► فهرس :إسلام | ☰ |
هامش
خلافة أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلافة الإمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه |
قال الشيخ الإمام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق سبط محمد بن يوسف الفارسي رضي الله عنهم:
الحمد لله الموفق المعين وصلى الله على محمد الأمين، وعلى الصفوة من صحابته وآله أجمعين. وأسأل الله المعونة على ما كلف، والعصمة مما خوف، وعليه أتوكل، وإياه أستهدي وأستوفق لما يقرب من رضاه ويبعد من عقابه ويوصل إلى جزيل ثوابه.
واعلم أن الناس قد تشتت آراؤهم واختلفت أهواؤهم وانشعبوا شعبا، فصاروا فرقا مختلفين وأحزابا متباينين، قد عظمت محنتهم في الإمامة في ابن أبي قحافة، وثبتت محبتهم لهم. فمن قائل قال: أفضل الناس بعد الرسول ﷺ وأولاهم بالإمامة بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومنهم من يقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي رضي الله عنهم. ومنهم من يقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ووقف. ومنهم من يقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. وذلك قول أهل الجماعة والأثر من رواة الحديث وجمهور الأمة. ومنهم من يقول: أبو بكر وعمر ويقف عند عثمان وعلي. ومنهم من يقول: أحقهم وأفضلهم بالإمامة بعد الرسول ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الإمامية. وكل هذه الفرق مقلد فيما انتحل سلفا يحتج به ويرضيه، ويتبرأ ممن يخالفهم ويعاديه.
واستعنت الله تعالى وأودعت هذا الجزء بيان الأصوب من النحل، والأقوم من المقالات والملل. أجمع في ذلك ما مدح الله تعالى به الصفوة من صحابة النبي ﷺ، وثبت عن الرسول ﷺ في مناقبهم وفضائلهم، ودل على مراتبهم وسوابقهم، وما اجتمع عليه الصحابة رضي الله عنهم بعده، وهم الممدوحون على لسان نبيه ﷺ بالخصال الحميدة والفضائل الكريمة.
قال الله تبارك وتعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [1] وقال تبارك وتعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الآية. [2] وقال تبارك وتعالى: {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} [3] وقال تبارك وتعالى: {أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} [4] وقال تبارك وتعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [5] وقال تبارك وتعالى: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} [6] وقال تبارك وتعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} الآية. [7] وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه} إلى آخر السورة، [8] وقال: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} الآية. [9] وقال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [10] وقال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [11] وقال تعالى: {لكن الرسول والذين آمنوا معه} الآيتين. [12]
سمحت نفوسهم رضي الله عنهم بالنفس والمال والولد والأهل والدار، ففارقوا الأوطان، وهاجروا الإخوان، وقتلوا الآباء والإخوان، وبذلوا النفوس صابرين، وأنفقوا الأموال محتسبين، وناصبوا من ناوأهم متوكلين، فآثروا رضاء الله على الغناء، والذل على العز، والغربة على الوطن. هم المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون حقا. [13]
ثم إخوانهم من الأنصار، أهل المواساة والإيثار، أعز قبائل العرب جارا، واتخذ الرسول عليه السلام دارهم أمنا وقرارا، الأعفاء الصبر والأصدقاء الزهر، {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [14] فمن انطوت سريرته على محبتهم ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودتهم، وتبرأ ممن أضمر بغضهم، فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى به فقال: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية. [15]
فالصحابة رضي الله عنهم هم الذين تولى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم، وبشرهم برضوانه ورحمته، فقال: {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} [16] جعلهم {خير أمة أخرجت للناس}، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله، فجعلهم مثلا للكتابيين، لأهل التوراة والإنجيل. خير الأمم أمته وخير القرون قرنه، يرفع الله من أقدارهم، إذ أمر الرسول عليه السلام بمشاورتهم [17] لما علم من صدقهم وصحة إيمانهم وخالص مودتهم ووفور عقلهم ونبالة رأيهم، وكمال نصيحتهم وتبين أمانتهم، رضي الله عنهم أجمعين.
خلافة أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه
1
حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا عبيد بن غنام، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله ﷺ: «خير أمتي القرن الذي أنا فيه، ثم الذين يلونهم». رواه شعبة والثوري وجرير عن منصور
2
حدثنا عبد الله بن جعفر قراءة، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا هشام، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله ﷺ: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم من بعد ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويفشو فيهم السمن»
3
حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا أبو مسلم الكجي، حدثنا أبو عاصم، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:: سألنا رسول الله ﷺ عن خير الناس؟ قال: «أنا ومن معي». قيل: ثم من؟ قال: «ثم الذين على الأثر»
4
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زائدة، عن عاصم، عن خيثمة، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله ﷺ: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» الحديث.
فلم تنكر فرقة من هذه الفرق المدائح التي مدح الله بها أصحاب رسول الله ﷺ على لسان نبيه ﷺ، وأن الصحابة هم خير الأمم.
فيقال للإمامية الطاعنين على المهاجرين والأنصار اجتماعهم على تقدمة الصديق رضي الله عنه: أكان اجتماعهم عليه على إكراه منه لهم بالسيف، أو تأليف منه لهم بمال أو غلبة بعشيرة؟ فإن الاجتماع لا يخلو من هذه الوجوه، وكل ذلك مستحيل منهم؛ لأنهم أهل المديحة والمروءة والدين والنصيحة، ولو كان شيء من هذه الوجوه أو أريد واحد منهم على المبايعة كارها لكان ذلك منقولا عنهم ومنتشرا. فأما إذا أجمعت الأمة على أن لا إكراه، والغلبة والتأليف غير ممكن منهم وعليهم، فقد ثبت أن اجتماعهم لما علموا منه من الاستحقاق والتفضيل والسابقة، وقدموه وبايعوه لما خصه الله تعالى به من المناقب والفضائل. فاذكر أنت أيها الطاعن على إمامته ما تحتج به لتعارض بنقضه. فأما ما خصه الله تعالى به من الفضائل والمدائح فلسنا بمنكريه ولا دافعيه، فإنك إن احتججت بالأخبار لزمك القبول لها من مخالفيك، وإلا يكون أخبارك لا لك ولا على غيرك، فلو قبلت الأخبار قبلت منك فكانت لك وعليك.
فإذا احتج بالأخبار وقال: قال رسول الله ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه». قيل له: مقبول منك ونحن نقول، وهذه فضيلة بينة لعلي بن أبي طالب عليه السلام ومعناه: من كان النبي ﷺ مولاه فعلي والمؤمنون مواليه. دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [18] وقال تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}. [19] والولي والموالى في كلام العرب واحد، [20] والدليل عليه قوله تبارك وتعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [21] أي لا ولي لهم وهم عبيده وهو مولاهم، وإنما أراد لا ولي لهم. وقال: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} [22] وقال: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [23] وقال: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}. [24] وإنما هذه منقبة من النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه وحث على محبته وترغيب في ولايته لما ظهر من ميل المنافقين عليه وبغضهم له. وكذلك قال ﷺ: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق». وحكي عن ابن عيينة أن عليا رضي الله عنه وأسامة تخاصما، فقال علي لأسامة: أنت مولاي. فقال: لست لك مولى، إنما مولاي رسول الله ﷺ. فقال رسول الله ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه». وهذا كما يقول الناس: فلان مولى بني هاشم ومولى بني أمية، وإنما الحقيقة واحد منهم، ومما يؤيد ما حكي عن ابن عيينة حديث:
5
حدثنا عبد الله بن جعفر قراءة، قال: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا داود، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت عبد الرحمن الأعرج، قال شعبة: ولا أعلم إلا عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: «الأنصار وقريش ومزينة وجهينة وغفار وأسلم وأشجع بعضهم موالي بعض ليس لهم مولى دون الله ورسوله»
فظاهر هذا اللفظ رافع لقوله: «من كنت مولاه». لأنه ﷺ أخبر أن لكل هؤلاء القبائل موالي: الله ورسوله. فإن قال: قد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى». قيل له: كذلك نقول في استخلافه على المدينة في حياته بمنزلة هارون من موسى، وإنما خرج هذا القول له من النبي ﷺ عام تبوك، إذ خلفه بالمدينة، فذكر المنافقون أنه مله وكره صحبته فلحق برسول الله ﷺ فذكر له قولهم، فقال ﷺ: «خلفتك كما خلف موسى هارون»
6
حدثنا فاروق الخطابي، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا يوسف بن يعقوب الماجشون، عن ابن المنكدر، عن سعيد بن المسيب، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد: أنه سمع النبي ﷺ يقول لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»
7
حدثنا فاروق الخطابي، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا يوسف بن يعقوب الماجشون، عن ابن المنكدر، عن سعيد بن المسيب، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد: أنه سمع النبي ﷺ يقول لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»
8
حدثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: خلف رسول الله ﷺ عليا في أهله حين غزا غزاة تبوك فقال بعض الناس: ما منعه أن يخرج إلا أنه كره صحبته، فبلغ ذلك عليا عليه السلام فقال لرسول الله ﷺ: زعم بعض الناس أنك لم تخلفني إلا أنك كرهت صحبتي، فقال رسول الله ﷺ: «يا ابن أبي طالب، أما ترضى أن تنزل مني بمنزلة هارون من موسى؟»
فإن قال الطاعن: لم يرد استخلافه على المدينة؟ قيل له: هل شاركه في النبوة كما شارك هارون موسى؟ فإن قال: نعم، كفر؛ وإن قال: لا، قيل له: فهل كان أخاه في النسب؟ فإن قال: نعم، فقد كذب. فإذا بطلت أخوة النسب ومشاركة النبوة فقد صح وجه الاستخلاف. وإن جعل استخلافه في حياته على المدينة أصلا فقد كان ﷺ يستخلف في كل غزاة غزاها غيره من أصحابه كابن أم مكتوم وخفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، وغيرهما من خلفائه.
فإن احتج بقوله عليه السلام: «علي مني وأنا منه»
9
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رجلا وقع في أب للعباس كان في الجاهلية، فلطمه العباس فجاء قومه، فبلغ ذلك النبي ﷺ فصعد المنبر وقال: «أي أهل الأرض، تعلمون أكرم على الله؟» قالوا: أنت، قال: «فإن العباس مني وأنا منه»
10
حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن كنانة بن نعيم العدوي، عن أبي برزة الأسلمي: أن النبي ﷺ كان في مغزى له، فلما فرغ من القتال فقال: «وهل تفقدون من أحد، لكنني أفقد جليبيبا». فوجدوه عند سبعة، قد قتلهم وقتلوه. فأُخبر النبي ﷺ، فقال: «قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه». قالها مرتين أو ثلاثا، ثم قال بذراعيه هكذا فبسطها، فوُضع على ذراعي النبي ﷺ حتى حفر له، فما كان له سرير إلا ذراعي النبي ﷺ حتى دُفن.
فإن احتج بأنه كان رضي الله عنه ختن رسول الله ﷺ. قيل له: قد شاركه عثمان بن عفان وغيره رضي الله عنهما في هذا الأمر، فإن عثمان كان ختنه على ابنتيه، وأبا العاص بن الربيع على ابنته.
فإن قال: هو الذي قال فيه الرسول ﷺ: «لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله». قيل: قد شاركه في هذه الفضيلة عدة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وزيد وأسامة والحسن والحسين وعائشة رضي الله عنهم
11
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن يخامر: أن النبي ﷺ قال: «اللهم صل على أبي بكر فإنه يحبك ويحب رسولك، اللهم صل على عمر فإنه يحبك ويحب رسولك، اللهم صل على عثمان فإنه يحبك ويحب رسولك، اللهم صل على أبي عبيدة بن الجراح فإنه يحبك ويحب رسولك، اللهم صل على عمرو بن العاص فإنه يحبك ويحب رسولك». كذا رواه يزيد عن مالك بن يخامر مرسلا وغيره عن معاذ.
12
حدثنا أبو بكر بن خلاد، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله ﷺ فيها؟ قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب [25] رسول الله ﷺ؟. فكلمه أسامة. فقال: «لا تشفع في حد»
13
حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا زمعة، قال: سمعت ابن أبي مليكة، يقول: سمعت أم سلمة الصرخةَ على عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فقالت: «يرحمها الله، والذي نفسي بيده لقد كانت أحب الناس كلهم إلى رسول الله ﷺ إلا أبوها، رضي الله عنه وأرضاه»
14
حدثنا محمد بن حميد، حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد بن عبد الله، عن خالد الحذاء، عن أبي عثمان، حدثني عمرو بن العاص: أن رسول الله ﷺ بعثه على جيش ذات السلاسل، فلما أتيته قلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة»، قلت: من الرجال؟ قال: «أبوها». قال: ثم عد رجالا.
15
حدثنا فاروق الخطابي، حدثنا أبو مسلم الكجي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء، يقول: رأيت رسول الله ﷺ والحسن أو الحسين على عاتقه [26] وهو يقول: «اللهم إني أحبه فأحبه»
16
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو عوانة، عن عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، حدثني أسامة بن زيد، قال: مررت بالمسجد فإذا علي والعباس قاعدان، فقالا: يا أسامة، استأذن لنا رسول الله ﷺ. فقلت: يا رسول الله، هذا علي والعباس بالباب يريدان الدخول عليك. قال: «تدري ما جاء بهما؟» قلت: لا والله يا رسول الله، ما أدري ما جاء بهما. قال: «ولكني قد علمت ما جاء بهما أبين لهما إيذن لهما». فدخلا عليه فقال علي: يا رسول الله جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك؟ قال: «فاطمة بنت محمد» ﷺ. قال علي: والله يا رسول الله ما عن أهلك أسألك. قال: «فأحب الناس إلي من أنعم الله عليه وأنعمت عليه، أسامة». ثم من يا رسول الله؟ قال: «ثم أنت». قال العباس: أجعلت عمك آخرهم. قال: «إن عليا سبقك بالهجرة»
17
حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن عبد العزيز، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ لزيد بن حارثة: «إنه لمن أحب الناس إلي بعده» وهذه فضيلة له رضي الله عنهم.
فإن احتج المعاند بأنه استحق الخلافة لأنه كان أولهم إسلاما طولب ببيان ما ذكره. فإن قال: روي ذلك عنه وعن غيره. قيل له: قد روي خلاف ذلك عن النبي ﷺ، فإن كنت تحتج بالأخبار، فإذا ما تعارضت الأخبار سقطت الحجة.
18
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي يحيى سليمان بن عامر وضمرة بن حبيب وأبي طلحة نعيم بن زياد، كل هؤلاء سمعه من أبي أمامة الباهلي صاحب النبي ﷺ، قال: سمعت عمرو بن عبسة السلمي قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو نازل بعكاظ، فقلت: يا رسول الله، من معك في هذا الأمر؟ قال: «رجلان، أبو بكر وبلال». فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتني رابع الإسلام.
19
حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حريز بن عثمان، عن سليم بن عامر، عن عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو نازل بعكاظ، فقلت: من معك على هذا الأمر؟ قال: «حر وعبد» ومعنا أبو بكر وبلال.
20
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثني أحمد بن خليد الحلبي، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا محمد بن مهاجر، عن عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول الله ﷺ أول ما بعث وهو يومئذ مستخف، فقلت: فمن معك على هذا الأمر؟ قال: «حر وعبد» أبو بكر وبلال.
21
حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يزيد بن طلق، عن عبد الرحمن بن البيلماني، عن عمرو بن عبسة، قال: أتيت رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله، من أسلم معك؟ قال: «حر وعبد»
22
حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، حدثنا إسحاق بن راهويه، أخبرنا أبو أسامة، حدثنا هاشم بن هاشم، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعدا يقول: «ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام»
فإن احتج بالموضوعات من أخبار الروافض. قيل له: إن اعتللت بذلك ألزمناك قبول أخبارهم وما يروونه في قتل الشيعة، وأنهم مشركون وغير ذلك من الأخبار التي لا ثبوت لك ولا لغيرك فيها.
ويقال له: ما هذه الأخبار التي تحتج بها الشيعة؟ فإن قال: أوصى إليه رسول الله ﷺ وعهد إليه، وأنه القاضي لدينه والقائم بعهده المنجز موعده، وما شاكله من موضوعاتهم وأباطيلهم. قيل له: قد روي من الوجوه المرتضى خلافه وذلك:
23
ما حدثناه الطلحي، حدثنا عبيد بن غنام، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثني عبد الله بن نمير وأبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، قالت: «ما ترك رسول الله درهما ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا، ولا أوصى بشيء»
24
حدثنا أبو إسحاق بن حمزة، وحبيب بن الحسن، قالا: حدثنا يوسف القاضي، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل كان رسول الله ﷺ أوصى؟ قال: «لا». قلت: فكتب على المسلمين أو أمر المسلمين بالوصية ولم يوص؟ قال: «أوصى بكتاب الله».
قال: فقال هزيل: أبو بكر كان يتأمر على وصي رسول الله ﷺ؟ يود أبو بكر أنه وجد عهدا من رسول الله ﷺ فخزم [27] أنفه بخزام، أثني عليه لوصية رسول الله ﷺ.
25
حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، حدثنا أبو خليفة، حدثنا علي بن المديني، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: لما حُضِر رسول الله ﷺ وفي البيت رجال، قال رسول الله ﷺ: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا». فأكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: «قوموا».
قال عبيد الله: سمعت ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ أن يكتب لهم الكتاب لاختلافهم ولغطهم.
ففي هذه الأخبار الثابتة إبطال لما ادعاه من اختصاص علي رضي الله عنه بوصيته وعهده من دون المسلمين كافة.
ولقد سئل علي رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو جحيفة وغيره: هل خصك رسول الله ﷺ بشيء؟ فقال: ما هو إلا كتاب الله، وفهم يؤتيه الله من شاء في الكتاب.
فإن احتج بأن عليا رضي الله عنه ردت له الشمس بعد أن غابت حتى صلى العصر لوقتها حين فاتته حتى صلى. قيل له: لو جاز ذلك لعلي لكان رسول الله ﷺ أولى وأجدى، فقد فاتته يوم الخندق ﷺ الظهر والعصر فلم يصلوا إلا بعد العشاء حتى قال: «ملأ الله قبورهم وقلوبهم نارا». فلم ترد عليه ﷺ. ولو جاز لأحد لكان رسول الله ﷺ أحق وأولى، ولم يكن الله ليمنعه شرفا وفضلا، وذلك ما روي عن علي رضي الله عنه من غير وجهه:
26
حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا يوسف القاضي، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال يوم الأحزاب: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن صلاتنا الوسطى حتى آبت [28] الشمس». رواه شتير بن شكل ويحيى بن الجزار وغيرهما.
27
حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد، حدثني عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: «كنا مع رسول الله ﷺ يوم الخندق، شغلونا عن صلوات فأمر رسول الله ﷺ بلالا فأقام لكل صلاة إقامة، وذلك قبل أن ينزل عليه: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا}»
28
حدثنا أبو بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش. فقال لرسول الله ﷺ: ما كدت أن أصلي حتى كادت أن تغرب، قال: فقال رسول الله ﷺ: «ما صلينا بعد». فنزل مع رسول الله ﷺ أحسبه قال: إلى بطحان لنتوضأ للصلاة وتوضأت لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
وقد غلبنا النوم فنام عن الفجر:
29
حدثنا أبو بكر بن خلاد، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فقال: «لو عرسنا» [29] فمال إلى شجرة فنزل فقال: «احفظوا علينا صلاتنا». فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فانتبهنا.
