظر. {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَهُـٰؤُلاء ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ إِنَّهُمْ* هُمْ *لَمَعَكُمْ } قال المفسرون: لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذارآه جادًّا في معاداة اليهود: هذا جزاؤهم منك طال، والله ما أشبعوا بطنك، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد منالمنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمائة حصدوا في ليلة؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا:أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم؟ والمعنى: يقول بعضهم لبعض تعجباً من حالهم إذ أغلظوا بالإيمانللمؤمنين أنهم معكم، وأنهم معاضدوكم على اليهود، فلما حلّ باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرّونه من موالاةاليهود والتمالؤ على المؤمنين. ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود، ويكون الخطاب في قوله: إنهم لمعكم لليهود، لأن المنافقين حلفوالليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم:

{ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ }

فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين،وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً، ويغتبطون بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود. وقرأ الابنانونافع: بغير واو، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ. فقيل: يقول الذين آمنوا، وكذا هي في مصاحف أهل مكةوالمدينة. وقرأ الباقون: بالواو، ونصب اللام أبو عمرو، ورفعها الكوفيون. وروى علي بن نصر عن أبي عمر: والرفع والنصب، وقالوا:وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق. والواو عاطفة جملة على جملة، هذا إذا رفع اللام، ومع حذف الواو الاتصال موجودفي الجملة الثانية، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا: نخشى، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم: أهؤلاء الذين أقسموا،وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير، وتارة يؤكد بالعطف بالواو. والظاهر أنّ هذا القول هو صادر من المؤمنين عند رؤية الفتحكما قدمنا. قيل: ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون:

{ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ }

وعندما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم، ونزل الرسول إياهم له، وإظهار عبد اللهأن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من المؤمنين، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك، فكانفعله ذلك موطناً أن يقول المؤمنون ذلك. وأما قراءة ويقول بالنصب، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عندالفتح، وأنه محمول على المعنى، فهو معطوف على أن يأتي، إذ معنى: فعسى الله أن يأتي، معنى فعسى أن يأتيالله، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر، إذ لا يصح أنيعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي: ويقول الذين آمنوا به،أي بالله. فهذا الضمير يصح به الربط، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلاً مناسم الله لا خبراً، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة، كأنك قلت: عسى أن يأتي، ويقول: أو معطوف علىفيصبحوا، على أن يكون قوله: فيصبحوا منصوباً بإضمار أن جواباً لعسى، إذ فيها معنى التمني. وقد ذكرنا أنّ في هذاالوجه نظر، و هوهل تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني؟ أم لا تجري؟ وذكر هذا الوجه ابن عطيةعن أبي يعلى، وتبعه ابن الحاجب، ولم يذكر ابن الحاجب غيره. وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها، وكلا الوجهينقبله تخريج أبي عليّ. وخرجه النحاس على أن يكون معطوفاً على قوله:

{ بِٱلْفَتْحِ }

بأن يفتح، ويقول: ولا يصحّهذا لأنه قد فصل بينهما بقوله: أو أمر من عنده، وحقه أن يكون لغة لأن المصدر ينحل لأن والفعل، فالمعطوفعليه من تمامه، فلا يفصل بينهما. وهذا إن سلم أنّ الفتح مصدر، فيحل لأن والفعل. والظاهر أنه لا يراد بهذلك، بل هو كقولك: يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه، لا يراد به انحلاله، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصحأيضاً، لأن المعنى ليس على: فعسى الله أن يأتي، بأن يقول الذين آمنوا كذا. ولأنه يلزم من ذلك الفصل بينالمتعاطفين بقوله:

{ فَيُصْبِحُواْ }

وهو أجنبي من المتعاطفين، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفاً على أن يأتي، ونظيره قولك:هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة، وقول أصحابه: أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة؟ فيكون وقولمعطوفاً على بضرب. وقال ابن عطية: عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الذين نصرهم يقولون:ننصره بإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى. وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سبباً لأنه صار في الجملةضمير عائد على الله، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه، وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز. وإنما منعوا حيث لايكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد، والمعنى: أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم؟ ثم ظهرالآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم. ويجوز أن ينتصب على الحال، كما جوّزوا في فعلته جهدك وقوله: إنهملمعكم، حكاية لمعنى القسم لا للفظهم، إذ لو كان لفظهم لكان إنا لمعكم. {حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَـٰسِرِينَ } ظاهرهأنه من جملة ما يقوله المؤمنون اعتماداً في الأخبار على ما حصل في اعتقادهم أي: بطلت أعمالهم إن كانوا يتكلفونهافي رأي العين. قال الزمخشري: وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ويحتمل أن يكون إخباراً منالله تعالى، ويحتمل أن لا يكون خبراً بل دعاء إما من الله تعالى، وإما من المؤمنين. وحبط العمل هنا هوعلى معنى التشبيه، وإلا فلا عمل له في الحقيقة فيحبط وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبراً ثانياً عن هؤلاء،والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا، وأن يكون الذين، صفة لهؤلاء، ويكون حبطت هو الخبر. وقد تقدم ذكر قراءة أبيواقد والجراح حبطت بفتح الباء وأنها لغة. {خَـٰسِرِينَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُبِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وابن كعب والضحاك الحسن وقتادة وابن جريج وغيرهم: نزلت خطاباً للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة. ومنيرتد جملة شرطية مستقلة، وهي إخبار عن الغيب. وتعرض المفسرون هنا لمن ارتد في قصة طويلة نختصرها، فنقول: ارتدفي زمان الرسول ﷺ مذ حج ورئيسهم عبهلة بن كعب ذو الخمار، وهو الأسود العنسي قتله فيروزعلى فراشه، وأخبر الرسول ﷺ بقتله، وسمى قاتله ليلة قتل. ومات رسول الله ﷺمن الغد، وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول وبنو حنيفة رئيسهم مسيلمة قتله وحشي، وبنو أسد رئيسهم طليحة بنخويلد هزمه خالد بن الوليد، وأفلت ثم أسلم وحسن إسلامه. هذه ثلاث فرق ارتدت في حياة الرسول صلى الله عليهوسلم، وتنبأ رؤساؤهم. وارتد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه سبع فرق. فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قومقرة بن سلمة القشيري، وسليم قوم الفجاه بن عبد يا ليل، ويربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاحبنت المنذر وقد تنبأت وتزوجها مسيلمة وقال: الشاعر

: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها     وأصبحت أنبياء الله ذكرانا

وقال أبو العلاء المعري

: أمت سجاح ووالاها مسيلمة     كذابة في بني الدنيا وكذاب

وكندة قوم الأشعث، وبكر بن وائل بالبحرين قوم الحظم بن يزيد. وكفىالله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه. وفرقة في عهد عمر: غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمةوسيرته إلى بلد الروم بعد إسلامه. وفي القوم الذين يأتي الله بهم: أبو بكر وأصحابه، أو أبو بكر وعمروأصحابهما، أو قوم أبي موسى، أو أهل اليمن ألفان من البحر وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أخلاطالناس جاهدوا أيام القادسية أيام عمر. أو الأنصار، أو هم المهاجرون، أو أحياء من اليمن من كندة وبجيلة وأشجع لميكونوا وقت النزول قاتل بهم أبو بكر في الردة، أو القربى، أو علي بن أبي طالب قاتل الخوارج أقوال تسعة.وفي المستدرك لأبي عبد الله الحاكم بإسناد: أنه لما نزلت أشار رسول الله ﷺ إلى أبيموسى الأشعري فقال قوم: هذا. وهذا أصح الأقوال، وكان لهم بلاء في الإسلام زمان رسول الله ﷺوعامة فتوح عمر على أيديهم. وقرأ نافع وابن عامر: من يرتدد بدالين مفكوكاً، وهي لغة الحجاز. والباقون بواحدة مشددةوهي لغة تميم. والعائد على اسم الشرط من جملة الجزاء محذوف لفهم المعنى تقديره: فسوف يأتي الله بقوم غيرهم، أومكانهم. ويحبونه معطوف على قوله: يحبهم، فهو في موضع جر. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوبتقديره: وهم يحبونه انتهى. وهذا ضعيف لا يسوغ مثله في القرآن. ووصف تعالى هؤلاء القوم بأنه يحبهم ويحبونه، محبة اللهلهم هي توفيقهم للإيمان كما قال تعالى:

{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلاْيمَـٰنَ }

وإثابته على ذلك وعلى سائر الطاعات،وتعظيمه إياهم، وثناؤه عليهم، ومحبتهم له طاعته، واجتناب نواهيه، وامتثال مأموراته. وقدم محبته على محبتهم إذ هي أشرف وأسبق. وقالالزمخشري: وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله، وأمقتهم للشرع، وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقته عند أمثاله من السفهاءوالجهلة شيئاً وهم: الفرقة المنفعلة والمتفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله، وفيمراقصهم عطلها الله، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء الله وصعقاتهم التي تشبه صعقة موسى عند دك الطور،فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن كلماته كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته، فإن الهاء راجعة إلى الذاتدون النعوت والصفات. ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلامالزمخشري رحمه الله تعالى. وقال بعض المعاصرين: قد عظم أمر هؤلاء المنفعلة عند العامة وكثر القول فيهم بالحلول والوحدة، وسرالحروف، وتفسير القرآن على طريق القرامطة الكفار الباطنية، وادعاء أعظم الخوارق لأفسق الفساق، وبغضهم في العلم وأهله، حتى أن طائفةمن المحدثين قصدوا قراءة الحديث على شيخ في خانقاتهم يروي الحديث فبنفس ما قرأوا شيئاً من حديث الرسول. خرج شيخالشيوخ الذين هم يقتدون به، وقطع قراءة الحديث، وأخرج الشيخ المسمع والمحدثين وقال: روحوا إلى المدارس شوشتم علينا. ولا يمكنونأحداً من قراءة القرآن جهراً، ولا من الدرس للعلم. وقد صح أنّ بعضهم ممن يتكلم بالدهر على طريقتهم، سمع ناساًفي جامع يقرؤون القرآن فصعد كرسيه الذي يهدر عليه فقال: يا أصحابنا شوشوا علينا، وقام نافضاً ثوبه، فقام أصحابه وهويدلهم لقراء القرآن، فضربوهم أشد الضرب، وسل عليهم السيف من اتباع ذلك الهادر وهو لا ينهاهم عن ذلك. وقد علمأصحابه كلاماً افتعلوه على بعض الصالحين حفظهم إياه يسردونه حفظاً كالسورة من القرآن، وهو مع ذلك لا يعلمهم فرائض الوضوء،ولا سننه، فضلاً عن غيرها من تكاليف الإسلام. والعجب أن كلاً من هؤلاء الرؤوس يحدث كلاماً جديداً يعلمه أصحابه حتىيصير لهم شعاراً، ويترك ما صح عن الرسول ﷺ من الأدعية المأثورة المأمور بها. وفي كتاب اللهتعالى على غثاثة كلامهم، وعاميته، وعدم فصاحته، وقلة محصوله، وهم مستمسكون به كأنه جاءهم به وحي من الله. ولن ترىأطوع من العوام لهؤلاء يبنون لهم الخوانق والربط، ويرصدون لهم الأوقاف، وهم أبغض الناس في العلم والعلماء، وأحبهم لهذه الطوائف.والجاهلون لأهل العلم أعداء. {أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هونقيض الضعف، لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة بل ذلل، وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام، لأنه ضمنه معنىالحنو والعطف كأنه قال: عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع. قيل: أو لأنه على حذف مضاف التقدير: على فضلهمعلى المؤمنين على وجه التذلل والتواضع. قيل: أو لأنه على حذف مضاف التقدير: على فضلهم على المؤمنين، والمعنى أنهم يذلونويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانهم، وهو نظير قوله:

{ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ }

وجاءت هذهالصفة بالاسم الذي فيه المبالغة، لأن أذلة جمع ذليل وأعزة جمع عزيز، وهما صفتا مبالغة، وجاءت الصفة قبل هذا بالفعلفي قوله:

{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }

لأن الاسم يدل على الثبوت، فلما كانت صفة مبالغة، وكانت لا تتجدد بل هيكالغريزة، جاء الوصف بالاسم. ولما كانت قبل تتجدد، لأنها عبارة عن أفعال الطاعة والثواب المترتب عليها، جاء الوصف بالفعل الذييقتضي التجدد. ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن أوكد، ولموصوفه الذي قدم على الوصف المتعلق بالكافر، ولشرف المؤمن أيضاً. ولماكان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن، قدّم قوله يحبهم ويحبونه على قوله: أذلةعلى المؤمنين. وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لايتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله

:وفـرع يغشـى المتـن أسـود فـاحـم    

إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية، فقدم يحبهم ويحبونه ـ وهو فعل ـ علىقوله: أذلة وهو اسم. وكذلك قوله تعالى:

{ وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ }

وقرىء شاذاً أذلة، وهو اسم وكذا أعزةنصباً على الحال من النكرة إذا قربت من المعرفة بوصفها. وقرأ عبد الله: غلظاء على الكافرين مكان أعزة. {يُجَـٰهِدُونَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي في نصرة دينه. وظاهر هذه الجملة أنها صفة، ويجوز أن تكون استئناف أخبار. وجوز أبوالبقاء أن تكون في موضع نصب حالاً من الضمير في أعزة. {وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } أي هم صلابفي دينه، لا يبالون بمن لام فيه. فمتى شرعوا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أمضوه لا يمنعهم اعتراضمعترض، ولا قول قائل هذان الوصفان أعني: الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة، لأنّ من أحب الله لايخشى إلا إياه، ومن كان عزيزاً على الكافر جاهداً في إخماده واستئصاله. وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمينلمحاورته أعزة على الكافرين، ولأن الخوف أعظم من الجهاد، فكان ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى. ويحتمل أن تكون الواوفي: ولا يخافون، واو الحال أي: يجاهدون، وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود، فإذا خرجوا فيجيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله، لايخافون لومة لائم. ولومة للمرة الواحدة وهي نكرة في سياق النفي. فتعم أي: لا يخافون شيئاً قط من اللوم.{ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } الظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف التي تحلى بها المؤمن.ذكر أنَّ ذلك هو فضل من الله يؤتيه من أراد، ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه، بل ذلك على سبيلالإحسان منه تعالى لمن أراد الإحسان إليه. وقيل: ذلك إشارة إلى حب الله لهم وحبهم له. وقيل: إشارة إلى قوله:أذلة على المؤمنين، وهو لين الجانب، وترك الترفع على المؤمن. قال الزمخشري: يؤتيه من يشاء ممن يعلم أنّ لطفاً انتهى.وفيه دسيسة الاعتزال. ويؤتيه استئناف، أو خبر بعد خبر أو حال. {وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ } أي واسع الإحسان والإفضالعليم بمن يضع ذلك فيه. {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، بيّن هنامن هو وليهم، وهو الله ورسوله. وفسر الولي هنا بالناصر، أو المتولي الأمر، أو المحب. ثلاثة أقوال، والمعنى: لا وليّلكم إلا الله. وقال: وليكم بالأفراد، ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعدداً، لأن ولياً اسم جنس. أو لأنّالولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل، ثم نظم في سلكه من ذكر على سبيل التبع، ولو جاء جمعاًلم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية. وقرأ عبد الله: مولاكم الله. وظاهر قوله: والذين آمنوا، عموم من آمن منمضى منهم ومن بقي قاله الحسن. وسئل الباقر عمن نزلت فيه هذه الآية، أهو على؟ فقال: عليّ من المؤمنين. وقيل:الذين آمنوا هو عليّ رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، ويكون من إطلاق الجمع على الواحد مجازاً.وقيل ابن سلام وأصحابه. وقيل: عبادة لما تبرأ من حلفائه اليهود. وقيل: أبو بكر رضي الله عنه، قاله عكرمة.{وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق، لأنالمنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة. قال تعالى:

{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ }

وقال تعالى:

{ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ }

ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية من مقيمي صلاة ومؤتي زكاة، وفي كلتا الحالتينكانوا متصفين بالخضوع لله تعالى والتذلل له، نزلت الآية بهذه الأوصاف الجليلة. والركوع هنا ظاهره الخضوع، لا الهيئة التي فيالصلاة. وقيل: المراد الهيئة، وخصت بالذكر لأنها من أعظم أركان الصلاة، فعبر بها عن جميع الصلاة، إلا أنه يلزم فيهذا القول تكرير الصلاة لقوله: يقيمون الصلاة. ويمكن أن يكون التكرار على سبيل التوكيد لشرف الصلاة وعظمها في التكاليف الإسلامية.وقيل: المراد بالصلاة هنا الفرائض، وبالركوع التنفل. يقال: فلان يركع إذا تنفل بالصلاة. وروي أنّ علياً رضي الله عنه تصدّقبخاتمه وهو راكع في الصلاة. والظاهر من قوله: وهم راكعون، أنها جملة اسمية معطوفة على الجمل قبلها، منتظمة في سلكالصلاة. وقيل: الواو للحال أي: يؤتون الزكاة وهم خاضعون لا يشتغلون على من يعطونهم إياها، أي يئتونها فيتصدقون وهم ملتبسونبالصلاة. وقال الزمخشري. (فإن قلت): الذين يقيمون ما محله؟ (قلت): الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على هم الذينيقيمون انتهى. ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن، لأن المبدل منه في نية الطرح،وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف. {وَمَن يَتَوَلَّٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } يحتمل أن يكون جواب مَن محذوفاً لدلالة ما بعده عليه،أي: يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون الجواب: فإن حزب الله، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي:فإنهم م الغالبون. وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإضافة إلى الله تعالى فيشرفون بذلك، وصاروا بذلك أعلاماً. وأصل الحزبالقوم يجتمعون لأمر حزبهم. وقال الزمخشري: ويحتمل أنْ يريد حزب الله والرسول والمؤمنين، ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزبالله، واعتضد بمن لا يغالب انتهى. وهو قلق في التركيب. قال ابن عطية: أي فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءتالعبارة عامة أنّ حزب الله هم الغالبون اختصاراً، لأن هذا المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذيتولى الله ورسوله غالب. ومن يراد بها الجنس لا مفرد، وهم هنا يحتمل أن يكون فصلاً، ويحتمل أن يكون مبتدأ.{ٱلْغَـٰلِبُونَ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَاء} قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقاً، وكان رجال من المسلمينيوادونهما فنزلت. ولما نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ الكفار والنصارى أولياء، نهى عن اتخاذ الكفار أولياء يهودا كانوا أو نصارى،أو غيرهما. وكرر ذكر اليهود والنصارى بقوله: من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وإن كانوا مندرجين في عموم الكفار علىسبيل النص على بعض أفراد العام لسبقهم في الذكر في الآيات قبل، ولأنه أوغل في الاستهزاء، وأبعد انقياداً للإسلام، إذيزعمون أنهم على شريعة إلهية. ولذلك كان المؤمنون من المشركين في غاية الكثرة، والمؤمنون من اليهود والنصارى في غاية القلة.وقيل: أريد بالكفار المشركون خاصة، ويدل عليه قراءة عبد الله: ومن الذين أشركوا. قال ابن عطية: وفرقت الآية بين الكفاروبين الذين أوتوا الكتاب، من حيث الغالب في اسم الكفر أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة الأوثان، لأنّهم أبعدشأواً في الكفر. وقد قال:

{ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ }

ففرق بينهم إرادة البيان. والجميع كفار، وكانوا عبدة الأوثان، همكفار من كل جهة. وهذه الفرق تلحق بهم في حد الكفر، وتخالفهم في رتب. فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء،والمنافقون يؤمنون بألسنتهم انتهى. وقال الزمخشري: وفصل المستهزئين بأهل الكتاب على المشركين خاصة انتهى. ومعنى الآية: أنّ من اتخذ دينكمهزواً ولعباً لا يناسب أنْ يتخذ ولياً، بل يعادي ويبغض ويجانب. واستهزاؤهم قيل: بإظهار الإسلام، وإخفاء الكفر. وقيل: بقولهم للمسلمين:احفظوا دينكم ودوموا عليه فإنه الحق، وقول بعضهم لبعض: لعبنا بعقولهم وصحكنا عليهم. وقال ابن عباس: ضحكوا من المسلمين وقتسجودهم، وتقدم القول في القراءة في هزؤا. وقرأ النحويان: والكفار خفضاً. وقرأ أبي: ومن الكفار بزيادة من. وقرأ الباقون: نصباًوهي رواية الحسين الجعفي عن أبي عمرو، وإعراب الجر والنصب واضح. {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لما نهىالمؤمنون عن اتخاذهم أولياء، أمرهم بتقوى الله، فإنها هي الحاملة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي. أي: اتقوا الله في موالاةالكفار، ثم نبه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإيمان أي: من كان مؤمناً حقاً يأبى موالاة أعداء الدّين.{وَإِذَا نَـٰدَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } قال الكلبي: كانوا إذا نودي بالصلاة قام المسلمون إليها فتقول اليهود: قاموالا قاموا، صلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، على طريق الاستهزاء والضحك فنزلت. وقال السدي: كان نصراني بالمدينة يقول إذاسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أحرق الكاذب، فطارت شرارة في بيته فاحترق هو وأهله، فنزلت. وقيل: حسداليهود الرسول حين سمعوا الآذان وقالوا: ابتدعت شيئاً لم يكن للأنبياء، فمن أين لك الصياح كصياح العير؟ فما أقبحه منصوت. فأنزل الله هذه الآية. وأنزل:

{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ }

الآية انتهى. والمعنى: إذا نادىبعضكم إلى الصلاة، لأن الجميع لا ينادون. ولما قدم أنهم الذين اتخذوا الدين هزواً ولعباً اندرج في ذلك جميع ماانطوى عليه الدّين، فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه،فنبه على أنّ من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ ولياً ويطرد، فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها. وقال بعضالعلماء: في هذه الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب، لا بالمنام وحده انتهى. ولا دليل في ذلك على مشروعيتهلأنه قال وإذا ناديتم، ولم يقل نادوا على سبيل الأمر، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا علىإنشائها بالشرط. والظاهر أن الضمير في اتخذوها عائد على الصلاة، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من ناديتم أي: اتخذواالمناداة والهزء والسخرية واللعب الأخذ في غير طريق. {ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أي ذلك الفعل منهم، ونفيالعقل عنهم لما لم ينتفعوا به في الدين، واتخذوا دين الله هزواً ولعباً، فعل من لا عقل له. {قُلْيٰأَهْلَ * أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ * هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّأَكْثَرَكُمْ فَـٰسِقُونَ } قال ابن عباس: أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله ﷺ عمن يؤمن بهمن الرسل؟ فقال: أؤمن بالله:

{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا }

إلى قوله:

{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

فقالوا حين سمعواذكر عيسى، ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم، فنزلت. والمعنى: هلتعيبون علينا، أو تنكرون، وتعدون ذنباً، أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وهذه محاورةلطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيباً ونظيره قول الشاعر

: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

والخطاب قيل:للرسول، وهو بمعنى ما النافية. وقرأ الجمهور: تنقمون بكسر القاف، والماضي نقم بفتحها، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح. ونقمبالكسر، ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي وغيره. وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم، وفسر تنقمونبتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة. وإلا أن آمنا استثناء فرغ له الفاعل. وقرأ الجمهور: أنزل مبنياً للفاعل، وذلك فياللفظين، وقرأهما أبو نهيك: مبنيين للفاعل، وقرأ نعيم بن ميسرة: وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة، وهو واضح المعنى، أمره تعالىأن يقول لهم هاتين الجملتين، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم. وقرأ الجمهور: بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها فيموضع رفع، وفي موضع نصب، وفي موضع جر. فالرّفع على الابتداء. وقدر الزمخشري الخبر مؤخراً محذوفاً أي: وفسق أكثركم ثابتمعلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق، وأنكم على الباطل، إلا أنّ حب الرّياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف. ولا ينبغيأن يقدم الخبر إلا مقدماً أي: ومعلوم فسق أكثركم، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدّمة إلا بعد أما فقط.والنصب من وجوه: أحدها: أن يكون معطوفاً على أن آمنا أي: ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم، فيدخل الفسقفيما نقموه، وهذا قول أكثر المتأوّلين. ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم، فكيف ينقمونه، لكنه يحمل على أنالمعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون، كماتقول: ما تنقم مني إلا أني صدّقت وأنت كذبت، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض، وإنكان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض، وكأنه قيل: ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإسلام وأنتمخارجون. والوجه الثاني: أن يكون معطوفاً على إن آمنا، إلا أنه على حذف مضاف تقديره: واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون،وهذا معنى واضح. ويكون ذلك داخلاً في ما تنقمون حقيقة. الثالث: أن تكون الواو واو مع، فتكون في موضع نصبمفعولاً معه التقدير: وفسق أكثرهم أي: تنقمون ذلك مع فسق أكثركم والمعنى: لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركمكما تقول: تسيء إلي مع أني أحسنت إليك. الرابع: أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدّر يدل عليه، هلتنقمون تقديره: ولا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون. والجرّ على أنه معطوف على قوله: بما أنزل إلينا وما أنزل من قبلوبأن أكثركم فاسقون، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة التقدير: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم. ويدلعليه تفسير الحسن بفسقكم نقمتم ذلك علينا. فهذه سبعة وجوه في موضع إو وصلتها، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح،وذلك أنّ نقم أصلها أن تتعدّى بعلى، تقول: نقمت على الرجل أنقم، ثم تبنى منها افتعل فتعدّى إذ ذاك بمن،وتضمن معنى الإصابة بالمكروه. قال تعالى:

{ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ }

ومناسبة التضمينفيها أنّ من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه، وإن قدر، فجاءت هنا فعلبمعنى افتعل لقولهم: وقد رأوه، ولذلك عدّيت بمن دون التي أصلها أن يعدي بها، فصار المعنى: وما تنالون منا أووما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي: لأنْ آمنا، فيكون أن آمنا مفعولاً من أجله، ويكون وإن أكثركم فاسقونمعطوفاً على هذه العلة، وهذا ـ والله أعلم ـ سبب تعديته بمن دون على، وخص أكثركم بالفسق لأن فيهم منهدى إلى الإسلام، أو لأنّ فساقهم وهم المبالغون في الخروج عن الطاعة هم الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلونتقرّباً إلى الملوك، وطلباً للجاه والرياسة، فهم فساق في دينهم لا عدول، وقد يكون الكافر عدلاً في دينه، ومعلوم أنّكلهم لم يكونوا عدولاً في دينهم، فلذلك حكم على أكثرهم بالفسق. {قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ } الخطاب بالأمر للرسول ﷺ وتضمنالخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا، هذا هو الظاهر.قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين أي: قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاءالفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم انتهى. فعلىهذا الإضمار يكون قوله: بشرّ أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف، وزيادة الفضلعلى المفضل عليه في الوصف، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين، وإن كان الضمير خطاباً لأهلالكتاب، فيكون شرّ على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا: ما نعلم ديناً شرًّا من دينكم. وفيالحقيقة لا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب، وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين،أو حال أهل الكتاب، فيحتاج إلى حذف مضاف: إما قبله، وإما بعده. فيقدر قبله: بشرّ من أصحاب هذه الحال، ويقدربعده: حال من لعنه الله ولكون

{ لعنه الله }

إن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنيةوجمع كما يكون للواحد المذكر، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال: بشر منأولئكم، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، لا قبل اسم الإشارة، ولا بعده، إذ يصير من لعنه الله تفسير أشخاص بأشخاص.ويحتمل أن يكون ذلكم أيضاً إشارة إلى متشخص، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال: قل هل أنبئكم بشر من جنسالكتابي، أو من جنس المؤمن، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا، ويكون أيضاً من لعنه الله تفسير شخص بشخص. وقرأالنخعي وابن وثاب: أنبئكم من أنبأ، وابن بريدة، والأعرج، ونبيج، وابن عمران: مثوبة كمعورة. والجمهور: من نبأ ومثوبة كمعونة. وتقدّمتوجيه القراءتين في

{ لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ }

وانتصب مثوبة هنا على التمييز، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديمالمفضل عليه على لتمييز كقوله:

{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً }

وتقديم التمييز على المفضل أيضاً فصيح كقوله:

{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ }

وَهَـٰذِهِ * فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْلّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلاْمّيّينَ ءأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ * إِنَّ ٱلَّذِينَيَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ بينهم في (تحية بينهم ضرب وجيع)

{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }

ومن في موضع رفع كأنه قيل: من هو؟ فقيل: هو من لعنه الله. أو في موضعجر على البدل من قوله: بشّر. وجوّزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي: أنبئكم من لعنه الله.ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدّم، أو الأسلاف والأخلاف، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم. والذيتقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهاً على الوصف الذي حصل به كونه شراً مثوبة، وهي اللعنةوالغضب. وجعل القردة والخنازير منهم، وعبد الطاغوت، وكأنه قيل: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله أنتم أي:هو أنتم. ويدل على هذا المعنى قوله بعد:

{ وَإِذَا * ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا }

فيكون الضمير واحداً. وقرأ أبيوعبد الله: من غضب الله عليهم، وجعلهم قردة وخنازير، وجعل هنا بمعنى صير. وقال الفارسي: بمعنى خلق، لأن بعده وعبدالطاغوت، وهو معتزلي لا يرى أنّ الله يصير أحداً عابد طاغوت. وتقدّم الكلام في مسخهم قردة في البقرة. وأماالذين مسخوا خنازير فقيل: شيوخ أصحاب السبت، إذ مسح شبانهم قردة قاله: ابن عباس. وقيل: أصحاب مائدة عيسى. وذكرت أيضاًقصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها: أنّ امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه، وكانوا قد كفروابمن اجتمع إليها ممن دعته إلى الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون، وتنفلت هي، فبعد الثالثة سببت واستبرأت في دينها، فمسخالله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتاً لها على دينها، فلما رأتهم قالت: اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره،فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة، وتقدم تفسير الطاغوت. وقرأ جمهور السبعة: وعبد الطاغوت. وقرأ أبيّ: وعبدوا الظاغوت.وقرأ الحسن في رواية: وعبد الطاغوت بإسكان الباء. وخرجه ابن عطية: على أنه أراد وعبداً منوّناً فحذف التنوين كما حذففي قوله: {وَلاَ * يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } ولا وجه لهذا التخريج، لأن عبداً لا يمكن أن ينصب الطاغوت،إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفاً من عبد بفتحها كقولهم: في سلف سلف. وقرأ ابنمسعود في رواية: عُبد بضم الباء نحو شرف الرجل أي: صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله: ابن عطية: وقالالزمخشري: أي صار معبوداً من دون الله كقولك: أمر إذا صار أميراً انتهى. وقرأ النخعيّ وابن القعقاع والأعمش في روايةهارون، وعبد الطاغوت مبنياً للمفعول، كضرب زيد. وقرأ عبد الله في رواية: وعبدت الطاغوت مبنياً للمفعول، كضربت المرأة. فهذه ستقراءآت بالفعل الماضي، وإعرابها واضح. والظاهر أنّ هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه، وغضب، وجعل، وعبد، والمبني للمفعولضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي: وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم. ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلاً فيالصلة، لكنه على تقدير من، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ، ومن عبد فإما عطفاً على القردة والخنازير، وإماعطفاً على من قوله: من لعنه الله. وقرأ أبو واقد الأعرابي: وعباد الطاغوت جمع عابد، كضرّاب زيد. وقرأ ابن عباسفي رواية، وجماعة، ومجاهد، وابن وثاب: وعبد الطاغوت جمع عبد، كرهن ورهن. وقال ثعلب: جمع عابد كشارف وشرف. وقال الزمخشريتابعاً للأخفش: جمع عبيد، فيكون إذ ذاك جمع وأنشدوا

: أنسب العبد إلى آبائه     اسود الجلدة من قوم عبد

وقرأ الأعمش وغيره: وعبد الطاغوت جمع عابد، كضارب وضرب. وقرأ بعض البصريين؟: وعبادالطاغوت جمع عابد كقائم وقيام، أو جمع عبد. أنشد سيبويه

: أتوعدني بقومك يا ابن حجل     اسابات يخالون العبادا

وسمى عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى: عباداً. وقرأ ابن عباسفي رواية: وعبيد الطاغوت جمع عيد، نحو كلب وكليب. وقرأ عبيد بن عمير: وأعبد الطاغوت جمع عبد كفلس وأفلس. وقرأابن عباس وابن أبي عبلة: وعبد الطاغوت يريد وعبدة جمع عابد، كفاجر وفجرة، وحذف التاء للإضافة، أو اسم جمع كخادموخدم، وغائب وغيب. وقرىء: وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفاً على القردة والخنازير مضافاًإلى الطاغوت. وقرىء وعابدي. وقرأ ابن عباس في رواية: وعابدوا. وقرأ عون العقيلي: وعابدوا، وتأولها أبو عمرو على أنها عآبد.وهذان جمعا سلامة أضيفاً إلى الطاغوت، فبالتاء عطفاً على القردة والخنازير، وبالواو عطفاً على من لعنه الله أو على إضمارهم.ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفرداً اسم جنس. وقرأ أبو عبيدة: وعابد على وزن ضارب مضافاً إلى لفظ الشيطان،بدل الطاغوت. وقرأ الحسن: وعبد الطاغوت على وزن كلب. وقرأ عبد الله في رواية: وعبد على وزن حطم، وهو بناءمبالغة. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة: وعبد على وزن يقظ وندس، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلىالطاغوت. وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء. قال نصير النحوي صاحب الكسائي وهو وهم ممن قرأ به، وليسأل عنهالعلماء حتى نعلم أنه جائز. وقال الفراء: إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه، وإلا فلا يجوز في القراءة.وقال أبو عبيد: إنما معنى العبد عندهم إلا عبد، يريدون خدم الطاغوت، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاءالعرب أن العبد يقال فيه عبد، وإنما هو عبد وأعبد بالألف. وقال أبو علي: ليس في أبنية المجموع مثله، ولكنهواحد يراد به الكثرة، وهو بناء يراد به المبالغة، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت. وقال الزمخشري: ومعناه العلوفي العبودية كقولهم: رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر

: أبني لبيني أن أمكم     أمة وإن أباكم عبد

انتهى. وقال ابن عطية: عبد لفظ مبالغة كيقظوندس، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس، وبنى بناء الصفات لأن عبداً في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء،وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة. وأنشد أبني لبيني البيت، وقال: ذكرهالطبري وغيره بضم الباء انتهى. وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلاً فقال: ومنها فعل كنحو سمر وعبد. وقرأابن عباس فيما روى عنه عكرمة: وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب، ونصب الطاغوت أراد عبداً منوناً فحذف التنوين لالتقاءالساكنين كما قال:

{ وَلاَ * يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }

فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد، تكون اثنين وعشرينقراءة. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: أنه خذلهمحتى عبدوها، والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم:

