►الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع ☰ |
☰ جدول المحتويات
- ذكر الأحداث الكائنة في سنة سبع من الهجرة
- ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة
- ثم دخلت سنة تسع
- ثم دخلت سنة عشر
- سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب وإسلامهم
- قدوم وفد الأزد
- سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن
- قدوم وفد زبيد
- قدوم فروة بن مسيك المرادي
- قدوم الجارود في وفد عبد القيس
- قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة
- قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة
- قدوم رفاعة بن زيد الجذامي
- وفد بني عامر بن صعصعة
- قدوم زيد الخيل في وفد طيئ
- كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه
- خروج الأمراء والعمال على الصدقات
- حجة الوداع
- ذكر جملة الغزوات
- ذكر جملة السرايا والبعوث
- ذكر الخبر عن حج رسول الله ﷺ
- ذكر الخبر عن أزواج رسول الله ﷺ
- ذكر السبب الذي كان في خطبة رسول الله ﷺ عائشة وسودة والرواية الواردة بأولاهما كان عقد عليها رسول الله عقدة النكاح
- ذكر من خطب النبي ﷺ من النساء ثم لم ينكحهن
- ذكر سراري رسول الله ﷺ
- ذكر موالي رسول الله ﷺ
- ذكر من كان يكتب لرسول الله ﷺ
- أسماء خيل رسول الله ﷺ
- ذكر أسماء بغال رسول الله ﷺ
- ذكر أسماء إبله ﷺ
- ذكر أسماء لقاح رسول الله ﷺ
- ذكر أسماء منائح رسول الله ﷺ
- ذكر أسماء سيوف رسول الله ﷺ
- ذكر أسماء قسيه ورماحه ﷺ
- ذكر أسماء دروعه ﷺ
- ذكر ترسه ﷺ
- ذكر أسماء رسول الله ﷺ
- ذكر صفة النبي ﷺ
- ذكر خاتم النبوة التي كانت به ﷺ
- ذكر شجاعته وجوده ﷺ
- ذكر صفة شعره ﷺ وهل كان يخضب أم لا
- ذكر الخبر عن بدء مرض رسول الله الذي توفي فيه وما كان منه قبيل ذلك لما نعيت إليه نفسه ﷺ
- ثم دخلت سنة إحدى عشرة
- ذكر الأحداث التي كانت فيها
- ذكر الأخبار الواردة باليوم الذي توفي فيه رسول الله ومبلغ سنه يوم وفاته
- حديث السقيفة
- ذكر جهاز رسول الله ﷺ ودفنه
- ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفي فيهما رسول الله ﷺ
- ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمارة في سقيفة بني ساعدة
- ذكر أمر أبي بكر في أول خلافته
- بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي
- كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للأمراء
- ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة
- ذكر ردة هوازن وسليم وعامر
- ذكر خبر بني تميم وأمر سجاج بنت الحارث بن سويد
- ذكر البطاح وخبره
- ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة
- ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين
- ذكر الخبر عن ردة أهل عمان ومهرة واليمن
- ذكر خبر مهرة بالنجد
- ذكر خبر المرتدين باليمن
- خبر الأخابث من عك
- ردة أهل اليمن ثانية
- ذكر خبر طاهر حين شخص مددا لفيروز
- ذكر خبر حضرموت في ردتهم
- ثم كانت سنة اثنتي عشرة من الهجرة
- ثم دخلت سنة ثلاث عشرة
- خبر اليرموك
- ذكر وقعة أجنادين
- ذكر مرض أبي بكر ووفاته
- ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كفن فيه أبو بكر ومن صلى عليه والوقت الذي صلي عليه فيه والوقت الذي توفي فيه
- ذكر الخبر عن صفة جسم أبي بكر رحمه الله
- ذكر نسب أبي بكر واسمه وما كان يعرف به
- ذكر أسماء نساء أبي بكر الصديق رحمه الله
- ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات
- ذكر بعض مناقبه
- ذكر استخلافه عمر بن الخطاب
- حال أبي بكر قبل الخلافة وبعدها
- ذكر غزوة فحل وفتح دمشق
- ذكر بيسان
- طبرية
- ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود
- خبر النمارق
- السقاطية بكسكر
- وقعة القرقس
- خبر أليس الصغرى
- البويب
- خبر الخنافس
- ذكر الخبر عما هيج أمر القادسية
- ثم دخلت سنة أربع عشرة
- ثم دخلت سنة خمس عشرة
ذكر الأحداث الكائنة في سنة سبع من الهجرة
غزوة خيبر
ثم دخلت سنة سبع؛ فخرج رسول الله ﷺ في بقية المحرم إلى خبير واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، فمضى حتى نزل بجيشه بواد يقال له الرجيع؛ فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان - فيما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق - ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر؛ وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله ﷺ.
قال: فبلغني أن غطفان لما سمعت بمنزل رسول الله ﷺ من خيبر، جمعوا له، ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه؛ حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهاليهم حسًا؛ ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم؛ فأقاموا في أهاليهم وأموالهم؛ وخلوا بين رسول الله وبين خيبر، وبدأ رسول الله ﷺ بالأموال يأخذها مالًا مالا، ويفتتحها حصنًا حصنًا؛ فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم؛ وعنده قتل محمود بن مسلمة؛ ألقيت عليه رحًا منه فقتلته؛ ثم القموص؛ حصن ابن أبي الحقيق. وأصاب رسول الله ﷺ منهم سبايا؛ منهم صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ وابنتي عم لها. فاصطفى رسول الله ﷺ صفية لنفسه، وكان دحية الكلبي قد سأل رسول الله صفية؛ فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها؛ وفشت السبايا من خيبر في المسلمين.
قال: ثم جعل رسول الله ﷺ يتدنى الحصون والأموال.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أنه حدثه بعض أسلم؛ أن بني سهم من أسلم، أتوا رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله؛ والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء؛ فلم يجدوا عند رسول الله شيئًا يعطيهم إياه، فقال النبي: اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة؛ وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه؛ فافتح عليهم أعظم حصونها؛ وأكثرها طعامًا وودكًا. فغدا الناس، ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ؛ وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه.
قال: ولما افتتح رسول الله ﷺ من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم - وكان آخر حصون خيبر افتتح - حاصرهم رسول الله بضع عشرة ليلة.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل أخي بني حارثة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج مرحب اليهودي من حصنهم؛ قد جمع سلاحه وهو يرتجز؛ ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانًا وحينًا أضرب ** إذا الليوث أقبلت تحرب
كان حماي، للحمى لا يقرب
وهو يقول: هل من مبارز! فقال رسول الله ﷺ: من لهذا؟ فقام محمد بن مسلمة؛ فقال: أنا له يا رسول الله؛ أنا والله الموتور الثائر؛ قتلوا أخي بالأمس! قال: فقم إليه؛ اللهم أعنه عليه.
فلما أن دنا كل واحد منهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر؛ فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه؛ فكلما لاذ بها أقتطع بسيفه منها ما دونه منها؛ حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما بينهما فنن؛ ثم حمل مرحب على محمد فضربه؛ فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها؛ فعضت به فأمسكته، وضربه محمد ابن مسلمة حتى قتله.
ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني ياسر ** شاكي السلاح بطل مغاور
إذا الليوث أقبلت تبادر ** وأحجمت عن صولتي المغاور
إن حماي فيه موت حاضر
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن هشام بن عروة؛ أن الزبير بن العوام خرج إلى ياسر، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال: بل ابنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير وهو يقول:
قد علمت خيبر أني زبار ** قرم لقوم غير نكس فرار
ابن حماة المجد وأبن الأخيار ** ياسر لا يغررك جمع الكفار
فجمعهم مثل السراب الجرار
ثم التقيا فقتله الزبير.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، أن عبد الله بن بريدة حدث عن بريدة الأسلمي، قال: لما كان حين نزل رسول الله ﷺ بحصن أهل خيبر، أعطى رسول الله ﷺ اللواء عمر بن الخطاب، ونهض من نهض معه من الناس؛ فلقوا أهل خيبر؛ فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله ﷺ؛ يجبنه أصحابه ويجبنهم، فقال رسول الله ﷺ: لأعطين اللواء غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. فلما كان من الغد تطاول لها أبو بكر وعمر؛ فدعا عليًا عليه السلام وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه اللواء؛ ونهض معه من الناس من نهض. قال: فلقي أهل خيبر؛ فإذا مرحب يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانًا وحينًا أضرب ** إذا الليوث أقبلت تلهب
فاختلف هو وعلى ضربتين، فضربه على على هامته؛ حتى عض السيف منها بأضراسه؛ وسمع أهل العسكر صوت ضربته؛ فما تتام آخر الناس مع على عليه السلام حتى فتح الله له ولهم.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا المسيب بن مسلم الأودي، قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله ﷺ ربما أخذته الشقيقة، فيلبث اليوم واليومين لا يخرج. فلما نزل رسول الله ﷺ خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس. وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله؛ ثم نهض فقاتل قتالًا شديدًا؛ ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالًا شديدًا هو أشد من القتال الأول؛ ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله، فقال: أما والله لأعطينها غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يأخذها عنوة - قال: وليس ثم على عليه السلام - فتطاولت لها قريش، ورجا كل واحد منهم أن يكون صاحب ذلك؛ فأصبح فجاء علي عليه السلام على بعير له، حتى أناخ قريبًا من خباء رسول الله ﷺ وهو أرمد، وقد عصب عينيه بشقة برد قطري؛ فقال رسول الله ﷺ: مالك؟ قال: رمدت بعد، فقال رسول الله ﷺ: أدن منى، فدنا فتفل في عينيه، فما وجعهما حتى مضى لسبيله. ثم أعطاه الراية؛ فنهض بها معه وعليه حلة أرجوان حمراء قد أخرج خملها. فأتى مدينة خيبر؛ وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر يمان، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي عليه السلام:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ** أكيلكم بالسيف كيل السندره
ليث بغابات شديد قسوره
فاختلفا ضربتين؛ فبدره علي فضربه، فقد الحجر والمفغر ورأسه؛ حتى وقع في الأضراس. وأخذ المدينة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن الحسن؛ عن بعض أهله، عن أبي رافع مولي رسول الله ﷺ، قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله ﷺ برايته؛ فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله؛ فقاتلهم فضربه رجل من اليهود، فطرح ترسه من يده؛ فتناول علي رضي الله عنه بابًا كان عند الحصن، فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل؛ حتى فتح الله عليه؛ ثم ألقاه من يده حين فرغ؛ فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما فتح رسول الله ﷺ القموص، حصن ابن أبي الحقيق، أتى رسول الله بصفية بنت حيي بن أخطب، وبأخرى معها؛ فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلي من قتلي يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله قال: أغربوا عني هذه الشيطانة؛ وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقي عليها رداؤه، فعرف المسلمون أن رسول الله ﷺ قد اصطفاها لنفسه، فقال رسول الله ﷺ لبلال - فيما بلغني - حين رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال؛ حيث تمر بامرأتين على قتلي رجالهما! وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ أن قمرًا وقع في حجرها؛ فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدًا، فلطم وجهها لطمة أخضرت عينها منها؛ فأتى بها رسول الله ﷺ وبها أثر منها، فسألها: ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله ﷺ بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق - وكان عنده كنز بني النضير - فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه؛ فأتى رسول الله ﷺ برجل من يهود؛ فقال لرسول الله ﷺ: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم؛ فأمر رسول الله ﷺ بالخربة فحفرت؛ فأخرج منها بعض كنزهم؛ ثم سأله ما بقي. فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله ﷺ الزبير بن العوام، فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده؛ فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتى أشرف على نفسه؛ ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. وحاصر رسول الله ﷺ أهل خيبر في حصنيهم، الوطيح والسلالم؛ حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم؛ ففعل. وكان رسول الله قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتبية؛ وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله ﷺ يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم لهم، ويخلوا له الأموال أففعل، وكان فيمن مشى بينهم وبين رسول الله في ذلك محيصة بن مسعود؛ أخوبني حارثة؛ فلما نزل أهل خيبر على ذلك؛ سألوا رسول الله أن يعاملهم بالأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم؛ وأعمر لها؛ فصالحهم رسول الله ﷺ على النصف؛ على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم؛ وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئًا للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله ﷺ؛ لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب. فلما اطمأن رسول الله ﷺ أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية؛ وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله؟ فقيل لها: الذراع؛ فأكثرت فيها السم، فسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله ﷺ تناول الذراع؛ فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها؛ ومعه بشر بن البراء ابن معرور؛ وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله، فأما بشر فأساغها؛ وأما رسول الله فلفظها، ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم؛ ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبيًا فسيخبر؛ وإن كان ملكًا استرحت منه؛ فتجاوز عنها النبي ﷺ. ومات بشر بن البراء من إكلته التي أكل.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق؛ عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلي، قال: وقد كان رسول الله ﷺ قال في مرضه الذي توفي فيه - ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر؛ إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع ابنك بخيبر.
قال: وكان المسلمون يرون أن رسول الله ﷺ قد مات شهيدًا مع ما أكرمه الله به من النبوة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله ﷺ من خيبر انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهله ليالي، ثم انصرف راجعًا إلى المدينة.
ذكر غزوة رسول الله ﷺ وادي القرى
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ثور ابن زيد، عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة، قال: لما انصرفنا مع رسول الله ﷺ من خيبر إلى وادي القرى، نزلنا أصلًا مع مغارب الشمس، ومع رسول الله ﷺ غلام له؛ أهداه إليه رفاعة بن زيد الجذامي، ثم الضبيبي؛ فو الله إنا لنضع رحل رسول الله ﷺ إذ أتاه سهم غرب؛ فأصابه فقتله، فقلنا: هنيئًا له الجنة! فقال رسول الله ﷺ: كلا والذي نفس محمد بيده؛ إن شملته الآن لتحرق عليه في النار. قال: وكان غلها من فئ المسلمين يوم خيبر.
قال: فسمعها رجل من أصحاب رسول الله ﷺ فأتاه، فقال: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لي، قال: فقال: يقد لك مثلهما من النار.
وفي هذه السفرة نام رسول الله ﷺ وأصحابه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: لما انصرف رسول الله ﷺ من خيبر؛ وكان ببعض الطريق، قال من آخر الليل: من رجل يحفظ علينا الفجر، لعلنا ننام؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله أحفظ لك؛ فنزل رسول الله ﷺ، ونزل الناس فناموا؛ وقام بلال يصلي، فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم أستند إلى بعيره؛ وأستقبل الفجر يرمقه؛ فغلبته عينه، فنام فلم يوقظهم إلا مس الشمس؛ وكان رسول الله ﷺ أول أصحابه هب من نومه، فقال: ماذا صنعت بنا يا بلال! فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قا: صدقت. ثم أقتاد رسول الله غير كثير، ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بالناس، فلما سلم أقبل على الناس، فقال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله عز وجل يقول: " وأقم الصلاة لذكري ".
قال ابن إسحاق: وكان فتح خيبر في صفر.
قال: وشهد مع رسول الله ﷺ نساء من نساء المسلمين، فرضخ لهن رسول الله من الفيء ولم يضرب لهن بسهم.
أمر الحجاج بن علاط السلمي
قال: ولما فتحت خيبر قال الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي لرسول الله ﷺ: يا رسول الله؛ إن لي مالًا بمكة عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة - وكانت عنده، له منها معرض بن الحجاج - ومال متفرق في تجار أهل مكة، فأذن لي يا رسول الله. فأذن له رسول الله ﷺ، ثم قال: إنه لا بد لي من أن أقول، قال: قل، قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة، فوجدت بثينة البيضاء رجالًا من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رسول الله، وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز؛ ريفًا ومنعه ورجالًا، فهم يتحسسون الأخبار؛ فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر! أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر؛ وهي بلدة يهود وريف الحجاز. قال: قلت: قد بلغني ذلك، وعندي من الخبر ما يسركم. قال: فالتاطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج! قال: قلت: هزموا هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط؛ وقتل أصحابه قتلًا لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرًا، وقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم. قال: فقاموا فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال: قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة على غرمائي؛ فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك.
قال: فقاموا فجمعوا مالي كأحث جمع سمعت به. فجئت صاحبتي فقلت: مالي - وقد كان لي عندها مال موصوع - لعلي ألحق بخيبر؛ فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني إليه التجار. فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عني، أقبل حتى وقف إلى جنبي؛ وأنا في خيمة من خيام التجار، فقال: يا حجاج، ما هذا الذي جئت به؟ قال: قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم، قلت: فاستأخر عني حتى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى؛ فانصرف عني حتى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة، وأجمعت الخروج، لقيت العباس، فقلت: أحفظ على حديثي يا أبا الفضل؛ فإني أخشى الطلب ثلاثًا، ثم قل ما شئت. قال: أفعل، قال: قلت فإني والله لقد تركت ابن أخيك عروسًا على ابنة ملكهم - يعني صفية بنت حي ابن أخطب ولقد افتتح خيبر، وأنتثل ما فيها؛ وصارت له ولأصحابه. قال: ما تقول يا حجاج؟! قال: قلت: إي والله؛ فأكتم على؛ ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي فرقًا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك؛ فهو والله على ما تحب. قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له، وتخلق وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة، فطاف بها؛ فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل؛ هذا والله التجلد لحر المصيبة! قال: كلا والذي حلفتم به! لقد افتتح محمد خيبر، وترك عروسًا على ابنة ملكهم، وأحرز أموالها وما فيها؛ فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم به؛ لقد دخل عليكم مسلمًا، وأخذ ماله وأنطلق ليلحق برسول الله وأصحابه فيكون معه، قالوا: يال عباد الله! أفلت عدو الله! أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك ذكر مقاسم خيبر وأموالها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: كانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة؛ فكانت الشق ونطاة في سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله عز وجل وخمس النبي ﷺ؛ وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل، وطعم أزواج النبي، وطعم رجال مشوا بين رسول الله وبين أهل فدك بالصلح؛ منهم محيصة ابن مسعود، أعطاه رسول الله ﷺ منها ثلاثين وسق شعير، وثلاثين وسق تمر. وقسمت خيبر على أهل الحديبية؛ من شهد منهم خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري، فقسم له رسول الله ﷺ كسهم من حضرها.
قال: ولما فرغ رسول الله ﷺ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع الله بأهل خيبر؛ فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطائف، وإما بعد ما قدم المدينة. فقبل ذلك منهم؛ فكانت فدك لرسول الله ﷺ خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان رسول الله ﷺ يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصًا بين المسلمين ويهود، فيخرص عليهم؛ فإذا قالوا: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم؛ وإن شئتم فلنا؛ فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض.
وإنما خرص عليهم عبد الله بن رواحة؛ ثم أصيب بمؤتة، فكان جبار بن صخر بن خنساء، أخو بني سلمة؛ هو الذي يخرص عليهم بعد عبد الله بن رواحة، فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسًا في معاملتهم؛ حتى عدوا في عهد رسول الله ﷺ على عبد الله ابن سهل، أخي بني حارثة؛ فقتلوه، فاتهمهم رسول الله ﷺ والمسلمون عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: سألت ابن شهاب الزهري: كيف كان إعطاء رسول الله ﷺ يهود خيبر نخيلهم حين أعطاهم النخل على خرجها؟ أبت ذلك لهم حتى فبض، أم أعطاهم إياها لضرورة من غير ذلك؟ فأخبرني ابن شهاب أن رسول الله ﷺ افتتح خيبر عنوة بعد القتال؛ وكانت خيبر مما أفاء الله على رسوله؛ خمسها رسول الله وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الإجلاء بعد القتال؛ فدعاهم رسول الله ﷺ فقال: إن شئتم دفعنا إليكم هذه الأموال على أن تعلموها؛ وتكون ثمارها بيننا وبينكم؛ وأقركم ما أقركم الله. فقبلوا، فكانوا على ذلك يعملونها. وكان رسول الله ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة فيقسم ثمرها، ويعدل عليهم في الحرص؛ فلما توفى الله عز وجل نبيه ﷺ أقرها أبو بكر بعد النبي في أيديهم على المعاملة التي كان عاملهم عليها رسول الله حتى توفي، ثم أقرها عمر صدرًا من إمارته؛ ثم بلغ عمر أن رسول الله ﷺ قال في وجعه الذي قبض فيه: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود أن الله قد أذن في إجلائكم؛ فقد بلغني أن رسول الله ﷺ قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له؛ ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء؛ فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد من رسول الله ﷺ منهم.
قال أبو جعفر: ثم رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة.
حوادث متفرقة
قال الواقدي: في هذه السنة رد رسول الله ﷺ زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع؛ وذلك في المحرم.
قال: وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس بمارية وأختها سيرين وبغلته دلدل وحماره يعفور وكسًا؛ وبعث معهما بخصي فكان معهما، وكان حاطب قد دعاهما إلى الإسلام قبل أن يقدم بهما؛ فأسلمت هي وأختها، فأنزلهما رسول الله ﷺ على أم سليم بنت ملحان - وكانت مارية وضيئة - قال: فبعث النبي ﷺ بأختها سيرين إلى حسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
قال: وفي هذه السنة أتخذ النبي ﷺ منبره الذي كان يخطب الناس عليه، وأتخذ درجتين ومقعده.
قال: ويقال إنه عمل في سنة ثمان. قال: وهو الثبت عندنا.
قال: وفيها بعث رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب في ثلاثين رجلًا إلى عجز هوازن بتربة، فخرج بدليل له من بني هلال؛ وكانوا يسيرون الليل، ويكمنون النهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا؛ فلم يلق كيدًا، ورجع.
قال: وفيها سرية أبي بكر بن أبي قحافة في شعبان إلى نجد؛ قال سلمة ابن الأكوع: غزونا مع أبي بكر في تلك السنة.
قال أبو جعفر: قد مضى خبرها قبل.
قال الواقدي: وفيها سرية بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك في شعبان في ثلاثين رجلًا، فأصيب أصحابه وأرتث في القتلي، ثم رجع إلى المدينة.
قال أبو جعفر: وفيها سرية غالب بن عبد الله في شهر رمضان إلى الميفعة؛ فحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ﷺ غالب ابن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة، فأصاب بها مرداس بن نهيك حليفًا لهم من الحرقة من جهينة؛ قتله أسامة بن زيد ورجل من الأنصار.
قال أسامة: لما غشيناه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فلم ننزع عنه حتى قتلناه؛ فلما قدمنا على رسول الله أخبرناه الخبر؛ فقال: يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله! قال الواقدي: وفيها سرية غالب بن عبد الله إلى بني عبد بن ثعلبة؛ ذكر أن عبد الله بن جعفر حدثه عن ابن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، قال: قال يسار مولى رسول الله ﷺ: يا رسول الله؛ إني أعلم غرة من بني عبد بن ثعلبة، فأرسل معه غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين رجلًا؛ حتى أغاروا على بني عبد، فأستاقوا النعم والشاء، وحدروها إلى المدينة.
قال: وفيها سرية بشير بن سعد إلى يمن وجناب، في شوال من سنة سبع، ذكر أن يحيى بن عبد العزيز بن سعيد حدثه عن سعد بن عبادة، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: الذي أهاج هذه السرية أن حسيل بن نويرة الأشجعي - وكان دليل رسول الله ﷺ إلى خيبر - قدم على النبي ﷺ، فقال: ما وراءك؟ قال: تركت جمعًا من غطفان بالجناب قد بعث إليهم عيينة بن حصن ليسيروا إليكم، فدعا رسول الله بشير بن سعد، وخرج معه الدليل حسيل بن نويرة، فأصابوا نعمًا وشاءً؛ ولقيهم عبد لعيينة بن حصن فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة؛ فأنهزم، فلقيه الحارث بن عوف منهزمًا، فقال: قد آن لك يا عيينة أن تقصر عما ترى.
عمرة القضاء
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة من خيبر، أقام بها شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوالا؛ يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمرًا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها؛ وخرج معه المسلمون ممن كان معه في عمرته تلك، وهي سنة سبع؛ فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه؛ وتحدثت قريش بينها أن محمدًا وأصحابه في عسر وجهد وحاجة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: اصطفوا لرسول الله ﷺ عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه؛ فلما دخل رسول الله المسجد، أضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى، ثم قال: رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوةً! ثم أستلم الركن. وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم؛ وأستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف؛ ومشى سائرها.
وكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم؛ وذلك أن رسول الله إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم؛ حتى حج حجة الوداع، فرملها، فمضت السنة بها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أن رسول الله ﷺ حين دخل مكة في تلك العمرة، دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته؛ وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ** إني شهيد أنه رسوله
خلوا فكل الخير في رسوله ** يا رب إني مؤمن بقيله
أعرف حق الله في قبوله ** نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله ** ضربًا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء بن رباح ومجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك؛ وهو حرام؛ وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ بمكة ثلاثًا، فأتاه حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، في نفر من قريش في اليوم الثالث، وكانت قريش وكلته بإخراج رسول الله ﷺ من مكة، فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فأخرج عنا، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه! قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فأخرج عنا. فخرج رسول الله ﷺ وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة؛ حتى أتاه بها بسرف، فبنى عليها رسول الله هنالك، وأمر رسول الله أن يبدلوا الهدى وأبدل معهم، فعزت عليهم الإبل فرخص لهم في البقر؛ ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى المدينة في ذي الحجة، فأقام بها بقية ذي الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: أمرهم رسول الله ﷺ أن يعتمروا في قابل قضاء لعمرة الحديبية، وأن يهدوا.
قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لم تكن هذه العمرة قضاءً، ولكن كان شرط على المسلمين أن يعتمروا قابلًا في الشهر الذي صدهم المشركون فيه.
قال الواقدي: قول ابن أبي ذئب أحب إلينا، لأنهم أحصروا ولم يصلوا إلى البيت.
وقال الواقدي: وحدثني عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن محمد ابن إبراهيم، قال: ساق رسول الله ﷺ في عمرة القضية ستين بدنة.
قال: وحدثني معاذ بن محمد الأنصاري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حمل السلاح والبيض والرماح، وقاد مائة فرس، وأستعمل على السلاح بشير بن سعد، وعلى الخيل محمد بن مسلمة، فبلغ ذلك قريشًا فراعهم؛ فأرسلوا مكرز بن حفص بن الأخيف، فلقيه بمر الظهران، فقال له: ما عرفت صغيرًا ولا كبيرًا إلا بالوفاء؛ وما أريد إدخال السلاح عليهم؛ ولكن يكون قريبًا إلى. فرجع إلى قريش فأخبرهم.
قال الواقدي: وفيها كانت غزوة ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي القعدة؛ بعثه رسول الله ﷺ إليهم بعد ما رجع من مكة في خمسين رجلًا، فخرج إليهم.
قال أبو جعفر: فلقيه - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، بنو سليم، فأصيب بها هو وأصحابه جميعًا.
قال أبو جعفر: أما الواقدي فإنه زعم أنه نجا ورجع إلى المدينة، وأصيب أصحابه.
ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة
ففيها توفيت - فيما زعم الواقدي - زينب ابنة رسول الله ﷺ، عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر.
خبر غزوة غالب بن عبد الله الليثي بني الملوح
قال: وفيها أغزي رسول الله ﷺ غالب بن عبد الله الليثي في صفر إلى الكديد إلى بني الملوح.
قال أبو جعفر: وكان من خبر هذه السرية وغالب بن عبد الله؛ ما حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري وسعيد بن يحيى بن سعيد - قال إبراهيم: حدثني يحيى بن سعيد، وقال سعيد بن يحيى: حدثني أبي - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ جميعًا عن ابن إسحاق، قال: حدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة، عن مسلم بن عبد الله بن خبيب الجهني، عن جندب ابن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله ﷺ غالب بن عبد الله الكلبي؛ كلب ليث، إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم، فخرج - وكنت في سريته - فمضينا؛ حتى إذا كنا بقديد لقينا بها الحارث ابن مالك - وهو ابن البرصاء الليثي - فأخذناه فقال: إني إنما جئت لأسلم؛ فقال غالب بن عبد الله: إن كنت إنما جئت مسلمًا، فلن يضرك رباط يوم وليلة؛ وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك. قال: فأوثقه رباطًا ثم خلف عليه رويجلًا أسود كان معنا، فقال: أمكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فأحتز رأسه. قال: ثم مضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشيشية بعد العصر، فبعثني أصحابي ربيئة، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فأنبطحت عليه - وذلك قبيل المغرب - فخرج منهم رجل، فنظر فرآني منبطحًا على التل، فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سوادًا ما كنت رأيته أول النهار؛ فانظري لا تكون الكلاب جرت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد شيئًا. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي
فناولته فرماني بسهم فوضعه في جنبي. قال: فنزعته فوضعته، ولم أتحرك. ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم أنحرك. فقال: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان ربيئة لتحرك؛ فإذا أصبحت فأتبعني سهمي فخذيهما لا تمضغهما على الكلاب، قال: فأمهلناهم حتى راحت رائحتهم، حتى إذا أحتلبوا وعطنوا سكنوا، وذهبت عتمة من الليل شننا عليهم الغارة، فقتلنا من قتلنا وأستقنا النعم؛ فوجهنا قافلين؛ وخرج صريخ القوم إلى القوم مغوثًا. قال: وخرجنا سراعًا حتى نمر بالحارث بن مالك؛ ابن البرصاء، وصاحبه؛ فأنطلقنا به معنًا، وأتانا صريخ الناس، فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله عز وجل من حيث شاء سحابًا ما رأينا قبل ذلك مطرًا ولا خالًا، فجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه؛ فلقد رأيناهم ينظرون إلينا، ما يقدر أحد منهم أن يقدم ولا يتقدم؛ ونحن نحدوها سراعًا؛ حتى أسندناها في المشلل؛ ثم حدرناها عنها، فأعجزنا القوم بما في أيدينا، فما أنسى قول راجز من المسلمين؛ وهو يحدوها في أعقابها، ويقول:
أبي القاسم أن تعزبي ** في خضل نباته مغلولب
صفر أعاليه كلون المذهب
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من أسلم، عن شيخ منهم، أن شعار أصحاب رسول الله ﷺ تلك الليلة كان: أمت أمت.
قال الواقدي: كانت سرية غالب بن عبد الله بضعة عشر رجلًا.
قال: وفيها بعث رسول الله ﷺ العلاء بن الحضري إلى المنذر بن ساوي العبدي؛ وكتب إليه كتابًا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوي. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإن كتابك جاءني ورسلك. وإنه من صلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، وأستقبل قبلتنا فإنه مسلم؛ له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن أبى فعليه الجزية. قال: فصالحهم رسول الله ﷺ على أن على المجوس الجزية، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
قال: وفيها بعث رسول الله ﷺ عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني جلندي بعمان، فصدقا النبي، وأقرا بما جاء به، وصدق أموالهما، وأخذ الجزية من المجوس.
قال: وفيها سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر، في شهر ربيع الأول في أربعة وعشرين رجلًا، فشن الغارة عليهم، فأصابوا نعمًا وشاءً، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرًا؛ لكل رجل.
قال: وفيها كانت سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات أطلاح، خرج في خمسة عشر رجلًا؛ حتى أنتهى إلى ذات أطلاح، فوجد جمعًا كثيرًا، فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا، فقتلوا أصحاب عمرو جميعًا، وتحامل حتى بلغ المدينة.
قال الواقدي: وذات أطلاح من ناحية الشأم، وكانوا من قضاعة، ورأسهم رجل يقال له سدوس.
إسلام عمرو بن العاص
قال: وفيها قدم عمرو بن العاص مسلمًا على رسول الله ﷺ، قد أسلم عند النجاشي، وقدم معه عثمان بن طلحة العبدري، وخالد ابن الوليد بن المغيرة، قدموا المدينة في أول صفر.
قال أبو جعفر: وكان سبب إسلام عمرو بن العاص، ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولي ابن أبي أوس، عن حبيب بن أبي أوس، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى أذني، قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالًا من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا. وإني قد رأيت رأيًا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فلأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإن يظهر قومنا فنحن من قد عرفوا؛ فلا يأتينا منهم إلا خير. فقالوا: إن هذا لرأي. قلت: فأجمعوا له ما نهدي إليه - وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم - فجمعنا له أدمًا كثيرًا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه؛ فو الله إنا لعنده؛ إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري - وكان رسول الله ﷺ قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه - قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه؛ فأعطانيه فضربت عنقه! فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا بصديقي! أهديت لي شيئًا من بلادك؟ قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت لك أدمًا كثيرًا، ثم قربته إليه، فأعجبه واشتهاه؛ ثم قلت له: أيها الملك؛ إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك؛ وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره - يعني النجاشي - فلو انشقت الأرض لي لدخلت فيها فرقًا منه. ثم قلت: والله أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله! فقلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قال: قلت: فتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي؛ وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامدًا لرسول الله لأسلم؛ فلقيت خالد ابن الوليد - وذلك قبل الفتح - وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد أستقام المنسم؛ وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم؛ فحتى متى! فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على رسول الله ﷺ، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر! فقال رسول الله ﷺ: يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن الهجرة تجب ما قبلها. فبايعته ثم انصرفت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا أتهم؛ أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، كان معهما، أسلم حين أسلما.
ذكر ما في الخبر عن الكائن
كان من الأحداث المذكورة في سنة ثمان من سني الهجرة فمما كان فيها من ذلك توجيه رسول الله ﷺ عمرو بن العاص في جمادى الآخرة إلى السلاسل من بلاد قضاعة في ثلثمائة؛ وذلك أن أم العاص بن وائل - فيما ذكر - كانت قضاعية، فذكر أن رسول الله ﷺ أراد أن يتألفهم بذلك، فوجهه في أهل الشرف من المهاجرين والأنصار، ثم استمد رسول الله ﷺ، فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر في مائتين، فكان جميعهم خمسمائة.
غزوة ذات السلاسل
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ﷺ عمرو بن العاص إلى أرض بلى وعذرة، يستنفر الناس إلى الشأم؛ وذلك أن أم العاص بن وائل كانت أمرأة من بلى، فبعثه رسول الله إليهم يستألفهم بذلك؛ حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلاسل - وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - فلما كان عليه خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه رسول الله ﷺ أبا عبيدة ابن الجراح في المهاجرين الأولين؛ فيهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا؛ فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو بن العاص: إنما جئت مددًا لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو؛ إن رسول الله قد قال لي: لا تختلفا؛ وأنت إن عصيتني أطعتك، قال: فأنا أمير عليك؛ وإنما أنت مدد لي، قال: فدونك! فصلي عمرو ابن العاص بالناس.
غزوة الخبط
قال الواقدي: وفيها كانت غزوة الخبط؛ وكان الأمير فيها أبو عبيدة ابن الجراح، بعثه رسول الله ﷺ في رجب منها، في ثلثمائة من المهاجرين والأنصار قبل جهينة، فأصابهم فيها أزل شديد وجهد، حتى أقتسموا التمر عددًا.
وحدثنا بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار حدثه أنه سمع جابر ابن عبد الله يقول: خرجنا في بعث ونحن ثلثمائة، وعلينا أبو عبيدة بن الجراح، فأصابنا جوع، فكنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر؛ فخرجت دابة من البحر يقال لها العنبر، فمكثنا نصف شهر، نأكل منها، ونحر رجل من الأنصار جزائر، ثم نحر من الغد كذلك؛ فنهاه أبو عبيدة، فأنتهى.
قال عمرو بن دينار - وسمعت ذكوان أبا صالح قال: إنه قيس بن سعد.
قال عمرو: وحدثني بكر بن سوادة الجذامي، عن أبي جمرة، عن جابر بن عبد الله نحو ذلك، إلا أنه قال: جهدوا؛ وقد كان عليهم قيس ابن سعد، ونحر لهم تسع ركائب، وقال: بعثهم في بعث من وراء البحر؛ وإن البحر ألقي إليهم دابة؛ فمكثوا عليها ثلاثة أيام يأكلون منها ويقددون ويغرفون شحمها؛ فلما قدموا على رسول الله ﷺ ذكروا له ذلك من أمر قيس بن سعد، فقال رسول الله: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت، وقال في الحوت: لو نعلم أنا نبلغه قبل أن يروح لأحببنا أن لو كان عندنا منه شيء؛ ولم يذكر الخبط ولا شيئًا سوى ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يخبر، قال: زودنا النبي ﷺ جرابًا من تمر، فكان يقبض لنا أبو عبيدة قبضة قبضة، ثم تمرة تمرة، فنمصها ونشرب عليها الماء إلى الليل؛ حتى نفد ما في الجراب، فكنا نجني الخبط، فجعنا جوعًا شديدًا. قال: فألقي لنا البحر حوتًا ميتًا، فقال أبو عبيدة: جياع كلوا، فأكلنا - وكان أبو عبيدة ينصب الضلع من أضلاعه فيمر الراكب على بعيره تحته، ويجلس النفر الخمسة في موضع عينه - فأكلنا واد هنا حتى صلحت أجسامنا، وحسنت شحماتنا؛ فلما قدمنا المدينة قال جابر: فذكرنا ذلك للنبي ﷺ، فقال: كلوا رزقًا أخرجه الله عز وجل لكم معكم منه شيء؟ - وكان معنا منه شيء - فأرسل إليه بعض القوم فأكل منه.
قال الواقدي: وإنما سميت غزوة الخبط، لأنهم أكلوا الخبط حتى كأن أشداقهم أشداق الإبل العضهة.
قال: وفيها كانت سرية وجهها رسول الله ﷺ في شعبان، أميرها أبو قتادة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، قال: تزوجت أمرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله ﷺ أستعينه على نكاحي، فقال: وكم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم يا رسول الله، قال: سبحان الله! لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم! والله ما عندي ما أعينك به. قال: فلبثت أيامًا؛ وأفبل رجل من بني جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم؛ حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة؛ يريد أن يجمع قيسًا على حرب رسول الله ﷺ.
قال: وكان ذا أسم وشرف في جشم. قال: فدعاني رسول الله ﷺ ورجلين، من المسلمين فقال: أخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به؛ أو تأتونا منه بخبر وعلم. قال: وقدم لنا شارفًا عجفاء، فحمل عليها أحدنا؛ فو الله ما قامت به ضعفًا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى أستقلت وما كادت. ثم قال: تبلغوا على هذه وأعتقبوها.
قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف؛ حتى جئنا قريبًا من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس، فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت على العسكر فكبرا وشدا معي.
قال: فو الله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غرة أو نصيب منهم شيئًا، غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء؛ وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه.
قال: فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه، فجعله في عنقه ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا؛ ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب، نحن نكفيك! فقال: والله لا يذهب إلا أنا، قالوا: فنحن معك، قال: والله لا يتبعني منكم أحد.
قال: وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فو الله ما تكلم، ووثبت إليه فأحتززت رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت؛ وشد صاحباي وكبرا؛ فو الله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم؛ وما خف معهم من أموالهم.
قال: فأستقنا إبلًا عظيمة، وغنمًا كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله ﷺ، وجئت برأسه أحمله معي، قال: فأعانني رسول الله ﷺ من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرًا، فجمعت إلى أهلي.
وأما الواقدي، فذكر أن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، حدثه عن أبيه، أن النبي ﷺ بعث ابن أبي حدرد في هذه السرية مع أبي قتادة، وأن السرية كانت ستة عشر رجلًا، وأنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وأن سهمانهم كانت أثنى عشر بعيرًا يعدل البعير بعشر من الغنم، وأنهم أصابوا في وجوههم أربع نسوة؛ فيهن فتاة وضيئة، فصارت لأبي قتادة، فكلم محمية بن الجزء فيها رسول الله ﷺ، فسأل رسول الله ﷺ أبا قتادة عنها، فقال: أشتريتها من المغنم، فقال: هبها لي، فوهبها له، فأعطاها رسول الله محمية بن جزء الزبيدي.
قال: وفيها أغزي رسول الله ﷺ في سرية أبا قتادة إلى بطن إضم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. وقال بعضهم عن ابن القعقاع - عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول الله ﷺ إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم - وكانت قبل الفتح - مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن. فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان بينه وبينه؛ فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله ﷺ فأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: " يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
وقال الواقدي: إنما كان رسول الله ﷺ بعث هذه السرية حين خرج لفتح مكة في شهر رمضان، وكانوا ثمانية نفر.
ذكر الخبر عن غزوة مؤتة
قال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، قال: لما رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة من خيبر؛ أقام بها شهري ربيع، ثم بعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله ﷺ بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان؛ وأستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد حارثة فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.
فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم وودعوهم؛ فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله ﷺ بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم؛ ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا ". فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ** وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزةً ** بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ** أرشدك الله من غاز وقد رشدا!
ثم إن القوم تهيئوا للخروج فجاء عبد الله بن رواحة إلى رسول الله ﷺ فودعه، ثم خرج القوم، وخرج رسول الله يشيعهم؛ حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم، قال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على أمرئ ودعته ** في النخل خير مشيع وخليل
ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشأم؛ فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وأنضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى في مائة ألف منهم؛ عليهم رجل من بلى، ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن رافلة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين، ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا برجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم؛ والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فأنطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور؛ وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:
جلبنا الخيل من آجام قرح ** تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من من الصوان سبتًا ** أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان ** فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات ** تنفس في مناخرها السموم
فلا وأبي، مآب لنأتينها ** ولو كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت ** عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيه ** إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها ** أسنتنا فتنكح أو تئيم
ثم مضى الناس حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيمًا لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فو الله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو يتمثل أبياته هذه:
إذا أديتني وحملت رحلي ** مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ** ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني ** بأرض الشؤم مشتهي التواء
وردك كل ذي نسب قريب ** إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ** ولا نخل أسافلها رواء
قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع! يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل! ثم قال عبد الله في بعض شعره وهو يرتجز:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ** تطاول الليل هديت فأنزل
قال: ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف. ثم دنا العدو، وأنحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة؛ فألتقى الناس عندها، فتعبأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلًا من بني عذرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلًا من الأنصار يقال له عباية بن مالك، ثم ألتقى الناس؛ فأقتتلوا؛ فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله ﷺ حتى شاط في رماح القوم؛ ثم أخذها جعفر بن أبي طالب؛ فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال أقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام فرسه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة وأبو تميملة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، قال: حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة - قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين أقتحم عن فرس له شقراء؛ فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فلما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة؛ ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ** طائعةً أو فلتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ** مالي أراك تكرهين الجنه!
قد طالما قد كنت مطمئنه ** هل أنت إلا نطفة في شنه!
وقال أيضًا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ** هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ** إن تفعلي فعلهما هديت
قال: ثم نزل؛ فلما نزل أتاه ابن عم له بعظم من لحم؛ فقال: شد بها صلبك؛ فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت؛ فأخذه من يده؛ فأنتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه؛ فتقدم فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية ثابت بن أقرم؛ أخو بلعجلان؛ فقال: يا معشر المسلمين أصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل؛ فأصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم؛ وحاشى بهم، ثم أنحاز وتحيز عنه حتى انصرف بالناس.
فحدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري - وكانت الأنصار تفقهه - فغشيه الناس، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله ﷺ، قال: بعث رسول الله جيش الأمراء، فقال: عليكم زيد بن حارثة؛ فإن أصيب فجعفر ابن أبي طالب؛ فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة؛ فوثب جعفر فقال: يا رسول الله؛ ما كنت أذهب أن تستعمل زيدًا علي! قال: أمض؛ فإنك لا تدري أي ذلك خير! فأنطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. ثم إن رسول الله ﷺ صعد المنبر، وأمر فنودى: الصلاة جامعة! فأجتمع الناس إلى رسول الله، فقال: باب خير، باب خير، باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؛ إنهم أنطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيدًا - وأستغفر له - ثم أخذ اللواء جعفر، فشد على القوم حتى قتل شهيدًا - فشهد له بالشهادة وأستغفر له - ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة؛ فأثبت قدميه حتى قتل شهيدًا - فأستغفر له - ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد - ولم يكن من الأمراء؛ هو أمر نفسه - ثم قال رسول الله ﷺ: اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره - فمنذ يومئذ سمى خالد سيف الله - ثم قال رسول الله: أبكروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن منكم أحد. فنفروا مشاة وركبانًا، وذلك في حر شديد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر، قال: لما أتى رسول الله مصاب جعفر، قال رسول الله ﷺ: قد مر جعفر البارحة في نفر من الملائكة، له جناحان، مختضب القوادم بالدم، يريدون بيشة؛ أرضًا باليمن.
قال. وقد كان قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن رافلة قائد المستعربة فقتله. قال: وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله ﷺ مقبلًا قد قال لقومها من حدس - وقومها بطن يقال لهم بنو غنم: أنذركم قومًا خزرًا، ينظرون شزرًا، ويقودون الخيل بترًا، ويهريقون دمًا عكرًا. فأخذوا بقولها؛ فأعتزلوا من بين لخم؛ فلم يزالوا بعد أثرى حدس. وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة؛ بطن من حدس؛ فلم يزالوا قليلًا بعد؛ ولما انصرف خالد بن الوليد بالناس أقبل بهم قافلًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما دنوا من دخول المدينة، تلقاهم رسول الله ﷺ والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خوا الصبيان فأحملوهم وأعطوني ابن جعفر؛ فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه، فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرار في سبيل الله، فيقول رسول الله: ليسوا بالفرار؛ ولكنهم الكرار؛ إن شاء الله! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن بعض آل الحارث بن هشام - وهم أخواله - عن أم سلمة زوج النبي ﷺ، قال: قالت أم سلمة لا مرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ومع المسلمين! قال: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح الناس: أفررتم في سبيل الله! حتى قعد في بيته فما يخرج.
وفيها غزا رسول الله ﷺ أهل مكة.
ذكر الخبر عن فتح مكة
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة بعد بعثه إلى مؤتة، جمادى الآخرة ورجب.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة؛ يقال له الوتير. وكان الذي هاج ما بين بني بكر وبني خزاعة رجل من بل حضرمي، يقال له مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجرًا، فلما توسط أرض خزاعة عدوًا عليه فقتلوه؛ وأخذوا ماله؛ فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي؛ وهم منخر بني بكر وأشرلفهم: سلمى، وكلثوم، وذؤيب؛ فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودى ديةً ديةً لفضلهم فينا.
فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله ﷺ وبين قريش كان فيما شرطوا على رسول الله ﷺ، وشرط لهم - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم وغيره من علمائنا - أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله ﷺ وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل فيه؛ فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ﷺ.
فلما كانت تلك الهدنة أغتنمتها بنو الدين، من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرًا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل - وهو يومئذ قائدهم؛ ليس كل بني بكر تابعه - حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير؛ ماء لهم، فأصابوا منهم رجلًا وتحاوزوا وأقتتلوا؛ ورفدت قريش بني بكر بالسلاح؛ وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيًا؛ حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. - قال الواقدي: كان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم متنكرين صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو؛ مع غيرهم وعبيدهم
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: فلما أنتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك؛ فقال: كلمة عظيمة إنه لا إله له اليوم! يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم؛ أفلا تصيبون ثأركم فيه! وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلًا يقال له منبه، وكان منبه رجلًا مفئودًا خرج هو ورجل من قومه، يقال له تميم بن أسد - فقال له منبه: يا تميم، أنج بنفسك؛ فأما أنا فو الله إني لميت قتلوني أو تركوني؛ لقد أنبت فؤادي. فأنطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه - فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم يقال له رافع.
قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ﷺ من العهد والميثاق بما أستحلوا من خزاعة - وكانوا في عقده وعهده - خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب؛ حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة؛ وكان ذلك مما هاج فتح مكة؛ فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس، فقال:
لا هم إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فوالدًا كنا وكنت ولدا ** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فأنصر رسول الله نصرًا أعتدا ** وأدع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ** أبيض مثل البدر ينمي صعدا
إن سيم خسفًا وجهه تربدا ** في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشًا أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا ** وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا ** هم بيتونا بالوتير هجدا
فقتلونا ركعًا وسجدا يقول: قد قتلونا وقد أسلمنا. فقال رسول الله ﷺ حين سمع ذلك: قد نصرت يا عمرو بن سالم! ثم عرض لرسول الله ﷺ عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم؛ ثم انصرفوا راجعين إلى مكة. وقد كان رسول الله ﷺ قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد، ويزيد في المدة.
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه، فلقوا أبا سفيان بعسفان، قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة؛ وقد رهبوا الذي صنعوا؛ فلما لقي أبو سفيان بديلًا، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله، قال: سرت في خزاعة في الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو ما أتيت محمدًا؟ قال: لا. قال: راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى؛ فعمد إلى مبرك ناقته، فأخذ من بعرها ففته؛ فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة؛ فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ طوته عنه، فقال: يا بنية؛ والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني! قالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله ﷺ، فكلمه فلم يردد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وعنده فاطمة ابنة رسول الله، وعندها الحسن بن علي؛ غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي؛ إنك أمس القوم بي رحمًا، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة؛ فلا أرجعن كما جئت خائبًا، أشفع لنا إلى رسول الله! قال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فألتفت إلى فاطمة، فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر! قالت: والله ما بلغ بنيى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير على رسول الله أحد. قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد أشتدت علي فأنصحني. فقال له: والله ما أعلم شيئًا يغنى عنك شيئًا، ولكنك سيد بني كنانة؛ فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيًا عني شيئًا! قال: لا والله ما أظن؛ ولكن لا أجد لك غير ذلك؛ فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس؛ إني قد أجرت بين الناس؛ ثم ركب بعيرة فأنطلق.
فلما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدًا فكلمته، فو الله ما رد على شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيرًا، ثم جئت ابن الخطاب؛ فوجدته أعدى القوم، ثم جئت علي بن أبي طالب، فوجدته ألين القوم؛ وقد أشار علي بشيء صنعته؛ فو الله ما أدري هل يغنيني شيئًا أم لا! قالوا: وبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت؛ قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك! والله إن زاد على أن لعب بك، فما يغنى عنا ما قلت. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك، قال: وأمر رسول الله ﷺ الناس بالجهاز؛ وأمر أهله أن يجهزوه؛ فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله ﷺ، فقال: أي بنية، أأمركم رسول الله بأن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله ما أدري.
ثم إن رسول الله ﷺ أعلم الناس أنه سائر إلى مكة؛ وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.
فتجهز الناس، فقال حسان بن ثابت الأنصاري يحرض الناس، ويذكر مصاب رجال خزاعة:
أتاني ولم أشهد ببطحاء مكة ** رجال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ** وقتلي كثير لم تجن ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ** سهيل بن عمرو حرها وعقابها!
وصفوان عودًا حز من شفراسته ** فهذا أوان الحرب شد عصابها
فلا تأمننا يا بن أم مجالد ** إذا أحتلبت صرفًا وأعصل نابها
فلا تجزعوا منها فإن سيوفنا ** لها وقعة بالموت يفتح بابها
وقول حسان: بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم يعني قريشًا. وأبن أم مجالد، يعني عكرمة بن أبي جهل
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله ﷺ المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله من الأمر في السير إليهم؛ ثم أعطاه أمرأة - يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة؛ وزعم غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب - وجعل لها جعلًا على أن تبلغه قريشًا. فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بما صنع حاطب؛ فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: أدركا أمرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم؛ فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، حليفة ابن أبي أحمد؛ فأستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئًا، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف ما كذب رسول الله ولا كذبنا؛ ولتخرجن إلى هذا الكتاب أو لنكشفنك؛ فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض عني فأعرض عنها، فحلت قرون رأسها، فأستخرجت الكتاب منه، فدفعته إليه، فجاء به إلى رسول الله ﷺ، فدعا رسول الله حاطبًا؛ فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله ﷺ: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد أطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر؛ فقال: أعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم! فأنزل الله عز وجل في حاطب: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " إلى قوله: " وإليك أنبنا " إلى آخر القصة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمى، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، قال: ثم مضى رسول الله ﷺ لسفره؛ وأستخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام رسول الله ﷺ، وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد ما بين عسفان وأمج، أفطر رسول الله ﷺ، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم؛ وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام؛ وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول الله ﷺ مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله؛ ولا يدرون ما هو فاعل؛ فخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار؛ هل يجدون خبرًا أو يسمعون به! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وقد كان فيما حدثني محمد بن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب؛ عن ابن عباس: وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله ﷺ ببعض الطريق؛ وقد كان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله ﷺ بنيق العقاب؛ فيما بين مكة والمدينة، فألتمس الدخول على رسول الله، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وأبن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمتي فهتك عرضي؛ وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال.
فلما خرج الخبر إليهما بذلك؛ ومع أبي سفيان بني له فقال: والله ليأذن لي أو لآخذن بيد بني هذا؛ ثم أتذهبن في الأرض؛ حتى نموت عطشًا وجوعًا. فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ رق لهما؛ ثم أذن لهما، فدخلا عليه؛ فأسلما وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:
لعمري إني يوم أحمل رايةً ** لتغلب خيل الات خيل محمد
لكا لمدلج الخيران أظلم ليله ** فهذا أواني حين أهدى وأهتدى
وهاد هداني غير نفسي ونالني ** مع الله من طردت كل مطرد
أصدو أنأي جاهدًا عن محمد ** وأدعى ولو لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم ** وإن كان ذا رأي يلم ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط ** مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
فقل لثقيف لا أريد قتالها ** وقل لثقيف تلك غيري أو عدي
وما كنت في الجيش الذي نال عامرًا ** وما كان عن جري لساني ولا يدي
قبائل جاءت من بلاد بعيدة ** نزائع جاءت من سهام وسردد
قال: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله ﷺ قوله: ونالني مع الله من طردت كل مطرد؛ ضرب النبي ﷺ في صدره، ثم قال: أنت طردتني كل مطرد! وقال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ إلى مكة، فقائل يقول: يريد قريشًا، وقائل يقول: يريد هوازن، وقائل يقول: يريد ثقيفًا؛ وبعث إلى القبائل فتخلفت عنه؛ ولم يعقد الألوية ولم ينشر الرايات حتى قدم قديدًا، فلقيته بنو سليم على الخيل والسلاح التام؛ وقد كان عيينة لحق رسول الله بالعرج في نفر من أصحابه، ولحقه الأقرع بن حابس بالسقيا، فقال عيينة: يا رسول الله؛ والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام، فأين تتوجه يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: حيث شاء الله. ثم دعا رسول الله ﷺ أن تعمي عليهم الأخبار؛ فنزل رسول الله ﷺ مر الظهران، ولقيه العباس بالسقيا، ولقيه مخرمة بن نوفل بنيق العقاب.
فلما نزل مر الظهران خرج أبو سفيان بن حرب ومعه حكيم بن حزام.
فحدثنا أبو كريب، قال: أخبرنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما نزل رسول الله ﷺ مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب، وقد خرج رسول الله ﷺ من المدينة: يا صباح قريش! والله لئن بغتها رسول الله في بلادها؛ فدخل مكة عنوة؛ إنه لهلاك قريش آخر الدهر! فجلس على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابًا أو صاحب لبن؛ أو داخلًا يدخل مكة؛ فيخبرهم بمكان رسول الله؛ فيأتونه فيستأمنونه. فخرجت؛ فو الله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له؛ إذ سمعت صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله ﷺ، فسمعت أبا سفيان وهو يقول: والله ما رأيت كاليوم قط نيرانًا! فقال بديل: هذه والله نيران خزاعة، حمشها الحرب! فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل! فعرفت صوته، فقلت يا أبا حنظلة! فقال: أبو الفضل! فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله؛ فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله ﷺ نحو رسول الله ﷺ، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إلى، قالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله؛ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! ثم أشتد نحو النبي ﷺ، وركضت البغلة، وقد أردفت أبا سفيان؛ حتى أقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ؛ فدخل عمر على رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله؛ قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد؛ فدعني أضرب عنقه؛ فقلت: يا رسول الله، إني قد أجرته! ثم جلست إلى رسول الله ﷺ فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني! فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلًا يا عمر! فو الله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف؛ ولو كان من بني عدي ابن كعب ما قلت هذا. فقال: مهلًا يا عباس! فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم! وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم؛ فقال رسول الله ﷺ: أذهب فقد آمناه حتى تغدو به على بالغداة. فرجع به إلى منزله؛ فلما أصبح غدًا به على رسول الله ﷺ، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئًا، فقال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله! فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! أما هذه ففي النفس منها شيء! فقال العباس: فقلت له ويلك! تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك؛ قال: فتشهد.
قال: فقال رسول الله ﷺ للعباس حين تشهد أبو سفيان: انصرف يا عباس فأحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فأجعل له شيئًا يكون في قومه. فقال: نعم؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فخرجت حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي؛ فمرت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: مالي ولسليم! فتمر به قبيلة، فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم! وتمر جهينة، فيقول: مالي ولجهينة! حتى مر رسول الله ﷺ في الخضراء؛ كتيبة رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار في الحديد؛ لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا. فقلت: ويحك إنها النبوة! فقال: نعم إذًا، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم؛ فخرج سريعًا حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به! قالوا: فمه! فقال: من دخل داري فهو آمن، فقالوا: ويحك! وما تغني عنا دارك! فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا، أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك كتبت إلى تسألني عن خالد بن الوليد: هل أغار يوم الفتح؟ وبأمر من أغار؟ وإنه كان من شأن خالد يوم الفتح أنه كان مع النبي ﷺ، فلما ركب النبي بطن مر عامدًا إلى مكة، وقد كانت قريش بعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله ﷺ! إليهم أو إلى الطائف! وذاك أيام الفتح؛ وأستتبع أبو سفيان وحكيم بن حزام بديل بن ورقاء، وأحبا أن يصحبهما، ولم يكن غير أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل؛ وقالوا لهم حين بعثوهم إلى رسول الله ﷺ: لا نؤتين من ورائكم، فإنا لا ندري من يريد محمد! إيانا يريد، أو هوازن يريد، أو ثقيفًا! وكان بين النبي ﷺ وبين قريش صلح يوم الحديبية وعهد ومدة، فكانت بنو بكر في ذلك الصلح مع قريش، فأقتتلت طائفة من بني كعب وطائفة من بني بكر؛ وكان بين رسول الله ﷺ وبين قريش في ذلك الصلح الذي أصطلحوا عليه: لا إغلال ولا إسلال، فأعانت قريش بني بكر بالسلاح، فأتهمت بنو كعب قريشًا، فمنها غزا رسول الله ﷺ أهل مكة؛ وفي غزوته تلك لقي أبا سفيان وحكيمًا وبديلًا بمر الظهران؛ ولم يشعروا أن رسول الله ﷺ نزل مر، حتى طلعوا عليه، فلما رأوه بمر، دخل عليه أبو سفيان وبديل وحكيم بمنزله بمر الظهران فبايعوه، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلى قريش، يدعوهم إلى الإسلام، فأخبرت أنه قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن - وهي بأعلى مكة - ومن دخل دار حكيم - وهي بأسفل مكة - فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
وإنه لما خرج أبو سفيان وحكيم من عند النبي ﷺ عامدين إلى مكة، بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته، وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون؛ وقال للزبير: لا تبرح حيث أمرتك أن تغرز رايتي حتى آتيك؛ ومن ثم دخل رسول الله ﷺ، وأمر خالد بن الوليد - فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأناس، إنما أسلموا قبيل ذلك - أن يدخل من أسفل مكة، وبها بنو بكر قد أستنفرتهم قريش. وبنو الحارث بن عبد مناة ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، فدخل عليهم خالد بن الوليد من أسفل مكة.
وحدثت أن النبي ﷺ قال لخالد والزبير حين بعثهما: لا تقاتلا إلا من قاتلكما؛ فلما قدم خالد على بني بكر والأحابيش بأسفل مكة. قاتلهم فهزمهم الله عز وجل، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك؛ غير أن كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهو وأبن الأشعر - رجلًا من بني كعب - كانا في خيل الزبير فسلكا كداء، ولم يسلكا طريق الزبير الذي سلك، الذي أمر به. فقدما على كتيبة من قريش مهبط كداء فقتلا؛ ولم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال؛ ومن ثم قدم النبي ﷺ، وقام الناس إليه يبايعونه؛ فأسلم أهل مكة، وأقام النبي ﷺ عندهم نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوزان وثقيف فنزلوا بحنين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، أن النبي ﷺ حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير أن يدخل في بعض الناس من كدى؛ وكان الزبير على المجنبة اليسري، فأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء. فزعم بعض أهل العلم أن سعدًا قال حين وجه داخلًا: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمه. فسمعها رجل من المهاجرين، فقال: يا رسول الله، أسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن تكون له في قريش صولة؟ فقال رسول الله ﷺ لعلي بن أبي طالب: أدركه فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح في حديثه، أن رسول الله ﷺ أمر خالد بن الوليد، فدخل من الليط أسفل مكة، في بعض الناس؛ وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب؛ وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله ﷺ، ودخل رسول ﷺ من أذاخر؛ حتى نزل بأعلى مكة، وضربت هنالك قبته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر، أن صفوان بن أمية، وعكرمة ابن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وكانوا قد جمعوا أناسًا بالخندمة ليقاتلوا؛ وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحًا قبل أن يدخل رسول الله ﷺ مكة ويصلح منها، فقالت له أمرأته: لماذا تعد ما رأى؟ قال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، فقال:
إن تقبلوا اليوم فمالي عله ** هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل بن عمرو وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئًا من قتال، فقتل كرز ابن جابر بن حسل بن الأجب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وحبيس بن خالد، وهو الأشر بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس ابن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو؛ حليف بني منقذ - وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذا عنه، وسلكا طريقًا غير طريقه، فقتلا جميعًا - قتل خنيس قبل كرز بن جابر؛ فجعله كرز بين رجليه؛ ثم قاتل حتى قتل وهو يرتجز، ويقول:
قد علمت صفراء من بني فهر ** نقية الوجه نقية الصدر
لأضربن اليوم عن أبي صخر وكان خنيس يكني بأبي صخر؛ وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين أناس قريب من أثنى عشر أو ثلاثة عشر. ثم أنهزموا، فخرج حماس منهزمًا؛ حتى دخل بيته، ثم قال لأمرأته: أغلقي علي بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ** إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ** وأستقبلتهم بالسيوف المسامه
يقطعن كل ساعد وجمجمه ** ضربًا فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه ** لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان رسول الله ﷺ قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة؛ ألا يقتلوا أحدًا إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم؛ أمر بقتلهم وإن وجودا تحت أستار الكعبة؛ منهم عبد الله بن سعد ابن أبي سرج بن حبيب بن جذيمة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر ابن لؤي - وإنما أمر رسول الله ﷺ بقتله، لأنه كان قد أسلم فأرتد مشركًا، ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله ﷺ بعد أن أطمأن أهل مكة فأستأمن له رسول الله، فذكر أن رسول الله ﷺ صمت طويلًا، ثم قال: نعم؛ فلما انصرف به عثمان، قال رسول الله لمن حوله من أصحابه: أما والله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه؟ فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟! قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة - وعبد الله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب - وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلمًا، فبعثه رسول الله ﷺ مصدقًا، وبعث معه رجلًا من الأنصار؛ وكان معه مولي له يخدمه، وكان مسلمًا، فنزل منزلًا، وأمر المولى أن يذبح له تيسًا، ويصنع له طعامًا، ونام فأستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثم أرتد مشركًا؛ وكانت له قينتان: فرتني وأخرى معها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله ﷺ، فأمر بقتلهما معه - والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة، ومقيس بن صبابة - وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مرتدًا - وعكرمة بن أبي جهل، وسارة مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب؛ وكانت ممن يؤذيه بمكة. فأما عكرمة بن أبي جهل فهرب إلى اليمن؛ وأسلمت أمرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فأستأمنت له رسول الله فأمه؛ فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله ﷺ، فكان عكرمة يحدث - فيما يذكرون - أن الذي رده إلى الإسلام بعد خروجه إلى اليمن أنه كان يقول: أردت ركوب البحر لألحق بالحبشة، فلما أتيت السفينة لأركبها قال صاحبها: يا عبد الله، لا تركب سفينتي حتى توحد الله، وتخلع ما دونه من الأنداد، فإني أخشى إن لم تفعل أن نهلك فيها، فقلت: وما يركبه أحد حتى يوحد الله ويخلع ما دونه! قال: نعم؛ لا يركبه أحد إلا أخلص. قال: فقلت: ففيم أفارق محمدًا! فهذا الذي جاءنا به، فو الله إن إلهنا في البحر لألهنا في البر؛ فعرفت الإسلام عند ذلك، ودخل في قلبي. وأما عبد الله ابن خطل، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، أشتركا في دمه، وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله؛ رجل من قومه، فقالت أخت مقيس:
لعمري لقد أخزي نميلة رهطه ** وفجع أضياف الشتاء بمقيس
فلله عينًا من رأى مثل مقيس ** إذا النفساء أصبحت لم تخرس!
وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى أستؤمن لها رسول الله ﷺ بعد، فأمنها. وأما سارة، فأستؤمن لها فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرسًا له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح، فقتلها. وأما الحويرث بن نقيذ، فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال الواقدي: أمر رسول الله ﷺ بقتل ستة نفر وأربع نسوة، فذكر من الرجال من سماه ابن إسحاق، ومن النساء هند بنت عتبة ابن ربيعة، فأسلمت وبايعت، وسارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف، قتلت يومئذ، وقريبة؛ قتلت يومئذ، وفرتني عاشت إلى خلافة عثمان.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن موسى ابن الوجيه، عن قتادة السدوسي؛ أن رسول الله ﷺ قام قائمًا حين وقف على باب الكعبة، ثم قال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كل مأثرة، أو دم، أو مال يدعي؛ فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. ألا وقتيل الخطإ مثل العمد؛ السوط والعصا، فيهما الدية مغلظة مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها.
يا معشر قريش؛ إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم؛ وآدم خلق من تراب. ثم تلا رسول الله ﷺ: " ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الآية.
يا معشر قريش، ويا أهل مكة؛ ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وأبن أخ كريم. ثم قال: أذهبوا فأنتم الطلقاء.
فأعتقهم رسول الله ﷺ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئًا، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. ثم أجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله ﷺ على الإسلام، فجلس لهم - فيما بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايع رسول الله ﷺ على السمع والطاعة لله ولرسوله - فيما أستطاعوا - وكذلك كانت بيعته لمن بايع رسول الله ﷺ من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله ﷺ من بيعة الرجال بايع النساء، وأجتمع إليه نساء من نساء قريش؛ فيهن هند بنت عتبة، متنقبة متنكرة لحدثها وما كان من صنيعها بحمزة، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله ﷺ بحدثها ذلك، فلما دنون منه ليبايعنه قال، رسول الله ﷺ - فيما بلغني -: تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئًا! فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرًا ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن، قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالي أم لا! فقال أبو سفيان - وكان شاهدًا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل، فقال رسول الله ﷺ: وإنك لهند بنت عتبة! فقالت: أنا هند بنت عتبة، فأعف عما سلف عفا الله عنك! قال: ولا تزنين، قالت: يا رسول الله، هل تزني الحرة! قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم يوم بدر كبارًا، فأنت وهم أعلم! فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أستغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح؛ ولبعض التجاوز أمثل. قال: ولا تعصينني في معروف، قال: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف، فقال رسول الله ﷺ لعمر: بايعهن وأستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر، وكان رسول الله ﷺ لا يصافح النساء، ولا يمس أمرأة ولا تمسه إلا أمرأة أحلها الله له، أو ذات محرم منه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبان ابن صالح، أن بيعة النساء قد كانت على نحوين - فيما أخبره بعض أهل العلم - كان يوضع بين يدي رسول الله ﷺ إناء فيه ماء، فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. ثم كان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: أذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك.
قال الواقدي: فيها قتل خراش بن أمية الكعبي جنيدب بن الأدلع الهذلي - وقال ابن إسحاق: ابن الأثوع الهذلي - وإنما قتله بذحل، وكان في الجاهلية، فقال النبي ﷺ: إن خراشًا قتال؛ إن خراشًا قتال! يعيبه بذلك، فأمر النبي ﷺ خزاعة أن يدوه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير - قال محمد بن إسحاق: ولا أعلمه إلا وقد حدثني عن عروة بن الزبير - قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة، ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب، يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربًا منك ليقذف نفسه في البحر؛ فأمنه صلى الله عليك! قال: هو آمن، قال: يا رسول الله، أعطني شيئًا يعرف به أمانك؛ فأعطاه عمامته التي دخل فيها مكة؛ فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان من رسول الله قد جئتك به، قال: ويلك! أغرب عني فلا تكلمني! قال: أي صفوان! فداك أبي وأمي! أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، ابن عمتك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك! قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم؛ فرجع به معه، حتى قدم به على رسول الله ﷺ. فقال صفوان: إن هذا زعم أنك قد أمنتني، قال: صدق، قال: فأجعلني في أمري بالخيار شهرين، قال: أنت فيه بالخيار أربعة أشهر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام وفاختة بنت الوليد - وكانت فاختة عند صفوان بن أمية، وأم حكيم عند عكرمة بن أبي جهل - أسلمتا، فأما أم حكيم فأستأمنت رسول الله لعكرمة بن أبي جهل، فآمنه، فلحقت به باليمن، فجاءت به؛ فلما أسلم عكرمة وصفوان، أقرهما رسول الله ﷺ عندهما على النكاح الأول.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق؛ لما دخل رسول الله ﷺ مكة هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي وعبد الله بن الزبعري السهمي إلى نجران. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري؛ قال: رمى حسان عبد الله بن الزبعري وهو بنجران ببيت واحد، ما زاده عليه:
لتعد من رجلًا أحلك بغضه ** نجران في عيش أحذ لئيم
فلما بلغ ذلك ابن الزبعري، رجع إلى رسول الله ﷺ، فقال حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني ** راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الري ** ح ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام لربي ** ثم نفسي الشهيد أنت النذير
إنني عنك زاجر ثم حي ** من لؤي فكلهم مغرور
وأما هبيرة بن أبي وهب، فأقام بها كافرًا، وقد قال حين بلغه إسلام أم هانئ بنت أبي طالب وكانت تحته، وأسمها هند:
أشاقتك هند أم نآك سؤالها ** كذلك النوى أسبابها وأنفتالها
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف؛ من بني غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم سبعمائة، ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل؛ وسائرهم من من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من بني تميم وقيس وأسد.
قال الواقدي: في هذه السنة تزوج رسول الله ﷺ مليكة بنت داود الليثية، فجاء إليها بعض أزواج النبي ﷺ، فقالت لها: ألا تستحيين حين تزوجين رجلًا قتل أباك! فأستعاذت منه؛ وكانت جميلة، وكانت حدثة، ففارقها رسول الله؛ وكان قتل أباها يوم فتح مكة.
قال: وفيها هدم خالد بن الوليد العزي ببطن نخلة، لخمس ليال بقين من رمضان؛ وهو صنم لبني شيبان؛ بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزي، يقولون: هذا صنمنا، فخرج إليه خالد، فقال: قد هدمته، قال: أرأيت شيئًا؟ قال: لا، قال: فأرجع فأهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزي أغضبي بعض غضباتك! فخرجت عليه أمرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله ﷺ، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزي، ولا تعبد العزي أبدًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى العزي - وكانت بنخلة، وكانت بيتًا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها؛ وكانت سدنتها من بني شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم - فلما سمع صاحبها بمسير خالد إليها، علق عليها سيفه، وأسند في الجبل الذي هي إليه فأصعد فيه، وهو يقول:
أيا عز شدي شدة لا شمى لها ** على خالد ألقي القناع وشمري
ويا عز إن لم تقتلي اليوم خالدًا ** فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
فلما أنتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله ﷺ قال الواقدي: وفيها هدم سواع؛ وكان برهاط لهذيل، وكان حجرًا؛ وكان الذي هدمه عمرو بن العاص لما أنتهى إلى الصنم، قال له السادن: ما تريد؟ قال: هدم سواع، قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت في الباطل بعد! فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئًا، ثم قال عمرو للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت والله.
وفيها هدم مناة بالمشلل، هدمه سعد بن زيد الأشهلي، وكان للأوس والخزرج.
مسير خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن مالك
وفيها كانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة، وكان من أمره وأمرهم ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: قد كان رسول الله ﷺ بعث فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل؛ ولم يأمرهم بقتال؛ وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيًا، ولم يبعثه مقاتلًا؛ فوطئ بني جذيمة، فأصاب منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: بعث رسول الله ﷺ حين افتتح مكة خالد بن الوليد داعيًا ولم يبعثه مقاتلًا، ومعه قبائل من العرب: سليم ومدلج، وقبائل من غيرهم؛ فلما نزلوا على الغميصاء - وهي ماء من مياه بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة ابن كنانة - على جماعتهم، وكانت بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة - وكانا أقبلا تاجرين من اليمن - حتى إذا نزلا بهم قتلوهما؛ وأخذوا أموالهما، فلما كان الإسلام، وبعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد، سار حتى نزل ذلك الماء؛ فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم، عن رجل من بني جذيمة، قال: لما أمرنا خالد بوضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد! والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، ثم ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق؛ والله لا أضع سلاحي أبدًا. قال: فأخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم؛ أتريد أن تسفك دماءنا! إن الناس قد أسلموا، ووضعت الحرب، وأمن الناس؛ فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد؛ فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم. فلما أنتهى الخبر إلى رسول الله ﷺ رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد! ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم؛ فأنظر في أمرهم، وأجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. فخرج حتى جاءهم ومعه مال قد بعثه رسول الله ﷺ به، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال؛ حتى إنه ليدي ميلغة الكلب؛ حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال أحتياطًا لرسول الله ﷺ مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل، ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت. ثم قام رسول الله ﷺ، فأستقبل القبلة قائمًا شاهرًا يديه؛ حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبيه؛ وهو يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات!
قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالدًا: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله قد أمرك بقتلهم لأمتناعهم من الإسلام، وقد كان جحدم قال لهم حين وضعوا سلاحهم، ورأى ما يصنع خالد ببني جذيمة: يا بني جذيمة، ضاع الضرب، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي سلمة، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عوف - فيما بلغني - كلام في ذلك، فقال له: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام! فقال: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت! قد قتلت قاتل أبي، ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة؛ حتى كان بينهما شيء، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فقال: مهلًا يا خالد! دع عنك أصحابي؛ فو الله لو كان لك أحد ذهبًا ثم أنفقته في سبيل الله؛ ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا أبي. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ جميعًا عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق، عن ابن شهاب الزهري، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد، قال: كنت يومئ في خيل خالد، فقال لي فتى منهم - وهو في السبي؛ وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى! قلت: نعم؛ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي بها إلى هؤلاء النسوة، حتى أقضى إليهن حاجة، ثم تردني بعد، فتصنعوا بي ما بدا لكم؟ قال: قلت: والله ليسير ما سألت، فأخذت برمته فقدته بها حتى أوقفته عليهن، فقال: أسلمي حبيش، على نفد العيش:
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ** بحلية أو ألفيتكم بالخوانق!
ألم يك حقًا أن ينول عاشق ** تكلف إدلاج السري والودائق!
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معًا ** أثيبي بود قبل إحدى الصفائق!
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى ** وينأي الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا سرًا لدي أضعته ** ولا راق عيني بعد وجهك رائق
على أن ما ناب العشيرة شاغل ** ولا ذكر إلا أن يكون لوامق
قالت: وأنت فحييت عشرًا، وسبعًا وترًا، وثمانيًا تترى! ثم انصرفت به، فقدم فضربت عنقه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي فراس بن أبي سنبلة الأسلمي؛ عن أشياخ منهم، عمن كان حضرها، قالوا: قامت إليه حين ضربت عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: أقام رسول الله ﷺ بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة.
قال ابن إسحاق: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان.
ذكر الخبر عن غزوة رسول الله ﷺ هوازن بحنين
وكان من أمر رسول الله ﷺ وأمر المسلمين وأمر هوزان ما حدثنا علي بن نصر بن علي الجهضمي وعبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث - قال علي: حدثنا عبد الصمد، وقال عبد الوارث: حدثنا أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: أقام النبي ﷺ بمكة عام الفتح نصف شهر، لم يزد على ذلك؛ حتى جاءت هوازن وثقيف، فنزلوا بحنين - وحنين واد إلى جنب ذي المجاز - وهم يومئذ عامدون يريدون قتال النبي ﷺ، وكانوا قد جمعوا قبل ذلك حين سمعوا بمخرج رسول الله من المدينة، وهم يظنون أنه إنما يريدهم حيث خرج من المدينة، فلما أتاهم أنه قد نزل مكة، أقبلت هوازن عامدين إلى النبي ﷺ، وأقبلوا معهم بالنساء والصبيان والأموال - ورئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف أحد بني نصر - وأقبلت معهم ثقيف؛ حتى نزلوا حنينًا يريدون النبي ﷺ؛ فلما حدث النبي وهو بمكة أن قد نزلت هوازن وثقيف بحنين، يسوقهم مالك بن عوف أحد بني نصر - وهو رئيسهم يومئذ - عمد النبي ﷺ حتى قدم عليهم، فوافاهم بحنين، فهزمهم الله عز وجل، وكان فيها ما ذكر الله عز وجل في الكتاب؛ وكان الذي ساقوا من النساء والصبيان والماشية غنيمة غنمها الله عز وجل رسوله، فقسم أموالهم فيمن كان أسلم معه من قريش.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما سمعت هوازن برسول الله ﷺ وما فتح الله عليه من مكة؛ جمعها مالك بن عوف النصري؛ وأجتمعت إليه مع هوازن ثقيف كلها، فجمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال؛ وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب؛ ولم يشهدها منهم أحد له إسم، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير؛ ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا كبيرًا مجربًا؛ وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري.
فلما أجمع مالك المسير إلى رسول الله ﷺ حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؛ فلما نزل بأوطاس، إجتمع إليه الناس؛ وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به؛ فلما نزل قال بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس، ولا سهل دهس؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فقال: أين مالك؟ فقيل: هذا مالك، فدعى له، فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك؛ وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام؛ مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم؛ قال: فأنقض به ثم قال: راعي ضأن والله! هل يرد المنهزم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهد منهم أحد، قال: غاب الجد والحد؛ لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب؛ ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب؛ فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر؛ قال: ذانك الجذعان من بني عامر! لا ينفعان ولا يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة؛ بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئًا، أرفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم؛ ثم ألق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر علمك؛ والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأى. قال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده؛ ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع ** أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ** كأنها شاة صدع
وكان دريد رئيس بني جشم وسيدهم وأوسطهم؛ ولكن السن أدركته حتى فنى - وهو دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة بن جداعة بن غزية ابن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن - ثم قال مالك للناس: إذا أنتم رأيتم القوم فأكسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحد عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أمية ابن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان؛ أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيونًا من رجاله لينظروا له، ويأتوه بخبر الناس؛ فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالًا بيضًا على خيل بلق؛ فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى! فلم ينهه ذلك عن وجهه؛ أن مصى على ما يريد.
قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم رسول الله ﷺ بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الإسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبر منهم؛ ويعلم من علمهم. فأنطلق ابن أبي حدرد، فدخل فيهم، فأقام معهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله ﷺ، وعلم أمر مالك وأمر هوازن وما هم عليه. ثم أتى رسول الله، فأخبره الخبر؛ فدعا رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب، فأخبره خبر ابن أبي حدرد، فقال: عمر: كذب! فقال ابن أبي حدرد: إن تكذبني فطالما كذبت بالحق يا عمر! فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله إلى ما يقول ابن أبي حدرد! فقال رسول الله ﷺ: قد كنت ضالًا فهداك الله يا عمر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: لما أجمع رسول الله ﷺ السير إلى هوازن ليلقاهم، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعًا وسلاحًا، فأرسل إليه، فقال: يا أبا أمية - وهو يومئذ مشرك: أعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غدًا. فقال له صفوان: أغصبًا يا محمد! قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح؛ فزعموا أن رسول الله ﷺ سأله أن يكفيه حملها ففعل.
قال أبو جعفر محمد بن علي: فمضت السنة أن العارية مضمونة مؤداة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر، قال: ثم خرج رسول الله ﷺ؛ ومعه ألفان من أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا أثنى عشر ألفًا، وأستعمل رسول الله ﷺ عتاب بن أسيد ابن العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة أميرًا على من غاب عنه من الناس، ثم مضى على وجهه يريد لقاء هوازن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: لما أستقبلنا وادي حنين، أنحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه أنحدارًا - قال: وفي عماية الصبح، وكان القوم قد سبقوا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا - فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدت علينا شدة رجل واحد؛ وأنهزم الناس أجمعوا، فأنشمروا لا يلوي أحد على أحد؛ وأنحاز رسول الله ﷺ ذات اليمين، ثم قال: أين أيها الناس! هلم إلى! أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله! قال: فلا شيء، أحتملت الإبل بعضها بعضًا، فأنطلق الناس؛ إلا أنه قد بقي مع رسول الله ﷺ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر، عمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وأبنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأيمن بن عبيد - وهو أيمن بن أم أيمن - وأسامة بن زيد بن حارثة. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، أمام الناس وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه؛ فأتبعوه. ولما أنهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله ﷺ من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؛ والأزلام معه في منانته؛ وصرخ كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية بن خلف وكان أخاه لأمه، وصفوان يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله ﷺ - فقال: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان: أسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربني رجل من قريش أحب إلى من أن يربني رجل من هوازن! وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، أخوبني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأري - وكان أبوه قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمدًا. قال: فأردت رسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك، وعلمت أنه قد منع مني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن كثير بن العباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب، قال: إني لمع رسول الله ﷺ آخذ بحكمة بغلته البيضاء، قد شجرتها بها، قال: وكنت أمرأً جسيمًا شديد الصوت، قال: ورسول الله ﷺ يقول حين رأى من الناس ما رأى: أين أيها الناس! فلما رأى الناس لا يلوون على شيء قال: يا عباس، أصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! فناديت: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة! قال: فأجابوا: أن لبيك لبيك! قال: فيذهب الرجل منهم يريد ليثني بعيره؛ فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ثم يقتحم عن بعيره فيخلى سبيله في الناس، ثم يؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ؛ حتى إذا أجتمع إليه منهم مائة رجل أستقبلوا الناس، فأقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت: يا للأنصار! ثم جعلت أخيرًا: يا للخزرج! وكانوا صبرًا عند الحرب؛ فأشرف رسول الله ﷺ في ركابه، فنظر مجتلد القوم وهم يجتلدون، فقال: الآن حمى الوطيس! حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كان أبو سفيان بن الحارث يقود بالنبي ﷺ بغلته يوم حنين، فلما غشى النبي ﷺ المشركون، نزل فجعل يرتجز، ويقول:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب
فما رئي من الناس أشد منه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، قال: بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله يصنع ما يصنع؛ إذ هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار؛ يريدانه، فيأتيه على من خلفه، فيضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فأنجعف عن رحله. قال: وأجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأساري مكتفين؛ وقد ألتفت رسول الله ﷺ إلى أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب - وكان ممن صبر يومئذ مع رسول الله ﷺ، وكان حسن الإسلام حين أسلم، وهو آخذ بثفر بغلته - فقال: من هذا؟ قال: ابن أمك يا رسول الله! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ﷺ ألتفت، فرأى أم سليم بنت ملحان - وكانت مع زوجها أبي طلحة - حازمة وسطها ببرد لها؛ وإنها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة، وقد خشيت أن يعزها الجمل، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته مع الخطام، فقال رسول الله ﷺ: أم سليم! قالت: نعم؛ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل هؤلاء الذين يفرون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله ﷺ: أو يكفي الله يا أم سليم! ومعها خنجر في يدها، فقال لها أبو طلحة: ما هذا معك يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته معي؛ إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به. قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع ما تقول أم سليم يا رسول الله!.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس ابن مالك، قال: لقد أستلب أبو طلحة يوم حنين عشرين رجلًا وحده هو قتلهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أبيه، أنه حدث عن جبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم؛ فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي؛ فلم أشك أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فلما أنهزمت هوازن أستحر القتل من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم سبعون رجلًا تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب؛ جد ابن أم حكم بنت أبي سفيان، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله فقاتل بها حتى قتل.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، فال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عامر بن وهب بن الأسود بن مسعود، قال: لما بلغ رسول الله ﷺ قتل عثمان، قال: أبعده الله! فإنه كان يبغض قريشًا.
حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، عن عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس، قال: كان النبي ﷺ يوم حنين على بغلة بيضاء، يقال لها دلدل، فلما أنهزم المسلمون، قال النبي ﷺ لبغلته: البدي دلدل! فوضعت بطنها على الأرض، فأخذ النبي ﷺ حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال: " حم لا ينصرون! ". فولى المشركون مدبرين، ما ضرب بسيف ولا طعن برمح ولا رمى بسهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، قال: قتل مع عثمان بن عبد الله غلام له نصراني أغرل. قال: فبينا رجل من الأنصار يستلب قتلي من ثقيف، إذ كشف العبد ليستلبه، فوجده أغرل، فصرخ بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفًا غرل ما تختتن! قال المغيرة بن شعبة: فأخذت بيده، وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي! إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعلت أكشف له قتلانا فأقول: ألا تراهم مخنين! قال: وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود بن مسعود، فلما هزم الناس أسند رايته إلى شجرة، وهرب هو وبنو عمه وقومه من الأحلاف، فلم يقتل منهم إلا رجلان؛ رجل من بني غيرة يقال له وهب، وآخر من بني كنة يقال له: الجلاح، فقال رسول الله ﷺ حين بلغه قتل الجلاح: قتل اليوم سيد شباب ثقيف؛ إلا ما كان من ابن هنيدة - وأبن هنيدة الحارث بن أوس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما أنهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة - ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف - فتبعت خيل رسول الله ﷺ من سلك في نخلة من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن ربيعة بن يربوع بن سمال بن عوف بن أمرئ القيس - وكان يقال له ابن لذعة وهي أمه، فغلبت على نسبة - دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله؛ وهو يظن أنه أمرأة؛ وذلك أنه كان في شجار له، فإذا هو رجل، فأناخ به، وإذا هو بشيخ كبير؛ وإذا هو دريد بن الصمة، لا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمى، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئًا، فقال: بئسما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل في الشجار، ثم أضرب به وأرفع عن العظام، وأخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة؛ فرب يوم والله قد منعت نساءك! فزعمت بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف الثوب عنه، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثًا.
قال أبو جعفر: وبعث رسول الله ﷺ في آثار من توجه قبل أوطاس؛ فحدثني موسى بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: لما قدم النبي ﷺ من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقى دريد بن الصمة، فقتل دريدًا، وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: فبعثني مع أبي عامر، قال: فرمى أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته، فأنتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار أبو عامر لأبي موسى، فقال: إن ذاك قاتلي، تراه ذلك الذي رماني! قال أبو موسى: فقصدت له فأعتمدته، فلحقته، فلما رآني ولي عني ذاهبًا، فأتبعه، وجعلت أقول له: ألا تستحي! ألست عربيًا! ألا تثبت! فكر، فالتقيت أنا وهو، فاختلفنا ضربتين، فضربته بالسيف، ثم رجعت إلى أبي عامر، فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فأنزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء، فقال: يا بن أخي، أنطلق إلى رسول الله، فأفرئه منى السلام، وقل له إنه يقول لك: أستغفر لي.
قال: وأستخلفني أبو عامر على الناس فمكث يسيرًا. ثم إنه مات.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: يزعمون أن سلمة بن دريد، هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته، فقتله، فقال سلمة بن دريد في قتله أبا عامر:
إن تسألوا عني فإني سلمه ** ابن سمادير لمن توسعه
أضرب بالسيف رءوس المسلمه وسمادير أم سلمة،
فانتهى إليها.
قال: وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم؛ فوقف هنالك حتى مضى من كان لحق بهم من منهزمة الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض بني سعد بن بكر، أن رسول الله ﷺ قال يومئذ لخيله التي بعث: إن قدرتم على يجاد - رجل من بني سعد ابن بكر - فلا يفلتنكم؛ وكان بجاد قد أحدث حدثًا، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا أخته الشيماء بنت الحارث بن عبد الله بن عبد العزي، أخت رسول الله ﷺ من الرضاعة، فعنفوا عليها في السياق معهم، فقالت للمسلمين: تعلمون والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة؛ فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله ﷺ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي، قال: لما أنتهى بالشيماء إلى رسول الله ﷺ قالت: يا رسول الله، إني أختك، قال: وما علامة ذلك؟ قالت عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك. قال: فعرف رسول الله ﷺ العلامة، فبسط لها رداءه، ثم قال: ها هنا، فأجلسها عليه، وخيرها، وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعك وترجعي إلى قومك، قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فمتعها رسول الله ﷺ، وردها إلى قومها؛ فزعمت بنو سعد بن بكر أنه أعطاها غلامًا له يقال له مكحول، وجارية؛ فزوجت أحدهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
قال ابن إسحاق: أستشهد يوم حنين من قريش، ثم من بني هاشم: أيمن بن عبيد - وهو ابن أم أيمن، مولاة رسول الله ﷺ - ومن بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد - جمح به فرس له يقال له الجناح، فقتل - ومن الأنصار سراقة بن الحارث ابن عدي بن بلعجلان، ومن الأشعريين أبو عامر الأشعري. ثم جمعت إلى رسول الله سبايا حنين وأموالها؛ وكان على المغانم مسعود بن عمرو القاري، فأمر رسول الله ﷺ بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: لما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال؛ ولم يشهد حنينًا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة؛ كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق.
غزوة الطائف
فحدثنا علي بن نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا أبي، قال: أخبرنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: سار رسول الله ﷺ يوم حنين من فوره ذلك - يعني منصرفه من حنين - حتى نزل الطائف، فأقام نصف شهر يقاتلهم رسول الله ﷺ وأصحابه، وقاتلتهم ثقيف من وراء الحصن؛ لم يخرج إليه في ذلك أحد منهم؛ وأسلم من حولهم من الناس كلهم؛ وجاءت رسول الله ﷺ وفودهم؛ ثم رجع النبي ﷺ ولم يحاصرهم إلا نصف شهر حتى نزل الجعرانة؛ وبها السبي الذي سبي رسول الله من حنين من نسائهم وأبنائهم - ويزعمون أن ذلك السبي الذي أصاب يومئذ من هوازن كانت عدته ستة آلاف من نسائهم وأبنائهم - فلما رجع النبي ﷺ إلى الجعرانة، قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فأعتق أبناءهم ونساءهم كلهم، وأهل بعمرة من الجعرانة؛ وذلك في ذي القعدة.
ثم إن رسول الله ﷺ رجع إلى المدينة، وأستخلف أبا بكر رضي الله تعالى عنه على أهل مكة، وأمره أن يقيم للناس الحج، ويعلم الناس الإسلام، وأمره أن يؤمن من حج من الناس؛ ورجع إلى المدينة؛ فلما قدمها قدم عليه وفود ثقيف، فقاضوه على القضية التي ذكرت؛ فبايعوه، وهو الكتاب الذي عندهم كاتبوه عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب؛ أن رسول الله ﷺ سلك إلى الطائف من حنين على نخلة اليمانية، ثم على قرن، ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من لية، فأبتني بها مسجدًا، فصلى فيه، فأقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم - وهو أول دم أقيد به في الإسلام - رجلًا من بني ليث؛ قتل رجلًا من هذيل، فقتله رسول الله ﷺ؛ وأمره رسول الله وهو بلبية بحصن مالك بن عوف فهدم؛ ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه فيها، سأل على أسمها، فقال: ما أسم هذه الطريق؟ فقيل له: الضيفة، فقال: بل هي اليسرى. ثم خرج رسول الله ﷺ على نخب؛ حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة، قريبًا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله ﷺ: إما أن تخرج؛ وإما أن نخرب عليك حائطك؛ فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله ﷺ بإخرابه.
ثم مضى رسول الله حتى نزل قريبًا من الطائف؛ فضرب عسكره، فقتل أناس من أصحابه بالنبل؛ وذلك أن العسكر أقترب من حائط الطائف فكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون أن يدخلوا حائطهم، غلقوه دونهم؛ فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل، أرتفع، فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم؛ فحاصرهم بضعًا وعشرين ليلة؛ ومعه أمرأتان من نسائه؛ إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية وأخرى معها - قال الواقدي: الأخرى زينب بنت جحش - فضرب لهما قبتين، فصلى بين القبتين ما أقام.
فلما أسلمت ثقيف، بني علي مصلى رسول الله ﷺ ذلك أبو أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك مسجدًا، وكانت في ذلك المسجد سارية - فيما يزعمون - لا تطلع عليها الشمس يومًا من الدهر؛ إلا سمع لها نقيض؛ فحاصرهم رسول الله ﷺ، وقاتلهم قتالًا شديدًا، وتراموا بالنبل حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر من أصحاب رسول الله ﷺ تحت دبابة؛ ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالًا؛ فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف، فوقع فيها الناس يقطعون.
وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف. فناديا ثقيفًا: أن أمنونا حتى نكلمكم! فأمنوهما؛ فدعوا نساء من نساء قريش وبني كنانة ليخرجن إليهما - وهما يخافان عليهن السباء - فأبين؛ منهن آمنة بنت أبي سفيان، كانت عند عروة بن مسعود له منها داود بن عروة وغيرها.
وقال الواقدي: حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف، أستشار رسول الله نوفل بن معاوية الديلي، وقال: يا نوفل، ما ترى في المقام عليهم؟ قال: يا رسول الله؛ ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: قد بلغني أن رسول الله ﷺ قال لأبي بكر بن أبي قحافة، وهو محاصر ثقيفًا بالطائف: يا أبا بكر، إني رأيت أنه أهديت لي قعبة مملوءة زبدًا، فنقرها ديك فأهراق ما فيها؛ فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: وأنا لا أرى ذلك.
ثم إن خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية - وهي أمرأة عثمان بن مظعون - قالت: يا رسول الله، أعطني إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان بن سلمة، أو حلى الفارغة بنت عقيل - وكانتا من أحلى نساء ثقيف - قال: فذكر لي أن رسول الله ﷺ قال لها: وإن كان لم يؤذن لي في ثقيف يا خويلة! فخرجت خويلة، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل عمر على رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، ما حديث حد ثتنيه خويلة أنك قلته! قال: قد قلته، قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله! قال: لا، قال: أفلا أؤذن بالرحيل في الناس! قال: بلى؛ فأذن عمر بالرحيل؛ فلما أستقل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبي عمرو بن علاج الثقفي: ألا إن الحي مقيم! قال: يقول عيينة بن حصن: أجل والله مجدة كرامًا! فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة! أتمدح قومًا من المشركين بالأمتناع من رسول الله، وقد جئت تنصره! قال: إني والله ما جئت لأقاتل معكم ثقيفًا؛ ولكني أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتبطنها لعلها أن تلد لي رجلًا؛ فإن ثقيفًا قوم مناكير.
واستشهد بالطائف من أصحاب رسول الله ﷺ اثنا عشر رجلًا؛ سبعة من قريش ورجل من بني ليث، وأربعة من الأنصار.
أمر أموال هوازن وعطايا المؤلفة قلوبهم منها
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج رسول الله ﷺ حين انصرف من الطائف على دحنا؛ حتى نزل الجعرانة بمن معه من المسلمين؛ وكان قدم سبي هوازن حين سار إلى الطائف إلى الجعرانة، فحبس بها؛ ثم أتته وفود هوازن بالجعرانة؛ وكان مع رسول الله ﷺ من سبي هوازن من النساء والذراري عدد كثير، ومن الإبل ستة آلاف بعير، ومن الشاء ما لا يحصي.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد ابن إسحاق، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أتى وفد هوازن رسول الله ﷺ وهو بالجعرانة؛ وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة؛ وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفي عليك، فأمنن علينا من الله عليك! فقام رجل من هوازن - أحد بني سعد بن بكر، وكان بنو سعدهم الذين أرضعوا رسول الله ﷺ - يقال له زهير بن صرد، وكان يكني بأبي صرد - فقال: يا رسول الله؛ إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك! ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل ما نزلت به، رجونا عطفه وعائدته، وأنت خير المكفولين! ثم قال:
أمنن علينا رسول الله في كرم ** فإنك المرء نرجوه وندخر
أمنن على بيضة قد عاقها قدر ** ممزق شملها، في دهرها غير
في أبيات قالها، فقال رسول الله ﷺ: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله؛ خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل ترد علينا نساءنا وأبناءنا فهم أحب إلينا، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم؛ فإذا أنا صليت بالناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا؛ فسأعطيكم عند ذلك؛ وأسأل لكم؛ فلما صلى رسول الله ﷺ بالناس الظهر، قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله. قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، قالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله.
قال: يقول العباس لبني سليم: وهنتموني! فقال رسول الله ﷺ: أما من تمسك بحقه من هذا السبي منكم فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن عبيد السعدي أبو وجزة، أن رسول الله ﷺ كان أعطي علي بن أبي طالب جارية من سبي حنين يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة بن هلال بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر، وأعطي عثمان جارية يقال لها زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطي عمر بن الخطاب جارية، فوهبها لعبد الله بن عمر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: أعطي رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب جارية من سبي هوازن، فوهبها لي، فبعث بها إلى أخوالي من بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم؛ وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال: فخرجت من المسجد حين فرغت؛ فإذا الناس يشتدون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: رد علينا رسول الله نساءنا وأبناءنا، قال: قلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح؛ أذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها؛ وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزًا من عجائز هوازن، وقال حين أخذها: أرى عجوزًا وأرى لها في الحي نسبًا؛ وعسى أن يعظم فداؤها! فلما رد رسول الله ﷺ السبايا بست فرائض أبي أن يردها، فقال له زهير أبو صرد: خذها عنك؛ فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا درها بماكد، ولا زوجها بواجد. فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال؛ فزعموا أن عيينة لقي الأقرع بن حابس، فشكا إليه ذلك، فقال: والله إنك ما أخذتها بكرًا غريرة، ولا نصفًا وثيرة؛ فقال رسول الله ﷺ لوفد هوازن، وسألهم عن مالك بن عوف: ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف؛ فقال رسول الله: أخبروا مالكًا أنه إن أتاني مسلمًا رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فأتى مالك بذلك؛ فخرج من الطائف إليه؛ وقد كان مالك خاف ثقيفًا على نفسه أن يعلموا أن رسول الله ﷺ قال له ما قال، فيحبسوه، فأمر براحلته فهيئت له، وأمر بفرس له فأتى به الطائف؛ فخرج ليلًا، فجلس على فرسه فركضه؛ حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس له، فركبها، فلحق برسول الله فأدركه بالجعرانة - أو بمكة - فرد عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه.
وأستعمله رسول الله ﷺ على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل حول الطائف: ثمالة وسلمة وفهم؛ فكان يقاتل بهم ثقيفًا، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم، فقال أبو محجن ابن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي:
هابت الأعداء جانبنا ** ثم تغزونا بنو سلمه
وأتانا مالك بهم ** ناقضًا للعهد والحرمه
وأتونا في منازلنا ** ولقد كنا أولى نقمه
وهذا آخر حديث أبي وجزة.
ثم رجع الحديث إلى حديث عمرو بن شعيب، قال: فلما فرغ رسول الله ﷺ من رد سبايا حنين إلى أهلها، ركب وأتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، أقسم علينا فيئنا الإبل والغنم، حتى ألجئوه إلى شجرة، فأختطفت الشجرة عنه رداءه، فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس؛ فو الله لو كان لي عدد شجر تهامة نعمًا لقسمتها عليكم، ثم ما لقيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذابًا. ثم قام إلى جنب بعير، فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصبعيه، ثم رفعها فقال: أيها الناس، إنه والله ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط؛ فإن الغلول يكون على أهله عارًا ونارًا وشنارًا يوم القيامة. فجاءه رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي دبر، قال: أما نصيبي منها فلك، فقال: إنه إذا بلغت هذه فلا حاجة لي بها، ثم طرحها من يده.
إلى ها هنا حديث عمرو بن شعيب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر، قال: أعطي رسول الله ﷺ المؤلفة قلوبهم - وكانوا أشرافًا من أشراف الناس يتألفهم ويتألف به قلوبهم - فأعطي أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطي أبنه معاوية مائة بعير، وأعطي حكيم ابن حزام مائة بعير، وأعطي النضير بن الحارث بن كلدة بن علقمة أخا بني عبد الدار مائة بعير، وأعطي العلاء بن جارية الثقفي حليف بني زهرة مائة بعير، وأعطي الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطي صفوان بن أمية مائة بعير، وأعطي سهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطي حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس مائة بعير، وأعطي عيينة بن حصن مائة بعير، وأعطي الأقرع ابن حابس التميمي مائة بعير، وأعطي مالك بن عوف النصري مائة بعير، فهؤلاء أصحاب المئين؛ وأعطي دون المائة رجالًا من قريش؛ منهم مخرمة ابن نوفل بن أهيب الزهري، وعمير بن وهب الجمحي، وقد عرف فيما زعم أنها دون المائة - وأعطي سعيد بن يربوع بن عنكثة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل، وأعطي السهمي خمسين من الإبل، وأعطي عباس بن مرداس السلمي أبا عر فنسخطها، وعاتب فيها رسول الله ﷺ، فقال:
كانت نهابًا تلافيتها ** بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ** إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيد ** د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ** فلم أعط شيئًا ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها ** عديد قوائمها الأربع
وما كان حصن ولاحابس ** يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون أمرئ منهما ** ومن تضع اليوم لا يرفع
قال: فقال رسول الله ﷺ: أذهبوا فأقطعوا عني لسانه؛ فزادوه حتى رضي؛ فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبراهيم بن الحارث، أن قائلًا قال لرسول الله ﷺ من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري! فقال رسول الله ﷺ: أما والذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض، كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس؛ ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو عبيدة بن محمد، عن مقسم أبي القاسم مولي عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي حتى أتينا عبد الله ابن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقًا نعليه بيده، فقلنا له: هل حضرت رسول الله ﷺ حين كلمه التميمي يوم حنين؟ قال: نعم، أفبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف على رسول الله ﷺ وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم! فقال رسول الله: أجل؛ فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت! فغضب رسول الله ﷺ، ثم قال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألا نقتله! فقال: لا، دعوه؛ فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء؛ ثم في الفوق فلا يوجد شيء؛ سبق الفرث والدم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي مثل ذلك؛ وسماه ذا الخويصرة التميمي.
قال أبو جعفر: وقد روى عن أبي سعيد الخدري أن الذي كلم رسول الله ﷺ بهذا الكلام؛ إنما كلمه به في مال كان علي عليه السلام بعثه من اليمن إلى رسول الله، فقسمه بين جماعة؛ منهم عيينة بن حصن، والأقرع، وزيد الخيل؛ فقال حينئذ ما ذكر عن ذي الخويصرة أنه قاله رجل حضره.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر أن رجلًا من أصحاب النبي ﷺ ممن شهد معه حنينًا، قال: والله إني لأسير إلى جنب رسول الله ﷺ على ناقة لي، وفي رجلي نعل غليظة، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله، ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله فأوجعه، قال: فقرع قدمي بالسوط، قال: أوجعتني فتأخر عني، فانصرفت؛ فلما كان من الغد إذا رسول الله يلتمسني، قال: قلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله بالأمس. قال: فجئته وأنا أتوقع، فقال لي: إنك قد أصبت رجلي بالأمسي فأوجعتني فقرعت قدمك بالسوط، فدعونك لأعوضك منها؛ فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما أعطي رسول الله ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة؛ حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه! فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد! قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي! قال: فأجمع لي قومك في الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاءه رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما أجتمعوا إليه أناه سعد فقال: قد أجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله ﷺ، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله؛ وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم! قالوا: بلى، لله ولرسوله المن والفضل! فقال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار! قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم، ولصدقتم؛ أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك؛ وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم! أفلا ترضون يا معشر الأنصار؛ أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم! فو الذي نفس محمد بيده؛ لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار! اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار! قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وجظًا، ثم انصرف رسول الله ﷺ وتفرقوا.
عمرة رسول الله من الجعرانة
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج رسول الله ﷺ من الجعرانة معتمرًا، وأمر ببقايا الفئ، فحبس بمجنة، وهي بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله من عمرته وانصرف راجعًا إلى المدينة؛ أستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن، وأتبع رسول الله ﷺ ببقايا الفئ.
وكانت عمرة رسول الله في ذي القعدة، فقدم رسول الله ﷺ المدينة في ذي القعدة أو في ذي الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج تلك السنة بالمسلمين عتاب بن أسيد؛ وهي سنة ثمان؛ وأقام أهل الطائف على شركهم وأمتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة، إذ انصرف رسول الله عنهم إلى شهر رمضان من سنة تسع.
قال الواقدي: لما قسم رسول الله ﷺ الغنائم بين المسلمين بالجعرانة، أصاب كل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة؛ فمن كان منهم فارسًا أخذ سهم فرسه أيضًا. وقال أيضًا: قدم رسول الله ﷺ المدينة لليال يقين من ذي الحجة من سفرته هذه.
قال: وفيها بعث رسول الله ﷺ عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي من الأزد مصدقًا، فخليا بينه وبين الصدقة، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس الذين بها، وهم كانوا أهل البلد، والعرب كانوا يكونون حولها.
قال: وفيها تزوج رسول الله ﷺ الكلابية التي يقال لها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فأختارت الدنيا حين خيرت. وقيل: إنها أستعاذت من رسول الله، ففارقها. وذكر أن إبراهيم بن وثيمة بن مالك بن أوس بن الحدثان؛ حدثه عن أبي وجزة السعدي أن النبي ﷺ تزوجها في ذي القعدة.
قال: وفيها ولدت مارية إبراهيم في ذي الحجة، فدفعه رسول الله ﷺ إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد ابن عوف بن مبذول بن عمر بن غنم بن عدي بن النجار؛ فكانت ترضعه.
قال: وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله ﷺ؛ فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته أنها ولدت غلامًا؛ فبشر به أبو رافع رسول الله، فوهب له مملوكًا.
قال: وغارت نساء رسول الله ﷺ، وأشتد عليهن حين رزقت منه الولد.
ثم دخلت سنة تسع
وفيها قدم وفد بني أسد على رسول الله ﷺ - فيما ذكر - فقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن ترسل إلينا رسولًا، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم ".
وفيها قدم وفد بلى في شهر ربيع الأول، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي. وفيها قدم وفد الداريين من لخم، وهم عشرة.
أمر ثقيف وإسلامها
وفيها قدم - في قول الواقدي - عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله ﷺ مسلمًا، وكان من خبره - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق - أن رسول الله ﷺ حين انصرف عن أهل الطائف أتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم؛ وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال رسول الله ﷺ - كما يتحدث قومهم: إنهم قاتلوك؛ وعرف رسول الله أن فيهم نخوة بالامتناع الذي كان منهم - فقال له عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم - وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا - فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، ورجا ألا يخالفوه لمنزله فيهم؛ فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله؛ فتزعم بنو مالك، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك، يقال له وهب بن جابر. فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلى، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله ﷺ قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله ﷺ قال فيه: إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه.
وفيها قدم وفد أهل الطائف على رسول الله ﷺ، قيل: إنهم قدموا عليه في شهر رمضان.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرًا، ثم إنهم أئتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي، أن عمرو بن أمية أخا بني علاج كان مهاجرًا لعبد ياليل بن عمرو، الذي بينهما سييء - وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب - فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو وحتى دخل عليه داره، ثم أرسل إليه: إن عمرو بن أمية يقول لك: أخرج إلي، فقال عبد ياليل للرسول: ويحك! أعمرو أرسلك؟ قال: نعم، وهو ذا واقف في دارك.
فقال: إن هذا لشيء ما كنت أظنه! لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك. فلما رآه رحب به، وقال عمرو: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فأنظروا في أمركم. فعند ذلك أئتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا أقتطع به! فأئتمروا بينهم، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله ﷺ رجلًا، كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل ابن عمرو بن عمير - وكان في سن عروة بن مسعود - وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما يصنع بعروة، فقال: لست فاعلًا حتى تبعثوا معي رجالًا، فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فيكونوا ستة: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخو بني يسار، وأوس بن عوف أخو بني سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة أخو بلحارث؛ وبعثوا من الأخلاف مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب؛ فخرج بهم عبد ياليل - وهو ناب القوم وصاحب أمرهم؛ ولم يخرج إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود، ليشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه - فلما دنوا من المدينة، ونزلوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله، وكانت رعيتها نوبًا على أصحابه، فلما رآهم المغيرة ترك الركاب وضبر يشتد ليبشر رسول الله ﷺ بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله، فأخبره عن ركب ثقيف أنهم قدموا يريدون البيعة والإسلام، بأن يشرط لهم شروطًا، ويكتتبوا من رسول الله كتابًا في قومهم وبلادهم وأموالهم. فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله، فأخبره عن ركب ثقيف بقدومهم، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله ﷺ، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما أن قدموا على رسول الله ﷺ ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده - كما يزعمون - وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله ﷺ؛ حتى أكتتبوا كتابهم؛ وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعامًا يأتيهم من عند رسول الله حتى يأكل منه خالد؛ حتى أسلموا وبايعوا وفرغوا من كتابهم - وقد كان فيما سألوا رسول الله ﷺ أن يدع الطاغية؛ وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين؛ فأبى رسول الله ذلك عليهم؛ فما برحوا يسألونه سنة سنة، فأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم؛ فأبى أن يدعها شيئًا يسمى؛ وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام - فأبى رسول الله ﷺ ذلك إلا أن يبعث آبا سفيان بن حرب والمغيرة ابن شعبة فيهدماها؛ وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه؛ وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه؛ فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله ﷺ كتابهم؛ أمر عليهم عثمان بن أبي العاص - وكان من أحدثهم سنًا - وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فقال أبو بكر لرسول الله ﷺ: يا رسول الله؛ إني قد رأيت هذا الغلام فيهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب ابن عتبة، قال: فلما خرجوا من عند رسول الله ﷺ وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله ﷺ أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم؛ حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: أدخل أنت على قومك؛ وأقام أبو سفيان بما له بذي الهرم، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه دونه - بنو معتب - خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرًا يبكين عليها، ويقلن:
ألا أبكين دفاع ** أسلمها الرضاع
لم يحسنوا المصاع قال: ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهًا لك! واهًا لك! فلما هدمها المغيرة أخذ مالها وحليها وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله ﷺ أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود، فقضى منه دينهما.
وفي هذه السنة غزا رسول الله ﷺ غزوة تبوك.
ذكر الخبر عن غزوة تبوك
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: أقام رسول الله ﷺ بالمدينة بعد منصرفه من الطائف، ما بين ذي الحجة إلى رجب.
ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم؛ كل قد حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض، وكل قد أجتمع حديثه في هذا الحديث. إن رسول الله ﷺ أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم؛ وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد؛ وحين طابت الثمار وأحبت الظلال؛ فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله ﷺ قلمًا يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له؛ ألا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشفة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، وأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم.
فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه لما فيه؛ مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم؛ فقال رسول الله ﷺ ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك ياجد العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني! فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء منى؛ وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله ﷺ وقال: قد أذنت لك؛ ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: " ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني " الآية؛ أي إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر - وليس ذلك به - فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم؛ وإن جهنم لمن ورائه. وقال قائل من المنافقين لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكًا في الحق، وإرجافًا بالرسول، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون " إلى قوله: " جزاء بما كانوا يكسبون ".
ثم إن رسول الله ﷺ جد في سفره، فأمر الناس بالجهاز والأنكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، ورغبهم في ذلك، فحمل رجال من أهل الغنى فأحتسبوا، وأنفق عثمان ابن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته.
ثم إن رجالًا من المسلمين أتوا رسول الله؛ وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، فأستحملوا رسول الله، وكانوا أهل حاجة، فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون ". قال: فبلغني أن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحًا فأرتحلاه، وزودهما شيئًا من تمر، فخرجا مع رسول الله ﷺ.
قال: وجاء المعذرون من الأعراب، فأعتذروا إليه فلم يعذرهم الله عز وجل؛ وذكر لي أنهم كانوا من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة.
ثم استتب برسول الله ﷺ سفره، وأجمع السير؛ وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا أرتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف؛ وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم، فلما خرج رسول الله ﷺ ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على حدة أسفل منه بحذاء ذباب؛ جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع. وكان - فيما يزعمون - ليس بأقل العسكرين؛ فلما سار رسول الله ﷺ تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب - وكان عبد الله بن أبي أخا بني عوف بن الخزرج - وعبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع؛ وكانوا من عظماء المنافقين؛ وكانوا ممن يكيد الإسلام وأهله.
قال: وفيهم - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري - أنزل الله عز وجل: " لقد أتبغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور "، الآية.
قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، وأستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، أخا بني غفار، فأرجف المنافقون بعلي بن أبي طالب، وقالوا: ما خلفه إلا أستثقالا له، وتخففًا منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ على سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله ﷺ وهو بالجرف فقال: يا نبي الله؛ زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ أنك أستثقلتني وتخففت مني! فقال: كذبوا، ولكني إنما خلفتك لما ورائي، فأرجع فأخلفني في أهلي وأهلك؛ أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي! فرجع علي إلى المدينة، ومضى رسول الله ﷺ على سفره.
ثم إن أبا خيثمة أخا بني سالم رجع - بعد أن سار رسول الله ﷺ أيامًا - إلى أهله في يوم حار، فوجد أمرأتين له في عريشين لهما في حائط، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا؛ فلما دخل فقام على باب العريشين؛ فنظر إلى أمرأتيه وما صنعتا له، قال: رسول الله في الضح والريح، وأبو خيثمة في ظلال باردة وماء بارد وطعام مهيإ وأمرأة حسناء، في ماله مقيم! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله؛ فهيئا لي زادًا؛ ففعلتا. ثم قدم ناضحه فأرتحله، ثم خرج في طلب رسول الله ﷺ حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله ﷺ، فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتى رسول الله ﷺ. ففعل، ثم سار حتى إذا دنا من رسول الله ﷺ وهو نازل بتبوك، قال الناس: يا رسول الله، هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله: كن أبا خيثمة! فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله: أولى لك يا أبا خيثمة! ثم أخبر رسول الله الخبر، فقال له رسول الله ﷺ خيرًا، ودعا له بخير.
وقد كان رسول الله ﷺ حين مر بالحجر نزلها وأستقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله ﷺ: لا تشربوا من مائها شيئًا، ولا تتوضئوا منها للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له؛ ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله ﷺ إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فأحتملته الريح حتى طرحته في جبلي طيئ، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحب له! ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ؛ فإن طيئًا هدته لرسول الله ﷺ حين قدم المدينة.
قال أبو جعفر: والحديث عن الرجلين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي: فلما أصبح الناس - ولا ماء معهم - شكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى أرتوي الناس، وأحتملوا حاجتهم من الماء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم؛ والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه ومن عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضًا على ذلك؛ ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله ﷺ حيث سار، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان، ودعا رسول الله ﷺ حين دعا، فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى أرتوى الناس، أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء! قال: سحابة مارة.
ثم إن رسول الله ﷺ سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله ﷺ رجل من أصحابه، يقال له عمارة بن حزم، وكان عقبيًا بدريًا، وهو عم بني عمرو بن حزم، وكان في رحله زيد بن لصيب القينقاعي، وكان منافقًا، فقال زيد بن لصيب وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله ﷺ: أليس يزعم محمد أنه نبي يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فقال رسول الله ﷺ - وعمارة عنده: إن رجلًا قال: إن محمدًا هذا يخبركم أنه نبي، وهو يزعم أنه يخبركم بخير السماء وهو لا يدري أين ناقته! وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي من شعب كذا وكذا قد حبستها شجرة بزمامها، فأنطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى أهله، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله ﷺ آنفًا عن مقالة قائل أخبره الله عنه عنه كذا وكذا - للذي قال زيد بن اللصيب - فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي. فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: يا عباد الله، والله إن في رحلي لداهية وما أدري! أخرج يا عدو الله من رحلي فلا تصحبني! قال: فزعم بعض الناس أن زيدًا تاب بعد ذلك، وقال بعض: لم يزل متهمًا بشر حتى هلك. ثم مضى رسول الله ﷺ سائرًا؛ فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه؛ حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره؛ فقال: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.
قال: وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه، فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظره ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله ﷺ: كن أبا ذر! فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو أبو ذر! فقال رسول الله ﷺ: يرحم الله أبا ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بريدة بن سفيان الأسلمى، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما نفي عثمان أبا ذر نزل أبو ذر الربذة، فأصابه بها قدره، ولم يكن معه أحد إلا أمرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه. فلما مات فعلًا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، فأقبل عبد الله بن مسعود ورهط من أهل العراق عمارًا، فلم يرعهم إلا بجنازة على الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، فأعينونا على دفنه. قال: فأستهل عبد الله بن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله! تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه.
ثم حدثهم ابن مسعود حديثه وما قال له رسول الله في مسيره إلى تبوك.
قال: وقد كان رهط من المنافقين، منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو ابن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة، يقال له مخشى ابن حمير، يسيرون مع رسول الله ﷺ وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم! والله لكأني بكم غدًا مقرنين في الحبال؛ إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين. فقال مخشي ابن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل الله فينا قرآنا لمقالتكم هذه. وقال رسول الله ﷺ - فيما بلغني - لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد أحترقوا، فسلهم عما قالوا؛ فإن أنكروا فقل: بلى قد قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك؛ فأتوا رسول الله يعتذرون إليه، فقام وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله، كنا نخوض ونلعب؛ فأنزل الله عز وجل فيهم: " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ". وقال مخشي بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي؛ فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشي بن حمير؛ فسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتله شهيدًا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. فلما أنتهى رسول الله ﷺ إلى تبوك، أتاه يحنه بن رؤبة، صاحب أيلة فصالح رسول الله ﷺ وأعطاه الجزية، وأهل جرباء وأذرح أعطوه الجزية، وكتب رسول الله ﷺ لكل كتابًا؛ فهو عندهم.
ثم إن رسول الله ﷺ دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة - وهو أكيدر بن عبد الملك، رجل من كندة، كان ملكًا عليها وكان نصرانيًا - فقال رسول الله ﷺ لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه أمرأته، فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت أمرأته: هل رأيت مثل هذا قط! قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له حسان، فركب، وخرجوا معه بمطاردهم؛ فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله ﷺ فأخذته، وقتلوه أخاه حسان، وقد كان عليه قباء له من ديباج مخوص بالذهب، فأستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله ﷺ قبل قدومه عليه حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك؛ قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم به إلى رسول الله ﷺ، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله: أتعجبون من هذا! فو الذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم إن خالدًا قدم بأكيدر على رسول الله ﷺ، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته.
رجع الحديث إلى حديث يزيد بن رومان الذي في أول غزوة تبوك. قال: فأقام رسول الله ﷺ بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، فكان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له وادي المشقق، فقال رسول الله ﷺ: من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئًا حتى نأتيه. قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فأستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله ﷺ وقف عليه فلم ير فيه شيئًا؛ فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له: يا رسول الله، فلان وفلان، فقال: أو لم ننههم أن يستقوا منه شيئًا حتى نأتيه! ثم لعنهم رسول الله، ودعا عليهم. ثم نزل ﷺ، فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا رسول الله ﷺ بما شاء الله أن يدعو، فأنخرق من الماء - كما يقول من سمعه: إن له حسًا كحس الصواعق؛ فشرب الناس وأستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله ﷺ: من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي؛ وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه. ثم أقبل رسول الله ﷺ حتى نزل بذي أوان؛ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار؛ وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا يا رسول الله؛ إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية؛ وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه. فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل - أو كما قال رسول الله - ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه؛ فلما نزل بذي أو أن أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله ﷺ مالك بن الدخشم، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي - أو أخاه عاصم بن عدي أخا بني العجلان - فقال: أنطلقا إلى المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه؛ فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم ابن عوف؛ وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: " والذين أتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين "، إلى آخر القصة.
وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا: خذام بن خالد، من بني عبيد بن زيد؛ أحد بني عمرو بن عوف - ومن داره أخرج مسجد الشقاق - وثعلبة بن حاطب من بني عبيد - وهو إلى بني أمية بن زيد، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد ابن حنيف؛ أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع بن جارية وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث، من بني ضبيعة، وبحزج - وهو إلى بني ضبيعة - وبجاد بن عثمان - وهو من بني ضبيعة - ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.
قال: وقدم رسول الله ﷺ المدينة - وقد كان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أولئك الرهط من المسلمين من غير شك ولا نفاق: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية - فقال رسول الله ﷺ: لا يكلمن أحد أحدًا من هؤلاء الثلاثة، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ن فصفح عنهم رسول الله ولم يعذرهم الله ولا رسوله، وأعتزل المسلمون كلام هؤلاء الثلاثة النفر، حتى أنزل الله عز وجل قوله: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " - إلى قوله - " وكونوا مع الصادقين "، فتاب الله عليهم.
قال: وقدم رسول الله ﷺ المدينة من تبوك في شهر رمضان. وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف، وقد مضى ذكر خبرهم قبل.
أمر طيء وعدي بن حاتم
قال: وفي هذه السنة - أعني ستة تسع - وجه رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في سرية إلى بلاد طيئ في ربيع الآخر، فأغار عليهم، فسبى وأخذ سيفين كانا في بيت الصنم؛ يقال لأحدهما: رسوب، وللآخر المخذم؛ وكان لهما ذكر، كان الحارث بن أبي شمر نذرهما له، وسبى أخت عدي بن حاتم.
قال أبو جعفر: فأما الأخبار الواردة عن عدي بن حاتم عندنا بذلك فبغير بيان وقت، وبغير ما قال الواقدي في سبي على أخت عدي بن حاتم.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا سماك، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله ﷺ - أو قال: رسل رسول الله - فأخذوا عمتي وناسًا، فأتوا بهم النبي ﷺ. قال: فصفوا له. قالت: قلت: يا رسول الله، نأى الوافد، وأنقطع الوالد؛ وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة؛ فمن على من الله عليك يا رسول الله! قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم؛ قال: الذي فر من الله ورسوله! قالت فمن علي - ورجل إلى جنبه ترى أنه على عليه السلام، قال: سليه حملانًا - قال: فسألته، فأمر بها فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها! قالت: ائته راغبًا وراهبًا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. قال: فأتيته فإذا عنده أمرأة وصبيان - أو صبي - فذكر قربهم من النبي ﷺ - فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال لي: يا عدي بن حاتم، ما أفرك أن يقال لا إله إلا الله! فهل من إله إلا الله! وما أفرك أن يقال الله أكبر! فهل من شيء هو أكبر من الله! فأسلمت فرأيت وجهه أستبشر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شيبان بن سعد الطائي، قال: كان عدي بن حاتم طيئ يقول فيما بلغني: ما رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله حين سمع به مني؛ أما أنا فكنت أمرأ شريفًا، وكنت نصرانيًا أسير في قومي بالمرباع، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكًا في قومي، لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيًا لإبلي: لا أبالك! أعدد لي من إبلي أجمالًا ذللا سمانا مسان، فأحبسها قريبًا مني؛ فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل. ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي؛ ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قال: فقلت: قرب لي جمالي، فقربها، فأحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصاري بالشأم، فسلكت الحوشية وخلفت ابنة حاتم في الحاضر، فلما قدمت الشأم أقمت بها، وتخالفني خيل لرسول الله ﷺ فتصيب ابنة حاتم فيمن أصيب. فقدم بها على رسول الله في سبايا طيئ، وقد بلغ رسول الله ﷺ هربي إلى الشأم. قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن بها، فمر بها رسول الله ﷺ فقامت إليه - وكانت أمرأة جزلة - فقالت: يا رسول الله؛ هلك الوالد، وغاب الوافد، فأمنن على من الله عليك! قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله! قالت: ثم مضى رسول الله ﷺ وتركني؛ حتى إذا كان الغد مر بي وقد أيست، فأشار إلى رجل من خلفه: أن قومي إليه فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فأمنن علي من الله عليك! قال: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني. قالت: فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن كلميه فقيل: علي بن أبي طالب. قالت: وأقمت حتى قدم ركب من بلى - أو من قضاعة - قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشأم، قالت: فجئت رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت: فكساني رسول الله ﷺ، وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشأم.
قال عدي: فو الله، إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا. قال: فقلت: ابنة حاتم! قال: فإذا هي هي؛ فلما وقفت على أنسحلت تقول: القاطع الظالم! أحتملت بأهلك وولدك، وتركت بنية والدك وعورته! قال: قلت: يا أخية، لا تقولي إلا خيرًا، فو الله مالي عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها - وكانت أمرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيًا فالسابق إليه له فضيلة، وإن يكن ملكًا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت! قلت: والله إن هذا للرأي. قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله ﷺ فأنطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إذ لقيته أمرأة ضعيفة كبيرة فأستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك، ثم مضى رسول الله حتى دخل بيته، فتناول وسادة من أدم محشوة ليفًا، فقذفها إلى، فقال لي: أجلس على هذه، قال: قلت: لا بل أنت، فأجلس عليها. قال: لا بل أنت، فجلست وجلس رسول الله ﷺ بالأرض. قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيا! قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع! قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله - وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل - قال: ثم قال: لعله يا عدي بن حاتم؛ إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم! فو الله ليوشكن المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم؛ فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف إلا الله؛ ولعله إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت. قال: فأسلمت، فكان عدي بن حاتم يقول: مضت الثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئًا حتى تحج هذا البيت. وايم الله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه.
قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات
قال الواقدي: وفيها قدم على رسول الله ﷺ وفد بني تميم، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، قالا: قدم على رسول الله ﷺ عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي في أشرفها من تميم منهم الأقرع بن جابس والزبرقان بن بدر التمتمي ثم أحد بني سعد، وعمرو بن الأهتم، والحتات بن فلان، ونعيم بن زيد، وقيس بن عاصم أخو بني سعد في وفد عظيم من بني تميم، معهم عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري - وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن شهدا مع رسول الله ﷺ فتح مكة وحصار الطائف، فلما وفد وفد بني تميم كانا معهم، فلما دخل وفد بني تميم المسجد، نادوا رسول الله ﷺ من وراء الحجرات: أن أخرج إلينا يا محمد. فآذي ذلك من صياحهم رسول الله ﷺ؛ فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل. فقام إليه عطارد بن حاجب، فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددًا، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس! ألسنا برءوس الناس وأولى فضلهم! فمن يفاخرنا فليعدد مثل ما عددنا؛ وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام؛ ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا؛ وإنا نعرف. أقول هذا الآن لتأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله ﷺ لثابت بن قيس بن شماس أخي بلحارث بن الخزرج: قم فأجب الرجل في خطبته.
فقام ثابت، فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا وأصطفى من خير خلقه رسولا أكرمهم نسبًا، وأصدقهم حديثًا، وأفضلهم حسبًا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه؛ فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه؛ أكرم الناس أنسابًا، وأحسن الناس وجوهًا؛ وخير الناس فعالًا؛ ثم كان أول الخلق إجابة - وأستجاب لله حين دعا رسول الله ﷺ - نحن؛ فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين وللمؤمنات؛ والسلام عليكم.
قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ** منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ** عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ** من الشواء إذا لم يؤنس القزع
ثم ترى الناس تأتينا سراتهم ** من كل أرض هويا ثم نصطنع
فننحر الكوم عبطا في أرومتنا ** للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ** إلا أستقادوا وكاد الرأس يقتطع
إنا أبينا ولن يأبى لنا أحد ** إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فمن يقادرنا في ذاك يعرفنا ** فيرجع القول والأخبار تستمع
وكان حسان بن ثابت غائبًا، فبعث إليه رسول الله ﷺ، قال حسان: فلما جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، خرجت إلى رسول الله، وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حل وسطنا ** على كل باغ من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا ** بأسيافنا من كل عاد وظالم
ببيت حريد عزه وثراؤه ** بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ** وجاه الملوك وأحتمال العظائم!
قال: فلما أنتهيت إلى رسول الله ﷺ وقام شاعر القوم، فقال ما قال، عرضت في قوله وقلت على نحو مما قال؛ فلما فرغ الزبرقان بن بدر من قوله قال رسول الله ﷺ لحسان: قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال، قال: فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ** قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ** تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ** أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ** إن الخلائق فأعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ** فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ** عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا الناس يومًا فاز سبقهم ** أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ** لا يطبعون ولا يرديهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم ** ولا يمسهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ** كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ** إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم ** وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع ** أسد بحلية في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتوا عفوًا إذا غضبوا ** ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهمشرًا يخاض عليه السم والسلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ** إذا تفرقت الأهواء والشيع
أهدى لهم مدحتى قلب يوازره ** فيما أحب لسان حائك صنع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم ** إن جد بالناس جد القول أو شمعوا
فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له،! لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله ﷺ فأحسن جوائزهم - وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم - فقال قيس بن عاصم - وكان يبغض عمرو بن الأهتم: يا رسول الله؛ إنه قد كان منا رجل في رحالنا وهو غلام حدث، وأزرى به، فأعطاه رسول الله ﷺ مثل ما أعطي القوم؛ فقال عمرو بن الأهتم حين بلغه ذلك من قول قيس بن عاصم، وهو يهجوه:
ظللت مفترشًا هلباك تشتمني ** عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ** والروم لا تملك البغضاء للعرب
سدنا فسوددنا عود وسوددكم ** مؤخر عند أصل العجب والذنب
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، قال: فأنزل الله فيهم القرآن: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " - من بني تميم - " أكثرهم لا يعقلون "؛ قال: وهي القراءة الأولى.
قال الواقدي: وفيها مات عبد الله بن أبي بن سلول، مرض في ليال بقين من شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة.
قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم
قال: وفيها قدم على رسول الله ﷺ كتاب ملوك حمير في شهر رمضان مقرين بالإسلام؛ مع رسولهم الحارث بن عبد كلال ونعيم ابن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله ﷺ كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك ورسولهم إليه بإسلامهم: الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، وهمدان ومعافر؛ وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامه، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر؛ أما بعد ذلكم؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم، وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين؛ وإن الله قد هداكم بهدايته، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة؛ وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم نبيه وصفيه؛ وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وما سقت السماء، وكل ما سقى بالغرب نصف العشر، وفي الإبل في الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع؛ جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. وإنها فريضة الله التي فرض على المؤمنين في الصدقة؛ فمن زاد خيرًا فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين؛ فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ وله ذمة الله وذمة رسوله. وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإن له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية؛ على كل حالم ذكر أو أنثى، حر أو عبد؛ دينار واف أو قيمته من المعافر أو عرضه ثيابًا؛ فمن أدى ذلك إلى رسول الله؛ فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد؛ فإن رسول الله محمدًا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذا أتتكم رسلي فأوصيكم بهم خيرًا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرة وأصحابهم؛ وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل؛ فلا ينقلبن إلا راضيًا.
أما بعد؛ فإن محمدًا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله؛ ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرًا، ولا تخونوا ولا تخذلوا فإن رسول الله مولي غنيكم وفقيركم؛ وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهله؛ إنما هي زكاة يتزكى بها على فقراء المؤمنين وأبناء السبيل؛ وإن مالكًا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيرًا، وإني قد بعثت إليكم من صالحي أهلي وأولى ديني، وأولى علمهم؛ فآمركم بهم خيرًا فإنه منظور إليهم؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حوادث متفرقة
قال الواقدي: وفيها قدم وفد بهراء على رسول الله ﷺ ثلاثة عشر رجلًا، ونزلوا على المقداد بن عمرو.
قال: وفيها قدم وفد بني البكاء.
وفيها قدم وفد بني فزارة؛ وهم بضعة عشر رجلًا، فيهم خارجة بن حصن.
قال: وفيها نعي رسول الله ﷺ للمسلمين النجاشي، وأنه مات في رجب سنة تسع.
قال: وفيها حج أبو بكر بالناس ثم خرج أبو بكر من المدينة في ثلثمائة، وبعث معه رسول الله ﷺ بعشرين بدنة، وساق أبو بكر خمس بدنات. وحج فيها عبد الرحمن بن عوف وأهدي.
وبعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب عليه السلام على أثر أبي بكر رضي الله عنه، فأدركه بالعرج، فقرأ علي عليه براءة يوم النحر عند العقبة. فحدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط؛ عن السدي، قال: لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين - يعني من سورة براءة - فبعث بهن رسول الله مع أبي بكر، وأمره على الحج، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعلي، فأخذها منه؛ فرجع أبو بكر إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! أنزل في شأني شيء؟ قال: لا؛ ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني. أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض! قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر على الحج، وسار على يؤذن ببراءة، فقام يوم الأضحى فآذن فقال: لا يقربن المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فله عهده إلى مدته، وإن هذه أيام أكل وشرب، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلمًا. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب.
فرجع المشركون فلام بعضهم بعضًا، وقالوا: ما تصنعون وقد أسلمت قريش! فأسلموا.
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان، قال: حدثنا أبو معشر، قال: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره، قالوا: بعث رسول الله ﷺ أبا بكر أميرًا على الموسم سنة تسع، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين أو أربعين آية من براءة، فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة، أجل المشركين عشرين يومًا من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرًا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، ولا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فرضت الصدقات، وفرق فيها رسول الله ﷺ عماله على الصدقات.
وفيها نزل قوله: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم "؛ وكان السبب الذي نزل ذلك به قصة أمر ثعلبة بن حاطب، ذكر ذلك أبو أمامة الباهلي.
قال الواقدي: وفي هذه السنة ماتت أم كلثوم ابنة رسول الله ﷺ في شعبان، وغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبد المطلب. قال: وقيل غسلتها نسوة من الأنصار، فيهن أمرأة يقال لها أم عطية، ونزل في حفرتها أبو طلحة.
قال: وفيها قدم وفد ثعلبة بن منقذ.
قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا عن بني سعد
وفيها قدم وفد سعد هذيم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني سلمة بن كهيل ومحمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب مولي ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله ﷺ، فقدم عليه؛ فأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله ﷺ جالس في أصحابه، وكان ضمام بن ثعلبة رجلًا جلدًا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله ﷺ في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال: قال رسول الله: أنا ابن عبد المطلب، قال: محمد؟ قال: نعم، قال: يا بن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ لك في المسألة، فلا تجدن في نفسك! قال: لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك، قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولًا؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نأمرنا أن نعبده وحده، ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت آباؤنا تعبد من دونه؟ قال: اللهم نعم، قال: فأنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: اللهم نعم. قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة؛ الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع اإسلام كلها، يناشده عن كل فريضة كما ناشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أنقص ولا أزيد. ثم انصرف إلى بعيره راجعًا. فقال رسول الله ﷺ حين ولي: إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة. قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فأجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: باست اللات والعزي! قالوا: مه يا ضمام! أتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون! قال: ويحكم، إنهما والله لا ينفعان ولا يضران؛ إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابًا، استنقذكم به مما كنتم فيه؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.
قال: فوالله ما أمسى ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
ثم دخلت سنة عشر
سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب وإسلامهم
قال أبو جعفر: فبعث فيها رسول الله ﷺ خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر - وقيل في شهر ربيع الأول، وقيل في جمادى الأولى - سرية في أربعمائة إلى بني الحارث بن كعب.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ﷺ خالد ابن الوليد في شهر ربيع الآخر - أو في جمادى الأولى - من سنة عشر، إلى بلحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا، فإن استجابوا لك فاقبل منهم، وأقم فيهم، وعلمهم كتاب الله وسنة نبيه، ومعالم الإسلام، فإن لم يفعلوا فقاتلهم.
فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون الناس إلى الإسلام، ويقولون: يأيها الناس أسلموا تسلموا. فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعاهم إليه، فأقام خالد فيهم؛ يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه.
ثم كتب خالد إلى رسول الله ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد النبي رسول الله ﷺ من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك؛ بعثني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام؛ فإن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم. وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله ﷺ وبعثت فيهم ركبانًا قالوا: يا بني الحارث، أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم وآمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه؛ وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي ﷺ حتى يكتب إلي رسول الله، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فكتب إليه رسول الله ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد. سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فإن كتابك جاءني مع رسلك بخبر أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن يقاتلوا، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه؛ فبشرهم وأنذرهم، وأقبل وليقبل معك وفدهم؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فأقبل خالد بن الوليد إلى رسول الله ﷺ، وأقبل معه وفد بلحارث بن كعب؛ فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قريظ الزيادى؛ وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي.
فلما قدموا على رسول الله ﷺ، فرآهم قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟ قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب؛ فلما وقفوا عند رسول الله ﷺ سلموا عليه، فقالوا: نشهد أنك رسول الله، وأن لا إله إلا الله، فقال رسول الله: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. ثم قال رسول الله ﷺ: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا! فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها رسول الله ﷺ الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها رسول الله الثالثة فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها رسول الله الرابعة، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجرنا استقدمنا، فقالها أربع مرات، فقال رسول الله ﷺ: لو أن خالد بن الوليد لم يكتب إلى فيكم أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم. فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله يا رسول الله، ما حمدناك ولا حمدنا خالدًا، فقال رسول الله: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله؛ قال: صدقتم؛ ثم قال رسول الله ﷺ: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحدًا، فقال رسول الله: بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا: يا رسول الله، كنا نغلب من قاتلنا، أنا كنا بني عبيد، وكنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدًا بظلم، قال: صدقتم. ثم أمر رسول الله علي بلحارث بن كعب قيس بن الحصين. فرجع وفد بلحارث ابن كعب إلى قومهم في بقية شوال أو في صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن قدموا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفي رسول الله ﷺ.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: وكان رسول الله ﷺ بعث إلى بني الحارث بن كعب بعد أن ولي وفدهم عمرو بن حزم الأنصاري، ثم أحد بني النجار، ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب له كتابًا عهد إلي فيه، وأمره فيه بأمره: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا بيان من الله ورسوله: " يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "؛ عقد من محمد النبي لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمر به الله وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين، وينهى الناس ولا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم؛ وبالذي عليهم؛ ويلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم؛ فإن الله عز وجل كره الظلم ونهى عنه وقال: " ألا لعنة الله على الظالمين "، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر بالنار وبعملها، ويستألف الناس حتى ينفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته، وما أمر الله به في الحج الأكبر والحج الأصغر؛ وهو العمرة، وينهي الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير؛ إلا أن يكون ثوبًا واحدًا يثني طرفه على عاتقه، وينهي أن يحتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء، وينهي ألا يعقص أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر؛ وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له؛ فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوهم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برءوسهم كما أمرهم الله عز وجل، وأمره بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والخشوع، ويغلس بالفجر، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل؛ لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل. ويأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقى البعل وما سقت السماء ومما سقى الغرب نصف العشر، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل عشرين من الإبل أربع شياه، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة شاة؛ فإنها فريضة الله التي افترض الله عز وجل على المؤمنين في الصدقة؛ فمن زاد خيرًا فهو خير له، وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلامًا خالصًا من نفسه، ودان دين الإسلام فإنه من المؤمنين؛ له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم؛ ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن عنها، وعلى كل حالم ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار واف أو عرضه ثيابًا؛ فمن أدى ذلك؛ فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعًا.
قال الواقدي: توفي رسول الله ﷺ وعمرو بن حزم عامله بنجران.
قال الواقدي: وفي هذه السنة قدم وفد سلامان في شوال على رسول الله ﷺ، وهم سبعة نفر؛ رأسهم حبيب السلاماني.
وفيها قدم وفد غسان في رمضان.
وفيها قدم وفد غامد في رمضان.
قدوم وفد الأزد
وفيها قدم وفد الأزد، رأسهم صرد بن عبد الله في بضعة عشر. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله ﷺ صرد ابن عبد الله الأزدي فأسلم فحسن إسلامه، في وفد من الأزد، فأمره رسول الله على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين من قبائل اليمن، فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله في جيش حتى نزل بجرش؛ وهي يومئذ مدينة مغلقة، وفيها قبائل اليمن، وقد ضوت إليهم خثعم، فدخلوا معهم حين سمعوا بمسير المسلمين، فحاصروهم بها قريبًا من شهر، وامتنعوا منهم فيها. ثم إنه رجع عنهم قافلًا؛ حتى إذا كان إلى جبل يقال له كشر ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزمًا؛ فخرجوا في طلبه؛ حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلًا؛ وقد كان أهل جرش قد بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله ﷺ وهو بالمدينة يرتادان وينظران؛ فبيناهما عند رسول الله عشية بعد العصر، إذ قال رسول الله ﷺ: بأي بلاد الله شكر؟ فقام الجرشيان فقالا: يا رسول الله؛ ببلادنا جبل يقال له جبل كثر؛ وكذلك تسميه أهل جرش، فقال: إنه ليس بكشر؛ ولكنه شكر قالا: فما له يا رسول الله؟ قال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن. قال فجلس الرجلان إلى أبي بكر وإلى عثمان، فقال لهما: ويحكما! إن رسول الله الآن لينعي لكما قومكما، فقوما إلى رسول الله فاسألاه أن يدعو الله فيرفع عن قومكما، فقاما إليه فسألاه ذلك، فقال: اللهم ارفع عنهم؛ فخرجا من عند رسول الله راجعين إلى قومهما، فوجدا قومهما أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبد الله في اليوم الذي قال فيه رسول الله ﷺ ما قال؛ وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر؛ فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله ﷺ فأسلموا، وحمى لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، وللراحلة، وللمثيرة تثير الحرث؛ فمن رعاها من الناس سوى ذلك فما له سحت، فقال رجل من الأزد في تلك الغزوة - وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية وكانوا يغزون في الشهر الحرام:
يا غزوة ما غزونا غير خائبة ** فيها البغال وفيها الخيل والحمر
حتى أتينا حميرًا في مصانعها ** وجمع خثعم قد ساغت لها النذر
إذا وضعت غليلا كنت أحمله ** فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا!
سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن
قال: وفيها وجه رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب في سرية إلى اليمن في رمضان. فحدثنا أبو كريب ومحمد بن عمرو بن هياج، قالا: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن الأزجي، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فكنت فيمن سار معه؛ فأقام عليه ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء، فبعث النبي ﷺ علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالدًا ومن معه، فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه تركه.
قال البراء: فكنت فيمن عقب معه؛ فلما انتهينا إلى أوائل اليمن، بلغ الفوم الخبر، فجمعوا له، فصلى بنا على الفجر، فلما فرغ صفنا صفًا واحدًا، ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله ﷺ، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول اله ﷺ، فلما قرأ كتابه خر ساجدًا، ثم جلس، فقال: السلام على همدان، السلام على همدان! ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام.
قدوم وفد زبيد
قال أبو جعفر: وفيها قدم وفد زُبيد على النبي ﷺ بإسلامهم. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على رسول الله ﷺ عمرو بن معد يكرب في أناس من بني زبيد، فأسلم، وكان عمرو بن معد يكرب قد قال لقيس بن مكشوح المرادي حين انتهى إليهم أمر رسول الله ﷺ: يا قيس؛ إنك سيد قومك اليوم؛ وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول، إني نبي؛ فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه؛ فإن كان نبيًا كما يقول؛ فإنه لا يخفى عليك. إذا لقيناه اتبعناه؛ وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه ذلك قيس بن مكشوح وسفه رأيه.
فركب عمرو بن معد يكرب حتى قدم على رسول الله ﷺ فصدقه وآمن به؛ فلما بلغ ذلك قيسًا أوعد عمرًا، وتحفظ عليه، وقال: خالفني وترك رأيي! فقال عمرو في ذلك:
أمرتك يوم ذي صنعا ** ء أمرًا باديًا رشده
أمرتك باتقاء الل ** ه والمعروف تاتعده
خرجت من المنى مثل ال ** حمار أعاره وتده
تمناني على فرس ** عليه جالسًا أسده
على مفاضة كالنه ** ى أخلص ماءه جدده
ترد الرمح مثنى ال ** سنان عوائرًا قصده
فلو لا قيتني لاقي ** ت ليثًا فوقه لبده
تلاقي شنبثًا شثن ال ** براثن ناشزًا كتده
يسامي القرن إن قرن ** تيممه فيعتضده
فيأخذه فيرفعه ** فيخفضه فيقتصده
فيدمغه فيحطمه ** فيخضمه فيزد رده
ظلوم الشرك فيما أحد ** رزت أنيابه ويده
متى ما يغد أو يغدى ** به فقبوله برده
فيخطر مثل خطر الفح ** ل فوق جرانه زبده
فأمسى يعتريه من ال ** بعوض ممنعًا بلده
فلا تتمننى وتمن ** غيري لينًا كتده
وبوئنى له وطنًا ** كثيرًا حوله عدده
قال: فأقام عمرو بن معد يكرب في قومه من بني زبيد؛ وعليهم فروة ابن مسيك المرادي، فلما توفي رسول الله ﷺ ارتد عمرو فقال حين ارتد:
وجدنا ملك فروة شر ملك ** حمارًا ساف منخره بقذر
وكنت إذا رأيت أبا عمير ** ترى الحولاء من خبث وغدر
قدوم فروة بن مسيك المرادي
وقد كان قدم على رسول الله في هذه السنة - أعني سنة عشر - قبل قدوم عمرو ابن معد يكرب، فروة بن مسيك المرادي مفارقًا لملوك كنده. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم فروة بن مسيك المرادي على رسول الله ﷺ مفارقًا لملوك كندة، ومعاندًا لهم؛ وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا؛ حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له الرزم؛ وكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك، ففضحهم يومئذ، وفي ذلك يقول فروة بن مسيك:
فإن نغلب فغلابون قدمًا ** وإن نهزم فغير مهزمينا
وإن نقتل فلا جبن ولكن ** منايانا وطعمة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال ** تكر صروفه حينًا فحينا
فبيناه يسر به ويرضى ** ولو لبست غضارته سنينا
إذ انقلبت به كرات دهر ** فألقى للأولى غبطوا طحينا
ومن يغبط بريب الدهر منهم ** يجد ريب الزمان له خؤونا
فلو خلد الملوك إذًا خلدنا ** ولو بقي الكرام إذا بقينا
فأفني ذا كم سروات قومي ** كما أفني القرون الأولينا
ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله ﷺ مفارقًا لملوك كندة قال:
لما رأيت ملوك كندة أعرضت ** كالرجل خان الرجل عرق نسائها
يممت راحلتي أؤم محمدًا ** أرجو فواضلها وحسن ثرائها
قال: فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ قال له رسول الله - فيما بلغني -: يا فروة، هل ساءك ما أصاب قومك يومك يوم الرزم؟ فقال: يا رسول الله، ومن ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الرزم؛ لا يسوءه ذلك! فقال رسول الله ﷺ: أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرًا. فاستعمله رسول الله على مراد وزبيد ومذحج كلها؛ وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، وكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله ﷺ.
حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، قال: أخبرنا مجالد، قال: حدثنا عامر، عن فروة بن مسيك، قال: قال رسول الله: أكرهت يومك ويوم همدان؟ فقلت: إي والله! أفنى الأهل والعشيرة؛ فقال: أما إنه خير لمن بقي.
قدوم الجارود في وفد عبد القيس
وفيها قدم وفد عبد القيس، فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قدم على رسول الله ﷺ الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي، أخو عبد القيس في وفد عبد القيس وكان نصرانيًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسن، قال: لما انتهى إلى رسول الله ﷺ كلمه؛ فعرض عليه الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد، إني قد كنت على دين؛ وإني تارك ديني لدينك؛ فتضمن لي ديني؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم أنا ضامن لك أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه. قال: فأسلم وأسلم معه أصحابه، ثم سألوا رسول الله الحملان؛ فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه، فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس؛ أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال: إياكم وإياها؛ فإنما ذلك حرق النار. قال: فخرج من عنده الجارود راجعًا إلى قومه - وكان حسن الإسلام صلبًا على دينه - حتى هلك؛ وقد أدرك الردة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور، المنذر ابن النعمان بن المنذر، أقام الجارود فشهد شهادة الحق ودعا إلى الإسلام، فقال: يأيها الناس؛ إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنهى من لم يشهد.
وقد كان رسول الله بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوي العبدي، فأسلم فحسن إسلامه؛ ثم هلك بعد وفاة رسول الله، وقبل ردة أهل البحرين، والعلاء أمير عنده لرسول الله على البحرين.
قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة
وفيها قدم وفد بني حنيفة؛ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قدم على رسول الله ﷺ وفد بني حنيفة؛ فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب، فكان منزلهم في دار ابنة الحارث؛ امرأة من الأنصار، ثم من بني النجار.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني بعض علمائنا من أهل المدينة، أن بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله ﷺ تستره بالثياب، ورسول الله جالس في أصحابه، ومعه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ وهم يسترونه بالثياب، كلم رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك!
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق؛ عن شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة، قال: كان حديث مسيلمة على غير هذا؛ زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله ﷺ وخلفوا مسيلمة في رحالهم؛ فلما أسلموا ذكروا له مكانه، فقالوا: يا رسول الله؛ إنا قد خلفنا صاحبًا لنا في رحالنا وركابنا يحفظهما لنا. قال: فأمر له رسول الله بمثل ما أمر به للقوم؛ وقال: أما إنه ليس بشركم مكانًا، يحفظ ضيعة أصحابه؛ وذلك الذي يريد رسول الله. قال: ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله؛ فلما انتهى إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه، وقال لوفده: ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني: ((أما إنه ليس بشركم مكانًا))! ما ذلك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت معه؛ ثم جعل يسجع السجعات، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: ((لقد أنعم الله على الحبلي، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق محشى))، ووضع عنهم الصلاة؛ وأحل لهم الخمر والزنا، ونحو ذلك. فشهد لرسول الله ﷺ أنه نبي، فأصفقت بنو حنيفة على ذلك، فالله أعلم أي ذلك كان.
قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة
قال أبو جعفر: وفيها وفد كندة؛ رأسهم الأشعث بن قيس الكندي؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، قال: قدم على رسول الله ﷺ الأشعث ابن قيس في ستين راكبًا من كندة، فدخلوا على رسول الله مسجده، وقد رجلوا جممهم، وتكحلوا، عليهم جبب الحبرة؛ قد كففوها بالحرير؛ فلما دخلوا على رسول الله ﷺ، قال: ألم تسلموا؟ قالوا: بلى، قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟ قال: فشقوه منها فألقوه، ثم قال الأشعث: يا رسول الله؛ نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، فتبسم رسول الله، ثم قال: ناسبوا بهذا النسب العباس ابن عبد المطلب وربيعة بن الحارث. قال: وكان ربيعة والعباس تاجرين؛ فكانا إذا ساحا في أرض العرب فسئى من هما؟ قالا: نحن بنو آكل المرار؛ يتعززان بذلك؛ وذلك أن كندة كانت ملوكًا، فقال رسول الله ﷺ: نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا، ولا ننتفي من أبينا. فقال الأشعث بن قيس: هل عرفتم يا معشر كندة! والله لا أسمع رجلًا قالها بعد اليوم إلا ضربته حده ثمانين.
قال الواقدي: وفيها قدم وفد محارب وفيها قدم وفد الرهاويين.
وفيها قدم وفد العاقب والسيد من نجران، فكتب لهما رسول الله ﷺ كتاب الصلح.
قال: وفيها قدم وفد عبس.
وفيها قدم وفد صدف، وافوا رسول الله ﷺ في حجة الوداع.
قال: وفيها قدم عدي بن حاتم الطائي، في شعبان.
وفيها مات أبو عامر الراهب عند هرقل، فاختلف كنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثة في ميراثه، فقضى به لكنانة بن عبد ياليل. قال: هما من أهل المدر، وأنت من أهل الوبر.
قدوم رفاعة بن زيد الجذامي
قال: وفيها قدم وفد خولان، وهم عشرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، قال: قدم على رسول الله ﷺ في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبيبي؛ فأهدى لرسول الله غلامًا، وأسلم فحسن إسلامه، وكتب له رسول الله إلى قومه كتابًا، في كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد؛ إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم، يدعوهم إلى الله وإلى رسوله؛ فمن أقبل فمن حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين. فلما قدم رفاعة على قومه، أجابوا وأسلموا، ثم ساروا إلى الحره؛ حرة الرجلاء فنزلوها.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن رجال من جذام كانوا بها علماء، أن رفاعة بن زيد، لما قدم من عند رسول الله ﷺ بكتابه يدعوهم إلى الإسلام، فاستجابوا له، لم يلبث أن أقبل دحيه بن خليفة الكلبي من عند قيصر صاحب الروم، حين بعثه رسول الله ومعه تجارة له؛ حتى إذا كان بواد من أوديتها، يقال له: شنار؛ أغار على دحية الهنيد بن عوض وابنه عوص بن الهنيد، الضليعيان - والضليع بطن من جذام - فأصابا كل شيء كان معه؛ فبلغ ذلك نفرًا من بني الضبيب قوم رفاعة ممن كان أسلم وأجاب، فنفروا إلى الهنيد وابنه، فيهم من بني الضبيب النعمان بن أبي جعال، حتى لقوهم، فاقتتلوا، وانتمى يومئذ قرة بن أشقر الضفاري ثم الضليعي، فقال: أنا ابن لبنى؛ ورمى النعمان بن أبي جعال بسهم فأصاب ركبته، فقال حين أصابه: خذها وأنا ابن لبنى - وكانت له أم تدعى لبنى - قال: وقد كان حسان بن ملة الضبيبي قد صحب دحية بن خليفة الكلبي قبل ذلك؛ فعلمه أم الكتاب؛ فاستنقذوا ما كان في يد الهنيد وابنه عوص، فردوه على دحية؛ فسار دحية حتى قدم على رسول الله، فأخبره خبره، واستسقاه دم الهنيد وابنه؛ فبعث إليهم رسول الله زيد بن حارثة - وذلك الذي هاج غزوة زيد جذامًا، وبعث معه جيشًا - وقد وجهت غطفان من جذام كلها ووائل ومن كان من سلامان وسعد بن هذيم حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول الله؛ فنزلوا بالحرة؛ حرة الرجلاء، ورفاعة بن زيد بكراع ربة ولم يعلم، ومعه ناس من بني الضبيب وسائر بني الضبيب بواد من ناحية الحرة مما يسيل مشرقًا، وأقبل جيش زيد بن حارثة من ناحية الأولاج؛ فأغار بالفضافض من قبل الحرة، وجمعوا ما وجدوا من مال وأناس، وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين من بني الأحنف، ورجلًا من بني خصيب؛ فلما سمعت بذلك بنو الضبيب والجيش بفيفاء مدان، ركب حسان بن ملة على فرس لسويد بن زيد يقال لها العجاجة، وأنيف بن ملة على فرس لملة، يقال لها رغال، وأبو زيد بن عمرو على فرس له يقال لها شمر؛ فانطلقوا حتى إذا دنوا من الجيش، قال أبو زيد لأنيف بن ملة: كف عنا وانصرف؛ فإنا نخشى لسانك، فانصرف فوقف عنهما، فلم يبعدا منه؛ فجعل فرسه تبحث بيدها وتوثب؛ فقال: لأنا أضن بالرجلين منك بالفرسين؛ فأرخى لها حتى أدركهما؛ فقالا له: أما إذ فعلت ما فعلت، فكف عنا لسانك ولا تشأمنا اليوم، وتواطئوا ألا يتكلم منهم إلا حسان بن ملة؛ وكانت بينهم كلمة في الجاهلية؛ قد عرفوها؛ بعضهم من بعض؛ إذا أراد أحدهم أن يضرب بسيفه قال: " ثوري ".
فلما برزوا على الجيش أقبل القوم يبتدرونهم؛ فقال حسان: إنا قوم مسلمون؛ وكان أول من لقيهم رجل على فرس أدهم بائع رمحه يقول معرضه: كأنما ركزه على منسج فرسه جد وأعتق؛ فأقبل يسوقهم، فقال أنيف: " ثوري "، فقال حسان: مهلًا! فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال له حسان: إنا قوم مسلمون، فقال له زيد: فاقرأ أم الكتاب، فقرأها حسان، فقال زيد بن حارثة: نادوا في الجيش، إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلا من ختر؛ وإذا أخت لحسان ابن ملة - وهي امرأة أبي وبر بن عدي بن أمية بن الضبيب - في الأساري. فقال له زيد: خذها، فأخذت بحقويه، فقالت أم الفزر الضليعية: أتنطلقون ببناتكم، وتذرون أمهاتكم! فقال أحد بني خصيب: إنها بنو الضبيب! وسحرت ألسنتهم سائر اليوم؛ فسمعها بعض الجيش؛ فأخبر بها زيد بن حارثة؛ فأمر بأخت حسان؛ ففكت يداها من حقويه، فقال لها: اجلسي مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن حكمه؛ فرجعوا؛ ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه، فأمسوا في أهليهم؛ واستعتموا ذودًا لسويد بن زيد؛ فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة بن زيد؛ وكان ممن ركب إلى رفاعة تلك الليلة أبو زيد بن عمرو وأبو شماس بن عمرو، وسويد بن زيد، وبعجة بن زيد، وبرذع بن زيد، وثعلبة بن عمرو، ومخرية بن عدي، وأنيف بن ملة، حسان بن ملة؛ حتى صبحوا رفاعة ابن زيد بكراع ربة بظهر الحرة على بئر هنالك من حرة ليلى، فقال له حسان بن ملة: إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام يجررن أساري قد غرها كتابك الذي جئت به! فدعا رفاعة بن زيد بجمل له؛ فجعل يشكل عليه رحله؛ وهو يقول:
هل أنت حي أو تنادي حيا
ثم غدا وهم معه بأمية بن ضفارة أخي الخصيبي المقتول مبكرين من ظهر الحرة، فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال؛ فلما دخلوا انتهوا إلى المسجد، ونظر إليه رجل من الناس، فقال لهم: لا تنيخوا إبلكم فتقطع أيديهن، فنزلوا عنها وهن قيام؛ فلما دخلوا على رسول الله ﷺ ورآهم، ألاح إليهم بيده: أن تعالوا من وراء الناس؛ فلما استفتح رفاعة بن زيد المنطق قام رجل من الناس، فقال: إن هؤلاء يا نبي الله قوم سحرة؛ فرددها مرتين؛ فقال رفاعة: رحم الله من لم يجزنا في يومنا هذا إلا خيرًا! ثم دفع رفاعة كتابه إلى رسول الله الذي كان كتبه له، فقال: دونك يا رسول الله قديمًا كتابه، حديثًا غدره. فقال رسول الله ﷺ: اقرأ يا غلام وأعلن؛ فلما قرأ كتابهم واستخبرهم فأخبروه الخبر، قال رسول الله: كيف أصنع بالقتلى؟ ثلاث مرات؛ فقال رفاعة: أنت يا رسول الله أعلم، لا نحرم عليك حلالًا، ولا نحل لك حرامًا؛ فقال أبو زيد بن عمرو: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيًا، ومن كان قد قتل فهو تحت قدمي هاتين. فقال رسول الله: صدق أبو زيد، اركب معهم يا علي، فقال علي: يا رسول الله؛ إن زيدًا لن يطيعني، قال: خذ سيفي، فأعطاه سيفه، فقال علي: ليس لي راحلة يا رسول الله أركبها، فحمله رسول الله على جمل لثعلبة بن عمرو، يقال له المكحال؛ فخرجوا، فإذا رسول لزيد بن حارثة على ناقة من إبل أبي وبر، يقال لها الشمر؛ فأنزلوا عنها، فقال: يا علي ما شأني؟ فقال له علي: ما لهم عرفوه فأخذوه. ثم ساروا حتى لقوا الجيش بفيفاء الفحلتين، فأخذوا ما في أيديهم من أموالهم؛ حتى كانوا ينزعون لبد المرأة من تحت الرحل.
وفد بني عامر بن صعصعة
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم على رسول الله ﷺ وفد بني عامر؛ فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر؛ وكان هؤلاء الثلاثة رءوس القوم وشياطينهم.
فقدم عامر بن الطفيل على رسول الله ﷺ وهو يريد الغدر به؛ وقد قال له قومه: يا عامر؛ إن الناس قد أسلموا فأسلم؛ قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي؛ أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأريد: إذا قدمت على الرجل فإني شاغل عنك وجهه؛ فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف؛ فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني؛ قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده، قال: يا محمد خالني، قال: وجعل يكلمه فينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئًا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد، قال: يا محمد خالني، قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له. فلما أبى عليه رسول الله ﷺ قال: أما والله لأملأنها عليك خيلًا حمرًا ورجالًا، فلما ولى قال رسول الله: اللهم اكفنى عامر بن الطفيل، فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد: ويلك يا أربد! أين ما كنت أوصيتك به! والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف على نفسي عندي منك، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدًا. قال: لا تعجل علي لا أبا لك! والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف! قال عامر بن الطفيل:
بعث الرسول بما ترى فكأنما ** عمدًا نسن على المقانب غارا
ولقد وردن بنا المدينة شزبًا ** ولقد قتلن بجوها الأنصارا
وخرجوا راجعين إلى بلادهم؛ حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله؛ وإنه في بيت امرأة من بني سلول؛ فجعل يقول: يا بني عامر؛ أغدة كغدة البكر؛ وموت في بيت امرأة من بني سلول! ثم خرج أصحابه حين واووه؛ حتى قدموا أرض بني عامر؛ فلما قدموا أتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء؛ والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله؛ فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين، معه جمل له يبيعه؛ فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه.
قدوم زيد الخيل في وفد طيئ
وقدم على رسول الله ﷺ وفد طيئ؛ فيهم زيد الخيل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه؛ وعرض عليهم رسول الله الإسلام فأسلموا فحسن إسلامهم، فقال رسول الله ﷺ - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجال من طيئ: (( ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل؛ فإنه لم يبلغ فيه كل ما فيه )). ثم سماه زيد الخير؛ وقطع له فيدًا وأرضين معه؛ وكتب له بذلك. فخرج من عند رسول الله راجعًا إلى قومه، فقال رسول الله: إن ينج زيد من حمى المدينة! سماها رسول الله باسم غير الحمى وغير أم ملدم فلم يثبته - فلما انتهى من بلاد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة أصابته الحمى؛ فمات بها، فلما أحس زيد بالموت قال:
أمر تحل قومي المشارق غدوة ** وأترك في بيت بفردة منجد
ألا رب يوم لو مرضت لعادني ** عوائد من لم يبر منهن يجهد
فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معها من كتبه التي قطع له رسول الله ﷺ فحرقتها بالنار.
كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه
وفي هذه السنة كتب مسيلمة إلى رسول الله ﷺ يدعي أنه أشرك معه في النبوة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق؛ عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان مسيلمة بن حبيب الكذاب كتب إلى رسول الله ﷺ: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك؛ فإني قد أشركت في الأمر معك؛ وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون.
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن شيخ من أشجع قال ابن حميد: أما علي بن مجاهد فيقول: عن أبي مالك الأشجعي، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي، عن أبيه نعيم - قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لهما حين قرآ كتاب مسيلمة: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال؛ فقال: أما والله لولا أم الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما.
ثم كتب إلى مسيلمة: بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قال: وكان ذلك في آخر سنة عشر.
قال أبو جعفر: وقد قيل: إن دعوى مسيلمة ومن ادعى النبوة من الكذابين في عهد النبي ﷺ، إنما كانت بعد انصراف النبي من حجه المسمى حجة الوداع؛ ومرضته التي مرضها التي كانت منها وفاته ﷺ. حدثنا عبيد الله بن سعيد الزهري، قال: حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني سيف بن عمر - وكتب بذلك إلى السري يقول: حدثنا شعيب ابن إبراهيم التميمي، عن سيف بن عمر التميمي الأسيدي - قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع الأنصاري، عن عبيد مولي رسول الله ﷺ عن أبي مويهبة مولي رسول الله، قال: لما انصرف النبي ﷺ إلى المدينة بعد ما قضى حجة التمام، فتحلل به السير، وطارت به الأخبار لتحلل السير بالنبي ﷺ؛ أنه قد اشتكى؛ فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة؛ وجاء الخبر عنهما للنبي ﷺ، ثم وثب طليحة في بلاد بني أسد بعد ما أفاق النبي، ثم اشتكى في المحرم وجعه الذي توفاه الله فيه.
خروج الأمراء والعمال على الصدقات
قال أبو جعفر: وفرق رسول الله ﷺ في جميع البلاد التي دخلها الإسلام عمالًا على الصدقات. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان رسول الله ﷺ قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات، على كل ما أوطأ الإسلام من البلدان؛ فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء؛ فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت على صدقتها، وبعث عدي بن حاتم على الصدقة؛ صدقة طئ وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم، وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين، وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم..
حجة الوداع
فلما دخل ذو القعدة من هذه السنة - أعني سنة عشر - تجهز النبي إلى الحج، فأمر الناس بالجهاز له. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق؛ عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي ﷺ، قالت: خرج النبي ﷺ إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة، لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج؛ حتى إذا كان بسرف، وقد ساق رسول الله معه الهدى وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدى، وحضت ذلك اليوم؛ فدخل علي وأنا أبكي؛ فقال: مالك يا عائشة؟ لعلك نفست! فقلت: نعم، لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر، قال: لا تفعلي؛ لا تقولن ذلك؛ فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج؛ إلا أنك لا تطوفين بالبيت. قالت: ودخل رسول الله ﷺ مكة؛ فحل كل من كان لا هدى معه، وحل نساؤه بعمرة؛ فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير، فطرح في بيتي، قلت: ما هذا؟ قالوا: ذبح رسول الله عن نسائه البقر؛ حتى إذا كانت ليلة الحصبة، بعثني رسول الله مع أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، لأقضي عمرتي من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، قال: بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب إلى نجران، فلقيه بمكة؛ وقد أحرم؛ فدخل علي على فاطمة ابنة رسول الله، فوجدها قد حلت وتهيأت، فقال: مالك يا ابنة رسول الله؟ قالت: أمرنا رسول الله أن نحل بعمرة؛ فأحللنا، قال: ثم أتى رسول الله ﷺ، فلما فرغ من الخبر عن سفره، قال له رسول الله: انطلق فطف بالبيت، وحل كما حل أصحابك، فقال: يا رسول الله، إني قد أهللت بما أهللت به؛ قال: ارجع فاحلل كما حل أصحابك، قال: قلت: يا رسول الله، إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهللت بما أهل به عبدك ورسولك؛ قال: فهل معك من هدى؟ قال: قلت: لا، قال: فأشركه رسول الله ﷺ في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله؛ حتى فرغا من الحج، ونحر رسول الله الهدى عنهما.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، قال: لما أقبل علي بن أبي طالب من اليمن ليلقي رسول الله بمكة تعجل إلى رسول الله، واستخلف على جنده الذين معه رجلًا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل، فكسا رجالًا من القوم حللًا من البز الذي كان مع علي بن أبي طالب؛ فلما دنا جيشه؛ خرج علي ليلقاهم؛ فإذا هم عليهم الحلل، فقال: ويحك ما هذا! قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، فقال: ويلك! انزع من قبل أن تنتهي إلى رسول الله. قال: فانتزع الحلل من الناس، وردها في البز؛ وأظهر الجيش شكاية لما صنع بهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب ابن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد، قال: شكا الناس علي بن أبي طالب، فقام رسول الله فينا خطيبًا، فسمعته يقول: يأيها الناس؛ لا يشكوا عليًا، فو الله إنه لأخشى في ذات الله - أو في سبيل الله - من أن يشكي.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: ثم مضى رسول الله ﷺ على حجه؛ فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم؛ وخطب الناس خطبته التي بين للناس فيها ما بين، فحمد الله وأثنى عليه؛ ثم قال: أيها الناس، اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبدًا. أيها الناس؛ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وحرمة شهركم هذا؛ وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربًا موضوع، ولكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا. وإن ربا العباس بن عبد الطلب موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته بنو هذيل - فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أيها الناس؛ إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدًا؛ ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس: " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله "، ويحرموا ما أحل الله؛ وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض؛ و " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم "، ثلاثة متوالية؛ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس؛ فإن لكم على نسائكم حقًا ولهن عليكم حقًا، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين يفاحشة مبينة؛ فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله؛ فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي؛ فإني قد بلغت وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا؛ كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي فإني قد بلغت، واعقلوه. تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لأمرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس؛ فلا تظلموا أنفسكم. اللهم هل بلغت! قال: فذكر أنهم قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله: اللهم أشهد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله وهو على عرفة، ربيعة بن أمية بن خلف، قال: يقول له رسول الله: قل: أيها الناس؛ إن رسول الله يقول: هل تدرون أي شهر هذا! فيقولون: الشهر الحرام، فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا. ثم قال: قل: إن رسول الله، يقول: أيها الناس؛ فهل تدرون أي بلد هذا؟ قال: فيصرخ به، فيقولون: البلد الحرام، قال: فيقول: قل: إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا. ثم قال: قل: أيها الناس، هل تدرون أي يوم هذا؟ فقال لهم، فقالوا: يوم الحج الأكبر، فقال: قل: إن الله حرم عليكم أموالكم ودماءكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، أن رسول الله حين وقف بعرفة، قال: هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف. ثم لما نحر بالمنحر، قال: هذا المنحر، وكل مني منحر؛ فقضى رسول الله ﷺ الحج وقد أراهم مناسكهم، وعلمهم ما افترض عليهم في حجهم في المواقف ورمى الجمار والطواف بالبيت، وما أحل لهم في حجهم وما حرم عليهم؛ فكانت حجة الوداع وحجة البلاغ؛ وذلك أن رسول الله لم يحج بعدها.
ذكر جملة الغزوات
قال أبو جعفر: وكانت غزواته بنفسه ستًا وعشرين غزوة؛ ويقول بعضهم: هن سبع وعشرون غزوة؛ فمن قال: هي ست وعشرون، جعل غزوة النبي ﷺ خيبر وغزوته من خيبر إلى وادي القرى غزوة واحدة؛ لأنه لم يرجع من خيبر حين فرغ من أمرها إلى منزله؛ ولكنه مضى منها إلى وادي القرى؛ فجعل ذلك غزوة واحدة. ومن قال: هي سبع وعشرون غزوة، جعل غزوة خيبر غزوة، وغزوة وادي القرى غزوة أخرى؛ فيجعل العدد سبعًا وعشرين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كان جميع ما غزا رسول الله ﷺ بنفسه ستًا وعشرين غزوة. أول غزوة غزاها ودان؛ وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل فيها صناديد قريش وأشرافهم، وأسر فيها من أسر، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر؛ ماء لبنى سليم، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم غزوة غطفان إلى نجد؛ وهي غزوة ذي أمر؛ ثم غزوة بحران؛ معدن بالحجاز من فوق الفرع، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثو غزوة بني لحيان من هذيل، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية - لا يريد قتالًا، فصده المشركون - ثم غزوة خيبر؛ ثم اعتمر عمرة القضاء، ثم غزوة الفتح؛ فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك. قاتل منها في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف.
حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حشمة، عن أبيه، عن جده، قال: غزا رسول الله ﷺ ستًا وعشرين غزوة. ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن سلمة.
قال محمد بن عمر: مغازي رسول الله معروفة مجتمع عليها، ليس فيها اختلاف بين أحد في عددها؛ وهي سبع وعشرون غزوة؛ وإنما اختلفوا بينهم في تقديم مغزاة قبل مغزاة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني محمد بن عمر، قال: حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن محمد بن ثابت الأنصاري، قال: سئل ابن عمر: كم غزا رسول الله ﷺ؟ قال: سبعا وعشرين غزوة، فقيل لابن عمر: كم غزوت معه؟ قال: إحدى وعشرين غزوة؛ أولها الخندق، وفاتني ست غزوات، وقد كنت حريصًا، قد عرضت على النبي ﷺ؛ كل ذلك يردني فلا يجيزني حتى أجازني في الخندق.
قال الواقدي: قاتل رسول الله ﷺ في إحدى عشرة، ذكر من ذلك التسع التي ذكرتها عن ابن إسحاق؛ وعد معها غزوة وادي القرى، وأنه قاتل فيها فقتل غلامه مدعم، رمى بسهم. قال: وقاتل يوم الغابة، فقتل من المشركين، وقتل محرز بن نضلة يؤمئذ.
ذكر جملة السرايا والبعوث
واختلف في عدد سراياه ﷺ، حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كانت سرايا رسول الله ﷺ وبعوثه - فيما بين أن قدم المدينة وبين أن قبضه الله - خمسًا وثلاثين بعثًا وسرية: سرية عبيدة بن الحارث إلى أحياء من ثنية المرة، وهو ماء بالحجاز، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية العيص - وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة - وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز، وغزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة زيد ابن حارثة القردة؛ ماء من مياه نجد، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع، وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة، وغزوة أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث - الكديد، وأصاب بلملوح، وغزوة علي بن أبي طالب إلى بني عبد الله بن سعد من أهل فدك، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمى أرض بني سليم؛ أصيب بها هو وأصحابه جميعًا، وغزوة عكاشة بن محصن الغمرة، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطنًا؛ ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد قتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة محمد بن مسلمة؛ أخي بني الحارث إلى القرطاء من هوازن، وغزوة بشير بن سعد إلى بني مرة بفدك، وغزوة بشير بن سعد أيضًا إلى يمن وجناب؛ بلد من أرض خيبر - وقيل يمن وجبار؛ أرض من أرض خيبر، وغزوة زيد بن حارثة الجموم؛ من أرض بني سليم، وغزوة زيد بن حارثة أيضًا جذام من أرض حسمي - وقد مضى ذكر خبرها قبل - وغزوة زيد بن حارثة أيضًا وادي القرى، لقي بني فزارة.
وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين: إحداهما التي أصاب الله فيها يسير بن رزام - وكان من حديث يسير بن رزام اليهودي أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله ﷺ، فبعث إليه رسول الله عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه؛ منهم عبد الله بن أنيس حليف بني سلمة، فلما قدموا عليه كلموه وواعدوه وقربوا له، وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله استعملك وأكرمك؛ فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود؛ فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره وردفه حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر على ستة أميال ندم يسير بن رزام على سيره إلى رسول الله، ففطن له عبد الله ابن أنيس وهو يريد السيف؛ فاقتحم به؛ ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه يسير بمخرش في يده من شوحط، فأمه في رأسه، وقتل الله يسيرا؛ ومال كل رجل من أصحاب رسول الله ﷺ على صاحبه من يهود فقتله إلا رجلًا واحدًا أفلت على راحلته؛ فلما قدم عبد الله ابن أنيس على رسول الله ﷺ تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه.
وغزوة عبد الله بن عتيك إلى خيبر؛ فأصاب بها أبا رافع؛ وقد كان رسول الله ﷺ بعث محمد بن مسلمة وأصحابه - فيما بين بدر وأحد - إلى كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث رسول الله ﷺ عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي - وهو بنخلة أو بعرنة - يجمع لرسول الله ليغزوة، فقتله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن أنيس، قال: دعاني رسول الله ﷺ، فقال: إنه بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني - وهو بنخلة أو بعرنة - فأته فاقتله، قال: قلت: يا رسول الله؛ انعته لي حتى أعرفه، قال: إذا رأيته أذكرك الشيطان! إنه آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة. قال: فخرجت متوشحًا سيفي حتى دفعت إليه وهو في ظعن يرتاد لهن منزلًا حيث كان وقت العصر؛ فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله ﷺ من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن تكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه، أومي برأسي إيماء؛ فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل؛ فجاءك لذلك، قال: أجل، أنا في ذلك؛ فمشيت معه شيئًا حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته؛ ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه. فلما قدمت على رسول الله وسلمت عليه ورآني، قال: أفلح الوجه! قال: قلت: قد قتلته. قال: صدقت! ثم قام رسول الله فدخل بيته، فأعطاني عصا، فقال: أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس. قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا؟ قلت: أعطانيها رسول الله، وأمرني أن أمسكها عندي، قالوا: أفلا ترجع إلى رسول الله فتسأله لم ذلك؟ فرجعت إلى رسول الله، فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: آية ما بيني وبينك يوم القيامة؛ إن أقل الناس المتخصرون يومئذ؛ فقرنها عبد الله بسيفه، فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا.
ثم رجع الحديث إلى حديث عبد الله بن أبي بكر. قال: وغزوة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام، وغزوة كعب بن عمير الغفاري بذات أطلاح من أرض الشأم، فأصيب بها هو وأصحابه، وغزوة عيينة بن حصن بني العنبر من بني تميم؛ وكان من حديثهم أن رسول الله ﷺ بعثه إليهم؛ فأغار عليهم؛ فأصاب منهم ناسًا، وسبى منهم سبيًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن عائشة قالت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله؛ إن علي رقبة من بني إسماعيل، قال: هذا سبى بني العنبر يقدم الآن فنعطيك إنسانًا فتعتقينه. قال ابن إسحاق: فلما قدم سبيهم على رسول الله ﷺ ركب فيهم وفد من بني تميم، حتى قدموا على رسول الله ﷺ؛ منهم ربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز، وقيس بن عاصم، ومالك بن عمرو، والأقرع بن حابس، وحنظلة بن درام، وفراس بن حابس. وكان ممن سبى من نسائهم يومئذ أسماء بنت مالك، وكأس بنت أرى، ونجوة بنت نهد وجميعة بنت قيس، وعمرة بنت مطر.
ثم رجع إلى حديث عبد الله بن أبي بكر. قال: وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي - كلب ليث - أرض بني مرة؛ فأصاب بها مرداس بن نهيك؛ حليفًا لهم من الحرقة من جهينة، قتله أسامة بن زيد ورجل من الأنصار، وهو الذي قال فيه النبي ﷺ لأسامة: من لك بلا إله إلا الله! وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل، وغزوة ابن أبي حدرد وأصحابه إلى بطن إضم، وغزوة ابن أبي حدرد الأسلمى إلى الغابة، وغزوة عبد الرحمن ابن عوف.
وبعث سرية إلى سيف البحر، وعليهم أبو عبيدة بن الجراح؛ وهي غزوة الخبط.
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد ابن عمر: كانت سرايا رسول الله ﷺ ثمانيًا وأربعين سرية.
قال الواقدي: في هذه السنة قدم جرير بن عبد الله البجلي على رسول الله ﷺ مسلمًا في رمضان، فبعثه رسول الله إلى ذي الخلصة فهدمها.
قال: وفيها قدم وبر بن يحنس على الأنباء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام فنزل على بنات النعمان بن بزرج فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، وإلى مركبود وعطاء ابنه، ووهب بن منبه، وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه.
قال: وفيها أسلم باذان، وبعث إلى النبي ﷺ بإسلامه.
قال أبو جعفر: وقد خالف في ذلك عبد الله بن أبي بكر من قال: كانت مغازي رسول الله ﷺ ستًا وعشرين غزوة، من أنا ذاكره: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا زهير؛ عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: سمعت منه أن رسول الله غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة، لم يحج غير حجة الوداع. وذكر ابن إسحاق حجة بمكة.
قال أبو إسحاق: فسألت زيد بن أرقم: كم غزوت مع رسول الله؟ قال: سبع عشرة.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق؛ أن عبد الله بن يزيد الأنصاري خرج يستسقي بالناس، قال: فصلى ركعتين ثم استسقى. قال: فلقيت يومئذ زيد بن أرقم، قال: ليس بيني وبينه غير رجل - أو بيني وبينه رجل - قال: فقلت: كم غزا رسول الله ﷺ؟ قال: تسع عشرة غزوة، فقلت: كم غزوت معه؟ قال: سبع عشرة غزوة، فقلت: فما أول غزوة غزا؟ قال: ذات العسير - أو العشير.
وزعم الواقدي أن هذا عندهم خطأ؛ حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: قلت لزيد بن أرقم: كم غزوت مع رسول الله ﷺ؟ قال: سبع عشرة غزوة، قلت: كم غزا رسول الله ﷺ؟ قال: تسع عشرة غزوة. قال الحارث: قال ابن سعد: قال الواقدي: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن جعفر، فقال: هذا إسناد أهل العراق؛ يقولون هكذا؛ وأول غزوة غزاها زيد بن الأرقم المريسيع؛ وهو غلام صغير، وشهد مؤتة رديف عبد الله بن رواحة؛ وما غزا مع النبي ﷺ إلا ثلاث غزوات أو أربعا.
وروى عن مكحول في ذلك ما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا ابن عمر، قال: حدجثني سويد بن عبد العزيز، عن النعمان بن المنذر، عن مكحول، قال: غزا رسول الله ﷺ ثماني عشرة غزوة؛ قاتل من ذلك في ثمان غزوات أولهن بدر وأحد والأحزاب وقريظة.
قال الواقدي: فهذان الحديثان: حديث زيد بن الأرقم وحديث مكحول جميعًا غلط.
ذكر الخبر عن حج رسول الله ﷺ
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: حدثنا زيد بن الحارث، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن النبي ﷺ حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر، معها عمرة.
حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: اعتمر رسول الله ﷺ عمرتين قبل أن يحج، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: اعتمر رسول الله أربع عمر؛ قد علم ذلك عبد الله بن عمر، منهن عمرة مع حجته.
حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، قال: حدثنا أبو حمزة، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، قال: سمعت ابن عمر يقول: اعتمر رسول الله ﷺ ثلاث عمر. فبلغ عائشة، فقالت: لقد علم ابن عمر أنه اعتمر أربع عمر، منها عمرته التي قرن معها الحجة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد؛ فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة، فقلنا: كم اعتمر النبي ﷺ؟ فقال: أربعًا؛ إحداهن في رجب، فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه، فسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال عروة بن الزبير: يا أمه، يا أم المؤمنين، أما تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن! فقالت: وما يقول؟ قال: يقول: إن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر: إحداهن في رجب، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! ما اعتمر النبي عمرة إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب.
ذكر الخبر عن أزواج رسول الله ﷺ
ومن منهن عاش بعده ومن منهن فارقه في حياته والسبب الذي فارقه من أجله ومن منهن مات قبله
فحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: أخبرني أبي أن رسول الله ﷺ تزوج خمس عشرة امرأة؛ دخل بثلاث عشرة، وجمع بين إحدى عشرة، وتوفي عن تسع.
تزوج في الجاهلية؛ وهو ابن بضع وعشرين سنة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي؛ وهي أول من تزوج، وكانت قبله عند عتيق بن عابد ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم؛ وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن معيص بن لؤي. فولدت لعتيق جارية، ثم توفي عنها وخلف عليها أبو هالة بن زرارة بن نباش بن زرارة بن حبيب بن سلامة بن غذي بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم؛ وهو في بني عبد الدار بن قصى. فولدت لأبي هالة هند بن أبي هالة؛ ثم توفي عنها فخلف عليها رسول الله، وعندها ابن أبي هالة هند، فولدت لرسول الله ثمانية: القاسم، والطيب، والطاهر، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
قال أبو جعفر: ولم يتزوج رسول الله ﷺ في حياتها على خديجة حتى مضت لسبيلها؛ فلما توفيت خديجة تزوج رسول الله بعدها؛ فاختلف فيمن بدأ بنكاحها منهن بعد خديجة، فقال بعضهم: كانت التي بدأ بنكاحها بعد خديجة قبل غيرها عائشة بنت أبي بكر الصديق. وقال بعضهم: بل كانت سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر. فأما عائشة فكانت يوم تزوجها صغيرة لا تصلح للجماع؛ وأما سودة فإنها كانت امرأة ثيبًا، قد كان لها قبل النبي ﷺ زوج؛ وكان زوجها قبل النبي السكران بن عمرو بن عبد شمس، وكان السكران من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها؛ فخلف عليها رسول الله ﷺ وهو بمكة.
قال أبو جعفر: ولا خلاف بين جميع أهل العلم بسيرة رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ بنى بسودة قبل عائشة.
ذكر السبب الذي كان في خطبة رسول الله ﷺ عائشة وسودة والرواية الواردة بأولاهما كان عقد عليها رسول الله عقدة النكاح
حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عائشة، قالت: لما توفيت خديجة، قالت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص، امرأة عثمان بن مظعون وذلك بمكة: أي رسول الله، ألا تزوج؟ فقال: ومن؟ فقالت: إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا، قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة بن قيس، قد آمنت بك واتبعتك على ما أنت عليه. قال: فاذهبي فاذكريهما على. فجاءت فدخلت بيت أبي بكر، فوجدت أم رومان؛ أم عائشة، فقالت: أى أم رومان؟ ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة، قالت: وددت! انتظري أبا بكر، فإنه آت، فجاء أبو بكر، فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة! أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه! فرجعت إلى رسول الله ﷺ، فقالت له ذلك، فقال: ارجعي إليه، فقولي له: أنت أخي في الإسلام، وأنا أخوك، وابنتك تصلح لي؟ فأتت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: انتظريني حتى أرجع، فقالت أم رومان: إن المطعم بن عدي كان ذكرها على ابنه، ولا والله ما وعد شيئًا قط فأخلف. فدخل أبو بكر على مطعم، وعنده امرأته أم ابنه الذي كان ذكرها عليه، فقالت العجوز: يا بن أبي قحافة، لعلنا إن زوجنا ابننا ابنتك أن تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه! فأقبل على زوجها المطعم، فقال: ما تقول هذه؟ فقال: إنها تقول ذاك. قال: فخرج أبو بكر، وقد أذهب الله العدة التي كانت في نفسه من عدته التي وعدها إياه، وقال لخولة: ادعي لي رسول الله، فدعته فجاء فأنكحه؛ وهي يومئذ ابنة ست سنين. قالت: ثم خرجت فدخلت على سودة فقلت: أي سودة، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله يخطبك عليه، قالت: فقالت: وددت! ادخلي علي أبي فاذكري له ذلك، قالت: وهو شيخ كبير قد تخلف عن الحج، فدخلت عليه، فحييته بتحية أهل الجاهلية، ثم قلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلني أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم؛ فماذا تقول صاحبته؟ قالت: تحب ذلك، قال: ادعيها إلى، فدعيت له، فقال: أي سودة، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوجكه؟ قالت: نعم، قال: فادعيه لي، فدعته، فجاء فزوجه، فجاء أخوها من الحج؛ عبد بن زمعة، فجعل يحثى في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول الله سودة بنت زمعة؟ قال: قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فنزل أبو بكر السنح في بني الحارث بن الخزرج، قالت: فجاء رسول الله فدخل بيتنا، فاجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا في أرجوحة بين عذقين يرجح بي، فأنزلتني ثم وفت جميمة كانت لي، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني، حتى إذا كنت عند الباب وقفت بي حتى ذهب بعض نفسي، ثم أدخلت ورسول الله جالس على سرير في بيتنا. قالت: فأجلستني في حجره، فقالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك؟ ووثب القوم والنساء، فخرجوا، فبنى بي رسول الله في بيتي، ما نحرت جزور ولا ذبحت على شاة، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله ﷺ.
حدثنا علي بن نصر، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث - وحدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: حدثني أبي - قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبد الملك ابن مروان: إنك كتبت إلى في خديجة بنت خويلد تسألني: متى توفيت؟ وإنها توفيت قبل مخرج رسول الله ﷺ من مكة بثلاث سنين أو قريبًا من ذلك، ونكح عائشة متوفي خديجة، كان رسول الله رأى عائشة مرتين، يقال له: هذه امرأتك، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين.
ثم إن رسول الله ﷺ بنى بعائشة بعد ما قدم المدينة وهي يوم بني بها ابنة تسع سنين.
رجع الخبر إلى خبر هشام بن محمد. ثم تزوج رسول الله ﷺ عائشة بنت أبي بكر - واسمه عتيق بن أبي قحافة، وهو عثمان - ويقال عبد الرخمن بن عثمان - بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، تزوجها قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي ابنة سبع سنين؛ وجمع إليها بعد أن هاجر إلى المدينة وهي ابنة تسع سنين في شوال؛ فتوفي عنها وهي ابنة ثمان عشرة، ولم يتزوج رسول الله ﷺ بكرًا غيرها، ثم تزوج رسول الله حروف حفصة بنت عمر بن الخطاب ابن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبد الله بن قرط بن كعب - وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي ابن سعد بن سهم. وكان بدريًا، شهد بدرًا مع رسول الله ﷺ - فلم تلد له شيئًا، ولم يشهد من بني سهم بدرًا غيره.
ثم تزوج رسول الله ﷺ أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم؛ وكانت قبله عند أبي سلمة ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم؛ وشهد بدرًا مع رسول الله ﷺ، وكان فارس القوم، فأصابته جراحة يوم أحد فمات منها؛ وكان ابن عمة رسول الله ورضيعه، وأمه برة بنت عبد المطلب ولدت له عمر، وسلمة، وزينب، ودرة؛ فلما مات كبر رسول الله ﷺ على أبي سلمة تسع تكبيرات، فلما قيل: يا رسول الله، أسهوت أم نسيت؟ قال: لم أسه ولم أنس؛ ولو كبرت على أبي سلمة ألفًا كان أهلًا لذلك؛ ودعا النبي ﷺ لأبي سلمة بخلفه في أهله. فتزوجها رسول الله ﷺ قبل الأحزاب سنة ثلاث، وزوج سلمة بن أبي سلمة ابنة حمزة بن عبد المطلب.
ثم تزوج رسول الله ﷺ عام المريسيع جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار بن حبيب بن مالك بن جذيمة - وهو المصطلق بن سعد بن عمرو - سنة خمس، وكانت قبله عند مالك بن صفوان ذي الشفر بن أبي سرح بن مالك بن المصطلق؛ لم تلد له شيئًا؛ فكانت صفية رسول الله ﷺ يوم المريسيع، فأعتقها وتزوجها، وسألت رسول الله ﷺ عتق ما في يده من قومها، فأعتقهم لها.
ثم تزوج رسول الله ﷺ أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب؛ وكانت عند عبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد - وكانت من مهاجرات الحبشة هي وزوجها، فتنصر زوجها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية، فبعث رسول الله ﷺ إلى النجاشي فيها، فقال النجاشي لأصحابه: من أولاكم بها؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص، قال: فزوجها من نبيكم، ففعل وأمهرها أربعمائة دينار. ويقال: بل خطبها رسول الله ﷺ إلى عثمان بن عفان، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها، فساق عنه النجاشي، وبعث بها إلى رسول الله ﷺ.
ثم تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش بن رئاب ابن يعمر بن صبرة؛ وكانت قبله عند زيد بن حارثة بن شراحيل مولى رسول الله ﷺ، فلم تلد له شيئًا، وفيها أنزل الله عز وجل: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك " إلى آخر الآية فزوجها الله عز وجل إياه، وبعث في ذلك جبريل؛ وكانت تفخر على نساء النبي ﷺ، وتقول: أنا أكرمكن وليًا، وأكرمكن سفيرًا.
ثم تزوج رسول الله ﷺ صفية بنت حيى بن أخطب بن سعية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير؛ وكانت قبله تحت سلام بن مشكم بن الحكم بن حارثة بن الخزرج بن كعب بن الخزرج؛ وتوفي عنها وخلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فقتله محمد بن مسلمة بأمر النبي ﷺ، ضرب عنقه صبرًا، فلما تصفح النبي ﷺ السبي يوم خيبر، ألقى رداءه على صفية، فكانت صفيه يوم خيبر؛ ثم عرض عليها الإسلام فأسلمت فأعتقها؛ وذلك سنة ست.
ثم تزوج رسول الله ﷺ ميمونة بنت الحارث بن حزن ابن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال؛ وكانت قبله عند عمير ابن عمرو، من بني عقدة بن غيرة بن عوف بن قسى - وهو ثقيف - لم تلد له شيئًا، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس بن عبد المطلب، فتزوجها رسول الله ﷺ بسرف في عمرة القضاء؛ زوجها إياه العباس ابن عبد المطلب؛ فتزوجها رسول الله.
وكل هؤلاء اللواتي ذكرنا أن رسول الله ﷺ تزوجهن إلى هذا الموضع، توفي رسول الله وهن أحياء، غير خديجة بنت خويلد.
ثم تزوج رسول الله ﷺ امرأة من بني كلاب بن ربيعة؛ يقال لها النشاة بنت رفاعة، وكانوا حلفاء لبني رفاعة من قريظة. وقد اختلف فيها، وكان بعضهم يسمى هذه سنا وينسبها، فيقول: سنا بنت أسماء بن الصلت السلمية. وقال بعضهم: هي سبا بنت أسماء بن الصلت من بني حرام من بني سليم. وقالوا: توفيت قبل أن يدخل بها رسول الله ﷺ، ونسبها بعضهم فقال: هي سنا بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سمال بن عوف السلمي.
ثم تزوج رسول الله ﷺ الشنباء بنت عمرو الغفارية. وكانوا أيضًا حلفاء لبني قريظة، وبعضهم يزعم أنها قرظية، وقد جهل نسبها لهلاك بني قريظة، وقيل أيضًا إنها كنانية، فعركت حين دخلت عليه؛ ومات إبراهيم قبل أن تطهر، فقالت: لو كان نبيًا ما مات أحب الناس إليه؛ فسرحها رسول الله ﷺ.
ثم تزوج رسول الله ﷺ غزية بنت جابر من بني أبي بكر بن كلاب، بلغ رسول الله عنها جمال وبسطة، فبعث أبا أسيد الأنصاري، ثم الساعدي، فخطبها عليه، فلما قدمت على النبي ﷺ - وكانت حديثة عهد بالكفر - فقالت: إني لم أستأمر في نفسي، إني أعوذ بالله منك؟! فقال النبي ﷺ: امتنع عائذ الله. وردها إلى أهلها؛ ويقال: إنها من كندة.
ثم تزوج رسول الله ﷺ أسماء بنت النعمان بن الأسود ابن شراحيل بن الجون بن حجر بن معاوية الكندي، فلما دخل بها وجد بها بياضًا فمتعها وجهزها وردها إلى أهلها؛ ويقال: بل كان النعمان بعث بها إلى رسول الله فسرحته، فلما دخلت عليه استعاذت منه أيضًا، فبعث إلى أبيها، فقال له: أليست ابنتك؟ قال: بلى، قال لها: ألست ابنته؟ قالت: بلى، قال النعمان: عليكها يا رسول الله، فإنها وإنها.. وأطنب في الثناء فقال: إنها لم تيجع قط، ففعل بها ما فعل بالعامرية، فلا يدري: ألقو لها أم لقول أبيها: " إنها لم تيجع قط ".
وأفاء الله عز وجل على رسوله ريحانة بنت زيد، من بنت قريظة.
وأهدى لرسول الله ﷺ مارية القبطية، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، فولدت له إبراهيم بن رسول الله.
فهؤلاء أزواج رسول الله ﷺ، منهن ست قرشيات.
قال أبو جعفر: وممن لم يذكر هشام في خبره هذا ممن روى عن رسول الله ﷺ أنه تزوجه من النساء: زينب بنت خزيمة - وهي التي يقال لها أم المساكين - من بني عامر بن صعصعة، وهي زينب بنت خزيمة بن الحارث ابن عبد الله ابن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، وكانت قبل رسول الله عند الطفيل بن الحارث بن المطلب، أخي عبيدة بن الحارث، توفيت عند رسول الله ﷺ بالمدينة.
وقيل إنه لم يمت عند رسول الله في حياته من أزواجه غيرها وغير خديجة وشراف بنت خليفة، أخت دحية بن خليفة الكلبي، والعالية بنت ظبيان.
حدثني ابن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا شعيب بن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: تزوج رسول اله ﷺ العالية؛ امرأة من بني أبي بكر كلاب فمتعها، ثم فارقها، وقتيلة بنت قيس ابن معد يكرب أخت الأشعث بن قيس، فتوفي عنها قبل أن يدخل بها، فارتدت عن الإسلام مع أخيها، وفاطمة بنت شريح.
وذكر عن ابن الكلبي أنه قال: غزية بنت جابر، هي أم شريك، تزوجها رسول الله ﷺ بعد زوج كان لها قبله؛ وكان لها منه ابن يقال له شريك، فكنيت به، فلما دخل بها النبي ﷺ وجدها مسنة، فطلقها، وكانت قد أسلمت؛ وكانت تدخل على نساء قريش فتدعوهن إلى الإسلام.
وقيل: إنه تزوج خولة بنت الهذيل بن هبيرة بن قبيصة بن الحارث؛ زوى ذلك عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
وبهذا الإسناد أن ليلى بنت الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر ابن الحارث بن الخزرج، أقبلت إلى النبي ﷺ وهو مول ظهره الشمس، فضربت على منكبه، فقال: من هذه؟ قالت: أنا ابنة مبارى الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك أعرض عليك نفسي فتزوجني، قال: قد فعلت، فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوجني رسول الله، فقالوا: بئسما صنعت! أنت امرأة غيرى؛ والنبي صاحب نساء، استقيليه نفسك، فرجعت إلى النبي ﷺ، فقالت: أفلني، قال: قد أقلتك.
وبغير هذا الإسناد أن النبي ﷺ تزوج عمرة بنت يزيد، امرأة من بني رؤاس بن كلاب.
ذكر من خطب النبي ﷺ من النساء ثم لم ينكحهن
منهن أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها هند، خطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يتزوجها؛ لأنها ذكرت أنها ذات ولد.
وخطب ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر صعصعة إلى ابنها سلمة بن هشام بن المغيرة، فقال: حتى أستأمرها، فأتاها فقال: إن النبي ﷺ خطبك، فقالت: ما قلت له؟ قال: قلت له حتى أستأمرها! قالت: وفي النبي يستأمر! ارجع فزوجه؛ فرجع فسكت عنه النبي ﷺ، وذلك أنه أخبر أنها قد كبرت.
وخطب - فيما ذكر - صفية بنت بشامة أخت الأعور العنبري، وكان أصابها سباء، فخيرها، فقال: إن شئت أنا وإن شئت زوجك، قالت: بل زوجي؛ فأرسلها.
وخطب أم حبيب بنت العباس بن عبد المطلب، فوجد العباس أخاه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة.
وخطب جمرة بنت الحارث بن أبي حارثة، فقال أبوها - فيما ذكر: بها شيء، ولم يكن بها شيء، فرجع فوجدها قد برصت.
ذكر سراري رسول الله ﷺ
وهي مارية بنت شمعون القبطية، وريحانة بنت زيد القرظية. وقيل: هي من بني النضير. وقد مضى ذكر أخبارهما قبل.
ذكر موالي رسول الله ﷺ
فمنهم زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد، وقد ذكرنا خبره فيما مضى.
وثوبان - مولي رسول الله، فأعتقه، ولم يزل معه حتى قبض، ثم نزل حمص وله بها دار وقف؛ ذكر أنه توفي سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية. وقال بعضهم: بل كان سكن الرملة، ولا عقب له.
وشقران - وكان من الحبشة، اسمه صالح بن عدي؛ اختلف في أمره. قد ذكر عن عبد الله بن داود الخريبي أنه قال: شقران ورثه رسول الله ﷺ عن أبيه. وقال بعضهم: شقران من الفرس، ونسبه فقال: هو صالح بن حول ابن مهر بود.
نسب شقران مولى رسول الله ﷺ في قول من نسبه إلى عجم الفرس. زعم أنه صالح بن حول بن مهر بوذ بن آذر جشنس بن مهربان بن فيران بن رستم بن فيروز بن ماي بن بهرام بن رشتهري، وزعم أنهم كانوا من دهاقين الري.
وذكر عن مصعب الزبيري أنه قال: كان شقران لعبد الرحمن بن عوف. فوهبه للنبي ﷺ وأنه أعقب؛ وأن آخرهم مؤبا، رجل كان بالمدينة من ولده، كان له بالبصرة بقية.
ورويفع - وهو أبو رافع مولي رسول الله ﷺ، اسمه أسلم. وقال بعضهم: اسمه إبراهيم. واختلفوا في أمره؛ فقال بعضهم: كان للعباس بن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله ﷺ، فأعتقه رسول الله. وقال بعضهم: كان أبو رافع لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر فورثه بنوه، فأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم منه، وقتلوا يوم بدر جميعًا؛ وشهد أبو رافع معهم بدرًا، ووهب خالد بن سعيد نصيبه منه لرسول الله ﷺ فأعتقه رسول الله.
وابنه البهي - اسمه رافع.
وأخو البهى عبيدة الله بن أبي رافع - وكان يكتب لعلي بن أبي طالب، فلما ولى عمرو بن سعيد المدينة دعا البهى، فقال: من مولاك؟ فقال: رسول الله، فضربه مائة سوط، وقال: مولى من أنت! قال: مولى رسول الله، فضربه مائة سوط؛ فلم يزل يفعل به ذلك كلما سأله: مولى من أنت؟ قال: مولى رسول الله؛ حتى ضربه خمسمائة سوط، ثم قال: مولى من أنت؟ قال: مولاكم، فلما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد قال البهى بن أبي رافع:
صحت ولا شلت وضرت عدوها ** يمين هراقت مهجة ابن سعيد
هو ابن العاصي مرارًا وينتمي ** إلى أسرة طابت له وجدود
وسلمان الفارسي - وكنيته أبو عبد الله من أهل قرية أصبهان؛ ويقال: إنه من قرية رامهرمز؛ فأصابه أسر من بعض كلب، فبيع من بعض اليهود بناحية وادي القرى؛ فكاتب اليهودى، فأعانه رسول الله ﷺ والمسلمون حتى عتق. وقال بعض نسابة الفرس: سلمان من كورس أبور، واسمه مابه بن بوذخشان بن ده ديره.
وسفينة - مواى رسول الله ﷺ، وكان لأم سلمة فأعتقته؛ واشترطت عليه خدمة رسول الله ﷺ حياته، قيل: إنه أسود؛ واختلف في اسمه، فقال بعضهم: اسمه مهران، وقال بعضهم: اسمه رباح، وقال بعضهم: هو من عجم الفرس؛ واسمه سبيه بن مارقيه، وأنسة. يكني أبا مسرح، وقيل: أبا مسروح. كان من مولدي السراة؛ وكان يأذن على رسول الله ﷺ إذا جلس، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله ﷺ. وقال بعضهم: أصله من عجم الفرس؛ كانت أمه حبشية وأبوه فارسيًا. قال: واسم أبيه بالفارسية كردوى ابن أشرنيده بن أدوهر بن مهرادر بن كحنكان من بني مهجوار بن يوماست.
وأبو كبشة - واسمه سليم، قيل إنه كان من مولدي مكة، وقيل: من مولدي أرض دوس، اتباعه رسول اله ﷺ فأعتقه، فشهد مع رسول الله بدرًا وأحدًا والمشاهد. توفي في أول يوم استخلف فيه عمر بن الخطاب، سنة ثلاث عشرة من الهجرة.
وأبو مويهبة - قيل: إنه كان من مولدي مزينة، فاشتراه رسول الله ﷺ فأعتقه.
ورباح الأسود - كان يأذن لرسول الله ﷺ.
وفضالة - مولى رسول الله ﷺ نزل - فما ذكر - الشأم.
ومدعم - مولى رسول الله ﷺ، كان عبدًا لرفاعة ابن زيد الجذامي، فوهبه لرسول الله، فقتل بوادي القرى، يوم نزل بهم رسول الله، أتاه سهم غرب فقتله.
وأبو ضميرة - كان بعض نسابة الفرس زعم أنه من عجم الفرس، من ولد كشتاسب الملك، وأن اسمه واح بن شيرز بن بيرويس بن تاريشمه ابن ماهوش بن باكمهير.. وذكر بعضهم أنه كان ممن صار في قسم رسول الله في بعض وقائعه، فأعتقه، وكتب له كتابًا بالوصية؛ وهو جد حسين بن عبد الله بن أبي ضميرة، وأن ذلك الكتاب في أيدي ولد ولده وأهل بيته، وأن حسين بن عبد الله هذا قدم على المهدي ومعه ذلك الكتاب، فأخذه المهدي فوضعه على عينيه، ووصله بثلثمائة دينار.
ويسار - وكان فيما ذكر نوبيًا؛ كان فيما وقع في سهم رسول الله ﷺ في بعض غزواته فأعتقه؛ وهو الذي قتله العرنيون الذين أغاروا على لقاح رسول الله.
ومهران - حدث عن رسول الله ﷺ.
وكان له خصى يقال له مابور - كان المقوقس أهداه إليه مع الجاريتين اللتين يقال لإحداهما مارية، وهي التي تسرى بها والأخرى سيرين وهي التي وهبها رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت، لما كان من جناية صفوان بن المعطل عليه، فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن بن حسان. وكان المقوقس بعث بهذا الخصى مع الجاريتين اللتين أهداهما لرسول الله ﷺ ليوصلهما إليه، ويحفظهما من الطريق حتى تصلا إليه. وقيل: إنه الذي قذفت مارية به، فبعث رسول الله ﷺ عليًا وأمره بقتله، فلما رأى عليًا وما يريد به تكشف حتى تبين لعلى أنه أجب لا شيء معه مما يكون مع الرجال، فكف عنه علي. وخرج إليه من الطائف - وهو محاصر أهلها - أعبد لهم أربعة، فأعتقهم ﷺ، منهم أبو بكرة.
ذكر من كان يكتب لرسول الله ﷺ
ذكر أن عثمان بن عفان كان يكتب له أحيانًا، وأحيانًا علي بن أبي طالب، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي.
قيل: أول من كتب له أبي بن كعب؛ وكان إذا غاب أبي كتب له زيد بن ثابت.
وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد عن الإسلام، ثم راجع الإسلام يوم فتح مكة.
وكتب له معاوية بن أبي سفيان، وحنظلة الأسيدي.
أسماء خيل رسول الله ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: أول فرس ملكه رسول الله ﷺ فرس اتباعه بالمدينة من رجل من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه رسول الله السكب؛ وكان أول ما غزا عليه أحد، ليس مع المسلمين يومئذ فرس غيره، وفرس لأبي بردة بن نيار، يقال له ملاوح.
حدثني الحارث، قال: أخبرنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: سألت محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن المرتجز، فقال: هو الفرس الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت؛ وكان الأعرابي من بني مرة.
حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا أبي بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: كان لرسول الله ﷺ ثلاثة أفراس: لزاز، والظرب، واللخيف؛ فأما لزاز فأهداه له المقوقس، وأما اللخيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء؛ فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الظرب فأهداه له فروة ابن عمرو الجذامي. وأهدى تميم الدارى لرسول الله فرسًا يقال له: الورد، فأعطاه عمر؛ فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده ينباع.
وقد زعم بعضهم أنه كان له مع ما ذكرت من الخيل فرس يقال له اليعسوب.
ذكر أسماء بغال رسول الله ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كانت دلدل بغلة النبي ﷺ أول بغلة رئيت في الأسلام، أهداها له المقوقس وأهدى له معها حمارًا يقال له عفير؛ فكانت البغلة قد بقيت حتى كان زمن معاوية.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: دلدل أهداها له فروة بن عمرو الجذامي.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن زامل بن عمرو، قال: أهدى فروة بن عمرو إلى النبي ﷺ بغلة يقال لها فضة؛ فوهبها لأبي بكر، وحماره يعفور؛ فنفق منصرفه من حجة الوداع.
ذكر أسماء إبله ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كانت القصواء من نعم بني الحريش، ابتاعها أبو بكر وأخرى معها بثمانمائة درهم، وأخذها منه رسول الله ﷺ بأربعمائة؛ فكانت عنده حتى نفقت؛ وهي التي هاجر عليها؛ وكانت حين قدم رسول الله المدينة رباعية، وكان اسمها القصواء والجدعاء والعضباء.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن يحيى بن يعلى، عن ابن المسيب، قال: كان اسمها العضباء؛ وكان في طرف أذنها جدع.
ذكر أسماء لقاح رسول الله ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال أخبرنا محمد بن عمر ن قال: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: كانت لرسول الله ﷺ لقاح، وهي التي أغار عليها القوم بالغابة، وهي عشرون لقحة، وكانت التي يعيش بها أهل رسول الله ﷺ يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن فيها لقاح غزار: الحناء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة، والريا.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني هارون بن محمد، عن أبيه، عن نبهان؛ مولى أم سلمة، قال: سمعت أم سلمة، تقول: كان عيشنا مع رسول الله اللبن - أو قالت أكثر عيشنا - كانت لرسول الله لقاح بالغابة كان قد فرقها على نسائه، فكانت فيها لقحة تدعى العريس؛ وكنا منها فيما شئنا من اللبن، وكانت لعائشة لقحة تدعى السمراء غزيرة، لم تكن كلقحتى، فقرب راعيهن اللقاح إلى مرعي بناحية الجوانية، فكانت تروح على أبياتنا فنؤتى بهما فتحلبان، فتوجد لقحته أغزر منهما بمثل لبنهما أو أكثر.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد السلام بن جبير، عن أبيه، قال: كانت لرسول الله ﷺ لقائح تكون بذي الجدر، وتكون بالجماء، فكان لبنها يؤوب إلينا؛ لقحة تدعى مهرة، أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل وكانت غزيرة؛ وكانت الريا والشقراء ابتاعهما بسوق النبط من بني عامر، وكانت بردة، والسمراء، والعريس، واليسيرة، والحناء، يحلبن ويراح إليه بلبنهن كل ليلة؛ وكان فيها غلام للنبي ﷺ اسمه يسار، فقتلوه.
ذكر أسماء منائح رسول الله ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني زكرياء بن يحيى، عن إبراهيم بن عبد الله، من ولد عتبة بن غزوان، قال: كانت منائح رسول الله ﷺ سبعًا: عجوة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وأطلال، وأطراف.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد، قال: حدثني أبو إسحاق، عن عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت منائح رسول الله ﷺ سبع أعنز منائح، يرعاهن ابن أم أيمن.
ذكر أسماء سيوف رسول الله ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: أصاب رسول الله ﷺ من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفًا قلعيًا، وسيفًا يدعى بتارًا، وسيفًا يدعى الحتف؛ وكان عنده بعد ذلك المخذم ورسوب، أصابهما من الفلس. وقيل إنه قدم رسول الله ﷺ المدينة ومعه سيفان، يقال لأحدهما: القضيب، شهد به بدرًا، وسيفه ذو الفقار غنمه يوم بدر، كان لمنبه بن الحجاج.
ذكر أسماء قسيه ورماحه ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلي، قال: أصاب رسول الله ﷺ من سلاح بني قينقاع ثلاثة أرماح وثلاث قسى: قوس الروحاء، وقوس شوحط؛ تدعى البيضاء، وقوس صفراء تدعى الصفراء من نبع.
ذكر أسماء دروعه ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلي، قال: أصاب رسول الله ﷺ من سلاح بني قينقاع درعين؛ درع يقال لها السعدية، ودرع يقال لها فضة.
حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني موسى بن عمر، عن جعفر بن محمود، عن محمد بن مسلمة، قال: رأيت على رسول الله ﷺ يوم أحد درعين: درعه ذات الفضول ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم خيبر درعين: ذات الفضول والسعدية.
ذكر ترسه ﷺ
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا عتاب بن زياد، قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد ابن جابر، قال: سمعت مكحولا يقول: كان لرسول الله ﷺ ترس فيه تمثال رأس كبش، فكره رسول الله مكانه، فأصبح يومًا وقد أذهبه الله عز وجل.
ذكر أسماء رسول الله ﷺ
حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عبد الرحمن - يعني المسعودي - عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى، قال: سمى لنا رسول الله ﷺ نفسه أسماء، منها ما حفظنا. قال: أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة والملحمة.
حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: أخبرنا إبراهيم - يعني ابن سعد - عن الزهري، قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال لي رسول الله ﷺ: إن لي أسماء؛ أنا محمد، وأحمد، والعاقب، والماحي. قال الزهري: العاقب: الذي ليس بعده أحد والماحي: الذي يمحو الله به الكفر.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال، أخبرنا سفيان ابن حين، قال: حدثني الزهري، عن محمد بن بن جبير بن مطعم، عن أبيه؛ قال: قال رسول الله ﷺ: أنا محمد، وأحمد، والماحي، والعاقب، والحاشر؛ الذي يحشر الناس على قدمي. قال يزيد: فسألت سفيان: ما العاقب؟ قال: آخر الأنبياء.
ذكر صفة النبي ﷺ
حدثني ابن المنني، قال: حدثني ابن أبي عدي، عن المسعودي، عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، قال: حدثني نافع بن جبير، عن على ابن أبي طالب، قال: كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأ س واللحية، شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس مشربا " وجهه الحمرة، طويل المسربة إذا مشى تكفأ تكفؤا كانمأ ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله؛ ﷺ.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا مجمع بن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار - لم يسمه - أنه سأل علي بن أبي طالب وهو في مسجد الكوفة محتب بحمالة سيفه، فقال: انعت لي نعت رسول الله ﷺ، فقال له علي: كان رسول الله أبيض اللون مشربًا حمرة، أدعج سبط الشعر، دقيق المسربة، سهل الخدين، كث اللحية، ذا وفرة؛ كأن عنقه إبريق فضة؛ كان له شعر من لبتة إلى سرته يجري كالقضيب؛ لم يكن في إبطه ولا صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم؛ إذا مشى كأنما ينحدر من صبب؛ وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعًا؛ ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا العاجز ولا اللئيم؛ كأن العرق في وجهه اللؤلؤ؛ ولريح عرقه أطيب من المسك؛ لم أر قبله ولا بعده مثله ﷺ.
حدثنا ابن المقدمي، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن قيس الذي يقال له أبو زكير، قال: سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يذكر عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ بعث على رأس أربعين؛ فأقام بمكة عشرًا وبالمدينة عشرآ، وتوفي على رأس ستين؛ ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء؛ ولم يكن رسول الله ﷺ بالطويل البائن، ولا القصير؛ ولم يكن بالأبيض الأمهق؛ ولا الآدم، ولم يكن بالجعد القطط ولا السبط.
حدثني ابن المثنى قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن الجريري، قال: كنت مع أبي الطفيل نطوف بالبيت؛ فقال: ما بقي أحد رأى رسول الله ﷺ غيري؛ قال: وقلت: أرأيته؟ قال: نعم، قلت: كيف كان صفته؟ قال: كان أبيض مليحًا مقصدًا.
ذكر خاتم النبوة التي كانت به ﷺ
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عزرة بن ثابت، قال: حدثنا علباء، قال: حدثنا أبو زيد، قال: قال لي رسول الله ﷺ: يا أبا زيد، ادن مني امسح ظهري - وكشف عن ظهره - قال: فمسست ظهره، ثم وضعت أصبعي على الخاتم فغمزتها، قال: قلت: وما الخاتم؟ قال: شعر مجمع كان على كتفيه.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا بشر بن الوضاح أبو الهيثم، قال: حدثنا أبو عقيل الدورقي عن أبي نضرة، قال: سألت أبا سعيد الخدري عن الخاتم التي كانت للنبي ﷺ، قال كانت بضعة ناشزة.
ذكر شجاعته وجوده ﷺ
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حماد بن واقد، عن ثابت، عن أنس، قال: كان نبي الله ﷺ من أحسن الناس، وأسمح الناس، وأشجع الناس؛ لقد كان فزع بالمدينة، فانطلق أهل المدينة نحو الصوت، فإذا هم قد تلقوا رسول الله ﷺ على فرس عري لأبي طلحة، ما عليه سرج، وعليه السيف. قال: وقد كان سبقهم إلى الصوت، قال: فجعل يقول: يأيها الناس، لم تراعوا، لم تراعوا! مرتين، ثم قال: يا أبا طلحة، وجدناه بحرًا؛ وقد كان الفرس يبطأ، فما سبقه فرس بعد ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس، قال: كان رسول الله ﷺ أشجع الناس، وأجود الناس؛ كان فزع بالمدينة فخرج الناس قبل الصوت، فاستبرأ الفزع على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، في عنقه السيف. قال: وجدناه بحرًا - أو قال: وإنه لبحر.
ذكر صفة شعره ﷺ وهل كان يخضب أم لا
حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا حريز بن عثمان، قال أبو موسى: قال معاذ: وما رأيت من رجل قط من أهل الشأم أفضله عليه، قال: دخلنا على عبد بن بسر، فقلت له من بين أصحابي: أرأيت رسول الله ﷺ؟ أشيخا كان؟ قال: فوضع يده على عنفقته، وقال: كان في عنفقته شعر أبيض.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة، قال: رأيت رسول الله ﷺ عنفقته بيضاء، قيل: مثل من أنت يومئذ يا أبا جحيفة؟ قال: أبري النبل وأريشها.
حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا خالد ابن الحارث، قال: حدثنا حميد، قال: سئل أنس: أخضب رسول الله؟ قال: فقال أنس: لم يشتد برسول الله الشيب، ولكن خضب أبو بكر بالحناء والكتم، وخضب عمر بالحناء.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، قال: سئل أنس: هل خضب رسول الله ﷺ؟ قال: لم يرمن الشيب إلا نحو من تسع عشرة أو عشرين شعرة بيضاء في مقدم لحيته. قال: إنه لم يشن بالشيب، فقيل لأنس: وشين هو! قال: كلكم يكرهه؛ ولكن خضب أبو بكر بالحناء والكتم، وخضب عمر بالحناء.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا حميد، عن أنس، قال: لم يكن الشيب الذي بالنبي ﷺ عشرين شعرة.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد ابن سلمة، عن سماك، عن جابر بن سمرة، قال: ما كان في رأس رسول الله ﷺ من الشيب إلا شعرات في مفرق رأسه؛ وكان إذا دهنه غطاهن.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سلام بن أبي مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: دخلت زوج النبي ﷺ فأخرجت إلينا شعرًا من شعر رسول الله مخضوبًا بالحناء والكتم.
حدثنا ابن جابر بن الكردي الواسطي، قال: حدثنا أبو سفيان، قال: حدثنا الضحاك بن حمرة، عن غيلان بن جامع، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، قال: كان رسول الله ﷺ يخضب بالحناء والكتم؛ وكان يبلغ شعره كتفيه أو منكبيه - الشك من أبي سفيان.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إبراهيم - يعني ابن نافع - عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ، قالت: رأيت رسول الله ﷺ وله ضفائر أربع.
ذكر الخبر عن بدء مرض رسول الله الذي توفي فيه وما كان منه قبيل ذلك لما نعيت إليه نفسه ﷺ
قال أبو جعفر: يقول الله عز وجل: " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا ". قد مضى ذكرنا قبل ما كان من تعليم رسول الله ﷺ أصحابه - في حجته التي حجها المسماة حجة الوداع، وحجة التمام، وحجة البلاغ - مناسكهم ووصيته إياهم، بما قد ذكرت قبل في خطبته التي خطبها بهم فيها.
ثم إن رسول الله ﷺ انصرف من سفره ذلك بعد فراغه من حجه إلى منزله بالمدينة في بقية ذي الحجة، فأقام بها ما بقي من ذي الحجة والمحرم والصقر.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة
ذكر الأحداث التي كانت فيها
قال أبو جعفر: ثم ضرب في المحرم من سنة إحدى عشرة على الناس بعثًا إلى الشأم، وأمر عليهم مولاه وابن مولاه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عباس بن أبي ربيعة - أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون.