30
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن أبي رجاء، حدثنا عمران بن حصين قال: كنا في سفر مع رسول الله ﷺ فسرنا ليلة حتى إذا كان في آخر الليلة قبيل الصبح وقعنا تلك الوقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ بلال، ثم فلان، ثم عمر، «وكان رسول الله ﷺ إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو الذي يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه».
فإن عاد إلى الاحتجاج بأحاديث الروافض أن النبي ﷺ قال لعلي: «أنت خيرهم وأفضلهم وأنت الخليفة من بعدي»، وفيما معناه. قيل له: كذلك روي عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له: «يكون في آخر الزمان قوم ينتحلون حبك يقال لهم الرافضة فاقتلوهم فإنهم مشركون». وفي هذا نظائر، غير أنا لا نحتج بمثلها.
ولقد عارض هذه الأخبار أخبار تضادها واهية كما روي عن النبي ﷺ أنه قال: «أبو بكر خير خلق الله». فإن أبيتم قبول هذا الخبر، فكذلك لا نقبل من أخباركم ما يضاد هذا. فالرجوع حينئذ إلى ما اجتمعت عليه الأمة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام وذلك صحيح ما روي عنه من الأخبار الثابتة التي قبلها العلماء ولا دافع لها.
فإن احتج بقوله إن النبي ﷺ آخى بين الصحابة فاختار عليا فقال له: «أنت أخي في الدنيا والآخرة». [30] قيل له: هذه الفضيلة لا توجب الخلافة، ولو كانت هذه توجب الخلافة لكانت من له الأبوة أخص وأوجب، وقد قال ذلك للعباس، فقال: «هو أبي». والأب أقرب من الأخ مع أن لفظة الأخوة مشتركة شاركه فيها أبو بكر وغيره، ولفظة الأبوة مخصوصة للعباس.
31
حدثنا أبو بكر بن أحمد بن القاسم بن حنين، حدثنا أبو القاسم، حدثني أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، حدثني عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله ﷺ «احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي، وإن عم الرجل صنو أبيه» [31]
وأما قوله لأبي بكر رضي الله عنه أخي، فهو:
31 – ما حدثنا علي بن أحمد المنذري، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا أزهر بن جميل حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة عن إسماعيل بن رجاء، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن رسول الله ﷺ: «لو اتخذت خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا»
32
حدثنا أبو إسحاق بن حمزة، حدثنا محمد بن محمد بن عقبة، حدثنا محمد بن طريف، ثنا زياد بن الحسن بن فرات القزاز، عن جده فرات، عن سعيد بن جبير، قال: كتب ابن عقبة إلى عبد الله بن الزبير في الجد، فقرأت كتابه إليه: أن رسول الله ﷺ قال: «لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي في الدين وصاحبي في الغار» فإن أبا بكر كان ينزله بمنزلة الوالد. فإن أحق ما اقتدينا به قول أبي بكر رضي الله عنه.
فإن احتج بقوله ﷺ لعلي: «إنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق». قلنا: هكذا نقول وهذه من أشهر الفضائل وأبين المناقب، ولا يبغضه إلا منافق ولا يحبه إلا مؤمن، ولو أوجب هذا الخبر الخلافة لوجبت إذًا الخلافة للأنصار؛ لأنه قال مثله في الأنصار وهو:
33
ما حدثناه فاروق الخطابي، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا الحجاج بن المنهال، حدثنا شعبة، أخبرني عدي بن ثابت، سمعت البراء، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول للأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله»
34
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو إدريس بن جعفر العطار، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا يحيى بن سعيد بن إبراهيم، عن الحكم بن ميناء، عن يزيد بن جارية الأنصاري، قال: كنا جلوسا حول سرير معاوية فخرج علينا فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله». وذكر فيه كلاما.
فإن احتج بشجاعته رضوان الله عليه، وأنه كان من أشد القوم بأسا وأربطهم جأشا. قيل له: الشجاعة وإن حيز بها الفضل فليست حجة لاستحقاق الخلافة، فلقد كان في الأنصار من الشجعان والأبطال غير واحد، منهم: أبو دجانة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، والبراء بن مالك، وغيرهم في إخوانهم المهاجرين منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الذي بلغ من نكايته يوم بدر فيهم أنه سمي الجزار، ولطلحة والزبير بن العوام في كل موطن، وحمزة أسد الله، وخالد بن الوليد سيف الله، كل أولئك لهم مواقف مذكورة ومشاهد مشهورة وأيام معروفة. فأما يوم أبي دجانة فما:
35
حدثناه سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على فاطمة يوم أحد، فقال: خذي عني هذا السيف غير ذميم، فقال النبي ﷺ: «لئن كنت أحسنت القتال لقد أحسنه سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة»
36
حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، ثنا عبد الله بن أحمد الدورقي، ثنا أحمد بن جميل المروزي، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول يومئذ، يعني يوم أحد: «أوجب طلحة»
37
حدثنا فاروق الخطابي، ثنا أبو مسلم الكجي، ثنا حجاج، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن النبي ﷺ أخذ سيفه وأصحابه حوله فقال: «من يأخذ هذا السيف؟» فبسطوا أيديهم يقول هذا: أنا، وهذا: أنا، فقال: «من يأخذه بحقه؟» قال: فأحجم القوم. فقال سماك أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه رسول الله ﷺ ففلق به هام المشركين. [32]
38
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: استلقى البراء بن مالك على ظهره ثم ترنم، فقال له أنس: اذكر الله، أي أخي. فاستوى جالسا فقال: «أي أنس تراني أموت على فراشي وقد قتلت مائة من المشركين مبارزة سوى من شاركت في قتله». حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبدالرزاق، عن معمر، عن أيوب.
39
حدثنا فاروق الخطابي ثنا أبو مسلم الكجي، ثنا حجاج، ثنا حماد، عن ثابت: أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، فقال عن أول مشهد شهده النبي ﷺ: لئن أراني الله قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول الله ﷺ. أقبل فرأى سعد بن معاذ منهزما، فقال: أبا عمرو وأين أين؟ والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، قال: فقاتل حتى قتل. فقال سعد: يا رسول الله ما أطقت ما أطاق، فقالت أخته: والله ما عرفت أخي إلا ببنانه، وكان خشن البنان، فوجد فيه بضع وثمانون ضربة بسيف، وطعنة برمح ورمية، فأنزل الله تبارك وتعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}» الآية. [33]
فهؤلاء وأشباههم ممن لم نذكرهم من أهل الشجاعة والنجدة. فإذا شركه في الشجاعة جماعة فليس أحد أولى بالفضل من الآخر. من أن الذي ذكرته لعلي رضي الله عنه من الفضائل مقبول، وما أسندته من المناقب والفضائل مما لم نذكرها أكثر وأوفر منها، اختص بها دون كل أحد، ومنها ما شورك فيها. وأما الخصلة التي اختص بها الصديق أبو بكر رضي الله عنه ما يشركه فيها أحد. فمن ذلك قوله ﷺ: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» رضي الله عنه وأرضاه.
40
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا محمد بن أبان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها وصلى الله على بعلها [34] ونبيها- قالت: قال رسول الله ﷺ في مرضه الذي مات فيه: «ادعوا لي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أكتب كتابا لا يختلف بعدي». ثم قال: «دعه معاذ أن يختلف المؤمنون في أبي بكر».
41
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ومحمد بن إبراهيم، قالا: ثنا أبو يعلى، حدثنا أبو خيثمة، ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها، وصلى الله على بعلها ونبيها- قالت: دخل رسول الله ﷺ في اليوم الذي بدئ فيه فقال: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا؛ فإني أخاف أن يقول قائل أو يتمنى متمن، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» رضي الله عنه.
ومنها: أنه قدمه في حياته في الصلاة، وأقامه مقام نفسه وهو يرى مكانه:
42
حدثنا أبو بحر بن محمد بن الحسن، ثنا إسماعيل القاضي، ثنا علي بن عبد الله، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن ابن شهاب؛
ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا أبو شعيب الحراني، ثنا أبو جعفر النفيلي، ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، حدثني ابن شهاب الزهري: حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب، قال: لما استعز [35] برسول الله ﷺ وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: «مروا من يصلي بالناس» فخرجت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الناس، وكان أبو بكر رضي الله عنه غائبا فقلت: يا عمر، قم فصل بالناس، فقام، فلما كبر سمع رسول الله ﷺ صوته. وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلا جهيرا. فقال رسول الله ﷺ: «فأين أبو بكر، يأبى الله والمؤمنون ذلك». فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس. قال عبد الله بن زمعة: فقال عمر: ويحك ماذا صنعت بي يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله ﷺ أمر بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. قلت: والله ما أمرني رسول الله ﷺ ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر للصلاة بالناس.
ومنها قوله ﷺ: «يأبى الله والناس إلا أبا بكر». وقوله عليه السلام: «إن أمنّ الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر» رضي الله عنه:
43
حدثنا ابن السندي، ثنا محمد بن العباس، ثنا سريج بن النعمان، ثنا فليح، عن أبي النضر، عن عبد الله بن حنين، عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ خطب بالناس فقال: «إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من الناس لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة في الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر»
44
حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسين، ثنا أبو سعيد الحراني، حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، قال: ثنا جندب أنه سمع رسول الله ﷺ قبل موته بخمس يقول: «قد كان لي فيكم خليل، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا».
ومنها قوله ﷺ للمستمنحة لما قالت: إن جئت فلم أجدك؟ قال لها: «إن جئت فلم تجديني فأتي أبا بكر» رضي الله عنه.
45
حدثنا حبيب بن الحسن، ثنا عمر بن حفص، ثنا عاصم بن علي، ثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: أن امرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ تسأله حاجة، فقال لها: «ترجعين» فقالت له: يا رسول الله إن رجعت فلم أجدك. قال: «إن رجعت فلم تجديني -يعني الموت- ائتي أبا بكر» رضي الله عنه.
ومنها قوله ﷺ: «لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدمهم غيره»:
46
حدثنا محمد بن جعفر، وعبد الله بن محمد بن الحجاج، قالا: ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا أحمد بن منيع، ثنا يزيد بن هارون، ثنا عيسى بن ميمون، ثنا الهيثم، عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها، وصلى الله على بعلها ونبيها- قالت: خرج رسول الله ﷺ إلى الأنصار ليصلح بينهم فحضرت العصر، فقال بلال لأبي بكر رضي الله عنه: قد حضرت الصلاة وليس رسول الله ﷺ شاهدا، هل لك أن أؤذن وأقيم وتصلي بالناس. قال: إن شئت. فأذن بلال وأقام وتقدم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فصلى بالناس، فجاء رسول الله ﷺ بعدما فرغ فقال: «أصليتم؟» قالوا: نعم. قال: «ومن صلى بكم؟» قالوا: أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال: «أحسنتم، لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر -رضي الله عنه- أن يؤمهم أحد غيره». رواه أحمد بن بشير الكوفي عن عيسى بن ميمون.
47
حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، ثنا الحسين بن سفيان، ثنا نصر بن عبد الرحمن الوشاء، ثنا أحمد بن بشير، عن عيسى بن ميمون، عن القاسم بن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها- قالت: قال رسول الله ﷺ: «لا ينبغي لقوم يكون بينهم أبو بكر أن يؤمهم غيره»
ومنها قوله ﷺ: «اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر» رضي الله عنهم أجمعين:
48
حدثنا عبد الله بن الحسين بن بندار، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا قبيصة بن عقبة، ثنا سفيان، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن مولى الربعي، عن الربعي، عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: «اقتدوا بالذين من بعدي». يشير إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما. ورواه إبراهيم بن سعيد، عن سفيان، عن عبد الملك، عن هلال مولى الربعي، عن حذيفة، عن النبي ﷺ نحوه، ثنا عبد الله، ثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا ابن كاسب، حدثنا إبراهيم به.
ومنها قوله ﷺ: «إن يطع الناس أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- يرشدوا»
49
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فقال: «إنكم إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا». فانطلق سرعان الناس يريدون الماء ولزمت رسول الله ﷺ تلك الليلة، فمالت برسول الله ﷺ راحلته فنعس. فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس، فقال: «أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم، فقال بعضهم: إن نبي الله ﷺ بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقالا: أيها الناس إن رسول الله ﷺ لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا» قالها ثلاثا.
وللصديق رضي الله عنه مناقب مشهورة وفضائل معدودة، واكتفينا ها هنا منها بهذا القدر لأن الذي أجمعت عليه الأمة وأفاضل الصحابة من المهاجرين والأنصار من تفضيله وتقديمه يغني عن إيراد كثير من الروايات في شأنه. ولعمري فإن الأمة المختارة المشهودة بأنها خير الأمم لا تجتمع إلا على حق وهدى.
فإن اعترض المخالف بما قاله بعض فتيان الأنصار وأحداثهم، وقولهم: منا أمير ومنكم أمير. قيل له: هذه مقالة من لا علم له منهم من شبابهم وإخوانهم، إذ لا خلاف بين المسلمين أن الخلافة في قريش والأئمة منهم. ألا ترى كيف أذعنوا وانقادوا لما ذكر لهم الصديق أن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، الذين هم أوسط العرب نسبا ودارا، فأسرعوا إلى البيعة وكفوا عما اجتمعوا له وولوا الأمر أهله وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوزارة والنصرة في حياته ﷺ طائعين مطيعين مبايعين له مقرين بفضله وقدره.
50
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا عبد الرحمن بن جابر الحمصي، ثنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة، حدثني أبي، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين»
51
حدثنا حبيب بن الحسن، وفاروق الخطابي، قالا: ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «الناس تبع لقريش في الخير والشر»
52
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا أبو حصين الوادعي، ثنا أحمد بن يونس، ثنا عاصم بن محمد بن زيد، قال: سمعت أبي يقول: قال عبد الله بن عمر؛ وثنا علي بن الجعد، وثنا محمد بن أحمد، ثنا عبد الله بن محمد البغوي، ثنا علي بن الجعد، ثنا عاصم، قال: سمعت أبي يقول: قال عبد الله: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان» ويقول بأصبعه هكذا اثنان.
ولو كانت الإمامة في غير قريش جائزة مع ما أخبر به النبي ﷺ أنه لا يتقدمهم أحد من غيرهم لكان قول حباب بن المنذر حين قال: "أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير" محمولا على أن أهل الإسلام طرا قد أجمعوا على أنه لا يجوز كون خليفتين في عهد واحد ولا على قوم. وكان ذلك مما أنكره غير المسلمين؛ لأن فيما سلف من الأمم من العرب والعجم لم يكن قط أميران ولا خليفتان في عهد واحد. وكيف يلجأ إليه المهاجرون والأنصار لقوله: أنا جذيلها المحكك، -وهو ما تلجأ إليه الإبل إذا ذهبت بالقطران تحتك لحاجتها إليه؛ إذ لا غنى لها عنه. والعذق المرجب: المعظم- وإن كانت في الأخبار لهم فضل وسيادة فلا يكون قول عاقل منهم حجة؛ ألا ترى كيف عدلوا عن قول الحباب بن المنذر وتركوه دبر آذانهم وعقدوا في مشهدهم ذلك بيعة الصديق رضي الله عنه عن رضى منهم واختيار.
فإن عاد إلى الاحتجاج بقول عمر رضي الله عنه: "إن بيعة أبي بكر رضي الله عنه كانت فلتة، ولكن الله تعالى وقى شرها". قيل له: هذا القول منه لم يكن توهينا لأمره وبيعته، ألا ترى قول عمر حيث قال: «ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر». وقال: «لأن أقدم فيضرب عنقي في غير ما يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر». وقوله: «وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من بيعة أبي بكر» رضي الله عنه. وإنما عنى عمر رضي الله عنه بقوله: كانت فلتة، أن اجتماع الأنصار في السقيفة عن غير ميعاد من المهاجرين وإعلام لهم كانت فلتة خوفا أن يبرموا ولا يتابعونهم عليه فيوجب الإنكار عليهم والمقاتلة لهم إن امتنعوا فوقى الله شر القتال والإنكار، فإنما خرج هذا من عمر رضي الله عنه على وجه الإنكار على من قال هذا القول: إن بيعته كانت فلتة، لا على وجه رأي الإخبار به أصلا.
فإن قال: إنما بايع الصديق رضي الله عنه رجل واحد، هو أن عمر قال له: ابسط يدك أبايعك. قيل: ما يفعل ذلك عمر رضي الله عنه إلا لعلمه برضى المسلمين واجتماعهم عليه وتسليمهم لما يراه ويفعله، وأنهم عهدوا منه التوثيق والنصيحة ومتابعة الحق وأن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه مع ما أعلمهم النبي ﷺ أنهم إن يطيعوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يرشدوا، وأن يقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما. في نظائر لذلك مما قد سمعوه يقوله واستقر ذلك عندهم.
فإن احتج بما رواه الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن أبيها: أن عليا تخلف عن بيعة أبي بكر. قيل: إنما روي أنه تخلف ستة أشهر ثم بايع. ولا يَعدُ تخلفه عن بيعته أحد أمرين: إما أنه كان مأمورا بذلك وهو الحق فلم يسعه مبايعته، وهو أفضل من أن يظن به أنه كان مأمورا ثم ترك أمر النبي ﷺ في ذلك؛ أو تخلفه عن رأي رآه من عند نفسه ثم رأى بعد ذلك أن الحق والصواب في مبايعته، وهذا أولى به وأليق بدينه وعلمه رضي الله عنه. و
يقال له: إن احتجاجك بتخلف علي رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه لمبايعة رجلين له وهما عمر وأبو عبيدة راجع عليك فيما تحتج به من عقد خلافة علي رضي الله عنه حين بويع. وذلك أن الذي سبق إلى بيعة علي رضي الله عنه عمار بن ياسر وسهل بن حنيف، وهما وإن كانا فاضلين كبيرين فلا يوازنان بعمر وأبي عبيدة في الفضل. فلئن جاز لك أن تحتج بتخلف علي عن بيعة أبي بكر رضي الله عنهما وتمنعه لانعقاد بيعته برجلين ثم تابعهما الجم الغفير من المهاجرين والأنصار ولم يتخلفوا عليه، لجاز لمن يطعن على خلافة علي رضي الله عنه أن يحتج بمثله ويقول: إنما سبق إلى بيعته رجلان ثم لم يتابعا عليه، بل اختلفوا عليه. مع أنه كان بالمدينة يوم سبق عمار بن ياسر وسهل بن حنيف إلى مبايعته من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل الشورى غير واحد مثل: سعد بن أبي وقاص وطلحة، والزبير وسعيد بن زيد، ومن الأنصار، مثل: أبي طلحة وأبي أيوب وأبي مسعود، وغيرهم من أصحاب رسول الله ﷺ، فلم يروا أن عقد عمار وسهل يوجب عليهم البيعة لأحد إلا بعد اختيار وتشاور واجتماع المسلمين، لا يسعهم أن يتخلفوا عنه إذا وجدوا شرائط الخلافة لمتابعة غيرهم إلى البيعة، وإنما بايعوا عن علم ورأي واختيار ومشورة واستحقاق من بايعوا لهم.
وإن سوغت لعلي رضي الله عنه القعود عن بيعة من بايعه مائة ألف من المهاجرين والأنصار والمسلمين طرا، [36] فسوغ لمن طعن من المارقة الخوارج على خلافته بالتخلف عنه إذا احتج بأن عقد بيعته انعقدت برجلين عمار وسهل؛ وهذا ما لا يقوله ذو عقل ودين.