{ وَٱجْعَلُواْ * ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً }

انتهى. وهذا على طريق المعتزلة، وتقدم تفسير الطاغوت. وقرأ الحسن: الطواغيت. وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون:يا أخوة القردة والخنازير، فينكسون رؤوسهم. {أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } الإشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها، وانتصب مكاناً علىالتمييز. فإن كان ذلك في الآخرة أن يراد بالمكان حقيقة، إذ هو جهنم، وإن كان في الدنيا فيكون كناية واستعارةللمكانة في قوله: أولئك شر، لدخوله في ياب الكناية كقولهم: فلان طويل النجاد وهي إشارة إلى الشيء بذكر لوزامه وتوابعهقبل المفضول، وهو مكان المؤمنين، ولا شر في مكانهم. وقال الزجاج: شر مكاناً على قولكم وزعمكم. وقال النحاس: أحسن ماقيل شرّ مكاناً في الآخرة من مكانكم في الدنيا، لما يلحقكم من الشر. وقال ابن عباس: مكانهم سقر، ولا مكانأشد شراً منه. والذي يظهر أن المفضول هو غيرهم من الكفار، لأن اليهود جاءتهم البينات والرسل والمعجزات ما لم يجيءغيرهم كثرة، فكانوا أبعد ناس عن اتباع الحق وتصديق الرسل وأوغلهم في العصيان، وكفروا بأنواع من الكفر والرسل، تنتابهم الغيبةبعد الغيبة، فأخبر تعالى عنهم بأنهم شر من الكفار. {وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } أي عن وسط السبيل، وقصده:أي هم حائرون لا يهتدون إلى مستقيم الطريق. {وَإِذَا * جَاءوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْبِهِ } ضمير الغيبة في جاؤوكم لليهود والمعاصرين للرسول وخاصة بالمنافقين منهم قاله: ابن عباس، وقتادة، والسدي، وهو على حذفمضاف. إذ ظاهر الضمير أنه عائد على من قبله التقدير: وإذا جاؤوكم أهلهم أو نساؤهم. وتقدم من قولنا: أن يكونمن لعنه الله إلى آخره عبارة عن المخاطبين في قوله:

{ قُلْ يٰأَهْلَ * أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ }

وأنه مما وضعالظاهر موضع المضمر فكأنه قيل: أنتم فلا يحتاج هذا إلى حذف مضاف. كان جماعة من اليهود يدخلون على رسولالله ﷺ يظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبر الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون كما دخلوا، لم يتعلقوا بشيءمما سمعوا من تذكير وموعظة، فعلي هذا الخطاب في جاؤوكم للرسول، وقيل: للمؤمنين الذين كانوا بحضرة الرسول. وهاتان الجملتان حالان،وبالكفر وبه حالان أيضاً أي: ملتبسين. ولذلك دخلت قد تقريباً لها من زمان الحال ولمعنى آخر وهو: أن أمارات النفاقكانت لائحة عليهم، وكان رسول الله ﷺ متوقعاً لإظهار ما تكتموه، فدخل حرف التوقع وخالف بين جملتيالحال اتساعاً في الكلام. وقال ابن عطية: وقوله: وهم، تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر وهم قد خرجوابه، فأزال الاحتمال قوله تعالى: وهم قد خرجوا به، أي هم بأعيانهم انتهى. والعامل في الحالين آمنا أي: قالوا ذلكوهذه حالهم. وقيل: معنى هم للتأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم من سوءمعاملته لهم، بل كان يلطف بهم ويعاملهم بأحسن معاملة. فالمعنى: أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم، لا أنك أنتالذي تسببت لبقائهم في الكفر. والذي نقول: إن الجملة الإسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أواسم يتحمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيدزيد. ولما كانوا حين جاءوا الرسول أو المؤمنين قالوا: آمنا ملتبسين بالكفر، كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر، لأنرؤيته ﷺ كافية في الإيمان. ألا ترى إلى قول بعضهم حين رأى الرسول: علمت أن وجهه ليسبوجه كذاب، مع ما يظهر لهم من خوارق الآيات وباهر الدلالات، فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لايخرجوا به، بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهراً وباطناً. فأكد وصفهم بالكفر بأن. كرر المسند إليه تنهبياً على تحققهم بالكفر وتماديهمعليه، وأنَّ رؤية الرسول م تجد عنهم، ولم يتأثروا لها. وكذلك إن كان ضمير الخطاب في: وإذا جاءوكم قالوا آمنا،كان ينبغي لهم أن يؤمنوا ظاهراً وباطناً لما يرون من اختلاف المؤمنين وتصديقهم للرسول، والاعتماد على الله تعالى والرغبة فيالآخرة، والزهد في الدنيا، وهذه حال من ينبغي موافقته. وكان ينبغي إذ شاهدوهم أن يتبعوهم على دينهم، وأن يكون إيمانهمبالقول موافقاً لاعتقاد قلوبهم. وفي الآية دليل على جواز مجيء حالين لذي حال واحد، إن كانت الواو في: وهم، واوحال، لا واو عطف، خلافاً لمن منع ذلك إلا في أفعل التفضيل. والظاهر أنّ الدخول والخروج حقيقة. وقيل: هما استعارة،والمعنى: تقلبوا في الكفر أي دخلوا في أحوالهم مضمرين الكفر وخرجوا به إلى أحوال أخر مضمرين له، وهذا هو التقلب.والحقيقة في الدخول انفصال بالبدن من خارج مكان إلى داخله، وفي الخروج انفصال بالبدن من داخله إلى خارجة. {وَٱللَّهُأَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } أي من كفرهم ونفاقهم. وقيل من صفة محمد ﷺ ونعته وفي هذامبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والكيد والعداوة. {وَتَرَىٰ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يحتمل ترى أن تكون بصرية، فيكون يسارعون صفة: وأن تكون علمية، فيكون مفعولاً ثانياً.والمسارعة: الشروع بسرعة. والإثم الكذب. والعدوان الظلم. يدل قوله عن قولهم الإثم على ذلك، وليس حقيقة الإثم الكذب، إذ الإثمهو المتعلق بصاحب المعصية، أو الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى بهم إلى غيرهم. أو الإثم الكفر، والعدوان الاعتداء.أو الإثم ما كتموه من الإيمان، والعدوان ما يتعدى فيها. وقيل: العدوان تعديهم حدود الله أقوال خمسة. والجمهور على أنالسحت هو الرشا، وقيل: هو الربا، وقيل: هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث. وعلق الرؤية بالكثير منهم، لأن بعصهم كان لايتعاطى ذلك المجموع أو بعضه، وأكثر استعمال المسارعة في الخير فكأن هذه المعاصي عندهم من قبيل الطاعات، فلذلك يسارعون فيها.والإثم يتناول كل معصية يترتب عليها العقاب، فجرد من ذلك العدوان وأكل السحت، وخصا بالذكر تعظيماً لهاتين المعصيتين وهما: ظلمغيرهم، والمطعم الخبيث الذي ينشأ عنه عدم قبول الأعمال الصالحة. وقرأ أبو حيوة: العِدوان بكسر ضمة العين، وتقدم الكلام فيما بعد بئس في قوله:

{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ }

{لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَلَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمربالمعروف. وقال العلماء: في ما في القرآن آية أشد توبيخاً منها للعلماء. وقال الضحاك: ما في القرآن أخوف منها، ونحوهابن عباس. والإثم هنا ظاهره الكفر، أو يراد به سائر أقوالهم التي يترتب عليها الإثم. وقرأ الجراح وأبو واقد: الربيونمكان الربانيون، وابن عباس بئس ما كانوا يصنعون بغير لام قسم. والظاهر أنّ الضمير في كانوا عائد على الربانيين، والأحبارإذ هم المحدث عنهم والموبخون بعدم النهي. قال الزمخشري: كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة حتىيتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وكان المعنى في ذلك: أن مواقع المعصية معها الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها،وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالاً من المواقع، وظهر بذلكالفرق بين ذمِّ متعاطي الذنب، وبين تارك النهي عنه، حيث جعل ذلك عملاً وهذا صناعة. وقد يقال: أنه غاير فيذلك لتفنن الفصاحة، ولترك تكرار اللفظ. وفي الحديث: مَّا مِن * رَجُلٌ يجاور قوماً فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلا أوشك أن يعمهم الله منه بعقاب وأوحى إلى يوشع بهلاك أربعين ألفاً من خيار قومه،وستين ألفاً من شرارهم فقال: يا رب ما بال الأخيار؟ فقال: إنهم لم يغضبوا الغضبى، وواكلوهم وشاربوهم. وقال مالك بندينار: أوحى الله إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا، فقالت الملائكة: إنّ فيها عبدك العابد فقال: أسمعوني ضجيجه، فإنه لميتمعر وجهه أي: لم يحمرّ غضباً. وكتب بعض العلماء إلى عابد تزهد وانقطع في البادية: إنك تركت المدينة مهاجر رسولالله ﷺ ومهبط وحيه وآثرت البداوة. فقال: كيف لا أترك مكاناً أنت رئيسه، وما رأيت وجهك تمعرفي ذات الله قط يوماً أو كلاماً هذا معناه أو قريب من معناه. وأما زماننا هذا وعلماؤنا وعبادنا فحالهم معروففيه، ولم نر في أعصارنا من يقارب السلف في ذلك غير رجل واحد وهو أستاذنا أبو جعفر بن الزبير، فإنله مقامات في ذلك مع ملوك بلاده ورؤسائهم حمدت فيها آثاره، ففي بعضها ضرب ونهبت أمواله وخربت دياره، وفي بعضهاأنجاه من الموت فراره، وفي بعضها جعل السجن قراره. {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُٱلإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } نزلت في فنخاص قاله: ابن عباس. وقالمقاتل: فيه وفي ابن صوريا، وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك. ونسب ذلك إلى اليهود، لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهمفي ذلك. واليد في الجارحة حقيقة، وفي غيرها مجاز، فيراد بها النعمة تقول العرب: كم يدلي عند فلان، والقوة والملكوالقدرة. قل: إن الفضل بيد الله قال الشاعر

:وأنـت علـى أعبـاء ملكـك ذويــد    

أي ذو قدرة،والتأييد والنصر يد الله مع القاضي حين يقضي، والقاسم حين يقسم. وتأتي صلة

{ مما عملت أيدينا أنعاماً }

أيمما عملنا

{ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنّكَاحِ }

أي الذي له عقدة النكاح. وظاهر قول اليهود إن للهيداً فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية، قاعد على كرسي.وزعموا أنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة، واستلقى على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة. وردّ اللهتعالى ذلك بقوله:

{ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ }

{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ }

وظاهر مساق الآية يدل على أنهمأرادوا بغلّ اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود، ومنه

{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ }

ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبينما وقع مجازاً عنه، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط، ولايمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها. وقال حبيب في المعتصم

: تعود بسط الكف حتى لو أنه     ثناها لقبض لم تجبه أنامله

كنى بذلك عن المبالغة في الكرم.وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال ابن عباس: هو أن الله كان يبسط لهم الرزق، فلما عصوا أمر الرسولوكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك. وقال قتادة: لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل. وقيل:لما استعان بهم في الديات. وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية. وقال قتادة أيضاً: لما أعان النصارى بخت نصر المجوسي علىتخريب بيت المقدّس قالت اليهود: لو كان صحيحاً لمنعنا منه، فيده مغلولة. وقال الحسن: مغلولة عن عذابهم فهي في معنى:{نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } وهذان القولان يدفعهما قوله:

{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء }

وقال الكلبي: كانوامخصبين وقالوا ذلك عناداً واستهزاء وتهكماً انتهى. والظاهر أن قولهم: يد الله مغلولة خبر، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام.أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب: ابن عباس، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله: الحسن. أو إلى أن يرد علينا ملكنا. قال الطبري: غلتأيديهم خبر، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة. قاله الحسن: أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قومقاله الزجاج. وقال مقاتل: أمسكت عن الخير. وقيل: هو دعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم.قال الزمخشري: ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم. والطباقمن حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله دابره، لأن السب أصله القطع. (فإن قلت): كيف جازأن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ (قلت): المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدونبخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم،وتمزّق أعراضهم انتهى كلامه. وأخرجه جار على طريقة الاعتزال. والذي يظهر أنّ قولهم: يد الله مغلولة، استعارة عن إمساك الإحسانالصادر من المقهور على الإمساك. ولذلك جاؤا بلفظ مغلولة، ولا يغل إلا المقهور، فجاء قوله: غلت أيديهم، دعاء عليهم بغلالأيدي، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي، فهياستعارة عن ذلهم وقهرهم، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم: يد اللهمغلولة، وليست هذه المقالة بدعاً منهم فقد قالوا:

{ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء }

{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَاقَالُواْ } يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أنيكون عاماً فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا. وقرأ أبوالسمال: بسكون العين كما قالوا: في عصر عصرون. وقال الشاعر

:لو عصـر منـه البـان والمسـك انعصـر    

ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين، فحسن التخفيف. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } معتقد أهل الحقأن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له، ولا يشبه بشيء من خلقه، ولا يكيف، ولا يتحيز، ولا تحله الحوادث،وكل هذا مقرر في علم أصول الدين. والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ، وأضاف ذلك إلى اليدينجارياً على طريقة العرب في قولهم: فلان ينفق بكلتا يديه. ومنه قوله

: يداك يدا مجد فكف مفيدة     وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق

ويؤيد أنّ اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينةالإنفاق. ومن نظر في كلام العرب عرف يقيناً أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل، وقد استعملت العرب ذلك حيثلا يكون قال الشاعر

: جاد الحمى بسط اليدين بوابل     شكرت نداه تلاعه ووهاده

وقال لبيد

: وغداة ريح قد وزعت وقرة     قد أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال: بسط اليأس كفه في صدري، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفاً. قال الزمخشري:ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يدالطاعن إذا عبثت به ثم قال: (فإن قلت): لم ثينت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد اللهمغلولة؟ (قلت): ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه، وذلك أن غاية مايبذله السخي بما له من نفسه، وأن يعطيه بيديه جميعاً، فبنى المجاز على ذلك انتهى. وكلامه في غاية الحسن. وقيلعن ابن عباس: يداه نعمتاه، فقيل: هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدّنيا، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرّزقوالكفاية، أو الظاهرة والباطنة، أو نعمة المطر ونعمة النبات، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا. وقوله:

{ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ }

و

{ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا }

و

{ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }

و

{ وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِى }

و

{ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا }

و

{ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }

ونحوها. فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجازالاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام. وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب: هذه كلها صفات زائدة علىالذات، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد. وقال قوم منهم الشعبي، وابن المسيب، والثوري: نؤمن بها ونقر كمانصت، ولا نعين تفسيرها، ولا يسبق النظر فيها. وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب، وهذه المسألةحججها في علم أصول الدين. وقرأ عبد الله: بسيطتان يقال: يد بسيطة مطلقة بالمعروف. في مصحف عبد الله: بسطان، يقال:يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول: ناقة صرح، ومشية سجح، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء، وأنهلا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة، وقال الحوفي: يجوزأن يكون خبراً بعد خبر، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في مبسوطتان انتهى. ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أنيكون الضمير العائد على المبتدأ، أو على ذي الحال محذوفاً التقدير: ينفق بهما. قال الحوفي: كيف سؤال عن حال، وهينصب بيشاء انتهى. ولا يعقل هنا كونها سؤالاً عن حال، بل هي في معنى الشرط كما تقول: كيف تكون أكون،ومفعول يشاء محذوف، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم، كما يدل في قولك: أقوم إن قام زيد على جوابالشرط والتقدير: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، كما تقول: كيف تشاء أن أضربك أضربك، ولا يجوز أن يعمل كيفينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جاراً، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط. ونظيرذلك قوله:

{ فَيَبْسُطُهُ فِى ٱلسَّمَاء كَيْفَ يَشَاء }

{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَطُغْيَـٰناً وَكُفْراً } علق بكثير، لأن منهم مَن آمن ومن لا يزداد إلا طغياناً، وهذا إعلام للرّسول بفرط عتوهم إذكانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولايعرفها غيرهم، لكنْ رتبوا على ذلك غير مقتضاه، وزادهم ذلك طغياناً وكفروا، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم. وقال الزجاج: كلما نزلعليك شيء كفروا به. وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدّماء. وقيل: المرادبالكثير علماء اليهود. وقيل: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر. {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ }قيل: الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى، لأنه جرى ذكرهم في قوله:

{ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء }

ولشمول قوله:

{ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ }

للفريقين وهذا قول: الحسن، ومجاهد. وقيل: هو عائد على اليهود، إذ هم جبريةوقدرية وموحدة ومشبهة، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية. والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين، فلا يمكن اجتماعكلمتهم على قتالك، ولا يقدرون على ضررك، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك، لأن الطائفتين لا توادّ بينهم فيجتمعان علىحربك. وفي ذلك إخبار بالمغيب، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت.وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله: فكلهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم، ولا تعاضد انتهى. والعداوة أخصمن البغضاء، لأن كل عدوّ مبغض، وقد يبغض من ليس بعدوّ. وقال ابن عطية: وكأنّ العداوة شيء يشهد يكون عنهعمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه. {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } قال قوم: هو علىحقيقته وليس استعارة، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة، فيتبادرون والجيش يسري ليلاًفيوقد من مرّ بهم ليلاً النار فيكون إنذاراً، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس، يكون قريباً من ديارهمرئية للمسلمين مستخف في جبل في غار، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نار، فإذا رآها رئية آخر قد أعدّللمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد ناراً، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان، ويعرف ذلك منأي جهة نهر من الكفار، فيعدّ المسلمون للقائهم. وقيل: إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل ناراً مخافة البيات، فهذاأصل نار الحرب. وقيل: كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم أوقدوا ناراً وتحالفوا، فعلى كون النار حقيقة يكون معنىإطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون، فلما تقاعدوا عنهم أطفؤها، وأضاف تعالى الإطفاءإليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي. وقال الجمهور: هو استعارة، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنينوالاغتيال والقتال، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك، وتفرّق آرائهم، وحل عزائمهم، وتفرّق كلمتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم. فهم لا يريدونمحاربة أحد إلا غلبوا وقهروا، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملكالمجوس. وقيل: خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي، ثم أفسدوا فسلط الله عليهمالمجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين. وقال قوم: هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة، والتهاب شواظ قلوبهم، وغليان صدورهم.ومنه الآن حمى الوطيس للجد في الحرب، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته، وضرب الإطفاء مثلاً لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كلموطن. قال مجاهد: هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم، وإشارة إلى حاضريه من اليهود. وقال السدّي والربيع وغيرهما:هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هدّ الله ملكهم، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة، ولا يقاتلون جميعاً إلافي قرى محصنة. وقال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس. {وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلاْرْضِ فَسَاداً }يحتمل أن يريد بالسعي نقل الإقدام أي: لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض، فيكون أبلغ فيالاجتهاد، والظاهر أنه يراد به العمل. والفعل أي: يجتهدون، في كيد أهل الإسلام ومحوذ ذكر الرسول من كتبهم. والأرض يجوزأن يراد بها الجنس، أو أرض الحجاز، فتكون أل فيه للعهد. قال ابن عباس ومقاتل: فسادهم بالمعاصي. وقال الزجاج: بدفعالإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم. وقيل: بسفك الدماء واستحلال المحارم. وقيل: بالكفر. وقيل: بالظلم، وكل هذه الأقوال متقاربة.{وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } ظاهر المفسدين العموم، فيندرج هؤلاء فيهم. وقيل: أل للعهد، وهم هؤلاء. وانتفاء المحبة كناية عنكونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه، فهؤلاء يثيبهم. وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب.{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ وَلاْدْخَلْنَـٰهُمْ جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ }. قيل: المراد أسلافهم، ودخل فيها المعاصرون بالمعنى.والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم، والذي يظهر أنهم معاصرو الرسول ﷺ، وفيذلك ترغيب لهم في الدخول في الإسلام. وذكر شيئين وهما: الإيمان، والتقوى. ورتب عليهم شيئين: قابل الإيمان بتكفير السيئات إذالإسلام يجب ما قبله، وترتب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب المناهي دخول جنة النعيم، وإضافة الجنة إلى النعيم تنبيهاًعلى ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وقيل: واتقوا أي: الكفر بمحمد ﷺ، وبعيسىعليه السلام. وقيل: المعاصي التي لعنوا بسببها. وقيل: الشرك. قال الزمخشري: ولو أنهم آمنوا بمحمد ﷺ وبماجاء به، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان، لكفرنا عنهم تلك السيئات، فلم نؤاخذهم بها، ولأدخلناهم معالمسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة علىكل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى كماقال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب؟ انتهى كلامه. وفيه من الاعتزال. وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان،وقوله: وأن الإيمان لا ينجى ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى. {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّنرَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } هذا استدعاء لإيمانهم، وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم، وترغيب لهمفي عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها، إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهمفي الدنيا. ولمّا رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة، رغبهم في هذه الآية فيموعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي، والذي به النجاةالسرمدية، والنعيم الذي لا ينقضي. ومعنى إقامة التوراة والإنجيل: هو إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعهكقولهم: أقاموا السوق أي حركوها وأظهروها، وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيآته. وفي قوله: والإنجيل دليل علىدخول النصارى في لفظ أهل الكتاب. وظاهر قوله: وما أنزل إليهم من ربهم، العموم في الكتب الإلهية مثل: كتاب أشعياء،وكتاب حزقيل، وكتاب دانيال، فإنها مملوءة من البشارة بمبعث الرسول. وقيل: ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن. وظاهر قوله:لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أنه استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: قد عمه الرزقمن فرقه إلى قدمه ولا فوق ولا تحت حكاه الطبري والزجاج. وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدّي: لأعطتهم السماء مطرهاوبركتها، والأرض نباتها كما قال تعالى:

{ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ }

وذكر النقاش من فوقهم من رزقالجنة، ومن تحت أرجلهم من روق الدنيا إذ هو من نبات الأرض. وقيل: من فوقهم كثرة الأشجار المثمرة، ومن تحتأرجلهم الزرع المغلة. وقيل: من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدّل منها من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط منهاعلى الأرض، وتحت أرجلهم. وقال تاج القراء: من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم منسفلتهم وعوامّهم، وعبر بالأكل عن الأخذ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة. {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب. والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله: وكثير منهم. والاقتصادمن القصد وهو الاعتدال، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي: كانت أولاً جائزة ثم اقتصدت. قيل: هم مؤمنو الفريقين عبدالله بن سلام وأصحابه، وثمانية وأربعون من النصارى. واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى. وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديماًوحديثاً، ونحوه قول ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب. وذكر الزجاج وغيره: أنها الطوائف التي لم تناصبالأنبياء مناصبة المتمرّدين المجاهدين. وقال الزمخشري: مقتصدة حالها أمم في عداوة الرسول ﷺ. وقال الطبري: من بنيإسرائيل من يقتصد في عيسى فيقول: هو عبد الله ورسوله وروح منه، والأكثر منهم غلافية فقال بعضهم: هو الإله، وعلىهذا مشى الرّوم ومن دخل بآخره في ملة عيسى. وقال بعضهم وهو الأكثر من بني إسرائيل: هو آدمي كغيره لغيررشده، فتلخص في الاقتصاد أهو في حق عيسى؟ أو في المناصبة؟ أو في الإيمان؟ فإن كان في المناصبة فهل هوبالنسبة إلى الرسول وحده أم بالنسبة إلى الأنبياء؟ قولان. وإن كان في الإيمان فهل هو في إيمان من آمن بالرسولمن الفريقين أو من آمن قديماً وحديثاً؟ قولان. {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } هذا تنويع في التفصيل. فالجملةالأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور، والخبر الجملة من قوله: ساء ما يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريبمن حيث المعنى. وذلك أن الاقتصاد جعل وصفاً، والوصف ألزم للموصوف من الخبر، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة، وأخبرعنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل، ثمقد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم، باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإنهم منهمحقيقة لأنهم كفار، فجاء الوصف بالإلزام، ولم يجعل خبراً، وجعل خبر الجملة التي هي ساء ما يعملون، لأن الخبر ليسمن شأنه اللزوم، فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة، واختار الزمخشري في ساء أنتكون التي لا تنصرف، فإن فيه التعجب كأنه قيل: ما أسوأ عملهم ولم يذكر غير هذا الوجه. واختار ابن عطيةأن تكون المتصرفة تقول: ساء الأمر يسوء، وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس كقوله: ساء مثلاً. فالمتصرفةتحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون بالمؤمنين، وغير المتصرفة تحتاج إلى تمييز أي: ساء عملاً ما كانوايعملون. {يَعْمَلُونَ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ } هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصافالجنس الإنساني، وأمر بتليغ ما أنزل إليه وهو ﷺ قد بلغ ما أنزل إليه، فهو أمر بالديمومة.قال الزمخشري: جميع ما أنزل إليك، وأي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه. وقالابن عطية: أمر من الله لرسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال، لأنه قد قال: بلغ، فإنما أمر في هذه الآية أنلا يتوقف على شيء مخافة أحد، وذلك أنّ رسالته عليه السلام تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وفساد أحوالهم، فكان يلقىمنهم عنتاً، وربما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية. وعن ابن عباس عنه عليه السلام: لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية وقيل: هو أمر بتبليغ خاص أي:ما أنزل إليك من الرجم والقصاص الذي غيره اليهود في التوراة والنصارى في الإنجيل. وقيل: أمر بتبليغ أمر زينب بنتجحش ونكاحها. وقيل: بتبليغ الجهاد والحث عليه، وأن لا يتركه لأجل أحد. وقيل: أمر بتبليغ معائب آلهتهم، إذ كان قدسكت عند نزول قوله:

{ وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ }

الآية عن عيبها وكل واحد من هذاالتبليغ الخاص. قيل: أنها نزلت بسببه، والذي يظهر أنه تعالى أمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بتبليغ ما أنزل إليهفي أمرهم وغيره من غير مبالاة بأحد، لأن الكلام قبل هذه الآية وبعدها هو معهم، فيبعد أن تكون هذه الآيةأجنبية عما قبلها وعما بعدها. {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزلإليك، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط، إذ صار المعنى: وإن لم تفعل لم تفعل، والجواب لا بد أن يغايرالشرط حتى يترتب عليه. فقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلهاكأنه لم يبعث رسولاً، كان أمراً شنيعاً. وقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركبالأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله:

{ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً }

والثاني: أن يرادفإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه السلام: {فَأَوْحَىٰ* ٱللَّهُ إِلَيْكَ * إِن لَّمْ * تَبْلُغَ }. وقال ابن عطية: أي إن تركت شيئاً فكأنك قد تركت الكل،وصار ما بلغت غير معتد به. فمعنى: وإن لم تفعل، وإن لم تستوف. ونحو هذا قول الشاعر

: سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا     فسيان لا ذمّ عليك ولا حمد

أي إنلم تعط ما يعد نائلاً وألا تتكاذب البيت. وقال أبو عبد الله الرازي: أجاب الجمهور بأنْ لم تبلغ واحداً منهاكنت كمن لم يبلغ شيئاً. وهذا ضعيف، لأنّ من أتى بالبعض وترك البعض. فإن قيل: إنه ترك الكل كان كاذباً،ولو قيل: إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل، فهذا هو المحلل الممتنع، فسقط هذا الجوابانتهى. وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به، لأنه قال: فإنْ قيل أنه ترك الكل كان كاذباً، ولم يقولواذلك إنما قالوا: إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداها جميعاً. كما أنّمن لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها، وكونها لذلك في حكمشيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به،وأما ما ذكر من أنّ مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع، فلا استحالة فيه.ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم، ويؤاخذ بالذنب الحقير:

{ عَمَّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ }

وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية، رتب علىمن أخذ شيئاً بالاختفاء والتستر، قطع اليد مع ردّ ما أخذه أو قيمته، ورتب على من أخذ شيئاً بالقهر والغلبةوالغصب ردّ ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون قطع اليد. وقال أبو عبد الله الرازي: والأصح عندي أن يقال:إن هذا خرج على قانون قوله: أنا أبو النجم وشعرى شعرى، ومعناه: أن شعرى بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيثمتى قيل فيه انه شعرى فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها، وهذا الكلام مفيد المبالغةالتامة من هذا الوجه، فكذا هاهنا. قال: فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته، يعني: أنه لا يمكن أن يصفالبليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم، فكان ذلك تنبيهاً على التهديد والوعيد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر:رسالاته على الجمع. وقرأ باقي السبعة: على التوحيد. {وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } أي لا تبال في التبليغ، فإنالله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة، ولا باغتيال، ولا باسيتلاء عليك بأخذ وأسر. قال محمد بن كعب:نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي ﷺ ليقتله انتهى، وهو غورث بن الحارث، وذلك في غزوةذات الرقاع. وروى المفسرون أنّ أبا طالب كان يرسل رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله: والله يعصمكمن الناس، فقال: إن الله قد عصمني من الجن والإنس، فلا أحتاج إلى من يحرسني. وقال ابن جريج: كان يهابقريشاً فلما نزلت استلقى وقال: {مَن شَاء }. وروى أبو أمامة حديث ركانة من: ولد هاشم مشركاً أفتك الناس وأشدهم،تصارع هو والرسول، فصرعه الرسول ﷺ ثلاثاً ودعاه إلى الإسلام، فسأله آية، فدعا الشجرة فأقبلت إليه. وقدانشقت نصفين، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضمحيث ركانة، فسارا نحوه واجتمعا به، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة، فأخبرهما خبره معه وضحك، وقرأ والله يعصمك منالناس. وهذا ما قبله يدل على أنّ ذلك نزل بمكة أو في ذات الرقاع، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول بهامقيم شهراً، وحرسه سعد وحذيفة، فنام غط، فنزلت، فأخرج إليهما رأسه من قبة أدم وقال: {ٱنصَرَفُواْ * أَيُّهَا ٱلنَّاسُ *فَقَدْ } وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم: وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل: الآية نزلت بعد أحد،فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر،وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله، وابتلاء الأنبياء أشد،وما أعظم تكليفهم. وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار، والناس عام يراد به الكفار يدل عليه مابعده. وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصداًلا عداء له مغالبة واغتيالاً. وفيه دليل على صحة نبوّته، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عندالله تعالى، وكذا جميع ما أخبر به. {تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِىٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي إنما عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبداً، فيكون خاصاً.قال ابن عطية: أما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره. وقالالزمخشري: ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله، بل من الهلاك انتهى. وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهممنك. وقيل: المعنى لا يهديهم إلى الجنة. والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولاً. {قُلْ يٰأَهْلَ *أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ * لَسْتُمْ عَلَىٰ شَىْء حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ } قال رافع بن سلامبن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، وإنك تؤمن بالتوراة ونبوةموسى، وأن ذلك حق؟ قال: بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فقالوا: إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق، ولا نصدقك، ولانتبعك فنزلت. وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل، فأغنى عن إعادته. ونفى أن يكونوا على شيء جعل ماهم عليه عدماً صُرِفاً لفساده وبطلانه فنفاه من أصله، أو لا حظ فيه، صفة محذوفة أي: على شيء يعتد به،فيتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف. {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً} تقدم تفسير هذه الجملة. {فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي لا تحزن عليهم. فأقام الظاهر مقام المضمرتنبيهاً على لعلة الموجبة لعدم التأسف، أو هو عام فيندرجون فيه. وقيل: في قوله:

{ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ }

جمعفي الضمير، والمقصود التفصيل أي: حتى يقيم أهل التوراة التوراة، ويقيم أهل الإنجيل الإنجيل، ولا يحتاج إلى ذلك إن أريدما في الكتابين من التوحيد، فإنّ الشرائع فيه متساوية. {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِئُونَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِوَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وعَمِلَ صَـٰلِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ } تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية. وقرأ عثمان، وأبيوعائشة، وابن جبير، والجحدري: والصابئين. قال الزمخشر: وبها قرأ ابن كثير. وقرأ الحسن، والزهري: والصابئون بكسر الباء وضم الياء، وهومن تخفيف الهمز كقراءة: يستهزئون. وقرأ القراء السبعة: والصابئون بالرفع، وعليه مصاحف الأمصار، والجمهور. وفي توجيه هذه القراءة وجوه: أحدها:مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة: أنه مرفوع بالابتداء، وهو منوي به التأخير، ونظيره: إنّ زيداً وعمرو قائم، التقدير: وإن زيداًقائم وعمرو قائم، فحذف خبر عمرو لدلالة خبر إنّ عليه، والنية بقوله: وعمرو، التأخير. ويكون عمرو قائم بخبره هذا المقدرمعطوفاً على الجملة من أنّ زيداً قائم، وكلاهما إلا موضع له من الإعراب. الوجه الثاني: أنه معطوف على موضع اسمإنّ لأنه قبل دخول إن كان في موضع رفع، وهذا مذهب الكسائي والفراء. أما الكسائي فإنه أجاز رفع المعطوف علىالموضع سواء كان الاسم مما خفي فيه الإعراب، أو مما ظهر فيه. وأما الفراء فإنه أجاز ذلك بشرط خفاء الإعراب.واسم إن هنا خفي فيه الإعراب. الوجه الثالث: أنه مرفوع معطوف على الضمير المرفوع في هادوا: وروي هذا عن الكسائي.ورد بأنّ العطف عليه يقتضي أنّ الصابئين تهودوا، وليس الأمر كذلك. الوجه الرابع: أن تكون إن بمعنى نعم حرف جواب،وما بعده مرفوع بالابتداء، فيكون والصابئون معطوفاً على ما قبله من المرفوع، وهذا ضعيف. لأن ثبوت أن بمعنى نعم فيهخلاف بين النحويين، وعلى تقدير ثبوت ذلك من لسان العرب فتحتاج إلى شيء يتقدمها يكون تصديقاً له، ولا تجيء ابتدائيةأول الكلام من غير أن تكون جواباً لكلام سابق. وقد أطال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه ونصرته، وذلك مذكور فيعلم النحو، وأورد أسئلة وجوابات في الآية إعرابية تقدم نظيرها في البقرة. وقرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا والذينهادوا والصابئون. {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود مننقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم، وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم، والذين هم بحضرة الرسولهم أخلاف أولئك، فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان، إذ ذاك شنشنة من أسلافهم. {كُلَّمَا جَاءهُمْرَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } تقدم تفسير مثل هذا في البقرة. وقال الزمخشري هنا: (فإنقلت): أين جواب الشرط؟ فإن قوله فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين، ولأنهلا يحسن أن تقول: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت. (قلت): هو محذوف يدل عليه قوله: فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، كأنهقيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه. وقوله: فريقاً كذبوا، جواب مستأنف لسؤال قاتل: كيف فعلوا برسلهم؟ انتهى قوله: فإن قلت:أين جواب الشرط؟ سمي قوله كلما جاءهم رسول شرطاً وليس بشرط، بل كل منصوب على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبكمن ما المصدرية الظرفية، والعامل فيها هو ما يأتي بعدما المذكورة، وصلتها من الفعل كقوله:

{ كُلَّمَا * نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـٰهُمْ }

كلما

{ أُلْقُواْ فِيهَا }

وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما، وعلى تسليم تسميته شرطاً فذكر أنقوله: فريقاً كذبوا ينبو عن الجواب لوجهين: أحدهما: قوله: لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين، وليس كما ذكر، لأن الرسولفي هذا التركيب لا يراد به الواحد، بل المراد به الجنس. وأي نجم طلع، وإذا كان المراد به الجنس انقسمإلى الفريقين: فريق كذب، وفريق قتل. والوجه الثاني قوله: ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت، يعنيأنه لا يجوز تقديم منصوب فعل للجواب عليه. وليس كما ذكر، بل مذهب البصريين والكسائي إن ذاك جائز حسن، ولميمنعه إلا الفراء وحده، وهذا كله على تقدير تسليم إن كلما شرط، وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا، بل يجوزتقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه. فتقول في كلما جئتني أخاك أكرمت، وعموم نصوص النحويين على ذلك، لأنهم حينحصر، وأما يجب تقديم المفعول به على العامل وما يجب تأخيره عنه قالوا: وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم علىالعامل والتأخير عنه، ولم يستثنوا هذه الصورة، ولا ذكروا فيها خلافاً. فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله:كذبوا، وما عطف عليه ولا يكون محذوفاً. وقال الحوفي وابن عطية: كلما ظرف، والعامل فيه كذبوا. وقال أبو البقاء: كذبواجواب كلما انتهى. وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها قاله الزمخشري.ويحسن مجيئه أيضاً كونه رأس آية، والمعنى: أنهم يكذبون فريقاً فقط، وقتلوا فريقاً ولا يقتلونه إلا مع التكذيب، فاكتفى بذكرالقتل عن ذكر التكذيب أي: اقتصر ناس على تكذيب فريق، وزاد ناس على التكذيب القتل. {وَحَسِبُواْ * أَن لا*تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } قال ابن الأنباري: نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة،فلما بعث الرسول كذبوه بغياً وحسداً، فعموا وصموا لمجانبة الحق، ثم تاب الله عليهم أي: عرضهم للتوبة بإرسال الرسول صلىالله عليه وسلم، وإنْ لم يتوبوا ثم عموا وصموا كثير منهم لأنهم لم يجمعوا كلهم على خلافه انتهى. والضمير في:وحسبوا، عائد على بني إسرائيل، وحسبانهم سببه اغترارهم بإمهال الله حين كذبوا الرسل وقتلوا، أو وقوع كونهم أبناء الله وأحباءهفي أنفسهم، وأنهم لا تمسهم النار إلا مقدار الزمان الذي عبدوا فيه العجل، وإمداد الله لهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق،أو وقوع كون الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى في أنفسهم، واعتقادهم امتناع النسخ على شريعة موسى،فكل من جاءهم من رسول كذبوه وقتلوه خمسة أقوال. والفتنة هنا: الابتلاء والاختبار. فقيل: في الدّنيا بالقحط والوباء وهو الطاعون،أو القتل، أو العداوة، أو ضيق الحال، أو القمل، والضفادع، والدم، أو التيه، وقتال الجبارين، أو مجموع ما ذكر أقوالثمانية. وقيل: في الآخرة بالافتضاح على رؤوس الأشهاد، أو هو يوم القيامة وشدته، أو العذاب بالنار والخلود ثلاثة أقوال. وقيل:الفتنة ما نالهم في الدنيا وفي الآخرة، وسدت أنْ وصلتها مسد مفعولي حسب على مذهب سيبويه. وقرأ الحرميان وعاصم وابنعامر: بنصب نون تكون بأنْ الناصبة للمضارع، وهو على الأصل إذ حسب من الأفعال التي في أصل الوضع لغير المتيقن.وقرأ النحويان وحمزة برفع النون، وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة المنفية في موضع الخبر. نزلالحسبان في صدورهم منزلة العلم، وقد استعملت حسب في المتيقن قليلاً قال الشاعر

: حسبت التقى والجود خير تجارة     رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً

وتكون هنا تامة. {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْكَثِيرٌ مّنْهُمْ } قالت جماعة: توبتهم هذه ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول وعماهم وصممهم. قيل: ولوجهم في شهواتهمفلم يبصروا الحق، ولم يسمعوا داعي الله. وقالت جماعة: توبتهم يبعث عيسى عليه السلام. وقالت جماعة: بعث محمد صلى اللهعليه وسلم. وقيل: الأول: في زمان زكريا ويحيـى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ولتوفيق كثير منهم للإيمان. والثاني: في زمان رسولالله ﷺ آمن جماعة به، وأقام الكثير منهم على كفرهم. وقيل: الأول عبادة العجل ثم التوبة عنه،ثم الثاني بطلب الرؤية وهي محال غير معقول في صفات الله قاله: الزمخشري جرياً علي مذهبه الاعتزالي في إنكار رؤيةالله تعالى. وقال القفال في سورة بني إسرئيل؛ ما يجوز أن يكون تفسير لهذه الاية وقيل؛ الأول بعد موسى ثمتاب عليهم ببعث عيسى. والثاني بالكفر بالرسول. والذي يظهر أن المعنى حسب بنو إسرائيل حيث هم أبناء الرسل والأنبياء أنلا يبتلوا إذا عصوا الله، فعصوا الله تعالى وكنى عن العصيان بالعمى والصمم، ثم تاب الله عليهم إذ حلت بهمالفتنة برجوعهم عن المعصية إلى طاعة الله تعالى، وبدىء بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع أن لا يبصرمن أتاه بها من عند الله، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه، فعرض لهم الصمم عن كلامه. ولما كانوا قبلذلك على طريق الهداية، ثم عرض لهم الضلال، نسب الفعل إليهم وأسند لهم ولم يأت، فأعماهم الله وأصمهم كما جاءفي قوله: { أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ * فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ } إذ هذا فيمن لم تسبق لههداية، وأسند الفعل الشريف إلى الله تعالى في قوله: { ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } لم يأت، ثم تابوا إظهاراًللاعتناء بهم ولطفه تعالى بهم. وفي العطف بالفاء دليل على أنهم يعقب الحسبان عصيانهم وضلالهم، وفي العطف بثمّ دليل علىأنهم تمادوا في الضلال زماناً إلى أن تاب الله عليهم. وقرأ النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد وتخفيف الميم منعموا، جرت مجرى زكم الرجل وأزكمه، وحم وأحمه، ولا يقال: زكمه الله ولاحمه الله، كما لا يقال: عميته ولا صممته،وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله وهي متعَدّية ثلاثية، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة، فإذا أردت بناءهاللفاعل متعدية أدخلت همزة التنقل وهي نوع غريب في الأفعال. وقال الزمخشري: وعموا وصموا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهمأي: رماهم بالعمى والصمم كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك انتهى. وارتفاع كثير على البدل منالمضمر. وجوّزوا أن يرتفع على الفاعل، والواو علامة للجمع لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، ولا ينبغي ذلك لقلة هذهاللغة. وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أي: العمى والصم كثير منهم. وقيل: مبتدأ والجملة قبله في موضع الخبر. وضعفبأن الفعل قد وقع موقعه، فلا ينوي به التأخير. والوجه هو الإعراب الأول. وقرأ ابن أبي عبلة: كثيراً منهمبالنصب. {وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } هذا فيه تهديد شديد، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير، إذتقدّم قبله فعموا. {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } تقدم شرح هذه الجملة وقائلوذلك: هم اليعقوبية، زعموا أن الله تعالى تجلى في شخص عيسى عليه السلام. {وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِى * بَنِى إِسْرٰءيلَ*ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } ردّ الله تعالى مقالتهم بقول من يدعون إلهيته وهو عيسى، أنه لا فرق بينه وبينهمفي أنهم كلهم مربوبون، وأمرهم بإخلاص العبادة، ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية. وفي ذلك ردّ عليهم في فساددعواهم، وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يردّ عليهم مقالتهم، وهذا الذي ذكره تعالى عنه هو مذكورفي إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به، وهو قول المسيح: يا معشر بني المعمودية. وفي رواية: يا معشر الشعوب قوموا بناإلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم، ومخلصي ومخلصكم. {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ }الظاهر أنه كلام المسيح، فهو داخل تحت القول. وفيه أعظم ردع منه عن عبادته، إذ أخبر أنه من عبد غيرالله منعه الله دار من أفرده بالعبادة، وجعل مأواه النار. { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } وقيل:هو من كلام الله تعالى مستأنف، أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد. وفي الحديث الصحيح من حديث عتبان بن مالكعن رسول الله ﷺ: {أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ * ٱلنَّارِ عَلَىٰ * مِنْ * قَالَ لا * إِلَـٰهٍإِلاَّ ٱللَّهُ * تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }. {وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ظاهره أنه من كلام عيسى، أخبرهمأنه من تجاوز ووضع الشيء غيره موضعه فلا ناصر له، ولا مساعد فيما افترى وتقوّل، وفي ذلك ردع لهم عماانتحلوه في حقهم من دعوى أنه إله، وأنه ظلم إذا جعلوا ما هو مستحل في العقل واجباً وقوعه، أو فلاناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، أخبر أنهم ظلموا وعدلواعن الحق في أمر عيسى وتقوّلهم عليه، فلا ناصر لهم على ذلك. {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَـٰلِثُثَلَـٰثَةٍ } هؤلاء هم الملكية من النصارى القائلون بالتثليث. وظاهر قوله: ثالث ثلاثة، أحد الهة ثلاثة. قال المفسرون: أرادوا بذلكأن الله تعالى وعيسى وأمه آلهة ثلاثة، ويؤكده { قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ } { مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةً وَلاَ وَلَداً }{ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ }{ مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ }وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد ثلاثة أقانيم: أب،وابن، وروح قدس. وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروحالحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالحمر، أو اختلاطاللبن بالماء، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد. وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثةلا تكون واحداً، وأن الواحد لا يكون ثلاثة، ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة، لأنك لا تقولثلثت الثلاثة. وأجاز النصب في الذي يلي اسم الفاعل الموافق له في اللفظ أحمد بن يحيـى ثعلب، وردّوه عليه جعلوهكاسم الفاعل مع العدد المخالف نحو: رابع ثلاثة، وليس مثله إذ تقول: ربعت الثلاثة أي صيرتهم بك أربعة. {وَمَامِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفاً بالوحدانية، وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقيةوحصر إلهيته في صفة الوحدانية. وإله رفع على البدل من إله على الموضع. وأجاز الكسائي إتباعه على اللفظ، لأنه يجيززيادة من في الواجب، والتقدير: وما إله في الوجود إلا إله واحد أي: موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو اللهتعالى. {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي عما يفترون ويعتقدون في عيسىمن أنه هو الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أوعدهـم بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل، وفي الآخرة بالخلودفي النار، وقدم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغاً في الزجر أي: هذه المقالة في غاية الفساد، بحيث لا تختلفالعقول في فسادها، فلذلك توعد أوّلاً عليها بالعذاب، ثم اتبع الوعيد بالاستدلال بسمات الحدوث على بطلانها. وليمسنّ اللام فيهجواب قسم محذوف قبل أداة الشرط، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } ونظير هذه الآية: { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ } ومثله: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ومعنى مجيء إن بغير باء، دليلعلى أنه قبل إنْ قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال: فإنكم لمشركون الذين كفروا أي: الذين ثبتوا على هذاالاعتقاد. وأقام الظاهر مقام المضمر، إذ كان الربط بحصل بقوله: ليمسنهم، لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: لقد كفر وللإعلامبأنهم كانوا بمكان من الكفر، إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغاً من ثبوتها، واستقرارهالهم ومن في منهم للتبعيض، أي كائناً منهم، والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر، بلقد تاب كثير منهم من النصرانية. ومن أثبت أنّ مَن تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا، ونظره بقوله: { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ } {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } هذا لطف بهم واستدعاء إلى التنصل من تلك المقالةالشنعاء بعد أن كرّر عليهم الشهادة بالكفر. والفاء في أفلا للعطف، حجزت بين الاستفهام ولا النافية، والتقدير: فألا. وعلى طريقةالزمخشري تكون قد عطفت فعلاً على فعل، كأن التقدير: أيثبتون على الكفر فلا يتوبون، والمعنى على التعجب من انتفاء توبتهموعدم استغفارهم، وهم أجدر الناس بذلك، لأن كفرهم أقبح الكفر، وأفضح في سوء الاعتقاد، فتعجب من كونهم لا يتوبون منهذا الجرم العظيم. وقال الفراء: هو استهفام معناه الأمر كقوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال: إنما كان بمعنى الأمر،لأنّ المفهوم من الصيغة طلب التوبة والحث عليها، فمعناه: توبوا إلى الله واستغفروه من ذنبكم القولين المستحيلين انتهى. وقال ابنعطية: رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة انتهى. وما ذكروه من الحث والتحضيض على التوبة منحيث المعنى، لا من حيث مدلول اللفظ، لأن أفلا غير مدلول ألا التي للحض والحث. {وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }نبه تعالى على هذين الوصفين اللذين بهما يحصل قبول التوبة والغفران للحوبة، والمعنى: كيف لا توجد التوبة من هذا الذنبوطلب المغفرة والمسؤول منه ذلك متصف بالغفران التام والرحمة الواسعة لهؤلاء وغيرهم؟ {مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْخَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } والثاني بقوله: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } أثبت له الرسالة بصورة الحصر، أي ما المسيح ابن مريمشيء مما تدعيه النصارى من كونه إلهاً وكونه أحد آلهة ثلاثة، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا،جاء بآيات من عند الله كما جاءوا، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حيةتسعى، وفلق البحر، وطمس على يد موسى، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى. وفيقوله: إلا رسول رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة، وحيث ادعوا أنه ليس لرشده. وقرأ حطان: منقبله رسل بالتنكير. {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ } هذا البناء من أبنية المبالغة، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد، إذ بناء هذاالتركيب منه سكيت وسكير، وشريب وطبيخ، من سكت وسكر، وشرب وطبخ. ولا يعمل ما كان مبنياً من الثلاثي المتعدي كمايعمل فعول وفعالومفعال، فلا يقال: زيد شريب الماء، كما تقول: ضراب زيداً، والمعنى: الإخبار عنها بكثرة الصدق. قال ابن عطية:ويحتمل أن يكون من التصديق، وبه سمي أبو بكر الصديق. ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق. وهذا القول خلافالظاهر من هذا البناء. قال الزمخشري: وأمه صديقة أي وما أمه لا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهماإلا منزلة بشرين: أحدهما نبي، والآخر صحابي، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياءوصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه انتهى. وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه،من ذلك أن قوله: وأمه صديقة ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق، وجعله هو من باب الحصر فقال:وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه. قال الحسن: صدقتجبريل عليه السلام لما أتاها كما حكى تعالى عنها: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـٰتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ } وقيل: صدقت بآيات ربها، وبماأخبر به ولدها. وقيل: سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود. وقيل:وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة. قال تعالى: { فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ } ومن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشراًنبوته فقد كلمت الملائكة قوماً ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة: الأقرع، والأعمى، والأبرص. فكذلك مريم. {كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } هذاتنبيه على سمة الحدوث، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية، لأنّ من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارضلم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبركغيره من الأجسام، ولا حاجة تدعو إلى قولهم: كانا يأكلان الطعام كناية عن خروجه، وإن كان قد قاله جماعة منالمفسرين، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث. والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله، قال تعالى: { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه، فليس مقصوداً من اللفظ مستعاراًله ذلك. وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث، وأنهما مشاركان للناس في ذلك،ولا موضع لهذه من الجملة من الإعراب. {ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ ٱلاْيَـٰتِ }أي الاعلام من الأدلة الظاهرة على بطلانما اعتقدوه، وهذا أمر للنبي ﷺ. وفي ضمن ذلك الأمر لأمته في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبولما نبهوا عليه. {ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق، لأن الأول: أثر بالنظر في كونهتعالى أوضح لهم الآيات وبينها بحيث لا يقع معها لبس، والأمر الثاني: هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحقوتأمله، أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الضد منه، وهذان أمرا تعجيب. ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين،وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها، ثم ينظر في حال من بينت له فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب منتوضيحها، لأنه يلزم من تبيينها تبينها لهم والرجوع إليها، فكونهم أفكوا عنها أعجب.

{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } * { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } * { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } * { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } * { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً }لما بين تعالى بدليل النقل والعقل انتفاء الإلهية عن عيسى، وكان قد توعدهم ثم استدعاهم للتوبة وطلب الغفران، أنكر عليهمووبخهم من وجه آخر وهو عجزه وعدم اقتداره على دفع ضرر وجلب نفع، وأنّ مَن كان لا يدفع عن نفسهحريّ أن لا يدفع عنكم. والخطاب للنصارى، نهاهم عن عبادة عيسى وغيره، وأن ما يعبدون من دون الله مساويهم فيالعجز وعدم القدرة. والمعنى: ما لا يملك لكم إيصال خير ولا نفع. قيل: وعبر بما تنبيهاً على أول أحواله، إذْمرّت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها، ومن هذه صفته فكيف يكون إلهاً، أو لأنها مبهمة كما قالسيبويه. وما: مبهمة تقع على كل شيء، أو أريد به ما عبد من دون الله ممن يعقل، وما لا يعقل.وعبر بما تغليباً لغير العاقل، إذ أكثر ما عبد من دون الله هو ما لا يعقل كالأصنام والأوثان، أو أريدالنوع أي: النوع الذي لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً كقوله:

{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء }

أيالنوع الطيب، ولما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله: {وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي السميعلأقوالكم، العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم. وفي الإخبار عنه بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه، وتضمنت الآيةالإنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع ضرر أو جلب نفع. قيل: ومن مرّت عليهمدد لا يسمع فيها ولا يعلم، وتركوا القادر على الإطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات. {قُلْ يٰأَهْلَ * أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ* لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقّ } ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله ﷺ،ويتناول من جاء بعدهم. ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى، جمع الفريقان في النهي عن الغلوّ في الدين.وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه، بل المراد الدين الحق الذي جاء بهموسى وعيسى. قال الزمخشري: الغلو في الدين غلوان: غلو حق، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهدفي تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلةواتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى. وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهلالسنة، ومن عدا المعتزلة. ومن غلوا اليهود إنكار نبوة عيسى، وادعاؤهم فيه أنه الله. ومن غلوّ النصارى ما تقدّم مناعتقاد بعضهم فيه أنه الله، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة. وانتصاب غير هنا على الصفة أي: غلوّاً غير الحق. وأبعدمَن ذهب إلى أنها استثناء متصل، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره: لكن الحق فاتبعوه. {وَلاَ * تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءقَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ } هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا فيأنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلاإفراط ولا تفريط، بل هو سواء معتدل خيار. وقيل: الخطاب للنصارى، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال: قد ضلوا من قبلهم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي ﷺ، وأضلوا كثيراً ممن شايعهم على التثليث،وضلوا لما بعث رسول الله ﷺ عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه. وقال ابن عطية:هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم والذي دعا إلى هذا التأويلأن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل، بل هم في الضد بالأقوال، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى.فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج: هذه الطريقة طريقة فلان تمثله بآخر قد اعوج نوعاً من الاعوجاج وإن اختلفتنوازله. ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً، وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله: وضلوا عن سواء السبيل.وذهب بعض المتأولين إلى أنّ المعنى: يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبلأي: ضل أسلافهم، وهم قبل مجيء محمد ﷺ، وأضلوا كثيراً من المنافقين، وضلوا عن سواء السبيل الآنبعد وضوح الحق انتهى. ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي: اليهود، والنصارى. وأن قوله:ولا تتبعوا أهواء قوم، هم أسلافهم. فإن الزائغ عن الحق كثيراً ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته، كما قالوا:

{ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا }

فنهوا عن اتباع أسلافهم، وكان في تنكير قوم تحقير لهم. وما ذهب إليهالزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه. وما ذهب إليه ابن عطية أيضاً تخصيص وتأويل بعيد في قوله: ولا تتبعواأهواء قوم أن المراد بهم اليهود، وأن المعنى: لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى، لأن الظاهر النهيعن اتباع أهواء أولئك القوم. وأبعد من ذهب إلى أنّ الضلال الأول عن الدّين، والثاني عن طريق الجنة. {لُعِنَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ * دَاوُودُ *وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان. لعنواعلى عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد محمد في القرآن.وروى ابن جريج: أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود مرّ على نفروهم في بيتفقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الاحتجاب، قال: اللهم خنازير، فكانوا خنازير. ثم دعا عيسى على من افترىعليه وعلى أمه ولعنهم. وروي عن ابن عباس: لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة.وقال أكثر المفسرين: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفرأصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين،والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي. وقال الأصم وغيره: بشّرداود وعيسى بمحمد ﷺ، ولعنا من كذبه. وقيل: دعوا على من عصاهما ولعناه. وروي أن داود قال:اللهم ليلبسوا اللعنة مثل الرّداء ومثل منطقة الحقوين، اللهم اجعلهم آية ومثالاً لخلقك. والظاهر من الآية الإخبار عن أسلافاليهود والنصارى أنهم ملعونون. وبناء الفعل للمفعول يحتمل أن يكون الله تعالى هو اللاعن لهم على لسان داود وعيسى، ويحتملأن يكونا هما اللاعنان لهم. ولما كانوا يتبجحون بأسلافهم وأنهم أولاد الأنبياء، أخبروا أنّ الكفار منهم ملعونون على لسان أنبيائهم.واللعنة هي الطرد من رحمة الله، ولا تدل الآية على اقتران اللعنة بمسخ. والأفصح أنه إذا فرق منضماً الجزئين اختيرالإفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع، فكذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأت على لساني داود وعيسى، ولا علىألسنة داود وعيسى. فلو كان المنضمان غير متفرّقين اختير لفظ الجمع على لفظ التثنية وعلى الإفراد نحو قوله:

{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }

والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة، أي الناطق بلعنتهم هو داود وعيسى. {ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ }أي ذلك اللعن كان بسبب عصيانهم، وذكر هذا على سبيل التوكيد، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلقبه الوصف الدال على العلية، وهو الذين كفروا. كما تقول: رجم الزاني، فيعلم أنّ سببه الزنا. كذلك اللعن سببه الكفر،ولكن أكد بذكره ثانية في قوله: ذلك بما عصوا. {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } يحتمل أن يكون معطوفاً على عصوا، فيتقدربالمصدر أي: وبكونهم يعتدون، يتجاوزون الحد في العصيان والكفر، وينتهون إلى أقصى غاياته. ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من اللهبأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، ويقوي هذا ما جاء بعده كالشرح وهو قوله: {كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، وذلك أنهم جمعوا بن فعل المنكر والتجاهر به، وعدم النهيعنه. والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فإذافعلت جهاراً وتواطؤا على عدم الإنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإفشائها وكثرتها. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيفوقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية؟ (قلت): من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي، فكان الإخلال به معصية وهواعتداء، لأنّ في التناهي حسماً للفساد. وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآية إلى قوله فاسقون ثم قال: والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن به على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق اطراً، أو ليضرب الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم أخرجه الترمذي. ومعنى لتأطرنه لتردنه. وقيل: التفاعل عنا بمعنى الافتعال يُقال: انتهىعن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه، كما تقول: تجاوزوا واجتوزوا. والمعنى: كانوا لا يمتنعون عن منكر. وظاهر المنكر أنهغير معين، فيصلح إطلاقه على أيّ منكر فعلوه. وقيل: صيد السمك يوم السبت. وقيل: أخذ الرشا في الحكم. وقيل: أكلالربا وأثمان الشحوم. ولا يصح التناهي عما فعل، فإما أن يكون المعنى أرادوا فعله كما ترى آلات أمارات الفسق وآلاتهتسوى وتهيأ فينكر، وإما أن يكون على حذف مضاف أي: معاودة منكر أو مثل منكر. {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} ذم لما صدر عنهم من فعل المنكر وعدم تناهيهم عنه. وقال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم، مؤكداً لذلك بالقسم،فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به كأنه ليس من ملة الإسلام فيشيء مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب انتهى. وقال حذّاق أهل العلم: ليسمن شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية، بل ينهي العصاة بعضهم بعضاً. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعطونالكؤوس أن ينهي بعضهم بعضاً، واستدل بهذه الآية لأن قوله: لا يتناهون وفعلوه، يقتضي اشتراكهم في الفعل، وذمهم على تركالتناهي. وفي الحديث: لا يزال العذاب مكفوف عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها فلم ينكروها استحقوا عقاب الله تعالى تَرَىٰ كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الظاهر عود الضمير في: منهم، على بني إسرائيلفقال مقاتل: كثيراً منهم هو من كان بحضرة الرسول ﷺ يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد كعب بنالأشرف وأصحابه الذين استجلبوا المشركين على الرسول، وعلى هذا يكون ترى بصرية، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب، فيحتمل أنيراد أسلافهم أي: ترى الآن إذ أخبرناك. وقيل: كثيراً منهم منافقو أهل الكتاب كانوا يتولون المشركين. وقيل: هو كلام منقطعمن ذكر بني إسرائيل عني به المنافقون تولوا اليهود روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْأَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } تقدّم الكلام على إعراب ما قال الزمخشري في قوله: أن سخط الله، أنه هوالمخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم انتهى. ولايصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفرّاء، والفارسي في أنّ ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً،وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً، وقدّمت صفة التمييز. وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك، لأن ما عنده اسم تاممعرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف، والتقدير: لبئس الشيء قدّمت لهم أنفسهم، فيكون على هذا أن سخط اللهفي موضع رفع بدل من ما انتهى. ولا يصح هذا سواء كانت موصولة، أم تامة، لأن البدل يحل محل المبدلمنه، وأن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس، لأن فاعل نعم وبئس لا يكون أن والفعل. وقيل: إن سخطفي موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدّمت، أي: قدّمته كما تقول: الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً.وقيل: على إسقاط اللام أي: لأن سخط. {وَفِى ٱلْعَذَابِ هُمْ خَـٰلِدُونَ } لما ذكر ما قدّموا إلى الآخرة زاداً،وذمّه بأبلغ الذم، ذكر ما صاروا إليه وهو العذاب وأنهم خالدون فيه، وأنه ثمرة سخط الله، كما أن السخط ثمرةالعصيان. {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } إن كان المراد بقوله: {تَرَىٰ كَثِيراًمّنْهُمْ } أسلافهم، فالنبي داود وعيسى أو معاصري الرسول، فالنبي هو محمد ﷺ، والذين كفروا عبدة الأوثان.والمعنى: لو كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً غير نفاق، إذ موالاة الكفار دليل على النفاق. والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعلفي ما اتخذوهم أنه يعود على كثيراً منهم، وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا. وقال القفال وجهاً آخروهو: أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد ﷺ ما اتخذهم هؤلاءاليهود أولياء. والوجه الأول أولى، لأن الحديث إنما هو عن قوله كثيراً منهم، فعود الضمائر على نسق واحد أولى مناختلافها. وجاء جواب لو منفياً بما بغير لام، وهو الأفصح، ودخول اللام عليه قليل نحو قوله

: لو أن بالعلم تعطى ما تعيش به     لما ظفرت من الدنيا بنقرون {

وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ} خص الكثير بالفسق، إذ فيهم قليل قد آمن. والمخبر عنهم أولاً هو الكثير، والضمائر بعده له، وليس المعنى.ولكنّ كثيراً من ذلك الكثير. ولكنه لما طال أعيد بلفظه، وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير، إذ كان السياقيكون: ما اتخذوهم أولياء، ولكنهم فاسقون. فوضع الظاهر موضع هذاالضمير.

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } * { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } * { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } * { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } * { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }

القَسَّ بفتح القاف تتبّع الشيء. قال رؤبة

: أصبحن عن قَسّ الأذى غوافلا     يمشين هوناً حُرَّداً بهاللا

ويقال قَسَّ الأثر تتبعه، وقصه أيضاً. والقَسَّ:رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدّين، وكذلك القِسّيس فِعّيل كالشِّرِّيب، وجمع القِسِّيس بالواو والنون،وجمع أيضاً على قَساوِسَة، قال أمية بن أبي الصلت

: لو كان منقلب كانت قساوسة     يحييهم الله في أيديهم الزُّبُرُ

قال الفرّاء: هو مثلُ مَهَالبة، كثرت السيئات فأبدلوا إحداهنّ واواً، يعني أن قياسهقساسة. وزعم ابن عطية أن القسّ بفتح القاف وكسرها، والقِسّيس اسم أعجمي عُرّب. الطمع قريب من الرجا، يقال منه:طمع يطمع طمعاً وطماعةً وطماعيةً؛ قال الشاعر

:طمـاعيـة أن يغفـر الـذنب غـافـر    

واسم الفاعل طمع.الرّجس اسم لكل ما يستقذر من عمل، يقال: رجس الرجل يرجس رجساً إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصله من الرجس، وهوشدّة الصوت بالرّعد؛ قال الراجز

: مِـنْ كـلّ رجـاس يسـوق الـرّجسـا    

وقال ابن دريد:الرجز الشر، والرجز العذاب، والركس العَذَرة والنتن، والرجس يقال للأمرين. الرمح معروف، وجمعه في القِلّة أرماح، وفي الكثرة رماح،وَرَمَحَهُ: طعنه بالرمح، ورجل رامح: أي ذو رمح ولا فعل له من معنى ذي رمح، بل هو كلابن وتامر، وثوررامح: له قرنان، قال ذو الرّمة

: وكائن ذعرناه من مهاة ورامح     بلاد الورى ليست لها ببلاد

والرّماح: الذي يتخذ الرمح وصنعة الرماحة. الوبال: سوء العاقبة، ومرعى وبيل: يتأذى به بعدأكله. البرّ: خلاف البحر. وقال الليث: يستعمل نكرة، يقال: جلست بَرّاً وخرجت برّاً، وقال الأزهري: هي من كلام المولدين،وفي حديث سلمان إن لكل أمر جوانيّاً وبرانيّاً كنى بذلك عن السرّ والعلانية، وهو من تغيير النسب.{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ }. قال قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانواعلى شريعة مما جاء به عيسى، آمنوا بالرسول، فأثنى الله عليهم، قيل هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبيطالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع، وقيل هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسولﷺ، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من الشام، وهمبحيرا الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم الرسول ﷺ يس، فبكوا وآمنوا وقالوا: ماأشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعينمن بني الحارث بن كعب من نجران، واثنين وثمانين من الحبشة، وثمانية وستين من الشام. وروي عن ابن جبيرقريب من هذا، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياءوقتلهم وعلى العتوّ والمعاصي، واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فتحرّرت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم، وفي الحديث: ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله وفي وصف الله إياهم بأنهم أشدّ عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق، ولذلك قلّ إسلاماليهود. وقيل {ٱلْيَهُودُ } هنا هم يهود المدينة لأنهم هم الذين مالؤوا المشركين على المسلمين. وعطف {ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ }على {ٱلْيَهُودُ } جعلهم تبعاً لهم في ذلك إذ كان اليهود أشدّ في العداوة، إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعةلا في الجنس، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين، ولأنهم ليسواعلى شريعة من عند الله، فهم أسرع للإيمان من كلّ أحد من اليهود والنصارى، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله:

{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ }

واللام في {لَتَجِدَنَّ } هي الملتقى بها القسم المحذوف.وقال ابن عطية: هي لام الابتداء، وليس بمرضيّ، و{ٱلنَّاسِ } هنا الكفار، أي ولتجدن أشدّ الكفار عداوة. {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْمَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ } أي هم ألين عريكةً وأقرب ودًّا. ولم يصفهم بالودّ إنما جعلهم أقربمن اليهود والمشركين، وهي أمّة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم، ويعظمون من أهلالإسلام من استشعروا منه ديناً وإيماناً، ويبغضون أهل الفسق، فإذا سالموا فسلمهم صافٍ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة، لأن شرعهم لايأمرهم بذلك، وحين غلب الروم فارس سُرّ رسول الله ﷺ لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار، ولإهلاكالعدوّ الأكبر بالعدوّ الأصغر إذ كان مخوفاً على أهل الإسلام، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى، بل شأنهم الخبثوالليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم

{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ٱلامّيِينَ سَبِيلٌ }

وفي قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ } إشارة إلى أنهم ليسوامتمسكين بحقيقة النصرانية، بل ذلك قول منهم وزعم، وتعلق {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } الأول {*بعداوة} والثاني {*بمودة}. وقيل هما في موضعالنعت ووصف العداوة بالأشد والمودّة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها، وتلك المودةأقرب وأسهل، وظاهر الآية يدلّ على أنّ النصارى أصلح حالاً من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة، وعلى هذا الظاهر فسرالآية على من وقفنا على كلامه. قال بعضهم: وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود،وذلك ذم لهم، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش ، ولهذا قال أبو بكر الرازي: من الجهالمن يظن أن في هذه الآية مدحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خير من اليهود، وليس كذلك لأن ما في الآية منذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ﷺ يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوةمن إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارىأقبح وأشد استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود، لأن اليهود تقرّباً بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض مااعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى علىالجملة أصلح حالاً من اليهود، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخولفي الإسلام سريعاً، وليس الكلام وارداً بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين، وأما قوله لأن ما في الآية منذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال: {أَشْرَكُواْوَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ } ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعياستجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود. {ذٰلِكَبِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه، أي منهم علماء وعباد وأنهم قومفيهم تواضع واستكانة، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا،بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم زاهد، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسانوالرهب والرهبة الخشية. وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا

: لو عاينت رهبان دير في القلل     تحدر الرهبان تمشي وتزل

ويروي ونزل، والقسيس تقدم شرحه في المفردات. وقال ابن زيد: هو رأس الرهبان. وقيل:العالم. وقيل: رافع الصوت بالقراءة. وقيل: الصديق، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم، وأنه سبيل إلى الهداية، وعلى حسنعاقبة الانقطاع، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كلمحدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارىء {وَإِذَا مَا * سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى * رَسُولِ ٱللَّهِ *تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقّ } هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن، والظاهر أن الضميريعود على قسيسين ورهباناً فيكون عامّاً، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليهجعفر سورة مريم إلى قوله

{ ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ }

وسورة طه إلى قوله

{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ }

فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها {يس } فبكوا. وقال ابن عطية ما معناه:صدر الآية عام في النصارى و{إِذَا * سَمِعُواْ } عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة، إذ ليسكل النصارى يفعل ذلك، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي ﷺ ويسمعوا ما عنده، فلما رأوهوتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى، انتهى. وقال السديّ: لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمنمعه فمات في الطريق، فصلى عليه الرسول ﷺ والمسلمون واستغفروا له، {وَتَرَى } من رؤية العين وأسندالفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال

:ففـاضت دمـوع العيـن منـي صبـابـة    

إقامة للمسببمقام السبب، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء، فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض على جوانب الإناءناشىء عن امتلائه، قال الشاعر