فبينا الناس على ذلك ابتدئ ﷺ شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها إلى ما أراد به رحمته وكرامته في ليال بقين من ضفر، أو في أول شهر ربيع الأول.
حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا سيف بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن ثابت ابن الجزع الأنصاري، عن عبيد بن حنين مولى النبي ﷺ، عن أبي مويهبة مولى رسول الله، قال: رجع رسول الله ﷺ إلى المدينة بعد ما قضى حجة التمام، فتحلل به السير، وضرب على الناس بعثًا، وأمر عليهم أسامة بن زيد وأمره أن يوطئ من آبل الزيت من مشارف الشأم الأرض بالأردن، فقال المنافقون في ذلك، ورد عليهم النبي ﷺ: " إنه لخليق لها - أي حقيق بالإمارة - وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل؛ وإن كان لخليقًا لها ". فطارت الأخبار بتحلل السير بالنبي ﷺ أن النبي قد اشتكى، فوثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة؛ وجاء الخبر عنهما للنبي ﷺ. ثم وثب طليحة في بلاد أسد بعد ما أفاق النبي ﷺ، ثم اشتكى في المحرم وجعه الذي قبضه الله تعالى فيه.
حدثنا ابن سعد، قال: حدثني عمي يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا سيف، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه؛ قال: اشتكى رسول الله ﷺ وجعه الذي توفاه الله به في عقب المحرم.
وقال الواقدي: بدئ رسول الله ﷺ وجعه لليلتين بقيتا من صفر.
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثني عمي، قال: حدثنا سيف ابن عمر، قال: حدثنا المستنير بن يزيد النخعي، عن عروة بن غزية الدثيني، عن الضحاك بن فيروز بن الديلمى، عن أبيه، قال: إن أول ردة كانت في الإسلام باليمن كانت على عهد رسول الله ﷺ على يدي ذي الخمار عبهلة بن كعب - وهو الأسود - في عامة مذحج. خرج بعد الوداع؛ كان الأسود كاهنًا شعبا ذا، وكان يريهم الأعاجيب، ويسبى قلوب من سمع منطقه، وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خبان؛ وهي كانت داره، وبها ولد ونشأ؛ فكاتبته مذحج، وواعدته نجران؛ فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم وخالد بن سعد بن العاص وأنزلوه منزلهما، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله؛ فلم ينشب عبهلة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها، وكتب بذلك إلى النبي ﷺ من فعله ونزوله صنعاء؛ وكان أول خبر وقع به عنه من قبل فروة بن مسيك، ولحق بفروة من تم على الإسلام من مذحج، فكانوا باأحسية، ولم يكاتبه الأسود ولم يرسل إليه، لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه، وصفا له ملك اليمن.
حدثنا عبيد الله، قال: أخبرني عمي يعقوب، قال: حدثني سيف، قال: حدثنا طلحة بن الأعلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان النبي ﷺ قد ضرب بعث أسامة فلم يستتب لوجع رسول الله ولخلع مسيلمة والأسود؛ وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة، حتى بلغه؛ فخرج النبي ﷺ على الناس عاصبًا رأسه من الصداع لذلك الشأن وانتشاره، لرؤيا رآها في بيت عائشة: فقال: إني رأيت البارحة - فيما يرى النائم - أن في عضدي سوارين من ذهب؛ فكرهتهما فنفختهما، فطارا، فأولتهما هذين الكذابين - صاحب اليمامة وصاحب اليمن - وقد بلغني أن أقوامًا يقولون في إمارة أسامة! ولعمري لئن قالوا في إمارته، لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله! وإن كان أبوه لخليقًا للإمارة، وإنه لخليق لها؛ فأنفذوا بعث أسامة. وقال: لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد!
فخرج أسامة فضرب بالجرف؛ وأنشأ الناس في العسكر، ونجم طليحة وتمهل الناس، وثقل رسول الله ﷺ فلم يستتم الأمر؛ ينظرون أولهم آخرهم، حتى توفي الله عز وجل نبيه ﷺ.
كتب إلي السري بن يحيى، يقول: حدثنا شعيب بن إبراهيم التميمي، عن سيف بن عمر، قال: حدثنا سعيد بن عبيد أبو يعقوب، عن أبي ماجد الأسدي، عن الحضرمي بن عامر الأسدي، قال: سألته عن أمر طليحة ابن خويلد؛ فقال: وقع بنا الخبر بوجع النبي ﷺ، ثم بلغنا أن مسيلمة قد غلب على اليمامة، وأن الأسود قد غلبب على اليمن؛ فلم يلبث إلا قليلًا حتى ادعى طليحة النبوة، وعسكر بسميراء، واتبعه العوام؛ واستكثف أمره؛ وبعث حبال ابن أخيه إلى النبي ﷺ يدعوه إلى الموادعة، ويخبره خبره. وقال حبال: إن الذي يأتيه ذو النون؛ فقال: لقد سمى ملكًا، فقال حبال: أنا ابن خويلد، فقال النبي ﷺ: قتلك الله وحرمك الشهادة! وحدثني عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي يعقوب، قال: أخبرنا سيف، قال: وحدثنا سعيد بن عبيد، عن حريث بن المعلي: أن أول من كتب إلى النبي ﷺ بخبر طليحة سنان بن أبي سنان، وكان على بني مالك؛ وكان قضاعي بن عمرو على بني الحارث.
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، قال: حاربهم رسول الله ﷺ بالرسل، قال: فأرسل إلى نفر من الأبناء رسولًا، وكتب إليهم أن يحاولوه، وأمرهم أن يستنجدوا رجالًا - قد سماهم - من بني تميم وقيس؛ وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم، ففعلوا ذلك؛ وانقطعت سبل المرتدة، وطعنوا في نقصان وأغلقهم، واشتغلوا في أنفسهم، فأصيب الأسود في حياة رسول الله، وقبل وفاته بيوم أو بليلة، ولظ طليحة ومسيلمة وأشباهم بالرسل؛ ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله عز وجل والذب عن دينه، فبعث وبربن يحنس إلى فيروز وجشيش الديلمي وداذويه الإصطخري؛ وبعث جرير بن عبد الله إلى ذي القلاع وذي ظلم، وبعث الأفرع بن عبد الله الحمير إلى ذي زود وذي مران، وبعث فرأت بن حيان اعجلي إلى قمامة بن أسال، وبعث أياد بن حنظل التميمة ثم اعمري إلى قيس بن عاصم والبر قان بن بدر، وبعث سلسل بن شرحبيل إلى سبرة العنبري ووكيع الدارمي وإلى عمرو بن المحجوب العامري، وإلى عمرو بن الخفاجي من بني عامر، وبعث ضرار بن الأزور الأسدي إلى عوف الزرقاني من بني الصيداء وسنان الأسدي ثم الغنمي، وقضاعي الدئلي، وبعث نعيم بن مسعود الأشجعي إلى ابن ذي اللحية وابن مشيمصة الجبيري.
وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثنا الصقعب ابن زهير، عن فقهاء أهل الحجاز، أن رسول الله ﷺ وجع وجعه الذي قبض في آخر صفر في أيام بقين منه؛ وهو في بيت زينب بنت جحش.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد، عن محمد ابن إسحاق، عن عبد الله بن عمر بن علي، عن عبيد ين جبير، مولي الحكم ابن أبي العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله ﷺ، قال: بعثني رسول الله ﷺ من جوف الليل، فقال لي: يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع؛ فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم أهل المقابر؛ ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل علي فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، خيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فاخترت لقاء ربي والجنة. قال: قلت: يأبي أنت وأمي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة. فقال: لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف فبدئ رسول الله ﷺ بوجعه الذي قبض فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد ابن إسحاق.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة زوج النبي ﷺ، قالت: رجع رسول الله ﷺ من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه! قال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه! ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك! فقلت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله ﷺ، وتتام به وجعه؛ وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي، فأذن له.
فخرج رسول الله ﷺ بين رجلين من أهله: أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر تخط قدماه الأرض، عاصبًا رأسه حتى دخل بيتي.
قال عبيد الله: فحدثت هذا الحديث عنها عبد الله بن عباس، فقال: هل تدري من الرجل؟ قلت: لا، قال: علي بن أبي طالب. ولكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير وهي تستطيع.
ثم غمر رسول الله ﷺ واشتد به الوجع؛ فقال: أهريقوا على من سبع قرب من آبار شتى؛ حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، قالت: فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم، حسبكم!.
فحدثني حميد بن الربيع الخراز، قال: حدثنا معن بن عيسى، قال: حدثنا الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن إياس الليثي؛ ثم الأشجعي، عن القاسم بن يزيد، عن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أخيه الفضل بن عباس، قال: جاءني رسول الله ﷺ، فخرجت إليه فوجدته موعوكًا قد عصب رأسه، فقال: خذ بيدي يا فضل، فأخذت بيده؛ حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد في الناس. فاجتمعوا إليه، فقال: أما بعد أيها الناس، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو؛ وإنه قد دنا منى حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقيد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه؛ ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني،؛ ألا وإن أحبكم إلى من أخذ مني حقًا إن كان له، أو حللني فلقيت الله وأنا أطيب النفس؛ وقد أرى أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم مرارًا.
قال الفضل: ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقام رجل فقال: يا رسول الله؛ إن لي عندك ثلاثة دراهم، قال: أعطه يا فضل، فأمرته فجلس. ثم قال: أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة. فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله، قال: ولم غللتها؟ قال: كنت إليها محتاجًا، قال: خذها منه يا فضل. ثم قال: يأيها الناس، من خشى من نفسه شيئًا فليقم أدع له. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني لكذاب، إني لفاحش، وإني لنؤوم؛ فقال: اللهم ارزقه صدقًا وإيمانًا، وأذهب عنه النوم إذا أراد. ثم قام رجل فقال: والله يا رسول الله، إني لكذاب وإني لمنافق، وما شيء - أو إن شيء - إلا قد جنيته. فقام عمر بن الخطاب، فقال: فضحت نفسك أيها الرجل! فقال النبي ﷺ: يا بن الخطاب، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقًا وإيمانًا وصير أمره إلى خير.
فقال عمر كلمة. فضحك رسول الله، ثم قال: عمر معي وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن أيوب بن بشير، أن رسول الله ﷺ خرج عاصبًا رأسه؛ حتى جلس على المنبر؛ ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم؛ وأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: إن عبدًا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله. قال: ففهمها أبو بكر، وعلم أن نفسه يريد؛ فبكى، وقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: على رسلك يا أبا بكر! انظروا هذه الأبواب الشوارع اللافظة في المسجد فسدوها؛ إلا ما كان من بيت أبي بكر؛ فإني لا أعلم أحدًا كان أفضل عندي في الصحبة يدًا منه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن بعض آل أبي سعيد بن المعلي، أن رسول الله قال يومئذ في كلامه هذا: فإني لو كنت متخذًا من العباد خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا؛ ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.
وحدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله ابن وهب، قال: حدثنا مالك، عن أبي النضر، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ يومًا على المنبر، فقال: إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عند الله؛ فاختار ما عند الله؛ فبكى أبو بكر ثم قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قال: فتعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله عن عبد يخير، ويقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا! قال: فكان رسول الله هو المخير؛ وكان أبو بكر أعلمنا به؛ فقال رسول الله ﷺ: إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر؛ ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا؛ ولكن أخوة الإسلام؛ لا تبق خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر.
حدثني محمد بن عمر بن الصباح الهمداني، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مسلم بن جعفر البجلي، قال: سمعت عبد الملك ابن الأصبهاني عن خلاد الأسدي، قال: قال عبد الله بن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر؛ فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة، فنظر إلينا وشدد، فدمعت عينه، وقال: مرحبًا بكم! رحمكم الله! آواكم الله! حفظكم الله! رفعكم الله! نفعكم الله! وفقكم الله! نصركم الله! سلمكم الله! رحمكم الله! قبلكم الله! أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، وأؤديكم إليه؛ إني لكم نذير وبشير، لا تعلوا على الله في عباده وبلاده؛ فإنه قال لي ولكم: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين ". وقال: " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين ". فقلنا: متى أجلك؟ قال: قد دنا الفراق، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى. قلنا: فمن يغسلك يا نبي الله؟ قال: أهلي الأدنى فالأدنى، قلنا: ففيم نكفنك يا نبي الله؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم؛ أو في بياض مصر، أو حلة يمانية، قلنا: فمن يصلي عليك يا نبي الله؟ قال: مهلًا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيرًا! فبكينا وبكى النبي ﷺ، وقال: إذا غسلموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا، على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي على جليسي وخليلي جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها، ثم ادخلوا على فوجًا فوجًا، فصلوا علي وسلموا تسليمًا، ولا تؤذوني بتزكية ولا برنة ولا صيحة، وليبدأ بالصلاة على رجال أهل بيتي، ثم نساؤهم، ثم أنتم بعد. أفرئوا أنفسكم مني السلام؛ فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة. قلنا: فمن يدخلك في قبرك يا نبي الله؟ قال: أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم.
حدثنا أحمد بن حماد الدولابي، قال: حدثنا سفيان، عن سليمان ابن أبي مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! قال: اشتد برسول الله ﷺ وجمعه، فقال: ائتوني أكتب كتابًا لا تضلوا بعدي أبدًا. فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي أن يتنازع - فقالوا: ما شأنه؟ أهجر! استفهموه؛ فذهبوا يعيدون عليه، فقال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه؛ وأوصي بثلاث؛ قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم؛ وسكت عن الثالثة عمدًا - أو قال: فنسيتها.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يوم الخميس! ثم ذكر نحو حديث أحمد بن حماد، غير أنه قال: ولا ينبغي عند نبي أن ينازع.
حدثنا أبو كريب وصالح بن سمال، قال: حدثنا وكيع، عن مالك ابن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! قال: ثم نظرت إلى دموعه تسيل على خديه كأنها نظام اللؤلؤ. قال: قال رسول الله ﷺ: ائتوني باللوح والدواة - أو بالكتف والدواة - أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده. قال: قالوا: إن رسول الله يهجر.
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله ابن كعب بن مالك؛ أن ابن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله ﷺ في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا، فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب، فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا! وإني أرى رسول الله سيتوفي في وجعه هذا؛ وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت؛ فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا. قال علي: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدًا؛ والله لا أسألها رسول الله أبدًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن عباس، قال: خرج يومئذ علي بن أبي طالب على الناس من عند رسول الله ﷺ، ثم ذكر نحوه؛ غير أنه قال في حديثه: أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب؛ فانطلق بنا إلى رسول الله؛ فإن كان هذا الأمر فينا علمنا، وإن كان في غيرنا أمرنا فأوصى بنا الناس؛ وزاد فيه أيضًا: فتوفي رسول الله حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا أبي، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال لنا رسول الله ﷺ: أفرغوا على من سبع قرب من سبع آبار شتى، لعلى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم.
قال محمد، عن محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة، قالت: فصببنا عليه من سبع قرب، فوجد راحة، فخرج فصلى بالناس، وخطبهم، واستغفر للشهداء من أصحاب أحد، ثم أوصى بالأنصار خيرًا، فقال: أما بعد يا معشر المهاجرين، إنكم قد أصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها التي هي عليها اليوم، والأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. ثم قال: إن عبدًا من عباد الله قد خير بين ما عند الله وبين الدنيا فاختار ما عند الله؛ فلم يفقهها إلا أبو بكر؛ ظن أنه يريد نفسه، فبكى، فقال له النبي ﷺ: على رسلك يا أبا بكر! سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر؛ فإني لا أعلم امرأً أفضل يدًا في الصحابة من أبي بكر.
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن عائشة، قالت: لددنا رسول الله ﷺ في مرضه، فقال: لا تلدوني! فقلنا: كراهية المريض الدواء. فلما أفاق قال: لا يبقى منكم أحد إلا لد؛ غير العباس فإنه لم يشهد كم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في حديثه الذي ذكرناه عنه، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة، قالت: ثم نزل رسول الله ﷺ، فدخل بيته، وتتام به وجعه حتى غمر، واجتمع عنده نساء من نسائه: أم سلمة، وميمونة، ونساء من نساء المؤمنين؛ منهن أسماء بنت عميس، وعنده عمه العباس بن عبد المطلب، وأجمعوا على أن يلدوه، فقال العباس: لألدنه، قال: فلد، فلما أفاق رسول الله ﷺ، قال: من صنع بي هذا؟ قالوا: يا رسول الله، عمك العباس، قال: هذا دواء أتى به نساء من نحو هذه الأرض - وأشار نحو أرض الحبشة - قال: ولم فعلتم ذلك؟ فقال العباس: خشينا يا رسول الله أن يكون بك وجع ذات الجنب، فقال: إن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمى. قال: فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله ﷺ؛ عقوبة لهم بما صنعوا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، أن عائشة حدثته أن رسول الله ﷺ حين قالوا: خشينا أن يكون بك ذات الجنب، قال: إنها من الشيطان؛ ولم يكن الله ليسلطها علي.
حدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني الصقعب ابن زهير، عن فقهاء أهل الحجاز، أن رسول الله ﷺ ثقل في وجعه الذي توفي فيه حتى أغمى عليه؛ فاجتمع إليه نساؤه وابنته وأهل بيته والعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وجميعهم؛ وإن أسماء بنت عميس قالت: ما وجعه هذا إلا ذات الجنب، فلدوه، فلددناه، فلما أفاق، قال: من فعل بي هذا؟ قالوا: لدتك أسماء بنت عميس؛ ظنت أن بك ذات الجنب. قال: أعوذ بالله أن يبليني بذات الجنب؛ أنا أكرم على الله من ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن عبيد بن السباق، عن محمد بن أسامة بن زيد، عن أبيه أسامة ابن زيد، قال: لما ثقل رسول الله ﷺ هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلنا على رسول الله ﷺ، وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على، فعرفت أنه يدعو لي.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة، قالت: كان رسول الله ﷺ كثيرًا ما أسمعه، وهو يقول: إن الله عز وجل لم يقبض نبيًا حتى يخيره.
حدثنا أبو كيب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا يونس بن عمرو، عن أبيه، عن الأرقم بن شرحبيل، قال: سألت ابن عباس: أوصى رسول الله ﷺ؟ قال: لا، قلت: فكيف كان ذلك؟ قال: قال رسول الله: ابعثوا إلى علي فادعوه، فقالت عائشة: لو بعثت إلى أبي بكر! وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر! فاجتمعوا عنده جميعًا، فقال رسول الله ﷺ: انصرفوا، فإن تك لي حاجة أبعث إليكم؛ فانصرفوا، وقال رسول الله ﷺ: آن الصلاة؟ قيل: نعم، قال: فأمروا أبا بكر ليصلى بالناس، فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، فمر عمر، فقال: مروا عمر، فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد، فتقدم أبو بكر، ووجد رسول الله خفة، فخرج، فلما سمع أبو بكر حركته تأخر، فجذب رسول الله ﷺ ثوبه، فأقامه مكانه، وقعد رسول الله، فقرأ من حيث انتهى أبو بكر.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، قال: وحدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: حدثنا الأعمش، وحدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما مرض رسول الله ﷺ المرض الذي مات فيه، أذن بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فقلت: إن أبا بكر رجل رقيق، وإنه متى يقوم مقامك لا يطيق! قال: فقال: مروا أبا بكر يصلى بالناس، فقلت مثل ذلك، فغضب، وقال: إنكن صواحب يوسف - وقال ابن وكيع: " صواحبات يوسف " - مروا أبا بكر يصلى بالناس، قال: فخرج يهادي بين رجلين وقدماه تخطان في الأرض؛ فلما دنا من أبي بكر، تأخر أبو بكر؛ فأشار إليه رسول الله ﷺ أن قم في مقامك، فقعد رسول الله ﷺ، فصلى إلى جنب أبي بكر جالسًا. قالت: فكان أبو بكر يصلى بصلاة النبي، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر. اللفظ لحديث عيسى بن عثمان.
حدثت عن الواقدي، قال: سألت ابن أبي سبرة: كم صلى أبو بكر بالناس؟ قال: سبع عشرة صلاة، قلت: من أخبرك؟ قال أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ. قال: وحدثنا ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة، قال: صلى بهم أبو بكر ثلاثة أيام.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا شعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم، عن عائشة، قالت: رأيت رسول الله ﷺ يموت، وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجه باماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرة الموت! حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم بن محمد عن عائشة، قالت: رأيت رسول الله ﷺ وهو يموت. ثم ذكر مثله؛ إلا أنه قال: أعني على سكرات الموت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: لما كان يوم الاثنين، اليوم الذي قبض فيه رسول الله ﷺ، خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فخرج رسول الله؛ حتى قام بباب عائشة، فكاد المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم برسول الله ﷺ حين رأوه؛ فرحا به، وتفرجوا. فأشار بيده: أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسم رسول الله فرحًا لما رأى من هيئتهم في صلاتهم، وما رأيت رسول الله ﷺ أحسن هيئة منه نلك الساعة؛ ثم رجع وانصرف الناس، وهم يظنون أن رسول الله ﷺ قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مليكة، قال: لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله ﷺ عاصبًا رأسه إلى الصبح؛ وأبو بكر يصلي بالناس؛ فلما خرج رسول الله ﷺ تفرج الناس، فعرف أبو بكر أن الناس لم يفعلوا ذلك إلا لرسول الله ﷺ، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله في ظهره، وقال: صل بالناس. وجلس رسول الله إلى جنبه؛ فصلى قاعدًا عن يمين أبي بكر؛ فلما فرغ من الصلاة، أقبل على الناس وكلمهم رافعًا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد؛ يقول: يأيها الناس، سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم! وإني والله لا تمسكون على شيئًا؛ إني لم أحل لكم إلا ما أحل لكم القرآن، ولم أحرم عليكم إلا ما حرم عليكم القرآن. فلما فرغ رسول الله ﷺ من كلامه، قال له أبو بكر: يا بني الله؛ إني أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما نحب، واليوم يوم ابنة خارجة، فآتيها. ثم دخل رسول الله ﷺ وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: رجع رسول الله ﷺ في ذلك اليوم حين دخل من المسجد، فاضطجع في حجري، فدخل على رجل من آل بكر في يده سواك أخضر. قالت: فنظر رسول الله ﷺ إلى يده نظرًا عرفت أنه يريده، فأخذته فمضغنه حتى ألنته، ثم أعطيته إياه؛ قالت: فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله، ثم وضعه؛ ووجدت رسول الله يثقل في حجري. قالت: فذهبت أنظر في وجهه، فإذا نظره قد شخص، وهو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة! قالت: قلت: خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق! قالت: وقبض رسول الله ﷺ.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: سمعت عائشة تقول: مات رسول الله ﷺ بين سحري ونحري وفي دوري؛ ولم أظلم فيه أحدًا، فمن سفهى وحداثة سني أن رسول الله قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة؛ وقمت ألتدم مع النساء، وأضرب وجهي.
ذكر الأخبار الواردة باليوم الذي توفي فيه رسول الله ومبلغ سنه يوم وفاته
قال أبو جعفر: أما اليوم الذي مات فيه رسول الله ﷺ؛ فلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار فيه أنه كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، غير أنه اختلف في أي الأثانين كان موته ﷺ؟ فقال بعضهم في ذلك ما حدثت عن هشام بن محمد بن السائب، عن أبي مخنف، قال: حدثنا الصقعب بن زهير، عن فقهاء أهل الحجاز، قالوا: قبض رسول الله ﷺ نصف النهار يوم الاثنين، لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول، وبويع أبو بكر يوم الاثنين في اليوم الذي قبض فيه النبي ﷺ.
وقال الواقدي: توفي يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ودفن من الغد نصف النهار حين زاعت الشمس، وذلك يوم الثلاثاء.
قال أبو جعفر: توفي رسول الله ﷺ وأبو بكر بالسنح وعمر حاضر. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: لما توفي رسول الله ﷺ قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي وأن رسول الله والله ما مات؛ ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة؛ ثم رجع بعد أن قيل قد مات؛ والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات.
قال: وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يكلم الناس؛ فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله ﷺ في بيت عائشة؛ ورسول الله مسجى في ناحية البيت، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجهه، ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبي أنت وأمي! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن يصيبك بعدها موتة أبدًا. ثم رد الثوب على وجهه، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر! فأنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس؛ إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات؛ ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: " وما محمد إلا رسول قد خلت من فبله الرسل.. " إلى آخر الآية. قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله ﷺ حتى تلاها أبو بكر يومئذ. قال: وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم.
قال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض؛ ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي معشر زياد بن كليب، عن أبي أيوب، عن إبراهيم، قال: لما قبض النبي ﷺ كان أبو بكر غائبًا، فجاء بعد ثلاث، ولم يجترئ أحد أن يكشف عن وجهه؛ حتى اربد بطنه؛ فكشف عن وجهه، وقبل بين عينيه، ثم قال: بأبي أنت وأمي! طبت حيًا وطبت ميتًا! ثم خرج أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات. ثم قرأ: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين ". وكان عمر يقول: لم يمت؛ وكان يتوعد الناس بالقتل في ذلك.
فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء.
ثم قال أبو بكر: إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة، إن النبي ﷺ جاءه قوم فقالوا: أبعث معنا أمينًا فقال: لأبعثن معكم أمينًا حق أمين؛ فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح؛ وأنا أرضى لكم أبا عبيدة. فقام عمر، فقال: أيكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدمهما النبي ﷺ! فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار - أو بعض الأنصار؛ لا نبايع إلا عليًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن زياد بن كليب، قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقن عليكم أو لنخرجن إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتًا بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.
حدثنا زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، قال: توفي رسول الله ﷺ وأبو بكر في طائفة من المدينة، فجاء فكشف الثوب عن مجهه فقبله، وقال: فداك أبي وأمي! ما أطيبك حيًا وميتًا! مات محمد ورب الكعبة! قال: ثم انطلق إلى المنبر، فوجد عمر ابن الخطاب قائمًا يوعد الناس، ويقول: إن رسول الله ﷺ حي لم يمت؛ وإنه خارج إلى من أرجف به، وقاطع أيديهم، وضارب أعناقهم، وصالبهم. قال: فنكلم أبو بكر، قال: أنصت. قال: فأبى عمر أن ينصت، فتكلم أبو بكر، وقال: إن الله قال لنبيه ﷺ: " إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ". " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم.. "؛ حتى ختم الآية، فمن كان يعبد محمدًا فقد مات إلهه الذي كان يعبده، ومن كان يعبد الله لا شريك له، فإن الله حي لا يموت.
قال: فخلف رجال أدركناهم من أصحاب محمد ﷺ: ما علمنا أن هاتين الآيتين نزلتا حتى قرأهما أبو بكر يومئذ؛ إذ جاء رجل يسعى فقال: هاتيك الأنصار قد اجتمعت في ظلة بني ساعدة، يبايعون رجلًا منهم، يقولون: منا أمير ومن قريش أمير، قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتياهم؛ فأراد عمر أن يتكلم، فنهاه أبو بكر، فقال: لا أعصى خليفة النبي ﷺ في يوم مرتين.
قال: فتكلم أبو بكر، فلم يترك شيئًا نزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله ﷺ من شأنهم إلا وذكره. وقال: لقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادي الأنصار، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم. قال: فقال سعد: صدقت، فنحن الوزراء وأنتم الأمراء. قال: فقال عمر: ابسط يدك يا أبا بكر فلأبايعك؛ فقال أبو بكر: بل أنت يا عمر، فأنت أقوى لها منى. قال: وكان عمر أشد الرجلين، قال: وكان كل واحد منهما يريد صاحبه يفتح يده يضرب عليها، ففتح عمر يد أبي بكر وقال: إن لك قوتى مع قوتك. قال: فبايع الناس واستثبتوا للبيعة، وتخلف على والزبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتى يبايع على، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير، فاضربوا به الحجر. قال: فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما تعبًا، وقال: لتبايعان وأنتما طائعان، أو لتبايعان وأنتما كارهان؟! فبايعا.
حديث السقيفة
حدثني علي بن مسلم، قال: حدثنا عباد بن عباد، قال: حدثنا عباد بن راشد، قال: حدثنا عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف القرآن، قال: فحج عمر وحججنا معه، قال: فإني لفي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن ابن عوف، فقال: شهدت أمير المؤمنين اليوم، وقام إليه رجل فقال: إني سمعت فلانًا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانًا. قال: فقال أمير المؤمنين: إنى لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم. قال: قلت: يا أمير المؤمنين؛ إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم؛ وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، وإنى لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها، ولا يضعوها على مواضعها، وأن يطيروا بها كل مطير؛ ولكن أمهل حتى تقدم المدينة، نقدم دار الهجرة والسنة، وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فتقول ما قلت متمكنًا فيعوا مقالنك، ويضعوها على مواضعها. فقال: والله لأقومن بها في أول مقام أقومه بالمدينة.
قال: فلما قدمنا المدينة، وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن؛ فوجدت سعيد بن زيد قد سبقنى بالتهجير، فجلست إلى جنبه عند المنبر، ركبتى إلى ركبته؛ فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج، فقلت لسعيد وهو مقبل: ليقولن أمير المؤمنين اليوم على هذا المنبر مقالة لم تقل قبله. فغضب وقال: فأى مقالة يقول لم تقل قبله! فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذنون، فلما قضى المؤذن أذانه قام عمر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإنى أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها، فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن لم يعها فإنى لا أحل لأحد أن يكذب علي. إن الله عز وجل بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب؛ وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله ورجمنا بعده، وإنى قد خشيت أن يطول بالناس زمان، فيقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وقد كنا نقول: لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ثم إنه بلغني أن قائلًا منكم يقول: لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانًا! فلا يغرن امرأً أن يقول: إن بيعة أبى بكر كانت فلتة؛ فقد كانت كذلك؛ غير أن الله وقى شرها؛ وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبى بكر! وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه ﷺ أن عليًا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، ونخلفت عنا الأبصار بأسرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم؛ فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرًا، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم. فقلنا: والله لنأتينهم، قال: فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة. قال: وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم، فحمد الله، وقال: أما بعد، فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا؛ وقد دفت إلينا من قومكم دافة قال: فلما رأيتهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر. وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد، وكان هو أوقر منى وأحلم؛ فلما أردت أن أتكلم، قال: على رسلك! فكرهت أن أعصيه؛ فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئًا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت؛ إلا قد جاء به أو بأحسن منه. وقال: أما بعد يا معشر الأنصار؛ فإنكم لا تذكرون منكم فضلًا إلا وأنتم له أهل؛ وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش؛ وهم أوسط العرب دارًا ونسبًا، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدى وبيد أبي عبيدة بن الجراح. وإني والله ما كرهت من كلامه شيئًا غير هذا الكلمة؛ إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر. فلما قضى أبو بكر كلامه، قام منهم رجل، فقال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب؛ منا أمير ومنكم أمير؛ يا معشر قريش.
قال: فارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، فلما أشفقت الختلاف، قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، وبايعه الأنصار. ثم نزونا على سعد، حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة! فقلت: قتل الله سعدًا! وإنا والله ما وجدنا أمرًا هو أقوى من مبايعة أبي بكر؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما نرضى، أو نخالفهم فيكون فساد.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: إن أحد الرجلين اللذين لقوا من؟ الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة، عويم بن ساعدة والآخر معن بن عدى؛ أخو بنى العجلان، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنهقيل لرسول الله ﷺ: من الذين قال الله لهم: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين "؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم المرء منهم عويم بن ساعدة! وأما معن فبلغنا أن الناس بكوا على رسول الله ﷺ حين توفاه الله، وقالوا: والله لوددنا أنا متنا قبله؛ إنا نخشى أن نفتتن بعده. فقال معن بن عدي: والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتًا كما صدقته حيًا. فقتل معن يوم اليمامة شهيدًا في خلافة أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب.
حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرني سيف بن عمر، عن الوليد بن عبد بن أبي ظبية الجلي، قال: حدثنا الوليد بن جميع الزهري، قال: قال عمرو بن حرث لسعيد ابن زيد: أشهدت وفاة رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، فال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله ﷺ كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة. قال: فخالف عليه أحد؟ قال: لا إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد، لولا أن الله عز وجل ينقذهم من الأنصار. قال: فهل قعد أحد من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته، من غير أن يدعوهم.
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرني عمي، قال: أخبرني سيف، عن عبد العزيز بن ساه، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: كان على في بيته إذ أتى فقيل له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء، عجلًا، كراهية أن يبطئ عنها، حتى بايعه. ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله، ولزم مجلسه.
حدثنا أبو صالح الضرار، قال: حدثنا عبد الرزاق بن همام، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله ﷺ، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: أما آني سمعت رسول الله يقول: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال. وآني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته. قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها على ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر. وكان لعلى وجه من الناس حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي؛ فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله ﷺ، ثم توفيت.
قال معمر: فقال رجل للزهري: أفل يبايعه على ستة أشهر! قال: لا؛ ولا أحد من بني هاشم؛ حتى بايعه علي. فلما رأى على انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر، فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: لآتتهم وحدك، قال أبو بكر: ولله لآتينهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بي! قال: فانطلق أبو بكر، فدخل على علي، وقد جمع بنى هاشم عنده، فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك، ولا نفاس عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقًا، فاستبددتم به علينا. ثم ذكر قرابته من رسول الله ﷺ وحقهم. فلم يزل علي يقول ذلك حتى بكى أبو بكر.
فلما صمت علي تشهد أبو بكر. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد؛ فه الله لقرابة رسول الله أحب إلى أن أصل من قرابتي؛ وإني والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير؛ ولكني سمعت رسول الله يقول: ((لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال))؛ وإني أعوذ بالله لا أذكر أمرًا صنعه محمد رسول الله إلا صنعته فيه إن شاء الله.
ثم قال علي: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس، ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر، ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه. قالت: فأقبل الناس إلى علي فقالوا: أصبت وأحسنت، قالت: فكان الناس قريبًا إلى علي حين قارب الحق والمعروف.
حدثني محمد بن عثمان بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا مالك - يعني ابن مغول - عن ابن الحر، قال: قال أبو سفيان لعلي: ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجالًا! قال: فقال علي: يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئًا! إنا وجدنا أبا بكر لها أهلًا.
حدثني محمد بن عثمان التقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، قال: لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل؛ إنما هي بنو عبد مناف! قال: فقيل له: إنه قد ولى ابنك، قال: وصلته رحم! حدثت عن هشام، قال: حدثني عوانة، قال: لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان؛ وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم! أين المستضعفان! أين الأذلان علي والعباس! وقال: أبا حسن! ابسط يدك حتى أبايعك، فأبى علي عليه، فجعل يتمثل بشعر المتلمس:
ولن يقيم على خسف يراد به ** إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف معكوس برمته ** وذا يشج فلا يبكي له أحد
قال: فزجره علي، وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة؛ وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرًا! لا حاجة لنا في نصيحتك.
قال هشام بن محمد: وأخبرني أبو محمد القرشي، قال: لما بويع أبو بكر، قال أبو سفيان لعلي والعباس: أنتما الأذلان! ثم أنشد يتمثل:
إن الهوان حمار الأهل يعرفه ** والحر ينكره والرسلة الأجد
ولا يقيم على ضيم يراد به ** إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف معكوس برمته ** وذا يشج فلا يبكي له أحد
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة؛ وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر؛ فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس؛ إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي؛ وما وجدتها في كتاب الله؛ ولا كانت عهدًا عهده إلى رسول الله ﷺ؛ ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا؛ حتى يكون آخرنا؛ وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله؛ فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له؛ وإن الله قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار؛ فقوموا فبايعوا. فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ فإن أحسنت فأعينوني؛ وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله!
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد إسحاق، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله إني لأمشي مع عمر في خلافته؛ وهو عامد إلى حاجة له، وفي يده الدرة، وما معه غيري. قال وهو يحدث نفسه، ويضرب وحشي قدمه بدرته، قال إذ التفت إلى فقال: يا بن عباس، هل تدري ما حملني على مقالتي هذه التي قلت حين توفي الله رسوله؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين؛ أنت أعلم، قال: والله إن حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية: " وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا "؛ فو الله إني كنت لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها؛ فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت.
ذكر جهاز رسول الله ﷺ ودفنه
قال أبو جعفر: فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله ﷺ، فقال بعضهم: كان ذلك من فعلهم يوم الثلاثاء؛ وذلك الغد من وفاته ﷺ.
وقال بعضهم: إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام، وقد مضى ذكر بعض قائلي ذلك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر وكثير بن عبد الله وغيرهما من أصحابه، عمن يحدثه؛ عن عبد الله بن عباس، أن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب والفضل ابن العباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله ﷺ هم الذين ولوا غسله، وإن أوس بن خولي أحد بني عوف ابن الخزرج؛ قال لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله يا علي؛ وحظنا من رسول الله! وكان أوس من أصحاب بدر؛ وقال: ادخل؛ فدخل فحضر غسل رسول الله ﷺ؛ فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم هم الذين يقبلونه معه؛ وكان أسامة بن زيد وشقران مولياه هما اللذان يصبان الماء، وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه من ورائه، لا يفضى بيده إلى رسول الله ﷺ وعلي يقول: بأبي أنت وأمي! ما أطيبك حيًا وميتًا! ولم ير من رسول الله شيء مما يرى من الميت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى ابن عباد، عن أبيه عباد، عن عائشة، قالت: لما أرادوا أن يغسلوا النبي ﷺ اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه! فلما اختلفوا ألقي عليهم السنة حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدري من هو: أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه؛ قالت: فقاموا إلى رسول الله ﷺ فغسلوه وعليه قميصه يصبون عليه الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.
قال: فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن جعفر ابن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده علي بن حسين. قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، عن علي بن حسين، قال: فلما فرغ من غسل رسول الله ﷺ كفن في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين وبرد حبرة؛ أدرج فيها إدراجا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله ﷺ - وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد ابن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد - فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وللآخر: اذهب إلى أبي طلحة؛ اللهم خر لرسولك؛ قال: فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله ﷺ. فلما فرغ من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته؛ وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه؛ فقال قائل: ندفنه في مسجده، وقال قائل: يدفن مع أصحابه؛ فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((ما قبض نبي إلا يدفن حيث قبض))؛ فرفع فراش رسول الله الذي توفي عليه؛ فحفر له تحته؛ ودخل الناس على رسول الله يصلون عليه أرسالا؛ حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان؛ ثم أدخل العبيد؛ ولم يؤم الناس على رسول الله ﷺ أحد، ثم دفن رسول الله ﷺ من وسط الليل ليلة الأربعاء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن فاطمة بنت محمد بن عمارة، امرأة عبد الله - يعني ابن أبي بكر - عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: ما علمنا بدفن رسول الله ﷺ حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء.
قال ابن إسحاق: وكان الذي نزل قبر رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله ﷺ؛ وقد قال أوس بن خولي: أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله! فقال له: انزل فنزل مع القوم؛ وقد كان شقران مولى رسول الله ﷺ حين وضع رسول الله ﷺ في حفرته، وبني عليه؛ قد أخذ قطيفة كان رسول الله يلبسها ويفترشها؛ فقذفها في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك أبدًا. قال: فدفنت مع رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وكان المغيرة بن شعبة يدعى أنه أحدث الناس عهدًا برسول الله ﷺ، ويقول: أخذت خاتمي فألقيته في القبر، وقلت: إن خاتمي قد سقط، وإنما طرحته عمدًا لأمس رسول الله، فأكون آخر الناس به عهدًا.
حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه إسحاق بن يسار، عن مقسم أبي القاسم، مولى عبد الله بن الحارث ابن نوفل، عن مولاه عبد الله بن الحارث، قال: اعتمرت مع علي بن أبي طالب في زمان عمر - أو زمان عثمان - فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب، فلما فرغ من عمرته رجع وسكبت له غسلا فاغتسل؛ فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق؛ فقالوا، يا أبا الحسن؛ جئنا نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به! فقال: أظن المغيرة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهدًا برسول الله ﷺ! قالوا: أجل، عن ذا جئنا نسألك! قال: كذب؛ كان أحدث الناس عهدًا برسول الله قثم بن العباس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح ابن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة، قالت: كان على رسول الله ﷺ خميصة سوداء حين اشند به وجعه، قالت: فهو يضعها مرة على وجهه، ومرة يكشفها عنه، ويقول: قاتل الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد! يحذر ذلك على أمته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح ابن كيسان، عن الزهري، عن عبيد اله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة، قالت: كان آخر ما عهد رسول الله ﷺ أنه قال: لا يترك بجزيرة العرب دينان.
قالت: وتوفي رسول الله ﷺ لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، في اليوم الذي قدم فيه المدينة مهاجرًا فاستكمل في هجرته عشر سنين كوامل.
واختلف في مبلغ سنه يوم توفي ﷺ، فقال بعضهم: كان له يومئذ ثلاث وستون سنة.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - عن أبي جمرة، عن ابن عباس، قال: أقام رسول الله ﷺ بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، وبالمدينة عشرًا؛ ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن أبي جمرة، عن أبيه، قال: عاش رسول الله ﷺ ثلاثًا وستين سنة.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: أنزل على رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وأقام بمكة عشرًا، وبالمدينة عشرًا، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين.
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا أبو جمرة الضبعي، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، وبالمدينة عشرًا، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنى عمي عبد الله، قال: حدثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: توفي رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين.
وقال آخرون: كان له يومئذ خمس وستون.
ذكر من قال ذلك
حدثني زياد بن أيوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قبض النبي ﷺ وهو ابن خمس وستين.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن دغفل - يعني ابن حنظلة - أن النبي ﷺ توفي وهو ابن خمس وستين سنة.
وقال آخرون: بل كان له يومئذ ستون سنة.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله ﷺ وهو ابن أربعين، ومات وهو ابن ستين.
حدثنا الحسين بن نصر، قال: أخبرنا عبيد الله، قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال: حدثتني عائشة وابن عباس، أن رسول الله ﷺ لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرًا.
ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفي فيهما رسول الله ﷺ
قال أبو جعفر: حدثنا عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني، قال: حدثنا أحمد بن أبي طيبة؛ قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي ﷺ استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع، فأراهم مناسكهم، فلما كان العام المقبل حج رسول الله ﷺ حجة الوداع سنة عشر؛ وصدر إلى المدينة، وقبض في ربيع الأول.
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي ﷺ يوم الاثنين، واستنئ يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثني أبي، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: توفي رسول الله ﷺ في شهر ربيع الأول في اثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء.
حدثني أحمد بن عثمان، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه دخل عليه فقال لامرأته فاطمة: حدثي محمدًا ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن. فقالت: سمعت عمرة تقول: سمعت عائشة تقول: دفن نبي الله ﷺ ليلة الأربعاء؛ وما علمنا به حتى سمعنا صوت المساحي.
ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمارة في سقيفة بني ساعدة
حدثنا هشام بن محمد، عن أبي محنف، قال: حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، أن النبي ﷺ لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد عليه السلام سعد بن عبادة، وأخرجوا سعدًا إليهم وهو مريض؛ فلما اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواى أن أسمع القوم كلهم كلامي؛ ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه؛ فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع صوته فيسمع أصحابه، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار؛ لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب؛ إن محمدًا عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان؛ فما آمن به من قومه إلا رجال قليل؛ وكان ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله؛ ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به؛ حتى إذا أراد بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه؛ والجهاد لأعدائه؛ فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم؛ حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا؛ وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا؛ حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب؛ وتوفاه الله وهو عنكم راض؛ وبكم قرير عين. استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس.
فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، ونوليك هذا الأمر، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا. ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون؛ ونحن عشيرته وأولياؤه؛ فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذًا: منا أمير ومنكم أمير؛ ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدًا. فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن!.
وأتى عمر الخبر، فأقبل إلى منزل النبي ﷺ، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار وعلي بن أبي طالب عليه السلام دائب في جهاز رسول الله ﷺ؛ فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلى، فأرسل إليه: إني مشتغل؛ فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره؛ فخرج إليه، فقال: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة؛ وأحسنهم مفالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير! فمضيا مسرعين نحوهم؛ فلقيا أبا عبيدة بن الجراح؛ فتماشوا إليهم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فقالوا: لا نفعل، فجاءوا وهم مجتمعون. فقال عمر بن الخطاب: أتيناهم - وقد كنت زورت كلامًا أردت أن أقوم به فيهم - فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو بكر: رويدًا حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت. فنطق، فقال عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه.
فقال عبد الله بن عبد الرحمن: فبدأ أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه؛ ثم قال: إن الله بعث محمدًا رسولًا إلى خلقه، وشهيدًا على أمته، ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى؛ ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة؛ وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثم قرأ: " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله "، وقالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى "؛ فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة له، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم؛ وتكذيبهم إياهم؛ وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم؛ وإجماع قومهم عليهم؛ فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول؛ وهم أولياء وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده؛ ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولاسابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه؛ فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا نقضى دونكم الأمور.
قال: فقام الحباب بن المنذر بن الجموح، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم؛ فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم؛ ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة؛ وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون؛ ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم؛ وينتقض عليكم أمركم؛ فإن أبي هؤلاء إلا ما سمعتم؛ فمنا أمير ومنهم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم؛ ولكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وولى أمورهم منهم؛ ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين؛ من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف إثم، ومتورط في هلكة! فقام الحباب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر؛ فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور؛ فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم؛ فإنه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين؛ أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب! أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة؛ فقال عمر: إذًا يقتلك الله! قال: بل إياك يقتل! فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار؛ إنكم أول من نصر وآزر؛ فلا تكونوا أول من بدل وغير.
فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار؛ إنا والله لئن كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين؛ ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا؛ والكدح لأنفسنا؛ فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا؛ فإن الله ولى المنة علينا بذلك؛ ألا إن محمدًا ﷺ من قريش، وقومه أحق به وأولى. وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم! فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا. فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك؛ فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة؛ والصلاة أفضل دين المسلمين؛ فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك! ابسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب ابن المنذر: يا بشير بن سعد: عقتك عقاق؛ ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فقال: لا والله؛ ولكني كرهت أن أنازع قومًا حقًا جعله الله لهم.
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض، وفيهم أسيد ابن حضير - وكان أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة؛ ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبًا أبدًا، فقوموا فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثنى أبو بكر بن محمد الخزاعي، أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك، فبايعوا أبا بكر؛ فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر.
قال هشام، عن أبي مخنف: قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدًا لا تطئوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله! ثم قام على رأسه، فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تنذر عضدك، فأخذ سعد بليحة عمر، فقال: والله لو حصصت منه شعره ما رجعت وفي فيك واضحة؛ فقال أبو بكر: مهلًا يا عمر! الرفق ها هنا أبلغ. فأعرض عنه عمر. وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض، لسمعت منى في أقطارها وسككها زئيرًا يجحرك وأصحابك؛ أما والله إذًا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعًا غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه في داره، وترك أيامًا ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك؛ فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي؛ فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم، حتى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي.
فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع. فقال له بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى؛ وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته؛ فاتركوه فليس تركه بضاركم؛ إنما هو رجل واحد. فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه؛ فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم؛ فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله.
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف ابن عمر، عن سهل وأبي عثمان، عن الضحاك بن خليفة، قال: لما قام الحباب ابن المتذر انتضى سيفه؛ وقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؛ أنا أبو شبل في عريسة الأسد، يعزى إلى الأسد. فحامله عمر فضرب يده، فندر السيف، فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد؛ وتتابع القوم على البيعة؛ وبايع سعد؛ وكانت فلتة كفلتات الجاهلية؛ قام أبو بكر دونها. وقال قائل حين أوطئ سعد: قتلتم سعدًا، فقال عمر: قتله الله! إنه منافق، واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه.
حدثنا عبيد الله بن سعيد، قال: حدثني عمي يعقوب، قال: حدثنا سيف، عن مبشر، عن جابر، قال: قال سعد بن عبادة يومئذ لأبي بكر: إنكم يا معشر المهاجرين حسدتموني على الإمارة؛ وإنك وقومي أجبرتموني على البيعة، فقالوا: إنا لو أجبرناك على الفرقة فصرت إلى الجماعة كنت في سعة؛ ولكنا أجبرنا على الجماعة، فلا إقالة فيها؛ لئن نزعت يدًا من طاعة، أو فرقت جماعة، لنضربن الذي فيه عيناك.
ذكر أمر أبي بكر في أول خلافته
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى، قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر - عن أبي ضمرة، عن أبيه، عن عاصم بن عدي، قال: نادى منادي أبي بكر، من بعد الغد من متوفى رسول الله ﷺ: ليتم بعث أسامة؛ ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف. وقام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يأيها الناس، إنما أنا مثلكم؛ وإني لا أدري لعكم ستكلفونني ما كان رسول الله ﷺ يطيق؛ إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع؛ فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني؛ وإن رسول الله ﷺ قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها؛ ألا وإن لي شيطانًا يعتريني؛ فإذا أتاني فاجتنبوني؛ لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم؛ وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه؛ فإن استطعتم ألا يمضى هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا؛ ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال؛ فإن قومًا نسوا آجالهم، وجعلوا أعمالهم لغيرهم؛ فإياكم أن تكونوا أمثالهم. الجد الجد! والوحا الوحا! والنجاء النجاء! فإن وراءكم طالبا حثيثًا، أجلًا مره سريع. احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات.
وقام أيضًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه؛ فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها، وخطأ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية؛ لحين فقركم وحاجتكم. اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم. أين كانوا أمس، وأين هم اليوم! أين الجبارون! وأين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب! قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميمًا؛ قد تركت عليهم القالات؛ الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؛ قد بعدوا ونسى ذكرهم، وصاروا كلا شيء. ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفًا بعدهم؛ فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا؛ وإن اغتررنا كنا مثلهم! أين الوضاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم! صاروا ترابًا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم! أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب! قد تركوها لمن خلفهم؛ فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا! أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؛ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما فدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة فيما بعد الموت. ألا إلا الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه به سوءًا، إلا بطاعته واتباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مدينون، وإن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته؛ أما أنه لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة.
حدثني عبيد الله بن سعد، قال: أخبرني عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: أخبرنا سيف - عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: لما بويع أبو بكر رضي الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال: ليتم بعث أسامة؛ وقد ارتدت العرب؛ إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة؛ ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم ﷺ وقلتهم، وكثرة عدوهم. فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين والعرب - على ما ترى - قد انتقضت بك؛ فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين. فقال أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ﷺ، ولو لم يبق في القرى غيري فنفذته!
حدثني عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن عطية، عن أبي أيوب عن علي، وعن الضحاك عن ابن عباس، قالا: ثم اجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية، وخرجوا وخرج أهل المدينة في جند أسامة؛ فحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسالح حول قبائلهم وهم قليل.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما؛ عن الحسن بن أبي الحسن البصري، قال: ضرب رسول الله ﷺ قبل وفاته بعثًا على أهل المدينة ومن حولهم؛ وفيهم عمر ابن الخطاب، وأمر عليهم أسامة بن زيد. فلم يجاوز آخرهم الخندق، حتى قبض رسول الله ﷺ، فوقف أسامة بالناس، ثم قال لعمر: ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه؛ يأذن لي أن أرجع بالناس؛ فإن معت وجوه الناس وحدهم؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن ينخطفهم المشركون. وقالت الأنصار: فإن أبي إلا أن نمضى فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلًا أقدم سنًا من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر، لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله ﷺ! قال: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلًا أقدم سنًا من أسامة؛ فوثب أبو بكر - وكان جالسًا - فأخذ بلحية عمر، فقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله ﷺ وتأمرني أن أنزعه! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا، ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن! فقال: والله لا تنزل ووالله لا أركب! وما علي أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترتفع له، وترفع عنه سبعمائة خطيئة! حتى إذا انتهى قال: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل! فأذن له، ثم قال: يأيها الناس، قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام؛ فإذا أكلتم منها شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب؛ فاخفقوهم بالسيف خفقًا. اندفعوا باسم الله، أفناكم الله بالطعن والطاهون.
حدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - وأخبرنا عبيد الله، قال: أخبرني عمي، قال: حدثنا سيف - عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: خرج أبو بكر إلى الجرف، فاستقرى أسامة وبعثه، وسأله عمر فأذن له، وقال له: اصنع ما أمرك به نبي الله ﷺ، ابدأ ببلاد قضاعة ثم إيت آبل، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله ﷺ، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده. فمضى أسامة مغذًا على ذي المروة والوادي، وانتهى إلى ما أمره به النبي ﷺ من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل، فسلم وغنم، وكان فراغه في أربعين يومًا سوى مقامه ومنقلبه راجعًا.
فحدثني السري بن يحيى، قال: حدثنا شعيب، عن سيف - وحدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف - عن موسى بن عقبة، عن المغيرة بن الأخنس.
وعنهما، عن سيف، عن عمرو بن قيس، عن عطاء الخراساني مثله.
بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي
كان رسول الله ﷺ جمع - فيما بلغنا - لباذام حين أسلم وأسلمت اليمن عمل اليمن كلها، وأمره على جميع مخالفيها، فلم يزل عامل رسول الله ﷺ أيام حياته، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها، ولا أشرك معه فيها شريكًا حتى مات باذام، فلما مات فرق عملها بين جماعة من أصحابه.
فحدثني عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا سيف - وحدثني السري بن يحيى، قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم، عن سيف - قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن أبيه، عن عبيد بن صخر ابن لوذان الأنصاري السلمى - وكان فيمن بعث النبي ﷺ مع عمال اليمن في سنة عشر بعد ما حج حجة التمام: وقد مات باذام، فلذلك فرق عملها بين شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمداني، وعبد الله بن قيس أبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد بن العاص، والطاهر بن أبي هالة، ويعلى بن أمية، وعمر بن حزم، وعلى بلاد حضر موت زياد بن لبيد البياضى وعكاشة بن ثور بن أصغر الغوثي؛ على السكاسك والسكون ومعاوية ابن كندة، وبعث معاذ بن جبل معلمًا لأهل البلدين: اليمن وحضر موت.
حدثني عبيد الله، قال: أخبرني عمي، قال: أخبرني سيف - يعني ابن عمر - عن أبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة، عن عبادة بن قرص بن عبادة، عن قرص الليثي، أن النبي ﷺ رجع إلى المدينة بعد ما قضى حجة الإسلام، وقد وجه إمارة اليمن وفرقها بين رجال، وأفراد كل رجل بحيزه، ووجه إمارة حضر موت وفرقها بين ثلاثة، وأفرد كل واحد منهم بحيزه، واستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورمع وزبيد، وعامر بن شهر على همدان، وعلى صنعاء ابن باذام، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى الأشعري، وعلى الجند يعلى بن أمية. وكان معاذ معلمًا يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت؛ واستعمل على أعمال حضر موت؛ على السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلى بني معاوية بن كندة عبد الله - أو المهاجر - فاشتكى فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر. وعلى حضرموت زياد بن لبيد البياضي، وكان زياد يقوم على عمل المهاجر؛ فمات رسول الله ﷺ وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت؛ إلا من قتل في قتال الأسود أو مات؛ وهو باذام، مات ففرق النبي ﷺ العمل من أجله. وشهر ابنه - يعني ابن باذام - فسار إليه الأسود فقاتله فقتله.
وحدثني بهذا الحديث السري، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف. فقال فيه: عن سيف، عن أبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة. ثم سائر الحديث بإسناده مثل حديث ابن سعد الزهري.
قال: حدثني السري، قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أول من اعترض على العنسى وكاثره عامر بن شهر الهمداني في ناحيته وفيروز ودا ذويه في ناحيتهما، ثم تتابع الذين كتب إليهم على ما أمروا به.
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرني سيف، قال. وحدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف، عن أبيه، عن عبيد بن صخر، قال: فبينا نحن بالجند قد أقمناهم على ما ينبغي؛ وكتبنا بيننا وبينهم الكتب، إذ جاءنا كتاب من الأسود: أيها المتوردون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم؛ فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه. فقلنا للرسول: من أين جئت؟ قال: من كهف خبان. ثم كان وجهه إلى نجران؛ حتى أخذها في عشر لمخرجه، وطابقه عوام مذحج. فبينا نحن ننظر في أمرنا، ونجمع جمعنا، إذ أتينا فقيل: هذا الأسود بشعوب، وقد خرج إليه شهر بن باذام؛ وذلك لعشرين ليلة من منجمه. فبينا نحن ننتظر الخبر على من تكون الدبرة، إذ أتانا أنه قتل شهرًا، وهزم الأبناء، وغلب على صنعاء لخمس وعشرين ليلة من منجمه. وخرج معاذ هاربًا، حتى مر بأبي موسى وهو بمأرب، فاقتحما حضرموت؛ فأما معاذ فإنه نزل في السكون؛ وأما أبو موسى فإنه نزل في السكاسك مما يلي المفور والمفازة بينهم وبين مأرب، وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطاهر إلا عمرًا وخالدًا؛ فإنهما رجعا إلى المدينة؛ والطاهر يومئذ في وسط بلاد عك بحيال صنعاء. وغلب الأسود على ما بين صهيد - مفازة حضرموت - إلى عمل الطائف إلى البحرين قبل عدن، وطابقت عليه اليمن، وعك بتهامة معترضون عليه؛ وجعل يستطير استطارة الحريق، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرًا سوى الركبان؛ وكان قواده قيس بن عبد يغوث المرادي ومعاوية بن قيس لبجنبي ويزيد بن محرم ويزيد بن حصين الحارثي ويزيد بن الأفكل الأزدي. وثبت ملكه واستغلظ أمره، ودانت له سواحل من السواحل؛ حاز عثر والشرجة والحردة وغلافقة وعدن، والجند؛ ثم صنعاء إلى عمل الطائف، إلى الأحسية وعليب؛ وعامله المسلمون بالبقية، وعامله أهل الردة بالكفر والرجوع عن الإسلام. وكان خليفته في مذحج عمرو بن معد يكرب، وأسند أمره إلى نفر؛ فأما أمر جنده فإلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز وداذويه.
فلما أثخن في الأرض اسنخف بقيس وبفيروز وداذويه، وتزوج امرأة شهر؛ وهي ابنة عم فيروز؛ فبينا نحن كذلك بحضرموت - ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود، أو يبعث إلينا جيشًا، أو يخرج بحضرموت خارج يدعى بمثل ما ادعى به الأسود، فنحن على ظهر، تزوج معاذ إلى بني بكرة؛ حي من السكون، امرأة أخوالها بنو زنكبيل يقال لها رملة، فحدبوا لصهره علينا، وكان معاذ بها معجبًا، فإن كان ليقول فيما يدعو الله به: اللهم ابعثني يوم القيامة مع السكون، ويقول أحيانًا: اللهم اغفر للسكون - إذ جاءتنا كتب النبي ﷺ يأمرنا فيها أن نبعث الرجال لمجاولته أو لمصاولته؛ ونبلغ كل من رجا عنده شيئًا من ذلك عن النبي ﷺ. فقام معاذ في ذلك بالذي أمر به، فعرفنا القوة ووثقنا بالنصر.
حدثنا السري، قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا سيف - وحدثني عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف - قال: أخبرنا المستنير ابن يزيد، عن عروة بن غزية الدثيني، عن الضحاك بن فيروز - قال السري: عن جشيش بن الديلمى، وقال عبيد الله: عن جشنس بن الديلمي - قال: قدم علينا وبر بن يحنس بكتاب النبي ﷺ، يأمرنا فيه بالقيام على ديننا، والنهوض في الحرب، والعمل في الأسود: إما غيلة وإما مصادمة؛ وأن نبلغ عنه من رأينا أن عنده نجدة ودينًا. فعلمنا في ذلك، فرأينا أمرًا كثيفًا، ورأيناه قد تغير لقيس بن عبد يغوث - وكان على جنده - فقلنا: يخاف على دمه؛ فهو لأول دعوة؛ فدعوناه وأنبأناه الشأن، وأبلغناه عن النبي ﷺ؛ فكأنما وقعنا عليه من السماء، وكان في غم وضيق بأمره؛ فأجابنا إلى ما أحيينا من ذلك، وجاءنا وبر بن يحنس، وكاتبنا الناس ودعوناهم؛ وأخبره الشيطان بشيء، فأرسل إلى قيس وقال: يا قيس، ما يقول هذا؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته؛ حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك؛ وحاول ملكك وأضمر على الغدر؟ إنه يقول: يا أسود يا أسود؟! يا سوءة يا سوءة! اقطف قنته، وخذ من قيس أعلاه؛ وإلا سلبك أو قطف قنتك. فقال قيس - وحلف به: كذب وذي الخمار؛ لأنت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي؛ فقال: ما أجفاك! أتكذب الملك! قد صدق الملك؛ وعرفت الآن أنك تائب مما اطلع عليه منك.
ثم خرج فأتانا، فقال: يا جشيش، ويا فيروز، وياداذويه؛ إنه قد قال وقلت؛ فما الرأى؟ فقلنا: نحن على حذر؛ فإنا في ذلك؛ إذ أرسل إلينا، فقال: ألم أشرفكم على قومكم، ألم يبلغنى عنكم! فقلنا: أقلنا مرتنا هذه، فقال: لا يبلغنى عنكم فأقتلكم؛ فنجونا ولم نكد؛ وهو في ارتياب من أمرنا وأمر قيس؛ ونحن في ارتياب وعلى خطر عظيم؛ إذ جاءنا اعتراض عامر ابن شهر وذي زود وذي مران وذي الكلاع وذي ظليم عليه، وكاتبونا وبذلوا لنا النصر؛ وكاتبناهم وأمرناهم ألا يحركوا شيئًا حتى نبرم الأمر - وإنما اهتاجوا لذلك حين جاء كتاب النبي ﷺ؛ وكتب النبي ﷺ إلى أهل نجران؛ إلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب؛ فثبتوا فتنحوا وانضموا إلى مكان واحد - وبلغه ذلك، وأحسن بالهلاك، وفرق لنا الرأى. فدخلت على آذاذ؛ وهي امرأته، فقلت: يا ابنة عم؛ قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك؛ قتل زوجك، وطأطأ في قومك القتل، وسفل بمن بقي منهم؛ وفضح النساء؛ فهل عندك من ممالأة عليه! فقالت: على أي أمره؟ قلت: إخراجه، قالت: أو قتله، قلت: أو قتله، قالت: نعم والله ما خلق الله شخصًا أبغض إلى منه؛ ما يقوم لله على حق، ولا ينتهي له عن حرمة؛ فإذا عزمتم فأعلموني أخبركم بمأتى هذا الأمر. فأخرج فإذا فيروز وداذويه ينتظراني، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه، فقال له رجل قبل أن يجلس إلينا: الملك يدعوك، فدخل في عشرة من مذحج وهمدان، فلم يقدر على قتله معهم - قال السري في حديثه: فقال: يا عيهلة بن كعب بن غوث، وقال عبيد الله في حديثه: يا عبهلة بن كعب بن غوث - أمنى تحصن بالرجال! ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذابة! إنه يقول: يا سوءة يا سوءة! إلا تقطع من قيس يده يقطع قنتك العليا؛ حتى ظن أنه قاتله؛ فقال: إنه ليس من الحق أن أقتلك وأنت رسول الله، فمر بي بما أحببت؛ فأما الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة أن تقتلني - قال الزهري: فإما قتلتني فموتة، وقال السري: اقتلني فموتة أهون على من موتات أموتها كل يوم - فرق له فأخرجه، فخرج علينا فأخبرنا وواطأنا، وقال: اعلموا عملكم؛ وخرج علينا في جمع، فقمنا مثولا له، وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخط خطًا فأقيمت من ورائه، وقام من دونها، فنحرها غير محبسة ولا معقلة، ما يقنحم الخط منها شيء، ثم خلاها فجالت إلى أن زهقت؛ فما رأيت أمرًا كان أفظع منه، ولا يومًا أوحش منه. ثم قال: أحق ما بلغني عنك يا فيروز؟ وبوأ له الحربة - لقد هممت أن أنحرك فأتبعك هذه البهيمة، فقال: اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء؛ فلو لم تكن نبيًا ما بعنا نصيبنا منك بشيء؛ فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر آخرة ودنيا؛ لا تقبلن علينا أمثال ما يبلغك؛ فإنا بحيث تحب. فقال: اقسم هذه؛ فأنت أعلم بمن ها هنا، فاجتمع إلى أهل صنعاء، وجعلت آمر للرهط بالجزور ولأهل البيت بالبقرة، ولأهل الحلة بعدة، حتى أخذ أهل كل ناحية بقسطهم. فلحق به قبل أن يصل إلى داره - وهو واقف على - رجل يسعى إليه بفيروز؛ فاستمع له، واستمع له فيروز وهو يقول: أنا قاتله غدًا وأصحابه؛ فاغد علي، ثم التفت فإذا به، فقال: مه! فأخبره بالذي صنع، فقال: أحسنت، ثم ضرب دابته داخلًا، فرجع إلينا فأخبرنا الخبر، فأرسلنا إلى قيس؛ فجاءنا؛ فأجمع ملؤهم أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا لتخبرنا بما تأمر؛ فأتيت المرأة وقلت: ما عندك؟ فقالت: هو متحرز متحرس؛ وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت؛ فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق؛ فإذا أمسيتم فانقبوا عليه؛ فإنكم من دون الحرس؛ وليس دون قتله شيء. وقالت: إنكم ستجدون فيه سراجًا وسلاحًا. فخرجت فتلقاني الأسود خارجًا من بعض منازله، فقال لي: ما أدخلك علي؟ ووجأ رأسي حتى سقطت - وكان شديدًا وصاحت المرأة فأدهشته عني؛ ولولا ذلك لقتلني. وقالت: ابن عمي جاءني زائرًا، فقصرت بي! فقال: اسكتي لا أبا لك، فقد وهبته لك! فتزايلت عني، فأتيت أصحابي فقلت: النجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر؛ فإنا على ذلك حيارى إذ جاءني رسولها: لا تدعن ما فارقتك عليه؛ فإني لم أزل به حتى اطمأن؛ فقلنا لفيروز: ائتها فتثبت منها؛ فإما أنا فلا سبيل لي إلى الدخول بعد النهي. ففعل، وإذا هو كان أفطن مني؛ فلما أخبرته قالت: وكيف ينبغي لنا أن ننقب على بيوت مبطنة! ينبغي لنا أن نقلع بطانة البيت؛ فدخلا فاقتلعا البطانة، ثم أغلقاه؛ وجلس عندها كالزائر؛ فدخل عليها الأسود فاستخفته غيرة، وأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم، فصاح به وأخرجه. وجاءنا بالخبر؛ فلما أمسينا عملنا في أمرنا؛ وقد واطأنا أشياعنا، وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين؛ فنقبنا البيت من خارج، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة؛ واتقينا بفيروز؛ وكان أنجدنا وأشدنا - فقلنا: انظر ماذا ترى! فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه في مقصورة؛ فلما دنا من باب البيت سمع غطيطًا شديدًا، وإذا المرأة جالسة؛ فلما قام على الباب أجلسه الشيطان فكلمه على لسانه - وإنه ليغط جالسًا. وقال أيضًا: مالي ولك يا فيروز! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل؛ فأخذ برأسه فقتله، فدق عنقه، ووضع ركبته في ظهره فدقه، ثم قام ليخرج؛ فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله، فقالت: أين تدعني! قال: أخبر أصحابي بمقتله؛ فأتانا فقمنا معه؛ فأردنا حز رأسه؛ فحركه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه؛ فقلت: اجلسوا على صدره؛ فجلس اثنان على صدره، وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة فألجمته بمئلاة؛ وأمر الشفرة على حلقه فخار كأشد خوار ثور سمعته قط؛ فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة، فقالوا: ما هذا، ما هذا! فقالت المرأة: النبي يوحى إليه! فخمد. ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا، ليس غيرنا ثلاثتنا: فيروز وداذويه وقيس؛ فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا، ثم ينادى بالأذان، فلما طلع الفجر نادى داذويه بالشعار، ففزع المسلمون والكافرون، وتجمع الحرس فأحاطوا بنا، ثم ناديت بالأذان، وتوافت خيولهم إلى الحرس، فناديتهم: أشهد أن محمدًا رسول الله؛ وأن عبهلة كذاب! وألقينا إليهم رأسه، فأقام وبر الصلاة، وشنها القوم غارةً؛ ونادينا: يا أهل صنعاء، من دخل عليه داخل فتعلقوا به، ومن كان عنده منهم أحد فتعلقوا به. ونادينا بمن في الطريق: تعلقوا بمن استطعتم! فاختطفوا صبيانًا كثيرين؛ وانتهبوا ما انتهبوا، ثم مضوا خارجين؛ فلما برزوا فقدوا منهم سبعين فارسًا ركبانا؛ وإذا أهل الدور والطرق وقد وافونا بهم؛ وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أن يتركوا لنا ما في أيديهم، ونترك لهم ما في أيدينا؛ ففعلوا فخرجوا لم يظفروا منا بشيء؛ فترددوا فيما بين صنعاء ونجران، وخلصت صنعاء والجند، وأعز الله الإسلام وأهله؛ وتنافسنا الإمارة؛ وتراجع أصحاب النبي ﷺ إلى أعمالهم؛ فاصطلحنا على معاذ بن جبل، فكان يصلى بنا، وكتبنا إلى رسول الله ﷺ بالخبر؛ وذلك في حياة النبي ﷺ. فأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا؛ وقد مات النبي ﷺ صبيحة تلك الليلة؛ فأجابنا أبو بكر رحمه الله. لا سبيل لي إلى الدخول بعد النهي. ففعل، وإذا هو كان أفطن مني؛ فلما أخبرته قالت: وكيف ينبغي لنا أن ننقب على بيوت مبطنة! ينبغي لنا أن نقلع بطانة البيت؛ فدخلا فاقتلعا البطانة، ثم أغلقاه؛ وجلس عندها كالزائر؛ فدخل عليها الأسود فاستخفته غيرة، وأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم، فصاح به وأخرجه. وجاءنا بالخبر؛ فلما أمسينا عملنا في أمرنا؛ وقد واطأنا أشياعنا، وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين؛ فنقبنا البيت من خارج، ثم دخلنا وفيه سراج تحت جفنة؛ واتقينا بفيروز؛ وكان أنجدنا وأشدنا - فقلنا: انظر ماذا ترى! فخرج ونحن بينه وبين الحرس معه في مقصورة؛ فلما دنا من باب البيت سمع غطيطًا شديدًا، وإذا المرأة جالسة؛ فلما قام على الباب أجلسه الشيطان فكلمه على لسانه - وإنه ليغط جالسًا. وقال أيضًا: مالي ولك يا فيروز! فخشى إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة، فعاجله فخالطه وهو مثل الجمل؛ فأخذ برأسه فقتله، فدق عنقه، ووضع ركبته في ظهره فدقه، ثم قام ليخرج؛ فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله، فقالت: أين تدعني! قال: أخبر أصحابي بمقتله؛ فأتانا فقمنا معه؛ فأردنا حز رأسه؛ فحركه الشيطان فاضطرب فلم يضبطه؛ فقلت: اجلسوا على صدره؛ فجلس اثنان على صدره، وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة فألجمته بمئلاة؛ وأمر الشفرة على حلقه فخار كأشد خوار ثور سمعته قط؛ فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة، فقالوا: ما هذا، ما هذا! فقالت المرأة: النبي يوحى إليه! فخمد. ثم سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا، ليس غيرنا ثلاثتنا: فيروز وداذويه وقيس؛ فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا، ثم ينادى بالأذان، فلما طلع الفجر نادى داذويه بالشعار، ففزع المسلمون والكافرون، وتجمع الحرس فأحاطوا بنا، ثم ناديت بالأذان، وتوافت خيولهم إلى الحرس، فناديتهم: أشهد أن محمدًا رسول الله؛ وأن عبهلة كذاب! وألقينا إليهم رأسه، فأقام وبر الصلاة، وشنها القوم غارةً؛ ونادينا: يا أهل صنعاء، من دخل عليه داخل فتعلقوا به، ومن كان عنده منهم أحد فتعلقوا به. ونادينا بمن في الطريق: تعلقوا بمن استطعتم! فاختطفوا صبيانًا كثيرين؛ وانتهبوا ما انتهبوا، ثم مضوا خارجين؛ فلما برزوا فقدوا منهم سبعين فارسًا ركبانا؛ وإذا أهل الدور والطرق وقد وافونا بهم؛ وفقدنا سبعمائة عيل فراسلونا وراسلناهم أن يتركوا لنا ما في أيديهم، ونترك لهم ما في أيدينا؛ ففعلوا فخرجوا لم يظفروا منا بشيء؛ فترددوا فيما بين صنعاء ونجران، وخلصت صنعاء والجند، وأعز الله الإسلام وأهله؛ وتنافسنا الإمارة؛ وتراجع أصحاب النبي ﷺ إلى أعمالهم؛ فاصطلحنا على معاذ بن جبل، فكان يصلى بنا، وكتبنا إلى رسول الله ﷺ بالخبر؛ وذلك في حياة النبي ﷺ. فأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا؛ وقد مات النبي ﷺ صبيحة تلك الليلة؛ فأجابنا أبو بكر رحمه الله.
حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف - عن أبي القاسم الشنوي، عن العلاء بن زياد، عن ابن عمر، قال: أتى الخبر النبي ﷺ من السماء الليلة التي قتل فيها العنسى ليبشرنا، فقال: قتل العنسى البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل: ومن هو؟ قال: فيروز، فاز فيروز! حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف - عن المستنير، عن عروة، عن الضحاك، عن فيروز، قال: قتلنا الأسود، وعاد أمرنا كما كان؛ إلا أنا أرسلنا إلى معاذ، فتراضينا عليه؛ فكان يصلى بنا في صنعاء؛ فو الله ما صلى بنا إلا ثلاثا ونحن راجون مؤملون، لم يبق شيء نكرهه إلا ما كان من تلك الخيول التي تتردد بيننا وبين نجران؛ حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله ﷺ، فانتقضت الأمور؛ وأنكرنا كثيرًا مما كنا نعرف، واضطربت الأرض.
حدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف، عن أبي القاسم وأبي محمد، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني، من جند فلسطين؛ عن عبد الله بن فيروز الديلمي؛ أن أباه حدثه أن النبي ﷺ بعث إليهم رسولًا، يقال له: وبر بن يحنس الأزدي؛ وكان منزله على داذويه الفارسي، وكان الأسود كاهنًا معه شيطان وتابع له، فخرج فنزل على ملك اليمن؛ فقتل ملكها ونكح امرأته وملك اليمن؛ وكان باذام هلك قبل ذلك، فخلف ابنه على أمره، فقتله وتزوجها، فاجتمعت أنا وداذويه وقيس بن المكشوح المرادي عند وبر بن يحنس رسول نبي الله ﷺ نأتمر بقتل الأسود. ثم إن الأسود أمر الناس فاجتمعوا في رحبة من صنعاء، ثم خرج حتى قام في وسطهم، ومعه حربة الملك، ثم دعا بفرس الملك فأوجره الحربة، ثم أرسل فجعل يجري في المدينة ودماؤه تسيل حتى مات. وقام وسط الرحبة؛ ثم دعا بجزر من وراء الخط فأقامها، وأعناقها ورءوسها في الخط ما يجزنه. ثم استقبلهن بحربته فنحرهن فتصدعن عنه؛ حتى فرغ منهن، ثم أمسك حربته في يده، ثم أكب على الأرض، ثم رفع رأسه، فقال: إنه يقول - يعني شيطانه الذي معه: إن ابن المكشوح من الطغاة، يا أسود اقطع قنة رأسه العليا. ثم أكب رأسه أيضًا ينظر، ثم رفع رأسه، فقال: إنه يقول: إن ابن الديلمى من الطغاة؛ يا أسود اقطع يده اليمنى ورجله اليمنى؛ فلما سمعت قوله قلت: والله ما آمن أن يدعو بي، فينحرني بحربته كما نحر هذه الجزر؛ فجعلت أستتر بالناس لئلا يراني، حتى خرجت ولا أدري من حذرى كيف آخذ! فلما دنوت من منزلي لقيني رجل من قومه، فدق في رقبتي، فقال: إن الملك يدعوك وأنت تروغ! ارجع؛ فردني، فلما رأيت ذلك خشيت أن يقتلني. قال: وكنا لا يكاد يفارق رجلا منا أبدًا خنجره، فأدس يدي في خفي، فأخذت خنجري، ثم أقبلت وأنا أريد أن أحمل عليه، فأطعنه به حتى أقتله، ثم أقتل من معه، فلما دنوت منه رأى في وجهي الشر، فقال: مكانك! فوقفت، فقال: إنك أكبر من ها هنا وأعلمهم بأشراف أهلها، فاقسم هذه الجزر بينهم. وركب فانطلق وعلقت أقسم اللحم بين أهل صنعاء، فأتاني ذلك الذي دق في رقبتي، فقال: أعطني منها، فقلت: لا والله ولا بضعة واحدة؛ ألست الذي دققت في رقبتي! فانطلق غضبان حتى أتى الأسود؛ فأخبره بما لقي مني وقلت له. فلما فرغت أتيت الأسود أمشي إليه، فسمعت الرجل وهو يشكوني إليه، فقال له الأسود: أما والله لأذبحنه ذبحًا! فقت له: إني قد فرغت مما أمرتني به، وقسمته بين الناس. قال: قد أحسنت فانصرف. فانصرفت، فبعثنا إلى امرأة الملك: إنا نريد قتل الأسود؛ فكيف لنا! فأرسلت إلى: أن هلم. فأتيتها، وجعلت الجارية على الباب لتؤذننا إذا جاء؛ ودخلت أنا وهي البيت الآخر، فحفرنا حتى نقبنا نقبًا، ثم خرجنا إلى البيت، فأرسلنا الستر، فقلت: إنا نقتله الليلة، فقالت: فتعالوا؛ فما شعرت بشيء حتى إذا الأسود قد دخل البيت؛ وإذا هو معنا؛ فأخذته غيرة شديدة، فجعل يدق في رقبتي، وكفكفته عني، وخرجت فأتيت أصحابي بالذي صنعت، وأيقنت بانقطاع الحيلة عنا فيه؛ إذ جاءنا رسول المرأة؛ ألا يكسرن عليكم أمركم ما رأيتم؛ فإني قد قلت له بعد ما خرجت: ألستم تزعمون أنكم أقوام أحرار لكم أحساب! قال: بلى، فقلت: جاءني أخي يسلم على ويكرمني، فوقعت عليه تدق في رقبته؛ حتى أخرجته، فكانت هذه كرامتك إياه! فم أزل ألومه حتى لام نفسه، وقال: أهو أخوك؟ فقلت: نعم، فقال: ما شعرت؛ فأقبلوا الليلة لما أردتم.
قال الديلمي: فاطمأنت أنفسنا، واجتمع لنا أمرنا؛ فأقبلنا من الليل أنا وداذويه وقيس حتى ندخل البيت الأقصى من النقب الذي نقبنا، فقلت: يا قيس، أنت فارس العرب، ادخل فاقتل الرجل، قال: إني تأخذني رعدة شديدة عند البأس، فأخاف أن أضرب الرجل ضربة لا تغنى شيئًا؛ ولكن ادخل أنت يا فيروز، فإنك أشبنا وأقوانا، قال: فوضعت سيفي عند القوم، ودخلت لأنظر أين رأس الرجل! فإذا السراج يزهر؛ وإذا هو راقد على فرش قد غاب فيها لا أدري أين رأسه من رجليه! وإذا المرأة جالسة عنده كانت تطعمه رمانًا حتى رقد، فأشرت إليها: أين رأسه؟ فأشارت إليه، فأقبلت أمشي حتى قمت عند رأسه لأنظر، فما أدري أنظرت في وجهه أم لا! فإذا هو قد فتح عينيه؛ فنظر إلي، فقلت: إن رجعت إلى سيفي خفت أن يفوتني ويأخذ عدة يمتنع بها مني؛ وإذا شيطانه قد أنذره بمكاني وقد أيقظه، فلما أبطأ كلمني على لسانه؛ وإنه لينظر ويغط، فأضرب بيدي إلى رأسه، فأخذت رأسه بيد ولحيته بيد؛ ثم ألوي عنقه فدققتها؛ ثم أقبلت إلى أصحابي، فأخذت المرأة بثوبي، فقالت: أختكم نصيحتكم! قلت: قد والله قتلته وأرحتك منه. قال: فدخلت على صاحبي فأخبرتهما، قالا: فارجع فاحتز رأسه وائتنا به، فدخلت فبربر فألجمته فحززت رأسه، فأتيتهما به، ثم خرجنا حتى أتينا منزلنا؛ وعندنا وبر بن يحنس الأزدي، فقام معنا حتى ارتقينا على حصن مرتفع من تلك الحصون؛ فأذن وبر بن يحنس بالصلاة، ثم قلنا: ألا إن الله عز وجل قد قتل الأسود الكذاب، فاجتمع الناس إلينا فرمينا برأسه، فلما رأى القوم الذين كانوا معه أسرجوا خيولهم؛ ثم جعل كل واحد منهم يأخذ غلامًا من أبنائنا معه من أهل البيت الذي كان نازلا فيهم؛ فأبصرتهم في الغلس مردفي الغلمان، فناديت أخي وهو أسفل مني مع الناس: أن تعلقوا بمن استطعتم منهم؛ ألا ترون ما يصنعون بالأبناء! فتعلقوا بهم؛ فحبسنا منهم سبعين رجلًا، وذهبوا منا بثلاثين غلامًا، فلما برزوا إذا هم يفقدون سبعين رجلا حين تفقدوا أصحابهم، فأتونا فقالوا: أرسلوا إلينا أصحابنا، فقلنا لهم: أرسلوا إلينا أبناءنا، فأرسلوا إلينا الأبناء، وأرسلنا إليهم أصحابهم.
قال: وقال رسول الله ﷺ لأصحابه: إن الله قد قتل الأسود الكذاب العنسي، قتله بيد رجل من إخوانكم، وقوم أسلموا وصدقوا؛ فكنا كأنا على الأمر الذي كان قبل قدوم الأسود علينا وأمن الأمراء وتراجعوا، واعتذر الناس وكانوا حديثي عهد بالجاهلية.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف - وحدثنى السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف، عن أبيه، عن عبيد بن صخر، قال: كان أول أمره إلى آخره ثلاثة أشهر.
وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف - وحدثنا عبيد الله قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف - عن جابر بن يزيد، عن عروة ابن غزية، عن الضحاك بن فيروز، قال: كان ما بين خروجه بكهف خبان ومقتله نحوًا من أربعة أشهر؛ وقد كان قبل ذلك مستسرًا بأمره. حتى بادى بعد.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء، عن مشيختهم، قالوا: أمضي أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة؛ وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر وهو بالمدينة.
حوادث متفرقة
وقال الواقدي: في هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - قدم وفد النخع في النصف من المحرم على رسول الله ﷺ، رأسهم زرارة بن عمرو، وهم آخر من قدم من الوفود.
وفيها: ماتت فاطمة ابنة رسول الله ﷺ في ليلة الثلاثاء، لثلاث خلون من شهر رمضان؛ وهي يومئذ ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها. وذكر أن أبا بكر بن عبد الله، حدثه عن إسحاق بن عبد الله، عن أبان بن صالح بذلك. وزعم أن ابن جريج حدثه عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، قال: توفيت فاطمة عليها السلام بعد النبي ﷺ بثلاثة أشهر.
قال: وحدثنا ابن جريج، عن الزهري، عن عروة، قال: توفيت فاطمة بعد النبي ﷺ بستة أشهر.
قال الواقدي: وهو أثبت عندنا.
قال: وغسلها علي عليه السلام وأسماء بنت عميس.
قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن حنيف، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت: صلى عليها العباس بن عبد المطلب.
وحدثنا أبو زيد، قال: حدثنا علي، عن أبي معشر، قال: دخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس.
قال: وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، وكان أصابه بالطائف سهم مع النبي ﷺ، رماه أبو محجن، ودمل الجرح حتى انتقض به في شوال؛ فمات.
وحدثني أبو زيد، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو معشر ومحمد ابن إسحاق وجويرية بن أسماء بإسناده الذي ذكرت قبل، قالوا: في العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك أهل فارس عليهم يزد جرد.
قال أبو جعفر: وفيها كان لقاء أبي بكر رحمه الله خارجة بن حصن الفزارى. حدثني أبو زيد، قال: حدثنا علي بن محمد بإسناده الذي ذكرت قبل، قالوا: أقام أبو بكر بالمدينة بعد وفاة رسول الله ﷺ وتوجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة من أرض الشأم؛ وهو الموضع الذي كان رسول الله ﷺ أمره بالمسير إليه؛ لم يحدث شيئًا، وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة، ويمنعون الزكاة. فلم يقبل ذلك منهم وردهم، وأقام حتى قدم أسامة بن زيد بن حارثة بعد أربعين يومًا من شخوصه - ويقال: بعد سبعين يومًا - فلما قدم أسامة بن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وشخص - ويقال استخلف سنانًا الضمري على المدينة - فسار ونزل بذي القصة في جمادى الأولى؛ ويقال في جمادى الآخرة؛ وكان نوفل بن معاوية الديلي بعثه رسول الله ﷺ، فلقيه خارجة بن حصن بالشربة؛ فأخذ ما في يديه؛ فرده على بني فزارة؛ فرجع نوفل إلى أبي بكر بالمدينة قبل قدوم أسامة على أبي بكر. فأول حرب كانت في الردة بعد وفاة النبي ﷺ حرب العنسي؛ وقد كانت حرب العنسي باليمن؛ ثم حرب خارجة بن حصن ومنظور بن زبان بن سيار في غطفان، والمسلمون غارون، فانحاز أبو بكر إلى أجمة فاستتر بها، ثم هزم الله المشركين.
وحدثني عبيد الله، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن المجالد ابن سعيد، قال: لما فضل أسامة كفرت الأرض وتضرمت، وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشًا وثقيفًا.
وحدثني عبيد الله، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما مات رسول الله ﷺ، وفصل أسامة ارتدت العرب عوام أو خواص؛ وتوحى مسيلمة وطليحة، فاستغلظ أمرهما؛ واجتمع على طليحة عوام طيئ وأسد، وارتدت غطفان إلى ما كان من أشجع وخواص من الأفناء فبايعوه، وقدمت هوازن رجلًا وأخرت رجلًا أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف ولفها؛ فإنهم اقتدى بهم عوام جديلة والأعجاز؛ وارتدت خواص من بني سليم؛ وكذلك سائر الناس بكل مكان.
قال: وقدمت رسل النبي ﷺ من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ووفود من كان كاتبه النبي ﷺ، وأمر أمره في الأسود ومسيلمة وطلحة بالأخبار والكتب؛ فدفعوا كتبهم إلى أبي بكر، وأخبروه الخبر، فقال لهم أبو بكر: لا تبرحوا حتى تجئ رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر؛ وانتقاض الأمور. فلم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي ﷺ من كل مكان بانتفاض عامة أو خاصة، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله ﷺ حاربهم بالرسل. فرد رسلهم بأمره، وأتبع الرسل رسلًا؛ وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة؛ وكان أول من صادم عبس وذبيان، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة.
حدثني عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن أبي عمرو، عن زيد بن أسلم، قال: مات رسول الله ﷺ وعماله على قضاعة، وعلى كلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله، وعلى القين عمرو بن الحكم، وعلى سعد هذيم معاوية بن فلان الوائلي.
وقال السري الوالبي: فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب، وبقي امرؤ القيس على دينه، وارتد زميل بن قطبة القيني فيمن آزره من بني القين وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن آزره من سعد هذيم. فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بن فلان - وهو جد سكينة ابنة حسين - فسار لوديعة، وإلى عمرو فأقام لزميل، وإلى معاوية العذري. فلما توسط أسامة بلاد قضاعة، بث الخيول فيهم وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه؛ فخرجوا هرابًا؛ حتى أرزوا إلى دومة، واجتمعوا إلى وديعة، ورجعت خيول أسامة إليه؛ فمضى فيها أسامه. حتى أغار على الحمقتين، فأصاب في بني الضبيب من جذام، وفي بني خيليل من لخم ولفها من القبيلين؛ وحازهم من آبل وانكفأ سالمًا غانمًا.
فحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: مات رسول الله ﷺ؛ واجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة؛ إلا ما كان من خواص أقوام في القبائل الثلاث؛ فاجتمعت أسد بسميراء، وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة، وطيئ على حدود أرضهم. واجتمعت ثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة، وتأشب، إليهم ناس من بني كنانة؛ فلم تحملهم البلاد؛ فافترقوا فرقتين؛ فأقامت فرقة منهم بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بحبال فكان حبال على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج. وكان على مرة بالأبرق عوف بن فلان بن سنان، وعلى ثعلبة وعبس الحارث ابن فلان؛ أحد بني سبيع، وقد بعثوا وفودًا فقدموا المدينة، فنزلوا على وجوه الناس، فأنزلوهم ما خلا عباسًا فتحملوا بهم على أبي بكر؛ على أن يقيموا الصلاة؛ وعلى ألا يؤتوا الزكاة؛ فعزم الله لأبي بكر على الحق، وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه - وكانت عقل الصدقة على أهل الصدقة مع الصدقة - فردهم فرجع وفد من يلى المدينة من المرتدة إليهم، فأخبروا عشائرهم بقلة من أهل المدينة، وأطمعوهم فيها؛ وجعل أبو بكر بعد ما أخرج الوفد على أنقاب المدينة نفرًا: عليًا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود؛ وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد، وقال لهم: إن الأرض كافرة؛ وقد رأى وفدهم منكم قلة؛ وإنكم لا تدرون أليلًا تؤتون أم نهارًا! وأدناهم منكم على بريد. وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم؛ وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا. فما لبثوا إلا ثلاثًا حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل، وخلفوا بعضهم بذي حسي، ليكونوا لهم ردءًا، فوافق الغوار ليلا الأنقاب؛ وعليها المقاتلة، ودونهم أقوام يدرجون، فنبهوهم؛ وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم، ففعلوا. وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفش العدو، فاتبعهم المسلمون على إبلهم؛ حتى بلغوا ذا حسي؛ فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها، وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل؛ فتدهده كل نحي في طوله، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها - ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من الأنحاء - فعاجت بهم ما يملكونها؛ حتى دخلت بهم المدينة؛ فلم يصرع مسلم ولم يصب؛ فقال في ذلك الخطيل بن أوس أخو الحطيئة ابن أوس:
فدى لبني ذبيان رحلى وناقتي ** عشية يحذى بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدى بالرجال فهبنه ** إلى قدر ما إن يزيد ولا يحرى
ولله أجناد تذاق مذاقه ** لتحسب فيما عد من عجب الدهر!
وأنشده الزهري: ((من حسب الدهر)).
وقال عبد الله الليثي؛ وكانت بنو عبد مناة من المرتدة - وهم بنو ذبيان - في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حمى:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا ** فيا لعباد الله ما لأبي بكر!
أيورثها بكرًا إذا مات بعده ** وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه ** وهلا خشيتم حس راغية البكر!
وإن التي سالوكم فمنعتم ** لكالتمر أو أحلى إلى من التمر
فظن القوم القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر؛ فقدموا عليهم اعتمادًا في الذين أخبروهم، وهم لا يشعرون لأمر اله عز وجل الذي أراده، وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ، فعبى الناس، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب؛ فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسًا ولا حسًا حتى وضعوا فيهم السيوف، فاقتتلوا أعجاز ليلتهم؛ فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم؛ وقتل حبال واتبعهم أبو بكر؛ حتى نزل بذي القصة - وكان أول الفتح - ووضع بها النعمان ابن مقرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون؛ فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين؛ فقتلوهم كل قتلة؛ وفعل من وراءهم فعلهم. وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة؛ وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي:
غداة سعى أبو بكر إليهم ** كما يسعى لموتته جلال
أراح على نواهقها عليًا ** ومج لهن مهجته حبال
وقال أيضًا:
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا ** ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها ** صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباحها ** وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
ثم لم يصنع إلا ذلك؛ حتى ازداد المسلمون لها ثباتًا على دينهم في كل قبيلة، وازداد لها المشركون انعكاسًا من أمرهم في كل قبيلة؛ وطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان، الزبرقان، عدي؛ صفوان، ثم الزبرقان، ثم عدي؛ صفوان في أول الليل، والثاني في وسطه، والثالث في آخره. وكان الذي بشر بصفوان سعد بن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف، والذي بشر بعدي عبد الله بن مسعود. وقال غيره: أبو قتادة.
قال: وقال الناس لكلهم حين طلع: نذير، وقال أبو بكر: هذا بشير، هذا حام وليس بوان؛ فإذا نادى بالخير، قالوا: طالما بشرت بالخير! وذلك لتمام ستين يومًا من مخرج أسامة. وقدم أسامة بعد ذلك بأيام لشهرين وأيام، فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وقال له ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم.
ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر؛ فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو؛ فابعث رجلًا، فإن أصيب أمرت آخر، فقال: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي؛ فخرج في تعبيته إلى ذي حسي وذي القصة، والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق؛ فاقتتلوا، فهزم الله الحارث وعوفًا، وأخذ الحطيئة أسيرًا، فطارت عبس وبنو بكر؛ وأقام أبو بكر على الأبرق أيامًا؛ وقد غلب بني ذبيان على البلاد. وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله! وأجلاها. فلما غلب أهل الردة؛ ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة؛ وهي كانت منازلهم لينزلوها، فمنعوا منها فأتوه في المدينة، فقالوا: علام نمنع من نزول بلادنا! فقال: كذبتم، ليست لكم ببلاد؛ ولكنها موهبي ونقذي، ولم يعتبهم، وحمى الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين؛ لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات، فمنع بذلك بعضهم من بعض.
ولما فضت عبس وذبيان أرزوا إلى طليحة وقد نزل طليحة على بزاخة، وارتحل عن سميراء إليها، فأقام عليها؛ وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة:
ويوم بالأبارق قد شهدنا ** على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسوف ** مع الصديق إذ ترك العتابا
حدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع وحرام بن عثمان، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: لما قدم أسامة بن زيد خرج أبو بكر واستخلفه على المدينة، ومضى حتى انتهى إلى الربذة يلقي بني عبس وذبيان وجماعة من بني عبد مناة ابن كنانة، فلقيهم بالأبرق، فقاتلهم فهزمهم الله وفلهم. ثم رجع إلى المدينة، فلما جم جند أسامة، وثاب من حول المدينة خرج إلى ذي القصة فنزل بهم - وهو على بريد من المدينة تلقاء نجد - فقطع فيها الجند، وعقد الألوية، عقد أحد عشر لواء على أحد عشر جندًا، وأمر أمير كل جند باستنفار من مر به من المسلمين من أهل القوة، وتخلف بعض أهل القوة لمنع بلادهم.
حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: لما أراح أسامة وجنده ظهرهم وجموا، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء: عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد؛ فإذا فرغ سار إلى إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له، ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة، وللمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت، ولخالد بن سعيد بن العاص - وكان قدم على تفيئة ذلك من اليمن وترك عمله - وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشأم، ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث، ولحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا ولعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة؛ وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما في عمله على صاحبه، وبعث شرجبيل بن حسنة في أثر عكرمة ابن أبي جهل، وقال: إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة، وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة، ولطريفة بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن، ولسويد بن مقرن وأمره بتهامة اليمن، وللعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين.
كتاب أبي بكر إلى القبائل المرتدة ووصيته للأمراء
ففصلت الأمراء من ذي القصة، ونزلوا على قصدهم، فلحق بكل أمير جنده، وقد عهد إليهم عهده، وكتب إلى من بعث إليه من جميع المرتدة.
حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ وشاركه في العهد والكتاب قحذم؛ فكانت الكتب إلى قبائل العرب المرتدة كتابًا واحدًا:
بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة؛ أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفر من أبي ونجاهده. أما بعد؛ فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين. فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله ﷺ بإذنه من أدبر عنه؛ حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا. ثم توفي الله رسوله ﷺ وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته؛ وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل؛ فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون "، وقال: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون "، وقال للمؤمنين: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين "؛ فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد؛ حي قيوم لا يموت؛ ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، يجزيه. وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاءكم به نبيكم ﷺ، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلي، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالًا؛ قال الله تعالى: " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا "، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به؛ ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل. وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به؛ اغترارًا بالله، وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: " وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلًا ". وقال: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير "؛ وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله؛ فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه وأعانه عليه؛ ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك؛ ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبى النساء والذرارى، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام؛ فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله. وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم؛ والداعية الأذان؛ فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم؛ وإن لم يؤذنوا عاجلوهم؛ وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم؛ فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم؛ وحملهم على ما ينبغي لهم.
فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود، وخرجت الأمراء ومعهم العهود:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقى الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام؛ فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له؛ ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذي لهم؛ لا ينظرهم، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم؛ فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف؛ وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله؛ فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل؛ وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان؛ وحيث بلغ مراغمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام؛ فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله؛ فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه، إلا الخمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونًا، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول.
ذكر بقية الخبر عن غطفان حين انضمت إلى طليحة وما آل إليه أمر طليحة
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: أخبرنا سيف - وحدثني السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف - عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد وبدر بن الخليل وهشام بن عروة، قالوا: لما أرزت عبس وذبيان ولفها إلى البزاخة، أرسل طليحة إلى جديلة والغوث أن ينضموا إليه، فتعجل إليه أناس من الحيين، وأمروا قومهم باللحاق بهم، فقدموا على طليحة، وبعث أبو بكر عديًا قبل توجيه خالد من ذي القصة إلى قومه، وقال: أدركهم لا يؤكلوا. فخرج إليهم فقتلهم في الذروة والغارب، وخرج خالد في أثره، وأمره أبو بكر أن يبدأ بطيئ على الأكناف، ثم يكون وجهه إلى البزاخة، ثم يثلث بالبطاح، ولا يريم إذا فرغ من قوم حتى يحدث إليه، ويأمره بذلك. وأظهر أبو بكر أنه خارج إلى خيبر ومنصب عليه منها حتى يلاقيه بالأكناف، أكناف سلمى؛ فخرج خالد فازوار عن البزاخة، وجنح إلى أجأ، وأظهر أنه خارج إلى خيبر، ثم منصب عليهم، فقعد ذلك طيئًا وبطأهم عن طليحة؛ وقدم عليهم عدي؛ فدعاهم فقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبدًا، فقال: لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم، ولتكننه بالفحل الأكبر؛ فشأنكم به. فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم. فاستقبل عدي خالدًا وهو بالسنح، فقال: يا خالد، أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك؛ وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار؛ وتشاغل بهم؛ ففعل. فعاد عدي إليهم وقد أرسلوا إخوانهم؛ فأتوهم من بزاخة كالمدد لهم؛ ولولا ذلك لم يتركوا؛ فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد، وارتحل خالد نحو الأنسر يريد جديلة، فقال له عدي: إن طيئًا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيئ؛ فأجلني أيامًا لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث؛ ففعل، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه؛ فجاءه بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب؛ فكان خير مولود ولد في أرض طيئ وأعظمه عليهم بركة.
وأما هشام بن الكلبي؛ فإنه زعم أن أبا بكر لما رجع إليه أسامة ومن كان معه من الجيش؛ جد في حرب أهل الردة، وخرج بالناس وهو فيهم حتى نزل بذي القصة؛ منزلا من المدينة على بريد من نحو مجد؛ فعبى هنالك جنوده، ثم بعث خالد بن الوليد على الناس، وجعل ثابت بن قيس على الأنصار، وأمره إلى خالد، وأمره أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن، وهما على بزاخة؛ ماء من مياه بني أسد؛ وأظهر أني ألاقيك بمن معي من نحو خيبر، مكيدة؛ وقد أوعب مع خالد الناس؛ ولكنه أراد أن يبلغ ذلك عدوه فيرعبهم. ثم رجع إلى المدينة، وسار خالد بن الوليد؛ حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم - أحد بني العجلان حليفًا للأنصار - طليعة؛ حتى إذا دنوا من القوم خرج طليحة وأخوه سلمة، ينظران ويسألان: فأما سلمة فلم يمهل ثابتًا أن قتله، ونادى طليحة أخاه حين رأى أن قد فرغ من صاحبه أن أعني على الرجل؛ فإنه آكل؛ فاعتونا عليه، فقتلاه ثم رجعا، وأقبل خالد بالناس حتى مروا بثابت بن أقرم قتيلًا، فلم يفطنوا له حتى وطئته المطئ بأخفافها، فكبر ذلك على المسلمين، ثم نظروا فإذا هم بعكاشة بن محصن صريعًا؛ فجزع لذلك المسلمون، وقالوا: قتل سيدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم؛ فانصرف خالد نحو طيئ.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني سعد بن مجاهد، عن المحل ابن خليفة، عن عدي بن حاتم، قال: بعثت إلى خالد بن الوليد أن سر إلى فأقم عندي أيامًا حتى أبعث إلى قبائل طيئ، فأجمع لك منهم أكثر ممن معك، ثم أصحبك إلى عدوك. قال: فسار إلى.
قال هشام: قال أبو مخنف: حدثنا عبد السلام بن سويد أن بعض الأنصار حدثه أن خالدًا لما رأى ما بأصحابه من الجزع عند مقتل ثابت وعكاشة، قال لهم: هل لكم إلى أميل بكم إلى حي من أحياء العرب؛ كثير عددهم، شديدة شوكتهم، لم يرتد منهم عن الإسلام أحد! فقال له الناس: ومن هذا الحي الذي تعني؟ فنعم والله الحي هو! قال لهم: طيئ؛ فقالوا: وفقك الله، نعم الرأى رأيت! فانصرف بهم حتى نزل بالجيش في طيئ.
قال هشام: حدثني جديل بن خباب النبهاني من بني عمرو بن أبي، أن خالدًا جاء حتى نزل على أرك؛ مدينة سلمى.
قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني إسحاق أنه نزل بأجأ، ثم تعبى لحربه، ثم سار حتى التقيا على بزاخة، وبنو عامر على سادتهم وقادتهم قريبًا يستمعون ويتربصون على من تكون الدبرة.
قال هشام عن أبي مخنف: حدثني سعد بن مجاهد، أنه سمع أشياخًا من قومه يقولون: سألنا خالدًا أن نكفيه قيسًا فإن بني أسد حلفاؤنا، فقال: والله ما قيس بأوهن الشوكتين، اصمدوا إلى أي القبلتين أحببتم؛ فقال عدي: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه، فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لجلفهم! لا لعمر الله لا أفعل! فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جميعًا جهاد؛ لا تخالف رأى أصحابك، امض إلى أحد الفريقين، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط.
قال هشام، عن أبي مخنف: فحدثني عبد السلام بن سويد، أن خيل طيئ كانت تلقي خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم فيتشامون ولا يقتتلون، فتقول أسد وفزارة: لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبدًا. فتقول لهم خيل طيئ: أشهد ليقاتلنكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر!
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: حدثت أن الناس لما اقتتلوا، قاتل عيينة مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديدًا، وطليحة متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر، يتنبأ لهم، والناس يقتتلون، فلما هزت عيينة الحرب، وضرس القتال، كر على طليحة، فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا، قال: فرجع فقاتل حتى إذا ضرس القتال وهزته الحرب كر عليه فقال: لا أبا لك! أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا والله، قال: يقول عيينة حلفًا: حتى متى! قد والله بلغ منا! قال: ثم رجع فقاتل، حتى إذا بلغ كر عليه، فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم، قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: (( إن لك رحًا كرحاه، وحديثًا لا تنساه ))، قال: يقول عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه؛ يا بني فزارة هكذا؛ فانصرفوا؛ فهذا والله كذاب. فانصرفوا وانهزم الناس فغشوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا؟ وقد كان أعد فرسه عنده، وهيأ بعيرًا لامرأته النوار، فلما أن غشوه يقولون: ماذا تأمرنا؟ قام فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثم نجا بها، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل؛ ثم سلك الحوشية حتى لحق بالشأم وارفض جمعه؛ وقتل الله من قتل منهم، وبنو عامر قريبًا منهم على قادتهم وسادتهم؛ وتلك القبائل من سليم وهوازن على تلك الحال؛ فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا.
قال أبو جعفر: وكان سبب ارتداد عيينة وغطفان ومن ارتد من طيئ ما حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرني عمي، قال: أخبرني سيف - وحدثني السري قال: حدثنا شعيب عن سيف - عن طلحة بن الأعلم عن حبيب ابن ربيعة الأسدي، عن عمارة بن فلان الأسدي، قال: ارتد طليحة في حياة رسول الله ﷺ، فادعى النبوة، فوجه النبي ﷺ ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد في ذلك؛ وأمرهم بالقيام في ذلك على كل من ارتد، فأشجوا طليحة وأخافوا، ونزل المسلمون بواردات، ونزل المشركون بسميراء، فما زال المسلمون في نماء والمشركون في نقصان؛ حتى هم ضرار بالمسير إلى طليحة، فلم يبق أحد إلا أخذه سلمًا، إلا ضربة كان ضربها بالجراز، فنباعنه، فشاعت في الناس. فأتى المسلمون وهم على ذلك بخير موت نبيهم ﷺ، وقال ناس من الناس لتلك الضربة: إن السلاح لا يحيك في طليحة؛ فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتى عرفوا النقصان، وارفض الناس إلى طليحة واستطار أمره، وأقبل ذو الخمارين عوف الجذمي حتى نزل بإزائنا، وأرسل إليه ثمامة بن أوس بن لأم الطائي: إن معي من جديلة خمسمائة، فإن دهمكم أمر فنحن بالقردودة والأنسر دوين الرمل. وأرسل إليه مهلهل بن زيد: إن معي حد الغوث؛ فإن دهمكم أمر فنحن بالأكناف بحيال فيد. وإنما تحدبت طي على ذي الخمارين عوف؛ أنه كان بين أسد وغطفان وطيئ حلف في الجاهلية، فلما كان قبل مبعث النبي ﷺ اجتمعت غطفان وأسد على طيئ، فأزاحوها عن دارها في الجاهلية: غوثها وجديلتها، فكره ذلك عوف؛ فقطع ما بينه وبين غطفان، وتتابع الحيان على الجلاء، وأرسل عوف إلى الحيين من طيئ، فأعاد حلفهم، وقام بنصرتهم، فرجعوا إلى دورهم، واشتد ذلك على غطفان؛ فلما مات رسول الله ﷺ قام عيينة بن حصن في غطفان، فقال: ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد؛ وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة؛ والله لأن نتبع نبيًا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبيًا من قريش؛ وقد مات محمد، وبقي طليحة. فطابقوه على رأيه، ففعل وفعلوا.
فلما اجتمعت غطفان على المطابقة لطليحة هرب ضرار وقضاعي وسنان ومن كان قام بشيء من أمر النبي ﷺ في بني أسد إلى أبي بكر، وارفض من كان معهم، فأخبروا أبا بكر الخبر، وأمروه بالحذر، فقال ضرار بن الأزور: فما رأيت أحدًا - ليس رسول الله ﷺ - أملأ بحرب شعواء من أبي بكر؛ فجعلنا نخبره، ولكأنما نخبره بما له ولا عليه. وقدمت عليه وفود بني أسد وغطفان وهوازن وطيئ، وتلقت وفود قضاعة أسامة بن زيد، فحوزها إلى أبي بكر؛ فاجتمعوا بالمدينة فنزلوا على وجوه المسلمين؛ لعاشر من متوفي رسول الله ﷺ، فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة، واجتمع ملأ من أنزلهم على قبول ذلك حتى يبلغوا ما يريدون؛ فلم يبق من وجوه المسلمين أحد إلا أنزل منهم نازلا إلا العباس. ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم، إلا ما كان من أبي بكر، فإنه أبي إلا ما كان رسول الله ﷺ يأخذ، وأبوا، فردهم وأجلهم يومًا وليلة؛ فتطايروا إلى عشائرهم.
حدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، قال: كان رسول الله ﷺ قد بعث عمرو ابن العاص إلى جيفر، منصرفه من حجة الوداع، فمات رسول الله ﷺ وعمرو بعمان، فأقبل حتى إذا انتهى إلى البحرين وجد المنذر بن ساوي في الموت. فقال له المنذر: أشر علي في مالي بأمر لي ولا علي، قال: صدق بعقار صدقة تجري من بعدك، ففعل. ثم خرج من عنده، فسار في بني تميم، ثم خرج منها إلى بلاد بني عامر، فنزل على قرة بن هبيرة، وقرة يقدم رجلًا ويؤخر رجلًا؛ وعلى ذلك بنو عامر كلهم إلا خواص، ثم سار حتى قدم المدينة، فأطافت به قريش، وسألوه فأخبرهم أن العساكر معسكرة من دبا إلى حيث انتهيت إليكم، فتفرقوا وتحلقوا حلقًا، وأقبل عمر بن الخطاب يريد التسليم على عمرو، فمر بحلقة، وهم في شيء من الذي سمعوا من عمرو في تلك الحلقة: عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد؛ فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: فيم أنتم؟ فلم يجيبوه، فقال: ما أعلمني بالذي خلوتم عليه! فغضب طلحة، وقال: تالله يابن الخطاب لتخبرنا بالغيب! قال: لا يعلم الغيب إلا الله؛ ولكن أظن قلتم: ما أخوفنا على قريش من العرب وأخلقهم ألا يقروا بهذا الأمر! قالوا: صدقت، قال: فلا تخافوا هذه المنزلة، أنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم؛ والله لو تدخلون معاشر قريش حجرًا لدخلته العرب في آثاركم؛ فاتقوا الله فيهم. ومضى إلى عمرو فسلم عليه، ثم انصرف إلى أبي بكر.
حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: نزل عمرو بن العاص منصرفه من عمان - بعد وفاة رسول الله ﷺ - بقرة بن هبيرة بن سلمة بن قشير، وحوله عسكر من بني عامر من أفنائهم، فذبح له وأكرم مثواه، فلما أراد الرحلة خلا به قرة، فقال: يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسًا بالإتاوة، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع؛ وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم. فقال عمرو: أكفرت يا قرة! وحوله بنو عامر؛ فكره أن يبوح بمتابعتهم فيكفروا بمتابعته، فينفر في شر، فقال: لنردنكم إلى فيئتكم - وكان من أمره الإسلام - اجعلوا بيننا وبينكم موعدًا. فقال عمرو: أتوعدنا بالعرب وتخوفنا بها! موعدك حفش أمك؛ فو الله لأوطئن عليك الخيل. وقدم على أبي بكر والمسلمين فأخبرهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ خالد من أمر بني عامر وبيعتهم على ما بايعهم عليه، أوثق عيينة بن حصن وقرة بن هبيرة، فبعث بهما إلى أبي بكر، فلما قدما عليه قال له قرة: يا خليفة رسول الله، إني قد كنت مسلمًا، ولي من ذلك على إسلامي عند عمرو بن العاص شهادة؛ قد مر بي فأكرمته وقربته ومنعته. قال: فدعا أبو بكر عمرو بن العاص، فقال: ما تعلم من أمر هذا؟ فقص عليه الخبر، حتى انتهى إلى ما قال له من أمر الصدقة، قال له قرة: حسبك رحمك الله! قال: لا والله؛ حتى أبلغ له كل ما قلت، فبلغ له، فتجاوز عنه أبو بكر، وحقن دمه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، قال: أخبرني من نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، ينخسه غلمان المدينة بالجريد، يقولون: أي عدو الله، أكفرت بعد إيمانك! فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قط. فتجاوز عنه أبو بكر وحقن له دمه.
حدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، قال: أخذ المسلمون رجلًا من بني أسد، فأتى به خالد بالغمر - وكان عالمًا بأمر طليحة - فقال له خالد: حدثنا عنه وعما يقول لكم، فزعم أن مما أتى به: ((والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام)).
حدثني السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن أبي يعقوب سعيد بن عبيد، قال: لما أرزى أهل الغمر إلى البزاخة، قام فيهم طليحة، ثم قال: ((أمرت أن تصنعوا رحًا ذات عرًا، يرمى الله بها من رمى، يهوى عليها من هوى))، ثم عبى جنوده، ثم قال: ((ابعثوا فارسين، على فرسين أدهمين، من بني نصر بن قعين، يأتيانكم بعين )). فبعثوا فارسين من بني قعين، فخرج هو وسلمة طليعتين.
حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع، عن عبد الرحمن بن كعب، عمن شهد بزاخة من الأنصار، قال: لم يصب خالد على البزاخة عيلا واحدًا، كانت عيالات بني أسد محرزة - وقال أبو يعقوب: بين مثقب وفلج، وكانت عيالات قيس بين فلج وواسط - فلم يعد أن انهزموا، فأقروا جميعًا بالإسلام خشية على الذراري، واتقوا خالدًا بطلبته، واستحقوا الأمان؛ ومضى طليحة؛ حتى نزل كلب على النقع، فأسلم، ولم يزل مقيمًا في كلب حتى مات أبو بكر؛ وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرا قد أسلموا؛ ثم خرج نحو مكة معتمرًا في إمارة أبي بكر، ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به! خلوا عنه، فقد هداه الله للإسلام. ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف، فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت! والله لا أحبك أبدًا. فقال: يا أمير المؤمنين، ماتهم من رجلين أكرمهما الله بيدي، ولم يهنى بأيديهما! فبايعه عمر ثم قال له: يا خدع، ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان بالكير. ثم رجع إلى دار قومه؛ فأقام بها حتى خرج إلى العراق.
ذكر ردة هوازن وسليم وعامر
حدثنا السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل وعبد الله، قالا: أما بنو عامر فإنهم قدموا رجلا وأخروا أخرى، ونظروا ما تصنع أسد وغطفان؛ فلما أحيط بهم وبنو عامر على قادتهم وسادتهم، كان قرة بن هبيرة في كعب ومن لافها، وعلقمة بن علاثة في كلاب ومن لافها؛ وقد كان علقمة أسلم ثم ارتد في أزمان النبي ﷺ، ثم خرج بعد فتح الطائف حتى لحق بالشأم؛ فلما توفي النبي ﷺ أقبل مسرعًا حتى عسكر في بني كعب، مقدمًا رجلًا ومؤخرًا أخرى؛ وبلغ ذلك أبا بكر، فبعث إليه سرية، وأمر عليها القعقاع بن عمرو، وقال: يا قعقاع، سر حتى تغير على علقمة بن علاثة، لعلك أن تأخذه لي أو تقتله؛ واعلم أن شفاء الشق الحوص، فاصنع ما عندك. فخرج في تلك السرية؛ حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة؛ وكان لا يبرح أن يكون على رجل؛ فسابقهم على فرسه؛ فسبقهم مراكضة، وأسلم أهله وولده، فانتسف امرأته وبناته ونساءه، ومن أقام من الرجال؛ فاتقوه بالإسلام، فقدم بهم على أبي بكر، فجحد ولده وزوجته أن يكونوا مالئوا علقمة، وكانوا مقيمين في الدار، فلم يبلغه إلا ذلك، وقالوا: ما ذنبنا فيما صنع علقمة من ذلك! فأرسلهم ثم أسلم، فقبل ذلك منه.
حدثنا السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو وأبي ضمرة، عن ابن سيرين مثل معانيه.
وأقبلت بنو عامر بعد هزيمة أهل بزاخة يقولون: ندخل فيما خرجنا منه؛ فبايعهم على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيئ قبلهم، وأعطوه بأيديهم على الإسلام، ولم يقبل من أحد من أسد ولا غطفان ولا هوازن ولا سليم ولا طيئ إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل الإسلام في حال ردتهم. فأتوه بهم، فقبل منهم إلا قرة بن هبيرة ونفرًا معه أوثقهم، ومثل بالذين عدوا على الإسلام؛ فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار، وخزق بالنبال. وبعث بقرة وبالأسارى، وكتب إلى أبي بكر: إن بني عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت في الإسلام بعد تربص؛ وإنى لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئًا حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين؛ فقتلتهم كل قتلة، وبعثت إليك بقرة وأصحابه.
حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن نافع، قال: كتب أبو بكر إلى خالد: ليزدك ما أنعم الله به عليك خيرًا، واتق الله في أمرك؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون جد في أمر الله ولا تبنين، ولا تظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتلته ونكلت به غيره؛ ومن أحببت ممن حاد الله أو ضاده؛ ممن ترى أن في ذلك صلاحًا فاقتله. فأقام على البزاخة شهرًا يصعد عنها ويصوب، ويرجع إليها في طلب أولئك؛ فمنهم من أحرق، ومنهم من قمطه ورضخه بالحجارة؛ ومنهم من رمى به من رءوس الجبال. وقدم بقرة وأصحابه، فلم ينزلوا ولم يقل لهم كما قيل لعيينة وأصحابه؛ لأنهم لم يكونوا في مثل حالهم؛ ولم يفعلوا فعلهم قال السري: حدثنا شعيب، عن سيف، عن سهل وأبي يعقوب، قالا: واجتمعت فلال غطفان إلى ظفر، وبها أم زمل سلمى ابنة مالك بن حذيفة بن بدر؛ وهي تشبه بأمها أم قرفة بنت ربيعة بن فلان بن بدر؛ وكانت أم قرفة عند مالك بن حذيفة، فولدت له قرفة، وحكمة، وحراشة، وزملًا، وحصينًا، وشريكًا، وعبدًا، وزفر، ومعاوية، وحملة، وقيسًا، ولأيًا؛ فأما حكمة فقتله رسول الله ﷺ يوم أغار عيينة بن حصن على سرح المدينة، قتله أبو قتادة؛ فاجتمعت تلك الفلال إلى سلمى؛ وكانت في مثل عز أمها، وعندها جمل أم قرفة؛ فنزلوا إليها فذمرتهم، وأمرتهم بالحرب، وصعدت سائرة فيهم وصوبت، تدعوهم إلى حرب خالد، حتى اجتمعوا لها، وتشجعوا على ذلك، وتأشب إليهم الشر داء من كل جانب - وكانت قد سبيت أيام أم قرفة، فوقعت لعائشة فأعتقتها، فكانت تكون عندها، ثم رجعت إلى قومها؛ وقد كان النبي ﷺ دخل عليهن يومًا، فقال: إن إحداكن تستنبح كلاب الحوءب؛ ففعلت سلمى ذلك حين ارتدت؛ وطلبت بذلك الثأر، فسيرت فيما بين ظفر والحوءب؛ لتجمع إليها، فتجمع إليها كل فل ومضيق عليه من تلك الأحياء من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيئ، فلما بلغ ذلك خالدًا - وهو فيما هو فيه من تتبع الثأر، وأخذ الصدقة ودعاء الناس وتسكينهم - سار إلى المرأة وقد استكثف أمرها، وغلط شأنها؛ فنزل عليها وعلى جماعها، فاقتتلوا قتالا شديدًا؛ وهي واقفة على جمل أمها، وفي مثل عزها، وكان يفال: من نخس جملها فله مائة من الإبل لعزها، وأبيرت يومئذ بيوتات من جاس - قال أبو جعفر: جاس حي من غنم - وهاربة، وغنم، وأصيب في أناس من كاهل، وكان قتالهم شديدًا؛ حتى اجتمع على الجمل فوارس فعقروه وقتلوها. وقتل حول جملها مائة رجل؛ وبعث بالفتح، فقدم على أثر قرة بنحو من عشرين ليلة.
قال السري: قال شعيب، عن سيف، عن سهل وأبي يعقوب، قالا: كان من حديث الجواء وناعر، أن الفجاءة إياس بن عبد ياليل قدم على أبي بكر، فقال: أعني بسلاح، ومرني بمن شئت من أهل الردة؛ فأعطاه سلاحًا، وأمره أمره، فخالف أمره إلى المسلمين؛ فخرج حتى ينزل بالجواء، وبعث نجبة بن أبي الميثاء من بني الشريد، وأمره بالمسلمين؛ فشنها غارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن؛ وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بن حاجز يأمره أن يجمع له وأن يسير إليه؛ وبعث إليه عبد الله بن قيس الجاسي عونًا؛ ففعل، ثم نهضا إليه وطلباه؛ فجعل يلوذ منهما حتى لقياه على الجواء؛ فاقتتلوا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه طريفة فأسره. ثم بعث به إلى أبي بكر، فقدم به على أبي بكر، فأمر فأوقد له نارًا في مصلى المدينة على حطب كثير، ثم رمى به فيها مقموطًا.
قال أبو جعفر: وأما ابن حميد؛ فإنه حدثنا في شأن الفجاءة عن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم على أبي بكر رجل من بني سليم، يقال له الفجاءة؛ وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف، فقال لأبي بكر: إني مسلم؛ وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملني وأعني؛ فحمله أبو بكر على ظهر، وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس: المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع منهم؛ ومعه رجل من بني الشريد، يقال له: نجبة بن أبي الميثاء، فلما بلغ أبا بكر خبره، كتب إلى طريفة بن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الإسلام، فحملته وسلحته، ثم انتهى إلى من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس: المسلم والمرتد يأخذ أموالهم، ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله، أو تأخذه فتأتيني به. فسار طريفة بن حاجز، فلما التقى الناس كانت بينهم الرميا بالنبل، فقتل نجبة بن أبي الميثاء بسهم رمى به، فلما رأى الفجاءة من المسلمين الجد قال لطريفة: والله ما أنت بأولى بالأمر مني، أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره. فقال له طريفة: إن كنت صادقًا فضع السلاح، وانطلق معي إلى أبي بكر. فخرج معه، فلما قد ما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجز، فقال: اخرج به إلى هذا البقيع فحرقه فيه بالنار؛ فخرج به طريفة إلى المصلى فأوقد له نارًا، فقذفه فيها، فقال خفاف بن ندبة - وهو خفاف بن عمير - يذكر الفجاءة، فيما صنع:
لم بأخذون سلاحه لقتاله ** ولذاكم عند الأله أثام
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ** حتى يسير إلى الصراة شمام
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: كانت سليم بن منصور قد انتقض بعضهم، فرجعوا كفارًا وثبت بعضهم على الإسلام مع أمير كان لأبي بكر عليهم، يقال له معن بن حاجز، أحد بني حارثة، فلما سار خالد بن الوليد إلى طليحة وأصحابه، كتب إلى معن بن حاجز أن يسير بمن ثبت معه على الإسلام من بني سليم مع خالد، فسار واستخلف على عمله أخاه طريفة ابن حاجز، وقد كان لحق فيمن لحق من بني سليم بأهل الردة أبو شجرة ابن عبد العزي، وهو ابن الخنساء، فقال:
فلو سألت عنا غداة مرامر ** كما كنت عنها سائلا لو نأيتها
لقاء بني فهر وكان لقاؤهم ** غداة الجواء حاجة فقضيتها
صبرت لهم نفسي وعرجت مهرتي ** على الطعن حتى صار وردًا كميتها
إذا هي صدت عن كمي أريده ** عدلت إليه صدرها فهديتها
فقال أبو شجرة حين ارتد عن الإسلام:
صحا القلب عن مي هواه وأقصرا ** وطاوع فيها العاذلين فأبصرا
وأصبح أدنى رائد الجهل والصبا ** كما ودها عنا كذاك تغيرا
وأصبح أدنى رائد الوصل منهم ** كما حبلها من حبلنا قد تبترا
ألا أيها المدلي بكثرة قومه ** وحظك منهم أن تضام وتقهرا
سل الناس عنا كل يوم كريهة ** إذا ما التقينا: دار عين وحسرا
ألسنا نعاطى ذا الطماح لجامه ** ونطعن في الهيجا إذا الموت أقفرا!
وعاضرة شهباء تخطر بالقنا ** ترى البلق في حافاتها والسنورا
فرويت رمحي من كتيبة خالد ** وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم إن أبا شجرة أسلم، ودخل فيما دخل فيه الناس؛ فلما كان زمن عمر بن الخطاب قدم المدينة. فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي، عن رجال من قومه. وحدثنا السري قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن سهل وأبي يعقوب ومحمد بن مرزوق، وعن هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الرحمن بن قيس السلمي، قالوا: فأناح ناقته بصعيد بني قريظة. قال: ثم أتى عمر وهو يعطي المساكين من الصدقة ويقسمها بين فقراء العرب، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني فإني ذو حاجة، قال: ومن أنت؟ قال: أبو شجرة بن عبد العزي السلمي، قال: أبو شجرة! أي عدو الله، ألست الذي تقول:
فرويت رمحي من كتيبة خالد ** وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
قال: ثم جعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى سبقه عدوًا، فرجع إلى ناقته فارتحلها، ثم أسندها في حرة شوران راجعًا إلى أرض بني سليم، فقال:
صن علينا أبو حفص بنائله ** وكل مختبط يومًا له ورق
ما زال يرهقني حتى خذيت له ** وحال من دون بعض الرغبة الشفق
لما رهبت أبا حفص وشرطته ** والشيخ يفزع أحيانًا فينحمق
ثم ارعويت إليها وهي جانحة ** مثل الطريدة لم ينبت لها ورق
أوردتها الخل من شوران صادرة ** إني لأزرى عليها وهي تنطلق
تطير مرو أبان عن مناسمها ** كما تنوقد عند الجهبذ الورق
إذا يعارضها خرق تعارضه ** ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق
ينوء آخرها منها بأولها ** سرح اليدين بها نهاضة العنق
ذكر خبر بني تميم وأمر سجاج بنت الحارث بن سويد
وكان من أمر بني تميم، أن رسول الله ﷺ توفي وقد فرق فيهم عماله؛ فكان الزبرقان بن بدر على الرباب وعوف والأبناء - فيما ذكر السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية بن بلال، عن أبيه وسهم بن منجاب - وقيس بن عاصم على مقاعس والبطون، وصفوان ابن صفوان وسبرة بن عمرو على بني عمرو؛ هذا على بهدى وهذا على خضم - قبيلتين من بني تميم - ووكيع بن مالك ومالك بن نويرة على بني حنظلة؛ هذا على بني مالك، وهذا على بني يربوع. فضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي ﷺ بصدقات بني عمرو، وما ولى منها وبما ولى سبرة، وأقام سبرة في قومه لحدث إن ناب القوم، وقد أطرق قيس ينظر ما الزبرقان صانع. وكان الزبرقان متعتبًا عليه، وقلما جامله إلا مزقه الزبرقان بحظوته وجده. وقد قال قيس وهو ينتظر لينظر ما يصنع ليخالفه حين أبطأ عليه: واو يلنا من من ابن العكلية! والله لقد مزقني فما أدري ما أصنع! لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فليسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين أبا بكر فليسودني عنده. فعزم قيس على قسمها في المقاعس والبطون، ففعل. وعزم الزبرقان على الوفاء، فاتبع صفوان بصدقات الرباب وعوف والأبناء حتى قدم بها المدينة، وهو يقول ويعرض بقيس:
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت ** سعاة فلم يردد بعيرًا مجيرها
وتحلل الأحياء ونشب الشر، وتشاغلوا وشغل بعضهم بعضًا. ثم ندم قيس بعد ذلك، فلما أظله العلاء بن الحضرمي أخرج صدقتها؛ فتلقاه بها؛ ثم خرج معه، وقال في ذلك:
ألا أبلغا عني قريشًا رسالةً ** إذا ما أتتها بينات الودائع
فتشاغلت في تلك الحال عوف والأبناء بالبطون؛ والرباب بمقاعس، وتشاغلت خضم بما لك وبهدى بيربوع؛ وعلى خضم سبرة بن همرو، وذلك الذي حلفه عن صفوان والحصين بن نيار على بهدي، والرباب؛ عبد الله بن صفوان على ضبة، وعصمة بن أبير على عبد مناة، وعلى عوف والأبناء عوف بن البلاد ابن خالد من بني غنم الجشمي، وعلى البطون سعر بن خفاف؛ وقد كان ثمامة ابن أثال تأتيه أمداد من بني تميم؛ فلما حدث هذا الحدث فيما بينهم تراجعوا إلى عشائرهم، فأضر ذلك بثمامة بن أثال حتى قدم عليه عكرمة وأنهضه؛ فلم يصنع شيئًا؛ فبينا الناس في بلاد تميم على ذلك، قد شغل بعضهم بعضًا؛ فمسلمهم بإزاء من قدم رجلا وأخر أخرى وتربص، وبإزاء من ارتاب، فجئتهم سجاح بنت الحارث قد أقبلت من الجزيرة، وكانت ورهطها في بني تغلب تقود أفناء ربيعة، معها الهذيل بن عمران في بني تغلب، وعقة ابن هلال في النمر، وتاد بن فلان في إياد، والسليل بن قيس في شيبان، فأتاهم أمر دهي، هو أعظم مما فيه الناس، لهجوم سجاح عليهم، ولما هم فيه من اختلاف الكلمة، والتشاغل بما بينهم. وقال غفيف بن المنذر في ذلك:
ألم يأتيك والأنباء تسرى ** بما لاقت سراة بني تميم
تداعى من سراتهم رجال ** وكانوا في الذوائب والصميم
وألجوهم وكان لهم جناب ** إلى أحياء خالية وخيم
وكانت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان - هي وبنو أبيها عقفان - في بني تغلب، فتنبت بعد موت رسول الله ﷺ بالجزيرة في بني تغلب، فاستجاب لها الهذيل، وترك التنصر؛ وهؤلاء الرؤساء الذين أقبلوا معها لتغزو بهم أبا بكر. فلما انتهت إلى الحزن راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها، وفثأها عن غزوها، وحملها على أحياء من بني تميم، قال: نعم، فشأنك بمن رأيت، فإني إنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فالملك ملككم. فأرسلت إلى بني مالك بن حنظلة تدعوهم إلى الموادعة، فخرج عطارد بن حاجب وسروات بني مالك حتى نزلوا في بني العنبر على سبرة بن عمرو هرابًا قد كرهوا ما صنع وكيع، وخرج أشباههم من بني يربوع؛ حتى نزلوا على الحصين بن نيار في بني مازن، وقد كرهوا ما صنع مالك؛ فلما جاءت رسلها إلى بني مالك تطلب الموادعة، أجابها إلى ذلك وكيع، فاجتمع وكيع ومالك وسجاح، وقد وادع بعضهم بعضًا، واجتمعوا على قتال النس وقالوا: بمن نبدأ؟ بخضم، أم ببهدى، أم بعوف والأبناء، أم بالرباب؟ وكفوا عن قيس لما رأوا من تردده وطمعوا فيه، فقالت: ((أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب؛ ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب)).
قال: وصمدت سجاح للأحفار حتى تنزل بها، وقالت لهم: إن الدهناء حجاز بني تميم؛ ولن تعدو الرباب؛ إذا شدها المصاب، أن تلوذ بالدجاني والدهاني؛ فلينزلها بعضكم. فتوجه الجفول - يعني مالك بن نويرة - إلى الدجاني فنزلها؛ وسمعت بهذا الرباب فاجتمعوا لها؛ ضبتها وعبد مناتها، فولى وكيع وبشر بني بكر من بني ضبة، وولى ثعلبة بن سعد بن ضبة عقة، وولى عبد مناة الهذيل. فالتقى وكيع وبشر وبنو بكر من بني ضبة، فهزما، وأسر سماعة ووكيع وقعقاع، وقتلت قتلى كثيرة؛ فقال في ذلك قيس بن عاصم؛ وذلك أول ما استبان فيه الندم:
كأنك لم تشهد سماعة إذ غزا ** وما سر قعقاع وخاب وكيع
رأيتك قد صاحبت ضبة كارهًا ** على ندب في الصفحتين وجيع
ومطلق أسرى كان حمقًا مسيرها ** إلى صخرات أمرهن جميع
فصرفت سجاح والهذيل وعقة بني بكر، للموادعة التي بينها وبين وكيع - وكان عقة خال بشر - وقالت: اقتلوا الرباب ويصالحونكم ويطلقون أسراكم، وتحملون لهم دماءهم؛ وتحمد غب رأيهم أخراهم. فأطلقت لهم ضبة الأسرى؛ وودوا القتلى، وخرجوا عنهم. فقال في ذلك قيس يعيرهم صلح ضبة، إسعادًا لضبة وتأنيبًا لهم. ولم يدخل في أمر سجاح عمري ولا سعدى ولا ربي؛ ولم يطمعوا من جميع هؤلاء إلا في قيس؛ حتى بدا منه إسعاد ضبة؛ وظهر منه الندم. ولم يمالئهم من حنظلة إلا وكيع ومالك؛ فكانت ممالأتهما موادعة على أن ينصر بعضهم بعضا، ويحتاز بعضهم إلى بعضهم؛ وقال أصم التيمي في ذلك:
أتتنا أخت تغلب فاستهدت ** جلائب من سراة بني أبينا
وأرست دعوة فينا سفاهًا ** وكانت من عمائر آخرينا
فما كنا لنرزيهم زبالًا ** وما كانت لتسلم إذ أتينا
ألا سفهت حلومكم وضلت ** عشية تحشدون لها ثبينا
قال: ثم إن سجاح خرجت في جنود الجزيرة، حتى بلغت النباح؛ فأغار عليهم أوس بن خزيمة الهجيمي فيمن تأشب إليه من بني عمرو، فأسر الهذيل؛ أسره رجل من بني مازن ثم أحد بني وبر، يدعى ناشرة. وأسر عقة؛ أسره عبدة الهجيمي؛ وتحاجزوا على أن يترادوا الأسرى، وينصرفوا عنهم، ولا يجتازوا عليهم؛ ففعلوا، فردوها وتوثقوا عليها وعليهما؛ أن يرجعوا عنهم، ولا يتخذوهم طريقًا إلا من ورائهم. فوفوا لهم؛ ولم يزل في نفس الهذيل على المازني؛ حتى إذا قتل عثمان بن عفان، جمع جمعًا فأغار على سفار، وعليه بنو مازن؛ فقتلته بنو مازن ورموا به في سفار.
ولما رجع الهذيل وعقة إليها واجتمع رؤساء أهل الجزيرة قالوا لها: ما تأمريننا؟ فقد صالح مالك ووكيع قومهما؛ فلا ينصروننا ولا يزيدوننا على أن نجوز في أرضهم، وقد عاهدنا هؤلاء القوم. فقالت: اليمامة؛ فقالوا: إن شوكة أهل اليمامة شديدة؛ وقد غلظ أمر مسيلمة؛ فقالت: ((عليكم باليمامة؛ ودفوا دفيف الحمامة؛ فإنها غزوة صرامة؛ لا يلحقكم بعدها ملامة)). فنهدت لبنى حنيفة؛ وبلغ ذلك مسيلمة فهابها؛ وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه ثمامة على حجر أو شرحبيل بن حسنة، أو القبائل التي حولهم، فأهدى لها؛ ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها. فنزلت الجنود على الأمواه، وأذنت له وآمنته؛ فجاءها وافدًا في أربعين من بني حنيفة - وكانت راسخة في النصرانية، قد علمت من علم نصاري تغلب - فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض؛ وكان لقريش نصفها لو عدلت؛ وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش؛ فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: ((لا يرد النصف إلا من حنف، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف )). فقال مسيلمة: ((سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع؛ ولا زال أمره في كل ما سر نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة خلاكم؛ ويوم دينه أنجاكم. فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار)).
وقال أيضًا: ((لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت؛ قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون؛ ولكنكم معشر أبرار، تصومون يومًا، وتكلفون يومًا؛ فسبحان الله! إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء ترقون! فلو أنها حبة خردلة؛ لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور)).
وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولدًا واحدا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد؛ حتى يصيب ابنا ثم يمسك؛ فكان قد حرم النساء على من له ولد ذكر.
قال أبو جعفر: وأما غير سيف ومن ذكرنا عنه هذا الخبر؛ فإنه ذكر أن مسيلمة لما نزلت به سجاح، أغلق الحصن دونها، فقالت له سجاح: انزل، قال: فنحى عنك أصحابك، ففعلت. فقال مسيلمة: اضربوا لها قبة وجمروها لعلها تذكر الباه؛ ففعلوا، فلما دخلت القبة نزل مسيلمة فقال: ليقف ها هنا عشرة، وها هنا عشرة؛ ثم دارسها، فقال: ما أوحى إليك؟ فقالت: هل تكون النساء يبتدئن! ولكن أنت قل ما أوحى إليك؟ قال: ((ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى )). قالت: وماذا أيضًا؟ قال: أوحى إلى: ((أن الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا؛ فنولج فيهن قعسًا إيلاجا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا إنتاجًا)). قالت: أشهد أنك نبي، قال: هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وقومك العرب! قالت: نعم، قال:
ألا قومي إلى النيك ** فقد هيئ لك المضجع
وإن شئت ففي البيت ** وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك ** وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ** وإن شئت به أجمع
قالت: بل به أجمع، قال بذلك أوحى إلى. فأقامت عنده ثلاثًا ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق! فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: مالك؟ قالت: أصدقني صداقًا، قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي، قال: على به، فجاء فقال: ناد في أصحابك أن مسلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة وصلاة الفجر.
قال: وكان من أصحابها الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب ونظراؤهم.
وذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوه أن عامة بني تميم بالرمل لا يصلونهما - فانصرفت ومعها أصحابها، فيهم الزبرقان، وعطارد بن حاجب، وعمرو بن الأهتم، وغيلان بن خرشة، وشبث ابن ربعي، فقال عطارد بن حاجب:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها ** وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقال حكيم بن عياش الأعور الكلبي، وهو يعير مضر بسجاح، ويذكر ربيعة:
أتوكم بدين قائم وأتيتم ** بمنتسخ الآيات في مصحف طب
رجع الحديث إلى حديث سيف. فصالحها على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها؛ فباح لها بذلك؛ وقال: خلفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام؛ فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة، وخلفت الهذيل وعقة وزيادًا لينجز النصف الباقي؛ فلم يفجأهم إلا دنو خالد بن الوليد منهم؛ فارفضوا. فلم تزل سجاح في بني تغلب؛ حتى نقلهم معاوية عام الجماعة في زمانه؛ وكان معاوية حين أجمع عليه أهل العراق بعد علي عليه السلام يخرج من الكوفة المستغرب في أمر علي، وينزل داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشأم وأهل البصرة وأهل الجزيرة؛ وهم الذين يقال لهم النواقل في الأمصار؛ فأخرج من الكوفة قعقلع بن عمرو بن مالك إلى إيليا بفلسطين، فطلب إليه أن ينزل منازل بني أبيه بني عقفان، وينقلهم إلى بني تميم، فنقلهم من الجزيرة إلى الكوفة، وأنزلهم منازل القعقاع وبني أبيه؛ وجاءت معهم وحسن إسلامها؛ وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر، وقالا: اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد، ففعل وكتب الكتاب. وكان الذي يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله وأشهدوا شهودًا منهم عمر. فلما أنى عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد، ثم قال: لا والله ولا كرامة! ثم مزق الكتاب ومحاه، فغضب طلحة، فأتى أبا بكر، فقال: أأنت الأمير أم عمر؟ فقال: عمر؛ غير أن الطاعة لي. فسكت.
وشهدا مع خالد المشاهد كلها حتى اليمامة، ثم مضى الأقرع ومعه شرحبيل إلى دومة.
ذكر البطاح وخبره
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية بن بلال، قال: لما انصرفت سجاح إلى الجزيرة، ارعوى مالك بن نويرة، وندم وتحير في أمره، وعرف وكيع وسماعة قبح ما أتيا، فرجعا رجوعًا حسنًا، ولم يتجبرا، وأخرجا الصدقات فاستقبلا بها خالدًا؛ فقال خالد: ما حملكما على موادعة هؤلاء القوم؟ فقالا: ثأر كنا نطلبه في بني ضبة؛ وكانت أيام تشاغل وفرص، وقال وكيع في ذلك:
فلا تحسبا أني رجعت وأنني ** منعت وقد تحنى إلى الأصابع
ولكنني حاميت عن جل مالك ** ولاحظت حتى أكحلتني الأخادع
فلما أتانا خالد بلوائه ** تخطت إليه بالبطح الودائع
ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما كان من مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح؛ فهو على حاله متحير شج.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم وعمرو بن شعيب، قالا: لما أراد خالد السير خرج من ظفر، وقد استبرأ أسدًا وغطفان وطيئًا وهوازن؛ فسار يريد البطاح دون الحزن؛ وعليها مالك بن نويرة، وقد تردد عليه أمره، وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه، وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا! إن الخليفة عهد إلينا. فقال خالد: إن يك عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضي، وأنا الأمير وإلى تنتهي الأخبار. ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر؛ ثم رأيت فرصةً؛ فكنت إن أعلمته فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها؛ كذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا، ثم نعمل به. وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد إليه ومن معي من المهاجرين والتابعين بإحسان؛ ولست أكرهكم. ومضى خالد، وندمت الأنصار، وتذامروا، وقالوا: إن أصاب القوم خيرًا إنه لخير حرمتموه، وإن أصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس. فأجمعوا اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولا؛ فأقام عليهم حتى لحقوا به؛ ثم سار حتى قدم البطاح فلم يجد به أحدًا.
قال أبو جعفر: فيما كتب به إلى السري بن يحيى، يذكر عن شعيب ابن إبراهيم أنه حدثه عن سيف بن عمر، عن خزيمة بن شجرة العقفاني، عن عثمان بن سويد، عن سويد بن المثعبة الرياحي؛ قال: قدم خالد ابن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحدًا، ووجد مالكًا قد فرقهم في أموالهم، ونهاهم عن الاجتماع حين تردد عليه أمره، وقال: يا بني يربوع؛ إنا قد كنا عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين، وبطأنا الناس عنه فلم نفلح ولم ننجح، وإني قد نظرت في هذا الأمر، فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس؛ فإياكم ومناوأة قوم صنع لهم؛ فتفرقوا إلى دياركم وادخلوا في هذا الأمر. فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم، وخرج مالك حتى رجع إلى منزله. ولما قدم خالد البطاح بث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه؛ وكان مما أوصى به أبو بكر: إذا نزلتم منزلا فأذنوا وأقيموا؛ فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم؛ وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة؛ ثم اقتلوهم كل قتلة؛ الحرق فما سواه؛ وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم؛ فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم؛ وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة. فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من نبي ثعلبة بن يربوع، من عاصم وعبيد وعرين وجعفر، فاختلفت السرية فيهم، وفيهم أبو قتادة؛ فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا. فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء؛ وجعلت تزداد بردًا، فأمر خالد مناديًا فنادى: ((أدفئوا أسراكم))، وكانت في لغة كنانة إذا قالوا: دثروا الرجل فأدفئوه، دفئه قتله وفي لغة غيرهم: أدفه فاقتله، فظن القوم - وهي في لغتهم القتل - أنه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكًا، وسمع خالد الواعية؛ فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرًا أصابه.
وقد اختلف القوم فيهم، فقال أبو قتادة: هذا عملك، فزبره خالد فغضب ومضى، حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر؛ حتى كلمه عمر فيه، فلم يرض إلا أن يرجع إليه، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة، وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره، وقال عمر لأبي بكر. أن في سيف خالد رهقًا، فإن لم يكن هذا حقًا حق عليه أن تقيده؛ وأكثر عليه في ذلك - وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ولا وزعته - فقال: هيه يا عمر! تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكًا وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، ففعل، فأخبره خبره فعذره وقبل منه، وعنفه في التزويج الذي كانت تعيب عليه العرب من ذلك
وكتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، ففعلوا مثل ذلك. وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء، فقتلوا. وقدم أخوه متمم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه، ويطلب إليه في سبيهم؛ فكتب له برد السبي، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله، وقال: إن في سيفه رهقًا. فقال: لا يا عمر؛ لم أكن لأشيم سيفًا سله الله على الكافرين.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن خزيمة، عن عثمان، عن سوبد، قال: كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعرًا؛ وإن أهل العسكر أثفوا برءوسهم القدور، فما منهم رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكًا، فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره، وقى الشعر البشرة حرها أن يبلغ منه ذلك.
وأنشده متمم؛ وذكر خمصه؛ وقد كان عمر رآه مقدمه على النبي ﷺ، فقال: أكذاك يا متمم كان! قال: أما ما أعني فنعم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق؛ أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه: أن إذا غشيتم دارًا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة، فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا! وإن لم تسمعوا أذانًا، فشنوا الغارة، فاقتلوا، وحرقوا.
وكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وقد كان عاهد الله ألا يشهد مع خالد بن الوليد حربًا أبدًا بعدها؛ وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل، فأخذ القوم السلاح. قال: فقلنا: إنا المسلمون، فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم! قالوا لنا: فما بال السلاح معكم! قلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح، قال: فوضعوها؛ ثم صلينا وصلوا. وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه: ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا. قال: أو ما تعده لك صاحبًا! ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه، فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب، تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر، وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته! وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد، معتجرًا بعمامة له، قد غرز في عمامته أسهمًا؛ فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها، ثم قال: أرئاء! قتلت امرأ مسلما، ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنك بأحجارك - ولا يكلمه خالد بن الوليد، ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأى عمر فيه - حتى دخل على أبي بكر، فلما أن دخل عليه أخبره الخبر، واعتذر إليه فعذره أبو بكر، وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك. قال: فخرج خالد حين رضى عنه أبو بكر، وعمر جالس في المسجد، فقال: هلم إلى يا بن أم شملة! قال: فعرف عمر أن أبا بكر قد رضى عنه فلم يكلمه، ودخل بيته.
وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدى. وقال ابن الكلبي: الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور.
ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كان أبو بكر حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل عجل عكرمة، فبادر شرحبيل ليذهب بصوتها فواقعهم، فنكبوه، وأقام شرحبيل بالطريق حيث أدركه الخبر؛ وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره، قكتب إليه أبو بكر: يا بن أم عكرمة، لا أرينك ولا تراني على حالها! لا ترجع فتوهن الناس؛ امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما أهل عمان ومهرة، وإن شغلا فامض أنت، ثم تسير وتسير جندك تستبرئون من مررتم به؛ حتى تلقوا أنتم والمهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت.
وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتى يأتيه أمره، ثم كتب إليه قبل أن يوجه خالدًا بأيام إلى اليمامة: إذا قدم عليك خالد، ثم فرغتم إن شاء الله فالحق بقضاعة؛ حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف. فلما قدم خالد على أبي بكر من البطاح رضي أبو بكر عن خالد، وسمع عذره وقبل منه وصدقه ورضى عنه، ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه الناس. وعلى الأنصار ثابت بن قيس والبراء بن فلان، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد، وعلى القبائل؛ على كل قبيلة رجل. وتعجل خالد حتى قدم على أهل العسكر بالبطاح، وانتظر البعث الذي ضرب بالمدينة؛ فلما قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو بن العلاء، عن رجال، قالوا: كان عدد بني حنيفة يومئذ أربعين ألف مقاتل؛ في قراها وحجرها، فسار خالد حتى إذا أظل عليهم أسند خيولًا لعقة والهذيل وزياد؛ وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح. وكتب إلى القبائل من تميم فيهم؛ فنفروهم حتى أخرجوهم من جزيرة العرب، وعجل شرحبيل بن حسنة، وفعل فعل عكرمة، وبادر خالدًا بقتال مسيلمة قبل قدوم خالد عليه؛ فنكب، فحاجز؛ فلما قدم عليه خالد لامه؛ وإنما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه؛ وكانوا بأفنية اليمامة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت، عمن حدثه، عن جابر بن فلان، قال: وأمد أبو بكر خالدًا بسليط؛ ليكون ردءًا له من أن يأتيه أحد من خلفه؛ فخرج؛ فلما دنا من خالد وجد تلك الخيول التي انتابت تلك البلاد قد فرقوا؛ فهربوا، وكان منهم قريبًا ردءًا لهم؛ وكان أبو بكر يقول: لا أستعمل أهل بدر؛ أدعهم حتى يلقوا الله بأحسن أعمالهم؛ فإن الله يدفع بهم وبالصلحاء من الأمم أكثر وأفضل، مما ينتصر بهم؛ وكان عمر بن الخطاب يقول: والله لأشركنهم وليواسننى.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن عبيد بن عمير، عن أثال الحنفي - وكان مع ثمامة بن أثال - قال: وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح؛ وكان معه نهار الرجال بن عنفوة، وكان قد هاجر إلى النبي ﷺ؛ وقرأ القرآن؛ وفقه في الدين، فبعثه معلمًا لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين؛ فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة؛ شهد له أنه سمع محمدًا ﷺ يقول: إنه قد أشرك معه؛ فصدقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبي ﷺ، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه؛ فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئًا إلا تابعه عليه؛ وكان ينتهى إلى أمره، وكان يؤذن للنبي ﷺ، ويشهد في الأذان أن محمدًا رسول الله؛ وكان الذي يؤذن له عبد الله بن النواحة، وكان الذي يقيم له حجير بن عمير، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال: صرح حجير؛ فيزيد في صوته، ويبالغ لتصديق نفسه، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم؛ فعظم وقاره في أنفسهم.
قال: وضرب حرمًا باليمامة، فنهى عنه؛ وأخذ الناس به، فكان محرما فوقع في ذلك الحرم قرى الأحاليف؛ أفخاذ من بني أسيد، كانت دراهم باليمامة؛ فصار مكان دراهم في الحرم - والأحاليف: سيحان المارة ونمر والحارث بنو جرة - فإن أخصبا أغاروا على ثمار أهل اليمامة، واتخذوا الحرم دغلا، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم؛ وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدون. فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم؛ فقال: أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم. ثم قال لهم: ((والليل الأطحم، والذئب الأدلم. والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم))؛ فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال! ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى فقال: أنتظر الذي يأتينى، فقال: ((والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس))؛ فقالوا: أما النخيل مرطبة فقد جدوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها؛ فقال: اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم.
وكان فيما يقرأ لهم فيهم: ((إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان؛ فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن)).
وكان يقول " ((والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبانها. والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون! )).
وكان يقول: ((يا ضفدع ابنة ضفدع، نقى ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين)).
وكان يقول: ((والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا؛ واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنًا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر؛ ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغى فناوئوه)).
قال: وأتته امرأة من بني حنيفة تكنى بأم الهيثم فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز؛ فادع الله لمائنا ولنخلنا كما دعا محمد لأهل هزمان)). فقال: يا نهار ما تقول هذه؟ فقال: إن أهل هزمان أتوا محمدًا ﷺ فشكوا بعد مائهم؛ - وكانت آبارهم جرزًا - ونخلهم أنها سحق، فدعا لهم فجاشت آبارهم، وانحنت كل نخلة قد انتهت حتى وضعت جرانها لانتهائها، فحكت به الأرض حتى أنشبت عروقًا ثم قطعت من دون ذلك، فعادت فسيلا مكممًا ينمى صاعدًا. قال: وكيف صنع بالأبار؟ قال: دعا بسجل، فدعا لهم فيه ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار، ثم سقوه نخلهم، ففعل النبي ما حدثتك، وبقي الآخر إلى انتهائه. فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه، ثم تمضمض منه، ثم مج فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم. فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم؛ وإنما استبان ذلك بعد مهلكه.
وقال له نهار: برك على مولودى بني حنيفة، فقال له: وما التبريك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمدًا ﷺ فحنكه ومسح رأسه؛ فلم يؤت مسيلمة بصبى فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مهلكه.
وقالوا: تتبع حيطانهم كما كان محمد ﷺ يصنع فصل فيها. فدخل حائطًا من حوائط اليمامة، فتوضأ، فقال نهار لصاحب الحائط: ما يمنعك من وضوء الرحمن فتسقى به حائطك حتى يروى ويبتل، كما صنع بنو المهرية، أهل بيت من بني حنيفة - وكان رجل من المهرية قدم على النبي ﷺ فأخذ وضوءه فنقله معه إلى اليمامة فأفرغه في بئره، ثم نزع وسقى، وكانت أرضه تهوم فرويت وجزأت فلم تلف إلا خضراء مهتزة - ففعل فعادت يبابًا لا ينبت مرعاها.
وأتاه رجل فقال: ادع الله لأرضى فإنها مسبخة؛ كما دعا محمد ﷺ لسلمى على أرضه. فقال: ما يقول يا نهار؟ فقال: قدم عليه سلمى، وكانت أرضه سبخة فدعا له، وأعطاه سجلا من ماء ومج له فيه، فأفرغه في بئره، ثم نزع، فطابت وعذبت؛ ففعل مثل ذلك فانطلق الرجل، ففعل بالسجل كما فعل سلمى، فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها.
وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها، فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها؛ وكانوا قد علموا واستبان لهم؛ ولكن الشقاء غلب عليهم.
كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة النمرى، عن عمير بن طلحة النمرى، عن أبيه، أنه جاء اليمامة، فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه رسول الله! فقال: لا، حتى أراه؛ فلما جاءه، قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن، قال: أفى نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك كذاب وأن محمدًا صادق؛ ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، فقتل معه يوم عقرباء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الكلبى مثله؛ إلا أنه قال: كذاب ربيعة أحب إلى من كذاب مضر.
وكتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن عبيد بن عمير، عن رجل منهم، قال: لما بلغ مسيلمة دنو خالد، ضرب عسكره بعقرباء، واستنفر الناس، فجعل الناس يخرجون إليه، وخرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأرًا له في بني عامر وبني تميم قد خاف فواته، وبادر به الشغل، فأما ثأره في بني عامر فكانت خولة ابنة جعفر فيهم، فمنعوه منها، فاختلجها؛ وأما ثأره في بني تميم فنعم أخذوا له. واستقبل خالد شرحبيل بن حسنة، فقدمه وأمر على المقدمة خالد بن فلان المخزومى، وجعل على المجنبتين زيدًا وأبا حذيفة، وجعل مسيلمة على مجنبتيه المحكم والرجال، فسار خالد ومعه شرحبيل، حتى إذا كان من عسكر مسيلمة على ليلة، هجم على جبيلة هجوم - المقلل يقول: أربعين، والمكثر يقول: ستين - فإذا هو مجاعة وأصحابه، وقد غلبهم الكرى، وكانوا راجعين من بلاد بني عامر، قد طووا إليهم؛ واستخرجوا خولة ابنة جعفر فهى معهم، فعرسوا دون أصل الثنية؛ ثنية اليمامة، فوجدوهم نيامًا وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم وهم لا يشعرون بقرب الجيش منهم؛ فأنبهوهم، وقالوا: من أنتم؟ قالوا: هذا مجاعة وهذه حنيفة، قالوا: وأنتم فلا حياكم الله! فأوثقوهم وأقاموا إلى أن جاءهم خالد بن الوليد، فأتوه بهم؛ فظن خالد أنهم جاءوه ليستقبلوه وليتقوه بحاجته، فقال: متى سمعتم بنا؟ قالوا: ما شعرنا بك؛ إنما خرجنا لئأر لنا فيمن حولنا من بني عامر وتميم، ولو فطنوا لقالوا: تلقيناك حين سمعنا بك. فأمر بهم أن يقتلوا، فجادوا كلهم بأنفسهم دون مجاعة بن مرارة، وقالوا: إن كنت تريد بأهل اليمامة غدًا خيرًا أو شرًا فاستبق هذا ولا تقتله؛ فقتلهم خالد وحبس مجاعة عنده كالرهينة.
كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن عكرمة، عن أبي هريرة، وعبد الله بن سعيد عن أبي سعيد عن أبي هريرة، قال: قد كان أبو بكر بعث إلى الرجال فأتاه فأوصاه بوصيته، ثم أرسله إلى أهل اليمامة؛ وهو يرى أنه على الصدق حين أجابه. قالا: قال أبو هريرة: جلست مع النبي ﷺ في رهط معنا الرجال ابن عنفوة، فقال: إن فيكم لرجلًا ضرسه في النار أعظم من أحد، فهلك القوم وبقيت أنا والرجال، فكنت متخوفًا لها؛ حتى خرج الرجال مع مسيلمة، فشهد له بالنبوة؛ فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة، فبعث إليهم أبو بكر خالدًا، فسار حتى إذا بلغ ثنية اليمامة، استقبل مجاعة ابن مرارة - وكان سيد بني حنيفة - في جبل من قومه، يريد الغارة على بني عامر، ويطلب دمًا، وهم ثلاثة وعشرون فارسًا ركبانًا قد عرسوا. فبيتهم خالد في معرسهم، فقال: متى سمعتم بنا؟ فقالوا: ما سمعنا بكم؛ إنما خرجنا لنثئر بدم لنا في بني عامر. فأمر بهم خالد فضربت أعناقهم، واستحيا مجاعة؛ ثم سار إلى اليمامة؛ فخرج مسيلمة وبنو حنيفة حين سمعوا بخالد، فنزلوا بعقرباء، فحل بها عليهم - وهي طرف اليمامة دون الأموال - وريف اليمامة وراء ظهورهم. وقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بنى حنيفة، اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير خطيبات؛ فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم. فاقتتلوا بعقرباء، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، فقالوا: تخشى علينا من نفسك شيئًا! فقال: بئس حامل القرآن أنا إذًا! وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، وكانت العرب على راياتها ومجاعة أسير مع أم تميم في فسطاطها. فجال المسلمون جولة، ودخل أناس من بني حنيفة على أم تميم، فأرادوا قتلها، فمنعها مجاعة. قال: أنا لها جار، فنعمت الحرة هى! فدفعهم عنها، وتراد المسلمون، فكروا عليهم؛ فانهزمت بنو حنيفة، فقال المحكم بن الطفيل: يا بنى حنيفة، ادخلوا الحديقة؛ فإنى سأمنع أدباركم، فقاتل دونهم ساعة ثم قتله الله؛ قتله عبد الرحمن بن أبي بكر؛ ودخل الكفار الحديقة، وقتل وحشي مسيلمة، وضربه رجل من الأنصار فشاركه فيه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، بنحو حديث سيف هذا؛ غير أنه قال: دعا خالد بمجاغة ومن أخذ معه حين أصبح، فقال: يا بنى حنيفة، ما تقولون؟ قالوا: نقول: منا نبي ومنكم نبي؛ فعرضهم على السيف؛ حتى إذا بقى منهم رجل يقال له سارية بن عامر ومجاعة بن مرارة، قال له سارية: أيها الرجل؛ إن كنت تريد بهذه القرية غدًا خيرًا أو شرًا، فاستبق هذا الرجل - يعنى مجاعة - فأمر به خالد فأوثقه في الحديد؛ ثم دفعه إلى أم تميم امرأته، فقال: استوصى به خيرًا، ثم مضى حتى نزل اليمامة على كثيب مشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، وخرج أهل اليمامة مع مسيلمة وقد قدم في مقدمته الرحال - قال أبو جعفر، هكذا قال ابن حميد بالحاء - بن عنفوة بن نهشل، وكان الرحال رجلًا من بني حنيفة قد كان أسلم، وقرأ سورة البقرة، فلما قدم اليمامة شهد لمسيلمة أن رسول الله ﷺ قد كان أشركه في الأمر؛ فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من مسيلمة؛ وكان المسلمون يسألون عن الرحال يرجون أنه يثلم على أهل اليمامة أمرهم بإسلامه، فلقيهم في أوائل الناس متكتبًا، وقد قال خالد بن الوليد وهو جالس على سريره، وعنده أشراف الناس والناس على مصافهم؛ وقد رأى بارقة في بنى حنيفة: أبشروا يا معشر المسلمين؛ فقد كفاكم الله أمر عدوكم. واختلف القوم إن شاء الله؛ فنظر مجاعة وهو خلفه موثقًا في الحديد، فقال: كلا والله، ولكنها الهندوانية خشوا عليها من تحطمها، فأبرزوها للشمس لتلين لهم؛ فكان كما قال. فلما التقى المسلمون كان أول من لقيهم الرحال بن عنفوة، فقتله الله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شيخ من بنى حنيفة، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال يومًا - وأبو هريرة ورحال بن عنفوة في مجلس عنده: ((لضرس أحدكم أيها المجلس في النار يوم القيامة أعظم من أحد)). قال أبو هريرة: فمضى القوم لسبيلهم، وبقيت أنا ورحال بن عنفوة، فما زلت لها متخوفًا؛ حتى سمعت بمخرج رحال، فأمنت وعرفت أن ما قال رسول الله ﷺ حق.
ثم التقى الناس ولم يلقهم حرب قط مثلها من حرب العرب؛ فاقتتل الناس قتالا شديدًا؛ حتى انهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد، فزال خالد عن فسطاطه ودخل أناس الفسطاط وفيه مجاعة عند أم تميم، فحمل عليها رجل بالسيف، فقال مجاعة: مه، أنا لها جار، فنعمت الحرة! عليكم بالرجال، فرعبلوا الفسطاط بالسيوف. ثم إن المسلمين تداعوا، فقال ثابت بن قيس: بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! اللهم إنى أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعنى المسلمين - ثم جالد بسيفه حتى قتل. وقال زيد بن الخطاب حين انكشف الناس عن رحالهم: لا تحوز بعد الرحال، ثم قاتل حتى قتل. ثم قام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان إذا حضر الحرب أخذته العرواء حتى يقعد عليه الرجال؛ ثم ينتفض تحتهم حتى يبول في سراويله؛ فإذا بال يثور كما يثور الأسد - فلما رأى ما صنع الناس أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال، فلما بال وثب، فقال: أين يا معشر المسلمين! أنا البراء بن مالك، هلم إلى! وفاءت فئة من الناس، فقاتلوا القوم حتى قتلهم الله، وخلصوا إلى محكم اليمامة - وهو محكم بن الطفيل - فقال حين بلغه القتال: يا معشر بنى حنيفة، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير خطيبات؛ فما عندكم من حسب فأخرجوه. فقاتل قتالا شديدًا؛ ورماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله. ثم زحف المسلمون حتى ألجئوهم إلى الحديقة؛ حديقة الموت؛ وفيها عدو الله مسيلمة الكذاب، فقال البراء: يا معشر المسلمين، ألقونى عليهم في الحديقة. فقال الناس: لا تفعل يا براء، فقال: والله لتطرحنى عليهم فيها؛ فاحتمل حتى فتحها للمسلمين، ودخل المسلمون عليهم فيها؛ فاقتتلوا حتى قتل الله مسيلمة عدو الله؛ واشترك في قتله وحشى مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار، كلاهما قد أصابه؛ أما وحشى فدفع عليه حربته، وأما الأنصارى فضربه بسيفه، فكان وحشى يقول: ربك أعلم أينا قتله!
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثنى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رجلًا يومئذ يصرخ يقول، قتله العبد الأسود! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن عبيد بن عمير، قال: كان الرجال بحيال زيد بن الخطاب؛ فلما دنا صفاهما، قال زيد: يا رجال، الله الله! فو الله لقد تركت الدين، وإن الذي أدعوك إليه لأشرف لك، وأكثر لدنياك. فأبى، فاجتلدا فقتل الرجال وأهل البصائر من بني حنيفة في أمر مسيلمة، فتذامروا وحمل كل قوم في ناحيتهم؛ فجال المسلمون حتى بلغوا عسكرهم، ثم أعروه لهم، فقطعوا أطناب البيوت، وهتكوها، وتشاغلوا بالعسكر، وعالجوا مجاعة؛ وهموا بأم تميم، فأجارها، وقال: نعم أم المثوى! وتذامر زيد وخالد وأبو حذيفة، وتكلم الناس - وكان يوم جنوب له غبار - فقال زيد: لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو ألقى الله فأكلمه بحجتى! عضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم، وامضوا قدمًا. ففعلوا، فردوهم إلى مصافهم حتى أعادوهم إلى أبعد من الغاية التي حيزوا إليها من عسكرهم، وقتل زيد رحمه الله. وتكلم ثابت فقال: يا معشر المسلمين، أنتم حزب الله وهم أحزاب الشيطان، والعزة لله ولرسوله ولأحزابه، أرونى كما أريكم، ثم جلد فيهم حتى حازهم. وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال. وحمل فحازهم حتى أنفذهم، واصيب رحمه الله، وحمل خالد بن الوليد، وقال لحماته: لا أوتين من خلفى، حتى كان بحيال مسيلمة يطلب الفرصة ويرقب مسيلمة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما أعطى سالم الراية يومئذ، قال: ما أعلمنى لأى شئ أعطيتمونيها! قلتم: صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات! قالوا: أجل. وقالوا: فانظر كيف تكون؟ فقال: بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أثبت! وكان صاحب الراية قبله عبد الله بن حفص بن غانم.
وقال عبد الله بن سعيد بن ثابت وابن إسحاق: فلما قال مجاعة لبنى حنيفة: ولكن عليكم بالرجال، إذا فئة من المسلمين قد تذامروا بينهم فتفانوا وتفانى المسلمون كلهم، وتكلم رجال من أصحاب رسول الله ﷺ، وقال زيد بن الخطاب: والله لا أتكلم أو أظفر أو أقتل، واصنعوا كما أصنع أنا؛ فحمل وحمل أصحابه. وقال ثابت بن قيس: بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! هكذا عنى حتى أريكم الجلاد. وقتل زيد بن الخطاب رحمه الله.
كتب إلي السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن مبشر، عن سالم، قال: قال عمر لعبد الله بن عمر حين رجع: ألا هلكت قبل زيد! هلك زيد وأنت حي! فقال: قد حرصت على ذلك أن يكون، ولكن نفسى تأخرت، فأكرمه الله بالشهادة. وقال سهل: قال: ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عنى! فقال: سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إلى فلم أعطها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن عبيد بن عمير: إن المهاجرين والأنصار جبنوا أهل البوادى وجبنهم أهل البوادى، فقال بعضهم لبعض: امتازوا كي نستحيا من الفرار اليوم، ونعرف اليوم من أين نؤتى! ففعلوا. وقال أهل القرى: نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم، فقال لهم أهل البادية: إن أهل القرى لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب! فسترون إذا امتزنا من أين يجئ الخلل! فامتازوا، فما رئى يوم كان أحد ولا أعظم نكاية مما رئى يومئذ؛ ولم يدر أى الفريقين كان أشد فيهم نكاية! إلا أن المصيبة كانت في المهاجرين والأنصار أكثر منها في أهل البادية، وأن البقية أبدًا في الشدة. ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر المحكم بسهم فقتله وهو يخطب، فنحره وقتل زيد بن الخطاب الرجال بن عنفوة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الضحاك بن يربوع، عن أبيه، عن رجل من بنى سحيم قد شهدها مع خالد، قال: لما اشتد القتال - وكانت يومئذ سجالا إنما تكون مرة على المسلمين ومرة على الكافرين - فقال خالد: أيها الناس امتازوا لنعلم بلاء كل حى، ولنعلم من أين نؤتى! فامتاز أهل القرى والبوادى، وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحاضر؛ فوقف بنو كل أب على رايتهم، فقاتلوا جميعًا، فقال أهل البوادى يومئذ: الآن يستحر القتل في الأجزع الأضعف، فاستحر القتل في أهل القرى، وثبت مسيلمة، ودارت رحالهم عليه، فعرف خالد أنها لا تركد إلا بقتل مسيلمة؛ ولم تحفل بنو حنيفة بقتل من قتل منهم. ثم برز خالد، حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى البراز وانتمى، وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد! ونادى بشعارهم يومئذ، وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه! فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله، وهو يرتجز:
أنا ابن أشياخ وسيفى السخت ** أعظم شئ حين يأتيك النغت
ولا يبرز له شئ إلا أكله، ودارت رحا المسلمى وطحنت. ثم نادى خالد حين دنا من مسيلمة - وكان رسول الله ﷺ قال: إن مع مسيلمة شيطانًا لا يعصيه، فإذا اعتراه أزبد كأن شدقيه زبيبتان لايهم بخير أبدًا إلا صرفه عنه، فإذا رأيتم منه عورة؛ فلا تقيلوه العثرة - فلما دنا خالد منه طلب تلك، ورآه ثابتًا ورحاهم تدور عليه؛ وعرف أنها لا تزول إلا بزواله، فدعا مسيلمة طلبًا لعورته، فأجابه، فعرض عليه أشياء مما يشتهى مسيلمة، وقال: إن قبلنا النصف، فأى الأنصاف تعطينا؟ فكان إذا هم بجوابه أعرض بوجهه مستشيرًا، فينهاه شيطانه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرة من ذلك؛ وركبه خالد فأرهقه فأدبر، وزالوا فذمر خالد الناس، وقال: دونكم لا تقيلوهم! وركبوهم فكانت هزيمتهم؛ فقال مسيلمة حين قام، وقد تطاير الناس عنه، وقال قائلون: فأين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم، قال: ونادى المحكم: يا بنى حنيفة؛ الحديقة الحديقة! ويأتى وحشى على مسيلمة وهو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ، فخرط عليه حربته فقتله، واقتحم الناس عليهم حديقة الموت من حيطانها وأبوابها، فقتل في المعركة، وحديقة الموت عشرة آلاف مقاتل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هارون، وطلحة، عن عمرو بن شعيب وابن إسحاق أنهم لما امتازوا وصبروا، وانحازت بنو حنيفة تبعهم المسلمون يقتلونهم؛ حتى بلغوا بهم إلى حديقة الموت، فاختلفوا في قتل مسيلمة عندها، فقال قائلون: فيها قتل، فدخلوها وأغلقوها عليهم، وأحاط المسلمون بهم وصرخ البراء بن مالك، فقال: يا معشر المسلمين، احملونى على الجدار حتى تطرحونى عليه؛ ففعلوا حتى إذا وضعوه على الجدار نظر وأرعد فنادى: أنزلونى، ثم قال: احملونى؛ ففعل ذلك مرارًا ثم قال: أف لهذا خشعا! ثم قال: احملونى، فلما وضعوه على الحائط اقتحم عليهم، فقاتلهم على الباب حتى فتحه للمسلمين وهم على الباب من خارج فدخلوا؛ فأغلق الباب عليهم، ثم رمى بالمفتاح من وراء الجدار، فاقتتلوا قتالا شديدًا لم يروا مثله، وأبير من في الحديقة منهم؛ وقد قتل الله مسيلمة، وقالت له بنو حنيفة: أين ما كنت تعدنا! قال: قاتلوا عن أحسابكم! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن هاوون وطلحة وابن إسحاق، قالوا: لما صرخ الصارخ أن العبد الأسود قتل مسيلمة؛ خرج خالد بمجاعة يرسف في الحديد ليريه مسيلمة، وأعلام جنده، فأتى على الرجال فقال: هذا الرجال!
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ المسلمون من مسيلمة أتى خالد فأخبر، فخرج بمجاعة يرسف معه في الحديد ليدله على مسيلمة، فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل - وكان رجلا جسيمًا وسيمًا - فلما رآه خالد، قال: هذا صاحبكم. قال: لا، هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكم اليمامة. قال: ثم مضى خالد يكشف له القتلى حتى دخل الحديقة، فقلب له القتلى؛ فإذا رويجل أصيفر أخينس. فقال مجاعة: هذا صاحبكم، قد فرغتم منه، فقال خالد لمجاعة: هذا صاحبكم الذي فعل بكم ما فعل، قال: قد كان ذلك يا خالد، وإنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس؛ وإن جماهير الناس لفى الحصون. فقال: ويلك ما تقول! قال: هو والله الحق؛ فهل لأصالحك على قومي.
كتب إلى أسرى، عن تشعيب، عن سيف، عن الضحاك، عن أبيه، قال: كان رجل من بنى عامر بن حنيفة يدعى الأغلب بن عامر بن حنيفة، وكان أغلظ أهل زمانه عنقًا؛ فلما انهزم المشركون يومئذ، وأحاط المسلمون بهم، تماوت، فلما أثبت المسلمون في القتلى أتى رجل من الأنصار يكنى أبا بصيرة ومعه نفر عليه، فلما رأوه مخضلا في القتلى وهم يحسبونه قتيلا، قالوا: يا أبا بصيرة، إنك تزعم - ولم تزل تزعم - أن سيفك قاطع، فاضرب عنق هذا الأغلب الميت، فإن قطعته فكل شئ كان يبلغنا حق، فاختره ثم مشى إليه ولا يرونه إلا ميتًا، فلما دنا منه ثار، فحاضر، واتبعه أبو بصيرة، وجعل يقول: أنا أبو بصيرة الأنصاري! وجعل الأغلب يتمطر ولا يزداد منه إلا بعدًا؛ فكلما قال ذلك أبو بصيرة، قال الأغلب: كيف ترى عدو أخيك الكافر! حتى أفلت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: لما فرغ خالد من مسيلمة والجند، قال له عبد الله ابن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر: ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون، فقال: دعانى أبث الخيول فألقط من ليس في الحصون، ثم أرى رأيى. فبث الخيول فحووا ما وجدوا من مال ونساء وصبيان، فضموا هذا إلى العسكر، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون، فقال له مجاعة: إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن الحصون لمملوءة رجالًا، فهلم لك إلى الصلح على ما ورائى، فصالحه على كل شئ دون النفوس. ثم قال: أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر؛ ثم أرجع إليك. فدخل مجاعة الحصون، وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية، ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهن؛ ثم رجع فأتى خالدًا فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما صنعت، وقد أشرف لك بعضهم نقصًا على وهم منى برآء. فنظر خالد إلى رءوس الحصون وقد اسودت، وقد نهكت المسلمين الحرب، وطال اللقاء؛ وأحبوا أن يرجعوا على الظفر، ولم يدروا ما كان كائنًا لو كان فيها رجال وقتال، وقد قتل من المهاجرين والأنصار من أهل قصبة المدينة يومئذ ثلثمائة وستون. قال سهل: ومن المهاجرين من غير أهل المدينة والتابعين بإحسان ثلثمائة من هؤلاء وثلثمائة من هؤلاء؛ ستمائة أو يزيدون. وقتل ثابت بن قيس يومئذ؛ قتله رجل من المشركين قطعت رجله، فرمى بها قاتله فقتله، وقتل من بني حنيفة في الفضاء بعقرباء سبعة آلاف، وفي حديقة الموت سبعة آلاف؛ وفي الطلب نحو منها.
وقال ضرار بن الأزور في يوم اليمامة:
ولو سئلت عنا جنوب لأخبرت ** عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرقت ** حجارته فيها من القوم بالدم
عشية لا تغنى الرماح مكانها ** ولا النبل إلا المشرفي المصمم
فإن تبتغى الكفار غير مليمة ** جنوب، فإنى تابع الدين مسلم
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة ** ولله بالمرء المجاهد أعلم
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قال مجاعة لخالد ما قال إذ قال له: فهلم لأصالحك عن قومي لرجل قد نهكته الحرب، وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب؛ فقد رق وأحب الدعة والصلح. فقال: هلم لأصالحك، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي. ثم قال: إني آتى القوم فأعرض عليهم ما قد صنعت. قال: فانطلق إليهم، فقال للنساء: البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون، ففعلن. ثم رجع إلى خالد، وقد رأى خالد الرجال فيما يرى على الحصون عليهم الحديد. فلما انتهى إلى خالد، قال: أبوا ما صالحتك عليه، ولكن إن شئت صنعت لك شيئًا، فعزمت على القوم. قال: ما هو؟ قال: تأخذ منى ربع السبي وتدع ربعًا. قال خالد: قد فعلت، قال: قد صالحتك، فلما فرغا فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلا النساء والصبيان، فقال خالد لمجاعة: ويحك خدعتني! قال: قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، قال: قال مجاعة يومئذ ثانية: إن شئت أن تقبل مني نصف السبي والصفراء والبيضاء والحلقة والكراع عزمت وكتبت الصلح بيني وبينك. ففعل خالد ذلك، فصالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع وعلى نصف السبي وحائط من كل قرية يختاره خالد، ومزرعة يختارها خالد. فتقاضوا على ذلك، ثم سرحه، وقال: أنتم بالخيار ثلاثًا؛ والله لئن تتموا وتقبلوا لأنهدن إليكم، ثم لا أقبل منكم خصلة أبدًا إلا القتل. فأتاهم مجاعة فقال: أما الآن فاقبلوا، فقال سلمة بن عمير الحنفى: لا والله لا نقبل؛ نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضى خالدًا، فإن الحصون حصينة والطعام كثير، والشتاء قد حضر. فقال مجاعة: إنك امرؤ مشئوم، وغرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح، وهل بقي منكم أحد فيه خير، أو به دفع! وإنما أنا بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة، فخرج مجاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا، فقال: بعد شد مارضوا؛ اكتب كتابك، فكتب: هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد بن مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا؛ قاضاهم على الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية؛ ومزرعة؛ على أن يسلموا. ثم أنتم آمنون بأمان الله؛ ولكم ذمة خالد بن الوليد وذمة أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ، وذمة المسلمين على الوفاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: لما صالح خالد مجاعة؛ صالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة وكل حائط رضانا في كل ناحية ونصف المملوكين. فأبوا ذلك، فقال خالد: أنت بالخيار ثلاثة أيام، فقال سلمة بن عمير: يا بني حنيفة، قاتلوا عن أحسابكم، ولا تصالحوا على شئ، فإن الحصن حصين، والطعام كثير وقد حضر الشتاء. فقال مجاعة: يا بني حنيفة، أطيعوني واعصوا سلمة، فإنه رجل مشئوم، قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة ((قبل أن تستردف النساء غير رضيات، وينكحن غير خطيبات)). فأطاعوه وعصوا سلمة، وقبلوا قضيته. وقد بعث أبو بكر رضي الله عنه بكتاب إلى خالد مع سلمة بن سلامة بن وقش، يأمره إن ظفره الله عز وجل أن يقتل من جرت عليه المواسى من بني حنيفة، فقدم فوجده قد صالحهم، فوفى لهم، وتم على ما كان منه، وحشرت بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة مما كانوا عليه إلى خالد، وخالد في عسكره؛ فلما اجتمعوا قال سلمة بن عمير لمجاعة: استأذن لي على خالد أكلمه في حاجة له عندي ونصيحة - وقد أجمع أن يفتك به - فكلمه فأذن له، فأقبل سلمة بن أمير، مشتملًا على السيف يريد ما يريد، فقال: من هذا المقبل؟ قال مجاعة: هذا الذي كلمتك فيه، وقد أذنت له، قال: أخرجوه عني؛ فأخرجوه عنه، ففتشوه فوجدوا معه السيف، فلعنوه وشتموه وأوثقوه، وقالوا: لقد أردت أن تهلك قومك، وايم الله ما أردت إلا أن تستأصل بنو حنيفة، وتسبى الذرية والنساء؛ وايم الله لو أن خالدًا علم أنك حملت السلاح لقتلك، وما نأمنه إن بلغه ذلك أن يقتلك وأن يقتل الرجال ويسبي النساء بما فعلت؛ ويحسب أن ذلك عن ملإ منا. فأوثقوه وجعلوه في الحصن؛ وتتابع بنو حنيفة على البراء مما كانوا عليه، وعلى الإسلام، وعاهدهم سلمة على ألا يحدث حدثًا ويعفوه، فأبوا ولم يثقوا بحمقه أن يقبلوا منه عهدًا، فأفلت ليلًا؛ فعمد إلى عسكر خالد، فصاح به الحرس، وفزعت بنو حنيفة، فاتبعوه فأدركوه في بعض الحوائط، فشد عليهم بالسيف؛ فاكتنفوه بالحجارة، وأجال السيف على حلقه فقطع أوداجه، فسقط في بئر فمات.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الضحاك بن يربوع، عن أبيه، قال: صالح خالد بني حنيفة جميعًا إلا ما كان بالعرض والقرية فإنهم سبوا عند انبثات الغارة، فبعث إلى أبي بكر ممن جرى عليه القسم بالعرض والقرية من بني حنيفة أو قيس بن ثعلبة أو يشكر، خمسمائة رأس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم إن خالدًا قال لمجاعة: زوجني ابنتك، فقال له مجاعة: مهلًا، إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك. قال: أيها الرجل، زوجني؛ فزوجه؛ فبلغ ذلك أبا بكر، فكتب إليه كتابًا يقطر الدم: لعمري يا بن أم خالد، إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد! قال: فلما نظر خالد في الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأعيسر - يعنى عمر بن الخطاب - وقد بعث خالد بن الوليد وفدًا من بني حنيفة إلى أبي بكر، فقدموا عليه، فقال لهم أبو بكر: ويحكم! ما هذا الذي استزل منكم ما استزل! قالوا: يا خليفة رسول الله؛ قد كان الذي بلغك مما أصابنا كان أمرًا لم يبارك الله عز وجل له ولا لعشيرته فيه، قال: على ذلك، ما الذي دعاكم به! قالوا: كان يقول: ((يا ضفدع نقي نقي، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين؛ لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض؛ ولكن قريشًا قوم يعتدون)).
قال أبو بكر: سبحان الله! ويحكم! إن هذا لكلام ما خرج من إل ولا بر، فأين يذهب بكم! فلما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة - وكان منزله الذي به التقى الناس أباض؛ واد من أودية اليمامة. ثم تحول إلى واد من أوديتها يقال له الوبر - كان منزله بها.
ذكر خبر أهل البحرين وردة الحطم ومن تجمع معه بالبحرين
قال أبو جعفر: وكان فيما بلغنا من خبر أهل البحرين وارتداد من ارتد منهم ما حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا سيف، قال: خرج العلاء بن الحضرمي نحو البحرين؛ وكان من حديث البحرين أن النبي ﷺ والمنذر بن ساوى اشتكيا في شهر واحد، ثم مات المنذر بعد النبي ﷺ بقليل، وارتد بعده أهل البحرين، فأما عبد القيس ففاءت، وأما بكر فتمت على ردتها؛ وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود حتى فاءوا.
حدثنا عبيد الله، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: قدم الجارود بن المعلى على النبي ﷺ مرتادًا، فقال: أسلم يا جارود، فقال: إن لي دينًا، قال له النبي ﷺ: إن دينك يا جارود ليس بشئ، وليس بدين؛ فقال له الجارود: فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك؟ قال: نعم. فأسلم ومكث بالمدينة حتى فقه فلما أراد الخروج، قال: يا رسول الله، هل نجد عند أحد منكم ظهرًا نتبلغ عليه؟ قال: ما أصبح عندنا ظهر، قال: يا رسول الله؛ إنا نجد بالطريق ضوال من هذه الضوال، قال: تلك حرق النار، فإياك وإياها. فلما قدم على قومه دعاهم إلى الإسلام فأجابوه كلهم، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات النبي ﷺ. فقالت عبد القيس: لو كان محمد نبيًا لما مات؛ وارتدوا، وبلغه ذلك فبعث فيهم فجمعهم، ثم قام فخطبهم، فقال: يا معشر عبد القيس؛ إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ولا تجيبوني إن لم تعلموا. قالوا: سل عما بدا لك، قال: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أو ترونه؟ قالوا: لا بل نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمدًا ﷺ مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؛ وأنك سيدنا وأفضلنا. وثبتوا على إسلامهم، ولم يبسطوا ولم يبسط إليهم وخلوا بين سائر ربيعة وبين المنذر والمسلمين، فكان المنذر مشتغلًا بهم حياته، فلما مات المنذر حصر أصحاب المنذر في مكانين حتى تنقذهم العلاء.
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، قال: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث أبو بكر رضي الله عنه العلاء بن الحضرمي. وكان العلاء هو الذي كان رسول الله ﷺ بعثه إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم المنذر، فأقام بها العلاء أميرًا لرسول الله ﷺ، فمات المنذر بن ساوى بالبحرين بعد متوفى رسول الله ﷺ، وكان عمرو بن العاص بعمان، فتوفي رسول الله ﷺ وعمرو بها فأقبل عمرو، فمر بالمنذر بن ساوى وهو بالموت فدخل عليه فقال المنذر له: كم كان رسول الله ﷺ يجعل للميت من المسلمين من ماله عند وفاته؟ قال عمرو: فقلت له: كان يجعل له الثلث؛ قال: فما ترى لي أن أصنع في ثلث مالي؟ قال عمرو: فقلت له: إن شئت قسمته في أهل قرابتك، وجعلته في سبيل الخير؛ وإن شئت تصدقت به فجعلته صدقة محرمة تجري من بعدك على من تصدقت به عليه. قال: ما أحب أن أجعل من مالي شيئًا محرمًا كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ولكن أقسمه، فأنفذه على من أوصيت به له يصنع به ما يشاء.
قال: فكان عمرو يعجب لها من قوله. وارتدت ربيعة بالبحرين فيمن ارتد من العرب، إلا الجارود بن عمرو بن حنش بن معلى؛ فإنه ثبت على الإسلام ومن معه من قومه، وقام حين بلغته وفاة رسول الله ﷺ وارتداد العرب، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأكفر من لا يشهد. واجتمعت ربيعة بالبحرين وارتدت، فقالوا: نرد الملك في آل المنذر، فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، وكان يقول حين أسلم وأسلم الناس وغلبهم السيف: لست بالغرور؛ ولكنى المغرور
حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنا سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمير بن فلان العبدي، قال: لما مات النبي ﷺ خرج الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة فيمن اتبعه من بكر بن وائل على الردة، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم بزل كافرًا، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثًا إلى دارين، فأقاموا له ليجعل عبد القيس بينه وبينهم، وكانوا مخالفين لهم، يمدون المنذر والمسلمين؛ وأرسل إلى الغرور بن سويد، أخي النعمان بن المنذر؛ فبعثه إلى جؤاثي، وقال: اثبت، فإني إن ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة. وبعث إلى جؤاثي، فحصرهم وألحوا عليهم فاشتد على المحصورين الحصر، وفي المسلمين المحصورين رجل من صالح المسلمين يقال له عبد الله بن حذف؛ أحد بني أبي بكر بن كلاب، وقد اشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا. وقال في ذلك عبد الله بن حذف:
ألا أبلغ أبا بكر رسولًا ** وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام ** قعود في جؤائي محصرينا!
كأن دماءهم في كل فج ** شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا ** وجدنا الصبر للمتوكلينا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية ابن بلال، عن سهم بن منجاب، عن منجاب بن راشد، قال: بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين؛ فلما أقبل إليها؛ فكان بحيال اليمامة، لحق به ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة من بني سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفه، وكان متلددًا؛ وقد ألحق عكرمة بعمان ثم مهرة، وأمر شرحبيل بالمقام حيث انتهى إلى أن يأتيه أمر أبي بكر، ثم يغاور هو وعمرو بن العاص أهل الردة من قضاعة. فأما عمرو بن العاص فكان يغاور سعدًا وبليًا وأمر هذا بكلب ولفها، فلما دنا منا ونحن في عليا البلاد لم يكن أحد له فرس من الرباب وعمرو بن تميم إلا جنبه، ثم استقبله؛ فأما بنو حنظلة فإنهم قدموا رجلا وأخروا أخرى. وكان مالك بن نويرة في البطاح ومعه جموع يساجلنا ونساجله. وكان وكيع بن مالك في القرعاء معه جموع يساجل عمرا وعمرو يساجله، وأما سعد بن زيد مناة فإنهم كانوا فرقتين؛ فأما عوف والأبناء فإنهم أطاعوا الزبرقان بن بدر، فثبتوا على إسلامهم وتموا وذبوا عنه؛ وأما المقاعس والبطون فإنهما أصاخا ولم يتابعا؛ إلا ما كان من قيس بن عاصم؛ فإنه قسم الصدقات التي كانت اجتمعت إليه في المتقاعس والبطون حين شخص الزبرقان بصدقات عوف والأبناء؛ فكانت عوف والأبناء مشاغيل بالمقاعس والبطون. فلما رأى قيس بن عاصم ما صنعت الرباب وعمرو ومن تلقى العلاء ندم على ما كان فرط منه، فتلقى العلاء بإعداد ما كان قسم من الصدقات، ونزع عن أمره الذي كان هم به، واستاق حتى أبلغها إياه، وخرج معه إلى قتال أهل البحرين؛ وقال في ذلك شعرًا كما قال الزبرقان في صدقته حين أبلغها أبا بكر؛ وكان الذي قال الزبرقان في ذلك:
وفيت بأذواد الرسول وقد أبت ** سعاة فلم يردد بعيرًا مجيرها
معًا ومنعناها من الناس كلهم ** ترامى الأعادي عندنا ما يضيرها
فأديتها كي لا أخون بذمتى ** محانيق لم تدرس لراكب ظهورها
أردت بها النقوى ومجد حديثها ** إذا عصبة سامى قبيلي فخورها
وإني لمن حي إذا عد سعيهم ** يرى الفخر منها حيها وقبورها
أصاغرهم لم يضرعوا وكبارهم ** رزان مراسيها، عفاف صدورها
ومن رهط كناد توفيت ذمتي ** ولم يثن سيفي نبحها وهريرها
ولله ملك قد دخلت وفارس ** طعنت إذا ما الخيل شد مغيرها
ففرجت أولاها بنجلاء ثرة ** بحيث الذي يرجو الحياة يضيرها
ومشهد صدق قد شهدت فلم أكن ** به خاملًا واليوم يثنى مصيرها
أرى رهبة الأعداء مني جراءةً ** ويبكي إذا ما النفس يوحى ضميرها
وقال قيس عند استقبال العلاء بالصدقة:
ألا أبلغا عني قريشًا رسالة ** إذا ما أتتها بينات الودائع
حبوت بها في الدهر أعراض منقر ** وأيأست منها كل أطلس طامع
وجدت أبي والخال كانا بنجوة ** بقاع فلم يحلل بها من أدافع
فأكرمه العلاء، وخرج مع العلاء بن عمرو وسعد الرباب مثل عسكره، وسلك بنا الدهناء؛ حتى إذا كنا في بحبوحتها والحنانات والعزافات عن يمينه وشماله، وأراد الله عز وجل أن يرينا آياته نزل وأمر الناس بالنزول، فنفرت الإبل في جوف الليل؛ فما بقي عندنا بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء إلا ذهب عليها في عرض الرمل، وذلك حين نزل الناس، وقبل أن يحطوا؛ فما علمت جمعًا هجم عليهم من الغم ما هجم علينا وأوصى بعضنا إلى بعض، ونادى منادي العلاء: اجتمعوا، فاجتمعنا إليه، فقال: ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم؟ فقال الناس: وكيف نلام ونحن إن بلغنا غدًا لم تحم شمسه حتى نصير حديثًا! فقال: أيها الناس؛ لا تراعوا، ألستم مسلمين! ألستم في سبيل الله! ألستم أنصار الله! قالوا: بلى، قال: فأبشروا؛ فواله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بنا، ومنا المتيمم، ومنا من لم يزل على طهوره؛ فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس، فنصب في الدعاء ونصبوا معه؛ فلمع لهم سراب الشمس؛ فالتفت إلى الصف، فقال: رائد ينظر ما هذا؟ ففعل ثم رجع، فقال: سراب، فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر فكذلك، ثم لمع لهم آخر، فقال: ماء، فقام وقام الناس، فمشينا إليه حتى نزلنا عليه، فشربنا واغتسلنا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد من كل وجه، فأناخت إلينا، فقام كل رجل إلى ظهره، فأخذه، فما فقدنا سلكًا. فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النهل؛ وتروينا ثم تروحنا - وكان أبو هريرة رفيقي - فلما غبنا عن ذلك المكان، قال لي: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا من أهدى العرب بهذه البلاد قال: فكن معي حتى تقيمني عليه، فكررت به، فأتيت به على ذلك المكان بعينه؛ فإذا هو لا غدير به، ولا أثر للماء، فقلت له: والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان؛ وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعًا قبل اليوم؛ وإذا إداوة مملوءة، فقال: يا أبا سهم، هذا والله المكان؛ ولهذا رجعت ورجعت بك. وملأت إداوتي ثم وضعنها على شفيره، فقلت ﷺ إن كان منا من المن وكانت آية عرفتها؛ وإن كان غياثًا عرفته؛ فإذا من من المن، فحمد الله، ثم سرنا حتى ننزل هجر. قال: فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر أن انضما في عبد القيس حتى تنزل على الحطم مما يليكما؛ وخرج هو فيمن جاء معه وفيمن قدم عليه؛ حتى ينزل عليه مما يلي هجر، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم إلا أهل دارين، وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي وخندق المسلمون والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم؛ فكانوا كذلك شهرًا؛ فبينا الناس ليلة إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة؛ كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - وكانت أمه عجلية - فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له ﷺ من أنت؟ فانتسب لهم، وجعل ينادي: يا أبجراه! فجاء أبجر بن بجير، فعرفه فقال: ما شأنك؟ فقال: لا أضيعن الليلة بين اللهازم! علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وقيس وعنزة! أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود! فتخلصه، وقال: والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة! فقال: دعني من هذا وأطمعني؛ فإني قد مت جوعًا. فقرب له طعامًا؛ فأكل ثم قال: زودني واحملني وجوزني أنكطلق إلى كيتي. ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب، ففعل وحمله على بعير، وزوده وجوزه؛ وخرج عبد الله بن حذف حتى دخل عسكر المسلمين، فأخبرهم أن القوم سكارى، فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عليهم عسكرهم، فوضعوا السيوف فيهم حيث شاءوا، واقتحموا الخندق هرابا، فمترد، وناج ودهش، ومقتول أو مأسور، واستولى المسلمون على ما في العسكر؛ لم يفلت رجل إلا بما عليه؛ فأما أبجر فأفلت، وأما الحطم فإنه الحطم بعل ودهش، وطار فؤاده؛ فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم - ليركبه؛ فلما وضع رجله في الركاب انقطع به، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم، والحطم يستغيث ويقول: ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني! فرفع صوته، فعرف صوته فقال: أبو ضبيعية! قال: نعم، قال: أعطني رجلك أعقلك، فأعطاه رجله يعقله، فنفحها فأطنها من الفخذ، وتركه، فقال: أجهز على، فقال: إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال: هل لك في الحطم أن تقتله؟ ويقول: ذاك لمن لا يعرفه، حتى مر به قيس بن عاصم، فقال له ذلك، فمال عليه فقتله، فلما رأى فخذه نادرة، قال: واسوأتاه! لو علمت الذي به لم أحركه؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم، فاتبعوهم، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب، وسلم النسا؛ فكانت رادة، وقال عفيف بن المنذر: ال: أبو ضبيعية! قال: نعم، قال: أعطني رجلك أعقلك، فأعطاه رجله يعقله، فنفحها فأطنها من الفخذ، وتركه، فقال: أجهز على، فقال: إني أحب ألا تموت حتى أمضك. - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم لا يمر به في الليل أحد من المسلمين إلا قال: هل لك في الحطم أن تقتله؟ ويقول: ذاك لمن لا يعرفه، حتى مر به قيس بن عاصم، فقال له ذلك، فمال عليه فقتله، فلما رأى فخذه نادرة، قال: واسوأتاه! لو علمت الذي به لم أحركه؛ وحرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم، فاتبعوهم، فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس - فلما خشى أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب، وسلم النسا؛ فكانت رادة، وقال عفيف بن المنذر:
فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا ** وما كل من يهوى بذلك عالم
ألم تر أنا قد فللنا حماتهم ** بأسرة عمرو والرباب الأكارم
وأسر عفيف بن المنذر الغرورين سويد، فكلمته الرباب فيه، وكان أبوه ابن أخت التيم، وسألوه أن يجيره، فقال للعلاء: إني قد أجرت هذا، قال: ومن هذا؟ قال: الغرور، قال: أنت غررت هؤلاء، قال: أيها الملك، إني لست بالغرور؛ ولكني المغرور، قال: أسلم، فأسلم وبقي بهجر، وكان اسمه الغرور، وليس بلقب؛ وقتل عفيف المنذر بن سويد المنذر، أخا الغرور لأمه، وأصبح العلاء فقسم الأنفال، ونفل رجالًا من أهل ثباتا، فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمتنة بن أثال؛ فأما ثمامة فنفل ثبابًا فيها خميصة ذات أعلام، كان الحطم يباهي فيها، وباع الثباب وقصد عظم الفلال لدارين، فركبوا فيها السفن، ورجع الآخرون إلى وائل فيهم؛ فكتب العلاء بن الحضرمي إلى عامر بن عبد الأسود بلزوم ما هم عليه والقعود لأهل الردة بكل سبيل، وأمر مسمعًا بمبادرتهم، وارسل إلى خصفة التيمي والمثنى بن حارثة الشيباني، فأقاموا لأولئك بالطريق، فمنهم من أناب، فقبلوا منه واشتملوا عليه؛ ومنهم من أبى ولج فمنع من الرجوع فرجعوا عودهم على بدئهم؛ حتى عبروا إلى دارين، فجمعهم الله بها، وقال في ذلك رجل من بني ضبيعة بن عجل، يدعى وهبا، يعير من ارتد من بكر بن وائل
ألم تر أن الله يسبك خلقه ** فيخبث أقوام ويصفو معشر
لحى الله أقوامًا اصيبوا بخنعة ** أصابهم زيد الضلال ومعمر!
ولم يزل العلاء مقيمًا في عسكر المشركين حتى رجعت إليه الكتب من عند من كان كتب إليه من بكر بن وائل، وبلغه عنهم القيام بأمر الله، والغضب لدينه، فلما جاءه عنهم من ذلك من ذلك ما كان يشتهي، أيقن أنه لن يؤتى من خلقه بشئ يكرهه على أحد من أهل البحرين، وندب الناس إلى دارين، ثم جمعهم فخطبهم، وقال: إن الله قد جمع لكم أحزاب الشياطين وشرد الحرب في هذا البحر؛ وقد أراكم من آباته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم، ثم استعرضوا البحر إليهم، فإن الله قد جمعهم، فاقلوا: مفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولًا ما بقينا.
فارتحل وارتحلوا، حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموا على الصاهل، والجامل، والشاحج والناهق؛ والراكب والراجل، ودعا ودعوا؛ وكان دعاؤه ودعاؤهم: يا أرحم الراحمين، يا كريم، يا كحليم، يا أحد، يا صمد ي حي يا محيي الموتى، يا حي يا قيوم، لا إله إإلا أنت يا ربنا. فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعًا يمشون على مثل رملة ميثاء، فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، وإن ما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر في بعض الحالات، فالتقوا بها، واقتتلوا قتالًا شديدًا، فما تركوا بها مخبرًا وسبوا الذراري، واستاقوا الأموال؛ فبلغ نفل الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين، قطعوا ليلهم وساروا يومهم؛ فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر:
ألم تر أن الله ذلل بحره ** وأنزل بالكفار إحدى الجلائل!
دعونا الذي شق البحار فجاءنا ** بأعجب من فلق البحار الأوائل
ولما رجع العلاء إلى البحرين، وضرب الإسلام فيها بجرانه، وعز الإسلام وأهله، وذل الشرك وأهله؛ أقبل الذين في قلوبهم ما فيها على الإرجاف مرجفون، وقالوا: ها ذاك مفروق، قد جمع رهطه. شيبان وتغلب والنمر، فقال لهم أقوام من المسلمين: إذا تشغلهم عنا اللهازم - واللهازم يومئذ قد استجمع أمرهم على نصر العلاء وطابقوا. وقال عبد الله بن حذف في ذلك:
لا توعدنا بمفرق وأسرته ** إن يأتنا يلق فينا سنة الحطم
وإن ذا الحي من بكر وإن كثروا ** لأمة داخلون النار في أمم
فالنخل ظاهره خيل وباطنه ** خيل تكدس بالفتيان في النعم
وأقفل العلاء بن الحضرمي الناس، فرجع الناس إلا من أحب المقام فقفلنا وقفل ثمامة، ورأوا خميصة الحطم عليه دسوا له رجلًا، وقالوا: سله عنها كيف صارت له؟ وعن الحطم: أهو قتله أو غيره؟ فأتاه، فسأله عنها، فقال: نفلتها. قال: أأنت قتلت الحطم: أهو قتله الحطم؟ قال: لا، ولوددت أني كنت قتلته، قال: فما بال هذه الخمصية معك؟ قال: ألم أخبرك! فرجع إليهم فأخبرهم، فتجمعوا له، ثم أتوه فاحتوشوه؛ فقال: ما لكم؟ قالوا: هل ينفل إلا القاتل! قال إنها لم تكن عليه، إنما وجدت في رحله، قالوا: كذبت. فأصابوه.
قال: وكان مع المسلمين راهب في هجر؛ فأسلم يومئذ فقيل: ما دعاك إلى الإسلام؟ قال: ثلاثة أشياء، خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل: فيض في الرمال، وتمهيد أثباج البحار، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر. قالوا: وما هو؟ قال: اللهم أنت الرحمن الرحيم؛ لا إله غيرك، والبديع ليس قبلك شئ، والدائم غير الغافل، والحي الذي لا يموت، وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كا شئ بغير تعلم فعلمت أن القوم لم يعانوا أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله.
فلقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يسمعون من ذلك الههجري بعد وكتب العلاء إلى أبي بكر: أما بعد؛ فإن الله تبارك وتعالى فجر لنا الدهناء فيضًا لا ترى غوار به، وأرانا آية وعبرة بعد غم وكرب، لنحمد الله ونمجده، فادع الله واستنصره لجنوده وأعوان دينه.
فحمد أبو بكر الله ودعاه، وقال: وما زلت العرب فيما تحدث عن بلدانها يقولون: إن لقمان حين سئل عن الدهناء: أيحتقرونها أو يدعونها؟ نهاهم، وقال لا تبلغها الأرشية، ولم تقر العيون؛ وإن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلها. اللهم أخلف محمدًا ﷺ فينا ثم كتب إليه العلاء بهزيمة أهل الخندق وقتل الحطم. قتله زيد ومعمر: أما بعد، فإن الله تبارك اسمه سلب عدونا عقولهم، وأذهب ريحهم بشراب أصابوه منالنهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم، فوجدناهم سكارى. فقلناهم إلا الشريد، وقد قتل الله الحطم.
فكتب إلي أبو بكر: أما بعد، فإن بلغك عن نبي شيبان بن ثعلبة تمام على ما بلفك، وخاض فيه المرجفون، فابعث إليهم جندًا فأوطئهم وشرد بهم من خلفهم. فلم يجتمعوا؛ ولم يصر ذلك من إرجافهم إلى شئ
ذكر الخبر عن ردة أهل عمان ومهرة واليمن
قال أبو جعفر: وقد اختلف في تاريخ حرب المسلمين. فقال محمد بن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، عن سلمة عنه: كان فتح اليمانة واليمن والبحرين وبعث الجنود إلى الشأم في سنة اثنتي عشرة وأما زيد فحدثني عن أبي الحسن المدائني في خبر ذكره، عن أبي معشر ويزيد بن عياض بن جعدبة وأبي عييدة بن محمد بن أبي عبيدة وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء، بإسنادهم عن مشيخهم وغيرهم من علماء أهل الشأم وأهل العراق؛ أن الفتوح في أهل الردة كلها كانت لخالد بن الوليد وغيره في سنة إحدى عشرة، إلا أمر ربيعة بن بجير؛ فإنه كان في سنة ثلاث عشرة.
وقصة ربيعة بن بجير التغلبي أن خالد بن الوليد - فيما ذكر في خبره هذا الذي ذكرت عنه - بالمصيخ والحصيد، قام وهو في جمع من المرتدين فقتله، وغنم وسبى، وأصاب ابنة لربيعة بن بجير، فسباها وبعث بالسبى إلى أبي بكر رحمه الله، فصارت ابنة ربيعة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
فأما أمر عمان فإنه كان - فيما كتب إلى السري بن يحيى يخبرني عن شعيب، عن شيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد والغصن بن القاسم وموسى الجليوسي عن ابن محيريز، قال: نبغ بعمان ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، وكا يسامي في الجاهلية الجلندي؛ وادعى بمثل ما ادعى به من كان نبيًا ن وغلب على عمان مرتدًا، وألجأ جيفرًا وعبادًا إلى الأجبال والبحر؛ فبعث جيفر إلى أبي بكر يخبره بذلك، ويستجيشه عليه. فبعث أبو بكر الصديق حذيفة بين محصن الغلفاني من حمير، وعرفجة البارقي من الأزد؛ حذيفة إلى عمان وعرفجه إلى نهرة. وأمرهما أن يجدا السير تى يقدما عمان؛ فإذا كانا منها قريبًا كاتبًا جيفرًا وعبادًا وعملًا برأيهما. فمضيا لما أمرا به؛ وقد كان أبو بكر بعث عكرمة إلى مسيلمة باليمامة، وأتبعه شر حبيل بن حسنة وسمى لهما اليمامة؛ وأمرهما بما أمر به حذيفة وعرفجة. فبادر عكرمة شرحبيل وطلب حظوة الظفر، فنكبه مسيلمة؛ فأحجم عن مسيلمة، وكتب إلى أبي بكر بالخبر، وأقام شرحبيل عليه حيث بلغه الخبر، وكتب أبو بكر إلى شرحبيل بن حسنة؛ أن أقم بأدنى اليمامة حتى يأتيك أمري، وترك أن يمضيه لوجهه له؛ وكتب إلى عكرمة يعنفه لتسرعه، ويقول: لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، والحق بعمان حتى نقاتل أهل عمان، وتعين حذيفة وعرفجة، وكل واحد منكم على خيلة، وحذيفة ما دمتم في عمله على الناس، فإذا فرغتم فامض إلى مهرة ثم ليكن وجهك منها إلى اليمين؛ حتى تلاقى المهاجر ابن أبي أمية باليمن وبحضرموت، وأوططئ من بين عمان واليمن ممن ارتد؛ وليبلعنى بلاؤك.
فمضى عكرمة في أثر عرفجة وحذيفة فيمن كان معه حتى لحق بهما قبل أن ينتهيا إلى عمان، وقد عهد إليهم أن ينتهوا إلى رأى عكرمة بعد الفراغ في السير معه أو المقام بعمان، فلما تلاحقوا - وكانوا قريبًا من عمان بمكتان يدعى رجامًا - واسلوا جيفرًا وعبادًا. وبلغ لقيطًا مجئ الجيش، فجمع جموعه وعسكر بدبًا، وخرج جيفر وعباد من موضعهما الذي كانا فيه، فعسكرا بصحار، وبعثا إلى حذيفة وعرفجة وعكرمة في القدوم عليهما، فقدموا عليهما بصحار، فاستبرءوا ما يليهم حتى رضوا ممن يليهم؛ وكاتبوا رؤساء مع لقيط وبدءوا بسيد بني جديد فكاتبهم وكاتبوه حتى ارفضوا عنه؛ ونهدوا إلى لقيط، فالتقوا على دبا، وقد كمع لقيط العيالات، فجعلهم وراء صفوفهم ليجربهم؛ وليحافظوا على حرمهم - ودبا هي المصر والسوق العظمى - فاقتتلوا بدبا قتالًا شديدًا؛ وكاد لقيط يستعلى الناس؛ فبيناهم كذلك، وقد رأى المسلمون الخلل ورأى المشركون الظفر، جاءت المسلمين موادهم العظمى من بني ناجية؛ وعليهم الخريت بن راشد، ومن عبد القيس وعليهم سيحان بن صوحان، وشواذب عمان من نبي ناجية وعبد القيس، فقوى الله بهم أهل الإسلام، ووهن الله بهم أهل الشرك؛ فولى المشركون الأدبار، فقتلوا منهم في المعركة عشرة آلاف، وركبوهم حتى أثخنوا فيهم، وسبوا الذراري، وقسموا الأموال على المسلمين، وبعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة، ورأى عكرمة وحذيفة أن يقيم حذيفة بعمان حتى يوطئ الأمور، ويسكن الناس؛ وكان الخمس ثمانمائة رأس، وغنموا السوق بحذافيرها. فسار عرفجة إلى أبي بكر بخمس السبى والمغانم، وأقام حذيفة لتسكن الناس، ودعا القبائل حول عمان في الناس، وبدأ بمهرة، وقال في ذلك عباد الناجي:
لعمري لقدي لاقى لقيط بن مالك ** من الشر ما أخزى وجوه الثعالب
وادي أبا بكر ومنهل فارتمى ** خليجان من تياره المتراكب
ولم تنهه الأولى ولم ينكأ العدا ** فألوت عليه خيله بالجنائب
ذكر خبر مهرة بالنجد
ولما فرغ عكرمة وعرفجة وحذيفة من ردة عمان، خرج عكرمة في جنده نحوه مهرة، واستنصر من حول عمان وأهل عمان، وشسار حتى يأتي مهرة، ومعه ممن استنصره من ناجية والأزد وعبد القيس وراسب وسعد من بني تميم بشر؛ حتى اقتحم على مهرة بلادها، فوافق بها جمعين من مهرة: أما أحدهما فبمكان من أرض مهرة يقال له: جيروت وقد امتلأ ذلك الحيز إلى نذدون - قاعين من قيعان مهرة - عليهم شخريت، رجل من بني شخراة؛ وقد انقادت مهرة جميعًا لصاحب هذا الجمع؛ عليهم المصبح، أحد بني محارب والناس كلهم كعه؛ إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين؛ كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه، وكل واحد من الجندين يشتهي أن يكون الفلج لرئيسهم؛ وكان ذلك مما أعان الله به المسلمين وقواهمم على عدوهم؛ ووهنهم.
ولما رأى عكرمة قلة من مع شخريت دعاه إلى الرجوع إلى الإسلام فكان لأول الدعاء، فأجابه ووهن الله بذلك المصبح. ثم أرسل إلى المصبح يدعوه إلى الإسلام والرجوع عن الكفر؛ فاغتر بكثرة من معه وازداد مباعدة لمكان شخريت، فسار إليه عكرمة، وسار معه شخريت، فالتقوا هم والمصبح بالنجد؛ فاقتتلوا أشد من قتال دبا.
ثم أن الله كشف ج - نود المرتدين وقتل رئيسهم، وركبهم المسلمون فقتلوا منهم ما شاؤا وأصابوا ما شاءوا، وأصابوا فيما أصابوا ألفى نجيبة، فخمس عكرمة الفئ، فبعث بالأخماس مع شخريت إلى أبي بكر، وقسم الأربعة الأخماس على المسلمين وازداد عكرمة وجنده قوة بالظهر والمتاع والأداة وأقام عكرمة حتى جمعهم على الذي يجب، وجمع أهل النجد؛ أهل رياض الروضة، وأهل الساحل؛ وأهل الجزائر وأهل المر واللبان وأهل جيروت، وظهور الشحر والصبرات، وينعت، وذات الخيم؛ فبايعوا على الإسلام فكتب بذلك مع البشير - وهو السائب أحد نبي عابد من مخزوم - فقدم على أبي بكر بالفتح، وقدم شخريت بعده بالأخماس، وقال في ذلك علجوم المحاربي:
جزى الله شخريتًا وأفناء هيثم ** وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب
جزاء مسئ لم يراقب لذمة ** ولم يرجها فيما يرجى الأقارب
أعكرمة لولا قومي وفعلهم ** لضاقت عليك بالفضاء المذاهب
وكنا كمن اقتاد كفًا بأخنها ** وحلت علينا في الدهور النوائب
ذكر خبر المرتدين باليمن
قال أبو جعفر: كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف عن طلحة، عن عكرمة وسهل عن القاسم بن محمد، قال: توفي رسول الله ﷺ وعلى مكة وأرضها عتاب بن أسيد والطاهر بن أبي هالة؛ عتاب على بني كنانة، والطاهر على عك؛ وذلك أن النبي ﷺ قال: اجعلوا عمالة عك في بني أبيها معد بن عدنان وعلى الطائف وأرضها عثمان بن أبي العاص ومالك بن عوف النصري؛ عثمان على أهل المدر ومالك على أهل الوبر أعجاز هوازن، وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سيفان بن حرب؛ عمرو بن حزم على الصلاة وأبو سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين رمع وزبيد إلى حد نجران خالد بن سعيد بن العاص، وعلى همدان كلها عامر بن شهر، وعلى صنعاء فيروز الديلمي يسانده داذواية وقيس بن المكشوف، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري وعلى الأشعريين مع عك الطاهرين أببي هالة ومعاذ بن جبل يعلم القوم، وينتقل في عمل كل عامل، فنزابهم الأسود في حياة النبي ﷺ فحاربه النبي عليه السلام بالرسل والكتب حتى قتله الله وعاد أم رالنبي عليه السلام كما كان قبل وفاة النبي عليه السلام بليلة؛ إلا أن مجيئهم لم يحرك الناس، والناس مستعدون له.
فلما بلغهم موت النبي ﷺ انتقضت اليمن والبلدان؛ وقد كانت تذبذبت خيول العنسي - فيما بين نجران إلى صنعاء في عرض ذلك البحر - لا تأوى إلى أحد، ولا يأوى إليها أحد؛ فعمرو بن معد يكرب بحيال فروة بن مسك، ومعاوية بن أس في فالة العيني يتردد؛ ولم يرجع من عمال النبي ﷺ بعد وفاة النبي ﷺ إلا عمرو بن حزم وخالد بن سعيد، ولجأ سائر العمال إلى المسلمين؛ واعترض عمرو بن معد يكرب خالد بن سعيد فسلبه الصماصمة. ورجعت الرسل مع من رجع بالخبر، فرجع جرير بن عبد الله والأقراع بن عبد الله ووبر بن يحنس، فحارب أبو بكر المرتدة جميعًا بالرسل والكتب، كما كان رسول ﷺ حاربهم؛ إلى أن رجع أسامة بن زيد من الشأم، وحزر ذلك ثلاثة أشهر، إلا ما كان من أهل ذي حسي وذي القصة. ثم كان أول مصادم عند رجوع أسامة هم. فخرج إلى الأبرق فلم يصمد لقوم فيفلهم إلا استنفر من لم يرتد منهم إلى آخرين، فيفل بجطائفة من المهاجرين والأنصار والمستنفرة ممن لم يرتد إلى التي تليهم؛ حتى فرغ من آخر أمور الناس، ولا يستعين بالمرتدين.
فكان أول من كتب إليه عتاب بن أسيد، كتب إليه بركوب من ارتد من أهل عمله بمن ثبت على الإسلام، وعثمان بن أبي العاص بركوب من ابن أسيد إلى أهل عمله بمن ثبت على الإسلام فأا عتاب فإنه بعث خالد ابن أسيد إلى أهل تهامة، وقد تجمعت بها جماع من مدلج، وتأشش إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء كنانة، عليهم جندب بن سلمى، أحد بني شنوق، من بني مدلج، ولم يكن في عمل عتاب جمع غيره، فالتقوا بالأبارق، ففرقهم وقتلهمم، واستحر القتل في نبي شنوق، فما زالوا أذلاء قليلًا، وبرت عمالة عتاب، وأفلت جندب، فقال جندب في ذلك:
ندمت وأيقنت الغداة بأنني ** أتيت التي يبقى على المرء عارها
شهدت بأن الله لا شئ غيره ** بنى مدلج فالله ربى وجارها
وبعث عثمان بن أبي العاص بعثا إلى شنوءة، وقد تجمعت بها جماع من الأزد وبجيلة وخثعم؛ عليهم حميضة بن النعمان، وعلى أهل الطائف عثمان بن ربيعة، فالتقوا بشنوءة، فهزموا تلك الجماع، وتفقوا عن حمضية وهرب حمضية في البلاد، فقال في ذلك عثمان بن ربيعة:
فضضنا جمعهم والنقع كاب ** وقد تعدى على الغدر الفتوح
وأبرق بارق لما إلتقينا ** فعاد خلبًا تلك البروق
خبر الأخابث من عك
قال أبو تجعفر: وكان أول منتفض بعد النبي ﷺ بتهامة عك والأشعرون، وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي ﷺ تجمع منهم طخارير، فأقبل إليهم طخارير من الأشعرين وخضهم فانضموا إليهم، فأقاموا على الأعلاب طريق الساحل، وتأشب إليهم أوزاع على غيري رئيس؛ فكتب بذلك الطاهر بن أبي هالة إلى أبي بكر؛ وسار إليهم وكتب أيضًا بمسيرة إليهم، ومعه مسروق العكي حتى انتهى إلى تلك الأوزاع، على الأعلاب، فالتقوا فاقتتلوا، فهزمهم الله، وقتلوهم كل قتلة؛ وأنتنت السبل لقتلهم؛ وكان مقتلهم فتحًا عظيمًا. وأجاب أبو بكر الطاهر قبل أن يأتيه كتابه بالفتح: بلغني كتابك نخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقًا وقومه إلى الأخابث وباعلاب، فقد أصبت، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم، وأقيموا بالأعلاب حتى يأمن طريق الأخابث، ويأتيكم أنري. فسميت تلك الجوع من عك ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث، وسمى ذلك الطريق طريق الأخابث؛ وقال في ذلك الطاهرين أبي هالة:
ووالله لولا الله لا شئ غيره ** لما فض بالأجراع جمع العثاعث
فلم تر عيني مثل يوم رأيته ** بجنب صحار في جموع الأخابث
قتلناهم ما بين قنة خامر ** إلى القيمة الحمراء ذات النبائث
وفئنا بأموال الأخابث عنوة ** جهارًا ولم نحفل بتلك الهثاهث
وعسكر طاهر على طريق الأخابث، ومعه مسروق في عك ينتظر أمر أبي بكر رحمه الله قال أبو جعفر: ولما بلغ أهل نجران وفاة رسول الله ﷺ وهم يومئذ أربعون ألف مقاتل، من بني الأفعى؛ الأمة التي كانوا بها قبل بني الحارث؛ بعثوا وفدًا ليجددوا عهدًا، فقدموا إليه فكتب لهم كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا الكتاب من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ لأهل نجران، أجارهم من جنده ونفسه وأجاز لهم ذمة محمد ﷺ إلا ما رجع عنه محمد رسول الله ﷺ بأمر الله عز وجل في أرضهم وأرض العرب؛ ألا يسكن بها دينان؛ أجارهم على أنفسهم بعد ذلك وملتهم وسائر أموالهم وحاشيتهم وعاديتهم، وغائبهم وشاهدهم، وأسقفهم ورهبانهم وبيعهم حيثما وقعت؛ وعلى ما ملكت أيديهم من قليل أو كثير؛ عليهم ما عليهم، فإذا أدوه فلا يحشرون ولا يعشرون. ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيه؛ ووفى لهم بكل ما كتب يحشرون ولا يعشرون. ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته؛ ووفى لهم بكل ما كتب لهم رسول الله ﷺ وعلى ما في الكتاب من ذمة محمد رسول الله ﷺ وجوار المسلين. وعليهم النصح والإصلاح فيما عليهم من الحق. شهد المسور بن عمرو، وعمرو مولى أبي بكر.
ورد أبو بكر جرير بن عبد الله، وأمره أن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله، ثم يستنفر مقويهم، فيقاتل بهم من ولى عن أمر الله، وأمره أن يأتي خثعم؛ فيقاتل من خرج غضبًا لذى الخلصة؛ ومن أراد إعادته حتى يقتلهم الله، ويقتل من شاركهم فيه؛ ثم يكون وجهه إلى نجران، فيقيم بها حتى يأتيه أمره.
فخرج فنفذ لما أمره به أبو بكر، فلم يقر له أحد إلا رجال في عدة قليلة، فقتلهم وتتبعهم؛ ثم كان وجهه إلى نجران، فأقام بها انتظارًا أمر أبي بكر رحمه الله.
وكتب إلى عثمان بن أبي العاص أن يضرب بعثًا على أهل الطائف على كل مخلاف بقدره، ويلى عليهم رجلا يأمنه ويثق بناجيته؛ فضرب على كل مخلاف عشرين رجلًا، وأمر عليهم أخاه وكتب إلى عتاب بن أسيد؛ أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقو؛ وابعث عليهم رجلًا تأمنه، فسمى من يبعث، وأمر عليهم خالد بن أسيد؛ وأقام أمير كل قوم، وقاموا على رجلً ليأتيهم أمر أبي بكر، وليمر عليهم المهاجر.