فإن قال: فلم جاز للستة أن يعقدوا على واحد منهم ولا يجوز لاثنين؟ قيل: لما أبان الله تعالى للستة من الخصال الحميدة والمرتبة الرفيعة، وأنه لو كان لِما اجتمعوا عليه ما يوجب الإنكار لما سلّم المسلمون ذلك لهم ولأسرعوا الإنكار على من جعل الأمر إلى الستة، ولكان علي رضي الله عنه الذي كان أحد الستة امتنع من ذلك وأخرج نفسه من ذلك وتبرأ منهم وأظهر النكير عليهم، بل سلّم علي رضي الله عنه ذلك من غير تقية كانت عليه وبايع وأمضاه، فتبعتهم كافة المسلمين على ذلك ورضوا بهم.
فإن عارض بقول أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: وليتكم ولست بخيركم. قيل: إنما حمله على هذا الكلام التواضع والإزراء على نفسه وإزالة العجب عنه. وليس منهم أحد إلا وقد قال مثله وأعظم منه في حال الإزراء على النفس والخوف عليها، وذلك سجية أهل الخوف والتقى، لا يركنون إلى شيء من أعمالهم وأحوالهم بل يلزمون أنفسهم الذلة والتواضع. ومثل ذلك قوله ﷺ: «لا تخيروني على الأنبياء» و «لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى». وكقوله: «رحم الله أخي يوسف لو لبثت في السجن ثم جاءني الداعي لأسرعت». وكقوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم». كل ذلك إنما قاله ﷺ ليقتدي به المؤمنون ولا يرفعون من أنفسهم بل يلزمون التواضع والإزراء.
ولقد قال الحسين رحمه الله: ما خلق الله بعد النبيين أفضل من أبي بكر رضي الله عنه. فقيل: ولا من آل فرعون؟ فقال: ولا من آل فرعون. ولقد ثبت عن غير واحد من كبار الصحابة أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، في آخرين.
53
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأخيرة حين جلس على منبر رسول الله ﷺ قال: «إن أبا بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله ﷺ وثاني اثنين وأولى الناس بأموركم، فبايعوه» وكانت طائفة منهم بايعوا قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر.
54
حدثنا محمد بن المظفر، ثنا محمد بن محمد بن سليمان، ثنا يوسف بن واضح، ثنا خالد بن الحارث، ثنا شعبة بن حصين، قال: سمعت ابن أبي ليلى، يحدث أنهم تذاكروا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال رجل من عطارد: عمر خيرهما، قال: فقال الجارود: أبو بكر خير، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه. قال: فأقبل على الآخر فضربه، ثم أقبل على الجارود فقال: «إليك عني»، وقال: «إن أبا بكر كان خير الناس بعد رسول الله ﷺ في كذا في كذا في كذا ثلاثا، فمن قال غير ذلك حل عليه ما حل على المفتري»
55
حدثنا محمد بن علي بن حبيش، ثنا موسى بن هارون، ثنا سليمان بن آدم، ثنا بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير: أن نفرا قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما رأينا رجلا أفضل بالقسط ولا أقول بالحق ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، وأنت خير الناس بعد رسول الله ﷺ. فقال عوف بن مالك: كذبتم والله لقد رأينا خيرا منه بعد رسول الله ﷺ. فأقبل عليه عمر فقال: «من تعني يا عوف؟» فقال: أبو بكر رضي الله عنه. فقال: «صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك وإني لمثل بعيري»
56
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا أبو النضر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت عبد الله بن سلمة قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: «ألا أخبركم بخير الناس بعد رسول الله ﷺ، أبو بكر وبعده عمر رضي الله عنهما»
57
حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مخلد، ثنا أحمد بن إسحاق الوراق، ثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن الحكم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ: «ألا أخبركم بخير الناس، أبو بكر ثم بعد أبي بكر عمر» رضي الله عنهما.
58
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا أحمد بن يونس، ثنا عبد الله بن داود الخريبي، ثنا هشام بن سعد، عن عمرو بن أسيد، عن ابن عمر، قال: «كنا نقول على عهد رسول الله ﷺ: خير الناس رسول الله ثم أبو بكر ثم عمر عليهم السلام»
59
حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن، وأحمد بن السندي في آخرين، قالوا: ثنا أبو مسلم الكجي، ثنا أبو عاصم، عن عمرو بن زيد، عن سالم، عن ابن عمر قال: «إنكم تعلمون أنا كنا نقول على عهد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم»
وأما سكوت من سكت عن ذكر عثمان رضي الله عنه فله معنى. وأما السنة فتقديم العشرة، ثم المهاجرين، ثم أهل بدر، ثم من أسلم قبل الفتح على مراتبهم ودرجاتهم.
ولما ذكرنا من قول عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم طرق كثيرة وأسانيد مستفيضة مشهورة وسكتنا عن ذكرها، وأجزى ما ذكرنا في غير هذا الموضع من كتابنا وما استفاض من إجماع الأمة ومتابعتهم الصديق رضي الله عنه وتقديمهم إياه على كل الصحابة بعد وفاة رسول الله ﷺ وهم متوافرون يغني عن الاحتجاج بالأخبار في أمره والتطويل في شأنه.
فإن احتج بأن مبايعة علي رضي الله عنه كانت عن تقية. قيل له: قد احتججت فيما سلف من كلامك أنه قعد عن بيعته ستة أشهر، فلو كانت على تقية لما أمهل ساعة فكيف وبقي ستة أشهر لم يلق بمكروه ولم يحمل على بيعته، فمن أي شيء كان يخاف، وهل بايع إلا لما ظهر له من الحق ووجبت عليه متابعة الحق ومفارقة رأيه الذي كان عليه قبل ذلك؟ فأي قبح أقبح مما نسبتم إليه أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه، إذ قلتم: إنه فارق الحق الذي كان عليه وتابع الباطل والجور خوفا من التقية، أليس كان عامة الصحابة من السابقين والمهاجرين والأنصار بالمدينة؟ أما كان فيهم واحد يقوم معه ويتبعه على رأيه؟ هذا يقتضي من قولكم ما تضمرونه من سوء الاعتقاد في الصحابة رضي الله عنهم. ففي ذلك يجوز ما طعن به الخوارج والمراق على تكفير أمير المؤمنين علي وعثمان رضي الله عنهما، وهذا ما لا يقوله ذو عقل ودين.
خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فإن اعترض المخالف فقال: لم يكن له أن يفوض أمر الخلافة إلى عمر دون المسلمين. قيل له: لما علم الصديق رضي الله عنه من فضل عمر رضي الله عنه ونصيحته وقوته على ما يقلده وما كان يعينه عليه في أيامه من المعونة الثاقبة، لم يكن يسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله تعالى أن يعدل هذا الأمر إلى غيره، ولما كان يعلم من شأن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يعرفون منه ما عرف ولا يشكل عليهم شيء من أمره، فوّض إليه ذلك فرضي المسلمون له ذلك وسلموه. ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولم يتابعوه كاتباعهم أبا بكر رضي الله عنه فيها، فرضى الله محله الاجتماع. وإن إمامته وخلافته تثبت على الوجه الذي تثبت للصديق، وإنما كان الدليل لهم على الأفضل والأكمل فتبعوه على ذلك مستسلمين له راضين به.
فإن عارض بأنه قد أنكر ذلك على أبي بكر رضي الله عنه. قيل له: من المنكر عليه؟ فإن قال: طلحة بن عبيد الله، واعتل بحديث زبيد اليامي. قيل له: زبيد لم يلق من الصحابة المتقدمين أحدا وأرسل هذا الحديث. ومن أسنده فلا يثبت، ولو ثبت لكان وجه الحديث ظاهرا، أن إنكاره ليس عن جهالة بفضله وكماله واستحقاقه، وإنما خاف خشونته وغلظته ولم يتهم قوته وأمانته.
60
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا خلاد بن يحيى، ثنا هارون بن أبي إبراهيم، عن عبد الله بن عبيد يعني ابن عمير قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: «إني كنت أخاف أن أفوتكم بنفسي قبل أن أعهد إليكم، وإني أمرت عليكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فاسمعوا له وأطيعوا» قال: فتخلف رجل من القوم قال: ما تقول لربك إذا لقيته وأنت تعلم من فظاظته وغلظته ما تعلم؟ قال: «بربي تخوفني أقول له: اللهم أمرت عليهم خير أهلك»
61
حدثنا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن علي، ثنا يزيد بن محمد الآبلي، عن يونس، عن ابن شهاب، أن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أخبره: أن أسماء بنت عميس وهي تحت أبي بكر رضي الله عنه قالت: دخل رجل من المهاجرين على أبي بكر حين اشتد به وجعه الذي توفي فيه فقال: يا أبا بكر أذكرك الله واليوم الآخر، فإنك قد استخلفت على الناس رجلا غليظا على الناس ولا سلطان له، وإن الله سائلك. قالت أسماء فقال أبو بكر رضي الله عنه: «أجلسوني» فأجلسناه، فقال: «هل تخوفونني بالله، وإني أقول لله: استخلفت عليهم - أظنه قال -: خير أهلك» رواه محمد بن إسحاق، عن الزهري، وسمى الرجل: طلحة بن عبيد الله.
فإن قال: لم لم يجعلها شورى؟ قيل له: إنما الشورى عند الاشتباه، وأما عند الإيضاح والبيان فلا معنى للشورى. ألا تراهم رضوا به وسلموه وهم متوافرون.
فإن قال: فإن استصلح عمر رضي الله عنه للخلافة لما بان به من آلات الخلافة، فما الذي يوجب تفضيله وتخييره وتقديمه؟ قيل له: اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فيه. فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فيه فما تقدم أنه قال: استخلفت عليهم خير أهلك. وأما قول علي رضي الله عنه فقوله: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. وقوله: ما أحد أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من عمر. وقول عائشة رضي الله عنها: كان والله أحوذيا نسيجا وحده. وقول عبد الله بن مسعود: كان أعلمنا بالله وأفهمنا في دين الله. ثم ما ثبت عن النبي ﷺ من تفخيمه وجلالته، وما ذكر من مناقبه في كمال علمه وتمام قوته وصائب إلهامه وفراسته، وما قرن بلسانه من السكينة، وغير ذلك من ورعه وخوفه وزهده، ورأفته بالمؤمنين وغلظته وفظاظته على المنافقين والكافرين، وأخذه بالحزم والحياطة وحسن الرعاية والسياسة وبسطه العدل، ولم يكن يأخذه في الله تعالى لومة لائم.
فإن زعم أن عليا رضي الله عنه كان أعلم منه. قيل له: من أين قلت ذلك؟ فإن قال: لأن رسول الله ﷺ قال: «أقضاكم علي». وأن عمر كان يشاوره في النوازل والحوادث. قيل له: أما الذي ذكرت من قوله ﷺ: «أقضاكم علي»، فلو ثبت لكان فيه لنا الحجة عليك. فإن قال: كيف؟ قيل: لأن في هذا الخبر: «أفرضكم زيد، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقرؤكم لكتاب الله تعالى أبي». فكيف يكون أعلم وغيره أفرض وأعلم بالحلال والحرام وأقرأ لكتاب الله تبارك وتعالى منه؟ هذا لا يحتج به من له عقل ونظر. مع أن الحديث الذي اعتللت به حديث غير ثابت، ويعارضه حديث ثابت عن النبي ﷺ:
62
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق السليخي، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد بن لبيد، قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو يحدث أصحابه وهو يقول: «كيف أنتم وقد ذهب أوان العلم؟». قال: قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب أوان العلم ونحن نقرأ القرآن ونعلمه أبناءنا إلى يوم القيامة؟ قال: فقال النبي ﷺ: «ثكلتك أمك يا ابن لبيد، قد كنت أراك من أفقه رجل بالمدينة، أوَليس اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ثم لا ينتفعون بها؟» ورواه الثوري عن منصور، عن سالم وشعبة، عن عمرو بن مرة، عن سالم.
فلو احتج بهذا الحديث أحد فقال: زياد بن لبيد أفقه أصحاب رسول الله ﷺ، وسلك مسلكا فيما احتججت به، ما كان حجتك عليه؟ وإنما وجه هذا الحديث عندنا أن زياد بن لبيد من فقهاء أهل المدينة وعلمائهم لا أنه أفقه رجل بها وأعلمه. ولو ثبت الحديث الذي اعتللت به كان وجهه مثله، ويقين ما تأولناه في حديث زياد بن لبيد:
63
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا بكر بن سهل، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي الدرداء، قال: كنا مع رسول الله ﷺ فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء». فقال زياد بن لبيد الأنصاري: وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنعرفنه نساءنا وأبناءنا؟ فقال: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم»
وهذا مثل قوله ﷺ: «ألا أخبركم بأفضل الأعمال». يريد: من أفضل الأعمال.
ذكر الأحاديث التي ذكرناها في تفضيل عمر رضي الله عنه وأرضاه
64
فمن ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا خلاد بن يحيى، ثنا فطر بن خليفة، عن عبد الرحمن بن ثابت القرشي، قال: لما حضر أبا بكر الموت قيل له: ما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر رضي الله عنه وقد عرفت شدته وغلظته وفظاظته؟ قال: «أبالله تخوفونني، أقول: يا رب استخلفت عليهم خير أهلك»
65
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أحمد بن يونس، ثنا أبو إسرائيل الملائي، عن الوليد بن العيزار، عن عمرو بن ميمون، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر، ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر»
66
حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، حدثني سويد بن سعيد، ثنا يونس بن أبي يعفور، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: كنت عند عمر رضي الله عنه وهو مسجى في ثوبه وقد قضى نحبه. فجاء علي رضي الله عنه وكشف الثوب وقال: «رحمة الله عليك أبا حفص فوالله ما بقي أحد بعد رسول الله ﷺ أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته منك» رواه أبو معشر المديني عن نافع عن ابن عمر.
67
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا الحسين بن حمزة، ثنا محمد بن العلاء، ثنا ابن المبارك، عن عمر بن سعيد بن أبي الحسين، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه قال: حين وضع عمر رضي الله عنه على سريره فتكنفه [37] الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه وأنا فيهم، فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي من ورائي، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي من أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كنت أسمع كثيرا رسول الله ﷺ يقول: «ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» وإن كنت لأظن أن يجعلك الله معهما.
68
حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد، ثنا محمد بن شعيب، ثنا عبد الرحمن بن سلمة الأشعري، ثنا بشار بن قيراط، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، قال: ذهب بي أبي إلى المسجد يوم الجمعة، فقال لي: هل لك يا بني أن تنظر إلى علي رضي الله عنه؟ فقلت: نعم، فقال: قم. فقمت فإذا أنا بشيخ أبيض الرأس واللحية قائم على المنبر له صلعة، فسمعته يقول: «خير هذه الأمة بعد نبيها ﷺ: أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما»
69
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا هارون بن سليمان الفراء، حدثني عمرو بن حريث، عن علي رضي الله عنه أنه كان قاعدا على المنبر فقال: «إن خير هذه الأمة بعد نبيها ﷺ أبو بكر ثم عمر، ولو شئت أن أذكر الثالث لذكرته»
وما قاله فيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
70
حدثنا محمد بن عمر بن سلمة، ثنا خالد بن غسان بن مالك، ثنا أبو عمر الحوضي، ثنا الحسن بن أبي جعفر، عن عاصم، عن زيد، عن عبد الله، قال: «إن كان إسلام عمر رضي الله عنه لفتحا، وإن كانت هجرته لنصرا»
71
حدثنا حبيب بن الحسن، ثنا إبراهيم بن عبد الله بن أيوب، ثنا سلمة بن حفص، ثنا عمر بن يحيى بن عمرو بن سلمة، عن أبيه، عن جده قال: قدم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكوفة فدخل المسجد فسأل عن محلة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فأرشدوه إليه، فسلم عليه ثم جلس فقال: يا أبا عبد الرحمن أخبرني عن الصراط المستقيم ما هو؟ فقال عبد الله بن مسعود: «هو والله الذي لا إله إلا هو ما كان عليه أبوك رحمه الله عز وجل»
72
حدثنا أحمد بن يعقوب بن المهرجان، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا أحمد بن يونس، عن نعيم بن يحيى السعيدي، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله قال: «لو وضع علم الناس في كفة ميزان وعلم عمر في كفة لرجح علم عمر رضي الله عنه بعلم الناس»
73
وحدثنا به إبراهيم، فقال: قد قال له أجود من ذلك قال: «إني لأحسب عمر حين مات ذهب بتسعة أعشار العلم»
74
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا أحمد بن يحيى، ثنا أحمد بن يونس، عن قيس، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، قال: أقرأني عمر رضي الله عنه كذا، وقال آخر: أقرأني أبو حكيم المزني كذا. فقال: «اقرأ كما أقرأك عمر، إن عمر رضي الله عنه كان حصنا حصينا للإسلام، الناس يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فأصبح الحصن قد انهدم والناس يخرجون منه ولا يدخلون»
75
حدثنا محمد بن علي بن جيش، حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه قال: «إن عمر رضي الله عنه كان حصنا حصينا يدخل الإسلام فيه ولا يخرج، فلما أصيب انثلم الحصن فالإسلام يخرج منه ولا يدخل فيه، وإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه»
76
حدثنا محمد بن المظفر، ثنا عبد الله بن زيدان، ثنا عبد العزيز بن محمد بن زنبعة، ثنا محمد بن بشر، ثنا سفيان بن سعيد، عن واصل الأحدب، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله بن مسعود: «ما رأيت عمر قط إلا وكأن بين عينيه ملكا يسدده»
77
حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا محمد بن الصباح، ثنا جرير، عن عبد الملك يعني ابن عمير، عن زيد بن وهب، قال: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كان -أي عمر- أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأتقانا لله، وإن أهل بيت لم تدخل عليهم مصيبة عمر رضي الله عنه لأهل بيت سوء»
ذكر دعوة النبي ﷺ بأن يعز الله تعالى الدين بإسلامه
78
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن العباس، ثنا عمر بن محمد بن الحسن بن الزبير، ثنا أبي، ثنا يحيى بن زكرياء، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أو بأبي جهل بن هشام». فجعل الله دعوة رسوله لعمر رضي الله عنه فبنى عليه ملك الدين وهدم به الأوثان.
79
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا عبد الله بن حفص الحزامي، ثنا أبو كريب، ثنا يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم أعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل بن هشام». فأصبح عمر بن الخطاب رضي الله عنه فغدا على رسول الله ﷺ فأسلم.