: قوارض تأتيني ويحتقرونها وقد يملأ الماء الإناء فيفعم    

ويحتملأنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجازوالمبالغة، و{مِنْ } في {مِنَ ٱلدَّمْعِ } قال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: أن {مِنْ } لابتداء الغاية أي فيضهامن كثرة الدموع والثاني: أن يكون حالاً، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق، ومعناها من أجل الذيعرفوه، و{مِنَ ٱلْحَقّ } حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في عرفوا. وقيل: {مِنْ } في{مِنَ ٱلدَّمْعِ } بمعنى الباء أي بالدمع. وقال الزمخشري: {مِنَ ٱلدَّمْعِ } من أجل البكاء من قولك دمعت عينهدمعاً. (فإن قلت): أي فرق بين {مِنْ } {وَمِنْ } في قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقّ } (قلت): الأوللابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هوما عرفوا، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم، انتهى. والجملة من قوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ } تحتملالاستئناف، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم. وقرىء: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ } على البناء لما لم يسمّ فاعله {يَقُولُونَ رَبَّنَاءامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية. والشاهدون: قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما:هم أمة محمد ﷺ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم، كما قال تعالى:

{ لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ }

قال الزمخشري: وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك، انتهى. وقال الطبري: معناه ولو قيل معناهمع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صواباً. وقيل: مع الذين يشهدون بالحق. وقالالزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء، والمؤمنون، والكتابة في اللوح المحفوظ. وقيل: معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت،و{يَقُولُونَ } في موضع نصب على الحال، قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها، ولاجائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا علىمذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه، وهو قول خطأ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا، ولاجائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في {عَرَفُواْ } لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق فيهذه الحال وفي غيرها، فالأولى أن تكون مستأنفة، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهمونطقت به وأقرت ألسنتهم. {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ ٱلْحَقّ } هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمانمنهم مع قيام موجبة وهو عرفان الحق. قال الزمخشري والتبريزي: وموجب الإيمان هو الطمع في دخولهم مع الصالحين، والظاهر أنقولهم ذلك هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها لدفع الوساوس والهواجش، إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليهامما يصعب ويشق، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضاً، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمنعارضهم من الكفار، لما رجعوا إليهم ولا موهم على الإيمان أي، وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده. وقد لاح لناالصواب وظهر الحق النير. وروي عن ابن عباس أن اليهود أنكروا عليهم ولاموهم فأجابوهم بذلك و{لاَ نُؤْمِنُ } فيموضع الحال، وهي المقصودة وفي ذكرها فائدة الكلام، وذلك كما تقول: جاء زيد راكباً جواباً لمن قال: هل جاء زيدماشياً أو راكباً، والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور، رأي: أي شيء يستقرّ لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا،وفي مصحف عبد الله وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع وينبغي أن يحمل ذلك على تفسيرقوله تعالى {وَمَا جَاءنَا مِنَ ٱلْحَقّ } لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف. {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَامَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّـٰلِحِينَ } الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين،قالوا وعاطفة جملة على جملة، و{مَا لَنَا لاَ * نُؤْمِنُ } لا عاطفة على نؤمن أو على لا نؤمن ولاعلى أن تكون الواو واو الحال ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه. وقال الزمخشري: والواو في {وَنَطْمَعُ }واو الحال، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في {لاَ نُؤْمِنُ }ن، ولكن مفيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت:وما لنا نطمع لم يكن كلاماً، انتهى. وماذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام منمعنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد، لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضيالعامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك، وذوا الحال هنا واحدوهو الضمير المجرور بلام لنا، ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل،فيحتاج أن يقدر: ونحن نطمع. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {وَنَطْمَعُ } حالاً من {لاَ نُؤْمِنُ } على أنهمأنكروا على أنفسهم لأنهم لا يوحدون الله، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، انتهى. وهذا ليس بجيد لأن فيهدخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل. وقال الزمخشري: وأن يكون معطوفاً على {لاَ نُؤْمِنُ } على معنىوما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى: وما لنا لا نجمع بينهما بالدخولفي الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين، انتهى. ويظهر لي وجه غير ما ذكروهوهو أن يكون معطوفاً على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن، التقدير: وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون فيذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين: الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين و{مَّعَ } علىبابها من المعية، وقيل: بمعنى في والصالحون أمة محمد ﷺ، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه، قالهابن زيد، أو المهاجرون الأولون، قاله مقاتل. وقيل: التقدير أن يدخلنا الجنة {فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَاٱلاْنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَاء ٱلْمُحْسِنِينَ } ظاهره أن الإثابة بما ذكر مترتبة على مجرد القول، ولا بد أن يقترنبالقول الاعتقاد ويبين أنه مقترن به أنه قال: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقّ } فوصفهم بالمعرفة، فدل على اقتران القول بالعلم،وقال: {ذَلِكَ جَزَاء ٱلْمُحْسِنِينَ } فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الوصف بهم، وأنهم أثيبوالقيام هذا الوصف بهم، وهو رتبة الإحسان، وهي التي فسرها رسول الله ﷺ بقوله: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة، وإما أنيكون أريد به العموم فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي، ولذلكفسره الزمخشري بقوله بما قالوا بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص من قولك: هذا قول فلان أي اعتقاده وما يذهبإليه انتهى. وفسروا هذا القول بقولهم: {وما لنا لا نؤمن بالله} والذي يظهر أنه عنى به قولهم {يَقُولُونَ رَبَّنَاءامَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } لأنه هو الصريح في إيمانهم، وأما قوله: {لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } فليس فيه تصريح بإيمانهم،وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه، فلا تترتب عليه الإثابة. وقرأ الحسن {فَأَتَـٰهُمُ } منالإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة، والإثابة أبلغ من الإعطاء، لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء، فإنه لايلزم أن يكون عن عمل ولذلك جاء أخيراً {وَذٰلِكَ جَزَاء ٱلْمُحْسِنِينَ } نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء، والجزاءلا يكون إلا عن عمل {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ } اندرج في {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ } اليهودوالنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر. {ٱلْجَحِيمِ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّٱللَّهُ لَكُمْ } ذكروا سبب نزولها في قصة طويلة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة المفرطةالدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وجبّ المذاكير، فنهاهم الرسول عنذلك ونزلت. وقيل: حرم عبد الله بن رواحة عشاه ليلة نزل به ضيف لكون امرأته انتظرته ولم تبادر إلىإطعام ضيفه، فحرمته هي إن لم يذقه، فحرمه الضيف، فقال عبد الله: قربي طعامك، كلوا بسم الله، فأكلوا جميعاً وأخبرالرسول بذلك، فقال أحسنت وقيل في سبب نزولها غير ذلك. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هيأنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك ترغيب المسلمين فيمثل ذلك التقشق والتبتل بيّن تعالى أنّ الإسلام لا رهبانية فيه، وقال رسول الله ﷺ: «أما أنافأقوم وأنام وأصوم وأفصر وآتي النساء وأنالُ الطيب، فمن رغب عن سنتي فليس مني» وأكل ﷺ الدجاجوالفالوذج وكان يعجبه الحلوى والعسل والطيبات هنا المستلذات من الحلال ومعنى لا تحرّموها لا تمنعوا أنفسكم منها لمنع التحريم ولاتقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً، وهذا هو المناسب لسبب النزول. وقيلالمعنى: لا تحرموا ما تريدون تحصيله لأنفسكم من الحلال بطريق غير مشروع كالغصب والربا والسرقة، بل توصلوا بطريق مشروع منابتياع واتهاب وغيرهما. وقيل معناه لا تعتقدوا تحريم ما أحلّه الله لكم. وقيل: لا تحرّموا على نفسكم بالفتوى.وقيل لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين لقوله:

{ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ }

وقيل: خلط المغصوببالمملوك خلطاً لا يتميز منه فيحرم الجميع ويكون ذلك سبباً لتحريم ما كان حلالاً {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّٱلْمُعْتَدِينَ } هذا نهي عن الاعتداء فيدخل فيه جميع أنواع الاعتداء ولا سيما ما نزلت الآية بسببه. قال الحسن:لا تجاوزوا ما حدّ لكم من الحلال إلى الحرام، واتبعه الزمخشري فقال: ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلىما حرم عليكم، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وإبراهيم: لا تعتدوا بالخنا وتحريم النساء، وقال عكرمة أيضاً: لا تسيروابغير سيرة الإسلام، وقال السدي وعكرمة أيضاً: هو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله، فهو تأكيدلقوله {لاَ تُحَرّمُواْ } وقيل: ولا تعتدوا بالإسراف في تناول الطيبات كقوله:

{ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ }

{وَكُلُواْ مِمَّارَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيّباً } تقدم تفسير مثلها في قوله:

{ يـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلاْرْضِ حَلَـٰلاً طَيّباً }

{وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } تأكيد للوصية بما أمر به وزاده تأكيداً بقوله: {ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه. {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِفِى أَيْمَـٰنِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلاْيْمَـٰنَ } تقدم الكلام في تفسير نظير هذه الجملة، ومعنى {عَقَّدتُّمُ } وثقتمبالقصد والنية، وقرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف، وقرأ الأخوان وأبو بكر بتخفيفها، وابن ذكوان بألف بين العين والقاف، وقرأالأعمش بما عقدت الأيمان جعل الفعل للأيمان فالتشديد إما للتكثير بالنسة إلى الجمع، وأما لكونه بمعنى المجرد نحو قدّر وقدر،والتخفيف هو الأصل، وبالألف بمعنى المجرد نحو جاوزت الشيء وجزته، وقاطعته وقطعته، أي هجرته. وقال أبو علي الفارسي: عاقدتم يحتملأمرين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص، انتهى، وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص بغيرألف، وهذا تقول فيه عاقدت اليمين وعقدت ياليمين، وقال الحطيئة

:قـوم إذا عـاقـدوا عقـداً لجـارهــم    

فجعله بمعنى المجرد وهو الظاهر كما ذكرناه. قال أبو علي: والآخر أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين كأنالمعنى بما عاقدتم عليه الأيمان عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد، قال: {بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيْهِ ٱللَّهَ } كما عدى

{ نَـٰدَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ }

{*بإلى}، وبابها أن تقول ناديت زيداً

{ نَّبِيّاً وَنَـٰدَيْنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلاْيْمَنِ }

لما كانتبمعنى دعوت إلى كذا قال {مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ } ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول، ثم المضمرالعائد من الصلة إلى الموصول، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان، كما حذف من قوله

{ فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ }

انتهى،وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى بعيد إذ يصير المعنى أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسبذلك إليه وهو عقدها هو على سبيل الحقيقة، ونسبة ذلك إلى اليمين هو على سبيل المجاز لأنها لم تعقده بلهو الذي عقدها. وأما تقديره بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره فهو أيضاً بعيد،وليس تنظيره ذلك بقوله {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } بسديد لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة وبنفسه تارة إلى المفعول الثانيوإن كان أصله الحذف تقول أمرتُ زيداً الخير، وأمرته بالخير، ولأنه لا يتعين في {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أن تكونما موصولة بمعنى الذي، بل يظهر أنها مصدرية فلا يحتاج إلى عائد، وكذلك هنا الأولى أن تكون ما مصدرية، ويقويذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو {بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ }، لأن اللغو مصدر، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول.وقال الزمخشري: والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة، لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ماعقدتم، فحذف المضاف انتهى؛ واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو صفاته. وقال الإمام أحمد: إذا حلف بالنبيّ صلى اللهعليه وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به، وفي بعض الصفات تفصيل. وخلاف ذكر في الفقه.{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أيتسترها، والضمير في «فكفارته» عائد على ما إن كانت موصولة اسمية، وهو على حذف مضاف كما تقدم، وإن كانت مصدريةعاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح لكن يقتضيه المعنى، ومساكينأعمّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو من الصنفين، والظاهر تعداد الأشخاص، فلو أطعم مسكيناً واحداً لكفارة عشرة أياملم يجزه، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجزىء، وتعرّضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ماتطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر، وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر،وبه قال عمر وعليّ وابن عباس ومجاهد، ورأى جماعة أنه في الصنف، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابنسيرين، وقال ابن عطية: الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف؛ انتهى. وروي عن زيد بن ثابت وابن عباسوالحسن وعطاء وابن المسيب مدّ لكلّ مسكين بمدّ الرسول، وبه قال مالك والشافعي، وروي عن عمر وعليّ وعائشة نصف صاعمن برّ أو صاع من تمر، وبه قال أبو حنيفة، والظاهر أنه لا يجزىء إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتاًواحداً يسدّ به الجوعة، فإن غداهم وعشاهم أجزأه، وبه قال عليّ ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعيوالثوري وأبو حنيفة ومالك، وقال ابن جبير والحكم والشافعي: من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء، فإن غدّاهم وعشاهم لميجزه، والظاهر أنه لا يشترط الإدام، وقال ابن عمر: أوسط ما يطعم الخبز والتمر والخبز والزبيب وخير ما نطعم أهليناالخبز واللحم وعن غيره الخبز والسمن، وأحسنه التمر مع الخبز، وروي عن ابن مسعود مثله، وقال ابن حبيب: لا يجزىءالخبز قفاراً ولكن بإدا مزيت أو لبن أو لحم ونحوه، والظاهر أن المراعي ما يطعم أهليه الذين يختصون به، أيمن أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله، وقيل المراعي عيش البلد، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكمفي الجملة من مدينة أو صقع، و{مِنْ أَوْسَطِ } في موضع مفعول ثان لإطعام، والأول هو {عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ } أيطعاماً من أوسط والعائد على ما من تطعمون في موضع محذوف أي تطعمونه} وقرأ الجمهور {*} وقرأ الجمهور {أَهْلِيكُمْ }وجمع أهل بالواو والنون شاذّ في القياس. وقرأ جعفر الصادق {*أهاليكم} جمع تكسير وبسكون الياء، قال ابن جني: أهالبمنزلة ليال، واحدها أهللة وليلاة، والعرب تقول: أهل وأهلة ومنه قوله

:. وأهلة ودّ قد سريت بودّهم.    

وقال الزمخشري والأهالي اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض، وأما تسكينالياء في أهاليكم فهو كثير في الضرورة، وقيل في السعة كما قال زهير

:.يطيـع العـوالـي ركتـت كـل لهــدم    

شبهت الياء بالألف فقدرت فيها جميع الحركات. {أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } هذا معطوف على قوله {إِطْعَامُ} والظاهر أن كسوة هي مصدر وإن كان يستعمل للثوب الذي يستر، ولما لم يذكر مقدار ما يطعم لم يذكرمقدار الكسوة وظاهر مطلق الكسوة وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء، وقال بعضهم: الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء،وروي عن ابن عمر أو ثوبان لكل مسكين. قاله أبو موسى الأشعريّ وابن سيرين والحسن: وراعى قوم الزي والكسوة المتعارفة،فقال بعضهم: لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً لما قد يتزين به كالكساء والملحفة، وقال النخعي: ليس القميصوالدرع والخمار ثوباً جامعاً، وقال الحسن والحكم: تجزىء عمامة يلف بها رأسه، وقال مجاهد يجزىء كل شيء إلا التبان، وقالعطاء وابن عباس وأبو جعفر ومنصور: الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار، وقال ابن عباس تجزىء العباءة أو الشملة،وقال طاوس والحسن: ثوب لكل مسكين، وعن ابن عمر إزار وقميص أو كساء، وهل يجزىء إعطاء كساوي عشرة أنفس لشخصواحد في عشرة أيام فيه خلاف كالإطعام، وقرأ النخعي وابن المسيب وابن عبد الرحمن {كِسْوَتُهُمْ } بضم الكاف، وقرأ ابنجبير وابن السميقع {أَوْ } بكاف الجر على أسوة، قال الزمخشري: المعنى أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أوتقتيراً لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ولكن تساوون بينهم وبينهم {فَانٍ * قُلْتَ مَا * عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَاتُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } عطف على محل {مِنْ أَوْسَطِ } فدل على أنه ليس قوله {مِنْ أَوْسَطِ } فيموضع مفعول ثان بالمصدر بل انقضى عنده الكلام في قوله {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ } ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجاروالمجرور يبينه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط، وعلى ما ذكرناه من أن {مِنْ أَوْسَطِ } في موضع نصب تكونالكاف في {*كاسوتهم} في موضع نصب لأنه معطوف على محل {مَسَـٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ }وهو عندنا منصوب، وإذا فسرت {*كاسوتهم} فيالطعام بقيت الآية عارية من ذكر الكسوة، وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق وهي مخالفة لسوادالمصحف، وقال بعضهم {أَوْ } في الكسوة، والظاهر أنه لا يجزىء إخراج قيمة الطعام والكسوة به قال الشافعي، وقال أبوحنيفة، يجزىء، والظاهر أنه لم يقيد المساكين بوصف فيجوز صرف ذلك إلى الذميّ والعبد وبه قال أبو حنيفة، وقال غيرهلا يجزىء، واتفقوا على أنه لا يجزىء دفع ذلك إلى المرتدّ. {كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } تسمية الإنسان رقبةتسمية الكل بالجزء وخص بذلك لأن الرقبة غالباً محل للتوثق والاستمساك فهو موضع الملك، وكذلك أطلق عليه رأس، والتحرير يكونبالإخراج عن الرق وعن الأسر وعن المشقة وعن التعب، وقال الفرزدق

: أبني غدانة إنني حررتكم     فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجا، والظاهر حصول الكفارة بتحرير مايصدر عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزىء عتق الكفار وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر، وقال أبوحنيفة يجزىء الكافر ومن به نقص يسير من ذوي العاهات، واختار الطبري إجزاء الكافرة، وقال مالك: لا يجزىء كافر ولاأعمى ولا أبرص ولا مجنون، وقال ابن شهاب وجماعة: وفرق النخعي فأجاز عتق من يعمل أشغاله ويخدم ومنع عتق منلا يعمل كالأعمى والمقعد وأشل اليدين. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ } أي فمن لم يجد أحد هذهالثلاثة من الإطعام والكسوة والعتق فلو كان ماله في غير بلده ووجد من يسلفه لم ينتقل إلى الصوم أو لميجد من يسلفه فقيل لا يلزمه انتظار ماله من بلده ويصوم وهو الظاهر لأنه غير واجد الآن، وقيل ينتظر والظاهرأنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسوفهو واجد. وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك، وقال مالك إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطفعليه فيه، وقال ابن جبير: إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم، وقال قتادة إذا لم يكن إلا قدرما يكفر به صام، وقال الحسن إذا كان له درهمان أطعم، وقال أبو حنيفة إذا لم يكن عنده نصاب فهوغير واجد، وقال آخرون جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرّف به في معاشه أو يصوم،والظاهر أنه لا يشترط التتابع. وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس وأبوحنيفة: يشترط. وقرأ أبيّ وعبد الله والنخعي. {أَيَّامٍ } واتفقوا على أن العتق أفضل، ثم الكسوة، ثم الإطعام وبدأ اللهبالأيسر فالأيسر على الحال، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم، وإذا حنث العبد فقال سفيان وأبو حنيفةوالشافعي ليس عليه إلا الصوم لا يجزئه غيره، وحكى ابن نافع عن مالك لا يكفر بالعتق لأنه لا يكون لهولاء ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، والصوم أصوب، وحكى ابن القاسم عنه أنه قال إن أطعم أو كسىبإذن السيد فما هو بالبين وفي قلبي منه شيء، ولو حلف بصدقة ماله فقال الشعبي وعطاء وطاوس لا شيء عليه،وقال الشافعي وإسحاق وأبو ثور: عليه كفارة بمين، وقال أبو حنيفة: مقدار نصاب، وقال بعضهم: مقدار زكاته، وقال مالك: ثلثماله ولو حلف بالمشي إلى مكة، فقال ابن المسيب والقاسم: لا شيء عليه، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: كفارة يمين،وقال أبو حنيفة: يلزمه الوفاء به فإن عجز عن المشي لزمه أن يحج راكباً ولو حلف بالعتق، فقال عطاء، يتصدّقبشيء، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة: عليه كفارة يمين لا العتق، وقال الجمهور: يلزمه العتق ومن قال الطلاقلازم له فقال المهدوي: أجمع كل من يعتمد على قوله إن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث. {أَيَّامٍ ذٰلِكَكَفَّارَةُ أَيْمَـٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } أي ذلك المذكور واستدل بها الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين. وقيل الحنث وفيها تنبيهعلى أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث فهم يقدّرون محذوفاً أي إذا حلفتم وحنثتم. {وَٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيّنُٱللَّهُ لَكُمْ ءايَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قال الزمخشري أي بروا فيها ولا تحنثوا، أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية لأنالأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله، وقيل احفظوها بأن تكفروها، وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولاتنسوها تهاوناً بها. {كَذٰلِكَ } أي مثل ذلك البيان {يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَـٰتِهِ } إعلام شريعته وأحكامه. {لَعَلَّكُمْتَشْكُرُونَ } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه. {تَشْكُرُونَ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاْنصَابُ وَٱلاْزْلاَمُ رِجْسٌمّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرينفتفاخروا، فقال سعد: المهاجرون خير فرماه أنصاري بلحي جمل ففزر أنفه، وقيل بسبب قول عمر اللهم بين لنا في الخمربياناً شافياً، وقيل بسبب قصة حمزة وعليّ حين عقر شارف عليّ وقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي وهي قصة طويلة،وقيل كان أمر الخمر ونزول الآيات بتدريج، فنزل

{ حَدِيثاً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ }

وقيلبسبب قراءة بعض الصحابة وكان منتشياً في صلاة المغرب

{ قُلْ يٰأَهْلَ * أَيُّهَا * ٱلْكَـٰفِرُونَ }

على غير ماأنزلت، ثم عرض ما عرض بسبب شربها من الأمور المؤدّية إلى تحريمها حتى نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: نزلتبسبب حيين من الأنصار ثملوا وعربدوا فلما صحوا جعل كل واحد يرى أثراً بوجهه وبجسده فيقول: هذا فعل فلان، فحدثتبينهم ضغائن، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بأكل ما رزقهم حلالاً طيباً ونهاهم عن تحريم ماأحله لهم مما لا إثم فيه وكان المستطاب المستلذ عندهم الخمر والميسر وكانوا يقولون الخمر تطرد الهموم وتنشط النفس وتشجعالجبان وتبعث على المكارم، والميسر يحصل به تنمية المال ولذة الغلبة بيَّن تعالى تحريم الخمر والميسر لأن هذه اللذة يقارنهامفاسد عظيمة في الخمر إذهاب العقل وإتلاف المال ولذلك ذم بعض حكماء الجاهلية إتلاف المال بها وجعل ترك ذلك مدحاًفقال

: أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله     ولكنه قد يهلك المال نائله

وتنشأ عنها مفاسد أخر من قتل النفس وشدّة البغضاء وارتكاب المعاصي لأن ملاك هذه كلها العقل فإذا ذهب العقل أتتهذه المفاسد، والميسر فيه أخذ المال بالباطل، وهذا الخطاب للمؤمنين والذي منعوا منه في هذه الآية هي شهوات وعادات، فأماالخمر فكانت لم تحرم بعد وإنما نزل تحريمها بعد وقعة أحد سنة ثلاث من الهجرة، وأما الميسر ففيه لذة وغلبة،وأما الأنصاب فإن كانت الحجارة التي يذبحون عندها وينحرون فحكم عليها بالرجس دفعاً لما عسى أن يبقى في قلب ضعيفالإيمان من تعظيمها وإن كانت الأنصاب التي تعبد من دون الله فقرنت الثلاثة بها مبالغة في أنه يجب اجتنابها كمايجب اجتناب الأصنام، وأما الأزلام التي كان الأكثرون يتخذونها في أحدها لا وفي الآخر نعم، والآخر غفل وكانوا يعظمونها ومنهاما يكون عند الكهان ومنها ما يكون عند قريش في الكعبة وكان فيها أحكام لهم، ومن هذا القبيل الزجر بالطيروبالوحش وبأخذ الفأل في الكتب، ونحوه مما يصنعه الناس اليوم وقد اجتمعت أنواع من التأكيد في الآية منها التصدير بإنماوقران الخمر والميسر بالأصنام إذا فسرنا الأنصاب بها وفي الحديث مدمن الخمر كعابد وثن والإخبار عنها بقوله رجسوقال تعالى:

{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ }

ووصفه بأنه من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت،والأمر بالاجتناب وترجية الفلاح وهو الفوز باجتنابه فالخيبة في ارتكابه، وبدىء بالخمر لأن سبب النزول إنما وقع بها من الفسادولأنها جماع الإثم. وكانت خمر المدينة حين نزولها الغالب عليها كونها ممن العسل ومن التمر ومنم الزبيب ومن الحنطةومن الشعير وكانت قليلة من العنب، وقد أجمع المسلمون على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نارولا خالطها شيء والأكثر من الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليه حرام، والخلاف فيما لا يسكر قليه ويسكر كثيرهمن غير خمر العنب مذكور في كتب الفقه، قال ابن عطية: وقد خرّج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس، وقدوصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم ولحم الخنزير بأنها رجس فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام وفي هذانظر والاجتناب أن تجعل الشيء جانباً وناحية انتهى. ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعاصي والمغري بهاجعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء

{ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ }

والضمير في {فَٱجْتَنِبُوهُ } عائد على الرجس المخبر عنه من الأربعة فكان الأمر باجتنابهمتناولاً لها، وقال الزمخشري فإن قلت إلامَ يرجع الضمير في قوله {فَٱجْتَنِبُوهُ } قلت إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنماشأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رجس من عمل الشيطان انتهى، ولا حاجة إلى تقديرهذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى:

{ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }

{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِفَهَلْ أَنْتُمْ } ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية فأما الدنيوية فإنها تثير الشرور والحقود وتؤولبشاربها إلى التقاطع وأكثر ما تستعمل في جماعة يقصدون التآنس باجتماعهم عليها والتودد والتحبب فتعكس عليهم الأمر ويصيرون إلى التباغضلأنها مزيلة للعقل الذي هو ملاك الأشياء، قد يكون في نفس الرجل الشيء الذي يكتمه بالعقل فيبوح به عند السكرفيؤدّي إلى التلف، ألا ترى إلى ما جرى إلى سعد وحمزة، وما أحسن ما قال قاضي الجماعة أبو القاسم أحمدبن يزيد بن بقي، وكان فقيهاً عالماً على مذهب أهل الحديث، فيما قرأته على القاضي العالم أبي الحسن بن عبدالعزيز بن أبي الأحوص عنه رضي الله عنهما بكرمه

: ألا إنما الدنيا كراح عتيقة     أراد مديروها بها جلب الأنس فلما أداروها أنارت حقودهم

وأما الميسر فإن الرجللا يزال يقامر حتى يبقى سليباً لا شيء له، وينتهي من سوء الصنيع في ذلك أن يقامر حتى على أهلهوولده فيؤدّي به ذلك إلى أن يصير أعدى عدوّ لمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهروالغلبة ولا يمكن امتناعه من ذلك ولذلك قال بعض الجاهلية

: لو يسيرون بخيل قد يسرت بها     وكلّ ما يسر الأقوام مغروم

وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذالمجسمانية تلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، والميسر إن كان غالباً به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عنذكر الله تعالى، وإن كان مغلوباً فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال على أنه يصير غالباً لا يخطر بقلبهذكر الله لأنه تعالى لا يذكره إلا قلب تفرغ له واشتغل به عما سواه، وقد شاهدنا من يلعب بالنرد والشطرنجيجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب وإخراج الصلاة عن أوقاتها ما يربأ المسلم عنه بنفسه، هذا وهم يلعبون بغير جعلشيء لمن غلب فكيف يكون حالهم إذا لعبوا على شيء فأخذه الغالب وأفرد الخمر والميسر هنا وإن كانا قد جمعامع الأنصاب والأزلام تأكيداً لقبح الخمر والميسر وتبعيداً عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصابوالأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة، وعطف على هذا ما هو أشد وهو البغضاء لأن متعلقها القلب لذلك عطف على ذكرالله ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة، وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعنالصلاة أقوى دليل على تحريمها، وعلى أن ينتهي المسلم عنهما ولذلك جاء بعده {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } وهذا الاستفهام منأبلغ ما ينهى عنه كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتممنتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد. وجعل الجملة اسمية والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعليه. وقيلهو استفهام يضمن معنى الأمر أي فانتهوا ولذلك قال عمر انتهينا يا رب. وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن بعضشيوخه أن جماعة كانوا يشربونها بعد نزول هذه الآية، ويقولون إنما قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال بعضهم انتهينا.وقال بعضهم لم ننته فلما نزل

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ }

حرمتلأن الإثم اسم للخمر ولا يصح هذا، وقال التبريزي هذا استفهام ذم معناه الأمر أي انتهوا معناه اتركوا وانتقلوا عنهإلى غيره من الموظف عليكم انتهى. ووجه ما ذكر من الذمّ أنه نبه على مفاسد تتولد من الخمر والميسر يقضيالعقل بتركهما من أجلها لو لم يرد الشرع بذلك فكيف وقد ورد الشرع بالترك، وقد تقدم من قوله في البقرةأن جماعة من الجاهلية لم يشربوا الخمر صوتاً لعقولهم عما يفسدها وكذلك في الإسلام قبل نزول تحريمها. {وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَوَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ } هذا أمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول ﷺ في امتثال ما أمر بهواجتناب ما نهى عنه وأمر بالحذر من عاقبة المعصية، وناسب العطف في {وَأَطِيعُواْ } على معنى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} إذ تضمن هذا معنى الأمر وهو قوله {فَٱنتَهُواْ }. وقيل الأمر بالطاعة هذا مخصوص أي أطيعوا فيما أمرتم بهمن اجتناب ما أمرتم باجتنابه واحذروا ما عليكم في مخالفة هذا الأمر، وكرر وأطيعوا على سبيل التأكيد والأحسن أن لايقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا مطيعين دائماً حذرين خاشين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات.{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } أي فإن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام اللهوليس عليه خلق الطاعة فيكم، ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم وفي هذا من الوعيد البالغ مالا خفاء به إذ تضمن أن عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول وما كلف الرسول من أمركم غير تبليغكم، ووصفالبلاغ بالمبين إما لأنه بيِّن في نفسه واضح جلي وإما لأنه مبين لكم أحكام الله تعالى وتكاليفه بحيث لا يعتريهاشبهة بل هي واضحة نيرة جلية. وذهب الجمهور إلى أن هذه الآية دلت على تحريم الخمر وهو الظاهر وقد حلفعمر فيها وبلغه أن قوماً شربوها بالشام وقالوا هي حلال فاتفق رأيه ورأي عليّ على أن يستتابوا فإن تابوا وإلاقتلوا لأنهم اعتقدوا حلها، والجمهور على أنها نجسة العين لتسميتها رجساً، والرجس النجس المستقذر، وذهب ربيعة والليث والمزني وبعض المتأخرينمن البغداديين إلى أنها ظاهرة واختلفوا هل كان المسكر منها مباحاً قبل التحريم أم لا. {لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْوَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـٰلِحَـٰتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ثُمَّ } قال ابن عباس والبراءوأنس لما نزل تحريم الخمر قال قوم كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت فأعلم تعالى أن الذمّوالجناح إنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين، والظاهر من سبب النزول أن اللفظ عام ومعناهالخصوص. وقيل هي عامّة والمعنى أنه لا حرج على المؤمن فيما طعم من المستلذات إذا ما اتقى ما حرم اللهمنها وقضية من شربها قيل التحريم من صور العموم، وهذه الآية شبيهة بآية تحويل القبلة حين سألوا عمن مات علىالقبلة الأولى، فنزلت

{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ }

و {فِيمَا طَعِمُواْ } قيل من الخمر والطعم حقيقة فيالمأكولات مجاز في المشروب وفي اليوم قيل مما أكلوه من القمار فيكون فيه حقيقة، وقيل منهما وعنى بالطعم الذوق وهوقدر مشترك بينهما، وكررت هذه الجمل على سبيل المبالغة والتوكيد في هذه الصفات ولا ينافي التأكيد العطف بثم فهو نظيرقوله

{ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ }

وذهب قوم إلى تباين هذه الجمل بحسب ما قدروامن متعلقات الأفعال فالمعنى إذا ما اتقوا الشرك والكبائر وآمنوا الإيمان الكامل وعملوا الصالحات ثم اتقوا ثبتوا وداموا على الحالةالمذكورة ثم اتقوا وأحسنوا انتهوا في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل من الصلاة والصدقة أو غير ذلكوهو الإحسان. وإلى قريب من هذا ذهب الزمخشري، قال إذا ما اتقوا} ما حرم عليهم وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعملالصالح وازدادوا {*} ما حرم عليهم وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوا {ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ } ثبتوا على التقوىوالإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } ثبتوا على اتقاء المعاصي {وَأَحْسِنُواْ } أعمالهم وأحسنوا إلى الناس واسوهم بما رزقهم الله منالطيبات انتهى. وقيل الرتبة الأولى لماضي الزمان والثانية للحال والثالثة للاستقبال، وقيل الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع والثانيفي الكبائر والثالث في الصغائر، وقيل غير هذا مما لا إشعار للفظ به، ومعنى الآية ثناء على أولئك، الذين كانواعلى هذه الصفة وحمد لهم في الإيمان والتقوى والإحسان إذ كانت الخمر غير محرمة إذ ذاك فالإثم مرفوع عمن التبسبالمباح إذا كان مؤمناً متقياً محسناً وإن كان يؤول ذلك المباح إلى التحريم فتحريمه بعد ذلك لا يضر المؤمن المتقيالمحسن وتقدم شرح الإحسان وأن الرسول ﷺ فسره في حديث سؤال جبريل فيجب أن لا يتعدى تفسيره.{ٱلْمُحْسِنِينَ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَىْء مّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَـٰحُكُمْ } نزلت عام الحديبية وأقام صلى اللهعليه وسلم بالتنعيم فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون، وقيل كان بعضهم أحرم وبعضهم لم يحرم فإذا عرضصيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام، وقيل قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه فقيل قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت. ومناسبة هذهالآية لما قبلها هو أنهم لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وهما حرامان دائماً، أخرجبعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال، وهو الصيد وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهمفيه الإشعار والأوصاف الحسنة، والظاهر أن الخطاب بقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }عام للمحل والمحرم لكن لا يتحقق الابتلاء إلامع الإحرام أو الحرم. وقال ابن عباس هو للمحرمين، وقال مالك هو للمحلين والمعنى ليختبرنكم الله ابتلاهم الله به معالإحرام أو الحرم، والظاهر أن قوله {بِشَىْء مّنَ ٱلصَّيْدِ } يقتضي تقليلاً، وقيل ليعلم أنه ليس من الابتلاء العظيم كالابتلاءبالأنفس والأموال بل هو تشبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك وأنهم كانوا لا يصبرون عند هذا الابتلاءفكيف يصبرون عندما هو أشدّ منه ومن في {مّنَ ٱلصَّيْدِ } للتبعيض في حال الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارقالحرم فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم، وقال الطبري وغيره من صيد البر دون البحر، وقال ابن عطيةويجوز أن تكون من لبيان الجنس، قال الزجاج وهذا كما تقول قال لأمتحننك بشيء من الرزق وكما قال تعالى:

{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ }

والمراد بالصيد المأكول لأن الصيد ينطلق على المأكول وغير المأكول. قال الشاعر

: صيد الملوك أرانب وثعالب     وإذا ركبت فصيدي الأبطال

وقال زهير

: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما     كذب الليث عن أقرانه صدقا

ولهذا قال أبوحنيفة إذا قتل المحرم ليثاً أو ذئباً ضارياً أو ما يجري مجراه فعليه الجزاء بقتله. {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَـٰحُكُمْ }أي بعض منه يتناول بالأيدي لقرب غشيانه حتى تتمكن منه اليد وبعض بالرماح لبعده وتفرقه فلا يوصل إليه إلا بالرمح،وقال ابن عباس أيديكم فراخ الطير وصغار الوحش، وقال مجاهد الأيدي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفرو الرماح تنالكبار الصيد، قيل وما قاله مجاهد غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لا يمتنع انتهى، يعني أنهلا يطلق على البيض صيد ولا يمتنع ذلك تسمية للشيء بما يؤول إليه، قال ابن عطية والظاهر أن الله خصالأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفاً في الاصطياد وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك وخص الرماح بالذكرلأنها أعظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذهالآية لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً. وقرأ النخعي وابن وثاب يناله بالياء منقوطة من أسفل والجملةمن قوله تناله في موضع الصفة لقوله بشيء أو في موضع الحال منه إذ قد وصف وأبعد من زعم أنهحال من الصيد. {لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ } هذا تعليل لقوله {لَيَبْلُوَنَّكُمُ } ومعنى {لِيَعْلَمَ } ليتميز منيخاف عقابه تعالى وهو غائب منتظر في الآخرة فيبقى الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه قاله الزمخشري، وقال ابن عطيةليستمرّ عليه وهو موجود إذ قد علم الله ذلك في الأزل، وقال الكلبي لم يزل الله تعالى عالماً وإنما عبربالعلم عن الرؤية، وقيل هو على حذف مضاف أي ليعلم أولياء الله، وقيل المعنى ليعلموا أن الله يعلم من يخافهبالغيب أي في السر حيث لا يراه أحد من الناس فالخائف لا يصيد وغير الخائف يصيد، وقيل يعاملكم معاملة منيطلب أن يعلم، وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وبالغيب في موضع نصب على الحال ومعناه أن الخائف غائب عنرؤية الله تعالى ومثله

{ مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ }

و

{ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }

وقال عليه السلام: فإن لم تكن تراه فإنه يراك وقال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهوغائب عنه، قال ابن عطية والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة من خاف الله انتهى. عن الصيدمن ذات نفسه انتهى. وقرأ الزهري {لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ } من أعلم. قال ابن عطية أي ليعلم عباده انتهى. فيكون منأعلم المنقولة من علم المتعدية إلى واحد تعدى عرف فحذف المفعول الأول وهو عباده لدلالة المعنى عليه وبقي المفعول الثانيوهو {مَن يَخَافُهُ } . {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } المعنى فمن اعتدى بالمخالفة فصاد وذلك إشارة إلىالنهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق وتقديره فلا يصيدوا يدل عليه قوله {لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ }. {فَلَهُعَذَابٌ أَلِيمٌ } قيل في الآخرة. وقيل في الدنيا. قال ابن عباس يوسع بطنه وظهره جلداً ويسلب ثيابه. {أَلِيمٌيَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } الذين آمنوا عام وصرح هنا بالنهي عن قتل الصيد في حالكونهم حرماً والحرم جمع حرام والحرام المحرم والكائن بالحرم، ومن ذهب إلى أن اللفظ يراد به معناه استدل بقوله وأنتمحرم على منع المحرم والكائن بالحرم من قتل الصيد ومن لم يذهب إلى ذلك، قال المعنى يحرمون بحج أو عمرةوهو قول الأكثر. وقيل المعنى وأنتم في الحرم والظاهر النهي عن قتل الصيد وتكون الآية قبل هذه دلت بمعناها علىالنهي عن الاصطياد فيستفاد من مجموع الآيتين النهي عن الاصطياد والنهي عن قتل الصيد والظاهر عموم الصيد وقد خص هذاالعموم بصيد البر لقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ }. وقيل وبالسنة بالحديث الثابت خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغرابوالحدأة والفأرة والكلب العقور فاقتصر على هذه الخمسة الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقاس مالك على الكلب العقور كل ما كلبعلى الناس وغيرهم ورآه داخلاً في لفظه من أسد ونمر وفهد وذئب وكل سبع عاد فقال له أن يقتلها مبتدئاًبها لا هزبر وثعلب وضبع فإن قتلها فدى. وقال مجاهد والنخعي لا يقتل من السباع إلا ما عدا عليه وروينحوه عن ابن عمر. وقال أصحاب الرأي أن بدأه بالسبع قتله ولا فدية وإن ابتدأه المحرم فقتله فدى. وقال مالكفي فراخ السباع قبل أن تفترس لا ينبغي للمحرم قتلها، وثبت عن عمر أمره المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس علىإباحة قتلها وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب وذوات السموم في حكم الحية كالأفعى والرتيلا ومذهبأبي حنيفة وجماعة أن الصيد هو ما توحش مأكولاً كان أو غير مأكول. فعلى هذا لو قتل المحرم سبعاً لايؤكل لحمه ضمن ولا يجاوز قيمة شاة، وقال زفر بالغاً ما بلغ، وقال قوم الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلىهذا لا يجب الضمان في قتل السبع وهو قول الشافعي ولا في قتل الفواسق الخمس ولا الذئب وإذا كان الصيدمما حل أكله فقتله المحرم ولو بالذبح فمذهب أبي حنيفة ومالك أنه غير مذكى فلا يؤكل لحمه وبه قال ابنالمسيب وأحد قولي الحسن ومذهب الشافعي إن ذبح المحرم الصيد ذكاه، وقال الحكم وعمرو بن دينار وسفيان يحل للحلال أكلهوهو أحد قولي الحسن. {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } الظاهر تقييد القتل بالعمدفمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسياً لإحرامه أو رماه ظاناً أنه ليس بصيد فإذا هو صيد أو عدلسهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيداً فلا جزاء عليه، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالموبه قال أبو ثور وداود والطبري وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد بن حنبل، وقال ابن عباس فيما أسندهعنه الدارقطني إنما التكفير في العمد وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا، وقيل خرج مخرج الغالب فالحق به النادر، وقيلذكر التعمد لأن مورد الآية في من تعمد لقصة أبي اليسر إذ قتل الحمار متعمداً وهو محرم ومذهب أبي حنيفةومالك والشافعي وأصحابهم أن الخطأ بنسيان أو غيره كالعمد والعمد أن يكون ذاكراً لإحرامه قاصد للقتل وروي ذلك عن عمروبن عباس وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري، قال الزهري جزاء العمد بالقرآن والخطأ والنسيان بالسنة، قال القاضي أبو بكر بن العربيإن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن عمرو بن عباس فنعماً هي وأحسن بها أسوة، وقال مجاهد معناه متعمدالقتلة ناسياً لإحرامه فإن كان ذاكراً لإحرامه فهذا أجل وأعظم من أن يكفر وقد حل ولا حج له لارتكابه محظوراًحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها، قال ومن أخطأ فذلك الذي عليه الجزاء، وقال نحوهابن جريج، وروي عن مجاهد أنه لا جزاء عليه في قتله متعمداً ويستغفر الله وحجه تام، وقرأ الكوفيون {فَجَزَاء }بالتنوين {مَثَلُ } بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثلما قتل. وقرأ عبد الله {فَجَزَاؤُهُ * مَثَلُ } والضمير عائد على قاتل الصيد أو على الصيد وفي قراءة عبدالله يرتفع {فَجَزَاؤُهُ * مَثَلُ } على الابتداء والخبر. وقرأ باقي السبعة {فَجَزَاء مّثْلُ } برفع جزاء وإضافته إلى مثل،فقيل مثل كأنها مقحمة كما تقول مثلك من يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل، وقيل ذلكمن إضافة المصدر إلى المفعول ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي {فَجَزَاء } بالرفع والتنوين {مّثْلُ مَا قَتَلَ } بالنصب.وقرأ محمد بن مقاتل {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ } بنصب جزاء ومثل والتقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ومثل صفةلجزاء. وقرأ الحسن {مِنَ ٱلنَّعَمِ } سكن العين تخفيفاً كما قالوا الشعر، وقال ابن عطية هي لغة و{مِنَ ٱلنَّعَمِ }صفة لجزاء سواء رفع {جَزَاء } و{مَثَلُ } أو أضيف {جَزَاء } إلى {مَثَلُ } أي كائن من النعم ويجوزفي وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في وجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل. ووهم أبوالبقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالاً حل الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد،على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك، لأن الذي هو من النعم هو ما يكونجزاء لا الذي يقتله المحرم، ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقةوالصغر والعظم وهو قول الجمهور. وروي ذلك عن عمرو بن عوف وابن عباس والضحاك والسدّي وابن جبير وقتادة وبه قالمالك والشافعي ومحمد بن الحسن، وتفاصيل ما يقابل كل مقتول من الصيد قد طول بها جماعة من المفسرين ولم يتعرضلفظ القرآن لها وهي مذكورة في كتب الفقه وذهب جماعة من التابعين إلى أن المماثلة هي في القيمة يقوم الصيدالمقتول ثم يشتري بقيمته طعاماً من الأنعام ثم يهدي وهو قول النخعي وعطاء وأحد قولي مجاهد. وبه قال أبو حنيفةوأبو يوسف يشتري بالقيمة هدياً إن شاء وإن شاء اشترى طعاماً فأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عنكل نصف صاع يوماً، وقال قوم المثلية فيما وجد له مثل صورة وما لم يوجد له مثل فالمثلية في القيمةوقد تعصب أبو بكر الرازي والزمخشري لمذهب أبي حنيفة. ولفظ الآية ينبو عن مذهبه إذ ظاهر الآية يقتضي التخيير بينأن يجزىء هدياً من النعم مثل ما قتل وأن كفر بطعام مساكين وأن يصوم عدل الصيام. والظاهر أن الجزاء لايكون إلا في القتل لا في أخذ الصيد ولا في جنسه ولا في أكله وفاقاً للشافعي وخلافاً لأبي حنيفة إذقال عليه جزاء ما أكل يعني قيمته وخالفه صاحباه فقالا لا شيء عليه سوى الاستغفار لأنه تناول منه، ولا فيالدلالة عليه خلافاً لأبي حنيفة وأشهب إذ قالا يضمن الدار الجزاء، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عوف، وقال الشافعيومالك وأبو ثور لا يضمن الدال والجزاء على القاتل ولا في جرحه ونقص قيمته بذلك، وقال المزني عليه شيء، وقالبعض أهل العلم إذا نقص من قيمته مثلاً العشر فعليه عشر قيمته، وقال داود لا شيء عليه، والظاهر أنه لواجتمع محرمون في صيد لم يجب عليهم إلا جزاء واحد لأنه لا ينسب القتل إلى كل واحد منهم. فأما المقتولفهو واحد يجب أن يكون المثل واحد، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري يجب على كلواحد منهم جزاء واحد، والظاهر أنه إذا حمل قوله {وَأَنتُمْ حُرُمٌ } على عنييه وهما محرمون بحج أو عمرة ومحرمونبمعنى داخلين الحرم وإن كانوا محلين، أنه إذا قتل المحلون صيداً في الحرم أنه يلزمهم جزاء واحد، وبه قال أبوحنيفة، وقال مالك على كل واحد جزاء كامل وظاهر قوله من النعم أنه لا يشترط سن فيجزىء الجفر والعناق علىقدر الصيد وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية وهديالقرآن والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله {وَأَنتُمْ حُرُمٌ } أنه لو صاد الحلال بالحل ثم ذبحه في الحرمفلا ضمان وهو حلال وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة عليه الجزاء. {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَٱلْكَعْبَةِ } أي يحكم بمثل ما قتل. قال ابن وهب من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد كما خيرهالله في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً، فإن اختار الهدي حكماً عليهبما يريانه نظراً لما أصاب وأدنى الهدي شاة، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمهأو يصوم مكان كل مدّ يوماً وكذلك قال مالك، والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصةبن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكما في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر والظاهر أن العدلين ذكرانفلا يحكم فيه امرأتان عدلتان، وقرأ جعفر بن محمد {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ } على التوحيد أي يحكم به منيعدل منكم ولا يريد به الوحدة، وقيل أراد به الإمام. والظاهر أن الحكمين يحكمان في جزاء الصيد باجتهادهما وذلك موكولإليهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وجماعة من أهل العلم، وقال الشافعي الذي له مثل من النعم وحكمت فيه الصحابةبحكم لا يعدل عنه إلى غيره وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهادهما فينظران إلى الأجناس الثلاثة منالأنعام فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه، والظاهر أن الحكمين لا يكون أحدهما قاتل الصيد وهو قول مالك، وقالالشافعي: إن كان القتل خطأ جاز أن يكون أحدهما أو عمداً فلا لأنه يفسق به واستدل بقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } على إثبات القياس لأنه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم. وجوّزوا في انتصاب قوله{هَدْياً } أن يكون حالاً من جزاء فيمن وصفه بمثل لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة وأن يكون بدلاً منمثل في قراءة من نصب مثلاً أو من محله في قراءة من خفضه وأن ينتصب على المصدر والظاهر أنه حالمن قوله به ومعنى {بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } أن ينحر بالحرم ويتصدّق به حيث شاء عند أبي حنيفة، وقال الشافعي بالحرم،وقرأ الأعرج {هَدْياً } بكسر الدال وتشديد الياء والجملة من قوله يحكم في موضع الصفة لقوله فجزاء أي حاكم بهذوا عدل وفي قوله {مّنكُمْ } دليل على أنهما من المسلمين وذكر الكعبة لأنها أم الحرام قالوا والحرم كله منحرلهذا الهدي فما وقف به يعرفه من هدي الجزاء ينحر بمنى وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاعالحرم بشرط أن يدخل من الحل ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغاً الكعبة. {أَوْكَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـٰكِينَ } قرأ الصاحبان بالإضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة إذ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة صيامولا التفات إلى قول الفارسي ولم يصف الكفارة إلى الطعام لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد، وأما ما ذهبإليه الزمخشري من زعمه أن الإضافة مبينة كأنه قيل أو كفارة من طعام مساكين، كقولك خاتم فضة، بمعنى خاتم منفضة فليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوزبعيد جدّاً، وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع {طَعَامٌ } وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين علىأنه اسم جنس، قال أبو علي {طَعَامٌ } عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة. انتهى؛ وهذا على مذهب البصريين لأنهمشرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلاً وقد أجمل في مقدار الطعام وفيعدد المساكين والظاهر أنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين، وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد والقاسم يقوّم الصيد دراهم ثميشتري بالدراهم طعاماً فيطعم كل مسكين نصف صاع، وروي هذا عن ابن عباس وبتقويم الصيد قال أبو حنيفة، وقال مجاهدوعطاء وابن عباس والشافعي وأحمد يقوّم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدى طعاماً، وقال مالك أحسن ما سمعت، إنه يقوّم الصيدفينظركم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدّاً ويصوم مكان كل مدّ يوماً. {أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } الأظهرأن يكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور وهو الطعام والطعام المذكور غير معين في الآية لا كيلاً ولا وزناً فيلزممن ذلك أن يكون الصيام أيضاً غير معين عدداً والصيام مبني على الخلاف في الطعام أهو مدّ أو مدّان. وبالمدّقال ابن عباس ومالك وبالمدّين قال الشافعي وعن أحمد القولان، وجوّزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول وفي الظبيثلاثة أيام وفي الإبل عشرون يوماً وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوماً قاله ابن عباس، وقال ابن جبير ثلاثة أيامإلى عشرة أيام والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان وبه قال جماعة من العلماء فحيث ما شاء كفر بهما، وقالعطاء وغيره الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء، وقرأ الجمهور {أَو عَدْلُ } بفتح العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بنمصرف والجحدري بكسرها وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة. والظاهر أن أو للتخيير أي ذلك فعل أجزأه موسراً كان أو معسراًوهو قول الجمهور، وقال ابن عباس وإبراهيم وحماد بن سلمة لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد هدياً ولاإلى الصوم إلا إن لم يجد ما يطعم والظاهر أن التخيير راجع إلى قاتل الصيد وهو قول الجمهور، وقال محمدبن الحسن الخيار إلى الحكمين والظاهر أن الواجب أحد هذه الثلاثة فلا يجمع بين الإطعام والصيام بأن يطعم عن يومويصوم في كفارة واحدة وأجاز ذلك أصحاب أبي حنيفة وانتصب {صِيَاماً } على التمييز على العدل كقولك على التمرة مثلهازبداً لأن المعنى أو قدر ذلك صياماً. {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } الذوق معروف واستعير هنا لما يؤر من غرامةوأتعاب النفس بالصوم والوبال سوء عاقبة ما فعل وهو هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد، قال الزمخشري ليذوق متعلق بقوله {فَجَزَاء} أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق انتهى. وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف {فَجَزَاء } أونون ونصب {مَثَلُ } وأما على قراءة من نوّن ورفع {مَثَلُ } فلا يجوز أن تتعلق اللام به لأن {مَثَلُ} صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمراًلم يجز فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوقووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك وهو غلط. {عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } أي في جاهليتكم من قتلكمالصيد في الحرم. قال الزمخشريّ لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم، وكان الصيد فيها محرماً انتهى، وقال ابن زيد:عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم. {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } أيومن عاد في الإسلام إلى قتل الصيد فإن كان مستحِلاًّ فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر أو ناسياً لإحرامه كفربإحدى الخصال الثلاث أو عاصياً بأن يعود متعمّداً عالماً بإحرامه فلا كفّارة عليه وينتقم الله منه بإلزام الكفّارة فقط وكلماعاد فهو يكفر. وقال ابن عباس: إن كان متعمداً عالماً بإحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه. وبه قال شريحوالنخعي والحسن ومجاهد وابن زيد وداود وظاهر و{مِنْ * عَادٍ } لعموم ألا ترى أنّ {مِنْ } شرطيّة أو موصولةتضمنت معنى الشرط فتعمّ خلافاً لقوم إذ زعموا أنها مخصوصة بشخص بعينه وأسندوا إلى زيد بن العلاء أنّ رجلاً أصابصيداً وهو مُحرِم فتجوز له ثم عاد فأرسل الله عليه ناراً فأحرقته وذلك قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ} وعلى تقدير صحة هذا الحديث لا تكون هذه القضية تخص عموم الآية إذ هذا الرجل فرد من أفراد العمومظهر انتقام الله منه والفاء في {فَيَنْتَقِمُ } جواب الشرط أو الداخلة على الموصول المضمّن معنى الشرط وهو على إضمارمبتدأ أي فهو ينتقم الله منه. {وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ } أي عزيز لا يغالب إذا أراد أن ينتقملم يغالبْه أحد، وفي هذه الجملة تذكار بنقم الله وتخويفاً. {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ }قال الكلبي: نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نضب عنه الماء من السمك فنزلت، والبحرهنا الماء الكثير الواسع وسواء في ذلك النهر والوادي والبركة والعين لا يختلف الحكم في ذلك. وقيل المراد بالبحر هناالبحر الكبير، وعليه يدل سبب النزول، وما عداه محمول عليه. وأما طعامه فروي عن أبي بكر وعمر وابن عمر أنهما قذفه البحر وطفا عليه. وقال ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا ينظر إلى قوله صلى اللهعليه وسلم الحل ميتته وقال قتادة وابن جبير والنخعي وابن المسيب ومجاهد والسدّي صيده طرّيه وطعامه المملوح منه،وروي هذا عن ابن عباس وزيد بن ثابت، قال أبو عبد الله وهذا ضعيف لأن الذي صار مالحاً قد كانطرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار، وقال قوم: طعامه الملح الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نباتونحوه، وقال الحسن: طعامه صوب ساحله، وقيل: طعامه كل ما سقاه الماء فأنبت لأنه نبت من ماء البحر، وقيل: صيدالبحر ما صيد لأكل وغيره كالصدف لأجل اللؤلؤ وبعض الحيوانات لأجل عظامها وأسنانها وطعامه المأكول منه خاصة عطف خاص علىعام وعدم تقييد الحل يدل على التحليل للمحرم والحلال والصيد المصيد وأضيف إلى المقرّ الذي يكون فيه والظاهر أنه يحلأكل كل ما صيد من أنواع مخلوقاته حتى الذي يسمي خنزير الماء وكلب الماء وحية الماء والسرطان والضفدع وهو قولابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي، وقال الليث: لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء وتؤكل ميتته وكلبه وفرسه، وقال أبوحنيفة والثوري فيما روى عنه أبو إسحاق الفزاري لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك ولا يؤكل طافية ولا الضفدعولا كلبه ولا خنزيره وقال: هذه من الخبائث، قال الرازي: ما صيد من البحر حيتان وجميع أنواعها حلال وضفادع وجميعأنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين. وقال الزمخشري: صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعممن صيده والمعنى أحلّ لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عندأبي حنيفة، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحلّ لكم صيد حيوان البحروأن تطعموه انتهى. وتفسير{وَطَعَامُهُ } بقوله وأن تطعموه خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير عائداً على صيدالبحر والظاهر عوده على البحر وأنه يراد به المطعوم لا الإطعام ويدل على ذلك ظاهر لفظ {وَطَعَامُهُ } وقراءة ابنعباس وعبد الله بن الحرث وطُعمه بضم الطاء وسكون العين وانتصب {مَّتَـٰعًا } قال ابن عطية على المصدر والمعنى متّعكمبه متاعاً تنتفعون به وتأتدمون؛ وقال الزمخشري متاعاً لكم مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول لهبمنزلة قوله تعالى:

{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ }

في باب الحال لأنّ قوله {أَرْسَـٰهَا مَتَـٰعاً لَّكُمْ } مفعول لهمختصّ بالطعام كما أن {نَافِلَةً } حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً تأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً كماتزوّد موسى عليه السلام في مسيره إلى الخضر انتهى. وتخصيصه المفعول له بقوله: {وَطَعَامُهُ } جار على مذهبه مذهب أبيحنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل وأنّ قوله وطعامه هو المأكول منه وأنه لا يقع التمتيعإلا بالمأكول منه طريّاً وقديداً وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولاً له باعتبار صيد البحر وطعامه، والخطاب في لكملحاضري البحر ومدنه والسيارة المسافرون وقال مجاهد: الخطاب لأهل القرى والسيارة، أهل الأمصار وهذا الاختلاف في أنه يستوي فيه المقيموالمسافر والبادي والحاضر والطري والمملوح. {وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } حرم الله تعالى الصيد على المحرمبقوله

{ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْوٰناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ }

وبقوله

{ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }

بهذهالآية وكرر ذلك تغليظاً لحكمه والظاهر تحريم صيد البر على المحرِم من جميع الجهات صيد ولكل من صيد من أجلهأو من غير أجله. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس، وابن عمر وطاوس وابن جبير وأبي الشعثاء والثوري وإسحاق وعنأبي هريرة وعطاء وابن جبير أنهم أجازوا للمحرِم أكل ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله، وقال آخرون يحرم علىالمحرم أن يصيد فأما إن اشتراه من مالك له فذبحه وأكله فلا يحرم وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن،وقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد: يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإن صيد من أجله فلا يأكل فإنأكل، فقال مالك: عليه الجزاء وبه قال الأوزاعي والحسن بن صالح وقال الشافعي لا جزاء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابهأكلُ المحرمِ الصيدَ جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيده ولا دلّ عليه، وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما يصنعأبو حنيفة بعموم قوله صيد البر، (قلت): قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله {وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرّ مَا دُمْتُمْحُرُماً } لأنّ ظاهره أنه صيد المحرِمين دون صيد غيرهم فكأنه قيل وحرم عليكم ما صدتم في البحر فيخرج منهمصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين ويدل عليه قوله تعالى: {أَلِيمٌ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. انتهى. وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر في قوله صيد البر العموم سواء صاده المحرم أم الحلال.وقرأ ابن عباس و{حَرَّمَ } مبنيّاً للفاعل و{صَيْدُ } بالنصب {مَا دُمْتُمْ حُرُماً } بفتح الحاء والراء. وقرأ يحيـى {مَادُمْتُمْ } بكسر الدال وهي لغة يقال دمت تدام ولا خلاف في أن ما لا زوال له من البحر أنهصيد بحر ومن البر أنه صيد بر واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يحيا في الآخر، فقال عطاء وابن جبيروأبو مجلز ومالك وغيرهم: هو من صيد البر إن قتله المحرم فداه. وذكر أبو مجلز من ذلك الضفدع والسلحفاة والسرطان،وروي عن عطاء أنه يراعي أكثر عيشه وسئل عن ابن الماء أصيد برّ أم بحر، فقال حيث يكون أكثر فهومنه وحيث يفرخ منه وهو قول أبي حنيفة والصواب في ابن ماء أنه صيد طائر يرعى ويأكل الحب. وقال الحفظأبو بكر بن العربي الصحيح المنع من الحيوان الذي يكون في البر والبحر لأنه تعارض فيه دليل تحريم ودليل تحليلفيغلب دليل التحريم احتياطاً. {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } هذا فيه تنبيه وتهديد وجاء عقيب تحليل وتحريم وذكرالحشر هذ فيه يظهر من أطاع وعصى.

{ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } * { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

{جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَـٰئِدَ }.مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتلهما شرع وذكر تعظيم الكعبة بقوله هدياً بالغ الكعبة، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس أيركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد، وصارت وازعة لهم من الأذى وهم في الجاهلية الجهلاء لايرجون جنة ولا يخافون ناراً إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمةالملك هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياماً للناس فكانوا لا يهيجون أحداًفي الشهر الحرام ولا من ساق الهدي لأنه لا يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت بحجأو عمرة فتقلد من لحي الشجر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلىالمؤمنين الحلس قال رسول الله ﷺ: هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة فلما رآهاالحلس عظم عليه ذلك وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالة قريش، وجعل هنا بمعنى صير. وقيل جعلبمعنى بين وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصييريلزم منه التبيين والحكم، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان فيخثعم يسمى كعبة اليمانية، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان، وقالالزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى. وليس كما ذكرلأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامداً. لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليسمشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلكوالقيام مصدر كالصيام ويقال هذا قيام له وقوام له وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدراً بل هو اسمكالسواك فلذلك صحت الواو قال: قوام دنيا وقيام دين. إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء قالوا القيامة واختلفوا في تفسيرقوله {قِيَاماً لّلنَّاسِ } فقيل باتساع الرزق عليهم إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق وكانت مكة لا زرعولا ضرع، وقيل بامتناع الإغارة في الحرم، وقيل بسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم، وقيل بما يقام فيهامن المناسك وفعل العبادات، وروي عن ابن عباس، وقيل: يأمن من توجه إليها وروي عنه، وقيل بعدم أذى من أخرجوهمن جر جريرة ولجأ إليها، وقيل ببقاء الدين ما حجت واستقبلت، وقال عطاء لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولميؤخروا. وقال أبو عبد الله الرازي لا يبعد حمله على جميع الوجوه، لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع وبدفع المضار وبحصولالجاه والرئاسة وبحصول الدين والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى. وقرأ ابن عامر قيماً بغير ألف فإن كان أصلهقياماً بالألف وحذفت فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر وإن كان مصدراً على فعل فكان قياسه أن تصح فيهالواو كعوض، وقرأ الجحدري قيماً بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة وهو كسيد اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييدبزمان ولفظ الناس عام، فقيل المراد العموم، وقيل المراد العرب، قال أبو عبد الله بن أبي الفضل وحس هذا المجازأن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم فلذلك خوطبوا على وفق عادتهمانتهى. والشهر الحرام ظاهره الإفراد، فقيل هو ذو الحجة وحذه وبه بدأ الزمخشري قال لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمةيرسم الحج شأناً قد عرفه الله انتهى، وقيل المراد الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضروهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثةفنسبه وسدده، والمعنى شهر آل الله وهو شهر قريش وله يقول عوف بن الأحوص

: وشهر بني أمية والهدايا     إذا سيقت مصرحها الدماء

ولما كانت الكعبة موضعاً مخصوصاً لايصل إليه كل خائف جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قياماً للناس كالكعبة. {ذٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَافِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ } الظاهر أن الإشارة هي المصدر المفهوم أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياماً للناسوأمناً لهم ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السموات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم فانظروا لطفه بالعباد علىحال كفرهم، وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره، وقال الزجاج الإشارةإلى ما نبأ به تعالى من الأخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار مثل قوله

{ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ }

ومثل إخباره بتحريفهم الكتب أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم مافي السموات وما في الأرض. وقيل الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فيعيش أهلها معهم ولولاذلك ماتوا جوعاً لعلمه بما في مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض. {وَأَنَّ ٱللَّهَبِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات كقوله تعالى

{ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } . { }

عْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.{وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا توجيه بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعة الله أو تاب عن معاصيه.{مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ } لما تقدم الترغيب والترهيب أخبر تعالى أن كلف رسوله بالتبليغ وهو توصيل الأحكام إلىأمته وهذا فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به تعالى، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغوقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط. قال ابن عطية هي إخبار للمؤمنين ولا يتصور أن يقالهي أنه موادعة منسوخة بآيات القتال بل هذه حال من آمن بهذا وشهد شهادة الحق فإنه عصم من الرسول مالهودمه فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ. انتهى. وذكر بعض المفسرين الخلاف فيها أهي محكمة أم منسوخة بآيةالسيف والرسول هنا محمد ﷺ، وقيل يجوز أن يكون اسم جنس والمعنى ما على كل من أرسلإلا البلاغ والبلاغ والبلوغ مصدران لبلغ وإذا كان مصدر البلغ فبلاغ الشرائع مستلزم لتبليغ من أرسل بها فعبر باللازم عنالملزوم ويحتمل أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد فمعنى البلاغ التبليغ. {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} جملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أوعقاباً، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى ألزم رسوله التبليغ للشريعة وألزمكم أنتم تبليغها فهو العالم بما تبدون منها وماتكتمونه فيجازيكم على ذلك وكان ذلك خطاباً لأمته إذا كان الإبداء والكتم يمكن صدورهما منهم بخلاف الرسول فإنه يستحيل عليهأن يكتم شيئاً من شرائع الله تعالى. {قُل لاَّ يَسْتَوِى ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ } روى جابرأن رجلاً قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله تعالى؟فقال له النبي ﷺ: إن الله لا يقبل إلا الطيب فنزلت هذه الآية تصديقاً لرسولالله ﷺ. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في التوبة بقوله:{ٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } الآية. وأتبعه في التكليف بقوله: {مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ } ثم بالترغيب فيالطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: {وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفيرعن المعصية. فقال هل يستوي الخبيث والطيب، الآية أو يقال لما بين أن عقابه شديد لمن عصى وأنه غفور رحيملمن أطاع بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي وإن كان من العصاة والكفار كثرة فلا يمنعه كثرتهم من عقابه، والظاهرأن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث منهذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقبة وينظر إلى هذه الآيةقوله تعالى:

{ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ }

الآية. والخبيث فاسد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب خلافذلك وقد خصص بعض المتقدمين هنا الخبيث والطيب ببعض ما يقتضيه عموم اللفظ، فقال ابن عباس والحسن هو الحلال والحرام،وقال السدي هو المؤمن والكافر وذكر الماوردي قولاً أنه المطيع والعاصي وقولاً آخر أنه الجيد والرديء، وقيل: الطيب المعرفة والطاعةوالخبيث الجهل والمعصية والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لأقصر اللفظ عليها، وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ} ظاهره أنه من جملة المأمور بقوله ووجه كاف الخطاب في قوله {وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أن المعنى ولو أعجبك أيهاالسامع أو أيها المخاطب وأما أن لا يكون من جملة ما أمر بقوله ويكون خطاباً للنبي ﷺفقد ذكر بعضهم أنه يحتمل ذلك والأولى القول الأول أو يحمل على أنه خطاب له في الظاهر والمراد غيره.{فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِى * أُوْلِى * ٱلالْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ } أي اتقوه في إيثار الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر،قال الزمخشري ومن حق هذه الآية أن يكفح بها المجبرة إذا افتخروا بالكثرة. قال شاعرهم

: وكاثر بسعدٍ إنّ سعداً كثيرة     ولا ترجُ من سعدٍ وفاء ولا نصراً

وقال آخر

: لا يدهمنك من دهمائهم عدد     فإنّ جلَّهم كلَّهم بقرُ

وهو على عادته من تسمية أهل السنة مجبرة وذمهم وخص تعالى الخطاب والنداء بأولي الألباب لأنهم المتقدمون في تمييز الطيب والخبيث فلاينبغي لهم إهمال ذلك. قال ابن عطية وكأن الإشارة إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالجبلة والفطنة المستنبطةوالنظر البعيد انتهى.