80
حدثنا سهل بن عبد الله، ثنا الحسين بن إسحاق القشيري، ثنا أبو علقمة، عن عبد الله بن عيسى الفروي، عن عبد الملك بن الماجشون، عن الزنجي بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، أن النبي ﷺ قال: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خاصة»
ذكر ما أخبر به النبي ﷺ من كمال دينه
81
حدثنا أبو بكر بن مالك، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، حدثني أبي، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد، ثنا أبي، عن صالح، قال ابن شهاب: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف: أنه سمع أبا سعيد يقول: قال رسول الله ﷺ: «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر علي عمر -رضي الله عنه- وعليه قميص يجره». فقالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين»
ذكر ما أخبر به النبي ﷺ من وفور علمه رضي الله عنه وأرضاه
82
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، ثنا يحيى بن بكير، حدثني الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بينا أنا نائم رأيت قدحا أتيت به فشربت منه لبنا حتى أني لأرى الري يجري في أظافري، ثم أعطيت فضله عمر بن الخطاب» رضي الله عنه، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «العلم»
ذكر ما أخبر به النبي ﷺ من قوته وجلده
83
حدثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا محمد بن سوار، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح، عن الأعرج، وغيره: أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «رأيت ابن أبي قحافة ينزع ذنوبا [38] أو ذنوبين وفي نزعه ضعف ويغفر الله له، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنزع فاستحالت غربا [39] فلم أر عبقريا [40] ينزع نزعه [41] حتى ضرب الناس بعطن [42]» ورواه الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ما ذكر ﷺ من فراسته وإصابته فيما يراه ويشرعه
84
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا إبراهيم بن سعيد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنه كان فيمن خلا من الأمم قبلكم أناس محدثون [43] وإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر بن الخطاب» رضي الله عنه.
ما ذكر ﷺ من رسوخ إيمانه زيادة لعلو شأنه
85
حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ ابن عمر، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «بينما رجل يسوق بقرة إذ أعيا فركبها فقالت: أنا لم أخلق لهذا إنما خلقت لحراثة الأرض». فقال من حول رسول الله ﷺ: سبحان الله، فقال رسول الله ﷺ: «فإني آمنت به أنا وأبو بكر وعمر» رضي الله عنهما، وليسا في المجلس. رواه الزهري والأعرج وسعيد بن إبراهيم، عن أبي سلمة مثله.
ما ذكر ﷺ من احتراز الشيطان منه وتباعده من الأباطيل
86
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا محمد بن جعفر، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن أبيه، قال: استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله ﷺ وعنده نساء يستكثرنه ويكلمنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر رضي الله عنه قمن يبتدرن الحجاب فقال رسول الله ﷺ: «: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك» وذكر كلاما غيره.
87
حدثنا الحسن بن محمد بن كيسان، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن الأسود بن سريع، قال: أتيت النبي ﷺ فقلت له: يا رسول الله، إني قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإياك. فقال: «إن ربك يحب الحمد». فجعلت أنشده، فاستأذن رجل طويل أصلع فقال لي رسول الله ﷺ: «اسكت». فدخل فتكلم ساعة، ثم خرج، فأنشدته، ثم جاء فسكتني النبي ﷺ، ثم خرج، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا، فقلت: يا رسول الله، من هذا الذي أسكتني له؟ فقال: «هذا عمر بن الخطاب، هذا رجل لا يحب الباطل»
ما ذكر جبريل ﷺ أن رضاه يثبت العدل وغضبه يفضي إلى العز
88
ثنا أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ، ثنا محمد بن إبراهيم بن زياد، ثنا عمر بن رافع، ثنا أبو الحجي، ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي ﷺ فقال: «اقرأ على عمر -رضي الله عنه- السلام وأعلمه أن رضاه عدل وغضبه عز»
89
حدثنا أبو بكر الآجري، ثنا محمد بن الحسين، ثنا جعفر بن محمد الفريابي، ثنا عبد السلام بن عبد الحميد، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه»
90
حدثنا محمد بن أحمد بن علي بن مخلد، ثنا محمد بن يونس، ثنا عثمان بن عمر، ثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال علي رضي الله عنه: «كنا نتحدث أن ملكا ينطق على لسان عمر رضي الله عنه». ورواه أبو جحيفة وزيد بن حبيش، عن همام، عن علي رضي الله عنه نحوه.
91
حدثنا حبيب بن الحسن، ثنا خليفة بن عمر، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، ثنا مجالد، عن الشعبي، عن قبيصة بن جابر قال: «صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أقرأ لكتاب الله تعالى ولا أفقه في دين الله ولا أحسن مداراة منه»
92
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن النضر، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن إسماعيل، عن قيس، عن عبد الله بن مسعود قال: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه»
93
حدثنا أحمد بن جعفر بن مسلم، ثنا يعقوب بن يوسف المطوعي، ثنا أبو عبد الرحمن الجعفي يعني عبد الله بن عمر بن أبان، ثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن، ثنا النضر بن عربي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «لما أسلم عمر رضي الله عنه قال المشركون: قد انتصف القوم منا»
94
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا أحمد بن يونس، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، أنبأنا عبد الواحد بن أبي عون، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، رضي الله عنها وعن أبيها، قالت: «ومن رأى ابن الخطاب رضي الله عنه عرف أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذيا نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها»
وقد كان علي رضي الله عنه يتابع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما يذهب إليه ويراه مع كثرة استشارته عليا، حتى قال علي رضي الله عنه: يشاورني عمر في كذا فرأيت كذا ورأى هو كذا، فلم أر إلا متابعة عمر. ولم يتابعه إلا لما عرف من الحق في متابعته لكثرة علمه وحسن نظره وإصابته فيما يشكل على غيره، علما منه بأن السكينة تنطق على لسانه وأنه المحدث الذي يلقي الحق في روعه ويجرى على لسانه.
وقد كان تكثر موافقته في حياة رسول الله ﷺ لما ينزل الله تعالى به القرآن. وذلك نحو ما:
95
حدثنا محمد بن علي بن مسلم، ثنا محمد بن يحيى بن المنذر، ثنا سعيد بن عامر، ثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنه قال: «وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر»
96
ومثل ما: حدثناه أبو حامد أحمد بن محمد بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا عبد الله، ثنا عبيدة بن الأسود الهمداني، عن مجالد، عن عامر، عن علي رضي الله عنه أنه قال: «إن في القرآن من كلام عمر رضي الله عنه كثيرا»
97
وحدثنا أبو حامد محمد بن إسحاق، ثنا سوار بن عبد الله بن سوار العنبري، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا خارجة بن عبد الله الأنصاري، عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنه: «ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه»
والذي قال عبد الله بن عمر تأكيدا لما يروى أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه.
98
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا عمرو بن أبي الطاهر، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا عبد الله بن عمر، عن جهم بن أبي الجهم، عن المسور بن مخرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر رضي الله عنه وقلبه»
فلم يزل أمره رضي الله عنه مستوثقا وعامة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين لرأيه متبعا، يشفي الله تعالى به صدور أوليائه ويغيظ به الكفار وأعداءه، إلى أن كرمه الله تعالى بالشهادة التي بشره بها رسول الله ﷺ، فجمع الرهط المرضيين الذين رفع الله أعلامهم فأمرهم بالشورى وأن يختاروا، والمسلمون بأجمعهم قد عرفوا فضل أهل الشورى وأنهم أعلام الدين ومصابيح الهدى، فلم ينكر ذلك أحد من رأيه وفعله، وقد كان بقي من أهل بدر والعقبة وجلة الصحابة العدد الكثير، فرضوا به وأمضوا أمره ومشورته رضي الله عنهم أجمعين.
خلافة الإمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه
فاجتمع أهل الشورى ونظروا فيما أمرهم الله به من التوفيق وأبدوا أحسن النظر والحياطة والنصيحة للمسلمين، وهم البقية من العشرة المشهود لهم بالجنة، واختاروا بعد التشاور والاجتهاد في نصيحة الأمة والحياطة لهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، لما خصه الله به من كمال الخصال الحميدة والسوابق الكريمة، وما عرفوا من علمه الغزير وحلمه الكبير. ولم يختلف على ما اختاروه وتشاوروا فيه أحد، ولا طعن فيما اتفقوا عليه طاعن. فأسرعوا إلى بيعته ولم يتخلف عن بيعته من تخلف عن أبي بكر ولا سخطها متسخط، بل اجتمعوا عليه راضين به محبين له.
فيقال لمن قدم عليا على عثمان أو وقف عند علي رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه: أليس العلة التي سلمت لأجلها تقدمة الشيخين هو ما بانا به من السوابق الشريفة من قدم الإسلام والهجرة والنصرة بالنفس والمال، ثم اجتماع الصحابة المرضية على بيعتهما وتقدمتهما، وكل تلك موجودة فيه ومعلومة منه، فما الذي أوجب التوقف فيه والتقدم عليه.
وإن طعن عليه بتغيبه عن بدر وعن بيعة الرضوان. قيل له: الغيبة التي يستحق بها المتغيب الطعن هو أن يقصد مخالفة الرسول ﷺ، لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ﷺ ومتابعته، ولولا طاعة الرسول ومتابعته لكان لكل من شهد بدرا من الكفار كان لهم الفضل والشرف. وإنما الطاعة التي بلغت بهم الفضيلة. وهو كان رضي الله عنه خرج فيمن خرج معه فرده الرسول ﷺ للقيام على ابنته، فكان في أجل فرض لطاعته لرسول الله ﷺ وتخليفه. وقد ضرب له بسهمه وأجره فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما.
99
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا عبد الله بن بكر السهمي، ثنا حميد، عن أنس بن مالك قال: رجع رسول الله ﷺ من غزاة تبوك فلما دنوا من المدينة قال: «إن بالمدينة لأقواما ما قطعتم من واد ولا سرتم من مسير إلا كانوا معكم فيه». قالوا: يا رسول الله، بالمدينة؟ قال: «نعم، خلّفهم العذر»
100
حدثنا فاروق الخطابي، ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا حجاج بن منهال، ثنا أبو عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من مصر حج البيت فقال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني، أنشدك الله بحرمة هذا البيت هل تعلم أن عثمان تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ فقال: نعم، ولكن أما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله ﷺ فمرضت فقال له رسول الله ﷺ: «لك أجر رجل شهد بدرا وسهمه».
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن النضر، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن شقيق بن سلمة، الحديث.
101
حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا ابن أبي شيبة، ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: «أما يوم بدر فقد تخلفت على بنت رسول الله ﷺ وقد ضرب رسول الله ﷺ لي فيها بسهم».
وقال زائدة في حديثه: «ومن ضرب له رسول الله ﷺ فيها بسهم فقد شهد»
وأما بيعة الرضوان فلأجل عثمان رضي الله عنه وقعت هذه المبايعة. وذلك أن النبي ﷺ بعثه رسولا إلى أهل مكة لما اختصَّ به من السؤدد والدين ووفور العشيرة، وأُخبر الرسول ﷺ بقتله فبايع رسول الله ﷺ بقتله، فبايع رسول الله ﷺ والمسلمون له على الموت ليواقعوا أهل مكة.
102
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر، ثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: «دعا النبي ﷺ عثمان فأرسله إلى أهل مكة فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لأبي عبد الله»
103
حدثنا محمد بن أحمد بن موسى الواسطي، ثنا جعفر بن أحمد بن سنان، ثنا العباس بن محمد، ثنا الحسن بن بشر، ثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس قال: لما أمر رسول الله ﷺ ببيعة الرضوان، كان عثمان رسول رسول الله ﷺ إلى أهل مكة، فبايع الناس، فقال رسول الله ﷺ: «إن عثمان في حاجة الله رسوله» فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله ﷺ لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم.
104
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا إبراهيم بن محمد، ثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن أبي حصين، عن سعد بن عبيدة قال: سأل رجل ابن عمر رضي الله عنه: أشهد عثمان بيعة الرضوان؟ قال: لا، وإن النبي ﷺ بعثه إلى الأحزاب ليوادعوه ويسالموه، وإن رسول الله ﷺ بايع له، فقال: «اللهم إني أبايعك لعثمان» ومسح إحدى يديه على الأخرى.
فإن احتج الطاعن بالوقوف في علي وعثمان رضي الله عنهما بما كان من عمر رضي الله عنه وأنه جعل الأمر شورى بينهم ورأى ذلك وقفا من عمر في عثمان وعلي رضي الله عنهم؛ عورض بأن الذي اعتللت به يوجب الوقف في علي وطلحة والزبير وسعد، فإنك إن احتججت بعمر لزمك فيما تخالفه من تقديم علي رضي الله عنه على غيره. مع أن الذي فعل عمر رضي الله عنه من الوقف محمول على أحسن الوجوه، وأنه أراد أن يجتهدوا ويتحروا في الأفضل لما كان يشاهد فيهم من آلات الخلافة، وأنهم هم الذين كانت الأعين ممدودة إليهم بالفضل والكمال. فأحب أن يجتهدوا ليكون المبايع له منهم أوكد أثرا وأوثق بيعة. واقتدى فيما فعل بالنبي ﷺ حين لم ينص على خلافة أبي بكر مع علمه بفضله واستحقاقه، بل دل على خلافة أبي بكر وتفضيله وسكت عن النص عليه. فإن زعم أن رسول الله ﷺ سكت عن النص على أبي بكر لجهل كان منه بمكانه فقد قال عظيما، وهو الذي يقول عليه السلام: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه»، وقوله للمرأة: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر». مع غيره من الأدلة والبيان في أمره. والدليل على أن عمر رضي الله عنه كان لا يخفى عليه أن المستخلف بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يأتي.
105
حدثنا محمد بن أحمد، ثنا محمد بن سهل، ثنا أبو مسعود، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: «حججت مع عمر أو في خلافة عمر فلم يشك أن الخليفة بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه»
106
حدثنا الحسين بن علان، ثنا أبو خليفة، ثنا أبو الوليد، ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، قال: إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته، فقال: من ترى قومك مؤمرون؟ قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى ابن عفان.
ويقال للطاعن: جعلت سكوت عمر رضي الله عنه في أمر عثمان حجة في الوقف في أمره؛ فهلا جعلت كلام غيره وقوله ومدحه فيه حجة له، مثل ما قال علي فيه:
107
حدثنا عمر بن محمد بن حاتم، حدثني محمد بن عبيد الله بن مرزوق، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة: أن عليا قال له: «يا مطرف أحب عثمان يمنعك من إتياننا؟ إن أحببته لقد كان أوصلنا للرحم»
108
حدثنا محمد بن أحمد، ثنا بشر بن موسى، ثنا خلاد بن يحيى، ثنا مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: خطبنا عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان فقال: «أمّرنا خير من بقي ولم نأل»
109
حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد، ثنا محمد بن إسحاق السراج، ثنا محمد بن الصباح، ثنا سفيان، ثنا مسعد، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، عن عبد الله بن مسعود، قال: «ما ألوناكم عن أعلاها فوقا أو ذي فوق»
110
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، ومحمد بن بشر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: سمعت عبد الله يقول حين بويع عثمان: «ما آلوناها عن أعلاها ذا قوة»
111
حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا الجوهري، ثنا عبد الله بن بكر، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنه عن علي رضي الله عنه: «عثمان كان خيرنا وأفقهنا»
فإن اعتل مقدم عليٍّ على عثمان رضي الله عنهما أو الواقف في أمرهما بأن أصحاب رسول الله ﷺ تكلموا في عثمان رضي الله عنه. قيل له: إن الاجتماع عليه بالفضيلة والمنقبة والسابقة فقد ثبت، ولا سبيل إلى إزالة ذلك إلا بمثله من الاجتماع. ويلزم من تكلم فيه بعد الاجتماع النقض حتى يأتي بحجة يقيم بها قوله ويثبته على غير معارضة ولا خلل.
فإن قال: المتكلم في أمره عبد الله بن مسعود، وأنه أنكر عليه في أمر المصاحف. قيل: عبد الله بن مسعود دونه في الفضل، وكيف يقبل قوله بغير حجة، وهو القائل في أمره حين بويع: أمرنا خير من بقي ولم نأل. ومع ذلك فلو أن الذي أنكر عليه عبد الله متوجه عليه لكان ذلك متوجها على من قبله، وذلك أن عبد الله اشتد عليه تولية زيد بن ثابت رضي الله عنه في أمر المصاحف وما استن عثمان رضي الله عنه في ذلك سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين أمرا زيد بن ثابت بنسخ المصاحف. وكان عبد الله يحضرهما. فلو كان الإنكار من عبد الله حقا لكان لمن ولاه قبل عثمان ألزم.
112
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، أخبرني عبيد بن السباق: أن زيد بن ثابت حدثه قال: أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة، وإذا عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: «أنت رجل عاقل قد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ لا نتهمك، اجمع القرآن»
113
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا محمد بن جعفر، ثنا محمد بن سعد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن مسعود قال: «يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتاب الله ويتولاه رجل، والله والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر» يريد زيد بن ثابت. قال ابن شهاب: فبلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجالٌ من أصحاب رسول الله ﷺ.
فإن اعتل بتوليته الوليد بن عقبة وأنه سكر فصلى الصبح أربعا، قيل له: وما على عثمان رضي الله عنه من فعل الوليد، فقد ولّى رسول الله ﷺ بعض الناس على الصدقة ففسق فأنزل الله تعالى فيه: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} الآية، فلا يلحقه في ذلك إلا ما لحق رسول الله ﷺ. ومن بعد رسول الله ﷺ ولى عمر بن الخطاب قدامة بن مظعون على البحرين فشرب الخمر متأولا فأمر عمر رضي الله عنه بحده. وقدامة من أولي السابقة والفضل من أهل بدر، فلم يلحق عمر من فعله شيء بعد أن حدّه، وكذلك عثمان رضي الله عنه قد أقام الحد على الوليد بن عقبة.
114
حدثنا فاروق الخطابي، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن المختار الدباغ، حدثنا عبد الله الداناج، حدثنا حضين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وأتي بالوليد بن عقبة قد صلى بأهل الكوفة الصبح أربعا وقال: أزيدكم، فشهد عليه حميران ورجل آخر، شهد أحدهما أنه رآه يشربها وشهد الآخر أنه رآه يقيئها، قال: فقال عثمان رضي الله عنه: «إنه لم يقئها حتى شربها» وقال عثمان لعلي رضي الله عنهما: «قم فاجلده» فقال علي رضي الله عنه لعبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد. فأخذ السوط فجعل يجلده وعلي عليه السلام يعده حتى بلغ أربعين. فقال: أمسك، فإن رسول الله ﷺ جلد أربعين، وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين، وكلٌّ سنة.
115
حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد، حدثنا أحمد بن مسرد ثنا محمد بن يحيى ثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، ثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أنه كلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: «وأما في شأن الوليد بن عقبة فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله» ثم دعا عليا رضي الله عنه فأمره أن يجلده فجلده.
وقد ولّى رسول الله ﷺ ابن اللتبية واستعمله على الصدقات، فجاء بمال سواد كثير لم يدفعه إلى رسول الله ﷺ وقال: هذا مما أهدي إلي، فعزله رسول الله ﷺ وأخذ ما معه. وولّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه المختار بن أبى المدائن فأتاه بِصرّة فقال: هذا من أجور المؤمنات. فقال علي رضي الله عنه: قاتله الله، لو شق عن قلبه لوجده ملآنا من حب اللاة والعزى. وهو أفسق من الوليد بن عقبة، فأخذ المال ولحق بمعاوية. وكان علي رضي الله عنه يظهر الجزع في بعض الأوقات مما يلقى من ولاية أصحابه وما كان يظهر له من عصيانهم وخلافهم، وكان يقول: ولّيت فلانا فأخذ المال، وولّيت فلانا فخانني، حتى لو وليت رجلا علاقة سوطي لما ردها إلي.
فإذا طعن على عثمان رضي الله عنه بما كان من عبد الله بن مسعود وأبي ذر من إتمام الصلاة بمنى وأنه صلاها أربعا. قيل له: كان إنكارهما خلاف الحق لما تابعاه ووافقاه، فقيل لهما في ذلك فقالا: الخلاف شر. وقد رأى جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر منهم: عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، وعثمان رضي الله عنه وسلمان رضي الله عنه، وأربعة عشر من أصحاب رسول الله ﷺ. وإن الذي حمل عثمان رضي الله عنه على الإتمام أنه بلغه أن قوما من الأعراب ممن شهدوا معه الصلاة بمني رجعوا إلى قومهم فقالوا: الصلاة ركعتان، كذلك صليناها مع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى. فلأجل ذلك صلى أربعا ليعلمهم ما يستنوا به للخلاف والاشتباه. وكذلك فعل عمر رضي الله عنه في أمر الحج، نهاهم عن التمتع وأن يجمعوا بين الحج والعمرة في أشهر الحج مع علمه ومشاهدته لرسول الله ﷺ أنه جمع بينهما. وكان ابنه عبد الله يخالفه ويقول: سنة رسول الله ﷺ أحق أن تتبع. وتابعه أبو موسى الأشعري وعامة الصحابة على ترك الجمع بين الحج والعمرة مع علمهم بفعل رسول الله ﷺ وإقامته على الإحرام حين دخل مكة معتمرا حتى فرغ من إقامة المناسك، ولم يعدوا ذلك خلافا من عمر رضي الله عنه ولم يظهروا إنكارا عليه، ولو كان ذلك موضع الإنكار لأنكروه ولما تابعوه على رأيه.
فإن عاد للطعن عليه بأنه أمر للناس بالعطاء من مال الصدقة وأن الناس أنكروه. قيل: عثمان أعلم ممن أَنكر عليه، وللأئمة إذا رأوا المصلحة للرعية في شيء أن يفعلوه، ولا يجعل إنكار من جهل المصلحة حجة على من عرفها، ولا يخلو زمان من قوم يجهلون وينكرون الحق من حيث لا يعرفون، ولا يلزم عثمان رضي الله عنه فيما أمر به إنكار لما رأى من المصلحة. فقد فرق رسول الله ﷺ غنائم حنين في المؤلفة قلوبهم يوم الجعرانة وترك الأنصار لما رأى من المصلحة، حتى قال قائلهم: تقسم غنائمنا في الناس وسيوفنا تقطر من دمائهم. فكان الذي دعاهم إلى الإنكار على ما فعل رسول الله ﷺ قلة معرفتهم بما رأى رسول الله ﷺ من المصلحة فيما قسم. وكان ذلك أعظم من إنكار من أنكر على عثمان رضي الله عنه؛ لأن مال المؤلفة من الغنيمة. فلا يلزم عثمان رضي الله عنه من إنكار من أنكر عليه شيئا إلا ما لزم رسول الله ﷺ حين رأى المصلحة فيما فعل اقتداء بنبيه ﷺ. فإن قال: قائل: إنما الذي أعطى رسول الله ﷺ من الخمس. قيل له: لو كان من الخمس لما أنكرت عليه الأنصار ذلك ولما قالت: غنائمنا، ولقال لهم رسول الله ﷺ: لم أنكرتم، إنما أعطيتهم من مال الله. ألا تراه ﷺ استمال بقلوبهم حين قال لهم: «ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون برسول الله -ﷺ- إلى بيوتكم؟» قالوا: رضينا.
116
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله أموال هوازن فطفق النبي ﷺ يعطي رجلا من قريش المائة من الإبل كل رجل منهم، فقالوا: غفر الله لرسول الله ﷺ يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحُدث رسول الله ﷺ بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله ﷺ فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقالت الأنصار: وأما ذوو آرائنا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا كذا وكذا للذي قالوا، فقال النبي ﷺ: «إنما أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم» وقال لهم: «أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله -ﷺ- إلى رحالكم، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون». قالوا: أجل يا رسول الله قد رضينا. فقال لهم رسول الله ﷺ: «إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله وإني فرطكم على الحوض». قال أنس: فلم يصبروا.
فإن طعن وقال: ضرب عمارا. قيل: له: هذا غير ثابت عنه، ولو ثبت ذلك فللأئمة أن يؤدبوا رعيتهم إذا رأوا واجبا لهم، فإن كان ذلك ظلما. [44] ألا ترى أن النبي ﷺ اقتص على نفسه وأقاد، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أدبا رعيتهما باللطم والدرة، فأقادا من نفسيهما. فما بال عثمان رضي الله عنه ينقم عليه ما لم ينقم على واحد منهم؟
117
حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة بن زاذان، عن زياد النميري، عن أنس قال: رأى رسول الله ﷺ على رجل ردعة من صفرة فهوى إلى بطنه بخشبة في يده فأصاب صدره فجرحه. فقال النبي ﷺ: «ما لأحد فضل على أحد» ثم رفع قميصه فقال: «تعال فاقتص»
118
حدثنا القاضي أبو أحمد إملاء، ثنا أحمد بن محمد بن عاصم، ثنا إسحاق بن راهويه، ثنا النضر بن شميل، عن ابن عوف، عن أبي هارون العبيدي، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رجل فيه ضعف يريد أن يكلم النبي ﷺ فيضعف أن يكلمه عند الناس فأخذ يوما بزمام ناقته فقال رسول الله ﷺ: «دعها» وأتى له بشيء كان معه فقال: «هأنا اقتص»
وروى شعبة، قال: أخبرني يحيى بن حصين، قال: سمعت طارق بن شهاب، يقول: أتى رجل أبا بكر رضي الله عنه يستحمله، قال: فلطمه أبو بكر رضي الله عنه، فقال الناس: ما رأينا كاليوم، ما رضي أن منعه حتى لطمه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: «أتاني يستحملني فحملته» فبلغني أنه تتبعه فقال له أبو بكر رضي الله عنه: «دونك فاقتص» فعفا عنه.
119
حدثنا محمد بن أحمد، ثنا محمد بن سهل، ثنا أبو مسعود، ثنا، أبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، أخبرني قيس بن أبي حازم قال: أخبرني المغيرة بن شعبة قال: كنت عند أبي بكر رضي الله عنه، فقال له رجل من الأنصار: أنا خير منك فارسا ومن أبيك. فغضبت لما قال ذلك لخليفة رسول الله ﷺ، فقمت إليه فأخذت برأسه فكببته على أنفه، فكأنما كان غرلا فرأيته فتواعدني الأنصار أن يستقيدوا مني، فقام أبو بكر رضي الله عنه خطيبا، فقال: «والله لئن أخرجهم من ديارهم أقرب من أن أقيدهم من ودعه الله الدين من يرغبون عن الله»
120
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا يوسف القاضي، ثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن المسيب، قال: خرجت جارية لسعد يقال لها: زيرا، وعليها قميص جديد، فكشفها الريح فشد عليها عمر رضي الله عنه بالدرة، وجاء سعد ليمنعه فتناوله بالدرة، فذهب سعد يدعو على عمر رضي الله عنه فناوله عمر الدرة وقال: «اقتص» فعفا عن عمر رضي الله عنه.
وقد ضرب أيضا أبي بن كعب ورأى جماعة تطوف عقبه فقال: إنه مذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
فإن قال: عثمان رضي الله عنه لم يقتص من نفسه. قيل له: كيف وقد بذل من نفسه ما لم يبذله أحد.
121
حدثنا أبو حامد أحمد بن سنان، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا سعيد بن يحيى، ثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: «هاتان رجلاي فإن وجدتم في كتاب الله أن تضعوهما في القيد فضعوهما»
122
حدثنا أبو يحيى محمد بن الحسين، ثنا محمد بن يونس، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أشرف علينا عثمان يوم الدار فقال: «يا قوم، إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في قيد فضعوها»
فإن زعم أن عثمان رضي الله عنه أعطى من بيت مالهم من لم يكن له فيه حق، قيل له: لم يثبت ذلك من وجه صحيح، بل قاله من قال ظنا، وكيف يقبل هذا على عثمان رضي الله عنه وهو من أكثر الناس مالا وأبذلهم وأكثرهم عطية ومعروفا. مع أن الأيام لا تخلو من جهال يقولون ما لا يعلمون.
123
حدثنا فاروق الخطابي، ثنا أبو مسلم الكجي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قسم رسول الله ﷺ يوما قسما، فقال له رجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، قال: فأتيت النبي ﷺ فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: «رحمنا الله وموسى قد أوذي بأكثر من ذلك فصبر»
124
حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب، ثنا إبراهيم بن سعدان، ثنا بكر بن بكار، ثنا عبد الحميد بن جعفر، ثنا عمران بن أبي المنذر، عن عمر بن الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رجلا انتهى إلى رسول الله ﷺ يوم حنين وهو يقسم تبرا فقال: يا محمد اعدل. قال: «ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟»
فرسول رب العالمين كان يلقى من الجهال بأمر الله هذا، ويضعون أمره وفعله على غير الوجه الذي وضعه؛ فكيف بعثمان بن عفان رضي الله عنه ومن دونه.
فإن زعم أنه ولّى رجالا لم يستحقوا الولاية وذكر: الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر وغيرهم. قيل له: فمن زعم أن هؤلاء لم يعدلوا؟ فإن ذكر ما تبين من فسق الوليد بن عقبة. قيل له: فمن أين كان فسق غيره؟ لئن جاز لكم ادعاء الفسق في ولاته ليجوزن ذلك لغيركم في عمر وعلي رضي الله عنهما. فقد ولى عمر المغيرة بن شعبة على البصرة فرمي بما لم يثبت، وولى أبا هريرة البحرين فقالوا: خان مال الله، وولى قدامة البحرين فشرب. وولى علي رضي الله عنه الأشتر وأمره ظاهر، وولى الأحنف فأخذ المال وهرب. فلم خصصتم عثمان رضي الله عنه بالإنكار وقد ولى كما ولى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، مع أن الرسول ﷺ قد ولى زيد بن حارثة فطعن بعض الناس في إمرته حتى قام خطيبا منكرا عليهم فيما طعنوا عليه وقالوا فيه وفي أسامة ابنه رضي الله عنهما.
125
حدثنا الحسين بن أحمد بن المخارق، ثنا الحسين بن حمزة، ثنا قتيبة بن سعيد، وإبراهيم بن يوسف، قالا: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ وبعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله ﷺ فقال: «إن كنتم تطعنون في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده»
وإنما سوغ الناس مقالتهم في عثمان للينه وحيائه فاجترءوا عليه، وكثر في أيامه من لم يصحب الرسول، وفُقد من عرف فضل الصحابة رضي الله عنه أجمعين.
فإن طعن المخالف بأن عثمان رضي الله عنه أخرج أبا ذر إلى الربذة. قيل له: لم يكن ذلك من عثمان نفيا، هو أعدل وأفضل من أن يفعل بالأفاضل من الصحابة ما لا يستحقون أو ينالهم بمكروه، وإنما كان هذا من عثمان تخييرا لأبي ذر رضي الله عنه لأنه كان كثير الخشونة، لم يكن يداري من الناس، وكان غيره يداري، فخيّره عثمان رضي الله عنه بعد أن استأذنه في الخروج من المدينة، فاختار الربذة ليتباعد نزوله عن الناس ومعاشرتهم. والدليل على ذلك:
126
ما حدثنا به أبو إسحاق بن حمزة، حدثني حامد بن شعيب، حدثنا سريج، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فقلت لأبي ذر رضي الله عنه: ما أنزلك هذا المنزل؟ فقال أخبرك: «إني كنت بالشام، فتذاكرت أنا ومعاوية هذه الآية: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} الآية، فقال معاوية: هذه نزلت في أهل الكتاب، وقلت أنا: هي فيهم وفينا. فكتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنه في ذلك، فكتب إلي أن أقدم علي. فقدمت عليه فانثال علي الناس كأنهم لم يعرفوني، فشكوت ذلك إلى عثمان رضي الله عنه فخيرني، فقال: انزل حيث شئت»
فأخبر أبو ذر عن نفسه أنه هو الذي اختار، واستأذنه في الخروج لما يلقى من الناس وانثيالهم عليه واجتماعهم عنده، وكان يخاف الافتتان بهم ويحذرهم.
وأما ما احتجوا به من حديث الشيعة الذي هو ضد حديث حصين، قيل: إن حديثكم لا يدفع من حديث حصين الثابت لما فيه من الاختلاف. فإن جعل إشخاص أبي ذر رضي الله عنه من الشام وحبسه بالمدينة طعنا على عثمان رضي الله عنه. قيل له: للأئمة إذا أحسوا باختلاف وفتنة أن يبادروا إلى حسمها وحبسها، وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحبس جماعة من الصحابة عنده بالمدينة ومنعهم من الخروج من المدينة، ومنعهم أيضا أشياء كانت لهم مباحة من الملابس وغيرها خوفا أن يتأسى من لا علم له ولا ورع فيهم بذلك على ما ليس له أن يتناوله. والدليل على ما ذكرنا:
127
ما حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه؛ وثنا محمد بن المظفر، ثنا محمد بن صالح، ثنا إسحاق بن موسى، ثنا معمر بن عيسى، ثنا مالك، عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعبد الله بن مسعود ولأبي ذر ولأبي الدرداء: «ما هذا الحديث عن رسول الله ﷺ» قال: وأحسبه لم يدعهم يخرجون من المدينة حتى مات.
وقال مالك: حبس أبا هريرة وأبا ذر وابن مسعود وغيرهم حتى قتل، وقال: «ما هذه الأحاديث التي تحدثونها عن رسول الله ﷺ»
128
حدثني سليمان بن أحمد، ثنا يوسف بن يزيد، ثنا أسد بن موسى، ثنا معاوية بن صالح، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر اليحصبي قال: سمعت معاوية على المنبر بدمشق يقول: «أيها الناس إياكم وأحاديث رسول الله ﷺ إلا حديثا كان يذكر على عهد عمر رضي الله عنه فإن عمر رضي الله عنه كان رجلا يخيف الناس في الله»
فإن احتجوا بما روى الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة أنه قال: «لا يلي بعد عمر رضي الله عنه إلا أصعر أبتر يولي الحق استه»، قيل لهم: إنما تطعنون بهذا على علي وعثمان رضي الله عنهما، مع أن الذي رواه شعبة يخالفه وهو أثبت من الأعمش، وقد يدلس الأعمش في أشياء ... شعبة عنه، وهو ما:
129
حدثنا أبو حاتم أحمد بن محمد بن سنان، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا أبو قدامة عبيد الله بن سعيد، ثنا عبد الرحمن، حدثني شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه قال حذيفة: «لن تروا بعده إلا أصعر وأبتر وعلى الآخر فالآخر شر»
مع أن قول حذيفة لا يوجب حجة إلا أن يسنده عن رسول الله ﷺ، فأما إذا قال من ذاته فهو رأي يخطئ فيه ويصيب ـ
فإذا احتجوا برواية الروافض وعلمائهم أن حذيفة وعمارا رضي الله عنهما روي عنهما أنهما قالا: قتلناه كافرا. وأن طلحة كان فيمن حصره، وأن عليا أعان على قتله، وما لا حجة فيه وأن الناس خذلوه وأسلموه وغير ذلك من حماقات الروافض عليهم لعنة الله والملائكة. قيل لهم: إن زعمتم أن عثمان كفر، فإن قالوا: لا، قيل لهم: فقد بان خطأ من قال: كافر فلا حجة في قول من تحمله الحمية والغضب على القول بما غيره أولى منه به، مع أن قول حذيفة لا يخلو من أحد شيئين إن كان قاله: إما كان مصيبا فيما قاله أو مخطئا، فإن أصاب فلا بد أن تطلقوا القول بتكفير عثمان رضي الله عنه، أو تخطئوه فيما قاله إن قاله فلا تحتجوا به. ولو قبلنا قول من يتكلم في حال غضب ويقول عن موجدة وحمية ورددنا به ما ثبت من الفضل والكمال والسابقة لعثمان رضي الله عنه واجتماع المسلمين عليه واختيارهم له كان ذلك مؤديا إلى إزالة الفضل وسقوط المرتبة لكل من تقدمه وتأخره من الصحابة، إذ لم يسلم واحد منهم من معاتب وواجد عليه. وقد قيل: ولو أن امرأ كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا، ولن تعدم الحسناء ذاما. والدليل على أن ما روي عن حذيفة كان محمولا ما ذكرناه:
130
ما حدثناه أبو بكر بن أحمد بن جعفر بن حمدان، ثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثنا مسدد، ثنا أبو الأحوص، ثنا أبو إسحاق، عن أبي المغيرة، عن حذيفة قال: شكوت إلى رسول الله ﷺ ذرب لساني فقال: «أين أنت من الاستغفار، إني لأستغفر الله تعالى كل يوم مائة مرة»
131
وأما قول طلحة رضي الله عنه: فحدثنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب، ثنا محمد بن إسحاق السراج، ثنا محمد بن الصباح، أخبرنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: قال طلحة يوم الجمل: «اللهم إن كنا أدهنا في أمر عثمان رضي الله عنه وإنا لا نجد من الممانعة، اللهم فخذ لعثمان مني حتى يرضى»
132
فأما قول علي رضي الله عنه فيه وفي قتله: فحدثنا سليمان بن أحمد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم، ثنا حماد بن زيد، حدثنا مجالد بن سعيد، عن عمير بن زودي، قال: خطبنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقطعوا عليه خطبته فقال: ألا إنما وليت يوم قتل عثمان رضي الله عنه ثم ضرب لهم مثلا في الأثوار والأسد اجتمعوا في أجمة.
133
حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا الحسين بن جعفر، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: رأيت عليا كرم الله وجهه عند أحجار الزيت وهو رافع إصبعه وهو يقول: «اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان رضي الله عنه»
134
حدثنا أبو علي محمد بن أحمد، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا مسعر، عن ابن عوف، عن محمد بن حاطب قال: ذكروا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال الحسن بن علي: إني مخبركم، قال: فجاء علي رضي الله عنه فقال: «كان عثمان رضي الله عنه من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين» رواه سفيان بن عيينة عن مسعر مثله.
135
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا محمد بن يونس، ثنا هارون بن إسماعيل، ثنا قرة بن خالد، عن الحسن، عن قيس بن عباد، قال: سمعت عليا رضي الله عنه يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان رضي الله عنه، ولقد طاش عقلي يوم قتل وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله تعالى أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال له رسول الله ﷺ: «ألا أستحي ممن تستحييه الملائكة» وإني لأستحي من الله تعالى أن أُبايع وعثمان قتيل على وجه الأرض لم يدفن بعد.
136
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن النضر، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، قال: سمعت سعيد بن زيد يقول: «والله لو انقض أُحد فيما فعلتم بابن عفان لكان محقوقا أن ينقض»
137
وحدثنا أبو حامد أحمد بن محمد، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن عائشة، رضي الله عنها وعن أبيها، وصلى الله على بعلها ونبيها: أنها كانت إذا ذكرت عثمان بن عفان رضي الله عنه فبكت حتى ابتل خمارها، ثم تقول: «ما تمنيت لعثمان شيئا إلا أصابني حتى إني لو تمنيت أن يقتل قتلت»
138
حدثنا سليمان بن أحمد، قال: ثنا أبو خليفة، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا حازم بن أبي حازم، عن أبي الأسود، قال: سمعت طلق بن خشاف يقول: وفدنا إلى المدينة للنظر فيم قتل عثمان رضي الله عنه، فلما قدمنا مرّ بنا بعض آل علي رضي الله عنه وبعض آل الحسين بن علي رضي الله عنه وبعض آل أمهات المؤمنين، فانطلقت إلى عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها وصلى الله على بعلها ونبيها- فسلمت عليها فردت السلام وقالت: «من الرجل؟» قلت: من أهل البصرة. قالت: «من أي أهل البصرة؟» قلت: من بكر بن وائل. قالت: «من أي بكر بن وائل؟» قلت: من بني قيس بن ثعلبة. فقالت: «من أهل فلان؟» فقلت لها: يا أم المؤمنين فيم قتل عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه؟ قالت: «قتل والله مظلوما، لعن الله قتلته، أقاد الله من ابن أبي بكر به، وساق الله إلى أغر بن تميم هوانا في بيته، وأهرق الله دماء بني بديل على ضلاله، وساق الله إلى الأشتر سهما من سهامه» فوالله ما من القوم رجل إلا أصابته دعوتها.