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } * { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } * { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } * { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ } * { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } * { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } * { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } * { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } * { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوۤاْ آمَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } * { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } * { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }

{عَنْ أَشْيَاء } مذهب سيبويه والخليل أنها الفعاء مقلوبة من فعلاء، والأصل شيئاًمن مادة شيء، وهو اسم جمع كطرفاء وحلفاء ومذهب غيرهما أنها جمع. واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم، هو جمع شيءكبيت وأبيات، وقال الكسائي لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء ولكثرة استعمالها والعرب تقول أشياوان كما تقول حمراوان. ذهبالفراء والأخفش إلى أنها جمع على وزن أفعلاء، قال الفراء شيء مخفف من شيء كما قالوا هوناً في جمع هينالمخفف من هين، وقال الأخفش ليس مخففاً من شيء بل هو فعل جمع على أفعلاء فاجتمع في هذين القولين همزتانلام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عينالكلمة استخفافاً، وذهب قوم إلى أن وزن شيء في الأصل شيء كصديق وأصدقاء، ثم حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المدلكونما بعدها ألفاً، قال ووزنها في هذا القول إلى أفياء وفي القول الذي قبله أفلاء، وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالاًمذكور في علم التصريف. البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة بمعنى المنطوحة، قال أبو عبيدة هي الناقة إذا نتجت خمسةأبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولامرعى، وروي نحوه عنابن عباس إلا أنه لم يذكر عنه آخرها ذَكَر، وقال قتادة وينظر في الخامس فإذا كان ذكراً ذبحوه وأكلوه وإنكانت أنثى شقوا أذن الأنثى وقالوا هي بحيرة، فلم تركب ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها ألمعي لميركبها تحرّجاً وتخوراً منه. روي عن عكرمة وزاد، حرم على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء، وقال ابن سيدةالبحيرة هي التي خليت بلا راع، وقال مجاهد البحيرة ما نتجت السائبة من أنثى شق أذنها وخلّى سبيلها مع أمهافي الفلا لم تركب ولم تحلب كما فعل بأمها، وقال ابن المسيب هي التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها، وقيلهي الناقة إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها. وقال ابن عطية إذا نتجت الناقة عشرة أبطن شقوا أذنها نصفينطولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرّجال، وقيلالبحيرة السقب هذا ولد يحزوا أذنه، وقالوا اللهم إن عاش فعفى وإن مات فذكى فإذا مات أكل، ويظهر من اختلافهذه النقول أن العرب كانت تختلف طرائقها في البحيرة فصار لكلّ منها في ذلك طريقة وهي كلها ضلال. السائبةفاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال ساب الماء وسابت الحية، وقيل هي السيبة اسم الفاعل بمعنى المفعولنحو قولهم

{ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ }

أي مرضية، قال أبو عبيدة كان الرّجل إذا قدم من سفر أو نذر نذراًأو شكر نعمة سيب بعيراً فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حلوا لها، وقال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطنإناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن إلا ولد أو ضيف، وقال ابنعباس السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق، وكان الرجل يسبب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدمآلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل، وقال الشافعي كانوا ينذرون تسبيب الناقة ليحج حجة عليها، وقيل السائبة العبد يعتق على أنلا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث. الوصيلة هي في الغنم على قول الأكثرين، روى أبو صالح عنابن عباس أنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلهاالرّجال والنساء وإن كان ذكراً، ونحوه أكلوه جميعاً. فإذا كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبحومنافعها للرّجال دون النساء فإذا ماتت اشترك الرّجال والنساء فيها، وقال ابن قتيبة إن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منهالرجال دون النساء وقالوا خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كانت ذكراً وأنثى فكمافي قول ابن عباس، وقال ابن إسحاق هي الشاة تنتج عشرة أبطن متواليات في خمسة أبطن وما ولدت بعد ذلكفللذكور دون الإناث، وقال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً قيل وصلتأخاها فجرت مجرى السائبة، وقال الزجاج هي الشاة التي تلد أنثى فلهم أو ذكراً فلآلهتهم، وقال أبو عبيدة نحوه وزادإذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، وروى الزهري عن ابن المسيب أنها الناقة البكر تبتكرفي أول النتاج بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيستقونها لطواغيتهم ويقولون وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، وقيل هي الشاة تلدثلاثة أبطن أو خمسة فإن كان آخرها جدياً ذبحوه لآلهتهم أو عناقاً استحيوها وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته منالذبح. الحامي اسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإبل، قال ابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيدة والزجاجهو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء، وروى ابن أبيطلحة عن ابن عباس واختاره الفراء أنه الفحل يولد لولد ولده، وقال عطاء هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطنفيظهر من بين أولاده عشرة إناث من بناته وبنات بنانه، وقال ابن زيد هو الذي ينتج له سبع إناث متوالياتوذكر الماوردي عن الشافعي أنه يضرب في إبل الرجل عشر سنين. الحبس المنع من التصرف يقال حبست أحبس واحتبستفرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس وقفته للغزو. وعثر على الرجل اطلع عليه مشتق من العثرة التي هيالوقوع وذلك أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فلذلك قيللكل من اطلع على أمر كان خفيًّا عليه قد عثر عليه ويقال قد عثر عليه وقد أعثر عليه إذا أطلعهعليه ومنه

{ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }

أي اطلعنا، وقال الليث عثر يعثر عثوراً هجم على أمر لم يهجم عليهغيره وعثر عثرة وقع على شيء. المائدة الخوان الذي عليه طعام فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، قالأبو عبد الله هي فاعلة بمعنى مفعولة وهي من العطاء والممتاد المطلوب منه العطاء ماده أعطاه وامتاده استعطاه. وقالالزجاج هي فاعلة من ماد يميد تحرك فكأنها تميد بما عليها، وقال ابن قتيبة المائدة الطعام من ماده يميده أعطاهكأنها تميد الآكلين أي تطعمهم وتكون فاعلة بمعنى مفعول بها أي ميد بها الآكلون. وقيل من الميد وهو الميل وهذاقريب من قول الزجاج. {تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } روى البخاريومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال: قال رجل: يا رسول الله من أبي قال أبوك فلان ونزلت الآية.وفي حديث أنس أيضاً أن رجلاً قال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النار وإن السائل من أبيهو عبد الله بن حذافة وفي غير حديث أنس، فقام آخر فقال من أبي فقال أبوك سالم مولى شيبة وقيل نزلت بسبب سؤالهم عن الحج أفي كل عام؟ فسكت فقال أفي كل عام؟ قال: لا ولو قلت نعم لوجبت روي هذا عن عليّ وأبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس، وقيل السائل سراقة بن مالك، وقيل عكاشةبن محصن الأسدي، وقيل محصن، وقيل رجل من بني أسد. وقيل الأقرع بن حابس، وقال الحسن: سألوا عن أمور الجاهليةالتي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه، وقال ابن جبير ورواه مجاهد عن ابن عباس: سألواعن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ولذلك جاء ذكرها بعدها وروي عن عكرمة أنهم سألوا الآيات والمعجزات. وذكر أبو سليمان الدمشقيأنها نزلت في تسهيم الفرائض، وروي أنه تعالى لما بين أمر الكعبة والهدي والقلائد وأعلم أن حرمتها هو تعالى الذيشرعها إذ هي أمور قديمة من لدن إبراهيم عليه السلام، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهليةهل تلحق بذلك أم لا؟ إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وماهو من تلقاء الشيطان، والظاهر من الروايات أن الأعراب ألحوا عليه بأنواع من السؤالات فزجروا عن ذلك بهذه الآية، وقيلنزلت في حجاج اليمامة حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين، ومناسبة هذه الآيةلما قبلها هو أنه لما قال:

{ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ }

صار كأنه قيل ما بلغه الرسولفخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشقعليكم، قاله أبوعبد الله الرازي وفيه بعض تلخيص، وقال أيضاً هذا متصل بقوله

{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }

فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مختلفة والجملة الشرطية وما عطف عليها من الشرط في موضع الصفةلأشياء والمعنى لا تكثروا مسألة رسول الله ﷺ حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتى لكمبها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها قاله الزمخشري وبناه على ما نقل في سبب النزول أنهسئل عن الحج، وقرأ الجمهور {إِن تُبْدَ لَكُمْ } بالتاء مبنيّاً للمفعول، وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيّاً للفاعل، وقرأ الشعبيبالياء مفتوحة من أسفل وضم الدال {*يسؤكم} بالياء فيهما مضمومة في الأول ومفتوحة في الثاني، وقال ابن عطية والتحرير إنيبدها الله تعالى. {تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن } قال ابن عباس معناه لا تسألواعن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوءكم، مثل الذي قال من أبي؟ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن بيانه بين لكم وأبدى انتهى. قال ابن عطية:فالضمير في قوله {عَنْهَا } عائد على نوعها لا على الأول التي نهى عن السؤال عنها. قال: ويحتمل أنيكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم غب ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون ما يسوءكم كالذيقيل له إنه في النار انتهى. وقال الزمخشري {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ } أي عن هذه التكاليفالصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه {تُبْدَ لَكُمْ } تلك التكاليف {ٱلَّتِى } وتؤمروابتحملها فتعرّضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها انتهى. وعلى هذا يكون الضمير في {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا } عائداً على أشياء نفسهالا على نوعها والذي يظهر أنهم نهوا عن السؤال عن أشياء وصفت بوصفين أحدهما أنها إن سألوا عنها أبديت لهموقت نزول القرآن فيكون {حِينٍ } ظرفاً لقوله {تُبْدَ لَكُمْ } لا لقوله {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا } والوصف الثانيأنها إن أبديت لهم ساءتهم وهذا الوصف وإن تقدم مرتب على الوصف المتأخر وإنما تقدم لأنه أردع لهم عن المسألةعن تلك الأشياء أن يسألوا عنها لأنهم إذا أخبروا أنهم تسوءهم تلك المسألة إذا أبديت كانت أنفر عن أن يسألوابعد، فما كان هذا الوصف أزجر عن السؤال قدّم وتأخر الوصف في الذكر الذي ليس فيه زجر ولا ردع واتكلفي ذلك على فهم المعنى مع أن غطف الوصف الثاني بالواو يقتضي التشريك فقط دون الترتيب، ولا يدل قوله وإنتسألوا عنها على جواز السؤال كما زعم بعضهم فقال: الضمير عائد على أشياء فكيف يفعل أشياء بأعيانها أن يكون السؤالعنها ممنوعاً وجائزاً معاً. وأجاب بوجهين أحدهما أن يكون ممنوعاً قبل نزول القرآن مأموراً به بعد نزوله الثاني أنهما وإنكانا غير مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولاً عنه شيء واحد، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير، انتهى.وهذا ليس بجواب ثان لأنه فرض أن تلك الأشياء بأعيانها، السؤال عنها ممنوع وجائز وإذا كانا نوعين مختلفين فليست الأشياءبأعيانها وجملة الشرط كما ذكرناه لا تدل على الجواز ألا ترى أنك تقول لا تزن وإن زنيت حددت فقوله وإنزنيت حددت لا يدل ذلك على الجواز بل جملة الشرط لا تدل على الوقوع بل لا تدل على الإمكان إذقد يقع التعليق بين المستحيلين كقوله

{ لئن أشركت ليحبطن عملك }

{عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } ظاهره أنه استئنافإخباره من الله تعالى، وذهب بعضهم إلى أنها في موضع جر صفة لأشياء كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء معفوعنها ويكون معنى عفا أي ترك لكم التكليف فيها والمشقة عليكم بها لقوله إن الله قد عفا لكم عن صدقةالخيل، وهو القول الأول وهو الاستئناف يحتمل أن يكون المعنى هذا أي تركها الله ولم يعرفكم بها ويحتمل أن يكونالمعنى أنه تجاوز عن ارتكابكم تلك السؤالات ولم يؤاخذكم بها ويدل على هذا المعنى قوله: {وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } ولذلكقال الزمخشري عفا الله عنكم ما سلف عن مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها. {وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذكمبما يفرط منكم بعقوبته خرّج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إن أعظم الناس جرماً من سأل عن مسألة لم تكن حراماً فحرمت من أجل مسألته قد سألها قوم منقبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} الظاهر أن الضمير في {*} الظاهر أن الضمير في {سَأَلَهَا } عائد على أشياء. وقالالحوفي: ولا يتجه حمله على الظاهر لا من جهة اللفظ العربيّ ولا من جهة المعنى، أما من جهة اللفظ فكانيعدى بعن فكان قد سأل عنها كما قال {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } فعدى بعن، وأما من جهة المعنى فلأنالمسؤول عنه مختلف قطعاً فيهما لأن المنهي عنه الذي هو مثل سؤال من سأل أين مدخلي ومن أبي. ومن سألعن الحج وأين ناقتي وما في بطن ناقتي غير سؤال القوم الذين تقدموا، فقال الزمخشري الضمير في {سَأَلَهَا } ليسيراجع إلى أشياء حتى يجب تعديته بعن، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها {لاَ تَسْأَلُواْ } يعني قدسأل هذه المسألة قوم من الأولين ثم أصبحوا أي بمرجوعها كافرين، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياءفإذا أمروا بها تركوها فهلكوا. انتهى. وقال ابن عطية نحواً من قول الزمخشري قال: ومعنى هذه الآية أن هذه السؤالاتالتي هي تعنتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألها قبلكم الأمم ثم كفروا بها. انتهى، ولا يستقيم ما قالاه إلاعلى حذف مضاف وقد صرح به بعض المفسرين، فقال قد سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات،وقرأ الجمهور سألها بفتح السين والهمزة، وقرأ النخعي بكسر السين من غير همز يعني بالكسر والإمالة، وجعل الفعل من مادّةسين وواو ولام لا من مادّة سين وهمزة ولام، وهما لغتان ذكرهما سيبويه، ومن كلام العرب هما يتساولان بالواو وإمالةالنخعي سأل مثل إمالة حمزة خاف. والقوم قال ابن عباس هم قوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها بعد أنشرط عليهم العذاب الذي لا يعذبه أحداً من العالمين، وقال ابن زيد أيضاً هم قوم موسى سألوا في ذبح البقرةوشأنها، وقال ابن زيد أيضاً هم الذين قالوا لنبيَ لهم

{ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ }

وقيل قوم موسى سألوا أن يريهم الله جهرة فصار ذلك وبالاً عليهم، وقيل قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها بعدأن دخلوا على الاشتراط في قوله تعالى:

{ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ }

وبعد اشتراط العذاب عليهم إنمسوها بسوء، وقال مقاتل كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم فأصبحوا بتلكالأشياء كافرين، وقال السدّي كقريش في سؤالهم أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً، قال ابن عطية إنما يتجه في قريشمثال سؤالهم آية فلما شق القمر كفروا انتهى، وقال بعض المتأخرين القوم قريش سألوا أموراً ممتنعة كما أخبر تعالى

{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلاْرْضِ يَنْبُوعًا }

وهذا لا يستقيم إلا إن أريد بمن قبلهم آباؤهمالذين ماتوا في ابتداء التنزيل، قال أبو البقاء العكبري {مِن قَبْلِكُمْ } متعلق سألها، ولا يجوز أن يكون صفة لقومولا حالاً لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجنة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها انتهى. وهذا الذي ذكره صحيحفي ظرف الزمان المجرد من الوصف أما إذا وصف فذكروا أنه يكون خبراً تقول نحن في يوم طيب وأما قبلوبعد فالحقيقة أنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء زيد زماناً أي في زمان متقدمعلى زمان مجيء عمرو، ولذلك صح أن يقع صلة للموصول ولم يلحظ فيه الوصف وأن كان ظرف زمان مجرداً لميجز أن يقع صلة، قال تعالى:

{ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }

ولا يجوز والذين اليوم وقد تكلمنا على هذا فيأول البقرة ومعنى {ثُمَّ أَصْبَحُواْ } ثم صاروا ولا يراد أن كفرهم مقيد بالصباح. {مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍوَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذنفيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التيكانت في الجاهلية هل تلحق بأحكام الكعبة بين تعالى أنه لم يشرع شيئاً منها، أو لما ذكر المحللات والمحرمات فيالشرع عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع، وفي حديث روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلىالله عليه وسلم أن أول من غير دين إسماعيل عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف نصب الأوثان وسبب السائبة وبحر البحيرة وحمى الحامي ورآه رسول الله ﷺ يجر قصبه في النار، وروي أنه كانملك مكة، وروى زيد بن أسلم عن النبي ﷺ أنه قال: قد عرفت أول من بحر البحيرة هو رجل من مدلج كانت له ناقتان فجدع ذانهما وحرم ألبانهما وركوب ظهورهما قال: فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه قال الزمخشري يعني {مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ } ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغيرذلك، وقال ابن عطية {وَجَعَلَ } في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله لأن الله تعالى خلقهذه الأشياء كلها ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سن ولا شرع، ولم يذكر النحويونفي معاني جعل شرع، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق وبمعنى ألقى وبمعنى صير، وبمعنى الأخذ في الفعل فتكون منأفعال المقاربة. وذكر بعضهم بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها إلا أنه قليل والحمل على ما سمعأولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي ما صير الله بحيرةولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله،

{ وَٱلاْنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ }

خلقها اللهتعالى رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها وإذهاب نعمة الله بها، قال ابنعطيّة وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة والفرق بيّن ولو عمد رجل إلى ضيعةله فقال هذه تكون حبساً لا تجتنى ثمرتها ولا تزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرةوالسائبة، وأما الحبس المتعين طريقة واستمرار الانتفاع به فليس من هذا، وحسبك بأن النبي ﷺ قال لعمربن الخطاب في مال له: «اجعله حبساً لا يباع أصله وحبس أصحاب النبي ﷺ انتهى. {وَلَـٰكِنَّٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } قال الزمخشري بتحريم ما حرموا. {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فلا ينسبوا التحريمحتى يفتروا ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم انتهى. نص الشعبي وغيره أن المفترين هم المبتدعون وأن الذين لا يعقلون همالأتباع، وقال ابن عباس {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يريد عمرو بن لحي وأصحابه، وقيل في {لاَ يَعْقِلُونَ } أي الحلال منالحرام، وقال قتادة: {لاَ يَعْقِلُونَ } أن هذا التحريم من الشيطان لا من الله، وقال محمد بن موسى: {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} هنا هم أهل الكتاب والذين {لاَ يَعْقِلُونَ } هم أهل الأوثان، قال ابن عطية وهذا تفسير من انتزاع آخرالآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما أخبر أيضاً من قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } انتهى. وقال مكي ذكرأهل الكتاب هنا لا معنى له إذ ليس في هذا صنع ولا شبه وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب فهمالذين عنوا بذلك. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَاأَوَلَوْ * لَّوْ كَانَ *لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ * يأَيُّهَا }. تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورةالبقرة وهنا {تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } وهناك

{ ٱتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا }

وهنا {لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً } وهناك

{ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا }

والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف ومعنى {إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي من القرآن الذي فيهالتحريم الصحيح ومعنى حسبنا: كافينا وقول ابن عطية: معنى {حَسْبُنَا } كفانا ليس شرحاً بالمرادف إذ شرح الاسم بالفعل، وقالابن عطية في {أَوْ * لَوْ } ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزمواشنيع القول وإنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده: نعم، ولو كان كذلك انتهى. وقوله في الهمزة ألف التوقيف عبارةلم أقف عليها من كلام النحاة يقولون همزة الإنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الاستفهام، وقوله: كأنهم عطفوا هذه الجملة علىالأولى يعني فكان التقدير قالوا: فاعتنى بالهمزة فقدّمت لقوله:

{ وَلَمْ * يَسِيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ }

وليس كما ذكر منأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى، وقال الزمخشري والواو في قوله: {أَوْ *لَّوْ كَانَ * ءابَاؤُهُمْ } واو الحال وقد دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمونشيئاً ولا يهتدون، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. انتهى. وجعل الزمخشري الواو، في {أَوْ* لَوْ }، واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية أنها واو العطف لا من الجهة التي ذكرها ابن عطيةواو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هيشرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حاله داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا تدخل، فقوله: أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردّوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة وقول الشاعر

: قوم إذا حاربو شدّوا مآزرهم     دون النساء ولو باتت بإطهار

فالمعنى أعطواالسائل على كل حال ولو على الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثلعلى ما يناسب فالواو عاطفة على حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال إنها واو الحال وقد تقدمالكلام على ذلك بأشبع من هذا فالتقدير في الآية أحسبهم أتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو فيالحالة التي تنفي عن آبائهم العلم والهداية فإنها حالة ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء لأن ذلك حال من غلبعليه المفرط. {يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } قال أبو أمية الشعباني:سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله ﷺفقال: أمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم وهذا أصح ما يقال في تأويل هذهالآية لأنه عن الرسول وعليه الصحابة بلغ أبا بكر الصديق أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم الأمربالمعروف ولا النهي عن المنكر، فصعد المنبر وقال: أيها الناس لا تغتروا بقول الله: عليكم أنفسكم فيقول أحدكم: عليّ نفسيفوالله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم وليسوا منكم سوء العذاب، وعن عمر أن رجلاً قال له:إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال: وما هما قال لا آمر ولا أنهى، فقال له عمر لقدطمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك، وعن ابن مسعود ليس هذا زمان هذه الآيةفولوا الحق ما قبل منكم فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القولفي هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فقال: إن رسول الله ﷺ قال لنا: ليبلغ الشاهد منكم الغائب ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. وقال ابن جبير {عَلَيْكُمْأَنْفُسَكُمْ } فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر {وَلاَ يَضُرُّكُمْ * مَّن ضَلَّ } منأهل الكتاب إذا اهتديتم، وقال ابن زيد المعنى يا أيها الذين آمنوا من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب {عَلَيْكُمْأَنْفُسَكُمْ } في الاستقامة على الدين {لاَ يَضُرُّكُمْ } ضلال الأسلاف {إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } ، قال وكان الرجل إذا أسلمقال له الكفار: سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك، وقيل: نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابنأبي السرح وغيره، وقال المهدوي قيل إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال ابن عطية لم يقل أحد فيماعلمت أنها آية الموادعة للكفار ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيامبالقسط والأمر بالمعروف، وقال الزمخشري كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتوّ من الكفرة ويتمنون دخولهم في الإسلام فقيللهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي في طرق الهدى ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كماقال تعالى لنبيه:

{ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ }

وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصيولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ مع تركهما معالقدرة عليهما فليس بمهتد. وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنمنافقي مكة قالوا: عجباً لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا وقد قبل من مجوس هجر وأهلالكتاب الجزية فهلا أكلاههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب فشق ذلك على المسلمين فنزلت، وقال مقاتل مايقارب هذا القول، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف ثم قيل

{ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ }

إلى قوله:

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ }

الآية. كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدّممن المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرّين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنونبجهالتهم وضلالتهم فإن ذلك لا يضركم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره، {وَعَلَيْكُمْ } من كلم الإغراء وله بابمعقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعدياً كان اسمه متعدياً وإن كان لازماً كان لازماً{وَعَلَيْكُمْ } اسم لقولك الزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم، وإذاكان المغرى به مخاطباً جاز أن يؤتى بالضمير منفصلاً فتقول عليك إياك أو يؤتى بالنفس بدل الضمير فتقول عليك نفسككما في هذه الآية، وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } بالرفع وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين:أحدهما يرتفع على أنه مبتدأ وعليكم في موضع الخبر والمعنى على الإغراء، والوجه الثاني أن يكون توكيداً للضمير المستكن في{عَلَيْكُمْ } ولم تؤكد بمضمر منفصل إذ قد جاء ذلك قليلاً ويكون مفعول {عَلَيْكُمْ } محذوفاً لدلالة المعنى عليه والتقديرعليكم أنفسكم هدايتكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، وقرأ الجمهور {لاَ يَضُرُّكُمْ } بضم الضاد والراء وتشديدها، قال الزمخشري:وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وينصره قراءة أبي حيوة {لاَ يَضُرُّكُمْ } وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً وإنما ضمتالراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضركم ويجوز أن يكون نهياً انتهى. وقرأ الحسن بضمالضاد وسكون الراء من ضار يضور، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير وهي لغات. {إِلَى ٱللَّهِمَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي مرجع المهتدين والضالين وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تقومانوهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة. {تَعْمَلُونَ يِـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ} روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بنيسهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبساً جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما، وفيرواية فحلفهما بعد العصر النبي ﷺ ما كتمتا ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقالوااشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتديناقال: فأخذ الجام وفيهم نزلت الآية، قيل والسهمي هو مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم وأن جامالفضة كان يريد به الملك وهو أعظم تجاراته وأن عدياً وتميماً باعاه بألف درهم واقتسماها، وقيل اسمه بديل بن أبيمارية مولى العاصي بن وائل السهمي وأنه خرج مسافراً في البحر إلى أرض النجاشي. وأن إناء الفضة كان وزنه ثلثمائةمثقال وكان مموّهاً بالذهب قال فقدموا الشام، فمرض بديل وكان مسلماً الحديث. وذكر أبو عبد الله بن الفضل أن ورثةبديل قالوا لهما ألستما زعمتما أن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه، فما بال هذا الإناء معكما وهو مما خرجصاحبنا به وقد حلفتما عليه قالا إنا كنا ابتعناه منه، ولم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقر لكم فتأخذوهمنا وتسألوا عليه البينة ولا نقدر عليها فرفعوهما إلى رسول الله ﷺ فنزلت انتهى. وفي رواية قالتميم فلما أسلمت بعد قدوم النبي ﷺ المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر وأديت لهمخمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى النبي ﷺ فسألهم البينة فلم يجدوا ماأمروا به فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطه به على أهل دينه فحلف فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: {بَعْدَ إِيمَـٰنِهِمْ} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يد عدي بن زيد وزاد الواقدي في حديثهأن تميماً وعدي كانا أخوين ويعني والله أعلم أنهما أخوان لأم وأن بديلاً كتب وصيته بيده ودسها في متاعه، وأوصىإلى تميم وعدي أن يؤدّيا رحله وأن الرسول استحلفهما بعد العصر وأنه حلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلببن أبي وداعة، وذكر الزمخشري هذا السبب مختصراً مجرداً فذكر فيه أن بديل بن أبي مريم كان من المهاجرين وأنهكتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدوا فرفعواإلى رسول الله ﷺ فنزلت، وقال ابن عطية ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامهوقد عده بعض المتأخرين في الصحابة، وقال مكي بن أبي طالب: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما فيالقرآن إعراباً ومعنى وحكماً، قال ابن عطية وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها وذلك بين من كتابهانتهى. وقال أبو الحسن السخاوي ما رأيت أحداً من الأئمة تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها انتهى. ومناسبة هذهالآية لما قبلها هي أنه لما ذكر {ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عنأن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإيصاء إليهم فيالسفر على ما سيأتي بيانه، وقال أبو نصر القشيري لما نزلت السورة بالوفاء بالعقود وترك الخيانات انجر الكلام إلى هذا،وقرأ الجمهور {شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ } بالرفع وإضافة {شَهَادَةً } إلى {بَيْنِكُمْ }، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج {شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ } برفعشهادة وتنوينه، وقرأ السلمي والحسن أيضاً {شَهَادَةً } بالنصب والتنوين وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و{بَيْنِكُمْ } في هاتينالقراءتين منصوب على الظرف فشهادة على قراءة الجمهور مبتدأ مضاف إلى بين بعد الاتساع فيه كقوله

{ هذا فراق بيني وبينك }

وخبره {ٱثْنَانِ } تقديره شهادة اثنين أو يكون التقدير ذوا شهادة بينكم إثنان واحتيج إلى الحذف ليطابق المبتدأالخبر وكذا توجيه قراءة الشعبي والأعرج، وأجاز الزمخشري أن يرتفع اثنان على الفاعلية بشهادة ويكون شهادة مبتدأ وخبره محذوف وقدرهفيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، وقيل شهادة مبتدأ خبره إذا حضر أحدكم الموت، وقيل خبره {حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ }، ويرتفع{ٱثْنَانِ } على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير الشاهدان اثنان ذوا عدل منكم، أو على الفاعلية، التقدير يشهد اثنان، وقيل{شَهَادَةً } مبتدأ {*واثنان} مرتفع به على الفاعلية وأغنى الفاعل عن الخبر. وعلى الإعراب الأول يكون إذاً معمولاً للشهادة وأما{إِلَىٰ حِينٍ } فذكروا أنه يكون معمولاً لحضر أو ظرفاً للموت أو بدلاً من إذا ولم يذكر الزمخشري غير البدل،قال {وَحِينَ * ٱلْوَصِيَّةِ } بدل منه يعني من {إِذَا } وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية وأنها منالأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهب عنها، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل انتهى. وقالالماتريدي واتبعه أبو عبد الله الرازي: التقدير ما بينكم فحذف ما، قال أبو عبد الله الرازي: يعني شهادة ما بينكم،{وَبَيْنَكُمْ } كناية عن التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله ما بينكم جائزلظهوره ونظيره {هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى * وَبَيْنَكُمْ } أي ما بيني وبينك وقوله

{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }

في قراءةمن نصب انتهى، وحذف ما الموصولة لا يجوز عند البصريين ومع الإضافة لا يصح تقدير ما البتة وليس قوله {هَـٰذَافِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } نظيره {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } لأن ذلك مضاف إليه وهذا باق على طريقته فيمكن أن يتخيلفيه تقدير ما لأن الإضافة إليه أخرجته عن الظرفية وصيرته مفعولاً به على السعة وأما تخريج قراءة السلمي والحسن {شَهَادَةً} بالنصب والتنوين ونصب {بَيْنِكُمْ } فقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل {شَهَادَةً } مفعولاً بإضمار هذا الأمر و{ٱثْنَانِ }مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه، قال ابن جني التقدير ليقم شهادة بينكماثنان انتهى، وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أنأشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى:

{ سَبِّحِ * لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ }

على قراءة من فتح الباء فقرأهمبنياً للمفعول وذكروا في اقتياس هذا خلافاً أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كان يقاللك ما قام أحد عندك فتقول بلى زيد أي قام زيد أو أجيب به استفهام كقول الشاعر

: ألا هل أتى أم الحويرث مرسلا     بل خالدان لم تعقه العوائق

التقدير أتى خالدأو يأتيها خالد وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحداً من هذه الأقسام الثلاثة والذي عندي أنهذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين: أحدهما أن يكون شهادة منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر واثنانمرتفع به والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك: ضرباً زيداً إلا أن الفاعل في ضرباً مسند إلى ضميرالمخاطب لأن معناه اضرب وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه ليشهد، والوجه الثاني أن يكون أيضاً مصدراً ليس بمعنى الأمربل يكون خبراً ناب مناب الفعل في الخبر، وإن كان ذلك قليلاً كقولك افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك فكرامةومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر وكما هو الأحسن في قول امرىء القيس

:وقوفـاً بهـا صحبـي علـيّ مطيهــم    

فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر التقدير وقف صحبي علىمطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان، والشهادة هنا هل هي التي تقام بها الحقوق عند الحكامأو الحضور أو اليمين ثلاثة أقوال آخرها للطبري والقفال كقوله:

{ فَشَهَـٰدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـٰدَاتٍ }

وقيل تأتي الشهادة بمعنىالإقرار نحو قوله:

{ وَٱلْمَلَـئِكَةُ يَشْهَدُونَ }

وبمعنى العلم نحو قوله:

{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }

وبمعنى الوصية وخرجت هذه الآية عليه فيكون فيها أربعة أقوال. {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } {ذَوَاعَدْلٍ } صفة لقوله {ٱثْنَانِ } و {مّنكُمْ } صفة أخرى و {مِنْ غَيْرِكُمْ } صفة لآخران، قال الزمخشري {مّنكُمْ} من أقاربكم و {مِنْ غَيْرِكُمْ } من الأجانب {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ } يعني أن وقع الموت فيالسفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هوأصلح وهم له أنصح، وقيل {مّنكُمْ } من المسلمين وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حالالسفر، وعن مكحول نسخها قوله:

{ وَأَشْهِدُواْ * ذَوِى * عَدْلٍ مّنْكُمْ }

انتهى. وما اختاره الزمخشري وبدأ به أولاًهو قول ابن عباس وعكرمة والحسن والزهري قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرىبصورة العدل فيها فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب وهذا القول مخالفلما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى ابن عطية قال لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداريوعدي بن زياد كانا نصرانيين وساقا الحديث المذكور أولاً فهذا القول مخالف لسبب النزول وأما القول الثاني الذي حكاه الزمخشريهو مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيـى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وابراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهدوقتادة والسدي، وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال الثوري ومال إليه أبو عبيد واختاره أحمد قالوا: معنى قوله: {مّنكُمْ} من المؤمنين ومعنى {مِنْ غَيْرِكُمْ } من الكفار، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا يؤمن إلا بالمدينة وكانوايسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفار ومذهب أبي موسى وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، قال أحمد: شهادةأهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ورجح أبو عبد الله الرازي هذا القول قال: قوله: {ذَلِكَبِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } خطاب لجميع المؤمنين فلما قال: {يِـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ } كان من غير المؤمنين لا محالةوبأنه لو كان الآخران مسلمين لم يكن جواز الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر لأن المسلم جائز استشهاده في الحضر والسفر وبأنهدلت الآية على وجوب الحلف من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد لا يجب تحليفه فعلمنا أنهما ليسا منالمسلمين وبسبب النزول وهو شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلماً وبأن أبا موسى قضى بشهادة يهوديين بعد أن حلفهما وماأنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً وباتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل وليسفيها منسوخ، وقال أبو جعفر النحاس ناصراً للقول الأول: هذا ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخرفي العربية من جنس الأول تقول مررت بكريم وكريم آخر فقوله آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوزعند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون معنى قوله أوآخران من غيركم أي عدلان والكفار لا يكونون عدولاً انتهى، وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآيةمخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بآخر وجعله صفة لغير جنس الأول. وأما الآية فمن قبيل ماتقدم فيه آخر على الوصف واندرح آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس وصف الأول تقول: جاءني رجل مسلموآخر كافر ومررت برجل قائم وآخر قاعدٍ واشتريت فرساً سابقاً وآخر مبطئاً فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجزالمسألة لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر ومررت برجل قائم وقاعد آخر واشتريت فرساً سابقاً ومبطئاً آخر لم يجزوليست الآية من هذا القبيل إلا أن التركيب فيها جاء {ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فآخرانمن جنس قوله {ٱثْنَانِ } ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك رجلان اثنان ولا يعتبروصف قوله {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } وإن كان مغايراً لقوله من غيركم كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك عنديرجلان اثنان مسلمان وآخران كافران إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بعيد وصفه وهوعلى ما ذكرته هو لسان العرب قال الشاعر

: كانوا فريقين يصغون الزجاج على     قعس الكواهل في أشداقها ضخم¤وآخرين على الماذيّ فوقهممن نسج داود أو ما أورثت إرم

التقدير كانوا فريقين فريقاً أو ناساًيصغون الزجاج ثم قال وآخرين ترى المأذى، فآخرين من جنس قولك فريقاً، ولم يعبره بوصفه وهو قوله يصغون الزجاج لأنالشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصفين متحدي الجنس، وهذا الفرق قل من يفهمه فضلاً عمن يعرفه، وأما القولالثالث الذي حكاه الزمخشري وهو أنه منسوخ، وحكاه عن مكحول، فهو قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفةوغيرهم من الفقهاء إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض لا على المسلمين، والناسخ قوله:

{ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء }

وقوله:

{ وَأَشْهِدُواْ * ذَوِى * عَدْلٍ مّنْكُمْ }

وزعموا أن آية الدين منآخر ما نزل، والظاهر أن أو للتخيير وقال به ابن عباس فمن جعل قوله {مِنْ غَيْرِكُمْ } أي من عشيرتككانمخيرا بين ان يستشهد ىقاربه أو الأجانب من المسلمين من زعم أن قوله من غيركم أي من الكفار فاختلفوا. فقيلغيركم يعني به أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل أهل الكتاب والمشركين وهو ظاهر قوله {مِنْ غَيْرِكُمْ }،وقيل أو للترتيب إذا كان قوله {مِنْ غَيْرِكُمْ } يعني به من غير أهل ملتكم فالتقديران لم يوجد من ملتكم.{إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت وإنما جاء الالتفات جمعاً لأنقوله {أَحَدَكُمُ } معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت، والمعنى إذا سافرتم في الأرضلمصالحكم ومعايشكم، وظاهر الآية يقتضي أناستشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت. {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلوٰةِ } الخطاب للمؤمنينلا لما دلّ عليه الخطاب في قوله {إِنْ أَنتُمْ * ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ فَأَصَابَتْكُم } لأن ضرب في الأرض وأصابهالموت ليس هو الحابس، {تَحْبِسُونَهُمَا } صفة لآخران واعترض بين الموصوف والصفة بقوله {إِنْ أَنتُمْ * إِلَى ٱلْمَوْتِ } وأفادالاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة، حسب اختلاف العلماء في ذلك، إنما يكون مع ضرورة السفروحلول الموت فيه استغنى عن جواب إن لما تقدم من قوله {ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } انتهى. وإلى أن {تَحْبِسُونَهُمَا }صفة ذهب الحوفي وأبو البقاء وهو ظاهر كلام ابن عطية إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدّمناه.وقال الزمخشري (فإن قلت): ما موضع {تَحْبِسُونَهُمَا }. (قلت): هو استئناف كلام كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إنارتبنا فقيل: {تَحْبِسُونَهُمَا }، وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته.وإنما قال الزمخشري بعد اشتراط العدالة فيهما لأنه اختار أن يكون قوله أو آخران من غيركم معناه أو عدلان آخرانمن غير القرابة وتقدم من كلام أبي على أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة إنما يكون معضرورة السفر وحلول الموت فيه إلى آخر كلامه، فظهر منه أن تقدير جواب الشرط هو {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِفَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } فاستشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، والظاهر أن الشرط قيد في شهادة اثنينذوي عدل من المؤمنين أو آخرين من غير المؤمنين فيكون مشروعية الوصية للضارب في الأرض المشارف على الموت أن يشهداثنين، ويكون تقدير الجواب: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فاستشهدوا اثنين إما منكم وإما من غيركم، ولايكون الشرط إذ ذاك قيداً في آخرين من غيرنا فقط، بل هو قيد فيمن ضرب في الأرض وشارف الموت فيشهداثنان منا أو من غيرنا. وقال ابن عباس في الكلام محذوف تقديره فأصابتكم مصيبة الموت وقد استشهدتموهما على الإيصاء، وقالابن جبير تقديره وقد أوصيتم. قيل وهذا أولى لأن الشاهد لا يحلف والموصي يحلف. ومعنى {تَحْبِسُونَهُمَا } تستوثقونهما لليمين والخطابلمن يلي ذلك من ولاة الإسلام، وضمير المفعول عائد في قول على آخرين من غير المؤمنين وظاهر عوده على اثنينمنا أو من غيرنا سواء كانا وصيين أو شاهدين، وظاهر قوله من بعد الصلاة أن الألف واللام للجنس أو منبعد أي صلاة، وقد قيل بهذا الظاهر وخص ذلك ابن عباس بصلاة دينهما وذلك تغليظ في اليمين، وقال الحسن بعدالعصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وقال الجمهور هي صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذافعل رسول الله ﷺ استحلف عدياً وتميماً بعد العصر عند المنبر ورجح هذا القول بفعله صلى اللهعليه وسلم وبقوله في الصحيح: من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان وبأنالتحليف كان معروفاً بعدهما فالتقييد بالمعروف يغني عن التقييد باللفظ وبأن جميع الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه فتكونالألف واللام في هذا القول للعهد وكذا في قول الحسن. {فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْكَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ } ظاهره تقييد حلفهما بوجود الارتياب فمتى لم توجد الريبةفلا تحليف. وينبغي أن يحمل تحليف أبي موسى لليهوديين اللذين استشهدهما مسلم توفي على وصيته على أنه وقعت ريبة وإنلم يذكر ذلك في قصة ذلك المسلم، والفاء في قوله {فَيُقْسِمَانِ } عاطفة هذه الجملة على قوله {تَحْبِسُونَهُمَا } هذاهو الظاهر. وقال أبو علي وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة

: وإنسان عيني يحسر الماء تارة     فيبدو وتارات يجم فيغرق

تقديره عندهم إذا حسربدا فكذلك إذا حبستموهما اقسما انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف وإبقاء جوابه فتكون الفاء إذ ذاك فاءالجزاء وإلى تقدير مضمر بعد الفاء أي فهما يقسمان وفهو يبدو، وخرّج أصحابنا بيت ذي الرمة على توجيه آخر وهوأن قوله: يحسر الماء تارة. جملة في موضع الخبر وقد عربت عن الرابط فكان القياس أن لا تقع خبراً للمبتدألكنه عطف عليهما بالفاء جملة فيها ضمير المبتدأ فحصل الربط بذلك و{لاَ نَشْتَرِى } هو جواب قوله فيقسمان بالله وفضلبين القسم وجوابه بالشرط. والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما، وقيل إن أريد بهما الشاهدان، فقد نسخ تحليف الشاهدينوإن أريد الوصيّان فليس بمنسوخ تحليفهما وعن عليّ أنه كان يحلّف الشاهد والراوي إذا اتهمها، والضمير في {بِهِ } عائدعلى الله أو على القسم أو على تحريف الشهادة، أقوال ثالثها لأبي علي، وقوله: {نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } كنايةعن الاستبدال عرضاً من الدنيا وهو على حذف مضاف أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشتري ولا يصح أن يكون{لاَ نَشْتَرِى } لا نبيع هنا وإن كان ذلك في اللغة. قال الزمخشري أن لا تحلف بالله كاذبين لأجل المالولو كان من نقسم لأجله قريباً منا وذلك على عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً فإنهم داخلون تحت قوله:

{ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوٰلِدَيْنِ وَٱلاْقْرَبِينَ }

وإنما قال فإنهم داخلون إلى آخره لأن الاثنين والآخرينعنده مؤمنون فاندرجوا في قوله: {بَصِيراً يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ } الآية. قال ابن عطية وخص ذا القربى بالذكرلأن العرف ميل النفس إلى أقربائهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل والجملة من قوله: {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ} معطوفة على قوله: {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } فيكون من جملة المقسم عليه وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالىهو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ويحتمل أن يكون {وَلاَ نَكْتُمُ } خبراً منهما أخبرا عن أنفسهما أنهما لا يكتمانشهادة الله ولا يكون داخلاً تحت المقسم عليه. وقرأ الحسن والشعبي {وَلاَ نَكْتُمُ } بجزم الميم نهياً أنفسهما عن كتمانالشهادة ودخول لا الناهية على المتكلم قليل نحو قوله

: إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد     بها أبداً ما دام فيها الجراضم

وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه {شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ} بنصبهما وتنوين {شَهَادَةً } وانتصبا بنكتم التقدير ولا نكتم الله شهادة، قال الزهراوي ويحتمل أن يكون المعنى ولا نكتمشهادة والله ثم حذف الواو ونصب الفعل إيجازاً. وروي عن عليّ والسلميّ والحسن البصري شهادة بالتنوين آلله بالمدّ في همزةالاستفهام التي هي عوض من حرف القسم دخلت تقريراً وتوقيفاً لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه، وروي عن الشعبي وغيره أنهكان يقف على شهادة بالهاء الساكنة الله بقطع ألف الوصل دون مد الإستفهام. قال ابن جني الوقف على شهادةبسكون الهاء واستئناف القسم حسن لأن استئنافه في أول الكلام أوقر له وأشدّ هيبة من أن يدخل في عرض القول.وروي عن يحيـى بن آدم عن أبي بكر بن عياش {شَهَادَةً } بالتنوين {ٱللَّهِ } بقطع الألف دون مد وخفضهاء الجلالة ورويت هذه عن الشعبي. وقرأ الأعمش وابن محيصن لملائمين بإدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزةونقل حركتها إلى اللام. {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّا إِثْماً } أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقاإثماً أي ذنبا بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع {*وعثر} استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد إنلم يرح ولم يقصد كما تقول على الخبير سقطت ووقعت على كذا. قال أبو علي: الإثم هنا هو الشيء المأخوذلأن أخذه إثم قسمي إثماً كما يسمى ما أخذ بغير الحق مظلمة، قال سيبويه المظلمة اسم ما أخذ منك ولذلكسمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى. والظاهر أن الإثم هنا ليس الشيء المأخوذ بل الذنب الذي استحقا به أن يكونامن الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما {ٱللَّهِ إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ ٱلاْثِمِينَ } ولو كان الإثم هو الشيءالمأخوذ ما قيل فيه استحقا إثماً لأنهما ظلما وتعدّيا وذلك هو الموجب للإثم. {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّعَلَيْهِمُ ٱلاْوْلَيَانِ } قرأ الحرميان والعربيان والكسائي {ٱسْتَحَقَّ } مبنياً للفاعل {*والأوليان} مثنى مرفوع تثنية الأولى ورويت هذه القراءة عنأبي وعليّ وابن عباس وعن ابن كثير في رواية قرة عنه، وقرأ حمزة وأبو بكر {ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ } مبنياً للمفعول{*والأوليان} جمع الأول، وقرأ الحسن {ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ } مبنياً للفاعل الأولان مرفوع تثنية أول، وقرأ ابن سيرين الأوليين تثنية الأولىفأما القراءة الأولى فقال الزمخشري {فَآخَرَانِ } فشاهدان آخران {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ } عليهم أي من الذين استحقعليهم الإثم، ومعناه وهم الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعترته، وفي قصة بدليل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلفرجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما وأن شهادتهما أحق من شهادتهما، {*والأوليان} الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما لأوليانكأنه قيل ومن هما فقيل {عَلَيْهِمُ ٱلاْوْلَيَانِ }، وقيل هما بدل من الضمير في {يِقُومَانُ } أو من آخران ويجوزأن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى. وقد سبقه أبوعليّ إلى أن تخريج رفع {ٱلاْوْلَيَانِ } على تقديرهما لأوليان، وعلى البدل من ضمير {يِقُومَانُ } وزاد أبو عليّ وجهينآخرين، أحدهما أن يكون {ٱلاْوْلَيَانِ } مبتدأ ومؤخراً، والخبر آخران يقومان مقامهما. كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومانفيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا والوجه الآخر أن يكون {ٱلاْوْلَيَانِ } مسنداً إليه {ٱسْتَحَقَّ }. قال أبو عليّ فيه شيءآخر وهو أن يكون {ٱلاْوْلَيَانِ } صفة لآخران لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى.وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ولا العكس وعلى ماجوّزه أبو الحسن يكون إعراب قوله: {فَآخَرَانِ } مبتدأ والخبر {يِقُومَانُ } ويكون قد وصف بقوله من الذين أو يكونقد وصف بقوله {يِقُومَانُ } والخبر {مِنَ ٱلَّذِينَ } ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر أو يكونان صفتين لقوله:{فَآخَرَانِ } ويرتفع آخران على خبر مبتدإ محذوف أي فالشاهدان آخران ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل، أي فليشهدآخران وأما مفعول {ٱسْتَحَقَّ } فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم لأن الإثممحذوف، لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله وقد سبقه أبو عليّ والحوفي إلى هذا التقدير وأجازوا وجهينآخرين أحدهما: أن كون التقدير استحق عليهم الإيصاء، والثاني: أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية وأما ما ذكره الزمخشريمن ارتفاع قوله {ٱلاْوْلَيَانِ } باستحق فقد أجازه أبو علي كما تقدم ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصيةأو شيئاً منها. وأما {ٱلاْوْلَيَانِ } بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند {ٱسْتَحَقَّ } إليهما إلا أن الزمخشري إنما رفعقوله الأوليان باستحق على تقدير حذف مضاف ناب عنه {ٱلاْوْلَيَانِ }، فقدره استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم علىحقيقة الحال فيسوغ توجيهه، وأجاز ذلك ابن جرير على أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم إثم الأولين، وأجاز ابنعطية أيضاً أن يرتفع {ٱلاْوْلَيَانِ } باستحق وطول في تقرير ذلك وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليساستحقاقاً حقيقة لقوله {ٱسْتَحَقَّا إِثْماً } وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهلدينه فجعل تسورهم عليه استحقاقاً مجازاً والمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقها أن تحضر وليها، قال فلما غابت وانفردهذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة ثم يبنى الفعلللمفعول على هذا المعنى إيجازاً، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل على لما كان باقتدار وحمل هنا على الحال، ولايقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعارانتهى. والضمير في {مَقَامَهُمَا } عائد على شاهدي الزور و {مِنَ ٱلَّذِينَ } هم ولاة الميت. وقال النحاس في قولمن قدر الذين استحق عليهم الإيصاء هذا من أحسن ما قيل فيه لأنه لم يجعل حرف بدلاً من حرف يعنيأنه لم يجعل على بمعنى في ولا بمعنى من، وقد قيل بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله:

{ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ }

أي من الناس استحق عليهم الإثم وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء واختار أبو عبد اللهالرازي وابن الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال، قال أبو عبد الله وقد أكثر الناس في أنهلم وصف موالي بهذا الوصف، وذكروا فيه قولاً والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذمالهم استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له فصحأن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى. {*والأوليان} بمعنى الأقربين إلى الميت أو الأوليان بالحلف؛ وذلك أنالوصيين ادعيا أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء وهما أنكرا ذلك فاليمين حق لهما. كإنسان أقر لآخر بدين وادعى أنهقضاه فترد اليمين على الذي ادعى أولاً لأنه صار مدعى عليه وتلخص في إعراب الأوليان على هذه القراءة وجوه الابتداءوالخبر لمبتدأ محذوف والبدل من ضمير {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ } والبدل من آخران والوصف لآخران والمفعولية باستحق على حذف مضاف مختلففي تقديره. وأما القراءة الثانية وهي بناء {ٱسْتَحَقَّ } للفاعل ورفع الأوليين فقال الزمخشري معناه من الورثة الذين استحقعليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى. وقال ابن عطية ما ملخصه{ٱلاْوْلَيَانِ } رفع باستحق وذلك على أن يكون المعنى {مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ } مالهم وتركهم شاهدا الزور فسميا أوليينأي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت، وتركته فجازا فيها، أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليانمنهم فاستحق بمعنى حق كاستعجب وعجب، أو يكون {ٱسْتَحَقَّ } بمعنى سعي واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهمفاستحقا عليهم أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقربانهما انتهى. وقال بعضهم المفعول محذوف أي من الذين استحق عليهمالأوليان وصيتهما. وأما القراءة الثالثة وهي قراءة {ٱسْتَحَقَّ } مبنياً للمفعول والأولين جمع الأول فخرج على أن الأولين وصفللذين، قال أبو البقاء أو بدل من الضمير المجرور بعلى، قال الزمخشري أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم علىالأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها انتهى؛ وهذا على تفسير أن قوله: {يِـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ } أنهم الأجانب لاأنهم الكفار، وقال ابن عطية معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أيفي الذكر في هذه الآية وذلك في قوله: {ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } انتهى. وأما القراءة الرابعة وهي قراءةالحسن فالأولان مرفوع باستحق. قال الزمخشري ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعى وهو أبو حنيفة وأصحابه لا يرونذلك فوجه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتماه فأنكرالورثة فكان اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء. وأما القراءة الخامسة وهي قراءة ابن سيرين فانتصاب الأوليين على المدح.{فَيُقْسِمَانِ * ٱللَّهِ * لَشَهَـٰدَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَـٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَا } أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ماأخبرا به حق والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولاً وحرفا فيه وما زدنا على الحد. وقال ابنعباس ليميننا أحق من يمينهما ومن قال الشهادة في أول القصة ليست بمعنى اليمين قال هنا الشهادة يمين وسميت شهادةلأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. قال ابن الجوزي {أَحَقُّ } أصح لكفرهما وإيماننا انتهى. {إِنَّا إِذاً لَّمِنَٱلظَّـٰلِمِينَ } ختما بهذه الجملة تبرياً من الظلم واستقباحاً له وناسب الظلم هنا لقولهما {وَمَا ٱعْتَدَيْنَا } والاعتداء والظلم متقاربانوناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور {إِذَاً لَّمِنَ ٱلاْثِمِينَ } لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع وكتمهما الشهادة يجران إليهماالإثم. {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَـٰفُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَـٰنٌ بَعْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } أي ذلك الحكمالسابق ولما كان الشاهدان لهما حالتان: حالة يرتاب فيها إذا شهدا، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة فيالآية قوبلت هذه الحالة بقوله: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا } أي على ما شهدا حقيقة دون إنكارولا تحريف ولا كذب، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف، فإذ ذاك لا يلتفت إلىأيمانهم وترد على شهود آخرين فعمل بأيمانهم وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم قوبلت هذه الحالة بقوله: {أَوْ يَخَـٰفُواْأَن تُرَدَّ أَيْمَـٰنٌ بَعْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } وكان العطف بأو لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما لا يخلوان من إحدى هاتينالحالتين إما حصول ريبة في شهادتهما وإما الاطلاع على خيانتهما فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فالمعنىما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقطأيمانهم ولا تقبل. قال ابن عباس ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافونالتحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين انتهى. وقيل ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس.وقيل إلى الحبس بعد الصلاة فقط. قال ابن عطية ويظهر هذا من كلام السدّي وأو على هذا التأويل بمنزلة قولكتحبني يا زيد أو تسخطني كأنك قلت وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَـٰدَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا *وَإِلاَّ * خَافُواْ * تَنقُضُواْ ٱلاْيْمَـٰنَ } وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتواأو أقرب إلى أن يخافوا انتهى. فتلخص أن {أَوْ } تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو، و {يَخَـٰفُواْ }معطوف في هذين الوجهين على {يَأْتُواْ } أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبرعنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريينعلى بابها من كونها لأحد الشيئين. إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو {يَأْتُواْ } لكنه يكونعلى مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية، وجمع الضمير في يأتوا وما بعده وإن كان السابق مثنىفقيل هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع، وقيل لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما بل إلى الناس الشهود والتقدير ذلكأدنى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي. {وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ } أياحذروا عقاب الله تعالى واتخذوا وقاية منه بأن لا تخونوا ولا تحلفوا به كاذبين وأدوا الأمانة إلى أهلها واسمعوا سماعإجابة وقبول. {وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } إشارة إلى من حرّف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة اللهفالله لا يهديه إلا إذا تاب، فاللفظ عام والمعنى اشتراط انتفاء التوبة. {يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْقَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } مناسبة هذه لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهديالوصية وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة، ذكر بهذا اليوم المهول المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبةالآخرة لمن حرّف الشهادة ولمن لم يتق الله ولم يسمع، وذكروا في نصب {يَوْمٍ } وجوهاً: أحدها: أنه منصوب بإضماراذكروا. والثاني: بإضمار احذروا. والثالث: باتقوا. والرابع: باسمعوا قاله الحوفي. والخامس: بلا يهدي، قال قوم منهم الزمخشري وأبو البقاء قالا:لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة، قال أبو البقاء أولاً يهديهم في ذلك اليوم إلى الحجة. والسادس: أجاز الزمخشريأن ينتصب على البدل من المنصوب في قوله {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }، وهو بدل الاشتمال، كأنه قيل واتقوا الله يوم جمعهوفيه بعد لطول الفصل بالجملتين. والسابع أن ينتصب على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره {يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } كانكيت وكيت قاله الزمخشري، وقال ابن عطية وصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفاً والعامل اذكروا واحذروامما حسن اختصاره لعلم السامع والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهمجمع الخلائق وهم المكلمون أولاً انتهى. والذي نختاره غير ما ذكروا وهو أن يكون {يَوْمٍ } معمولاً لقوله {قَالُواْ لاَعِلْمَ لَنَا } أي قال الرسل وقت جمعهم وقول الله لهم {مَاذَا أَجَبْتُمُ } وصار نظير ما قلناه في قوله

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ }

وسؤاله تعالى إياهم بقوله ماذا {أَجَبْتُمُ }سؤال توبيخ لأممهم لتقوم الحجة عليهم ويبتدأ حسابهم كما سئلت الموؤدة توبيخاً لوائدها وتوقيفاً له على سوء فعله وانتصاب ماذاأجبتم ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم قاله الزمخشري، وقيام ما الاستفهامية مقام المصدر جائز وكذلك ماذا إذا جعلتها كلهااستفهاماً وأنشدوا على مجيء ما ذكر مصدراً قول الشاعر

: ماذا تعير ابنتي ربع عويلهما     لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا

وقال ابن عطية معناه ماذا أجابت به الأمم، ولم يجعل مامصدراً بل جعلها كناية عن الجواب، وهو الشيء المجاب به لا للمصدر، وهو الذي عنى الزمخشري بقوله ولو أريد الجوابلقيل بماذا أجبتم. وقال الحوفي ما للاستفهام وهو مبتدأ بمعنى الذي خبرها وأجبتم صلته والتقدير ماذا أجبتم به انتهى، وحذفهذا الضمير المجرور بالحرف يضعف لو قلت جاءني الذي مررت تريد به كان ضعيفاً إلا إن اعتقد أنه حذف حرفالجر أولاً فانتصب الضمير ثم حذف منصوباً ولا يبعد. وقال أبو البقاء {مَاذَا } في موضع نصب بأجبتم وحرف الجرمحذوف أي بماذا أجبتم وما وذا هنا بمنزلة اسم واحد ويضعف أن يجعل ذا بمعنى الذي هنا لأنه لا عائدهنا وحذف العائد مع حرف الجر ضعيف انتهى، وما ذكره أبو البقاء أضعف لأنه لا ينقاس حذف حرف الجر إنماسمع ذلك في ألفاظ مخصوصة ونصوا على أنه لا يجوز زيداً مررت به تريد بزيد مررت ولا سرت البيت تريدإلى البيت إلا في ضرورة شعر نحو قول الشاعر

: تحن فتبدي ما بها من صبابة     وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

يريد لقضي عليّ فحذف عليّ وعدى الفعل إلى الضمير فنصبهونفيهم العلم عنهم بقوله {لاَ عِلْمَ لَنَا }، قال ابن عباس معناه لا علم لنا إلا علماً أنت أعلم بهمنا كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية، وقال ابن جريج معنى {مَاذَا أَجَبْتُمُ } ماذا عملوا بعدكموماذا أحدثوا فلذلك قالوا لا علم لنا ويؤيده {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ }، إلا أن لفظة ماذا جبتم تنبو عنأن تشرح بقوله ماذا عملوا وذكر المفسرون عن الحسن ومجاهد والسدي وسهل التستري أقوالاً في تفسير قولهم {لاَ عِلْمَ لَنَا} لا تناسب الرسل أضربت عن ذكرها صفحاً. وقال الزمخشري: (فإن قلت) كيف يقولون لا علم لنا وقد علموا ماأجيبوا. (قلت): يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه، وإحاطته بما منوا به منهم، وذلك أعظم علىالكفرة وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع عليهم توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائهم عليهم، ومثاله أنينكت بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكتة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منهفيجمع بينهما ويقول له ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته، فيقول: أنت أعلمبما فعل بي تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالاً عليه وإظهاراً لشكايته وتعظيماً لما به انتهى، وليست الآية كهذا المثالالذي ذكره لأن في الآية {لاَ عِلْمَ لَنَا } وهذا نفي لسائر أفراد العلم عنهم بالنسبة إلى الإجابة. وفي المثالأنت أعلم بما فعل بي وهذا لا ينفي العلم عنه غير أنه أثبت لسلطانه أنه أعلم بالخارجي منه. وقال ابنأبي الفضل في قول الزمخشري ليس بالقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتىيريد الرسول توبيخهم، وقيل معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به لأنك علام الغيوب ومن علم الخفيات لم تخف عليهالظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم فكأنه لا علم لنا إلا جنب علمك حكاه الزمخشري بهذا اللفظ. قال الزجاج معناهمختصراً. وقال ابن عطية قول ابن عباس أصوب لأنه يترجح بالتسليم إلى الله تعالى ورد الأمر إليه إذ لا يعلمونإلا بما شوفهوا به مدة حياتهم وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه وما كان بعدهم من أممهم واللهتعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال فرأوا التسليم له والخشوع لعلمه المحيط انتهى. وقيل لا علم لنا بما كانبعدنا وإنما الحكم للخاتمة. قال الزمخشري وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين انتهى. وقال ابنأبي الفضل الأصحّ ما اختاره ابن عباس أي تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن ما نعلم إلا ما أظهروا فعلمكفيهم أنفذ من علمنا فبهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم انتهى، فيكون مما نفيتفيه الحقيقة ظاهراً والمقصود نفي الكمال كأنه قال: لا علم لنا كامل، تقول لا رجل في الدار أي كامل الرجوليةفي فوته ونفاذه. وقال أبو عبد الله الرازي ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كلأحد من الغير إنما هو الظن لا العلم ولذلك قال عليه السلام: نحن نحكم بالظواهر والله متولي السرائر وقال عليه السلام: إنكم تختصمون إلى الحديث والأنبياء قالوا: لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا منأحوالهم هو الظن والظن كان معتبراً في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظنون أما الآخرة فلا التفاتفيها إلى الظن لأن الأحْكام مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا {لاَ عِلْمَ لَنَا } ولم يذكرواالبتة ما معهم من الظن، لأن الظن لا عبرة به في القيامة انتهى كلامه. وقال ابن عطية: لا علم لنابسؤالك ولا جواب لنا عنه. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة {مَاذَا أَجَبْتُمُ } مبنيًّا للفاعل. وقرأ علام بالنصب وهو علىحذف الخبر لفهم المعنى فيتم الكلام بالمقدر في قوله {إِنَّكَ أَنتَ } أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره.وقال الزمخشري ثم نصب {عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } على الاختصاص أو على النداء أو صفة لاسم إن انتهى. وهذا الوجه الأخيرلا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وأما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذّ،للكسائي. وقرأ حمزة وأبو بكر الغيوب بكسر الغين حيث وقع كأنّ من قال ذلك من العرب قد استثقل توالي ضمتينمع الياء ففر إلى حركة مغايرة للضمة مناسبة لمجاورة الياء وهي للكسرة. {إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى * عِيسَى ٱبْنَمَرْيَمَ *ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وٰلِدَتِكَ } يحتمل أن يكون {إِذْ } بدلاً من قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ }والمعنى أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتعدد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذبوهم وسموهم سحرةوجاوز حد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من البينات

{ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }

واتخذه بعضهم وأمه إلهين قاله الزمخشري. وقال ابن عطية يحتمل أن يكون العامل في {إِذْ }مضمراً تقديره اذكر يا محمد، وقال هنا بمعنى يقول لأن الظاهر من هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله: }أأنتقلت للناس} ويحتمل أن يكون {*}أأنت قلت للناس} ويحتمل أن يكون {*} ويحتمل أن يكون {إِذْ } بدلاً من قوله:{يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ } انتهى. وجوزوا أن يكون إذ في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك إذ قال الله. وإذاكان المنادى علماً مفرداً ظاهر الضمة موصوفاً بابن متصل مضاف إلى علم جاز فتحه اتباعاً لفتحة ابن. هذا مذهب الجمهوروأجاز الفرّاء وتبعه أبو البقاء في ما لا يظهر فيه الضمة تقدير والفتحة فإن لم تجعل {ٱبْنَ مَرْيَمَ } صفةوجعلته بدلاً أو منادى فلا يجوز في ذلك العلم إلا الضم وقد خلط بعض المفسرين وبعض من ينتمي إلى النحوهنا، فقال بعض المفسرين: يجوز أن يكون {عِيسَى } في محل الرفع لأنه منادى معرفة غير مضاف ويجوز أن يكونفي محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان نحويا زيد بن عمرو وأنشد النحويون

: يا حكم بن المنذر بن الجارود     أنت الجواد بن الجواد بن الجود

قال التبريزي الأظهر عندي أن موضع عيسى نصب لأنك تجعل الاسم مع نعتهإذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى. والذي ذكره النحويون في نحو يا زيد بن بكر إذا فتحت آخرالمنادى أنها حركة اتباع الحركة نون ابن ولم يعتد بسكون باء ابن لأن الساكن حاجز غير حصين، قالوا: ويحتمل أنيراد بالذكر هنا الإقرار وأن يراد به الإعلام وفائدة هذا الذكر إسماع الأمم ما خصه به تعالى من الكرامة وتأكيدحجته على جاحده، وقيل أمر بالذكر تنبيهاً لغيره على معرفة حق النعمة ووجوب شكر المنعم، قال الحسن ذكر النعمة شكرهاوالنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عَدّد بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وإضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمهعليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمه براءتها مما نسب إليهاوتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن وما ذكر في سورة التحريم

{ وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ }

إلى آخره وغير ذلك وأمربذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه. {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } قرأ الجمهور بتشديد الياء، وقرأ مجاهد وابنمحيصن أيدتك على أفعلتك، وقال ابن عطية على وزن فاعلتك، ثم قال ويظهر أن الأصل في القراءتين أيدتك على وزنأفعلتك ثم اختلف الإعلال والمعنى فيهما {أَيَّدتُّكَ } من الأبد، وقال عبد المطلب

: الحمد لله الأعز الأكرم     أيدنا يوم زحوف الأشرم

انتهى والذي يظهر أن أيد في قراءة الجمهورليس وزنه أفعل لمجيء المضارع على يؤيد فالوزن فعل ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن وأما منقرأ آيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل. وأماقول ابن عطية إنه في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك ثم اختلف الإعلال فلا أفهم ما أراد. وتقدم تفسير نظيرهذه الجملة في قوله

{ وأيدناه بروح القدس }

{{تُكَلّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَوَٱلإنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ }. تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإعرابوما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول جاء هناك {كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ }. وقرأ ابن عباس فتنفخها فتكون. وقرأالجمهور {فَتَكُونُ } بالتاء من فوق. وقرأ عيسى بن عمر فيها فيكون بالياء من تحت والضمير في {فِيهَا } قالابن عطية اضطرب المفسرون فيه قال مكي هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة، قالويصح عكس هذا وقال غيره الضمير المذكور عائد على {ٱلطّينِ }. قال ابن عطية ولا يصح عود هذا الضمير لاعلى الطين ولا على الهيئة لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته لا نفخ فيه ألبتة، وكذلك لانفخ في هيئته الخاصة به وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى. وقال الزمخشري ولا يرجعبعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في يكون انتهى. والذيينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عنه بل يكون قوله عائداً على الطائر لايريد به الطائر المضاف إليه الهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ يخلق من الطين طائراً صورة مثلصورة الطائر الحقيقي فينفخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإذن الله. ويكون قوله عائداً على الهيئة لا يريد به الهيئة المضافةإلى الطائر، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ويكون التقدير، وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير، فتنفخفيها أي في الهيئة الموصوفة بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى، وأما قول مكي ويصح عكس هذا، وهو أن يكون الضميرالمذكر عائداً على الهيئة والضمير المؤنث عائداً على الطائر فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير وإن كان عائداً على مؤنثلأنه لحظ فيها معنى الشكل كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلاً كهيئة الطير وأنه أنث الضمير وإن كان عائداًعلى مذكر لأنه لحظ فيه معنى الهيئة. قال ابن عطية والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة، أيصوراً أو أشكالاً أو أجساماً، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه تخلق ثم قال ولك أن تعيده على ماتدل عليه الكاف في معنى المثل، لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ولك أن تعيد الضمير على الكافنفسه فيكون اسماً في غير الشعر، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين وكذا قال الزمخشري، إن الضمير في فيهاللكاف قال لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها وجاء في آل عمران

{ بِإِذُنِ ٱللَّهِ }

مرتينوجاء هنا {بِإِذْنِى } أربع مرّات عقيب أربع جمل لأن هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها فناسب الإسهاب وهناك موضعإخبار لبني إسرائيل فناسب الإيجاز والتقدير في وإذ تخرج الموتى تحيـي الموتى فعبر بالإخراج عن الأحياء كقوله تعالى

{ كَذٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ }

بعد قوله

{ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً }

أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء.{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرٰءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيّنَـٰتِ } أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنتفيه. وقال عبيد بن عمير لما قال الله لعيسى {ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ } كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يؤخرشيئاً لغدو يقول مع كل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت، أين ما أمسى بات. وهذاالقول يظهر منه أن عيسى خوطب بذلك قبل الرفع والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولمافصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى دون أمه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليهأعظم منها على أمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم. وقال الشاعر فيما يشبه هذا

: شهد العوالم أنها لنفيسة     بدليل ما ولدت من النجباء

{فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْهَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } قرأ حمزة والكسائي ساحر بالألف هنا. وفي هود والصف فهذا هنا إشارة إلى عيسى. وقرأباقي السبعة سحر فهذا إشارة إلى ما جا0ء به عيسى من البينات. {وَإِذَا * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيّينَ أَنْءامِنُواْ بِى } أي أوحيت إليهم على ألسنة الرسل. وقال ابن عطية إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمروالرسول هنا هو عيسى وهذا الإيحاء إلى الخواريين هو من نعم الله على عيسى بأن جعل له أتباعاً يصدقونه ويعملونبما جاء به ويحتمل أن تكون تفسيرية لأنه تقدّمها جملة في معنى القول وأن تكون مصدرية. {قَالُواْ ءامَنَّا وَٱشْهَدْبِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } تقدم تفسير نظير هذه الجملة في آل عمران إلا أن هناك

{ آمنا بِٱللَّهِ فَإِذَا }

لأنهتقدم ذكر الله فقط في قوله:

{ مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ }

وهنا جاء {قَالُواْءامَنَّا } فلم يتقيد بلفظ الجلالة إذ قد تقدم أن آمنوا وبرسولي وجاء هناك {وَٱشْهَدْ بِأَنَّا }، وهنا {وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا}. وهذا هو الأصل إذ أن محذوف منه النون لاجتماع الأمثال. {إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى * عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ*هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال ابن عطية: {إِذْقَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ } اعتراض لما وصف حال قوم الله لعيسى يوم القيامة وتضمن الاعتراض إخبار محمد ﷺوأمته بنازلة الحواريين في المائدة إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها انتهى. والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن قولهتعالى: {إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى * عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ *ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ } إلى آخر قصة المائدة كان ذلك فيالدّنيا ذكر عيسى بنعمه وبما أجراه على يديه من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريونثم استطرد إلى قصة المائدة ثم إلى سؤاله تعالى لعيسى {قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى }، وإنما حمل بعضهم على أن ذلكفي الآخرة كونه اعتقد أن {إِذْ } بدلاً من {يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } وأن في آخر الآيات {هَـٰذَا يَوْمُيَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ } ولا يتعين هذا المحمل على ما نبينه إن شاء الله تعالى في قوله: {هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ }بل الظاهر ما ذكرناه. وقرأ الجمهور {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بالياء وضم الباء. وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرةالله تعالى على أن ينزل مائدة من السماء، وذلك هو الذي حمل الزمخشري على أن الحواريين لم يكونوا مؤمنين قال:(فإن قلت): كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم (قلت): ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهماثم أتبعه قوله: {إِذْ قَالُواْ } فآذن أن دعواهم كانت باطلة وأنهم كانوا شاكين وقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } كلاملا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ولذلك قول عيسى لهم معناه اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ولاتقترحوا عليه ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كانت دعواكم للإيمانصحيحة انتهى. وأما غير الزمخشري من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين حتى قال ابن عطية: لا خلافأحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين، وقال قوم: قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمةوالأبرص ويحيـي الموتى، قال المفسرون والحواريون هم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولم يشكوا في قدرة الله تعالى على ذلك. قالابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هلتستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع له، ولكنه يريد هل يسهل عليك انتهى. وقال الفارسي: معناه هل يفعلذلك بمسألتك إياه. وقال الحسن لم يشكوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزل أم لا فإن كانينزل فاسأله لنا. قال ابن عطية هل يفعل تعالى هذا وهل يقع منه إجابة إليه كما قال لعبد الله بنزيد: هل يستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ فالمعنى هل يحب ذلك وهل يفعلهانتهى. وقيل المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك جائز أم لا وذلك لأن أفعاله موقوفة على وجوه الحكمة فإنلم يحصل شيء من وجوه الحكمة كان الفعل ممتنعاً فإن المنافي من وجوه الحكمة كالمنافي من وجوه القدرة. قال أبوعبد الله الرازي هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة، وأما على مذهبنا فهو محمول على أنه تعالى هل قضى بذلكوهل علم وقوعه فإنه إن لم يقص به ويعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور،وقال أيضاً ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذبيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا، ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أنيشك فيه، وأبعد من قال هل ينزل ربك مائدة من السماء ويستطيع صلة ومن قال: الرب هنا جبريل لأنه كانيربي عيسى ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال في أول الآية {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } وروي أن الذي نحابهم هذاالمنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوماً الله تعالى، ثم إن سألتموهحاجة قضاها فلما صاموها قالوا: يا معلم الخبر، إن حق من عمل عملاً أن يطعم فهل يستطيع ربك. فأرادوا أنتكون المائدة عيد ذلك الصوم. وقرأ الكسائي هل تستطيع ربك بالتاء من فوق {رَبَّكَ } بنصب الباء وهي قراءة عليّومعاذ وابن عباس وعائشة وابن جبير. قالت عائشة كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } نزهتهمعن بشاة اللفظ وعن مرادهم ظاهره. وقد ذكرنا تأويلات ذلك ومعنى هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك و {أَن يُنَزّلٍ} معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به. وقال أبو عليّ وقد يمكن أن يستغني عنتقدير سؤال على أن يكون المعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك فيؤول المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليهما ذكر من اللفظ انتهى. ولا يظهر ما قال أبو علي لأن فعل الله تعالى وإن كان سببه الدعاء لايكون مقدوراً لعيسى وأدغم الكسائي لام {هَلُ } في ياء {يَسْتَطِيعُ } وعلى هذه القراءة يكون قول عيسى {ٱتَّقُواْ ٱللَّهَإِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لم ينكر عليه الاقتراح للآيات وهو على كلتا القراءتين يكون قوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } تقريراًللإيمان كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلاً. وقال مقاتل وجماعة اتقوه أن تسألوه البلاء لأنها إن نزلت وكذبتمعذبتم. وقال أبو عبيد وجماعة أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم. وقيل أن تشكوا في قدرته على إنزال المائدة.وقيل التقوا الله في الشك فيه وفي رسله وآياتهم. وقيل اتقوا معاصي الله. وقيل أمرهم بالتقوى ليكون سبباً لحصول هذاالمطلوب كما قال تعالى

{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }

وقال الزمخشري هنا {عِيسَى } في محل النصبعلى اتباع حركته حركة الابن كقولك يا زيد بن عمرو وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك يا زيدبن عمرو والدليل عليه قوله: أجاز ابن عمر كأني خمر، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى. فقوله: عيسىفي محل النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الأتباعفإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على اتباع الحركة وقوله: ويجوز أن يكون مضموماً هذا مذهب الفراء وهو تقدير الفتح والضمونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياساً على الصحيح ولم يبدأ أولاً بالضم الذي هو مجمع على تقديره فليس بشرط،ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن أقبل وإلى ترخيم بعلبك وهو مبني على الفتح لكنهفي تقدير الاسم المضموم وإن عنى ضمة مقدرة فإن عنى ضمة ظاهرة فليس بشرط ألا ترى إلى جواز ترخيم رجلاسمه مثنى فتقول يا مثن فإنّ مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادي لأجل الاتباع مقدّر فيهالضمة لشغل الحرف بحركة الاتباع كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ الحمد لله بكسر الدال لأجل اتباع حركة اللهفقولك: يا حار هو مضموم تقديراً وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الاتباع، وهي الفتحة فلا تنافي بينالترخيم وبين ما فتح اتباعاً وقدرت فيه الضمة، وكان ينبغي للزمخشري أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قولهتعالى: {إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى * عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ *ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ } حيت تكلم الناس عليها. {قَالُواْ نُرِيدُأَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } لما أمرهم عيسى بتقوى الله منكراًعليهم ما تقدم من كلامهم صرحوا بسبب طلب المائدة وأنهم يريدون الأكل منها، وذلك للشرف لا للشبع واطمئنان قلوبهم بسكونالفكر، إذا عاينوا هذا المعجز العظيم النازل من السماء وعلم الضرورة والمشاهدة بصدقه فلا تعترض الشبه اللاحقة في علم الاستدلالوكينونتهم من المشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرهم، القائمين بهذا الشرع أو من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوّة، وقدطول بعض المفسرين في تفسير متعلق إرادتهم بهذه الأشياء وملخصها أنهم أرادوا الأكل للحاجة وشدة الجوع. قال ابن عباس وكانإذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر من صاحب له وذي علة يطلب البرء ومستهزىء فوقعوا يوماً في مفازة ولازاد فجاعوا وسألوا من الحواريين أن يسألوا عيسى نزول مائدة من السماء فذكر شمعون لعيسى ذلك فقال: قل لهم اتقواالله، وأرادوا الأكل ليزدادوا إيماناً. قال ابن الأنباري أو التشريف بالمائدة ذكره الماوردي والاطمئنان إما بأن الله قد بعثك إليناأو اختارنا عواناً لك أو قد أجابك أو العلم بالصدق في أنا إذا صمنا الله تعالى ثلاثين يوماً. لم نسألالله شيئاً إلا أعطانا أو في أنك رسول حقاً إذ المعجز دليل الصدق وكانوا قبل ذلك لم يرو الآيات، أويراد بالعلم الضروري والمشاهدة انتهى. وأنت هذه المعاطيف مرتبة ترتيباً لطيفاً وذلك أنهم لا يأكلون منها لا بعد معاينة نزولهافيجتمع على العلم بها حاسة الرؤية وحاسة الذوق فبذلك يزول عن القلب قلق الاضطراب ويسكن إلى ما عاينه الإنسان وذاقه،وباطمئنان القلب يحصل العلم الضروري بصدق من كانت المعجزة على يديه إذ جاءت طبق ما سأل، وسألوا هذا المعجز العظيملأن تأثيره في العالم العلوي بدعاء من هو في العالم الأرضي أقوى وأغرب من تأثير من هو في العالم الأرضيفي عالمه الأرضي، ألا ترى أن من أعظم معجزات رسول الله ﷺ القرآن وانشقاق القمر وهما منالعالم العلوي وإذا حصل عندهم العلم الضروري بصدق عيسى شهدوا شهادة يقين لا يحتلج بها ظن ولا شك ولا وهموبذكرهم هذه الأسباب الحاملة على طلب المائدة يترجح قول من قال: كان سؤالهم ذلك قبل علمهم بآيات عيسى ومعجزاته وإنوحي الله إليهم بالإيمان كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمر واو صبروا.وقرأ ابن جبير: {وَنَعْلَمَ } بضم النون مبنياً للمفعول وهكذا في كتاب التحرير والتحبير وفي كتاب ابن عطية. وقرأسعيد بن جبير ويعلم بالياء المضمومة والضمير عائد على القلوب، وفي كتاب الزمخشري ويعلم بالياء على البناء للمفعول. وقرأ الأعمشوتعلم بالتاء أي وتعلمه قلوبنا. وقرأ الجمهور {وَنَكُونَ } بالنون وفي كتاب التحرير والتحبير. وقرأ سنان وعيسى وتكون عليها بالتاءوفي الزمخشري وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم للإيمان والإخلاص وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذابإذا خالفوا انتهى، وإنما قال ذلك لأنه ليس عنده الحواريون مؤمنين وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف عندعاء فإن كان ماضياً فصل بينهما بقد نحو قوله ونعلم أن قد صدقتنا وإن كان مضارعاً فصل بينهما بحرف تنفيسكقوله

{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ }

ولا يقع بغير فصل قيل إلا قليلاً. وقيل إلا ضرورة وفيما تتعلق بهعليها التي تقدمت في نحو

{ إني لكما لمن الناصحين }

وقال الزمخشري عاكفين عليها على أن عليها في موضعالحال انتهى. وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوباً إلاّ إذا كان كوناً مطلقاً لا كوناًمقيداً والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر وقد ذكرنا أنه ليسبجيد ثم إن قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب علىالمفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كوناً مطلقاً واجب الحذف فظهرالتنافي بينهما. {قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا * وَلَنَا*قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ } روي أن عيسى لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعووتقدّم الكلام على لفظة {ٱللَّهُمَّ } في آل عمران ونادى ربه أولاً بالعلم الذي لا شركة فيه ثم ثانياً بلفظ{رَبَّنَا } مطابقاً إلى مصلحنا ومربينا ومالكنا. وقرأ الجمهور {تَكُونُ لَنَا } على أن الجملة صفة لمائدة. وقرأ عبد اللهوالأعمش {يَكُنِ }بالجزم على جواب الأمر والمعنى يكن يوم نزولها عيداً وهو يوم الأحد ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيداً.وقيل العيد السرور والفرح ولذلك يقال يوم عيد فالمعنى يكون لنا سروراً وفرحاً والعيد المجتمع لليوم المشهود وعرفه أن يقالفيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه. وقيل العيد لغة ما عاد إليك من شيء في وقت معلوم سواءكان فرحاً أو ترحاً وغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية. وقال الخليل العيد كل يوم يجمع الناس لأنهم عادوا إليه.قال ابن عباس لأولنا لأهل زماننا وآخرنا من يجيء بعدنا. وقيل لأولنا المتقدمين منا والرؤساء وآخرنا يعني الاتباع والأولية والآخريةفاحتملتا الأكل والزمان والرتبة والظاهر الزمان. وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري لأولانا وأخرنانا أنثوا على معنى الأمة والجماعةوالمجرور بدل من قوله لنا وكرر العامل وهو حرف الجر كقوله

{ منها من غم }

والبدل من ضميرالمتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض أو بدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة فإن أفاد معنى التأكيد جاز لهذا البدل إذ المعنى تكون لنا عيداً كلنا كقولك مررت بكم أكابركم وأصاغركم لأن معنى ذلك مررت بكم كلكم وإن لم تفد توكيداً فمسألة خلاف الأخفش بخير وغيره من البصريين بمنع، ومعنى {قَالَ عِيسَى} علامة شاهدة على صدق عبدك. وقيل حجة ودلالة على كمال قدرتك. وقرأ اليماني {وَأَنَّهُ * مِنكَ } والضمير في{وَأَنَّهُ } إما للعيد أو الإنزال. {وَٱرْزُقْنَا } قيل المائدة، وقيل الشكر لنعمتك {وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } لأنك الغني الحميدتبتدىء بالرزق. قال أبو عبد الله الرازي تأمل هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدمواذكر الأكل وأخروا الأغراض الدينية الروحانية وعيسى طلب المائدة وذكر أغراضه فقدم الدينية وأخر أغراض الأكل حيث قال {وَٱرْزُقْنَا }وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاءوقته وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله {وَٱرْزُقْنَا } لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال {وَأَنتَخَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } فقوله {رَبَّنَا } ابتداء منه بنداء الحق سبحانه وتعالى وقوله {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً } انتقال من الذات إلى الصفات وقوله {تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بلمن حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله {قَالَ عِيسَى } إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزل من حضرة الجلالفانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون {وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } وهو عروج مرة أخرى من الأخس إلى الأشرف وعند هذا يلوح همه من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله، وهو كلام دائربين لفظ فلسفي ولفظ صوفي وكلاهما بعيد عن كلام العرب ومناحيها.

{ قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } * { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } * { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{قَالَ ٱللَّهُ إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّأُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ } الظاهر أن المائدة نزلت لأنه تعالى ذكر أنه منزلها وبإنزالها قال الجمهور. قال ابن عطيةشرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب. قال الحسن ومجاهد لما سمعواالشرط أشفقوا فلم تنزل. قال مجاهد فهو مثل ضربه الله للناس لئلا يسألوا هذا الآيات واختلف من قال إنها نزلتهل رفعت بإحداث أحدثوه أم لم ترفع. وقال الأكثرون أكلوا منها أربعين يومابكرة وعشية. وقال إسحاق بن عبد الله يأكلونمنها متى شاؤوا، وقيل بطروا فكانت تنزل عليهم يوماً بعد يوم. وقال المؤرخون كانت تنزل عند ارتفاع الضحى فيأكلون منهاثم ترتفع إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض واختلفوا في كيفية نزولها وفيما كان عليها وفي عدد منأكل منها وفيما آل إليه حال من أكل منها اختلافاً مصطرباً متعارضاً ذكره المفسرون، ضربت عن ذكره صفحاً إذ ليسمنه شيء يدل عليه لفظ الآية وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسرقال: قال رسول الله ﷺ: «أنزلت المائدة من السماء خبراً ولحماً وأمروا أن لا يدخروا لغد ولايخونوا فخانوا وادّخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير». قال أبو عيسى هذا حديث رواه عاصم وغير واحد عن سعيد بنعروة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر مرفوعاً ولا نعلمه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قرعة حدثناحميد بن مسعدة قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن عروة نحوه ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث الحسنبن قرعة ولا نعلم الحديث مرفوعاً أصلاً. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم {مُنَزّلُهَا } مشدداً. وقرأ باقي السبعة مخففاً والأعمشوطلحة بن مصرف إني سأنزلها بسين الاستقبال بعد أي بعد إنزالها والعذاب هنا بمعنى التعذيب فانتصابه انتصاب المصدر، وأجاز أبوالبقاء أن يكون مفعولاً به على السعة وهو إعراب سائغ ولا يجوز أن يراد بالعذاب ما يعذب به إذ يلزمأن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر فكان يكون التركيب فإني أعذبه بعذاب لا يقال حذف حرف الجر فتعدى الفعل إليهفنصبه لأن حذف الحرف في مثل هذا مختص بالضرورة والظاهر أن الضمير في لا أعذبه يعود على العذاب بمعنى التعذيبوالمعنى لا أعذب مثل التعذيب أحداً. وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير لا عذب به أحداً وأن يكون مفعولاً بهعلى السعة وأن يكون ضمير المصدر المؤكد كقولك: ظننته زيداً منطلقاً فلا يعود على العذاب، ورابط الجملة الواقعة صفة لعذابهو العموم الذي في المصدر المؤكد كقولك هو جنس وعذاباً نكرة فانتظمه المصدر كما انتظم اسم الجنس زيداً في: زيدنعم الرجل، وأجاز أيضاً أن يكون ضمير من على حذف أي لا أعذب مثل عذاب الكافر وهذه تقادير متكلفة ينبغيأن ينزه القرآن عنها، والعذاب قال ابن عباس مسخهم خنازير. وقال غيره قردة وخنازير ووقع ذلك في الدنيا، والكفر المشارإليه الموجب تعذبهم قيل ارتدادهم، وقيل شكهم في عيسى وتشكيكهم الناس، وقيل مخالفتهم الأمر بأن لا يخونوا ولا يخبئوا ولايدخروا قاله قتادة، وقال عمار بن ياسر لم يتم يومهم حتى خانوا فادّخروا ورفعوا وظاهر العالمين العموم وقيل عالمي زمانهم.{وَإِذْ قَالَتْ * ٱللَّهَ يٰأُوْلِى * عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ * قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ} قال أبو عبيدة {إِذْ } زائدة وقال غيره بمعنى إذا والظاهر أنها على أصل وضعها وأن ما بعدها منالفعل الماضي قد وقع ولا يؤول قول. قال السدي وغيره كان هذا القول من الله تعالى حين رفع عيسى إليهوقالت النصارى ما قالت وادعت أن عيسى أمرهم بذلك واختاره الطبري. وقال ابن عباس وقتادة والجمهور: هذا القول منالله تعالى إنما هو يوم القيامة يقول له على رؤوس الخلائق فيعلم الكفار أن ما كانوا عليه باطل، فيقع التجوزفي استعمال {إِذْ } بمعنى إذا والماضي بعده بمعنى المستقبل وفي إيلاء الاستفهام الاسم، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدورالفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة أكان هذا الفعل الواقع صادراً عن المخاطب أم ليس بصادر عنه، بيانذلك أنك تقول: أضربت زيداً، فهذا استفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا، ولا إشعار فيه بأن ضرب زيدقد وقع. فإذا قلت أنت ضربت زيداً كان الضرب قد وقع بزيد، لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب، وهذه مسألة بيانيةنص على ذلك أبو الحسن الأخفش. وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بإلهية مريم، فكيف قيل {إِلـٰهَيْنِ }،وأجابوا بأنهم لما قالوا لم تلد بشراً وإنما ولدت إلهاً، لزمهم أن يقولوا من حيث البغضية بإلهية من ولدته، فصاروابمثابة من قال: انتهى. والظاهر صدور هذا القول في الوجود لا من عيسى، ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ.{قَالَ سُبْحَـٰنَكَ } أي تنزيهاً لك. قال ابن عطية: عن أن يقال هذا وينطق به؛ وقال الزمخشري من أنيكون لك شريك، والظاهر الأول لقوله بعد {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } قال أبو روق:لما سمع عيسى هذا المقال ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة عين من دم، فقال عند ذلك مجيباً للهتعالى: {سُبْحَـٰنَكَ } تنزيهاً وتعظيماً لك وبراءة لك من السوء. {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} هذا نفي يعضده دليل العقل فيمتنع عقلاً ادعاء بشر محدث الإلهية و{بِحَقّ } خبر ليس أي ليس مستحقاً وأجازوافي {لِى } أن يكون تبييناً وأن يكون صلة صفة لقوله {يُحِقَّ } لي تقدم فصار حالاً أي بحق لي،ويظهر أنه يتعلق بحق لأن الباء زائدة، وحق بمعنى مستحقّ أي ما ليس مستحقاً، وأجاز بعضهم أن يكون الكلام قدتم عند قوله {مَا لَيْسَ لِى } وجعل {بِحَقّ } متعلقاً بعلميته الذي هو جواب الشرط، ورد ذلك بادعاء التقديموالتأخير فيما ظاهره خلاف ذلك، ولا يصار إلى التقديم والتأخير إلا لمعنى يقتضي ذلك، أو بتوقيف، أو فيما لا يمكنفيه إلا ذلك؛ انتهى هذا القول ورده، ويمتنع أن يتعلق بعلميته لأنه لا يتقدم على الشرط شيء من معمولات فعل الشرط ولا من معمولات جوابه، ووقف نافع وغيره من القراء على قوله {بِحَقّ } وروي ذلك عن النبي صلى اللهعليه وسلم. {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } قال أبو عبد الله الرازي: هذا مقام خضوع وتواضع، فقدم ناسخنفي القول عنه، ولم يقل ما قلته بل فوّض ذلك إلى علمه المحيط بالكلّ وهذه مبالغة في الأدب وفي إظهارالذلة والمسكنة في حضرة الجلال، وتفويض الأمر بالكلية إلى الحق سبحانه، انتهى، وفيه بعض تلخيص. {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِىوَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } خصّ النفس لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات. قيل: المعنى: تعلم ما أخفي ولاأعلم ما تخفي. وقيل: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك. وقيل: تعلم سرّي ولا أعلم سرّك. وقال الزمخشري: تعلممعلومي ولا أعلم معلومك وأتى بقوله: {مَا فِى نَفْسِكَ } على جهة المقابلة والتشاكل لقوله {مَا فِى نَفْسِى } فهوشبيه بقوله:

{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }

وقوله:

{ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ * ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ }

ومن زعم أن النفس تطلق على ذات الشيء وحقيقته، كان المعنى عنده تعلم كنه ذاتي ولا أعلم كنه ذاتك، وقد استدلت المجسمة بقوله {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } قالوا: النفس هي الشخص وذلك يقتضي كونه جسماً. تعالى اللهعن ذلك علوًّا كبيراً. {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } هذا تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس منجملة الغيوب ولأن ما يعلمه {عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } لا ينتهي إليه أحد، فإذا كنت أنت المختص بعلم الغيب فلا علملي بالغيب فكيف تكون لي الألوهية وخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ فلقاه الله

{ سُبْحَـٰنَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ }

الآية كلها. قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } أخبر أنه لم يتعد أمر الله فيأن أمر بعبادته وأقر بربوبيته. وفي قوله: {رَبّى وَرَبَّكُمْ } راءة مما ادّعوه فيه، وفي الإنجيل قال: يا معاشر بنيالمعمودية قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم. وقال أبو عبد الله الرازي: كان الأصل أن يقال ماأمرتهم إلا ما أمرتني به، إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب. وقال الحسن: إنما عدل لئلايجعل نفسه وربه آمرين معاً ودل على أن الأصل ما ذكر أن المفسرة؛ انتهى. قال الحوفي وابن عطية: وإن في{بِأَنَّ * ٱعْبُدُواْ } مفسرة، لا موضع لها من الإعراب ويصح أن يكون بدلاً من من ما وصح أن يكونبدلاً من الضمير في به، زاد ابن عطية أنه يصح أن يكون في محلّ خفض على تقديره. {أَنِ ٱعْبُدُواْ }،وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء والرفع على إضمار هو والنصب على إضمار أعني أو بدلاً من موضعبه. قال: ولا يجوز أن تكون بمعنى أن المفسرة، لأن القول قد صرّح به، وأن لا تكون مع التصريح بالقول.وقال الزمخشري أن في قوله {أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر، والمفسر إمافعل القول وإما فعل الأمر وكلاهما لا وجه له، أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهماحرف التفسير لا تقول ما قلت لهم إلا {أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } ولكن ما قلت لهم إلا اعبدواالله وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله تعالى فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم لأن الله لايقول اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم يخلُ من أن تكون بدلاً من ما أمرتني به أومن الهاء في به وكلاهما غير مستقيم، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه، ولا يقال ما قلت لهمإلا أن اعبدوا الله بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال وكذلك إذا جعلته بدلاً من الهاءلأنك لو أقمت {أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. (فإن قلت): فكيفتصنع؟ (قلت): يحمل فعل القول على معناه لأن معنى {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ } ما أمرتهم إلابما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بـ{أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ } ويجوز أن تكون موصولة عطفاً على بيان الهاءلا بدلاً؛ انتهى، وفيه بعض تلخيص. أما قوله: وأما فعل الأمر إلى آخر المنع، وقوله لأن الله تعالى لا يقولاعبدوا الله ربي وربكم فإنما لم يستقم لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر، ويستقيم أن يكون فعلالأمر مفسراً بقوله {ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } ويكون ربي وربكم من كلام عيسى على إضمار أعني أي أعني ربكم وربكم لاعلى الصفة التي فهمها الزمخشري، فلم يستقيم ذلك عنده. وأما قوله: لأن العبادة لا تقال فصحيح لكن ذلك يصحّ علىحذف مضاف، أي: ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله، أي القول المتضمن عبادة الله. وأماقوله لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته فلا يلزم في كل بدل أن يحلّ محل المبدل منه، ألا ترىإلى تجويز النحويين: زيد مررت به أبي عبد الله، ولو قلت زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز ذلك عندهم إلا على رأي الأخفش. وأما قوله عطفاً على بيان الهاء، فهذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام، ومااختاره الزمخشري وجوّزه غيره من كون أن مفسرة لا يصح لأنها جاءت بعد إلا، وكل ما كان بعد إلا المستثنى بها فلا بدّ أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب، وانظر إلى ما تضمنت محاورة عيسى وجوابه مع الله تعالى لما قرع سمعه ما لا يمكن أن يكون نزه الله تعالى وبرأه من السوء،ومن أن يكون معه شريك ثم أخبر عن نفسه أنه لا يمكن أن يقول ما ليس له بحق، فأتى بنفيلفظ عام، وهو لفظ ما المندرج تحته كل قول ليس بحق حتى هذا القول المعين، ثم تبرأ تبرؤاً ثالثاً وهوإحالة ذلك على علمه تعالى وتفويض ذلك إليه، وعيسى يعلم أنه ما قاله، ثم لما أحال على العلم أثبت علمالله به ونفى علمه بما هو لله وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يهجس ذلك في خاطري فضلاً عنأن أفوه به وأقوله، فصار مجموع ذلك نفي هذا القول، ونفي أن يهجس في النفس، ثم علل ذلك بأنه تعالىمستأثر بعلم الغيب، ثم لما نزه الله تعالى وانتفى عنه قول ذلك وأن يخطر ذلك في نفسه انتقل إلى ماقاله لهم فأتى به محصوراً بإلا معذوقاً بأنه هو الذي أمره الله به أن يبلغهم عنه. {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداًمَّا دُمْتُ فِيهِمْ } أي رقيباً كالشاهد على المشهود عليه، أمنعهم من قول ذلك وأن يتدينوا به، وأتي بصيغة فعيلللمبالغة كثير الحفظ عليهم والملازمة لهم وما ظرفية ودام تامّة أي ما بقيت فيهم، أي شهيداً في الدنيا. {فَلَمَّاتَوَفَّيْتَنِى } قيل: هذا يدل على أنه توفاه وفاة الموت قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار تظافرت برفعه حياً،وأنه في السماء حيّ وأنه ينزل ويقتل الدجال، ومعنى {تَوَفَّيْتَنِى } قبضتني إليك بالرفع. وقال الحسن: الوفاة وفاة الموت ووفاةالنوم ووفاة الرفع. وقال الزمخشري: {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلّ شَهِيدٌ } تمنعهم من القول به بمانصبت لهم من الأدلة، وأنزلت عليهم من البينات وأرسلت إليهم الرسل؛ انتهى وفيه دسيسة الاعتزال. {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَوَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } قال الزمخشري: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } والذين عذبتهم جاحدين لآياتك، مكذبين لأنبيائك، وإنتغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي على الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.(فإن قلت): المغفرة لا تكون للكفار، فكيف قال: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ }؟ (قلت): ما قال: إنك تغفر لهم ولكنه بنىالكلام على أن يقال: إن عذبتهم عدلت لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم، لم تعدم في المغفرة وجهحكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول، بل متى كان المجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن. وهذا منالزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلاً، قالوا: لأن العقابحق لله على الذنب وفي إسقاط منفعة، وليس في إسقاطه على الله مضرة، فوجب أن يكون حسناً ودل الدليل السمعيفي شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام، انتهى كلامجمهور البصريين من المعتزلة. وقال أهل السنة: مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية، ولذلك ختمالكلام بقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي: قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك. وقيللما قال لعيسى: {قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى } الآية. علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفرلا يكون كافراً بل، مذنباً حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ }. وقيل: كان عند عيسىأنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه، فقال: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } ماأحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال: إن قول الله له {قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى } كان وقتالرفع، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه. وقيل: الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافراًوفي {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } عائد على من تاب منهم قبل الموت. وقيل: قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفةبهم، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لايحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى{وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى * عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ *قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى } قول قد صدر، ومعنى يعطفه على ما صدرومضى، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآياتمن إذ قال هو محمول على أصل وضعه، وإذا كان كذلك فقول عيسى {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } فعبر بالسبب عنالمسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة، كانوا في معرض أنيرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة، وظاهر قوله {فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } إنه جواب الشرط والمعنى فإنكأنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء، وقرأت جماعة فإنكأنت الغفور الرحيم على ما يقتضيه قوله {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } قال عياض بن موسى: ليست من المصحف. وقال أبوبكر بن الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال: إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } لا يناسب قوله وإنتغفر لهم لأن المناسب فإنك أنت الغفور الرحيم. والجواب: أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ومتى نقل إلىما قال هذا الطاعن ضعف معناه، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو ماأنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون معذوق بالشرطين كلاهما أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه إن تعذبهم فأنت عزيز حكيم وإنتغفر لهم فأنت العزيز الحكيم في الأمرين كلاهما من التعذيب والغفران، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه، وأنه يجمعالشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم أن يحتمل ما احتمله العزيز الحكيم؛ انتهى. وأما قول من ذهب إلى أن في الكلامتقديماً وتأخير تقديره إن تعذبهم فإنك أنت العزيز وإن تغفر لهم فإنهم عبادك، فليس بشيء وهو قول من اجترأ على كتاب الله بغير علم. روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبيّ ﷺ حتى أصبح بهذه الآية{إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }. {قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ} قرأ الجمهور هذا يوم بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية بقال وهي في موضع المفعول به،لقال: أي هذا الوقت وقت نفع الصادقين وفيه إشارة إلى صدق عيسى عليه السلام. وقرأ نافع {هَـٰذَا يَوْمُ } بفتح الميم وخرّجه الكوفيون على أنه مبني خبر لهذا وبني لإضافته إلى الجملة الفعلية، وهم لا يشترطون كون الفعل مبنياً فيبناء الظرف المضاف إلى الجملة، فعلى قولهم تتحد القراءتان في المعنى. وقال البصريون: شرط هذا البناء إذا أضيف الظرف إلى الجملة الفعلية أن يكون مصدراً بفعل مبني، لأنه لا يسري إليه البناء لا من المبني الذي أضيف إليه، والمسألة مقررة في علم النحو فعلى قول البصريين: هو معرب لا مبني وخرج نصبه على وجهين ذكرهما الزمخشري وغيره أحدهما: أن يكون ظرفاً لقال وهذا إشارة إلى المصدر فيكون منصوباً على المصدرية، أي: قال الله هذا القول أو إشارة إلى الخبر أوالقصص، كقولك: قال زيد شعراً أو قال زيد: خطبة فيكون إشارة إلى مضمون الجملة، واختلف في نصبه أهو على المصدريةأو ينتصب مفعولاً به؟ فعلى هذا الخلاف ينتصب إذا كان إشارة إلى الخبر أو القصص نصب المصدر أو نصب المفعولبه. قال ابن عطية: وانتصابه على الظرف وتقدير {قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا } القصص أو الخبر {يَوْمُ يَنفَعُ } معنى يزيلوصف الآية وبهاء اللفظ والمعنى، والوجه الثاني أن يكون ظرفاً خبر هذا وهذا مرفوع على الابتداء والتقدير، هذا الذي ذكرناهمن كلام عيسى واقع يوم ينفع ويكون هذا يوم ينفع جملة محكية بقال. قال الزمخشري: وقرأ الأعمش يوماً ينفع بالتنوين كقوله

{ وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى }

وقال ابن عطية: وقرأ الحسن بن عياش الشامي {هَـٰذَا يَوْمُ } بالرفع والتنوين.وقرأ الجمهور {صِدْقُهُمْ } بالرفع فاعل ينفع وقرىء بالنصب، وخرج على أنه مفعول له أي لصدقهم أو على إسقاط حرف الجر أي بصدقهم أو مصدر مؤكد، أي الذين يصدقون صدقهم أو مفعول به أي يصدقون الصدق كما تقول: صدقته القتال والمعنى يحققون الصدق. قال الزمخشري (فإن قلت): إن أريد {صِدْقُهُمْ } في الآخرة فليست بدار عمل، وإن أريد فيالدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه، لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة.(قلت): معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم انتهى، وهذا بناء على قول من قال: إن هذا القول يكون منالله تعالى في الآخرة وقد اتبع الزمخشري الزجاج في قوله: هذا حقيقته الحكاية ومعنى {يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ } الذي كانفي الدنيا ينفعهم في القيامة، لأن الآخرة ليست بدار عمل ولا ينفع أحداً فيها ما قال وإن حسن، ولوصدق الكافر وأقرّ بما عمل فقال: كفرت وأسأت ما نفعه، وإنما الصادق الذي ينفعه صدقه الذي كان فيه في الدنياوالآخرة؛ انتهى. والظاهر أنه ابتداء كلام من الله تعالى. وقال السدي: هذا فصل من كلام عيسى عليه السلام أي: يقول عيسى يوم القيامة: قال الله تعالى: واختلف في هذا اليوم، فقيل: يوم القيامة كما ذكرناه وخص بالذكر لأنه يوم الجزاء الذي فيه تجبي ثمرات الصدق الدائمة الكاملة، وإلا فالصدق ينفع في كل يوم وكل وقت. وقيل: هو يوم من أيام الدنيا فإن العمل لا ينفع إلا إذا كان في الدنيا والصادقون هنا النبيون وصدقهم تبليغهم، أو المؤمنون وصدقهم إخلاصهم في إيمانهم أو صدق عهودهم أو صدقهم في العمل لله تعالى، أو صدقهم تركهم الكذب على الله وعلى رسله أو صدقهمفي الآخرة في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ أو شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم أقوال ستة، والظاهر العموم فكل صادق بنفعه صدقه. {لَهُمْ جَنَّـٰتٍتَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ } هذا كأنه جواب سائل ما لهم جزاء على الصدق؟ فقيل: لهم جنات. {خَـٰلِدِينَ فِيهَاأَبَداً } إشارة إلى تأييد الديمومية في الجنة. {رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } قيل: بقبول حسناتهم ورضوا عنهبما آتاهم من الكرامة. وقيل: بطاعتهم ورضوا عنه في الآخرة بثوابه. وقال الترمذي: بصدقهم ورضوا عنه بوفاء حقهم. وقيل: فيالدنيا ورضوا عنه في الآخرة. وقال أبو عبد الله الرازي: في قوله {رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } هو إشارة إلى التعظيم هذا على ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرفة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله: {رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْعَنْهُ } أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها؛ انتهى، وهو كلام عجيب شبيه بكلام أهل الفلسفة والتصوّف. {ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأبيد وإلى رضوان الله عنهم، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺقال: يطلع الله على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك، فيقول الله تعالى: ولكم عندي أفضل من ذلك فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول الله عز وجل: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً {للَّهِ مُلْكُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَعَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } لما ادّعت النصارى في عيسى وأمه الألوهية اقتضت الدعوى أن يكونا مالكين قادرين فردّ اللهعليهم. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة، ويحتمل أن يكون مقطوعاً من ذلك مخاطباً به محمداًﷺ وأمّته؛ انتهى. وقيل: هذا جواب سائل من يعطيهم {ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } فقيل الذي له ملكالسموات والأرض. وقال الزمخشري (فإن قلت): ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فهل غلب العقلاء فقيل ومن فيهنّ، (قلت):ما تتناول الأجناس كلها تناولاً عامًّا ألا تراك تقول: إذا رأيت شبحاً من بعيد ما هو قبل أن تعرف أعاقلهو أم غير عاقل؟ فكان أولى بإرادة العموم؛ انتهى كلامه. وقال أبو عبد الله الرازي: غلب غير العقلاء تنبيهاً علىأن كل المخلوقات مسخرين في قبضة قهره وقدره وقضائه وقدرته وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائمالتي لا عقل لها، فعل الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة وقال أيضاً:مفتتح السورة، كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية، فيشرع العبد في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية،فالأول هو الشريعة وهو البداية، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها يذكر الله عز وجل وكبريائهتعالى وعزته وقهره وعلوه، وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتم؛ انتهى كلامه، وليست الحقيقة والشريعة والتمييز بينهما لا من كلام الصحابة رضي الله عنهم ولا من كلام التابعين، وإنما ذلك من ألفاظالصوفية واصطلاحاتهم ولهم في ذلك كلام طويل والله أعلم بالصواب.