139
حدثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو العباس الثقفي، ثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، ثنا العلاء بن عبد الله بن رافع، عن ميمون بن مهران قال: قال حذيفة: «لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كذا -وحلق بيده يعني عقد عشرة- فتق في الإسلام فتق لا يرتقه جبل»
وأما اعتلالهم بترك إنكار الصحابة رضي الله عنهم على من حصروه. فلقد شرعوا إلى الإنكار عليهم واستعدوا لمدافعتهم ومقاتلتهم، ولكن لم يظهر القوم قتله وإنما أظهروا المعتبة، ومع ذلك فلم يكن لهم أن يستبدّوا برأي في أمرهم إلا بأمر من خليفتهم وأميرهم عثمان رضي الله عنه، وكان يمنعهم من ذلك ويعزم عليهم ألا يراق فيه محجمة من دم. ولقد أنكروا وبالغوا في الإنكار، منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن سلام وابن عمر وأبو هريرة والمغيرة بن شعبة وابن الزبير وابن عامر وغيرهم. فأما الحسن بن علي عليهما السلام فقد حمل يومئذ جريحا.
140
حدثنا أبو حامد الصائغ، ثنا أبو العباس السراج، ثنا عبد الله بن عمر، ثنا عبد الله بن خراش الشيباني، ثنا العوام بن حوشب، عن سعيد بن جبير، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه دخل على عثمان رضي الله عنه يعرض نصرته ويذكر بيعته، فقال: «أنتم في حل من بيعتي وفي حرج من نصرتي، فإني لأرجو أن ألقى الله سالما مظلوما»
141
حدثنا أبو حامد، ثنا أبو العباس، ثنا محمد بن عمرو الباهلي، ثنا ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن نافع قال: «لبس ابن عمر يومئذ الدرع مرتين»
142
حدثنا أبو حامد، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن عمرو، ثنا ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن محمد قال: «لقد قتل، وإن في الدار سبعمائة رجل منهم الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن الزبير» قال محمد: «ولو أذن لهم لضربوهم حتى يخرجوهم من أقطار المدينة»
143
حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن يعلى بن حكيم، عن نافع قال: «كان ابن عمر عند عثمان رضي الله عنه يوم قتل وهو متقلد سيفه حتى عزم عليه عثمان مخافة أن يقتل، وكان الحسين بن علي حتى عزم عليه عثمان مخافة أن يقتل»
144
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما كان يوم الدار قلت لعثمان: يا أمير المؤمنين اليوم طاب امضرب. [45] فقال: «يا أبا هريرة تحب أنك قتلتني وقتلت الناس جميعا؟» قلت: لا، قال: «فإنك إن قتلت رجلا منهم فكأنك قتلت الناس جميعا»
145
حدثنا أحمد بن محمد بن جبلة، ثنا زياد بن أيوب، ثنا ابن علية، ثنا أيوب، ثنا عبد الله بن أبي ملكية، عن عبد الله بن الزبير، قال: قلت لعثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين معك في الدار عصابة مستنصرة بنصر الله عز وجل بأقل منهم فأذن لي فلأقاتل، فقال: «أنشدك الله -أو قال- أذكر بالله رجلا أهراق في دمه -أو قال- دما»
146
حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد، ثنا أبو مسلم الكجي، وعلي بن عبد العزيز، والحسن بن المثنى، قالوا: ثنا عارم، ثنا الصعق بن حزن، ثنا قتادة، عن زهدم الجرمي قال: خطب ابن عباس رضي الله عنه فقال: «لو أن الناس لم يطلبوا بدم عثمان لرجموا بالحجارة من السماء»
147
حدثنا أبو بكر ومحمد بن أحمد، ثنا محمد بن سهل، ثنا المسعودي، ثنا أبو نعيم، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن أبي جعفر قال: لما قتل عثمان قال علي: «ما صنع بالرجل؟» قالوا: قتل. قال: «تبا لهم آخر الدهر»
فأما ادعاؤهم على طلحة أنه كان فيمن حصره. قيل: كيف يقبل هذا على طلحة وهو الذي يلعن قتلة عثمان مع عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، ومن معها صباحا مساء، ومع ذلك هو الذي يقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. ثم يقال لهم: هل يجوز أن يفعل طلحة فعلا الحق في غيره، أو كل ما يفعله كان حقا وصوابا؟ فإن قالوا: كل أفعاله حق وصواب فقد أنزلوه منزلة النبي ﷺ، وما كان منه من خروجه من البصرة وتنكبه عن الحجاز وتباعده من المدينة عن بيعة علي كان أيضا حقا وصوابا، وهذا ما لا يقوله أحد. وإن كان بعض ما يفعله حقا وبعضه خطأ فالاحتجاج بقوله في حال الرضا أولى مما يقوله في حال الغضب. فلو اتبعتم في أمره ما ثبت عن الرسول ﷺ في مناقبه وفضائله الذي لا يجوز الخطأ عليه ولا في مقالته كان أولى من احتجاجكم بقول من جوزتم الخطأ عليه وفي قوله. فإن قالوا: وما الذي قال فيه رسول الله ﷺ مما لكم فيه حجة؟ قيل له:
148
ما حدثناه أبو حفص الخطابي، ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث قال: سمعت خطباء بالشام في الفتنة، فقام رجل يقال له: مرة بن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله ﷺ لم أقم، سمعت رسول الله ﷺ ذكر فتنة كائنة فمر رجل متقنع فقال: «هذا وأصحابه يومئذ على الهدى» فإذا هو عثمان رضي الله عنه.
149
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، كلاهما عن سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن عبد الله بن حوالة الأزدي، قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو جالس في ظل دومة وعنده كاتب يملي عليه، مم قال: «يا ابن حوالة كيف أنت إذ نشأت فتنة؟» فذكرها. قلت: لا أدري ما خار الله ورسوله. قال: فمر رجل متقنع فقال: «هذا وأصحابه يومئذ على الحق». فأتيته فأخذت بمنكبيه وأقبلت بوجهه على رسول الله ﷺ فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: «هذا» فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
150
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا خالد بن الهيثم، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، حدثني موسى بن عقبة، عن جده: أنه سمع أبا هريرة يقول: ذكر رسول الله ﷺ فتنة فحذر منها، فقالوا: يا رسول الله فما تأمر من أدركها منا؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه.
151
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، وثنا عبد الله بن الحسن بن بندار، ثنا محمد بن إسماعيل، قالا: ثنا روح بن عماد، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: صعد النبي ﷺ أحدا أو حراء، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف الجبل، فقال: «اثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان»
152
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ كان على صخرة حراء فتحركت فقال: «اسكني فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد». وكان عليها رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير.
153
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا بكر بن سهل، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا أبو زيد، ثنا أسد بن موسى قالا: ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر: أن النعمان بن بشير حدثه قال: قالت عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها، وصلى الله على بعلها ونبيها-: ألا أحدثك حديثا سمعته من رسول الله ﷺ؟ قلت: بلى. قالت: كنت قاعدة أنا وحفصة يوما عنده، فأقبل عثمان فجلس إليه، فأقبل إليه بوجهه وحدثه قالت فسمعته يقول: «يا عثمان، إن الله عز وجل مقمّصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه» يقول ذلك ثلاث مرات.
فهذ الأحاديث دالة على أن أحدا من الصحابة لم ينكر على عثمان منكرا.
فإن قال قائل: ثبت ينسب إلى الإساءة من تكلم في عثمان. قيل له: كذلك نقول؛ لأن من بين الله عز وجل ورسوله عليه السلام فضله في أيام رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، واجتمع أفاضل الصحابة والمشهود لهم بالجنة على تقديمه وتوليته وإمامته، لا يلزمه إلا ما اجتمعوا عليه أنه مسيء فيه مما لا يمكن لعثمان فيه تأويل، وأما أن عثمان أن يفعل ويفرط منه فلا، لا سيما ومن كان أفضل منه كان يقع منه ما كان يقع عليه ويرجع عنه، ولا يلزم الصفوة من الصحابة الذين شهد لهم الرسول ﷺ بالجنة إلا ما اشتبه فيه. ولا خلاف أن كل من تكلم فيه بسوء لزمه الخطأ حتى يأتي يثبت ما يقوله فيه من الوجه الذي وقع الاتفاق عليه والتقديم له، وإلا فهو المخطئ. ولن يخلو أحد من زلة وغفلة، إلا أن الأولى أن نذكر في أصحاب الرسول ﷺ ما نسب الله إليهم من القدر العظيم والسوابق القديمة والمناقب والثواب الجزيل والمحاسن المشهورة المذكورة. وقد قص الله تعالى علينا في كتابه أحوال أنبيائه وأصفيائه، وأضاف إليهم بعض أفعالهم، فقال تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} [46] وقال تعالى: {ولقد همت به وهم بها} [47] وقال تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} [48] وقال تعالى في داود: {فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [49] وقال تعالى: {فغفرنا له ذلك} [50] وقال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. [51] فعلمنا الاقتداء بهداهم وما مدحوا به، وأن نمسك عن ذكر ما نسب إليهم من الزلل؛ فكذلك أتباع أنبيائه وأصحابهم، إنما نذكر محاسنهم التي مدحوا عليها ومراتبهم التي أنزلوا عليها، ونسكت عما سواه من الزلل.
154
حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، حدثنا ثنا، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ قال: «ما من ولد آدم أحد إلا وقد عمل خطيئة أو هم بها ليس يحيى بن زكريا»
155
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا مسعر قال: سمعت زياد بن علاقة يقول: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي ﷺ ليصلي حتى ترم قدماه -أو قيل- ساقاه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا»
156
حدثنا محمد بن أحمد، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، ثنا شقيق، حدثني زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: قام النبي ﷺ حتى تورمت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا»
وقال الله تعالى له: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [52] وقال: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} [53] فعفى الله عنهم استزلال الشيطان إياهم عظيم ما كسبوا من قوله ثم عن الرسول ﷺ بحضرة العدد. وكذلك عفى عن حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى المشركين يخبرهم بشأن رسول الله ﷺ ويطلعهم على عورة المؤمنين فشهد له بالإيمان فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}. [54] وأمر أبا بكر الصديق رضي الله عنه بالعفو عن مسطح وحسان، فقال: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة} الآية [55] فأثبت هجرتهم وأثنى عليهم بها بعد ما كانوا اقترفوا الطاهرة المطهرة حبيبة حبيب الله. ثم ما أقام النبي ﷺ من الحدود على غير واحد من الصحابة من قطع السارق، ورجم المعترف بالزنا ماعزا، وأتي بالنعيمان سكران فأمر بجلده، وكان نعيمان من أهل بدر. وكل هذا مغفورا له ومسكوتا عنه لما أولاهم الله تعالى من السوابق الكريمة والمناقب العظيمة وشكر لهم وأثنى عليهم بمحاسنهم فقال: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم} الآية. [56] فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول الله ﷺ إظهار ما مدحهم الله تعالى به وشكرهم عليه من جميل أفعالهم وجميل سوابقهم، وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم. ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به فقال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية. [57] فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد، وهو لهم غفور، ولا يوجب ذلك البراءة منهم ولا العداوة لهم؛ ولكن يُحب على السابقة الحميدة ويتولي للمنقبة الشريفة.
157
حدثنا أبو يحيى محمد بن الحسن، ثنا محمد بن سليمان بن أبي الحارث، ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا زائدة بن قدامة، ثنا عمر بن قيس، عن عمرو بن أبي قرة قال: كان حذيفة بالمدائن، وكان يحدث بأشياء قالها رسول الله ﷺ لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان: «هو أعلم بما يقول» فيرجعون إلى حذيفة فيقولون ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك. فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة، فقال لسلمان: ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله ﷺ؟ فقال سلمان: إن رسول الله ﷺ كان يغضب فيقول في الغضب لأناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لأناس من أصحابه، أما تنتهي حذيفة حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة، ولقد علمت أن رسول الله ﷺ خطب فقال: «أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين فاجعلها له صلاة يوم القيامة» والله لتنتهين أو لأكتب فيك إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه.
158
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسين، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا الفضل بن الحسين أبو كامل، ثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها، وصلى الله على بعلها ونبيها- وزعم أنه سمع منها أنها رأت النبي ﷺ يدعو رافعا يديه يقول: «اللهم إنما أنا بشر فلا تعاتبني، أيما رجل من المؤمنين آذيته أو شتمته فلا تعاتبني به» ورواه الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها.
159
حدثنا محمد بن إبراهيم، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو خيثمة، ثنا عمر بن يونس، ثنا عكرمة بن عمار، حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، قال: كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس فرأى رسول الله ﷺ اليتيمة في البيت فقال: «أنت هيه لقد كبرت لا كبر الله سنك» فرجعت إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي النبي ﷺ ألا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أو قالت: قرني. فخرجت أم سليم: مستعجلة فلوت خمارها حتى لقيت رسول الله ﷺ، فقال لها رسول الله ﷺ: «ما لك يا أم سليم؟» فقالت: يا نبي الله أدعوت على بنيتي. قال: «وما ذاك يا أم سليم؟» قالت: زعمت أنك دعوت عليها أن لا يكبر سنها أو لا يكبر قرنها. قال فضحك رسول الله ﷺ فقال: «يا أم سليم، أما تعلمين شرطي على ربي عز وجل؟ إنني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر، فأيما بشر دعوت عليه من أمتي دعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة تقربه بها منك يوم القيامة». وكان رحيما ﷺ. رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، والأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، وعمرو بن سليم، عن أبي سعيد.
وقد أقاد رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما من أنفسهم، وإنما يقتد من فعل ما ليس له أن يفعل.
وثبت عن الرسول ﷺ في حديث الشفاعة أنهم: «يأتون آدم عليه السلام يوم القيامة يقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، ويأتون نوحا فيذكر خطيئته، ويأتون إبراهيم فيذكر خطيئته، ويأتون موسى فيذكر خطيئته».
فالنبيون في منازلهم وقربهم من الله عز وجل يذكرون خطاياهم، ونبينا ﷺ سيد الأولين والآخرين يقول: «إنما أنا بشر مثلكم». فلا يتبع هفوات أصحاب رسول الله ﷺ وزللهم ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه. وقد كان يجري بين أصحابه رضي الله عنهم بحضرة الرسول ﷺ وفي غيبته فيبلغه من الله تعالى عن ذوي الخصام والسباب في حال الغضب والموجدة أشياء فلا يأخذهم به ولا يعيد ذلك عليهم، بل يأمرهم بالعفو ويحضهم على التآلف ويطفئ ثائرة الغضب وسورة البشرية. وذلك مثل ما جرى بين السيدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وكلاهما من الفضل في الدين بالمحل العظيم، حين استعذر النبي ﷺ من أبي ابن سلول وأصحابه الذين خاضوا في الإفك وتكلموا في عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها وصلى الله على بعلها- فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه ولنقتلنك معه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتبادر الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا، وخفضهم رسول الله ﷺ حتى سكتوا.
وكان بين العباس وعلي، وهما كبيرا أصحاب رسول الله ﷺ، حين تحاكما إلى عمر بن الخطاب، [58] في نظائر ذلك. لم يجعل ذلك منهم أحد أصلا يحتج به عليهم لما عاينوا من إكرام بعضهم بعضا من القول بتفضيله وتقديمه على نفسه في حال الرضا، فأما حال الغضب فلا اعتبار به ولا حجة فيه.
160
حدثنا حبيب بن الحسن، ثنا عمر بن حفص، ثنا عاصم بن عدي، ثنا شعبة، أخبرني يحيى بن حصين، قال: سمعت طارقا يعني ابن شهاب قال: كان بين سعد وخالد كلام، فذهب رجل يقع في خالد عند سعد فقال: «مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا»
ولهذا قال ﷺ: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا»، لم يأمرهم بالإمساك عن ذكر محاسنهم وفضائلهم، إنما أمروا بالإمساك عن ذكر أفعالهم وما يفرط منهم في ثورة الغضب وعارض الموجدة.
وقد ثبت عنه رضي الله عنه أن الذين نقموا عليه قدموا للخروج عليه فألزمهم الحجة فيهم مع إظهاره الاعتذار ومفارقتهم وانصراف أهل مصر عنه راضين فيما:
161
حدثنا أحمد بن محمد بن جبلة الصائغ، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا يعقوب بن إبراهيم، وأحمد بن المقدام، قالا: حدثنا المعتمر بن سليمان، ثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد، مولى ابن أسيد قال: سمع عثمان رضي الله عنه أن وفد أهل مصر قد أقبلوا فاستقبلهم، فلما سمعوا به أقبلوا نحوه، فقالوا له: ادع لنا بالمصحف، فدعا بالمصحف، فقالوا له: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس السابعة، فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} الآية، فقالوا له: قف. فقالوا: أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك به أم على الله تفتري؟ قال: فقال عثمان رضي الله عنه: «أمضه، نزلت في كذا وكذا، وأما الحمى فقد حمى الحمى من كان قبلي لإبل الصدقة، فلما رأيت زادت الإبل في الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة» فقالوا: أمضه، قال: فجعلوا يأخذونه بالآية فيقول: «أمضه نزلت في كذا وكذا» حتى أخذ عليهم ألا يشقوا عصا المسلمين وأن لا يفارقوا جماعة، فرضوا وأقبلوا معه إلى المدينة راضين. ثم رجع وفد المصريين راضين فبينما هم في الطريق إذا هم براكب يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم ويسبهم، قال: فقالوا له: ما لك إن لك لأمرا، ما شأنك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، قال: ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم. فأقبلوا حتى قدموا المدينة فدخلوا على عثمان رضي الله عنه فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: «إنما هما اثنان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين، ويمين بالله الذي لا إله غيره ما كتبت ولا أمليت ولا علمت، وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وينقش الخاتم على خاتمه» فحاصروه فأشرف عليهم فوعظهم ففشا اليمين، فجعل الناس يقولون: مهلا عن أمير المؤمنين. حتى قام الأشتر.
فلم يثبت بحمد الله على عثمان رضي الله عنه مما ادعوا شيئا لما استحق بما ادعوا القتل وانتهاك الحرمة وشق العصا وتفريق الجماعة، ولكن الله أكرمه بالشهادة وألحقه بأصحابه غير مفتون ولا مبدل، فأمسك عن قتال من خرج عليه وظلمه مع اقتداره وأنصاره وكثرة مدده وأعوانه من الأهل والعشيرة حفظا لوصية رسول الله ﷺ ووفاء للمسلمين ورغبة وحذرا من أن يسنّ لهم ما لم يأمره الله تعالى به، رغبة في الشهادة التي أكرمه الله بها.
162
وقد حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا أبو خليفة، ثنا أبو عمر الحوضي حفص بن عمر، ثنا الحسن بن أبي جعفر، ثنا خالد، عن الشعبي قال: لقي مسروق الأشتر، فقال مسروق للأشتر: «قتلتم عثمان؟» قال: نعم. قال: «أما والله لقد قتلتموه صواما قواما» قال: فانطلق الأشتر فأخبر عمارا، فأتى عمار مسروقا فقال: والله ليجلدن عمارا ويسيرن أبا ذر وليحمين الحمى وتقول: قتلتموه. فقال له مسروق: «فوالله ما فعلتم واحدة من اثنتين: فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، وما صبرتم فهو خير للصابرين» قال: فكأنما ألقمه حجرا. قال: وقال الشعبي: «ما ولدت همدانية مثل مسروق». [59]
فكان مما نتج عن قتله وحصره تفريق ذات البين وإسلال السيوف وإراقة الدماء والخوف بعد الأمن وألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض، تحقيقا لما أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه وتصديقا لما وعد على لسان رسول الله ﷺ. قال الله تبارك وتعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} الآية. فبان للمسلمين ما مكن الله تعالى به نبيه ﷺ والمؤمنين من استخلافهم في الأرض وعبادتهم له أمنا غير مشركين به شيئا، ظاهرين على العرب كافة وأذل بهم الكفر ودمغ بهم الباطل وأقام بهم الحق ومنار الإسلام والدين، ثم اختار لنبيه ﷺ ما عنده فقبضه إليه بعد كمال الدين وتمام النعمة عليه وأداء ما حمله من الرسالة وإبلاغه صابرا محتسبا، صلوات الله عليه وبركاته.
ثم قام مقامه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقام مقامه في إقامة الحق وحفظ الدين وصيانة أهله، فقاتل من ارتد من العرب موفقا رشيدا، مكن له في الأرض وانتظم به ما كان منتشرا بعد قبض نبيه ﷺ، وأعلى الله تبارك وتعالى دعوته وأعز نصره، فعاد إلى الإسلام من ارتد مهينا ذليلا، وقتل من قتل منهم مخذولا مخزيا، فعبدت العرب ربها تعالى في أيامه لا تشرك به شيئا. ثم قبض الله تعالى أبا بكر طاهرا زكيا حميدا، رفيعا درجته، محمودا سيرته، رحمة الله ورضوانه عليه.
ثم استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بعده، لم يختلف فيه من المسلمين اثنان ولا انتطح فيه عنزان، كلمتهم واحدة وأيديهم على أعدائهم باسطة، وأحكامهم على من خالفهم نافذة، آمنين مطمئنين، يقاتلون العجم ويسبونهم؛ فأعز الله الإسلام به ومصّر الأمصار وفتح به الفتوح، وأذل به الطغاة والكفرة، وأغنى به المؤمنين البررة، ثم قبضه الله عز وجل إليه شهيدا فعليه رحمة الله تعالى ورضوانه.
ثم اجتمع أصحاب رسول الله ﷺ بعده على استخلاف عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه من غير اختلاف ولا تنزع، مكن له في الأرض، فتح الله تعالى به أقاصي الأرض، فنعم المؤمنون في أيامه لرأفته بهم، وخزي في ديارهم الكفار لغلظته عليهم، حتى أتته الشهادة التي بشره الله تعالى بها على لسان رسول الله ﷺ وشهد له بها في غير مجلس، مع إخباره أنه وأصحابه عند ظهور الفتنة على الهدى وأن مخالفيه على ضلال، وذلك عند ظهور من حُرم صحبة رسول الله ﷺ واجترؤا على حُرمة من صحبه بتأويله ورأيه وسيفه في الإفساد والتفرقة بين المسلمين، رأس الفتنة وقادة الأباطيل يرون أنهم أفضل ممن اختاره الله لصحبة الرسول ﷺ وإقامة الدين، من أهل مصر لا أهل بدر، قائدهم الأشتر في إخوانه من أهل الجهل والغي من أهل الكوفة من قبائل عبس، أول قوم أحدثوا وانتهكوا حرمة المدينة وأحدثوا فيها، فباءوا بلعنة رسول الله ﷺ، وهو:
163
ما حدثناه محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي رحمه الله، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: ما عندنا إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، وقال فيها: قال رسول الله ﷺ: «المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى مُحدِثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم»
فكانت اللعنة التي لحقتهم من رسول الله ﷺ لحدثهم أن ألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض إنجازا لوعد الله تعالى وإنفاذا لأمره بعد أن كانوا مستخلفين ممكنين.
164
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا أبو زرعة، وموسى بن عيسى، قالا: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن خباب بن الأرت، عن أبيه خباب بن الأرت: أنه راقب رسول الله ﷺ، فصلى حتى إذا كان الفجر قال لرسول الله ﷺ: رأيتك الليلة صليت صلاة ما رأيتك صليت مثلها، قال: «أجل إنها صلاة رغب ورهب، سألت ربي عز وجل ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألا يهلكنا بما أهلك الأمم فأعطاني ذلك، وسألته ألا يسلط علينا عدونا فيهلكنا فأعطاني ذلك، وسألته ألا يلبس أمتي شيعا فمنعني ذلك»
165
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا حصين الوداعي، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا علي بن مسهر، عن عثمان بن حكيم، عن عامر بن سعد، عن سعد، قال: صلى النبي ﷺ ثم قال: «سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلكهم بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها»
166
حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عباس بن الوليد، ثنا حماد بن زيد، ثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: لما أنزلت: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} [60] قال النبي ﷺ: «أعوذ بوجهك الكريم» قال: {أو من تحت أرجلكم} قال النبي ﷺ: «أعوذ بوجهك الكريم» قال: {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض}، قال: «هذا أهون أو أيسر»
فكان أبو العالية رحمه الله فيما روى ابن المبارك، عن الربيع بن أنس يقول: «هن أربع فجاءت منها اثنتان بعد وفاة رسول الله ﷺ بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض»
وكان الحسن رحمه الله فيما روى أبو الحسن القزاز عن حميد عنه يقول: كره الله أن يري نبيه عليه السلام في أمته ما يكره. يعني قوله: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون}[61]
وأما قوله: {إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} [62] فإنها لما نزلت كانوا يقولون: ما هذه الخصومة بيننا ونحن إخوان متآلفون؟ إلى أن وقعت الفتنة بعد قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه واختلفت الآراء وألبسوا الشيع وأذاق ناس بعضهم بعضا فتبين لهم حينئذ وجه الخصومة.
167
حدثنا أبو يحيى محمد بن الحسن، ثنا محمد بن شاذان الجوهري، ثنا زكرياء بن عدي، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن القاسم بن عوف الشيباني: سمعت ابن عمر يقول: «كنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنها فينا نزلت»
168
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شيبان، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال: «تدور رحى المسلمين على خمس أو ست أو سبع وثلاثين سنة، فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما». فقال عمر: يا رسول الله ﷺ بما مضى أو بما بقي؟ فقال رسول الله ﷺ: «مما بقي». رواه الثوري عن منصور.
169
حدثنا أبو أحمد الغطريفي، ثنا أبو سعيد يوسف بن محمد بن يوسف الواسطي، ثنا ابن الوزير، ثنا يزيد، عن العوام، عن أبي إسحاق الشيباني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي ﷺ قال: «تدور رحى المسلمين على خمس وثلاثين أو ست وثلاثين سنة، فإن هلكوا فسبيل من هلك وإن بقوا بقي لهم دينهم سبعين سنة»
فصار أمرهم إلى ما قال حذيفة: لما أن قتلوا ... بري بالسيف، لم يحجوا معا، ولم يصلوا معا، ولم يقاتلوا جميعا أبدا بالاختلاف بين قلوبهم وتشتيت في آرائهم، فكانت الأجساد مجتمعة والقلوب مختلفة كما قاله ابن عمر رضي الله عنه. فأما الأمة المنتصرة فهم أهل الجماعة المقيمين على الألفة الذابين للفرقة استنانا بالنبي ﷺ، والآخذين بما حث عليه من الائتلاف، وما حذر من الفرقة والاختلاف، وذلك:
170
ما حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا جرير بن حازم، ثنا عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال: قام فينا رسول الله ﷺ مقامي فيكم فقال: «أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولم يستحلف، ويشهد الرجل ولم يستشهد، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد»
171
حدثنا عبد الملك بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا أبو الربيع، ثنا حباب بن علي، أخبرنا عبد الملك بن عمير، وحدثنا أبو إسحاق بن حمزة، ثنا محمد بن عبدوس الكاتب، ثنا زيد الحرش، ثنا عمران بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الزبير، عن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «من سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة». رواه معمر وإسرائيل والحسين بن واقد في آخرين عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الزبير، عن عمر.
172
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا عبيد بن غنام، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب الجابية فقال: إن رسول الله ﷺ قام فينا كمقامي فيكم وقال: «أيها الناس، اتقوا الله في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب وشهادات الزور حتى يحلف الرجل من غير أن يستحلف ويشهد الرجل من غير أن يستشهد، فمن سره أن يحلل بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد»
173
حدثنا الحسين بن حمويه الخثعمي، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا عبد الله بن أبان، ثنا الوليد بن بكير، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعد عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: «من فارق الجماعة شبرا فارق الإسلام»
174
حدثنا محمد بن جعفر، ثنا جعفر بن محمد الصائغ، ثنا حسين بن محمد ثنا شيبان، عن زياد بن علاقة، عن عرفجة بن شريك، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنها ستكون هنات وهنات، فمن جاءكم يفرق أمر هذه الأمة وهم جميع فاقتلوه»
175
حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب، حدثنا إسحاق بن خالويه، حدثنا علي بن بحر، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، وعبد الغفار بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي عبد الله الأشعري قال: سمعت أبا الدرداء يقول: قلت يا رسول الله، بلغني أنك قلت: «سيكفر قوم بعد إيمانهم». قال: «أجل، لست منهم». قال: فتوفي أبو الدرداء قبل قتل عثمان رضي الله عنه.
176
حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا المسيب بن واضح، ثنا ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة: أن أبا قتادة الأنصاري ورجلا آخر دخلا على عثمان رضي الله عنه وهو محصور فاستأذناه في الحج فأذن لهما. قالا: مع من نكون إذا غلب هؤلاء القوم عليك؟ قال: «عليكم بالجماعة حيث كانت»
فالجماعة التي أمر رسول الله ﷺ وأصحابه بملازمتهم هم الصحابة والتابعون من العلماء، لا الجماعة الفسقة الجهلة الظلمة المنتهكون لحرمة أصحاب رسول الله ﷺ والمشوهون لأقوالهم الوالجون دورهم وحرمهم الذين يحمي الله بهم سقر ويصليهم نار جهنم.
خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام
177
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود ثنا الحشرج بن نباتة، حدثنا سعيد بن جمهان، حدثني سفينة، قال: خطبنا رسول الله ﷺ، فقال: «الخلافة في أمتي ثلاثون ثم يكون ملكا» ثم قال سفينة: أمسك عليك، خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثلاثة عشرة سنة وستة أشهر، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتا عشرة سنة ثم خلافة علي مكملة الثلاثين.
قلت: معاوية كان أول الملوك.
178
حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد، حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن شريك حدثنا محمد بن سليمان لوين حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى النبي ﷺ قال: «الخلافة في أمتي بعدي ثلاثون سنة»
فكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ممن زين الله من الخلافة ولم يزين بالخلافة. أمسك عن قتال من قعد عن بيعته كما امتنع الصديق رضي الله عنه عن مقاتلته حين تخلف عن بيعته إلى أن بايع.
ومما دل على أن عليا رضي الله عنه كان أحق بالأمر وأولى بالحق من معاوية رضي الله عنه قول النبي ﷺ وهو:
179
ما حدثنا أبو بكر بن خلاد ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا هوذة بن خليفة، ثنا عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ قال: «تفترق أمتي فرقتين فيمرق من بينها مارقة تقتلها أولى الطائفتين بالحق» رواه قتادة وداود بن أبي هند، وسليمان التيمي، والجريري في آخرين عن أبي نضرة.
180
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا أبي، ثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت، عن الضحاك المشرقي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ في حديث ذكر فيه قوما يخرجون على فرقة من الناس يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق.
فتولى علي رضي الله عنه قتلهم لأن خروجهم كان بعد الجمل بين علي ومعاوية لا بين علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم. فلما اختلفت الصحابة كان علي من الذين سبقوا إلى الهجرة والسابقة والنصرة والغيرة في الإسلام، الذين اتفقت الأمة على تقديمهم لفضلهم في أمر دينهم ودنياهم لا يتنازعون فيهم ولا يختلفون، من أولي الأمر الأربعة الذين تعهد لهم رسول الله ﷺ بالجنة في العشرة، من توفي وهو عنهم راض. فسلم من بقي من العشرة بالأمر لعلي رضي الله عنه، ولم ينكر أنه من أعلى الأمة ذكرا وأرفعهم قدرا، القديم سابقته وتقدمه في الفضل والعلم، وشهوده المشاهد الكريمة، ويحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، ويحبه المؤمنون ويبغضه المنافقون، لم يتضع بتقديم من تقدمه من أصحاب رسول الله ﷺ بل ازداد ارتفاعا لمعرفته بفضل من قدمه على نفسه؛ إذ كان موجودا في الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} إلى قوله {القدس} [63] فلم يكن تفضيل بعضهم على بعض بالذي وضع ممن دونه؛ إذ كل الرسل صفوة الله عز وجل وخيرته من خلقه. فولي أمر المسلمين عادلا زاهدا آخذا في سيرته بمنهاج الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم حتى قبضه الله عز وجل شهيدا هاديا مهديا، سلك بهم السبيل المستبين والصراط المستقيم، لم تطل إمامته لخروج من فارقه وخرج عليه ولقعود من خالفه رضي الله عنه.
فإن اعترض معترض وقال: لما ولي أمر الأمة حكم بخلاف حكم من تقدمه من الأئمة. قيل له: في أي شيء وكيف؟ فإن ذكر ما روي عن عبيدة السلماني عنه في بيع أمهات الأولاد من الجواري. قيل: هذا من طريق الرأي، والرأي مستقل عنه. فإن قيل: كان هذا لم يزل رأيه إلا أنه تابع عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قيل: لا تخلو متابعته من أحد أمرين: إما أنه خفي عنه موضع النظر فقلد إماما عادلا، أو رأى مثل رأي أصحابه فوافق رأيه رأيهم. وقد وافق أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فيما حكم به من صدقات رسول الله ﷺ ووقوفه وفي سهم ذوي القربى وغير ذلك من أحكامهم، لم يخالفهم في شيء منه مع قوله رضي الله عنه: اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس إمام جماعة أو أموت كما مات أصحابي. فهذا القول يدل على رجوعه عن بيع أمهات الأولاد.
فإن طعن طاعن على ما جرى بين علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم ومن تابعهم في حربهم. قيل له: هؤلاء كبار الصحابة وخيار الأمة وأولو أمرهم في الخلافة والعلم بالدين، ما حجتكم عليهم في ذلك وأنتم دونهم، ترون ما اختلفوا فيه من أحكامهم في الأموال والفروج والدماء حقا لا تعنون من ذهب إلى قول بعضهم، وتقرون أن اختلافهم رحمة وهدى، فلم لا تجوزون ذلك في قتالهم وحروبهم. فإن قالوا: لأن الرسول ﷺ نهاهم عن القتال بعده وذم المقتتلين فقال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، وقال: «إذا توجه المسلمان بسيفهما»، وقال: «لتعودن بعدي أمتا ووصبا»، وقال: «إني مكاثر بكم فلا تقتتلوا بعدي»، «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»، وما شاكله من الأخبار. قيل: هذه أخبار لا ننكرها، فهل خصصتم بالعلم بهذه الأخبار ووصولها إليكم وغربت عنهم ولم يعرفوها؟ فإن قالوا: فقد قتل بعضهم بعضا وقصدوا سفك الدماء على غير دين خلافا لما سمعوا من رسول الله ﷺ من هذه الأخبار. قيل لهم: إن هذا الطعن كبير على الأعلام من الصحابة وأعلام الدين والهدى. فإن قالوا: لم تصل هذه الأخبار إليهم. قيل لهم: فما الذي حملكم على الطعن عليهم ولا تعلمون عن رسول الله ﷺ شيئا عن فضلهم؟ ويقال لهم: إن جاز وصول هذه الأخبار إليكم في بعدكم عن رسول الله ﷺ وذهابها عنهم في قربهم من رسول الله ﷺ، لئن جاز هذا ليجوزن ذهاب معظم الدين وأكثر السنن عنهم، وأن تكونوا أعلم بسنن رسول الله ﷺ من علي وطلحة والزبير وغيرهم من أكابر الصحابة وسادة العلماء منهم. فإن قالوا: ولما اقتتلوا، بأي حجة احتجوا في القتال؟ قيل لهم: أما من كتاب الله عز وجل فإن الله عز وجل أمر بقتال أهل البغي، وأهل البغي مسلمون. وأما السنة فما قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». وأعلم عليه السلام أن ثم حقوقا تستباح بها الدماء والأموال. من ذلك: قتال أهل البغي، وقتال الخوارج، وقتال اللصوص، ورجم الزاني المحصن، والقود من القاتل، وقتل من يسعى في الأرض بالفساد. فأباح دماء هؤلاء. فتناول كل واحد قتال من خالفه كاختلافهم في الفروج والأموال، فرأى بعضهم شيئا حلالا يراه غيره حراما مثل: الفرائض، أعطى أبو بكر رضي الله عنه وغيره الجد المال وحجبه عن الإخوة، وأعطى عمر رضي الله عنه الجد السدس في بعض الحالات وأعطى الإخوة ما بقي. واختلفوا في الحرام والبتة، فمنهم من رآه يمينا ومنهم من رآه واحدة، وغيره يقول: ثلاث لا تحل حتى تنكح زوجا غيره. وكاختلافهم في القسامة بعضهم يقيد بها وبعضهم لا يقيد بها ويوجب بها الدية. والرجلان يقتلان الرجل، فمنهم من يقتلهما به ومنهم من يقول: نفس بنفس. في أشياء كثيرة، مثلها في اختلافهم مع ما ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال:
181
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشير بن موسى، ثنا عبد الله بن يزيد المقري، ثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو الأسود، عن عكرمة، عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من قتل دون ماله مظلوما فله الجنة»
182
حدثنا محمد بن أحمد البغدادي، ثنا أحمد بن عبد الرحمن السقطي، ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد»
183
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن سعيد بن زيد: أن النبي ﷺ، قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد»
فجعل ﷺ القتال في الدفع عن النفس والمال والأهل شهادة، وحرم يوم حجة الوداع فقال: «دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». فسوى ﷺ في الدماء والأموال والأعراض في التحريم. فإذا كان له أن يقاتل عن نفسه فكذلك يباح له أن يقاتل عن ماله وعرضه، وإنما نهى رسول الله ﷺ أن يقتتلوا بعده على التقاطع والتدابر والتباغض على الدنيا وإعظام أمرها والملك فيها. فأما ما كان على الدين فلم ينههم رسول الله ﷺ عن ذلك. ألا ترى أن رسول الله ﷺ أمر بقتال أهل البغي بعد أن أذن الله فيه، وأهل البغي مسلمون. قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين} الآية. [64] فلو ترك المسلمون قتال أهل البغي لكان فيه إبطال فريضة من فرائض الله تعالى.
فإن قال: فما الذي اقتتلوا عليه؟ يعني سهل بن حنيف وعمار بن ياسر. قيل له: اقتتلوا على الدين، لأن عليا رضي الله عنه رأى أن يعقد من عقد له على قتال من خالفه على ذلك، فقاتلهم لأجل ذلك. ورأى طلحة والزبير أن ذلك لا يصلح لهما فتأخرا عنه، وكانا عند علي أنهما ممن بايعا لم يختلفا عليه. ورأى علي أنه أحق ممن بقي بالخلافة، وأنه لا يسع طلحة والزبير رضي الله عنهما تخلفهما عنه، فقصدهما ليردهما عن رأيهما، ورأى طلحة والزبير أن يدافعا عن دينهما وأنفسهما. فكل اجتهد في الرأي، وأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى ما دعا إليه وثبت عليه. فأما سعد بن أبي وقاص وابن عمر وطبقتهم فرأوا القعود والكف وأن لا يبايعوا أحدا من الفريقين، وكان الحظ والرأي عندهم فيه. وأما علي رضي الله عنه فكان يقول فيما:
184
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ثنا أبي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة بن عمارة، قال: سمعت أبا عثمان يعني الأزدي قال: قال علي: «ما كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضلل بي، ولا خدعت، وإني على بينة من ربي، وتبعني من تبعني وعصاني من عصاني»
185
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا إبراهيم بن يوسف الحضرمي، ثنا أبي، عن أبي الصيرفي، عن يحيى بن عروة المرادي قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: «قبض رسول الله ﷺ واجتمع المسلمون على أبي بكر فسمعت وأطعت، ثم حضر أبو بكر، قلت: أرى أنه لا يعدلها عني فولاها عمر، فسمعت وأطعت، ثم إن عمر أصيب فظننت أنه لا يعدلها عني فجعلها في ستة أنا منهم، فولوها عثمان فسمعت وأطعت، ثم إن عثمان قتل فجاءوا يبايعوني طائعين غير مكرهين، ثم خلعوا بيعتي، فوالله ما وجدت إلا السيف أو الكفر بما أنزل الله على محمد النبي ﷺ»
فأخبر رضي الله عنه أنه لو كف عن الدعاء لنفسه والقيام بأمر الأمة وترك الأمر لغير أهله تضييعا وإبطالا لما جاء به محمد ﷺ. وأما طلحة والزبير رضي الله عنهما فيريان أن الذب عن النفس والمال شهادة، وكان طلحة يقول: بايعت كارها، واللجّ عليَّ. فرأى بأن الأشتر أكرهه ولم يدعه حتى يجتمع بقية أهل الشورى فيعقدوا الأمر من دون الأشتر وأمثاله. وكل واحد منهم رضي الله عنهم قصد الرشد وابتغى الصواب، والله تعالى يثيبهم على ما قصدوا واجتهدوا من الخير والصلاح. فلم يختلف أحد من أهل العلم في كل زمان أن أصحاب رسول الله ﷺ فيما اختلفوا فيه واجتهدوا فيه من الرأي مأجورون ومحمودون، وإن كان الحق مع بعضهم دون الكل، ولا يعنف من قال بقول بعضهم وترك قول بعض، وأنه عنده مصيب الحق الذي أمر به من طريق الرأي والاجتهاد.
186
حدثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو، عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد». قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة.
فإذا كان المجتهد المخطئ مأجورا لاجتهاده، فأصحاب رسول الله ﷺ الذين هم أصلنا في القدوة بهم في النظر والاجتهاد أولى من أن يطعن عليهم لما فازوا به من السوابق والمناقب. وليس لقعود من قعد عنهم وإمساكهم عن القتال حجة للطاعن عليهم، فإن من أمسك عن القتال وقعد عن الخروج مع إحدى الطائفتين محمود، إذ لم يتبين له الوجه الذي يحمله على الخروج مع إحدى الطائفتين، مع سماعهم من رسول الله ﷺ ما شهد به لعلي وطلحة والزبير بالجنة والشهادة، واعتقدوا شهادتهم ودخولهم الجنة لإخبار رسول الله ﷺ وشهادته لهم. فاستعظموا إسلال السيوف والخروج على المشهود له بالجنة والشهادة. وكيف يحكم لإحدى الطائفتين على الأخرى فكلاهما شهيد، ولا يكون شهيدا من يستحل دمه.
187
حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أحمد بن علي بن المثنى، ثنا محمد بن الصباح، ثنا إسماعيل بن زكريا، ثنا نصر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ على حراء فتزعزع بهم الجبل فقال رسول الله ﷺ: «اسكن حراء، فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد». وعليه رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وسعيد.
188
حدثنا فاروق الخطابي، ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا الصلت بن دينار، عن أبي نضرة، عن جابر قال: مر طلحة فقال رسول الله ﷺ: «شهيد يمشي على وجه الأرض»
189
حدثنا محمد بن علي بن حبيش، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا أحمد بن يونس، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «لكل نبي حواري في الجنة وحواري الزبير»
190
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا أحمد بن عبد الرحمن وقيل عبد الرحيم، ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا النضر بن منصور، عن عقبة بن علقمة قال: سمعت عليا يقول: سمعت بأذني من رسول الله ﷺ يقول: «طلحة والزبير جاراي في الجنة»
فالإمساك عن ذكر أصحاب رسول الله ﷺ وذكر زللهم ونشر محاسنهم ومناقبهم وصرف أمورهم إلى أجمل الوجوه من أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان، الذين مدحهم الله تعالى فقال: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا} الآية، [65] مع ما أمر النبي ﷺ بإكرام أصحابه وأوصى بحفظهم وصيانتهم وإجلالهم.
191
حدثنا أبو بكر الطلحي، ثنا أبو حصين القاضي، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا ابن المبارك، عن محمد بن سوقة، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: خطب عمر رضي الله عنه بالجابية فقال: إن رسول الله ﷺ قام فينا مقامي فيكم فقال: «احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ثلاثا.
192
حدثنا الحسين بن حمويه الخثعمي، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا يوسف بن أبي أمية، ثنا أخي عبد الرحمن بن أبي أمية، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «احفظوني في أصحابي فمن حفظني فيهم كان عليه من الله حافظ، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله عنه، ومن تخلى الله عنه أوشك أن يأخذه»
193
حدثنا علي بن هارون، ومحمد بن عمر بن معلم، قالا: ثنا إبراهيم بن محمد بن الهيثم، ثنا محمد بن الخطاب، ثنا عبد الله بن الوليد العدني، ثنا أبو بكر بن أبي سبرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه -عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها- قالت: قال رسول الله ﷺ: «إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فالعنوهم، شرار أمتي أجرؤهم على أصحابي»
194
حدثنا أبو بكر بن مالك، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا النضر بن حماد، ثنا سيف بن عمر السعدي، ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فالعنوهم»
195
حدثنا أحمد بن إبراهيم بن علي الكندي، ثنا الحسن بن علي بن الوليد، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا مسهر بن عبد الملك، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا»
196
حدثنا عبد الملك بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا أبو الربيع، ثنا حماد بن زيد، ثنا شهاب بن خراش، عن العوام بن حوشب قال: «اذكروا محاسن أصحاب رسول الله ﷺ تؤلفوا عليهم القلوب، ولا تذكروا مساويهم فتحرشوا الناس عليهم»
197
حدثنا أبي، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا أحمد بن إسحاق الجوهري، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها- قالت: «أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم»
فمن أسوأ حالا ممن خالف الله ورسوله وآب بالعصيان لهما والمخالفة عليهما. ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه ﷺ بأن يعفو عن أصحابه ويستغفر لهم ويخفض لهم الجناح، قال تعالى: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} [66] وقال: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} [67] فمن سبهم وأبغضهم وحمل ما كان من تأويلهم وحروبهم على غير الجميل الحسن فهو العادل عن أمر الله تعالى وتأديبه ووصيته فيهم، ولا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي ﷺ وصحابته والإسلام والمسلمين.
198
حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: «إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فاختار محمدا ﷺ فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار له أصحابا فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله عز وجل قبيح»
199
حدثنا محمد بن حميد، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا عبد الله بن عمران العابدي، ثنا إبراهيم بن سعد، عن عبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الرحمن بن مغفل قال: قال رسول الله ﷺ: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه»
200
حدثنا محمد بن محمد بن أحمد، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا عبيد بن يعيش، ومحمد بن عثمان، قالا: ثنا محمد بن القاسم، ثنا عبيدة الخزاعي، عن عبد الملك بن عبد الرحمن، عن عياض الأنصاري، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله ﷺ: «احفظوني في أصحابي وأصهاري، فمن حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن لم يحفظني في أصحابي وأصهاري تخلى الله تعالى منه، ومن تخلى الله منه أوشك أن يأخذه»
فإن قال قائل: فقد نازع عليا رضي الله عنه غير طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، فما الذي دعاه إلى منازعته ولم يكن له من السوابق ما لطلحة والزبير، ولم يكن من أهل الشورى والمناقب الشريفة. قيل له: كل من صحب الرسول ﷺ أو نزل منه منزلة قرب أو سبب، وإن كان دون أولئك في السابقة والهجرة والمناقب الشريفة، فالأسلم لنا أن نحفظ فيه وصية رسول الله ﷺ لقوله: «أوصيكم في أصحابي خيرا» لا سيما إذا كان متأولا، وإن كان في تأويله غير مصيب. نقتدي في ذلك بكبار الصحابة الذين شاهدوا حربهم فكفوا وقعدوا لإشكال ذلك عليهم. فإذا كان لهم في قربهم منهم ومشاهدتهم لهم أن يكفوا ويقعدوا، فنحن في تأخرنا منهم وتغيبنا عنهم أولى أن نسكت عنهم، ونكفَ الشبهة التي تعرض في ذلك.
فإن قال: فمن لعنه رسول الله ﷺ هل يجوز ألا تلحقه لعنة رسول الله ﷺ ودعوته. قيل له: إنا وإن خفنا عليه للعن الرسول ﷺ إياه لمعصيته فنرجو له غفر الله بدعاء رسوله ﷺ، وليست اللعنة له بأكثر من الدعاء له، مع أنا نعلم أن رسول الله ﷺ قد بعثه الله يدعو في صلاته لأمته ويستغفر لهم، لأحيائهم وأمواتهم. فلو كان كل دعوة مجابة لما كان أحد من أمته معذبا أو دخل النار. وكذلك نوح وإبراهيم عليهما السلام دعوا لمن تبعهما من المؤمنين والمؤمنات. قال الله تعالى مخبرا عن نوح: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا} الآية [68] وقال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم: {رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} [69] فلا نقطع على أن دعوتهم مجابة لكل المؤمنين والمؤمنات، فلو كان كذلك لكان كل الناس غير معذبين ولا داخلا منهم النار أحد، لكن نرجو أن كل من كان به أخص وإليه أقرب كانت الدعوة له أخص والرجاء في أمره أقرب وأكثر.
فإن قال: فإذا لا يضر من سب الصحابة لعنة رسول الله ﷺ؛ إذ كانت له دعوة أيضا. قيل له: اللعن من رسول الله ﷺ على وجهين: فوجه يلعن قوما في مآثم ارتكبوها كلعنته عليه الصلاة والسلام للواصلة والواشمة، فهذا جائز غفر الله تعالى فيه لأنه من حقوقه. وأما لعنته عليه السلام من ظلم مسلما أو سبه أو رماه ببهتان وفرية فهذه حقوق لهم لا يظلم الله فيه أحدا بل ينتقم من الظالم للمظلوم ولا يعفو عنه. من ذلك قوله تعالى في أهل الإفك: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} الآية [70] وقال: {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [71] وقال: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} الآية [72] وقال: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} الآية. [73] فهذا وما شاكله من حقوق الآدميين ينتقم الله تعالى من الظلمة للمظلومين ويأخذها، وما عدا هذا من حقوق الله تعالى فجائز العفو فيه لأنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
ومع أن لعن الرسول ﷺ على معنيين: إحداهما: في غير غضب، يريد بذلك إعلام أمته بعظم ما عظم الله والتحذير مما حذر الله، كلعنته من أكل الربا، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا، ومن ادعى إلى غير أبيه، ومن سب أصحابه إلى غير ذلك؛ لعن فاعليها في حال الرضا تأكيدا لما أكد الله تعالى وتعظيما لما عظم الله وحرمه. والمعنى الثاني: أن يلعن في حال غضب وموجدة، فذلك مرفوع عنهم ولا يلحقهم، لقوله: «إنما أنا بشر مثلكم، أغضب كما يغضب البشر، فأيما عبد لعنته أو ضربته أو دعوت عليه فاجعلها له زكاة وقربة»
فإن قال: فإن الصحابة قد لعن بعضها بعضا، فهم أيضا ممن عمتهم لعنة رسول الله ﷺ فيمن سب أصحابه. قيل له: إنما أراد من لعن أصحابه من غير أصحابه. فأما سب بعضهم بعضا، فإن ذلك على حد غضب وموجدة قد عفا الله عز وجل عنهم أكثر من ذلك: أخذهم الفداء يوم بدر، وتوليهم عن الرسول الله ﷺ يوم أحد، وأمر الرسول ﷺ بالعفو والصفح عنهم، وأمر أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يعفو عن مسطح وينفق عليه بعد أن حلف أن لا ينفعه لما سمعه فقال: {ولا يأتل أولو الفضل} الآية. [74]
فإن اعترض فقال: الصحابة وغيرهم في السب واللعن سواء إذا سب بعضهم بعضا. قيل له: إن ركبت هذا الباب يلزمك أن تلزمهم الأخبار كلها وتكفرهم لاقتتالهم ومواجهة بعضهم بعضا بالسيف لقوله ﷺ: «لا ترجعوا بعدي كفارا» «فإذا توجه المسلمان». وما في معناه؛ لأنهم أول من أحدث هذه الأشياء، وهذا ما لا يقوله مسلم يعظم حرمة الصحابة ويعتقد تفضيلهم وسابقتهم، والله أعلم.
قال الناسخ: تم الكتاب والحمد لله رب العالمين.
وذلك آخر نهار الاثنين رابع عشر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين وسبعمائة الهلالية ببغداد. رحم الله كاتبه وقارئه ومن انتفع به ومن ترحم عليهما وعلى جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، من أهل السنة والجماعات. جمع الله بيننا وبينهم في الجنة بكرمه وجوده إنه ولي الحسنات ومجيب الدعوات، وذلك على يد أضعف عباد الله حزما وأعظمهم جرما البدر بن محمد بن أبي البدر العاقول جد الخالدي أصلا الحنبلي مذهبا الملقب ثاني الحمامي تعريفا أصلح الله له شأنه وصانه عما شانه والحمد لله.
نقله من خط محمد بن علي بن أحمد بن عبد الوهاب بن الماوردي المقري غفر الله له ولجميع المسلمين.
أيها الناظرون في رسم خطي: اعذروني فعز من ليس يخطئ.
- ↑ سورة التوبة: 100
- ↑ سورة الفتح: 18
- ↑ سورة الحجرات: 3
- ↑ سورة الزمر: 18
- ↑ سورة البقرة: 157
- ↑ سورة الفتح: 26
- ↑ سورة الفتح: 4
- ↑ سورة الفتح: 29: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
- ↑ سورة آل عمران: 174
- ↑ سورة الأنفال: 64
- ↑ سورة الأنفال: 62
- ↑ سورة التوبة: 88-89: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
- ↑ سورة الحشر: 8: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}
- ↑ سورة الحشر: 9
- ↑ سورة الحشر: 10: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
- ↑ سورة التوبة: 20-22: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
- ↑ سورة آل عمران: 159: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
- ↑ سورة التوبة: 71
- ↑ سورة الأنفال: 73
- ↑ الولي والمولى: من المشترك اللفظي الذي يطلق على عدة معان، منها الرَّبُّ، والمَالكُ، والسَّيِّد والمُنْعِم، والمُعْتِقُ، والنَّاصر، والمُحِبّ، والتَّابِع، والجارُ، وابنُ العَمّ، والحَلِيفُ، والعَقيد، والصِّهْر، والعبْد، والمُعْتَقُ، والمُنْعَم عَلَيه، وكل من ولي أمرا أو قام به فهو وليه ومولاه.
- ↑ سورة محمد: 11
- ↑ سورة التحريم: 4
- ↑ سورة البقرة: 257
- ↑ سورة المائدة: 56
- ↑ الحِبُّ: الحبيب
- ↑ العاتق: ما بين المنكب والعنق
- ↑ الخزامة: حلقة من الشعر توضع في ثقب أنف البعير يشد بها الزمام
- ↑ أي غابت
- ↑ التعريس: نزول المسافر آخر الليل من أجل النوم والاستراحة
- ↑ قال ابن تيمية في منهاج السنة 4/ 96-97: "لم تثبت المؤاخاة بين مهاجري ومهاجري، ولا أنصاري وأنصاري، وإنما كانت بين المهاجرين والأنصار أول قدومهم المدينة، فقد آخى بين علي وسهل بن حنيف، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وسلمان الفارسي وأبي الدرداء، ليعقد الصلة بين المهاجرين والأنصار".
- ↑ الصنو: النظير والمثل
- ↑ الهامة: الرأس
- ↑ سورة الأحزاب: 23
- ↑ البعل: الزوج
- ↑ أي اشتد المرض
- ↑ طرا: جميعا.
- ↑ تكنفه: أحاط به
- ↑ الذَّنُوب: الّدَلْو العظيمة
- ↑ الغرب: الدلو العظيمة التي تتخذ من جلد ثور
- ↑ عَبْقَريُّ القوم: سَيِّدُهُم وكَبِيرُهُم وقَوِيُّهم، والعبقري الرجل القوي الفطن حاد الذكاء ذو الصفات الحميدة
- ↑ النزع: سحب الماء من البئر
- ↑ ضرب الناس بعطن: شربت إبلهم وشبعت حتى نامت مكانها وبركت لتعود للشرب مرة أخرى
- ↑ مُحَدَّثون: ملهمون يوافق قولهم مراد الله تعالى
- ↑ أي إن كان ذلك ظلما اقتصّ من نفسه.
- ↑ امضرب: الضرب، وهي لغة يمنية.
- ↑ سورة طه: 121
- ↑ سورة يوسف: 24
- ↑ سورة القصص: 15
- ↑ سورة ص: 24
- ↑ سورة ص: 25
- ↑ سورة الفتح: 2
- ↑ سورة التوبة: 43
- ↑ سورة آل عمران: 155
- ↑ سورة الممتحنة: 1
- ↑ سورة النور: 22
- ↑ سورة الأحقاف: 16
- ↑ سورة الحشر: 10
- ↑ ينظر صحيح البخاري 3094 و 4033، وصحيح أبي داود 2975، وصحيح الترمذي 1610، وصحيح النسائي 4159
- ↑ قال الهيثمي في مجمع الزوائد/كتاب المناقب ح14555: "رواه الطبراني وفيه الحسن بن أبي جعفر الجفري وهو ضعيف لغفلته."
- ↑ سورة الأنعام: 65
- ↑ سورة الزخرف: 41
- ↑ سورة الزمر: 30-31
- ↑ سورة البقرة: 253
- ↑ سورة الحجرات: 9
- ↑ سورة الحشر: 10
- ↑ سورة آل عمران: 159
- ↑ سورة الشعراء: 215
- ↑ سورة نوح: 28
- ↑ سورة إبراهيم: 41
- ↑ سورة النور: 19
- ↑ سورة النور: 15
- ↑ سورة النور: 23
- ↑ سورة الأحزاب: 58
- ↑ سورة النور: 22