ردة أهل اليمن ثانية
قال أبو جعفر: فممن ارتد ثانية منهم، قيس بن عبد يغوث المكشوح؛ كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، قال: كان من حديث قيس في ردته الثانية، أنه حين وقع إليهم الخبر بموت رسول الله ﷺ انتكث، وعمل في تقل فيروز وداذويه وحشيش، وكتب أبو بكر إلى عمير ذي مران وإلى سعيد ذي زود وإلى سميفع ذي الكلاع، وإلى حوشب ذي ظليم، وإلى شهر ذي يناف؛ يأمرهم بالتمسك بالذي هم عليه والقيام بأمر الله والناس، وبعدهم الجنود: من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ إلى عمير بن أفلح ذي مران، وسعيد بن العاقب ذي زود؛ وسميفع بن ناكور ذي الكلاع وحوشب ذي ظليم، وشهر ذي يناف. أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز وجدوا معه فإني قد وليته.
كتب إلي السري عن شعيب عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن عروة بن غزية الدثينى، قال: لما ولى أبو بكر أمر فيروز؛ وهم قبل ذلك متساندون؛ هو ودًا ذويه وجشيش وقيس؛ وكتب إلى وجوه من وجوه أهل اليمن؛ ولما سمع بذلك قيس أرسل إلى ذي الكلاع وأصحابه: إن الأبناء نزاع في بلادكم، ونقلاء فيكم؛ وإن تتركوهم لن يزالزا عليكم؛ وقد أرى من الرأى أن أقتل رءوسهم وأخرجهم من بلادنا. فتبرءوا، فلم يمالئوه ولم ينصروا الأبناء، واعتزلوا وقالوا: لسنا مما ها هنا في شئ، أنت صاحبهم وهم أصحابك.
فتربص لهم قيس. واستعد لقتل رؤسائهم وتسيير عامتهم؛ فكاتب قيس تلك الفالة السيارة اللحجية؛ وهم يصعدون في البلاد ويصوبون، محاربين لجميع من خالفهم؛ فكاتبهم قيس في السر؛ وأمرهم أن يتعجلوا إليه؛ وليكون أمره وأمرهم واحدًا؛ وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن فكتبوا إليه بالاستجابة له، وأخبروه أنهم إليه سراع فلم يفجأ أهل صنعاء إلا الخبر بدونهم منها، فأتى قيس فيروز في ذلك كالفرق من هذا الخبر وأتى داذويه؛ فاستشارهما ليلبس عليهما، ولئلا يتهماه، فنظروا في ذلك واطمأنوا إليه.
ثم إن قيسًا دعاهم من الغد إلى طعام، فبدأ بداذويه، وثنى بفيروز، وثلث بجيشيش؛ فخرج داذويه حتى دخل عليه؛ فلما دخل عليه عاجله فقتله، وخرج فيروز يسير حتى إذا دنا سمع امرأتين على سطحين تتحدثان فقالت إحداهما: هذا مقتول كما قتل داوذويه؛ فلقيهما فعاج حتى يرى أوى القوم الذي أربئوا، فأخبر برجوع فيروز؛ فخرجوا يرطضون، وركض فيروز، وتلقاه جشيش، فخرج معه متوجهًا نحو جبل خولن - وهم أخوال فيروز - فسبقا الخيول إلى الجبل، ثم ينزلا فتوقلا وعليهما خفاف ساذجة فما وصلا حتى تقطعت أقدامهما، فانتهيا إلى خولان وامتنع فيروز بأخواله، وآلى ألا ينتعل ساذجًا، ورجعت الخيول إلى قيس؛ فثار بصنعاء فأخذها، وجبى ما حولها، مقدمًا رجلًا ومؤخرًا أخرى، وأتته خيول الأسود. ولما أوى فيروز إلى أخواله خولان فمنعوه وتأشب إليه الماس كتب إلى أبي بكر بالخبر. فقال قيس: وما خولان! وما فيروز! وما قرار أووا إليه! وطابق على قيس عوام قبائل من كتب أبو بكر إلى رؤسائهم وبقى الرؤساء معتزلين، وعمد قيس إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق: أقر من أقام وأقر عياله، وفرق عيال الذين هربوا إلى فيروز فرقتين؛ فوجه إحداهما إلى عدن؛ ليحملوا في البحر، وحمل الأخرى في البر، وقال لهم جميعًا: الحقوا بأرضكم؛ وبعث معهم من يسيرهم؛ فكان عيال الديلمي ممن سير في البر وعيال داذويه ممن شسير في البحر؛ فلما رأى فيروز أن قد اجتمع عوام أهل اليمن على قيس؛ وأن العيال قد سيروا وعرضهم للنهب، ولم يجد إلى فراق عسكره في تنقذهم سبيلا؛ وبلغه ما قال قيس في استصغاره الأخوال والأبناء، فقال فيروز منتميًا ومفاخرًا وذكر الظعن:
ألا ناديا ظعنًا إلى الرمل ذي النخل ** وقولا لها ألا يقال ولا عذلي
وما ضرهم قول العداوة لو أنه ** أتى قومه عن غير فحش ولا بخل
فدع عنك ظعنًا بالطريق التي هوت ** لطيتها صمد الرمال إلى الرمال
وإنا وإن كانت بصنعاء دارنا ** لنا نسل قوم من عرانينهم نسلى
وللديلم الرزام من بعد باسل ** أبى الخفض واختار الحرور على الظل
وكانت منابيت العراق جسامها ** لرهطى إذا كسرى مراجله تغلي
وباسل أصلى إن نميت ومنصبي ** كما كل عود منتهاه إلى الأصل
هم تركوا مجراى سهلًا وحصنوا ** فجاجي بحسن القول والحسب الجزل
فما عزنا فيالجهل من ذي عداوة ** أبي الله إلا أن يعز على الجهل
ولا عاقنا في السلم عن آل أحمد ** ولا خس في الإسلام إذ أسلموا قبلي
وإن كان سجل من قبيلي أرشنى ** فإني لراج أن يغرقهم سجلي
وقام فيروز في حربه، وتجرد لها، وأرسل إلى بني عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة رسولًا بأنه متخفر بهم، يستمدهم ويستنصرهم في ثقله على الذين يزعجون أثقال الأبناء، وأرسل إلى عك رسولا يستمدهم ويستنصرهم على الذين يزعجون أثقال الأبناء. فركبت عقيل وعليهم رجل من الحلفاء يقال له معاوية، فاعترضوا خيل قيس فتنقذوا أولئك العيال وقتلوا الذين سيرهم، وقصروا عليهم القرى؛ إلى أن رجع فيروز إلى صنعاء، ووثبت عك؛ وعليهم مسروق، فساروا حتى تنقذوا عيالات الأبناء وقصروا عليهم القرى، إلى أن رجع فيروز إلى صنعاء، وأمدت عقيل وعك فيروز بالرجال فلما أتته أمدادهم - فيمن كان اجتمع إليه - خرج فيمن كان تأشب إليه ومن أمده من عك وعقيل، فناهد قيسًا فالتقوا دون صنعاء، فاقتتلوا فهزم الله قيسًا في قومه ومن أنهضوا، فخرج هاربًا في جنده حتى عاد معهم وعادوا إلى مكان الذي كانوا به مبادرين حين هربوا بعد مقتل العنسي، وعليهم قيس، وتذبذبت رافضة العنسي وقيس معهم فيمتا بين صنعاء ونجران، وكان عمرو بن معد يكرب بإزاء فروة بن مسيك في طاعة العنسي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عمرو بن سلمة، قال: وكان من أمر فروة بن مسيك أنه كان قدم على رسول الله ﷺ، وقال في ذلك:
لما رأيت ملوك حمير أعرضت ** كالرجل خان الرجل عرق نسائها
يممت راحلتي أمام محمد ** أرجو فواضلها وحسن ثنائها
وقال له رسول الله ﷺ فيما قال له: هل ساءت ما لقى قومك يوم الرزم يا فروة أو سرك؟ قال: ومن يصيب في قومه بمثل الذي أصبت به في قوم الرزم إلا ساءت ذلك! وكمان يوم الرزم بينهم وبين همدان على يغوث؛ وثن كان يكون في هؤلاء مرة وفي هؤلاء مررة، فأرادت مراد أن تغلبها عليه في مرتهم فقتلهم همدان، ورئيسهم الأجدع أبو مسروق؛ فقال رسول الله ﷺ: أما إن ذلك لم يزدهم في الإسلام إلا خيرًا؛ فقال: قد سرني إذ كان ذلك، فاستعمله رسول الله ﷺ على صدقات مراد ومن نازلهم أو نزل دارهم. وكان عمرو بن معد يكرب قد فارق قومه سعد العشيرة في بني زبيد وأخلاقها، وانحاز إليهم وأسلم معهم؛ فكان فيهم، فلما ارتد العنسي واتبعه عوام مذحج، اعتزل فروة فيمن أقام معه على الإسلام، وارتدعمرو فيمن ارتد، فخلفه العنسي، فجعله بإزاء فروة، فكان بحياله ويمتنع كل واحد منهما لمكان صابحه من البراح، فكانا ينهاديان الشعر، فقال عمرو يذكر إمارة فروة ويعينبها:
وجدنا ملك فروة شر ملك ** حمارًا ساف منخره بقذر
وكنت إذا رأيت أبا عمير ** ترى الحولاء من خبث وغدر
فأجابه فروة:
أتاني عن أبي ثور كلام ** وقدمًا كان في الأبغال يجري
وكان الله يبغضه قديمًا ** على ما كل من خبث وغدر
فبيناهم كذلك قدم عكرمة أبين.
وكتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم وموسى بن الغصن، عن ابن محيريز، قال: فخرج عكرمة من مهرة سائرًا نحو اليمن حتى ورد أبين، ومعه بشر كثير من مهرة، وسعد بن زيد، والأزد، وناجية، وعبد القيس، وحدبان من بني مالك بن كنانة، وعمرو بن جندب من العنبر، فجمع النخع بعد من أصاب من مدبريهم فقال لهم: كيف كنتم في هذا الأمر؟ فقالوا: كنا في الجاهلية أهل صرنا إلى دين. لا نتعاطى ما يتعاطى العرب بعضها من بعض فكيف بنا إذا ثبت عوامهم وهرب من كان فارق من خاصتهم؛ واستبرأ النخع وحمير، وأقام لإجتماعهم، وأرز قيس بن عبد يغوث لهبوط عكرمة إلى اليمن إلى عمرو بن معد يكرب، فلما ضامه وقع بينهما تنازع، فتعايرا، فقال عمرو بن معد يكرب يعير قيسًا غدره بالأبناء وقتله داذويه، ويذكر فراره من فيروز:
غدرت ولم تحسن وفاء ولم يكن ** ليحتمل الأسباب إلا المعود
وكيف لقيس أن ينوط نفسه ** إذا ما جرى والمضرحي المسود!
وقال قيس:
وفيت لقومي وأحتشدت لمعشر ** أصابوا على الأحياء عمرًا ومرثدا
وكنت لدى الأبناء لما لقيتهم ** كأصيد يسمو بالعزازة أصيدا
وقال عمرو بن معد يكرب:
فما إن داذوى لكم بفخر ** ولكن داذوى فضح الذمارا
وفيروز غداة أصاب فيكم ** وأضرب في جموعكم استجارا
ذكر خبر طاهر حين شخص مددا لفيروز
قال أبو جعفر الطبري رحمة الله: قد كان أبو بكر رحمة الله كتب إلى طاهر بن أبي هالة بالنزول إلى صنعاء وإعانة الأبناء؛ مإلى مسروق، فخرجا حتى أتيا صنعاء، وكتب إلى عبد الله بن ثور بن أصغر، بأن يجمع إليه العرب ومن استجاب له من أهل تهامة، ثم يقيم بمكانه حتى يأتيه أمره.
وكان أول ردة عمرو بن معد يكرب أنه كان مع هخالد بن سعيد فخالفه، واستجاب لأسود، فسار إليه خالد بن سعيد حتى لقيه؛ لافاختلفا ضربتين، فضربه خالد على عاتقه فقطع حمالة سيفه فوقع، ووصلت الضربة إلى عاتقه، وضربه عمرو فلم يصنع شيئًا، فلما أراد خالد أن يثنى عليه نزل فتوقل في الجبل، وسلبه فرسه وسيفه الصمصمامة، والحج عمرو فيمن لحج. وصارت إلى سعيد بن العاص الأصغر مواريث آل سعيد بن العاص الأكبر. فلما ولى الكوفة عرض عليه عمرو ابنته، فلم يقبلها، وأتاه في داره بعده سيوف كان خالدًا أصابها باليمن فقال: أيها فضرب الإكاف فقطعه والبرذعة؛ وأسرع في البغل، ثم رده على سعيد، وقال: لو زرتني في بيتي وهو لي لوهبته لك، فما كنت لأقبله إذ وقع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عنسيف، عن المستنير بن يزيد عن عروة بن غزية وموسى، من عند أبي بكر - وكان في آخر من فصل - اتخذ مكة طريقًا، فمر بها فاتبعه خالد بن أسيد، ومر بالطائف فاتبعه عبد الرحمن بن أبي العاص، ثم مضى حتى إذا حاذى جرير بن عبد الله ضمه إليه، وانضم إليه عبد الله بن ثور حين حازاه، ثم قدم على أهل نجران؛ فانضم إليه فروة بم مسيك وفارق عمرو بن معد يكرب قيسًا، وأقبل مستحيبًا؛ حتى دخل على المهاجر على غير أمان؛ فأوثقه المهاجر؛ وأوثق قيسًا، وكتب بحالهما إلى أبي بكر رحمه الله، وبعث بهما إليه. فلما سار المهاجر من نجران إلى اللحجية، والتقت الخيول على تلك الفالة استأمنوا، فأبى أن يؤمنهم، فافترقوا فرقتين؛ فلقى المهاجر إحداهمابعجيب، فأتى عليهم، ولقيت خيوله الأخرى بطريق الأخابث، فأتوا عليهم - وعلى الخيول عبد الله - وقتل الشرداء بكل سبيل، فقدم بقيس وعمرو على أبي بكر، فقال: يا قيس، أعدوت على عباد الله تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين! وهم بقتلة لووجد أمرًا جليًا. وانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئًا، وكان ذلك عملًا عمل في سر لم يكن به بينه، فتجافى له عن دمه، وقال لعمرو ابن معد يكرب: أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور! لو نصرت هذا الدين لرفعك الله. ثم خلى سبيله، ورد هما إلى عشائرهما، وقال عمرو: لا جرم! لأقبلن ولا أعود.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير وموسى قالا: سار المهاجر من عجيب، حتى ينزل صنعاء، وأمر أن يتبعوا شذاذ القبائل الذين هربوا؛ فقتلوا من قدروا عليه منهم كل قتلة، ولم يعف متمردًا، وقبل توبة من أناب من غير المتمرد؛ وعملوا في ذلك على قدر ما رأوا من آثارهم، ورجوا عندهم. وكتب إلى بكر بدخوله صنعاء وبالذي يتبع من ذلك.
ذكر خبر حضرموت في ردتهم
قال أبو جعفر: كتب إلى السري، عنشعيب، عنسيف، عن سهل بن يوسف، عن الصلت، عن كثير بن الصلت، قال: مات رسول الله ﷺ وعماله على بلاد حضرموت: زياد بن لبيد البياض على حضرموت. وعكاشة بن محض على السكاسك والسكون، والمهاجر على كندة - وكان بالمدينة لم يكن خرج حتى توفي رسول الله ﷺ، فبعثه أبو بكر بعد إلى قتال من باليمن والمضي بعد إلى عمله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي السائب، عطاء ابن فلان المخزومي، عن أبيه عن أم سلمة والمهاجرين أبي أمية، أنه كان تخلف عن تبوك، فرجع رسول الله ﷺ وهو عليه عاتب؛ فبينا أم سلمة تغسل رأس رسول الله ﷺ، قالت: كيف ينفعني شئ وأنت عاتب على أخي! فرأت منه رقة؛ فأومأت إلى خادمها؛ فدعته، فلم يزل برسول الله ﷺ ينشر عذره حتى عذره ورضى عنه وأمره على كندة. فاشتكى ولم يطق الذهاب؛ فكتب إلى زياد ليقوم له على عمله: وبرأ بعد، فأتم له أبو بكر إمرته، وأمره بقتال من بين نجران إلى أقصى اليمن؛ ولذلك أبطأ زياد وعكاشة عن مناجرة كندة انتظارًا له كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد؛ قال: كان سبب ردة كندة إحابتهم الأسود العنسى حتى لعن رسول الله ﷺ الملوك الأربعة، وأنهم قبل ردتهم حين أسلموا وأسلم أهل بلاد حضرموت كلهم أمر رسول الله ﷺ بما يوضع من الصدقات أن يوضع صدقة بعض حضرموت في السكون والسكون في بعض حضرموت. فقال نفر من بني وليعة: يا رسول الله، إنا لسنا بأصحاب إبل؛ فإن رأيت أن يبعثوا إلينا بذلك على ظهر! فقال: إن أنتكم! قالوا: فإنغ ننظر، وجاء ذلك الإبان، دعا زياد الناس إلى ذلك، فحضروه فقالت بنو وليعة: أبلغونا كما وعدتم رسول الله ﷺ فقالوا: إن لكم ظهرًا، فهملوا فاحتملوا، ولا حوهم؛ حتى لاحوا زيادا؛ وقالوا له: أنت معهم علينا. فأبى الحضرميون، ولج الكنديون، فرجعوا إلى دارهم، وقدموا رجلً وأخروا أخرى، وأمسك عنهم زياد انتظارًا للمهاجر؛ فلما قدم المهاجر صنعاء، كتب إلى أبي بكر بكل الذي صنع، وأقام حتى قدم عليه جواب كتابه من قبل أبي بكر؛ فكتب إليه أبو بكر وإلى عكرمة، أن يسيرا حتى يقدما حضرموت، وأقر زيادًا على علمه، وأذن لمن معك من بين مكة واليمن في القفل؛ إلا أن يؤثر قوم الجهاد. وأمده بعبيده ابن سعد. ففعل؛ فسار المهاجر من صنعاء يريد حضرموت، وسار عكرمة من أبين يريد حضرموت، فاتقيا بمأرب؛ ثم فوزا من صهيد؛ حتى اقتحما حضرموت، فنزل أحدهما على الأشعث والآخر علة وائل.
كتب إلى السى، عن شعيب عن سيف عن سهل بن يوسف، عن سهيل بن يوسف، عن أبيه، عن كثير بن الصلت؛ قال: وكان زياد بن لبيد حين رجع الكنديون ولجوا ولج الحضرميون، ولى صدقات بني عمرو بم معاوية بنفسه، فقدك عليهم وهم بالرياض، فصدق أول من انتهى إليه منهم؛ وهو غلام، يقال له شيطان بن حجر؛ فأعجبته بكرة من الصدقة، فدعا بنار فوضع عليها الميسم، وإذا الناقة لأخي الشيطان العداء بن حجر، وليست عليه صدقة، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها وظنها غيرها؛ فقال العداء: هذه شذرة بإسمها؛ فقال الشيطان: صدق أخي؛ فإني لم أعطوكموها إلا وأنا أراها غيرها؛ فأطلق شذرة وخذ غيرها، فإ، ها غير متروكة. فرأى زياد أن ذلك منه اعتلال، واتهمه بالكفر ومباعدة الإسلام وتحري الشر. فحمى وحمى الرجلان، فقال زياد: لا ولا تنعم؛ ولا هي لك؛ لقد وقع عليها ميسم الصدقة وصارت في حق الله، ولا سبيل إلى ردها، فلا تكونن شذرة عليكم كالبسوس؛ فنادى العداء: يا آل عمرو، بالرياض أضام وأضهد! إن الذليل من أكل في داره! ونادى: يا أبا السميط، فأقبل أبو السميط حارثة بن سراقة بن معد يكرب؛ فقصد لزياد بن لبيد وهو واقف، فقال: أطلق لهذا الفتى بكرته، وخذ بعيرًا مكانها، فإ، ما بعير مكان بعير، فقال: مكا إلى ذلك سبيل! فقال: ذاك إذا كنت يهوديًا! وعاج إليها، فأطلق عقالها، ثم ضرب على جنبها؛ فبعثها وقام دونها، وهو يقوا:
يمنعها شيخ بخديه الشيب ** ملمع كما يلمع الثوب
فأمر به زياد شبابًا من حضرموت والسكون، فمبعثره وتوطئوه، وكتفوه وكتفوا أصحابه، وارتهنوهم، وأخذوا البكرة فعقلوها كمات انت؛ وقال زياد ابن لبيد في ذلك:
لم يمنع الشذرة أركوب ** والشيخ قد يثنيه أرجوب
وتصايح أهل الرياض وتنادوا، وغضبت بنو معاوية لحارثة، وأظهروا أمرهم، وغضبت السكون لزياد، وغضبت له حضرموت، وقاموا جميعًا دونه. وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء وهؤلاء؛ لا تحدث بنو معاوية لمكان أسرئهم شيئًا، ولا يجد أصحاب زياد على بني معاوية سبيلًا يتعقلون به عليهم؛ فأرسل إليهم زياد: إما أن تصعوا السلاح، وإما أن تؤذنوا بحرب؛ فقالوا: لا نضع السلاح أبدًا حتى ترفضوا وأنتم صغرة قمأة. يا أخابث الناس، ألستم سكان حضرموت وجيران السكون! فما عسيتم أن تكونوا وتصنعوا في دار حضرموت؛ وفي جنوب مواليكم! وقالت له السكون: ناهد القوم، فإنه لا يفطمهم إلا ذلك، فنهد إليهم ليلًا، فقتل منهم، وكاروا عباديد، وتمثل زياد حين أصبح في عسكرهم:
وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالمًا ** فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
ولما هرب القوم خلى عن النفر الثلاثة؛ ورجع زياد إلى منزله على الظفر. ولما رجع الأسراء إلى أصحابهم ذمروهم فتذامروا، وقالوا: لا تصلح البلدة علينا وعلى هؤلاء حتى تخلو لأحد الفريقين. فأجمعوا وعسكروا جميعًا، ونادوا بمنع الصدقة، فتركهم زياد لم يخرج إليهم، وبين زياد وحضرموت والسكون حتى سكن بعضهم عن بعض؛ وهذه النفرة الثانية، وقال السكوني في ذلك:
لعمري وما عمري بعرضة جانب ** ليجتلبن منها المرار بنو عمرو
كذبتم وبيت الله لا تمنعونها ** زيادًا، وقد جئنا زيادًا على قدر
فأقاموا بعد ذلك يسيرًا. ثم أن بني عمرو بن معاوية خصوصًا خرجوا إلى المحاجر، إلى أحماء ححكوها، فنزل جمد محجرًا، ومخوص محجرًا، ومشرح محجرًا، وأبضعة محجرًا، وأختهم العمردة محجرًا - وكانت بنو عمرو بن معاوية على هؤلاء الرؤساء - ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها، فنزل الأشعث بن قيس محجرًا، والسمط بن الأسود محجرًا وكابقت معاوية كلها على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة إلا ما كان من شرحبيل بن السمط وابنه، فإنهما قاما في بني معاوية، فقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل؛ إن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار؛ فكيف بالرجوع عن الجميل وعن الحق إلى الباطل والقبيح! اللهم إنا لا نمالئ قومنا على هذا، وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا - يعني يوم البكرة ويوم النفرة - وخرج ابن صالح وامرؤ القيس بن عابس؛ حتى أتيا زيادًا، فقالا له: بيت القوم، فإن أقوامًا من السكاسك قد انضموا إليهم، وقد تسرع إليهم قوم من السكونوشذاذ من حضرموت، لعلنا نوقع بهم وقعة تورث بيننا عداوة، وتفرق بيننا؛ وإن أبيت خشينا أن يرفض الناس عنا إليهم؛ والقوم غارون لمكان من أتاهم، راجون لمن بقي. فقال: شأنكم. فجمعوا جمعهم، فطرقوهم في محاجرهم، فوجودوهم حول نيرانهم جلوسًا، فعرفوا من يريدون، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية؛ وهم عدد القوم وشوكتهم، من خمسة أوجه في خمس فرق، فأصابوا مشرحًا ومخوصًا وجمدًا وأبضعة وأختهم العمردة أدركتهم اللعنة، وقتلوا فأكثروا، وهرب من أطاق الهرب، ووهنت بنو عمرو بن معاوية، فلم يأتوا بخير بعدها، وانكفأ زياد بالسبى والأموال، وأخذوا طريقًا يفضي بهم إلى عسكر الأشعث وبني الحارث بن معاوية؛ فلما مروا بهم فيه استغاث نسوة بني عمرو بن معاوية ببني الحارث وناديته: يا أشعث، يا أشعث! خلاتك خالاتك! فثار في بني الحارث فتنقذهم - وهذه الثالثة - وقال الأشعث:
منعت بني عمرو وقد جاء جمعهم ** بأمعز من يوم البضيض وأصبرا
وعلم الأشعث أن زيادًا وجنده إذا بلغهم ذلك لم يقلعوا عنه ولا عن بني الحارث بن معاوية وبنيعمرو بن معاوية، فجمع إليه بني الحارث بن معاوية وبني عمرو بن معاوية، ومن أطاعه من السكاسك والخصائص من قبائل ما حولهم، وتباين لهذه الوقعة من بحضرموت من القبائل، فثبت أصحاب زياد على طاعة زياد، ولجت كندة فلما تباينت القبائل كتب زياد إلى المهاجر؛ وكاتبه الناس فتلقاه بالكتاب، وقد قطع صهيد - مفازة ما بين مأرب حضرموت - واستخلف على الجيش عكرمة وتعجل في سرعان الناس، ثم سار حتى قدم على زياد؛ فنهد إلى كندة وعليهم الأشعث، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا به فهزمت كندة، وقتلت وخرجوا هرابًا، فالتجأت إلى النحير وقد رموه وحصنوه، وقال في يوم محجر الزرقان المهاجر:
كنا بزرقان إذ يشردكم ** بحر يزجى في موجه الحطبا
نحن قتلناكم بمحجركم ** حتى ركبتم من خوفنا السببا
إلى حصار يكون أهوانه ** سبى الذرارى وسوقها خببا
وسار المهاجر في الناس من محجر الزرقان حتى نزل على النجير، وقد اجتمعت إليه كنده، فتحصنوا فيه، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، على ثلاثة سبل فنزل زياد على أحدهما، ونزل المهاجر على الآخر، وكان الثالث لهم يؤتون فيه ويذهبون فيه، إلى أن قدم عكرمة في الجيش، فأ، زله على ذلك الطريق، فقطع عليهم المواد وردهم، وفرق في كندة الخيول، وأمرهم أن يوظئهم. وفيمن بعث يزيد بن قنان من بني مالك بن سعد، فقتل من بقرى بني هند إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بن فلان المخزومي وربيعة الحضرمي، فقتلوا أهل محا وأحيا أخر؛ وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقى سائر قومهم، فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه؛ جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمة؛ لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة. فجزوا نواصيهم، وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعذض، وجعل راجزهم يرتجز في جوف الليل فوق حصنهم:
صباح سوء لبني قتيره ** وللأمير من بني المغيره
وجعل راجز المسلمين زياد بن دينار يريد عليهم:
لا تواعدونا واصبرواحصيرة ** نحن خيول ولد المغيره
وفي الصباح تظفر العشيرة فلما أصبحزا خرجوا على الناس، فاقتتلوا بأفنية النجير، حتى كثرت القتلى بحيال كل طريق من الطرق الثلاثة، وجعل عكرمة يرتجز يومئذ، ويقول:
أطعنهم وأنا على أوفاز ** طعنًا أبوء به على مجاز
ويقول:
أنفذ قولي وله نفاذ ** وكل من جاورني معاذ
فهزمت كندة، وقد أكثروا فيهم القتل.
وقال هشام بن محمد: قدم عكرمة بن أبي جهل بعدما ما فرغ المهاجر من امر القوم مددًا لكم، وقد سبقتموهم بالفتح فأشركوهم في الغنيمة. ففعلوا وأشركوا من لحق بهم، وتواصلوا بذلك، وبعثوا بالأخماس والأسرى، وسار البشير فسبقهم؛ وكانوا يبشرون القبائل ويقرءون عليهم الفتح.
وكتب إلى السري، قال: كتب أبو بكر رحمه الله إلى المهاجر مع المغيرة بن شعبة: إذا جاءكم كتابي هذا ولم يظفروا؛ فإن ظفرتم بالقوم فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة، أو ينزلوا على حكمي، فإن جرى بينكم صلح قبل ذلك فعلى أن تخروجوهم من ديارهم؛ فإني أكره أن أقر أقوامًا فعلوا فعلهم في منازلهم، ليعلموا أن قد أساءوا، وليذوقوا وبال بعض الذي أتوا.
قال أبو جعفر: ولما رأى أهل النجير المواد لا تنقجطع عن المسلمين، وأيقنوا أنهم غير منصرفين عنهم، خشعت أنفسهم، ثم خافوا القتل وخاف الرؤساء على أنفسهم؛ ولو صبروا حتى يجئ المغيرة لكانت لهم في الثالثة الصلح على الجلاء نجاة. فعجل الأشعث، فخرج إلى عكرمة بأمان، وكان لا يأمن غيره؛ وذلك أنه كانت تحته أسماء ابنة النعمان بن الجون، خطبها وهو يومئذ بالجند ينتظر المهاجر، فأهداها إليه أبوها قبل أن يبادوا، فأبلغه عكرمة المهاجر، واستأمنه له على نفسه، ونفر معه تسعة؛ على أن يؤمنهم وأهليهم وأن يفتحوا لهم الباب؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: انطلق فاستوثق لنفسك، ثم هلم كتابك أختمه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني، عن سعيد بن أبي بردة، عن عامر، أنه دخل عليه فاستأمنه على أهله وماله، وتسعة ممن أحب، وعلى أن يتفح لهم الباب فيدخلوا على قومه. فقال له المهاجر: اكتب ما شئت واعجل، فكتب أمانة وأمانهم، وفيهم أخوه وبنو عمه وأهلوهم، ونسى نفسه؛ عجل ودهش. ثم جاء بالكتاب فختمه؛ ورجع فسرب الذين في الكتاب.
وقال الأجاح والمجالد: لما لم يبق إلا أن يكتب نفسه وثب عليه جحدم بشفيرة، وقال: نفسك أو تكتبني! فكتبه وترك نفسه.
قال أبو إسحاق: فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلًا إلا قتلوه؛ ضربوا أعناقهم صبرًا، وأحصى ألف امرأة ممن في النجير والخندق؛ ووضع على السبي والفئ الأحراس، وشاركهم كثير.
وقال كثير بن الصلت: لما فتح الباب وفرغ ممن في النجير، وأحصى ما أفاء الله عليهم، دعا الأشعث بأولئك النفر، ودعا بكتابة فعرضهم، فأجاز من في لكتاب، فإذا الأشعث يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزنك الله. الذي أخطأك نوءك يا أشعث، يا عدو الله! قد كنت أشتهي أن يخزيك الله. فشد وثاقًا، وهم بقتله، فقال له عكرمة: أخره، وأبلغه أبا بكر، فهو أعلم بالحكم في هذا. وإنه كان رجلًا نسى اسمه أن يكتبه؛ وهو ولي المخاطبة. أفداك يبطل ذاك! فقال المهاجر: إن أمره لبين، ولكني أتبع المشورة وأورها. وأخره وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فكان معهم يلعنه المسلمون ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار - كلام يمان يسمون به الغادر - وقد كان المغيرة تحير ليله للذي أراد الله، فجاء والقوم في دمائهم والسبي على ظهر، وسارت السبايا والأسرى، فقدم القوم على أبي بكر رحمه الله بالفتح والسبايا والأسرى. فدعا بالأشعث، فقال: استزلك بنو وليعة، ولم تكن لتستنزل لهم - ولا يرونك لذلك أهلًا - وهلكوا وأهلكوك! أما تخشى أن تكون دعوة رسول الله ﷺ قد وصل إليك منها طرف! ما تراني صانعًا بك؟ قال: إني لا علم لي برأيك، وأنت أعلم برأيك، قال: فإني أرى قتلك. قال: فإني أنا الذي راوضت القوم في عشرة، فما يحل دمي، قال: أفوضوا إليك؟ قال نعم، قال: ثم أتيتهم بما فوضوا إليم فختموه لك؟ قال: نعم، قال: فإنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من في الصحيفة، وإنما كنت قبل ذلك مراوضًا. فلما خشى أن يقع به قال: أو تحتسب في خيرًا فتطلق إساري وتقيلني عثرني، وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد على زوجتي - وقد كان خطب أم فروة بنت أبى قحافة مقدمة على رسول الله ﷺ فزوجه وأخرها إلى أن يقدم الثانية، فمات رسول ﷺ وفعل الأشعث ما فعل، فخشى ألا ترد عليه - تجدني خير أهل بلاد لدين الله! فتجافى له عن دمه، وقبل منه، ورد عليه أهله، وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلى عن القوم فذهبوا، وقسم أبو بكر في الناس الخمس، واقتسم الجيش الأربعة الأخماس.
قال أبو جعفر: وأما ابن حميد، فإنه قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن الأشعث لما قدم به على بكر، قال: ماذا تراني أصنع بك؛ فإنك قد فعلت ما علمت! قال: تمن على فتفكني من الحديد وتزوجني أختك؛ فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت. فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة بالمدينة حتى فتح العراق.
رجع الحديث إلى حديث سيف. فلما ولى عمر رحمه الله، قال: إنه ليقبح بالعرب أن يملك بعضهم بعضًا. وقد وسع الله، وفتح الأعاجم. واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها، وجعل فداء كل إنسان سبعة أبعرة وستة أبعرة إلا حنيفة كندة؛ فإنه خفف عنهم لقتل رجالهم، ومن لا يقدر على فداء لقيامهم وأهل دبا، فتتبعت رجالهم نساءهم بكل مكان. فوجد الأشعث في بني ننهد وبني غطيف امرأتين؛ وذلك أنه وقف فيها يسأل عن غراب وعقاب، فقيل: ما تريد إلى ذلك؟ قال: إن نساءنا يوم النجير خطفهن العقبان والغربان والذئاب والكلام. فقال بنو غطيف: هذا غراب، قال: فما موضعه فيكم؟ قالوا: في الصيانة، قال: فنعم، وانصرف. وقال عمر: لا ملك على عربي، للذي أجمع عليه المسلمون معه.
قالوا: ونظر المهاجر في أمر المرأة التي كان أبوها النعمان بن الجون أهداها لرسول الله ﷺ؛ فوصفها أنها لم تشتك قط. فردها، وقال: لا حاجة لنا بها، بعد أن أجلسها بين يديه وقال له: لو كان لها عند الله خير لا شتكت. فقال المهاجر لعكرمة: متى تزوجتها؟ قال " وأنتا بعدن، فأهديت إلى بالجند، فسافرت بها إلى مأرب، ثم أوردتها العسكر. فقال بعضهم: دعها فإنها ليست بأهل أن يرغب فيها. وقال بعضهم: دعها فكتب المهاجر إلى أبي بكر رحمه الله يسأله عن ذلك فكتب إليه أبو بكر: إن أباها النعمان بن الجون أتى رسول الله ﷺ، فزينها له حتى أمره أن يجيئه بها، فلما جاءه بها قال: أزيدك أنها لم تيجع شيئًا قط، فقال: لو كان لها عند الله خير لا شتكت، ورغب عنها؛ فارغبوا عنها. فأرسلها وبقي في قريش بعد ما أمر عمر في السبي بالفداء عدة منهم بشرى بنت فيس بن أبي الكيسم، عند سعد بن مالك، فولدت له عمر، وزرعة بنت مشرح عند عبد الله بن العباس ولدت له عليًا.
كتب أبو بكر إلى المهاجر يخيره اليمن أو حضرموت؛ فاختار اليمن، فكانت اليمن على أميرين: فيروز والمهاجر، زكانت حضرموت على أميرين: عبيدة بن سعد على كندة والسكاسك، وزياد بن لبيد على حضرموت.
وكتب أبو بكر إلى عمان الردة: أما بعد، فإن أحب من أدخلتم في أموركم إلى من لم يرتد ومن كان ممن لم يرتد، فأجتمعوا على ذلك، فاتخذوا منها صنائع وائذنوا لمن شاء في الأنصراف، ولا تستعينوا بمرتد في جهاد عدو.
وقال الأشعث بن مئناس السكوني يبكي أهل النجير:
لعمري وما عمري على بهين ** لقد كنت بالقتلى لحق ضنين
فلا غزو إلا يوم أقرع بينهم ** وما الدهر عندي بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ** ولم تمش أنثى بعدهم لجنين
وكنت كذاب البو ريعت ** فأقبلت على بوها إذ كربت بحنين
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن موسى بن عقبة، عن الضحاك بن خليفة، قال: وقع إلى المهاجر امرأتان مغنيتان؛ غنت إحداهما بشتم رسول الله ﷺ، فقطع يدها، ونزع ثنيتها؛ فكتب إليه أبو بكر رحمه الله: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمه رسول الله ﷺ؛ فلو لا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو يمعاهد فهو محارب.
وكتب إليه أبو بكر في التي تغنت بهجاء المسلمين: أما بعد؛ فإنه بلغني أنك قطعت يدًا امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين، ونزعت تنيتها؛ فإن كانت ممن تدعى الإسلام فأدب وتقدمه دون المثلة، وإن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم؛ لو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروهًا؛ فأقبل الدعة وإياك والمثلة في الناس؛ فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى عشرة - انصرف معاذ بن جبل من اليمن.
وستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب، فكان على القضاء أيام خلافته كلها.
وفيها أمر أبو بكر رحمه الله على الموسم عتاب بن أسيد - فيما ذكره الذين أسند إليهم خبره علي بن محمد الذين ذكرت قبل في كتابي هذا أسماءهم.
وقال علي بن محمد: وقال قوم: بل حج بالناس في إحدى عشرة عبد الرحمن بن عوف عن تأمير أبي إياه بذلك.
ثم كانت سنة اثنتي عشرة من الهجرة
مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة
قال أبو جعفر، ولما فرغ خالد من أمر اليمامة، كتب إليه أبو بكر الصديق رحمه الله؛ وخالد مقيم باليمامة - فيما حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: أخبرنا عمى، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن عمرو بم محمد، عن الشعبي: أن سر إلى العراق حتى تدخلها، وابدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، وتألف أهل فارس، ومن كان في ملكهم من الأمم.
حدثني عمر بن شبة، قال حدثنا علي بن محمد بالأسناد الذي قد تقدم ذكره، عن القوم الذين ذكرتهم فيه، أن أبا بكر رحمه الله وجه المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة، وفيها قطبة بن قتادة السدوسي.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه قال: اختلف في أمر خالد بن الوليد، فقائل يقول: مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق. وقائل يقول: رجع من اليمامة، فقدم المدينة، ثم سار إلى العراق من المدينة على كطريق الكوفة؛ حتى انتهى إلى الحيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان؛ أن أبا بكر رحمه الله كتب إلى خالد بن الوليد يأمره أن يسير إلى العراق، فمضى خالد يريد العراق، حتى نزل بقريات من السواد، يقال لها: بانقيًا وباروسما وأليس؛ فصالحه أهلها، وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا، وذلك في سنة اثنتي عشرة، فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتابًا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد لأبن صلوبا السوادي - ومنزله بشاطئ الفرات - إنك آمن بأمان الله - إذ حقن دمه بإعطاء الجزية - وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتيك - بانقًا وباروسيما ألف درهم، فقبلتها منك، ورضى من معي من المسلمين بها منك، ولك ذمة الله وذمة محمد ﷺ، وذمة المسلمين على ذلك. وشهد هشام بن الوليد.
ثم أقبل خالد بن الوليد بمن معه حتى نزل الحيرة، فخرج إليه أشرفهم مع قبيصة بن إياس بن حية الطائي - وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر - فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم وما عليهم؛ فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة؛ جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فقال له قبيضة بن إياس: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا، ونعطيك الجزية. فصالحهم على تسعين ألف درهم، فكانت أول جزية وقعت بالعراق، هي القربات التي صالح عليها ابن صلوبا.
قال أبو جعفر: وأما هشام بن الكلبي؛ فإنه قال: لما كتب أبو بكر خالد بن الوليد وهو باليمامة أن يسير إلى الشأم، أمره أن يبدأ بالعراق فيمر بها؛ فأقبل خالد منها يسير حتى نزل النباج.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني أبو الخطاب حمزة بن علي، عن رجل من بكر بن وائل، فقال: أمرني على من قبلي من قومي، أقاتل من يليني من أهل فارس، وأكفيك ناحيتي، ففعل ذلك؛ فأقبل فجمع قومه وأخذ يغير بناحية كسكر مرة، وفي أسفل الفرات مرة، ونزل خالد بن الوليد النباج والمثنى بن حارثة بخفان معسكر؛ فكتب إليه خالد بن الوليد ليأتيه، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره فيه بطاعته؛ فانقص إليه جوادًا حتى لحق به، وقد زعمت بنو عجل أنة كان خرج من المثنى بن حارثة رجل منهم يقال له مذعور بن عدي، نازع المثنى بن حارثة، فتكاتبا إلى أبي بكر؛ فكتب أبو بكر إلى العجلي مصر، فشرف بها وعظم شأنه، فداره اليوم بها معرفة؛ وأقبل خالد بن الوليد يسير، فعرض له جابان صاحب أليس، فبعث إليه المثنى بن حارثة، فقاتله فهزمه، وقتل جل أصحابه، إلى جانب نهر ثم يدعى نهر دم لتلك الوقعة؛ وصالح خيل كسرى التي كانت في مسالح ما بينه وبين العرب، فلقوهم بمجتمع الأنهار، فتوجه إليهم المثنى بن حارثة، فهزمهم الله.
ولما راى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلونه؛ فيهم عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبضية، فقال خالد لعبد المسيح: من أين أثرك؟ قال: من ظهر أبي، قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، قال: ويحك! على أي شئ أنت؟ قال: ويحك! تعقل؟ قال: نعم وأقيد، قال إنما أسألك، قال: وأنا أجيبك، قال أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم قال: فما هذه الحصون التي أرى؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجئ الحليم فينهاه. ثم قال لهم خالد: إني أدوكم إلى الله وإلى عبادته وإلى الإسلام، فإن قبلتم فلكم مآلنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم يقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر. فقالوا: لاحاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق. ثم نزل على بانقيًا، فصالحه بصيري بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان؛ وكتب لهم كتابًا وكان صالح خالد أهل الحيرة على أن يكونوا له عيونًا، ففعلوا.
قال هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني المجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن:
من خالد بن الوليد إلى مرازية أهل فارس؛ سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فالحمد لله الذي فض خدمتكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم. وإنه من صلى صلاتنا؛ واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له مالنا، وعليه ما علينا. أما بعد، فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلى بالرهن، واعتقدوا منى الذمة، وإلا فوالذي لا إله لأبعثن إليكم قومًا يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فلما قرءوا الكتاب، أخذوا يتعجبون، وذلك سنة اثنتي عشرة.
قال أبو جعفر: وأما غير ابن إسحاق وغير هشام ومن ذكرت قوله من قبل، فإنه قال في أمر خالد ومسيره إلى العراق ما حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي، عن سيف بن عمر، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة، كتب إليه أبو بكر رحمه الله: إن الله فتح عليك فعارق حتى تلقى عياضًا. وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين النباج والحجاز: أن سر حتى تأتي المصيخ فابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها، وعارق حتى تلقى خالدًا. وأذنا لمن شاء بالرجوع، ولا تستفتحا بمتكاره.
ولما قدم الكتاب على خالد وعياض، وأذنا في القفل عن أمر أبي بكر قفل أهل المدينة وما حولها وأعروهما، فاستمدا أبا بكر، فأمد أبو بكر خالدًا بالقعقاع بن عمرو التيمي، فقيل له: أتمد رجلًا قد ارفض عنه جنزده برجل! فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا. وأمد عياضًا بعبد بن عوف الحميري، وكتب إليهما أن استنفرا من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله ﷺ، ولا يغزون معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي. فلم يشهد الأيام مرتد.
فلما قدم الكتاب على خالد بتأمير العراق، كتب إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور باللحاق به، وأمرهم أن يواعدوا جنود هم الأبلة، وذلك أن أبا بكر أمر خالدًا في كتابه: إذا دخل العراق أن يبدأ بفرج أهل السند والهند - وهو يومئذ الأبلة - ليوم قد سماه، ثم حشر من بينه وبين العراق، فحشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، فقدم في عشرة آلاف على ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة - يعني بالأمراء الأربعة: المثنى، ومذعورًا، وسلمى، وحرملة - فلقى هروز في ثمانية عشر ألفًا حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف، عن المهلب الأسدي عن عبد الرحمن بن سياه، وطلحة بن الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة، قالوا: كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد، إذ أمره على حرب العراق؛ أن يدخلها من أسفلها. وإلى عياض إذ أمره على حرب العراق؛ أن يدخلها من أعلاها؛ ثم يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه، وقال: إذا اجتمعتما بالحيرة، وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءًا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة؛ وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم؛ المدائن.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي عن سيف عن المجالد، عن الشعبي، قال: كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه مع آزاذبه - أبي الزياذبة الذين باليمامة - وهرمز صاحب الثغر يومئذ: أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية؛ وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
قال سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن المغيرة بن عتيبة - وكان قاضي أهل الكوفة - قال: فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريق واحدة. فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر، وسرح عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم؛ وخرج خالد ودليله رافع؛ فواعدهم جميعًا الحفير ليجتمعوا به وليصادموا به عدوهم؛ وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنًا، وأشدها شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب في البر والهند في البحر.
قال - وشاركه المهلب بن عقبة وعبد الرحمن بن سياه الأحمري، الذي تنسب إليه الحمراء سياه - قال: لما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى وإلى أردشير بن شيرى وجمع جموعه، ثم تعجل إلى الكواظم في سرعامن أصحابه ليتلقى خالدًا، وسبق حلبته فلم يجدها طريق خالد، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير، فعاج يبايبادره إلى الحفير فنزله، فتبعني به يبادره إلى الحفير فنزله، فتبعني به، وجعل على مجنبته أخوين يلاقيان أرد شير وشيرى إلى أردشير الأكبر، يقال لهما: فماذا وأنو شجان، واقترنوا في السلاسل، فقال من لم ير ذلك لمن رآه: قيدتم أنفسكم لعدوكم، فلا تفعلوا؛ فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم وقالوا: أما أنتم فحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الجبر خالدًا بأن هرمز في الحفير أمال الناس إلى كاظمة، وبلغ هرمز ذلك. فبادره إلى كاظمة فنزلها وهو حسير؛ وكان من أسوأ أمراء ذلك الفرج جورًا للعرب، فكل العرب عليه مغيظ؛ وقد كانوا ضربوه مثلًا في الخبث حتى قالوا: أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز. وتعبني هرمز وأصحابه واقترنوا في السلاسل، والماء في أيديهم. وقدم خالد عليهم فنزل على غير ماء، فقالوا له في ذلك، فأمر مناديه، فنادى: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين؛ فحطت الأثقال والخيل وقوف، وتقدم الرجل، ثم زحف إليهم حتى لاقاهم؛ فاقتتلوا؛ وأرسل الله سحابة فأغزرت ما وراء صف المسلمين، فقواهم بها؛ وما ارتفع النهار وفي الغائط مقترن.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عبد الملك لن عطاء البكائي؛ عن المقطع بن الهيثم البكائي بمثله، وقالوا: وأرسل هرمز أصحابه بالغد ليغدروا بخالد، فواطئواه على ذلك، ثم خرج هرمز، فنادى رجل ورجل: أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده، فلما نزل خالد نزل هرمز، ودعاه إلى المنزل فنزل خالد فمشى إليه، فالتقيا فاختلفا ضربتين، واحتضنه خالد، وحملت حامية هرمز وغدرت، فاستلحموا خالدًا فما شغله ذلك عن قتله. وحمل القععقاع بن عمرو واستلحم حماة هرمز فأناموا؛ وإذا خالد يماصعهم، وانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وجمع خالد الرثاث وفيها السلاسل، فكانت وقر بعير؛ ألف رطل، فسميت ذات السلاسل، وأفلت قباذ وأنو شجان.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو بن محمد؛ عن الشعبي، قال: كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف. فكان هرمز ممن تم شرفه، فكانت قيمتها مائة ألف؛ فنفلها أبو بكر خالدًا، وكانت مفصصة بالجوهر، وتمام شرف أحدهم أن يكون من بيوتات حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، نعن سيف، عن محمد بن نويرة، عن حنظلة بن زياد بن حنظلة، قال: لما تراجع الطلب من ذلك اليوم، نادى منادي خالد بالرحيل، وسار بالناس، واتبعته الأثقال؛ حتى ينزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وقد أفلت قباذ وأنوشجان، وبعث خالد بالفتح وما بقي من الأخماس وبالفيل، وقرأ الفتح على الناس. ولما قدم زر بم كليب بالفيل مع الأخماس، فطيف به في المدينة ليراه الناس. جعل ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله ما نرى! ورأينه مصنوعًا، فرده أبو بكر مع زر. قال ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة؛ بعث المثنى بن حارثة في آثار القوم؛ وأرسل معقل بن مقرن المزني إلى الأبلة ليحجمع له مالها والسبي، فخرج معقل حتى نزل الأبلة فجمع الأموال والسبايا.
قال أبو جعفر: وهذه القصة في أمر الأبلة وفتحها خلاف ما يعرفه أهل السير، وخلاف ما جاءت به الآثار الصحاح، وإنما كان فتح الأبلة أيام عمر رحمه الله، وعلى يد عتبة بن غزوان في سنة أربع عشرة من الهجرة؛ وسنذكر أمرها وقصة فتحها إذا انتهينا إلى ذلك إن شاء الله.
رجع الحديث إلى حديث سيف، عن محمد بن نويرة، عن حنظلة بن زياد، قال: وخرج المثنى حتى انتهى إلى نهر المرأة، فانتهى إلى الحصن الذي فيه المرأة، فخلف المعنى بن حارثة عليه، فحاصرها في قصرها، ومضى المثنى إلى الرجل فحاصره ثم استنزلهم عنوة؛ فقتلهم واستفاء أموالهم؛ ولما بلغ ذلك المرأة صالحت المثنى وأسلمت، فتزوجها المعنى، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين في شئ من فتوحهم لتقدم أبي بكر إليه فيهم، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، وأقر من لم ينهض من الفلاحين؛ وجعل لهم الذمة؛ وبلغ سهم الفارس في يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.
ذكر وقعة المذار
قال: وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة، ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن زياد والمهلب، عن عبد الرحمن بن سياه الأحمري.
وأما فيما كتب به إلى السري، عن شعيب، عن سيف، فإنه عن سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سرجس الأحمري وعبد الرحمن بن سياه الأحمري وسفيان الأحمري، قالوا: وقد كان هرمز كتب إلى أردشير وشيرى بالخبر بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه، فأمده بقارن بن قريانس، فخرج قارن من المدائن ممدًا لهرمز؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة؛ وانتهت إليه الفلال السواد والجبل: إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدًا؛ فاجتمعوا على العود مرة واحدو، فهذا مدد الملك وهذا قارن، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منا ففعلوا وعسكروا بالمذار، واستعمل قارن على مجنبته قباذ وأنوشجان، وأرز المثنى والمعنى إلى خالد بالخبر؛ ولما انتهى الخبر إلى خالد عن قارن قسم الفئ على من أفاءه الله عليه، ونفل من الخمس ما شاء الله، وبعث ببقيته وبالفتح إلى أبى ابن عقبة - والعرب تسمى كل نهر الثنى - وخرج خالد سائرًا حتى ينزل المذار على قارن في جموعه، فالتقوا وخالد على تعبيته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو للبراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش، فابتدراه، فسبقه إليه معقل، فقتله وقتل عاصم الأنوشجان، وقتل عدي قباذ. وكان شرف قارن قد النتهى؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدًا انتهى شرفه في الأعاجم، وقتلت فارس مقتله عظيمة؛ فضموا السفن، ومنعت المياه المسلمين من طلبهم، وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفئ ونفل من الأخماس أهل البلاء، وبعث ببقية الأخماس، ووفد وفدًا مع سعيد بن النعمان أخي بني عدي بن كعب.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، قال: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفًا سوى من غرق ولولا المياه لأتى على آخرهم؛ ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة وأشباه العراة.
قال سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: كان أول من لقي خالد مهبطه العراق هرمز بالكواظم، ثم نزل الفرات بشاطئ دجلة؛ فلم يلق كيدًا، وتبحبح بشاطئ دجلة، ثم الثنى، ولم يلق بعد هرمز أحدًا إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها، حتى أتى دومة الجندل، وزاد سهم الفارس في يوم الثنى على سهمه في ذات السلاسل. فأقام خالد بالثنى يسبي عيالات النقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوزا، وكل ذلك أخذ عنوة ولكن دعوا إلى الجزاء، فأجابوا وتراجعوا، وصاروا ذمة وصارت أرضهم لهم كذلك جرى ما لم يقسم فإذا اقتسم فلا.
وكان في السبي حبيب أبو الحسن - يعني أبا الحسن البصري - وكان نصرانيًا، وما فنة مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة.
وأمر على الجند سعيد بن النعمان، وعلى الجزاء سويد بن مقرن المزني، وأمره بنزول الحفير، وأمرهي ببث عماله ووضع يده في الجباية، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار.
ذكر وقعة الولجة
ثم كان أمرًا الولجة في صفر من سنة اثنتي عشرة؛ والولجة مما يلي كسكر من البر.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال " حدثني سيف، عن عمرو والمجالد عن الشعبي قال لما فرغ خالد من الثنى وأتى الخبر أردشير، بعث الأندر زغر؛ وكان فارسيًا من مولدي السواد.
حدثنا عبيد الله قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن زياد بن سرجس، عن عبد الرحمن بن سياده، قال - وفيما كتب به إلى السري، قال حدثنا شعيب؛ قال حدثنا سيف، عن المهلب بن عقبة وزياد بن سرجيس وعبد الرحمن بن سياده - قالوا: لما وقع الخبر بأرد شير بمصاب قارن وأهل المذار، أرسل الأنذار زغر؛ - وكان فارسيًا من مولدي السواد وتنائهم؛ ولم يكن ممن ولد في المدائن ولا نشأ بها - وأرسل بهمن جاذويه في أثره في جيش، وأمره أن يعبر طريق الأنذرزعر؛ وكان الأنذازعر قبل ذلك على فرج خراسان؛ فخرج الأنذرزغر سائرًا من المدائن حتى أتى كسكر، ثم جازها إلى الولجة، وخرج بهمن جاذويه في أثر كسكر، من عرب الضاحية والد هاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة؛ فلما اجتمع له ما أراد واستم أعجبه ما هو فيه، وأجمع السير إلى خالد؛ ولما بلغ خالدًا وهو بالثنى خبر الأنذرزعر ونزوله الولجة، نادى بالرحيل، وخلف سويد بن وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة، وترك الإغترار، وخرج سائرًا في الجنود نحو الولجة، حتى ينزل على الأندرزغر وجنوده ومن تأشب إليه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ هو أعظم من قتال الثنى.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف، عن محمد بن أبي عثمان، قال: نزل خالد على الأندرزعر بالولجة في صفر، فاقتتلوا بها قتالًا شديًا، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ خالد كمينه؛ وكان قد وضع لهم كمينًا في ناحيتين، عليهم بسرين أبي رهم وسعيد بن مرة العجلي، فخرج الكمين في وجهين، فانهزمت صفوف الأعاجم وولوا، فأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه؛ ومضى الأندرزعر في هزيمته، فمات عطشًا. وقام خالد في الناس خطيبًا يرغبهم في بلاد العجم، ويزهدهم في بلاد العرب، وقال: ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولى الجوع والإقلاع من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه. وسار خالد في الفلاحين بسيرته فلم يقتلهم، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة، فتراجعوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن شيف - وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمتي، عن سيف - عن عمرو، عن الشعبي، قال: بارز خالد يوم الولجة رجلًا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله، فلما فرغ اتكأ عليه، ودعا بغدائه. وأصاب في أناس من بكر بن وائل ابنًا لجابر بن بجير وابنًا لعبد الأسو.
خبر أليس
وهي على صُلب الفرات.
قال أبو جعفر، حدثنا عبيد الله، قال حدثني عمي، قال: حدثنا سيف، عن محمد بن طلحة، عن أبي عثمان وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة. وأما السري فإنه قال فيما كتب إلى: حدثنا شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة، قالا: ولما أصاب خالد يوم الولجة من أصاب من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الأعاجم؛ فاجتمعوا إلى أليّس، وعليهم عبد الأسود العجلي، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلمو بني عجل: عتيبة بن النهاس وسعيد بن مروة وفرات بن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدي. وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه، وهو بقسيانا وكان رافد فارس في كل يوم رافد قد نصب لذلك يرفدهم عند الملك؛ فكان رافدهم بهمن روز أن سرحتي تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن جاذويه جابان وأمره بالحث، وقال كفكف نفسك وجندك من قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس؛ وانطلق بهمن جاذويه إلى أرشير ليحدث به عهدًا، وليستأمره فيما يريد أن يشير به، فوجده مريضًا؛ فعرج عليهخ، وأخلى جابان بذلك الوجه، ومضى حتى أتى أليس، فنزل بها في صفر، واجتمعت إليه المسالح التي كانت بإزاء العرب؛ وعبد الأسود في نصارى العرب من بني عجل زتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة؛ وكان جابر بن بجير نصرانيًا، فساند عبد الأسود؛ وقد كان خالد بلغه تجمع عبد الأسود وجابر وزهير فيمن تأشب إليهم، فنهد لهم ولا يشعر بدنو جابان، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم؛ فأقبل فلما طلع على جابان بأليس، قالت الأعاجم لجابان: أنعاجلهم أم نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم، ثم نقاتل بعد الفراغ؟ فقال جابان: إن تركوكم والتهاون بكم فتهاونوا، ولكن ظني بهم أن سيعجلونكم ويعجلونكم عن الطعام. فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها. فلما انتهى خالد إليهم، وقف وأمر بحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم بدر أمام الصف، فنادى: أين أبجر؟ أين عبد الأسود؟ أين مالك بن قيس؟ رجل من جذرة؛ فنكلوا عنه جميعًا إلا مالكًا، فبرز له، فقال له خالد: يا بن الخبيثة، ما جرأك على من بينهم، وليس فيك وفاء! فضربه فقتله، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوا؛ فقال جابان: ألم أقل لكم يا قوم! أما الله ما دخلتني من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم؛ فقالوا حيث لم يقدوا على الأكل تجلدًا: ندعها حتى نفرغ منهم؛ ونعود إليها. فقال جابان: وأيضًا أظنكم والله لهم وشعتموها وأنتم لا تشعرون؛ فالآن فأطيعوني؛ سموها؛ فإن كانت لكم فأهون هالك، وإن كانت عليكم كنتم قد صنعتم شيئأً؛ وأبليتم عذرًا. فقالوا: لا اقتدارًا عليكم. فجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر؛ وخالد على تعبئته في الأيام التي قبلها، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، والمشركون يزيدهم كلبًا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن جاذويه، فصابروا المسلمين للذي كان في علم الله أن يصيرهم إليه، وحرب المسلمون عليهم، وقال خالد: اللهم إن لك على نهرهم بدمائهم! ثم أن الله عز وجل كشفهم للمسلمين، ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد مناديه، فنادى في الناس: الأسر الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع؛ فأقبلت اليول بهم أفواجًا مستأسرين يساقون سوقًا، وقد وكل بهم رجالًا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يومًا وليلة، وطلبوهم الغد وبعد الغد؛ حتى انتهوا إلى النهرين، ومقدار ذلك من كل جوانب أليس فضرب أعناقهم، وقال له القعقاع وأشباه له: لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم؛ إن الدماء لا تزيد على أن ترقرق منذ نهيت عن السيلان، ونهيت الأرض عن نشف الدماء؛ فأرسل عليها الماء تبر يمينك. وقد كان صد الماء عن النهر فأعاده، فجرى دمًا عبيطًا فسمى نهر الدم لذلك الشأن إلى اليوم.
وقال آخرون منهم بشير بن الخصاصية، قال: وبلغنا أن الأرض لما نشف دم ابن آدم نهيت عن نشف الدماء ونهى الدم عن السيلان إلا مقدار برده.
ولما هزم القوم وأجلوا عن عسكرهم ورجع المسلمون من طلبهم ودخلوه؛ وقف خالد على الطعام، فقال: قد نفلتكموه فهو لكم. وقال: كان رسول الله ﷺ إذا أتى على كعام مصنوع نفله. فقعد عليه المسلمون لعشائهم بالليل، وجعل من لم ير الأريلف ولا يعرف الرقاق يقول: ما هذه الرقاق البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم، ويقول لهم مازجًا: هل سمعتم برفيق العيش؟ فيقولن: نعم، فيقول: هو هذا؛ فسمى الرقاق، وكانت العرب تسمية القرى.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثنا سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، عمن حدث، عن خالد، أن رسول الله ﷺ نفل الناس يوم خبير الخبر والطبيخ والشواء، وما أكلوا غير ذلك في بطونهم غير متأثليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن المغيرة، قال: كانت على النهر أرحاء، فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر؛ ثمانية عشر ألفًا أو يزيدون ثلاثة أيام. وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلًا من بني عجل، وكان دليلًا صارمًا، فقدم على أبي بكر بالخبر، وبفتح أليس، وبقاه الفئ وبعدة السبي، وبما ح0صل من الخماس؛ وبأهل البلاء من الناس؛ فلما قدم على أبي بكر، فرأى صرامته وثبات خبره، قال: ما إسمك؟ قال جندل، قال: ويهًا جندل!
نفس عصام سودت عصاما ** وعودته الكر والإقداما
وأمر له بجارية من ذلك السبي، فولدت له.
قال: وبلغت قتلاهم من أليس سبعين ألفًا جلهم من أمغيشيًا.
قال أبو جعفر: قال لنا عبيد الله بن سعد: قال عمي: سألت عن أمغيشيًا بالحيرة فقيل لي منشيًا، فقلت لسيف، فقال: هذان اسمان.
حديث أمغيشيا
في صفر، وأفاءها الله عز وجل بغير خيل.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان وطلحة، عن المغيرة، قال: لما فرغ خالد من وقعة أليس، نهض فأتى أمغشييًا، وقد أعجلهم عما فيها، وقد جلا أهلها؛ وتفرقوا في السواد، ومن يومئذ صارت السكرات في السواد؛ فأمر خالد بهدم أمغيشيًا وكل شئ كان فيحيزها، وكانت مصرًا كالحيرة؛ وكان فرات بادقلي ينتهي إليها، وكانت أليس من مسالحها، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قط.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بحر بن الفرات العجلي، عن أبيه، قال: لم يصب المسلمون فيما بين السلاسل وأمغيشيًا مثل شئ أصابوه في أمغيشيا، بلغ سهم الفارس ألفًا وخمسمائة، سوى النفل الذي نفله أهل البلاء. وقالوا جميعًا: قال أبو بكر رحمه الله حين بلغه ذلك: يا معشر قريش - يخبرهم بالذي أتاه: عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله؛ أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد!
حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي
قال أبو جعفر: كتب إلى السري، عن شعيب عن سيف عن محمد عن أبي عثمان وطلحة، عن المغيرة: أن الآزاذبه كان مرزبان الحيرة أزمان كسرى إلى ذلك اليوم؛ فكانوا لا يمد بعضهم بعضًا إلا بإذن الملك، وكان قد بلغ نصف الشرف، وكان قيمة قلنسوته خمسين ألفًا؛ فلما أخرب خالد أمغشيًا، وعاد أهلها سكرات لدهاقين القرى علم الآزاذيه أنه غير متروكط، فأخذ في أمره وتهيأ لحرب خالد، وقدم ابنه ثم خرج في أثره حتى عسكر خارجًا من الحيرة؛ وأمر ابنه بسد الفرات، ولما استقل خالد من أمغيشًا وحمل الرجل في السفن مع الأنفال والأثقال، لم يفجأ خالد إلا فسلك الماء غير طريقه؛ فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار، فتعجل خالد في خيل نحو ابن الآزاذيه، فتلقاه على فم العتيق خيل من خيله؛ فجأهم وهم آمنوا لغارة خالد في تلك الساعة، فأنامهم بالمقر، ثم سار من فوره وسبق الأخبار إلى ابن الآزاذبة حتى يلقاه وحنده على فم فرات بادقلي؛ فاقتتلوا فأنامهم؛ وفجر الفرات وسد الأنهار وسلك الماء سبيله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان وطلحة عن المغيرة، وبحر عن أبيه، قالوا. وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال حدثنا سيف عن محمد عن أبي عثمان، قال حدثني عمي، قال حدثنا سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغير، قالا: لما أصاب خالد ابن الآزاذبه على فم فرات بادقلي، قصد للحيرة، واستلحق أصحابه، وسار حتى ينول بين الخورنق والنجف، فقدم خالد الخورنق، وقد قطع الآزاذبه الفرات هاربًا من غير قتال؛ وإنما حداه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير ومصاب ابنه، وكان عسكره بين الغريين والقصر الأبيض. ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخوانق خرج من العسكر حتى يعسكر بموضع عسكر الآزاذبه بين الغريين والقصر الأبيض، وأهل الحيرة متحصنون، فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره، وأمر بكل قصر رجلًا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فكان ضرار بن الخطاب محاصرًا القصر الأبيض، وفيه إياس بن قبيصة الطائي، المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة له محاصرًا قصر بني ابن عبد المسيح؛ فدعوهم جميعًا، وأجلوهم يومًا، فأبى أهل الحيرة ولجوا، فناوشهم المسلمون.
حدثني عبيد الله بن سعد، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، رجل من بني كنانة - قال أبو جعفر: هكذا قال عبيد الله. وقال السري فيما كتب به إلى: حدثنا شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل من بني كنانة - قال عهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوا بالدعاء، فإن قبلوا قبلوا منهم وإن أبوا أن يؤجلوهم يومًا، وقال: لا تمكنوا عدوكم من آذنكن، فيتربصوا بكم الدوائر؛ ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم. فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور، وكان على قتال أهل القصر الأبيض، فأصبحوا وهم مشرفون؛ فدعاهم إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزاء، او المنابذة، فاختاروا المنابذة وتنادوا: عليكم الخزازيف، فقال ضرار: تنجوا لا ينالكم الرمى؛ حتى ننظر في الذي هتفوا به. فلم يلبث أن امتلأ رأس القصر من رجال متعلق المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف - وهي المداحي من الخزف - فقال ضرار: ارشفوهم، فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل، فأعروا رءوس الحيطان، ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم، وصبح أمير كل قوم أصحابه بمثل ذلك، فافتتحوا الدور والديرات، وأكثروا القتل، فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا واحدة من ثلاث؛ فاعوا بنا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدًا. فخرج إياس بن قبيضة وأخوه إلى ضرار بن الأزور، وخرج عدى بن عدي وزيد بن عدي إلى ضرار بن الخطاب - وعدي الأوسط الذي رئته أمه وقتل يوم ذي قار - وخرج عمرو بن عبد المسيح وأبن أكال، هذا إلى ضرار بن مقرن، وهذا إلى المثنى بن حارثة، فأرسلوهم إلى خالد وهم على مواقفهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، قالا: كان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح ابن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة - وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا: يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء - وتتابعوا على ذلك، فأرسلهم الرؤساء إلى خالد، مع كل رجل منهم دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدي، وقال: ويحكم! ماأنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الأنصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقول لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما تقولون أنه ليس لنا لسان إلا العربية، فقال: صدقت. وقال: اختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجرة؛ فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة. فقال: بل تعطيك الجزية، فقال خالد: تبًا لكم، ويحكم! إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان: أحدهما عربي فتركه واستدل العجمي. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفًا؛ وتتابعوا على ذلك، وأهدوا له هدايا، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر رحمه الله مع الهذيل الكاهلي، فقبلها أبو بكر من الجزاء، وكتب إلى خالد أن احسب لهم هديتهم من الجزاء، إلا أن تكون من الجزاء، وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك: وقال ابن بقيلة:
أبعد المنذرين أرى سوامًا ** تروح بالخوانق والسدير!
وبعد فوارس النعمان أرعى ** قلوصًا بين مرة والحفير
فصرنا بعد هلك أبي قبيس ** كجرب المعز في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم ** فنحن كضرة الضرع الفخور
نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ** وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ** فيوم من مساءة أو سرور
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم عن رجل من بني كنانة، ويونس بن أبي إسحاق بنحو منه، وقالا: فكانوا يختلفون إليه ويقدمون في جوائجهم عمرو بن عبد المسيح فقال له خالد: كم أتت عليك من السنين قال: مئو سنين، قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة، تخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفًا. فتبسم خالد، وقال: هل لك م شيخك إلا عمله خرقت والله يا عمرو! ثم أقبل على أهل الحيرة فقال: ألم يبلغني أنكم خبثة خدعه مكرة! فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء! فتجاهل له عمرو وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف بع عقله، ويستدل به على صحة ما حدثة به، فقال: وحقك أيها الأمير، إني لأعرف من أين ج - ئت؟ قال: فمن أين جئت؟ قال: أقرب أم أبعد؟ قال: ما شئت، قال: من بطن أمي، قال: فأين تريد؟ قال: أمامي، قال: وما هو؟ قال: الآخرة. قال فمن أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي، قال فوجده حين جاهلها، وقتل أرضًا عالمها؛ والقوم أعلم بما فيهم. فقال عمرو: أيها الأمير. النملة أعلم بما في بيتها من الجمل بما في بيت النملة. وشاركهم في هذا الحديث من هذا المكان محمد بن أبي السفر، عن ذي الجوشن الضبابي، وأما الزهري فإنه حدثنا به، فقال شاركهم في هذا الحديث رجل من الضباب.
قالوا: وكان مع ابن بقيلة منصف له فعلق كيسًا في حقوه، فتناول خالد الكيس، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمانة الله سم ساعة، قال: لم تحتقب السم؟ قال: حشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحب إلى من مكروه أدخله على قومي وأهل قريتي. فقال خالد: إنها لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقال بمم الله خير الأسماء، رب الأرض ورب السماء، الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم. فأهووا إليه ليمنعوه منه، وبادرهم فابتلعه، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن. وأقبل على أهل الحيرة، فقال: لم أر كاليوم أمرًا أوضح إقبالًا!
وأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة بنت عبد المسيح إلى شويل؛ فثقل ذلك عليهم، فقالت: هونوا عليكم وأسلموني، فإني سأفتدى. ففعلوا؛ وكتب خالد بينه وبينهم كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديًا وعمرًا ابني عدي، وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال - وقال عبيد الله: جبري - وهم نقباء أهل الحيرة؛ ورضى بذلك أهل الحيرة، وأمروهم به - عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا؛ رهبانهم وقسيسهم؛ إلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيسًا عن الدنيا، تاركًا لها - وقال عبيد الله: إلا من كان غير ذي يد حبيسًا عن الدنيا تاركًا لها - أوسائحًا تاركًا للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شئ عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة. وكتب في شهر ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة، ودفع الكتاب إليهم.
فلما كفر أهل السواد بعد موت أبي بكر استخفوا بالكتاب، وضيعوه، وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس؛ افتتح المثنى ثانية؛ أدلوا بذلك، فلم يجيبهم إليه، وعاد بشرط آخر؛ فلما غلب المثنى على البلاد كفروا وأعانوا واستخفوا وأضاعوا الكتاب. فلما افتتحها سعد وأدلوا بذلك سألهم واحدًا من الشرطين، فلم يجيئوا بهما؛ فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم مطيقون، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الحرزة - قال عبيد الله: سوى الخرزة.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن الغصن بن القاسم الكناني عن رجل من بني كنانة ويونس بن أبي إسحاق، قالا: كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاصى إلى الشأم، فاستأذن الدًا إلى أبي بكر ليكلمه في قومه وليجمعهم له؛ وكانوا أوزاعًا في العرب، وليتخلصهم؛ فأذن له، فقدم على أبي بكر، فذكر له عدة من النبي ﷺ وأتاه على العدة بشهود، وسأله إنجاز ذلك، فغضب أبو بكر، وقال له: ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم؛ ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا ينبغي عما هو أرضى لله ولرسوله! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين.
فسار حتى قدم على خالد وهو بالحيرة، ولم يشهد شيئًا مما كان بالعراق إلا ما كان بعد الحيرة؛ ولا شيئًا مما كان خالد فيه من أهل الردة. وقال القعقاع بن عمرو في أيام الحيرة:
سقى الله بالفرات مقيمة ** وأخرى بأنباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزًا ** وبالثنى قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ** على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم ** يميل بهم فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا ** غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا ** إلى الريف من أرض العريب المقانف
خبر ما بعد الحيرة
حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن جميل الطائي، عن أبيه، قال: لما أعطى شويل كرامة بنت عبد المسيح قلت لعدي بن حاتم: ألا تعجب من مسألة شويل كرامة بنت المسيح على ضعفه! قال: كان يهرف بها دهره، قال وذلك أني لما سمعت رسول الله ﷺ يذكر ما رفع له من البلدان، فذكر الحيرة فيما رفع له، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب؛ عرفت أن قد أريها، وأنها ستفتح، فلقيته مسألتها.
وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني، عن سيف، قال: قال لي عمرو والمجالد، عن الشعبي - والسري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي - قال: لما قدم شويل إلى خالد، قال: إني سمعت رسول الله ﷺ يذكر فتح الحيرة، فسألته كرامة، فقال: هي لك إذا فتحت عنوة. وشهد له بذلك، وعلى ذلك صالحهم؛ فدفعها إليه، فاشتد ذلك على أهل بيتها وأهل قريتها ما وقعت فيه، وأعظموا الخطر، فقالت ": لا تخطروه، ولكن اصبروا؛ ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة! فإنما هذا أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشاب يدوم. فدفعوها إلى خالد؛ فدفعها خالد إليه، فقالت: ما رأبك إلى عجوز كما ترى! فادنى، قال: لا، إلا على حكمي، قالت: فلك حكمك مرسلً. فقال: لست لأم شويل إن نقصك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها، فتسامع الناس بذلك، فعنفوه، فقال: ما كنت أرى أن عددًا يزيد على ألف! فأبوا عليه إلا أن يخاصمهم فخاصمهم، فقال: كانت نيتي غاية العدد، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف، فقال خالد: أردت أمرًا وأراد الله غيره؛ نأخذ بما يظهر وندعك ونيتك، كاذبًا كنت أو صادقًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما فتح خالد الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن، ثم انصرف، وقال: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قومًا كقوم لقيتهم من أهل فارس؛ وما لقيت من أهل فارس قومًا كأهل أليس! حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال صلى خالد صلاة الفتح، ثم انصرف. ثم ذكر مثل حديث السري.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف - والسري، عن شعيب، عن سيف - عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم - وكان قدم مع جرير على خالد - قال: أتينا خالدًا بالحيرة وهو متوشح قد شد ثوبه في عنقه يصلي فيه وحده، ثم انصرف، فقال: اندق في يدي تسعة أسياف يوم مؤتة، ثم صبرت في يدي صفيحة يمانية، فما زالت معي.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان وطلحة بن الأعلم عن المغيرة بن عتيبة والغصن ابن القاسم، عن رجل من بني كنانة وسيفان الأحمري عن ماهان، قال: ولما صالح أهل الحيرة خالدًا خرج صلوبًا بن نسطونًا صاحب قس الناطف، حتى دخل على خالد عسكره؛ فصالحه على بانقيًا وبسمًا، وضمن له ما عليهما وعلى أرضهما من شاطئ الفرات جميعًا، واعتقد لنفسه وأهله وقومه على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة، خرزة كسرى؛ وكانت على كل رأس أربعة دراهم، وكتب لهم كتابًا فتموا وتم، ولم يتعلق عليه في حال غلبة فارس بغدر، وشاركهم المجالد في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلو بابن نسطونا وقومه؛ إني عاهدتكم على الجزية والمنعة؛ على كل ذي يد؛ بانقيًا وبسمًا جميعًا، على عشر آلاف دينار سوى الخرزو، القوى على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، في كل سنة. وإن قد نقبت على قومك، وإن قومك قد رضوا بك. وقد قبلت ومن معي من المسلمين، ورضيت ورضى قومك؛ فلك الذمة والمنعة؛ فإن منعناكم فلنا الجزية؛ وإلا فلا حتى نمنعكم. شهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحميري، وحنطلة الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، عن ابن أبي مكنف، وطلحة عن المغيرة، وسيفان عن ماهان، وحدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، وطلحو عن المغيرة، قال " كان الدهاقين يتربصون بخالد وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد، واستقاموا له أتته دهاقين الملطاطين، وأتاه زاذبن بهيش دهقان فرات سريًا، وصلوبًا بن بصبهري ونسطونا - فصالحوه على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف - وقال عبيد الله في حديثه: على ألف ألف ثقيل - وأن للمسلمين ما كان لآل كسرى ومن مال معهم عن المقام في داره فلم يدخل في الصلح. وضرب خالد رواقه في عسكره، وكتب لهم كتابًا:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من خالد بن الوليد لزاد بن بهميش وصلوبا بن نسطونا؛ لكم الذمة وعليكم الجزية، وأنتم ضامنون لمن نقبتم عليه من أهل البهقاباذ الأسفل والأوسط وقال عبيد الله: وأنتم ضامنون جزية من نقبتم عليه على ألفي ثقيل في كل سنة؛ عن كل ذي يد سوى ما على بانقًا وبسمًا وإنكم قد أرضيتموني والمسلمين؛ وإنا قد أرضيناكم وأهل البهقباذ الأسفل؛ ومن دخل معكم من أهل البهقباذ الأوسط على أموالكم؛ ليس فيها ما كان لآل كسرى ومن مال ميلهم. شهد هشام بن الوليد، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله الحكيري، وبشير بن عبيد الله بن الخصاصة، وحنظلة بن الربيع. وكتب سنة اثنتي عشرة في صفر وبعث خالد ابن الوليد عماله ومسالحه؛ فبعث في العمالة عبد الله بن وثيمة النصري، فنزل في أعلى العمل بالفلاليج على المنعة وقبض الجزية، وجرير بن عبد الله على بانقيا وبسما، وبشير بن الخصاصية على النهرين فنزل الكوفية ببانبورة، وسويد بن مقرن المزني إلى سنتر، فنزل العقر - فهي تسمى عقر سويد إلى اليوم، وليست بسويد المنقري سميت - وأط بن أبي إط إلى روذمستان، فنزل منزلًا على نهر سمى ذلك النهر به - ويقال له: نهر إط إلى اليوم؛ وهو رجل من بن يسعد بن زيد مناة؛ فهؤلاء كانوا عمال الخراج زمن خالد بن الوليد.
وكانت الثغور في زمن خالد بالبسيب، بعث ضرار بن الأزور وضرار بن الخطاب والمثنى بن حارثة ضرار بن مقرن والقعقاع بن عمرو وبسر بن أبي رهم وعتيبة بن النهاس؛ فنزلوا على السيب في عرض سلطانه. فهؤلاء أمراء ثغور خالد. وأمرم خالد بالغارة والإلحاح، فمخروا ما رواء ذلك إلى شاطئ دجلة.
قالوا: ولما غلب خالد على أحد جانبي السواد، دعا من أهل الحيرة برجل، وكتب معه إلى أهل فارس وهم بالمدائن مختلفون متساندون لموت أردشير؛ إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهر سير؛ وكأنه على المقدمة، ومع بهمن جاذويه الآزاذبة في أشباه له، ودعى صلوبا برجل، وكتب معهما كتابين؛ فأما أحدهما فإلى الخاصة وأما الآخر فإلى العامة؛ أحدهما حيري والآخر نبطي ولما قال خالد لرسول أهل الحيرة: ما اسمك؟ قال: مرة، قال: خذ الكتاب فأت به أهل فارس، لعل الله أن يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا، أو ينبهوا، وقال لرسول صلوبا: ما أسمك؟ قال: هزميل، قال: فخذ الكتاب. وقال: اللهم أزهق نفوسهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وغيره، بمثله، والكتابان: بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس؛ أما بعد؛ فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيديطم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرًا لكم؛ فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غلب، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد إلى مرازية فارس؛ أما بعد فأسلموا تسلموا؛ وإلا فاعتقدوا مني الذمة، وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون شرب الخمر.
جدثني عبيد الله، قال: حدثني، عن سيف، عن محمد بن نوريرة، عن أبي عثمان. والسري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان والمهلب بن عقبة وزياد بن سرجس، عن سياده وسيفان الأحمري، عن ماهان: أن الخراج جبي إلى خالد في خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه والذين هم رءوس الرساتيق رهنًا في يده، فأعطى ذلك كله للمسلمين، فقووا على أمورهم. وكان أهل فارس بموت أردشير مختلفين في الملك، مجتمعين على قتال خالد، متساندين؛ وكانوا بذلك سنة، والمسلمون يمخرون كا دون دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر؛ وليست لأحد منهم ذمة إلا الذين كاتبوه واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء، ومتحصنون، ومحاربون، واكتتب عمال الخراج، وكتبوا البراءات لأهل الخراج، من نسخة واحدة: بسم الله الرحمن الرحيم. براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها الأمير خالد بن الوليد، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد، يوخالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد؛ ما أقررتم بالجزية وكففتم. أمانكم أمان، وصلحكم صلح؛ نحن لكم على الوفاء
وأشهدوا لهم النفر من الصحابة الذين كان خالد أشهدهم: هشاما، والقعقاع، وجابر بن طارق، وجريرًا، وبشيرًا، وحنظلة، وأزداذ، والحجاج بن ذي العنق، ومالك بن زيد.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، سيف، عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، قال: وخرج خالد وقد كتب أهل الحيرة عنه كتابًا: إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد العبد الصالح والمسلمون عباد الله الصالحون، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم.
وأما المري؛ فإنه قال في كتابه إلى: حدثنا شعيب، عن سيف عن عطية بن الحارث، عن عبد خير، عن هشام بن الوليد، قال: فرغ خالد.. ثم سائر الحديث مثل حديث عبيد الله بن سعد.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي عن سيف والسرى، عن شعيب عن سيف عن عبد العززيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن الهذيل الكاهلي نحوًا منه، قالوا: وأمر الرسولين اللذين بعثهما أن يوافياه بالخبر، وأقام خالد في عمله سنة ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشأم، وأهل فارس يخلعون ويملكون؛ ليس إلا الدفع عن بهر سير؛ وذلك أن شيري بن كسرى قتل كل من كان يناسبه إلى كسرى بن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أرشير ابنة، فقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور، فقوا لا يقدرون على من يملكون ممن يجتمعون عليه.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني عمي، قال: حدثني سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: أقام خالد بن الوليد فيما بين فتح الخيرة إلى خروجه إلى الشأم اكثر من سنة، يعالج عمل عياض الذي سمى له، وقال خالد للمسلمين: لولا ما عهد إلى الخليفة لم أتنقذ عياضًا، وكان قد شجى وأشجى بدومة، وكا كان دون فتح فارس شئ؛ إنها لسنة كأنها سنة نساء. وكان عهد إليه ألا يقتحم عليهم وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراص آخر ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تلكم نساء آل كسرى، فولى الفرخزاذين البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، والمهلب عن سياه، وسفين عن ماهان، قالوا: كان أبو بكر رحمه الله قد عهد إلى خالد أن يأتي العراق من أسفل منها، وإلى عياض أن يأتي العراق من فوقها، وأيكما ما سبق إلى الحيرة فهو أمير على الحيرة؛ فإذا اجتمعتما بالحيرة إن شاء الله وقد فضضتما مسالح ما بين العرب وفارس وأمنتم أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليم بالحيرة أحدكما، وليقتحم الآخر على القوم، وجالوهم عما في أيديهم، واستعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجتمعا لكم؛ ولا تؤثروا الدنيا فتسلبوهما. واحذروا ما حذركم الله بترك المعاصي ومعالجة التوبة؛ وإياكم والإصرار وتأخير التوبة.
فأتى خالد على ما كان أمر به، ونزل الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، وفرق سواد الحيرة يومئذ على جرير بن عبد الله الحميري، وبشير بن الخصاصية، وخالد بن الواشمة، وابن ذي العنق، وأط وسويد وضرار؛ وفرق سواد الأبلة على سويد بن مقرن، وحسحكة الحبطى، والحصين بن أبي الحر، وربيعة بن عسل، وأقر المسالح على ثغورهم، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد في عمل عياض ليقضي ما بينه، وإغاثته، فسلك الفلوجة حتى نزل بكربلاء وعلى مسلحتها عاصم بن عمرو، وعلى مقدمة خالد الأقرع بم جابس؛ لأن المثنى كان على ثغر من الثغور التي تلى المدائن؛ فكانوا يغارون أهل فارس، وينتهون إلى شاطئ دجلة قبل خروج خالد من الحيرة وبعد خروجه في إغاثة عياض.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي روق، عمن شهدهم بمثله، إلى أن قال: وأقام خالد على كربلاء أيامًا، وشكًا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب، فقال له خالد: اصبر فإني إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فنسكنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا ورأيه يعدل نجدة الأمة. وقال رجل من أشجع فيما حكى ابن وثيمة:
لقد حبست في كربلاء مطيتي ** وفي العين حتى عاد غثا سمنيها
إذا زحلت من مبرك رجعت له ** لعمر أبيها إنني لأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ** رفاق من الذبان زرق عيونها
حديث الأنبار وهي ذات العيون وذكر كلواذي
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأصحابهما، قالوا: خرج خالد بن الوليد في تعبيته التي خرج فيها من الحيرة، وعلى مقدمته الأقرع بن حابس فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنباء أنتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة، ولم يجدوا بدا من الإقدام، ومعهم بنات مخاض، تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، واحتقبوا المنتوجات؛ لأنها لم تطق السير؛ فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، وقد تحصن أهل الأنبار، وخندقوا عليهم، وأشرفوا من حصنهم، وعلى تلك الجنود شير زاد صاحب ساباط وكان أعقل أعجمي يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبار شر؛ جمل يحمل جميله وجمل تربه عوذ. فقال شيرزاد: ما يقولن؟ ففسر له، فقال: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم؛ وذلك أن القوم إذا القوم إذا قضوا على أنفسهم قضاء كاد يلزمهم؛ والله لئن لم يكن خالد مجتازًا لأصالحنه؛ فبيناهم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، وأنشب القتال؛ وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به؛ وتقدم إلى رماته، فأوصاهم وقال: إني أرى أقوامًا لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا توخروا غيرها، فرموا رشقًا واحدًا، ثم تابعوا، ففقئ ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون؛ وتصالح القوم: ذهبت عيون أهل الأنبار! فقال شيرزاد: ما يقولون؟ ففسر له، فقال: آباذ آباذ. فراسل خالدًا في الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان في الخندق برذابا الجيش فنحرها؛ ثم رمى بها فيه فأفعمه؛ ثم اقتحم الخندق والردايا جسورهم فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق. وأرز القوم إلى حصنهم، وراسل شيرازاذ خالدًا في الصلح على ما أراد، فقبل منه على أن يخليه ويلحقه بمأمنه في جريدة خيل، ليس معهم من المتاع والأموال شئ؛ فخرج شيرزاذ، فلما قدم على بهمن جاذوبه، فأخبره الخبر لأمه، فقال: إني كنت في قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم وفي أهل الأرض ألف عين؛ فعرفت أن المسلمة أسلم. ولم اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: فسألهم: ما انتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب؛ ثم لم تزل عنها فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخجط من إياد وأنشدوه قول الشاعر:
قومي إياد لو أنهم أمم ** أو لو أقاموا فتهزل التعم
قوم لهم باحة العراق إذا ** ساروا جميعًا والخط والقلم
وصالح خالد من حولهم وبدأ بأهل البروازيخ؛ وبعث إليه أهل كلواذى ليعقد لهم، فكاتبهم فكانوا عيبته من وراء دجلة. ثم إن أهل الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين من الدول ما خلا أهل البوازيخ، فإنهم ثبتوا كما نبت أهل بانقيا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز يعني ابن سياه عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد قبل الوقعة إلا بني صلوبا - وهم أهل الحيرة - وكلواذي، وقرى من قرى الفرات ثم غدروا حتى دعوا إلى الذمة بعد ما غدروا.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد بن قيس، قاغل: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون، فإن بعضهم صالح به، وبعضهم غلب. فقلت: فهل لأهل السواد ذمة اعتقدوها قبل الهرب؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأحذ منهم صاروا ذمة.
خبر عين التمر
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزياد، قالوا: ولما فرغ خالد من النبار، واستحكمت له، استخلف على الأنبار الزبرقانبن بدر، وقصد لعين التمر؛ وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لأفهم. فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدًا، قال: صدقت، لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم. فخدعه واتقى به، وقال: دونكمهم وإن احتجتم إلينا أعناكم. فملا مضى نحو خالد قالت له الأعاجم: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب! فقال: دعوني فإني لم أرد إلا ما ه خير لكم وشر لهم؛ إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، فاتقته بهم؛ فإن كانت لهم على خالد فهي لكم؛ وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقياء وهم مضعفون. فاعترفوا له بفضل الرأي، فلزم مهران العين، ونزل عقة لخالد على الطريق، وعلى ميمنته بجير بن فلان أحدبني عتبة بن سعد بن زهير، وعلى مسيرته الهذيل ابن عمران، وبين عقة على طريق الكرخ كالخفير. فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده، فعبى خالده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما عنده، فإني حامل؛ ووكل بنفسه حوامي، ثم يحمل وعقة يقيم صفوفه؛ فاحتضنه فأخذه أسيرًا، وانهزم صفة من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، وهرب بجير والهذيل، واتبعهم المسلمون. ولما جاء الخبر مهران هرب في حنده، وتركوا الحصن. ولما انتهت فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموا واعتصموا به؛ وأقبل خالد في الناس حتى ينزل على الحصن ومعه عقة أسير وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان بغير من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان، فأبى إلا على حكمه فسلسوا له به. فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين فصاروا مساكًا، وأمر خالد بعقبة وكان خفير القوم فضربت عنقه ليؤنس الأسراء من الحياة، ولما رآه الأسراء مطروحًا على الجسر يئسوا من الحياة، ثم دعا بعمرو بن الصعق فضرب عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين. وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق؛ فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن؛ ففسمهم في أهل البلاء؛ منهم أبو زياد مولى ثقيف، ومنهم نصير أبو موسى بن نصير، ومنهم أبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وسيرين أبو محمد بن سيرين، وحريث، وعلاثة. فصار أبو عمرة للمعنى، وحمران لعثمان. ومنهم عمير وأبو قيس؛ فثبت على نسبه من موالى أهل الشأم القدماء، وكان نصير ينسب إلى بني يشمكر، وأبو عمرة إلى بني مرة ومنهم ابن أخت النمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي سفيان طلحة بن عبد الرحمن والمهلب بن عقبة، قالوا: ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد على أبي بكر رحمه الله بما بعث به إليه من الأخماس وجهه إلى عياض، وأمده به، فقدم عليه الوليد، وعياض محاصرهموه، وقد أخذوا عليه بالطريق، فقال له: الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف؛ ابعث إلى خالد فاستمده. ففعل؛ فقدم عليه رسوله غب وقعة العين مستغيثًا، فعجل إلى عياض بكتابه: من خالد إلى عياض إياك أريد.
لبث قليلا تأتك الحلائب
يحملن آسادًا عليها القاشب
كتاب يتبعها كتائب
خبر دومة الجندل
قالوا: ولما فرغ خالد من عين التمر حلف فيها عويم بن الكاهل الأسلمى، وخرج في تعبيته التي دخل فيها العين؛ ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهوم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما قد أتاهم وديعة في كلب بهراء، ومسانده ابن وبرة بن رومانس، وآتاهم ابن الحدرجان في الضجاعم، وابن الأيهم في طوائف من غسان وتنوخ، فأشجوا عياضًا وشجوا به.
فلما بلغهم دنو خالد؛ وهم على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك والجودى ابن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد؛ لا أحد أيمن طائرًا منه، ولا أحد في حرب، ولا يرى وجه خالد قومن أبدًا قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه؛ فأطعوني وصالحوا القوم. فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.
فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالدًا؛ فبعث عاصم بن عمرو معارضًا له، فأخذه فقال: إنما تلقبت الأمير خالدًا؛ فلما أتى به خالدًا أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شئ، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودي بن ربيعة، ووديعة الكلبي، وابن رومانس الكلبي، وابن الأيهم وابن الحدرجان؛ فجعل خالد دومة بين عسكره وعسكر عياض. وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة، ولم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودي، فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض؛ فاقتتلوا، فهزم الله الجودي ووديعة على يدي خحالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون؛ فأما خالد فإنه أخذ الجودي أخذًا، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن؛ فلم يحملهم؛ فلما امتلأ الحصن أغلق من في الحصن الحصن دون أصحابهم، فبثقوا حوله حرداء؛ وقال عاصم بن عمرو: يا بني تميم، حلفاؤكم كلب، آسوهم وأجيروهم؛ فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا. وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بني تميم بهم، وأقبل خالد على الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن، ودعا خالد بالجودي فضرب عنقه؛ ودعا بالأسرى فضرب أعناقهم إلا أسارى كلب، فإن عاصمًا والأقرع وبني تميم قالوا: قد آمناهم؛ فأطلقهم لهم خالد، وقال: مالي ولكم! أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام! فقال له عاصم: لا تحسدوهم العافية؛ ولا يحوزهم الشيطان. ثم أطاف خالد بالباب، فلم يزل عنه حتى اقتلعه؛ واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الشرخ؛ فأقاموهم فيمن يزيد؛ فاشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة، وأقام خالد بدومة ورد الأقرع إلى الأنبار.
ولما رجع خالد إلى الحيرة - وكان منها قريبًا حيث يصيبحها - أخذ القعقاع أهل الحيرة بالتقليس، فخرجوا يتلقونه وهم يقلسون؛ وجعل بعضهم يقول لبعض: مروا بنا فرج الشر!
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وقد كان خالد أقام بدومة، فظن الأعاجم به؛ وكاتبهم عرب الجزيرة غضبًا لعقة؛ فخرج، زرمهر من بغدادج ومعه روزيه يريدان الأنبار؛ واتعدا حصيدًا والخنافس، فكتب الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة؛ فبعث القعقاع أعبد بن فدكي السعدي وأمره بالحصيد، وبعث عروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس، وقال لهما: رأيتما مقدمًا فأقد ما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، وأغلقاهما، وانتظر رزوبه وززرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة؛ وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا؛ فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادقة أهل المدائن، كره خلاف أبي بكر، وأن يتعلق عليه بشئ، فعجل القعقاع ابن عمرو وأبو ليلى بن فدكي إلى رزوبه وزمهير، فسبقاه إلى عين التمر، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبي، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى وبالبشر في عسكر غضبًا لعقة، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، واستخلف على الحيرة عياضين غنم، وأخذ طريق القعقاع وأبى ليلى إلى الخنافس حتى قدم عليهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وأمره على الناس، وبعث أبا ليلى الخنافس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استأرهم؛ وغلا فواقعاهم. فأبيا إلا المقام.
خبر حصيد
فلما رأى القعقاع أن زرمهر وروزبه لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من مر به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا بحصيد، فاقتتلوا، فقتل الله العجم مقتله عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر، وقتل روزبه؛ قتله عصمة بن عبد الله أحد بني الحجارث بن كطريف، من بني ضبة، وكان عصمة من البررة - وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاججروا من بطن يدعون الخيرة - فكان المسلمون خيرة وبررة. وغنم المسلمون يوم حصيد عنائم كثيرة وأرز فلال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.
الخنافس
وسار أبو ليلى بن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس؛ وقد أرزت فلال حصيد إلى المهبوذان، فلما أحس المهبوذان بقدومهم هرب ومن معه وأرزوا إلى المصيخ، وبه الهذيل بن عمران، ولم يلق بالخنافس كيدًا، وبعثوا إلى خالد بالخبر جميعًا.
مصيخ بني البرشاء
قالوا: ولما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إليهم، ووعد القعقاع وأبا ليلى وأعبد وعروة ليلة وساعة يجتمعون فيها إلى المصيخ - وهو بين حوران والقلت - وخرج خالد من العين قاصدًا. للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فنزل الجناب فالبردان فالحنى، واستقل من الحنى؛ فلما كان تلك الساعة من لييلة الموعد اتفقوا جميعًا بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه؛ وهم نائمون من ثلاثة أوجه، فقتلوهم. وأفلت الهذيل في أناس قليل؛ وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا بهم إلا غنما مصرعة؛ وقد كان حر قوص بن النعمان قد محضهم النصح وأجاد الرأي، فلم ينتفعوا بتحذيره، وقال حورقوص بن النعمان قبل الغارة:
ألا سقياني قبل خيل أبي بكر
الأبيات. وكان حرقوص معرسًا بأمرأة من بني هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وعبادة بن البشر وامرؤ القيس بن بشر وقيس بن بشر؛ وهؤلاء بنو الثورية من بني خلال. وأصاب جرير بن عبد الله يوم المصيخ من النمر عبد العزى بن أبي رهم بن قرواش أخًا أوس مناة من النمر، وكان معه ومع لبيد بن جرير كتاب من أبي بكر بإسلامهما، وبلغ أبا بكر قول عبد العزى وقد سماه عبد الله ليلة الغارة، وقال:
سبحانك اللهم رب محمد
فوداه وودى لبيدًا - وكانا أصيبا في المعركة - وقال: أما إن ذلك ليس على إذ نازلً أهل الحرب؛ وأوصى بأولادهما، وكان عمر يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك - يعني ابن نزيرة - فيقول أبو بكر: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب في ديارهم. وقال عبد العزى:
أقول إذ طريق الصباح بغارة: ** سبحانك اللهم رب محمد
سبحان ربي لا غله غيره ** رب البلاد ورب من يتورد
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عدي بن حاتم، قال: أغرنا على أهل المصيخ، وإذا رجل يدعى بإسمه حروقوص ابن النعمان، من النمر، وإذا حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من خمر؛ وهم عليها عكوف يقولن له: ومن يشرب هذه الساعة وفي أعجاز الليل! فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرًا بعدها، هذا خالد بالعين وجنوده بحصيد، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا؛ ثم قال:
ألا فاشربوا من قبل قاصمه الظهر ** بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بلقدر ** لحين لعمري لا يزيد ولا يحرى
فسبق إليه وهو في ذلك في بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو في جفنته، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه.
الثني والزميل
وقد نزل ربيعة بن بجير التغلبي الثَّني والبِشْر غضبًا لعقة، وواعد روزبه وزرمهر والهذيل. فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به، تقدم إلى القعقاع وإلى أبي ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما الليلة ليفتقروا فيها للغارة عليهم من ثلاثة أوجه؛ كما فعل بأهل المصيخ. ثم خرج خالد من المصيخ، فنزل حوران، ثم الرنق، ثم الحماة - وهي اليوم لبنى جنادة بن زهير من كلب - ثم الزميل؛ وهو البشر والثنى معه - وهما اليوم شرقي الرصافة - فبدأ بالثنى، واجتمع هو وأصحابه، فبيته من ثلاثة أوجه بياتًا ومن أجتمع له إليه، ومن تأشب لذلك من الشبان؛ فجرودوا فيهم السيوف، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبى الشرخ، وبعث بخمس الله إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف بن النعمان الشيباني، وقسم النهب والسبايا، فاشترى علي بن أبي طالب عليه السلام بنت ربيعة ابن بجير التغلبي، فاتخذها؛ فولدت؛ له عمر ورقية، وكان الهذيل حين نجا أوى إلى الزميل، إلى عتاب بن فلان؛ وهو بالبشر في عسكر ضخم؛ فبيتهم بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، فقتل منهم مقتله عظيمة لم يقتلوا قبلها مثلها؛ وأصابوا منهم ما شاءوا وكانت على خالد يمين: ليبتغن تغلب في دارها؛ وقسم خالد فيئهم في الناس، وبعث بالأخماس إلى أبي بكر مع الصباح بن فلان المزني، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري؛ وليلى بنت خالد، وريحانة بنت الهذيل بن هبيرة. ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب؛ وبها هلال بن عقة، وقد ارفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد؛ وانقشع عنها هلال فلم يلق كيدًا بها.
حديث الفراض
ثم قصد خالد بعد الرضاب وبغتته تغلب إلى الفِراض، والفراض: تخوم الشأم والعراق والجزيرة - فأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام، ونظمن نظمًا أكثر فيهن الرجاز إلى ما كان قبل ذلك منهن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة - وشاركهما عمرو بن محمد؛ عن رجل من بني سعد، عن ظفر بن دهي - والمهلب بن عقبة، قالوا فلما اجتمع المسلمون بالفراض، حميت الروم واغتاظت، واستعانوات بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حملوا واغتاظت، واستعانوات بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر؛ فأمدوهم؛ ثم ناهدوا خالدًا؛ حتى إذا صار الفرات بينهم، قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. قال: خالد: اعبروا أسفل منا. وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثني عشرة. فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: احتبوا ملككم؛ هذا رجل بقاتل على دين، وله عقل وعلم، والله لينصرن ولنخلن. ثم لم ينتفعوا بذلك؛ فعبروا أسفل من خالد؛ فلما تتاتموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح؛ من أينا يجئ! ففعلوا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا طويلًا. ثم أن الله عز وجل هزمهم، وقال خالد للمسلمين: ألحوا علهيم ولا ترفهوا عنهم؛ فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرًا، ثم أذن في القفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة؛ وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم؛ وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه في الساقة.
حجة خالد
قال أبو جعفر: وخرج خالد حاجًا من الفراض لخمس بقين من ذي القعدة، مكتتمًا بحجة، ومعه عدة من أصحابه؛ يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال، فسار طريقًا من طريق أهل الجزيرة، لم ير طريق أعجب منه؛ ولا أشد على صعوبته منه فكانت غيبته عن الجند يسيرة؛ فما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه. فقدما معًا؛ وخالد وأصحابه محلقون؛ لم يعلم بحجة إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه الله بذلك إلا بعد؛ فعتب عليه. وكانت عقوبته إياه أن صرفه إلى الشأم. وكان مسير خالد من الفراض أن استعرض البلاد متعسفًا متسمتًا، فقطع طريق الفراض ماء العنبري، ثم مثقبًا، ثم أنتهى إلى ذات عرق، فشرق منها، فأسلمه إلى عرفات من الفراض، وسمى ذلك الطريق الصد؛ ووافاه كتاب من أبي بكر منصرفه من حجة بالحيرة يأمره بالشأم؛ يقاربه ويباعده.
قال أبو جعفر: قالوا: فوافى خالدًا كتاب أبي بكر بالحيرة، منصرفه من حجة: أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا؛ وإياك أن تعود لمثل ما فعلت؛ فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك؛ فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة؛ فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن وهو ولي الجزاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء بن البكائيي، عن المقطع بن الهيثم البكائي، عن أبيه قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولون: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل. ويسمون ما بينها وبين الفراض ما يذكرون ما كان بعد احتقارًا لما كان بعد فيما كان قبل.
وحدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد بالأسناد الذي قد مضى ذكره، أن خالد بن الوليد أتى الأنبار فصالحوه على الجلاء، ثم أعطوه شيئًا رضى به وأنه أغار على سوق بغداد من رستاق العال، وأنه وجه المثنى فأغار على سوق فيها جمع لقضاعه وبكر، فأصاب ما في السوق، ثم سار إلى عين التمر، ففتحها عنوة، فقتل وسبي، وبعث بالسبي إلى أبي بكر، فكان أول سبي قدم المدينة من العجم؛ وسار إلى دومة الجندل، فقتل أكيدر، وسبى ابنة الجودى، ورجع فأقام بالحيرة.
هذا كله سنة اثني عشرة.
وفيها تزوج عمر رحمه الله عاتكة بنت زيد.
وفيها مات أبو مرثد الغنوي.
وفيها مات أبو العاصى بن الربيع في ذي الحجة؛ وأوصى إلى الوبير، وتزوج على عليه السلام ابنته وفيها اشترى عمر أسلم مولاه.
واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بهم فيها أبو بكر رحمه الله ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة، عن رجل من بني سهم، عن ابن ماجدة السهمي، أنه قال: حج أبو بكر في خلافته سنة اثنتي عشرة وقد عارمت غلامًا من أهلي، فغص بأذني فقطع منها - أو غضضت بأذنه فقطعت منها - فرفع شأننا إلى أبي بكر، فقال: اذهبوا بهما إلى عمر فلينظر، فإن كان الجارح قد بلغ فليقد مكنه. ادعوا لي حجامًا. قال: فلما ذكر الحجام، قال: أما أني قد سمعت النبي الله لها فيه، وقد نهينتها أن تجعله حجامًا أو قصابا أو صانغًا؛ فاقتص منه.
وذكر الواقدي، عن عثمان بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن أبيه، أن أبا بكر حج في سنة اثنتي عشرة واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رحمه الله.
وقال بعضهم: حج بالناس سنة اثنتي عشرة عمر بن الخطاب.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: بعض الناس يقول: لم يحج أبو بكر في خلافته، وإنه بعث سنة اثنتي عشرة على الموسم عمر بن الخطاب، أو عبد الرحمن بن عوف.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها وجه أبو بكر رحمه الله الجيوش إلى الشأم بعد منصرفه من مكة إلى المدينة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى اشأم، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسين، فأخذ طريق المعرقة على أيلة، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل ين حسنة - وهو أحد الغوث - وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشأم.
حدثني عمر بن شبة، عن علي بن حمد بالأسناد الذي ذكرت قبل، عن شيوخه الذين مضى ذكرهم، قال: ثم وجه أبو بكر الجنود إلى الشأم أول سنة ثلاث عشرة، فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير، وولى يزيد بن أبي سفيان، فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشأم، وخرجوا في سبعة آلاف.
قال أبو جعفر: وكان سبب عزل أبي بكر خالد بن سعيد - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أن خالد بن سعيد لما قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله ﷺ؛ ثم تربص ببيعته شهرين، يقول: قد أمرني رسول الله ﷺ، ثم لم يعزلني حتى قبضه الله. وقد لقى علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان؛ فقال: يا بني عبد مناف؛ لقد طبتم نفسًا عن أمركم يليه غيركم! فأما أبو بكر فلم يحفلها عليه، وأما عمر فاضطغنها عليه. ثم بعث أبو بكر الجنود إلى الشأم، وكان أول من استعمل على ربع منها خالد بن سعيد، فأخذ عمر يقول: اتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال! فلم يزل بأبي بكر حتى عزله، وأمر يزيد بن أبي سفيان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن فضيل، عن جبير بن صخر حارس النبي ﷺ؛ عن أبيه، قال: كان خالد بن سعيد بن العاصى باليمن زمن النبي ﷺ، وتوفي النبي ﷺ وهو بها، وقدم بعد وفاته بشهر، وعليه جبة ديباج عليه جبته! أيلبس الحرير وهو في رجلنا في السلم مهجور! فمزقوا جبته، فقال خالد: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغلبتم عليها! فقال على عليه السلام: أمغالبة ترى أم خلافة؟ قال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم يا بني عبد مناف. وقال عمر لخالد: فض الله فاك! والله لا يزال كاذب يخوض فيما قلت ثم لا يضر إلا نفسه. فأبلغ عمر أبا بكر مقالته؛ فلما عقد أبو بكر الألوية لقتال أهل الردة عقد له فيمن عقد، فنهاه عنه عمر الأرض مدل بها وخائض فيها، فلا تستنصر به. فلم يحتمل أبو بكر عليه، وجعله رداءًا بتيماء؛ أطاع عمر في بعض أمره وعصاه في بعض.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عن أبي إسحاق الشيباني، عن أبي عثمان، قالوا: أمر أبو بكر خالدًا بأن ينزل تيماء، ففضل ردءًا حتى ينزل بتيماء؛ وقد أمره أبو بكر ألا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالإنضمام إليه، وألا تقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قتله؛ حتى يأتيه أمره. فأقام فاجتمع إليه جموع كثيرة؛ وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية البعوث بالشأم إليهم؛ فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك، وبنزول من استنفرت الروم؛ ونفر إليهم من بهراء وكلب وسليح وتنوخ ولخم وجذام وغسان من دون زيزاء بثلاث؛ فكتب إليه أبو بكر: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله؛ فسار خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم؛ فنزله ودخل عامة من كان تجمع له في الإسلام؛ وكتب خالد إلى أبي بكر بذلك فكتب إليه أبو بكر: أقدم ولاتقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل؛ حتى نزلوا فيما بين آبل وزيزاء والقسطل؛ فسار إليه بطريق من بطارقة الروم، يدعى بدهان؛ فهزمه وقتل جنده، وكتب بذلك إلى أبي بكر واستمده. وقدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن ومن بين مكة واليمن؛ وفيهم ذو الكلاع، وقدم عليه عكرمة قافلًا وغازيًا فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين والسرو. فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصدقات أن يبدلوا من استبدل؛ فكلهم استبدل؛ فسمى ذلك الجيش جيش البدال. فقدموا على خالد بن عسيد؛ وعند ذلك اهتاج أبو بكر الشأم، وعناه أمره. وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالة كان رسول الله ﷺ ولاها إياه م صدقات سعد هذيم، وعذرة ومن لفها من جذام، وحدس قبل ذهابه إلى عمان. فخرج إلى عمان وهو على عدة من عمله؛ إذا هو رجع. فأ، جز له ذلك أبو بكر.
فكتب أبو بكر عند اهتياجه للشأم إلى عمرو: إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله ﷺ ولاكه مرة، وسماه لك أخرى؛ مبعثك إلى عمان إنجازًا لمواعيد رسول الله ﷺ؛ فقد وليته ثم وليته؛ وقد أحببت - أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه؛ إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئًا إن جاءك من ناحية من النواحي. وكتب إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك، فأجابه بإيثار الجهاد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كتب أبو بكر إلى عمرو، وإلى الوليد بن عقبة - وكان على النصف من صدقات قضاعة - وقد كان أبو بكر شيعهما مبعثهما على الصدقة، وأوصى كل واحد منهما بوصية واحدة: اتق الله في السر والعلانية؛ فإنه من يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ ومن يتق الله بكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا. فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله؛ إنك في سبيل من سبيل الله؛ لا يسعك فيه الإذهان والتفريط والغفلة عما فيه قوام دينكم، وعصمة أمركم، فلا تن ولا تفتر. وكتب إليهما: استخلفا على أعمالكما، واندبا من يليكما.
فولى عمرو على عليا قضاعة عمرو بن فلان العذري، وولى الوليد على ضاحية قضاعة مما يلي دومة امرأ القيس، وندبا الناس، فتتام إليهما بشر كثير، وانتظر أمر أبي بكر.
وقام أبو بكر في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، وقال: ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبة؛ ومن عمل لله كفاه اللهش. عليكم بالجد والقصد؛ فإن القصد أبلغ؛ ألا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له. ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به؛ هي التجارة التي دل الله عليها، ونجى بها من الخزي؛ وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.
فأمد عمرًا ببعض من انتدب إلى من اجتمع إليه، وأمره على فلسطين، وأمره بطريق سماها له؛ وكتب إلى الوليد وأمره بالأردن، وأمد ببعضهم. ودعا يزيد بن أبي سفيان، فأمره على جند عظيم، هم جمهور من انتدب له، وفي جنده سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة، وأمره على حمص وخرج معه وهما ماشيان والناس معهما وخلفهما، وأوصى كل واحد منهما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم، ومبشر عن سالك، ويزيد بن أسيد الغساني عن خالد، وعبادة، قالوا: ولما قدم الوليد على خالد بن سعيد فسانده، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم وسموا جيش البدال، وبلغه عن الأمراء وتوجههم إليه، اقتحم على الروم طلب الحظوة، وأعرى ظهره، وبادر الأمراء بقتال الروم، واستطرد له باهان فأرز هو ومن منه إلى دمشق؛ واقتحم خالد في الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل مرج الصفر؛ من بين الواقوصة ودمشق؛ فانطوت مسالح باهان عليه، وأخذوا عليه الطريق ولا يشعر، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمر في الناس، فقتلوهم. وأتى الخبر خالدًا، فخرج هاربًا في جريدة، فأفلت من أفلت من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، وقد أجهضوا عن عسكرهم؛ ولم ينته بخالد بن سعيد الهزيمة عن ذي المروة، وأقام عكرمة في الناس ردءًا لهم، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوه، وأقام من الشأم على قريب، وقد قدم شرحبيل بن حسنة وافدًا من عند خالد بن الوليد، فندب معه الناس، ثم استعمله أبو بكر على عمل الوليد، وخرج معه يوصيه، فأتى شرحبيل على خالد، ففصل بأصحابه إلا القليل، واجتمع إلى أبي بكر أناس، فأمر عليهم معاوية، وأمره باللحاق بيزيد، فخرج معاوية حتى لحق بيزيد؛ فلما مر بخالد فصل ببقية أصحابه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب لم يزل يكلم أبا بكر في خالد بن الوليد وفي خالد ابن سعيد؛ فأبى أن يعطيه في خالد بن الوليد، وقال: لا أشيم سيفًا سله الله على الكفار، وأطاعه في خالد بن سعيد بعد كا فعل فعلته. فأخذ عمرو طريق المعرفة، وسلك أبو عبيدة طريقه، وأخذ يزيد طريق التبوكية؛ وسلك شرحبيل طريقه، وسمى لهم أمصار الشأم، وعرف أن الروم ستشغلهم؛ فأحب أن يصعد المصوب ويصوب المصعد؛ لئلا يتوكلوا، فكان كما ظن وصاروا إلى ما أحب.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما قدم خالد بن سعيد ذا المروة، وأتى أبا بكر الخبر كتب إلى خالد: أقم مكانك، فلعمري إنك مقدام محجام، نجاء من الغمرات، لا تخزوضها إلا إلى الحق، ولا تصبر عليه. ولما كان بعد؛ وأذن له في دخوله المدينة قال خالد: اعذرني، قال: كان عمر وعلى أعلم بخالد؛ ولو أطعتهما فيه اختشيته واتقيته!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر وسهل وأبي عثمان، عن خالد وعبادة وأبي حارثة، قالوا: وأوعب القواد بالناس نحو الشأم وعكرمة ردء للناس، وبلغ الروم ذلك؛ فكتبوا إلى هرقل؛ وخرج هرقل حتى نزل بحمص، فاعد لهم الجنود، وعبى لهم العساكطر؛ وأراد اشتغال بعضهم عن بعض لكثرة حنده، وفضول رجاله؛ وأرسل إلى عمرو أخاه تذارق لأبيه وأمنه، فخرج نحوهم في تسعين ألفًا، وبعث من يسوقهم، حتى نزل صاحب الساقة ثنية جلق بأعلى فلسطين، وبعث جرحه بن توذار نحو يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بإزائه، وبعث الدراقص فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث الفيقار بن نسطوس في ستين ألفًا نحو أبي عبيدة؛ فهاجم المسلمون وجميع فرق المسلمين واحد وعشرون ألفًا؛ سوى عكرمة في ستة آلاف؛ ففزعوا جميعًا بالكتب وبالرسل إلى عمرو: أن ما الرأي؟ فكاتبهم وراسلهم: إن الرأي الإجماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة؛ وإذا نحن تفرقنا لم يبق الرجل منا في عدد يقرن فيه لأحد ممن استقبلنا وأعد لنا لكل طائفة منا. فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا به. وقد كتب إلى أبي بكر بمثل كا كاتبوا به عمرًا؛ فطلع عليهم كتابه بمثل رأى عمرو، بأن اجتمعوا عسكرًا واحدًا، وألقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله؛ والله ناصر من نصرهن، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة؛ وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة على العشرة آلاف إذا أتوا من تلقاء الذنوب؛ فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين وليصل كل رجل منكم بأصحابه.
وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطاقته: أن اجتمعوا لهم، وانزلوا بالروم منزلًا واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب؛ وعلى الناس التذارق وعلى المقدمة جرجة، وعلى مجنبتيه باهان والد راقص، وعلى الحرب الفيقار؛ وأبشروا فإن باهان في الأثر مدد لكم. ففعلوا فنزلوا الواقوصة وهي على ضفة اليرموك، وصار الوادي خندقًا لهم؛ وهو لهب لا يدرك؛ وإنما أراد باهان وأصحابه أن تستفيق الروم ويأنسوا بالمسلمين؛ وترجع إليهم أفئتهم عن طيرتها.
وانتقل المسلمون عن عسكرهم الذي اجتمعوا به فنزل عليهم بحذائهم على كريقهم؛ وليس للروم طريق إلا عليهم. فقال عمرو: أيها الناس، أبشروا، حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير؟ فأقاموا بإزائهم وعلى ريقهم؛ ومخرجهم صفر من سنة ثلاث عشرة وشهري ربيع، لا يقدون من الروم على شئ؛ ولا يخلصون إليهم؛ اللهب - وهو الواقصة - من ورائهم، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجه إلا أديل المسلمون منهم؛ حتى إذا سلخوا شهر ربيع الأول؛ وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن في صفر؛ فكتب إلى خالد ليلحق بهم، وأمره أن يخلف على العراق المثنى؛ فوافهاهم في ربيع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو والمهلب، قالوا: ولما نزل المسلمون اليرموك، واستمدوا أبا بكر، قال: خالد لها فبعث إليه وهو بالعراق، وعزم عليه واستحثه في السير، فنفذ خالد لذلك فطلع عليهم خالد؛ وطلع باهان على الروم، وقد قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين؛ يغرونهم ويخضضونهم على التقال؛ ووافق قدوم خالد قدوم باهان، فخرج بهم باهان كالمقتدر؛ فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم؛ فهزم باهان، وتتابع الروم على الهزيمة، فاقتحموا خندقهم؛ وتيمنت الروم بباهان؛ وفرح المسلمون بخالد وحرد المسلمون. وحرب المشركون وهم أربعون ومائتا ألف؛ منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألفًا منهم مسلسل للموت، وأربعون ألفًا مربطوزن بالعمائم، وثمانون ألف فارس وثمانون ألف راجل، والمسلمون سبعة وعشرون ألفًا ممن كان مقيمًا؛ إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف؛ فصاروا ستة وثلاثين ألفًا.
ومرض أبو بكر رحمه الله في جمادى الأولى، وتوفي للنصف من جمادى الآخرة، قبل الفتح بعشر ليال.
خبر اليرموك
قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشأم كورة؛ فسمى لأبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح حمص، وليزيد بن أبي سفيان دمشق؛ ولشرحبيل بن حسنة الأردن، ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجزز فلسطن، فلما فرغا منها نزل علقمة وسار إلى مصر. فلما شارفوا الششأم، دهم كل أمير منهم قوم كثير، فأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد، وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين.
ولما رأى خالد أن المسلمين يقاتلون متساندين قال لهم: هل لكم يا معشر الرؤساء في أمر يعز الله به الدين، ولا يدخل عليكم معه ولا منه نقيصة ولا مكروه! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عن خالد وعبادة، قالا: توافى إليها مع الأمراء والجنود الأربعة سبعة وعشرون ألفًا وثلاثة آلاف من فلال خالد بن سعيد، أمر عليهم أبو بكر معاوية وشرحبيل، وعشرة آلف من أمداد أهل العراق مع خالد ابن الوليد سوى ستة آلاف ثبتوا مع عكرمة ردءا بعد خالد بن سعيد؛ فكانوا ستة وأربيعن ألفًا، وكل قتالهم كان على تساند، كل جند وأميره؛ لا يجمعهم أحد؛ حتى قدم عليهم خالد من العراق. وكان عسكر أبي عبيدة باليرموك مجاورًا لعسكر عمرو بن العاص، وعسكر شرجبيل مجاورًا لعسكر يزيد بن أبي سفيان؛ فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو، وشرحبيل، وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم تلك؛ فعسكر على حدة؛ فصلى بأهل العراق، ووافق خالد بن الوليدالمسلمين وهم متضايقون بمدد الروم؛ عليهم باهان ووافق الروم وهم نشاط بمددهم، فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى إلى الخنادق - والواقوصة أحد حدوده - فلزموا خندقهم عامة شهر يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان وينعمون لهم النصرانية؛ حتى استبصروا. فخرجوا للقتال الذي لم يكن بعده قتال مثله، في جمادى الآخر.
فلما أحس المسلمون خروجهم، وأرادوا الخروج متساندة، سار فيهم خالد بن الوليد؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملهم؛ فإن هذا يوم له ما بعده؛ ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبية؛ على تساند وانتشار؛ فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا؛ فاعلموا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته، قالوا: فهات، فما الرأي؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يلاى أنا سنتياير، ولو علم بالذي كان ويكون؛ لقد جمعطم. إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم؛ ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه آن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله ﷺ. هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدًا، والآخر بعد غد؛ حتى يتأمر كلكم، ودعونني أليكم اليوم.
فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن المر أطول مما صاروا إليه؛ فخرجت الروم في تعبية لم ير الرءون مثلها قط، وخرج خالد في تعبية لم تعبها العرب قبل ذلك؛ فخرج في ستة وثلاثين كردوسًا إلى الأربعين، وقال: إن عدوكم قد كثر وطغى، وليس من التعبية تعبية أكثر في رأي العين من الكراديس. فجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة. وجعل المسيرة كراديس وعليها يزيد بن أبي سفيان. وكان على كردوس من كراديس أهل العراق القعقاع بن عمرو، وعلى كردوس مذعور بن عدي، وعياض بن غنم على كردوس، وهاشم بن عتبة على كردوي، وزياد بن حنظلة على كردوس، وخالدفي كردوس؛ وعلى فالة خالد بن سعيد دحية بن خلفية على كردوس، وخالد في كردوس؛ وعلى فالة خالد بن سعيد دححية بن خليفة على كردوس، وأبو عبيدة على كردوس، وعكرمة على كردوس، وسهيل على كرودس وعبد الحمن بن خالد على كردوس - وهو يومئذ ابن ثماني عشرة سنة - وحبيب بن مسلمة على كردس، وصفوان بن أمية على كردوس، وسعيد بن خالد على كردوس، وأبو الأعور بن سفيان على كردوس، وابن ذي خالد على كردوس؛ وفي الميمنة عمارة بن مخشي ابن خويلد على كردوس؛ وشرحبيل على كردوس ومعه خالد بن سعيد، وعبد الله بن قيس على كردوس؛ وعمرو بن عبسة على كردوس، والسمط ب الأسود على كردوس، وذو الكلاع على كردوس، ومعاوية بن حديج على آخر؛ وجندب بن عمرو بن حممة على كردوس، وعمرو بن فلان على كردوس، وفي المسيرة يزيد بن أبي سفيان على كردوس، والزبير على كردوس، وحوشب ذو ظليم على كردوس، وقيس ين عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن مازن بن صعصعة من هوازن - حليف لبنى النجار - على كردوس، وعصمة بن عبد الله - حليف لبني النجار من بني أسد - على كردوس، وضرار بن الأزور على كردوس، ومسروق بن فلان على كردوس وعتبة بن ربيعة بن بهز - حليف لبني عصمة - على كردوس، وجارية بن عبد الله الأشجعي - حليف لبني سلمة - على كردوس، وقباث على كردوس.
وكان القاضي أبو الدراداء، وكان القاص أبو سفيان بن حرب، وكان على الطلائع قباث بن أشيم؛ وكان على الأقباض عبد الله بن مسعود.
كتب إلي السري، عن شعيبن عن سيف، عن محمد وطلحة نحوًا من حديث أبي عثمان؛ وقالوا جميعًا: وكان القارئ المقداد. ومن السنة التي سن رسول الله ﷺ بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء؛ ولم يزل الناس بعد ذلك على ذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عنسيف، عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، عن عبادة وخالد؛ قالا: شهد اليرموك ألف من أصحاب رسول الله ﷺ فيهم نحو من مائة من أهل بدر. قالا: وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول: الله الله! إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك! اللهم إن هذا يوم من أيامك؛ اللهم أنزل نصرك على عبادك! قالا: وقال رجل لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: وما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما الجنود بالنصر وتقل بالخذلان؛ لا بعدد الرجال؛ والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه؛ وأنهم أضعفوا في العدد - وكان فرسه قد حفى في مسيره - قالا: فأمر خالد عكرمة والقعقاع، وكانا على مجنبتي القلب، فأنشبا القتال، وارتجز القعقاع وقال:
يا ليتني ألقاك في الطراد ** قبل اعترام الجحفل الوراد
وأنت في حلبتك الوارد
وقال عكرمة:
قد علمت بهنكة الجواري ** أني على مكرمة أحامي
فنشب القتال، والتحم الناس، وتطارد الفرسان؛ فإنهم على ذلك إذ قدم البريد من المدينة؛ فأخذته الخيول؛ وسألوه الخبر؛ فلم يخبرهم إلا بسلامة؛ وأخبرهم عن أمداد؛ وإنما جاء بموت أبي بكر رحمه الله وتأمير أبي عبيدة؛ فأبلغوه خالدًا، فأخبره خبرًا أبي بكر؛ أسره إليه، وأخبره بالذي أخبر به الجند. قال: أحسنت فقف، وأخذ الكتاب وجعله في منانته؛ وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر له أمر الجند؛ فوقف محمية بن زنيم مع خالد وهو الرسول؛ وخرج جرجة حتى كان بين الصفين ونادي: ليخرج إلى خالد، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه، فوفقه بين الصفين؛ حتى اختلف أعناق دابتيهما، وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال جرجة: يا خالد أصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذبني فإن الحر لا يكذب ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله؛ هل أنزل الله على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه. فلا تله على قوم إلا هزمتهم؟ قال: لا، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله عز وجل بعث فينا نبيه ﷺ، فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعًا. ثم إن بعضنا صدقه وتابعه؛ وبعضنا باعده وكذبه؛ فكنت فيمن كذبة وباعده وقاتله. ثم أن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به، فتابعناه. فقال: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين! ودعا لي بالنصر؛ فسميت سيف الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين. قال صدقني، ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرني إلام تدعوني؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله، قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم، قال: فإن لم يعطيها، قال: نؤذبه بحرب، ثم نقاتله، قال: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا المر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا. ثم أعاد عليه جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل مالكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل؛ قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ قال " إنا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبينا ﷺ وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج؛ فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا. قال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني! قال: بالله؛ لقد صدقتك وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة؛ وإن الله لولي ما سألت عنه. فقال: صدقني؛ وقلب الترس ومال مع خالد، وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى ركعتين؛ وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد؛ وهم يرون أنها منه حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، عليهم عكرمة والحارث بن هشام. وركب خالد ومعه جرجة والروم خلال المسلمين؛ فتنادى الناس، فثابوا، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف، فضربفيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما، وصلى الناس الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب حتى كان بين خيلهم ورجلهم، وكان مقاتلهم واسع المطرد، ضيق المهرب؛ فلما وجدت خيلهم مذهبًا ذهبت وتركوا رجلهم في مصافهم؛ وخرجت خيلهم تشتد بهم في الصحراء، وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح. ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب، أفرحوا لها، ولم يحرجوها؛ فذهبت فتفرقت في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل ففضوهم؛ فكأنما هدم بهم حائط؛ فاقتحموا في خندقهم، فاقتحمه عليهم فعمدوا إلى الواقوصة، حتى هوى فيها المقترنون وغيرهم، فمن صبر من المقترنين للقتال هوى به من خشعت نفسه فيهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه؛ كلما هوى اثنان كانت البقية أضعف، فتهافت في الواقوصة عشرون ومائة ألف؛ ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق؛ سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل؛ فكان سهم الفارس يومئذ ألفا وخمسمائة، وتجلل الفيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم، ثم جلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور؛ وإذا لم نستطع أن نمنع النصرانية؛ فأصيبوا في تزملهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة؛ قالا: أصبح خالد من تلك الليلة، وهو في رواق تذارق، لما دخل الخندق نزله وأحاطت به خيله، وقاتل الناس حتى أصبحوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان الغساني، عن أبيه، قال: قال عكرمة بن أبي جهل يومئذ: قاتلت رسول الله ﷺ في كل موطن، وأفر منكم اليوم! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هاشم وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم؛ فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعًا جراحًا، وقتلوا إلا من برأ، ومنهم ضرار بن الأزور. قال: وأتى خالد بعدما أصبحواا بعكرمة جريحًا فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة فوضع رأسه على ساقه، وجعل يمسح عن وجههما، ويقطر في حلوقهما الماء، ويقول: كلا، زعم ابن الحنتمة أنا لا نستشهد! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عميس، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة - وكان شهد اليرموك هو وعبادة بن الصامت - أن النساء قاتلن يوم اليرموك في جولة، فخرج - ت جوريرية ابنة أبي سفيان في جولة، وكانت مع زوجها وأصيب بعد قتال شديد، وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان، فأخرج السهم من عينه أبو حثمة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد بن أرطأة بن جهيش، قال: كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية؛ فخرج يومئذ رجل من الروم، فقال: من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر؛ فاختلفا شربتين، فقال للرومي: خذها وأنا الغلام الإيادي فقال: الرومي: أكثر الله في قومي مثلك! أما والله لو أنك من قومي لآزرت الروم، فأما الآن فلا أعينهم! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وخالد: وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة، وعمرو بن عكرمة، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد - وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد - وجندب بن عمرو بن حممة الدوسي، والطفيل بن عمرو، وضرار بن الأزور أثبت فبقي وطليب بن عمير بن وهب من بني عبد قصي، وهبار بن سفيان، وهشام بن العاصي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، قال: لقي خالدًا مقدمة الشأم مغيثًا لأهل اليرموك رجل من روم العرب، فقال: يا خالد، إن الروم في جمع كثير؛ مائتي ألف أو يزيدون؛ فإن رأيت أن ترجع على حاميتك فافعل؛ فقال خالد: أبا لروم تخوفني! والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه، وأنهم أضعفوا ضعفهم، فهزمهم الله على يديه! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن أرطأة بن جهيش، قال: قال خالد يومئذ: المد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلى من عمر، والحمد لله ولي عمر، وكان أبعض إلى من أبي بكر ثم ألزمني حبه! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو بن ميمون، قالوا: وقد كان هرقل حج قبل مهزم خالد بن سعيد، فحج بيت المقدس، فبينا هو مقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم، وقال: أرى من الرأي ألا تقاتلون هؤلاء القوم، وأن نصالحوهم؛ فوالله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشأم؛ وتأخذوا نصفًا وتقر لكم جبال الروم؛ خير لكم من أن يبلغوكم على الشأم، ويشاركوكم في جبال الروم؛ فنخر أخوه ونخر ختنه؛ وتصدع عنه من كان حوله؛ فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه، وأمر الأمراء ووجه إلى كل جند جندًا. فلما اجتمع المسلمون، أمرهم بمنزل واحد واسع جامع حصين، فنزلوا بالواقوصة، وخرج فنزل حمص، فلما بلغه أن خالدًا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم، وعمد إلى بصرى وافتتحها وأباح عذراء، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم! فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم؛ إن دينهم دين جديد يجدد لهم ثبارهم، فلا يقوم لهم أحد حتى يبلى. فقالوا: قاتل عن دينك ولا تجبن الناس، واقض الذي عليك؛ قال: وأي شئ أطلب إلا توفير دينكم!
ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعث إليهم المسلمون: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته؛ فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان كالرسول، والحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأبو جندل بن سهيل؛ ومع أخي الملك يومئذ ثلاثون رواقًا في عسكره وثلاثون سرادقًا، كلها من ديباج؛ فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فابرز لنا. فبرز إلى فرش ممهدة وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم إ ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا، فكان القتال؛ تى جاء الفتح.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مطرح، عن القاسم، عن أبي أمامة وأبي عثمان، عن يزيد بن سنان، عن رجال من أهل الشأم ومن أشياخهم؛ قالوا: لما كان اليوم الذي تأمر فيه خالد، هزم الله الروم مع الليل، وصعد المسلمون العقبة، وأصابوا ما في العسكر، وقتل الله صناديدهم ورءوسهم وفرسانهم، وقتل الله أخًا هرقل، وأخذ التذارق، وانتهت الهزيمة إلى هرقل وهو دون مدينة حمص، فارتحل فجعل حمص بينه وبينهم، وأمر عليها أميرًا وخلفه فيها، كما كان أمر على دمشق، وأتبع المسلمون الروم حين هزموهم خيولًا يثفنونهم. ولما صار إلى أبي عبيدة الأمر بعد الهزيمة؛ نادى بالرحيل، وارتحل المسلمون بزحفهم حتى وضعوا عساكرهم بمرج الصفر. قال أبو أمامة: فبعث طليعة من مرج الصفر، معي فارسان؛ حتى دخلت الغوطة فجستها بين أبياتها وشجراتها، فقال أحد صاحبي: قد بلغت حيث أمرت فانصرف لا تهلكنا، فقلت: قف مكانك حتى تصبح أو آتيك. فسرت حتى دفعت إلى باب المدينة؛ وليس في الأرض أحد ظاهر، فنزعت لجام فرسي وعلقت عليها مخلاتها، وركزت رمحي، ثم وضعت رأسي فلم أشعر إلا بالمفتاح يحرك عند الباب ليفتح؛ فقمت فصليت الغداة، ثم ركبت فرسي، فحملت عليه، فطعنت البواب فقتله، ثم انكفأت راجعًا؛ وخرجوا يطلبونني، فجعلوا يكفون عني مخافة أن يكون لي كمين، فدفعت إلى صاحبي الأدنى الذي أمرته أن يقف، فلما رأوه قالوا: هذا كمين انتهى إلى كمينه. فانصرفوا وسرت أنا وصاحبي، حتى دفعنا إلى صاحبنا الثاني، فسرنا حتى انتهينا إلى المسلمين؛ وقد عزم أبو عبيدة ألا يبرح حتى يأتيه رأى عمر وأمره؛ فأتاه فرحلوا حتى نزلوا على دمشق، وخلف باليرموك بشير بن كعب بن أبي الحميري في خيل.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد عن أبي سعيد، قال: قباث: كنت في الوفد بفتح اليرموك، وقد أصبنا خيرًا ونفلًا كثيرًا، فمر بنا الدليل على ماء رجل قد كنت اتبعته في الجاهلية حين أدركت وآنست من نفسي لأصيب منه؛ كنت دللت عليه، فأتيته فأخبرته، فقال: قد أصيب، فإذا ريبال من ريابلة العرب قد كان يأكل في اليوم عجز جزور بأدمها ومقدار ذلك منغير الغجز ما يفضل عنه إلا ما يقوتني. وكان يغير على الحي ويدعني قريبًا، ويقول: إذا مر بك راجز يرتجز بكذا وكذا، فأنا ذلك؛ فشل معي. فمكثت بذلك حتى أقطعني قطيعًا من مال، وأتيت به أهلي؛ فهو أول مال أصبته. ثم إني رأست قومي؛ وبلغت مبلغ رجال العرب، فلما مر بنا على ذلك الماء عرفته، فسألت عن بيته فلم يعرفوه، وقالوا: هو حي، فأتيتت ببنين استفادهم بعدي، فأخبرتهم خبري، فقالوا: اغد علينا غدًا، فإنه أقرب ما يكون إلى ما تحب بالغداة، فغاديتهم فأدخلت عليه، فأخرج من خدره؛ فأجلس لي، فلم أزل أذكره حتى ذكر، وتسمع وجعل يطرب للحديث ويستطعمنيه، وكال مجلسنا وثقلنا على صبيانهم؛ ففرقوه ببعض ما كان يفرق منه ليدخل خدره، فوافق ذلك عقله، فقال: قد كنت وما أفزع! فقلت أجل، فأعطيته ولم أدع أحدًا من أهله إلا أصبته بمعروف ثم ارتحلت.
كتب إلي السري، عن سيف، عن أبي سعيد المقبري، قال: قال مروان بن الحكم لقباث: أانت منى، وأنا أقدم منه، قال: فما أبعد ذكرك؟ قال: حثى الفيل لسنة. قال: وما أعجب ما رأيت؟ قال: رجل من قضاعة؛ إني لما أدركت وآنست من نفسي سألت عن رجل أكون معه وأصيب منه، فدللت عليه.. واقتص هذا الحديث.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، أن أبا بكر رحمه الله حين سار القوم خرج مع يزيد بن أبي سفيان يوصيه، وأبو بكر يمشي ويزيد راكب، فلما فرغ من وصيته قال: أقرئك السلام، وأستودعك الله. ثم انصرف ومضى يزيد، فأخذ التبوكية ثم تبعه شرحبيل بن حسنة ثم يأبو عبيدة بن الجراح مددًا لهما على ربع، فسلكوا ذلك الطريق، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل بغمر العربات، ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفًا، عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه. فكتب عمرو بن العاص؛ وهو بمرج الصفر من أرض الشأم في يوم مطير يستمطر فيه؛ فتعاوى عليه أعلاج الروم، فقتلوه، وقد كان عمرو بن العاص كتب إلى أبي بكر يذكر له أمر الروم ويستمده.
قال أبو جعفر: وأما أبو يزيد، فحدثني عن علي بن محمد بالإسناد الذي قد ذكرت قبل؛ أن أبا بكر رحمه الله وجه بعد خروج يزيد بن أبي سفيان موجهًا إلى الشأم بأيام، شرحبيل بن حسنة - قال: وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن عمرو، من كندة، ويقال من الأزد - فسار في سبعة آلاف، ثم أبا عبيدة بن الجراح في سبعة آلاف، فنزل يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل الأردن - ويقال بصرى - ونزل أبو عبيدة الجابية، ثم أمدهم بعمرو بن العاص، فنزل بغمر العربات، ثم رغب الناس في الجهاد؛ فكانوا يأتون المدينة فيوجههم أبو بكر إلى الشأمفمنهم من يصير مع أبي عبيدة، ومنهم من يصير مع يزيد، يصير كل قوم مع من أحبوا.
قالوا: فأول صلح كان بالشأم صلح مآب؛ وهي فسطاط ليست بمدينة، مر أبو عبيدة بهم في طريقه، وهي قرية من البلقاء، فقاتلوه، ثم سألوه الصلح فصالحهم. واجتمع الروم جمعًا بالعربة من أرض فلسطين؛ فوجه إليهم يزيد بن أبي سفيان أبا أمامة الباهلي؛ ففض ذلك الجمع قالوا: فأول حرب كانت بالشأم بعد سرية أسامة بالعربة. ثم أتوا الدائية - ويقال الدائن - فهزمهم أبو أمامة الباهلي، وقتل بطريقًا منهم. ثم كانت مرج الصفر، استشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص، أتاهم أدرنجار في أربعة آلاف وهم غارون، فاستشهد خالد وعدة من المسلمين.
قال أبو جعفر: وقيل إن المقتول في هذه الغزوة كان ابنًا لخالد بن سعيد، وإن خالدًا انحاز حين قتل ابنه، فوجه أبو بكر خالد بن الوليد أميرًا على الأمراء الذين بالشأم، ضمهم إليه؛ فشخص خالد من الحيرة في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة في ثمانمائة - ويقال في خمسمائة - واستخلف على عمله المثنى بن حارثة، فلقيه عدو بصندوداء، فظفر بهم، وخلف بها ابن حرام الأنصار؛ ولقى جمعًا بالمصيخ والحصيد، عليهم ربيعة بن بجير التغلبي، فهزمهم وسبى وغنم، وسار ففوز من قراقر إلى سوى؛ فأغار على أهل سوى؛ واكتسح أموالهم، وقتل حرقوص ابن النعمان البهراني، ثم أتى أرك فصالحوه، وأتى تدمر فتحصنوا، ثم صالحوه؛ ثم أتى القريتين، فقاتلهم فظفر بهم وغنم، وأتى حوارين؛ فقاتلهم فهزمهم وقتل وسبى، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة، وأتى مرج راهط، فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، ووجه بسرين أبى ارطاة وحبيب بن مسلمة إلى الغوطة، فأتوا كنيسة فسبوا الرجال والنساء، وساقوا العيال إلى خالد.
قال: فوافى خالدًا كتاب أبي بكر بالحيرة منصرفة من حجه: أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجي من الناس نزعك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة؛ فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل؛ وإياك أن تدل بعمل، فإن الله عز وجل له المن، وهو ولي الجزاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عطاء، عن الهيثم البكائي، قال: كان أهل الأيام من أهل الكوفة يوعدون معاوية عند بعض الذي يبلغهم، ويقولن: ما شاء معاوية! نحن أصحاب ذات السلاسل، ويسمون ما بينهما وبين الفراض؛ ما يذكرون ماكان بعد؛ احتقارًا لكا كان بعد فيما كان قبل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن ظفر بن دهى، ومحمد بن عبد الله عن أبي عثمان، وطلحة عن المغيرة، والمهلب بن عقبة عن عبد الرحمن بن سياه الأحمري، قالوا: كان أبو بكر قد وجه خالد بن سعيد بن العاص إلى الشأم حيث وجه خالد بن الوليد إلى العراق، وأوصاه بمثل الذي أوصى به خالدًا. وإن خالد بن سعيد سار حتى نزل على الشأم ولم يقتحك؛ واستجلب الناس فعز، فهابته الروم، فأحجموا عنه، فلم يصبر على أمر أبي بكر ولكن توردها فاستطردت له الروم، حتى أوردوه الصفر، ثم تعطفوا عليه بعد ما أمن؛ فوافقوا ابنه سعيد بن خالد مسمطرًا؛ فقتلوه هو ومن معه، وأتى الخبر خالدًا، فخرج هاربًا حتى يأتي البر، فينزل منزلًا، واجتمعت الروم إلى اليرموك؛ فنزلوا به، وقالوا: والله لنشغلن أبا بكر في نفسه عن تورد بلادنا بخيوله.
وكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بالذي كان، فكتب أبو بكر إلى عمرو ابن العاص - وكان بلاد قضاعة - بالسير إلى اليرموك، ففعل. وبعث أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان، وأمر كل واحد منهما بالغارة، وألا توغلوا حتى لا يكون وراءكم أحد من عدوكم.
وقدم عليه شرحبيل بن حسنة بفتح من فتوح خالد، فسرحه نحو الشأم في جند، وسمى لكل رجل من أمراء الأجناد كورة من كور الشأم؛ فتوافروا باليرموك، فلما رأت الروم توافيهم، ندموا على الذي ظهر منهم، ونسوا الذي كانوا يتوعدون به أبا بكر، واهتموا وهمتهم أنفسهم، وأشجوهم وشجوا بهم، ثم نزلوا الواقصة. وقال أبو بكر: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، فكتب إليه بهذا الكتاب الذي فوق هذا الحديث، وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس، فإذا فتح الله على المسلمين الشأم، فارجع إلى عملك بالعراق. وبعث خالد بالخماس إلا ما نفل منها مع عمير بن سعد الأنصاري وبمسيرة إلى الشأم. ودعا خالد الأدلة، فارتحل من الحيرة شائرًا إلى دومة، ثم طعن في البر إلى قراقر، ثم قال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم! فإن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقًا لا يحمل الجيوش، يأخذ الفذ الراكب، فإياك أن تغرر بالمسلمين. فعزم عليهم ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد، فقام فيهم، فقال: لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أم المعونة تأتي على قدر النية، والأحر على قدر الحسبة؛ وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشئ يقع فيه مع معونة الله له، فقالوا: أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فشأنك. فطابقوه ونووا واحتسبوا، واشتهوا مثل الذي خيل بقدر ما يستقيها، فظمأ كل قائد من الإبل الشرف الجلال ما يكتفيبه، ثم سقوها العلل بعد النهل؛ ثم صروا آذن الإبل وكعموها، وخلوا أدبارها، ثم ركبوا من قراقر مفوزين إلى سوى - وهي على جانبيها الآخر مما يلي الشأم - فلما ساروا يومًا افتظوا لكل عدة من الخيل عشرًا من تلك الإبل فمزجوا ما في كروشها بما كان من الألبان، ثن سقوا الخيل، وشربوا للشفعة جرعًا، ففعلوا ذلك أربعة أيام.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز ابن ثعلبة؛ عمن حدثة من بكر بن وائل، أن محرز بن حريش المحاربي قال لخالد: اجعل كوكب الصبح على حاجبك اليمن، ثم أمه تفض إلى سوى؛ فكان أدلهم.
قال أبو جعفر الطبري: وشاركهم محمد وطلحة، قالوا: لما نزل بسوى وخشى أن يفضحهم حر الشمس، نادى هالد رافعًا: ما عندك؟ قال: خير، أدركتم الري، وأنتم على الماء! وشجعهم وهو متحير أرمد، وقال: أيها الماس، انظروا علمين كأنهما ثديان. فأتوا عليهما وقالوا: علمان، فقام عليهما فقال: اضربوا يمنة ويسرة - لعوسجة كعقدة الرجل - فوجدوا جذمها، فقالوا: جذم ولا نرى شجرة، فقال: احتفروا حيث شئتم، فاسشتثاروا وأحساء رواء، فقال رافع: أيها الأمير، والله ما وردت هذا الماء منذ ثلاثين سنة، وما وردته إلا مرة وأنا غلام مع أبي. فاستعدوا ثم أغاروا والقوم لا يرون أن جيشًا يقطع إليهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن إسحاق بن أبراهيم، عن ظفر بن دهى، قال: فأغار بنا خالد من سوى على مصيخ بهراء بالقصواني - ماء من المياه - فصبح المصيخ والنمر؛ وإنهم لغارون، وإن رفقة لتشرب في وجه الصبح، وساقيهم يغنيهم، ويقول:
ألا صبحاني قبل جيش أبي بكر
فضربت عنقه، فاختلط دمه بخمره.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد بإسنادهالذي تقدم ذكره، قال: ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وغارته على مسيخ بهراء وانتسافها، فاجتمعوا بمرج واهط، وبلغ ذلك خالدًا، وقد خلف ثغور الروم وجنودها مما يلي العراق، فصار بينهم وبين اليرموك، صمد لهم؛ فخرج من سوى بعد مارجع إليها بسبي بهراء، فنزل الرمانتين - علمين على الطريق - ثم نزل الكثب؛ حتى صار إلى دمشق، ثم مرج الصفر، فلقى عليه غسام وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم وعيالاتهم. ونزل بالمرج أيامًا، وبعث إلى أبي بكر بالأخماس مع بلال بن الحارث المزني، ثم خرج من المرج حتى ينزل قناة بصرى؛ فكانت أول مدينة افتتحت بالشأم على يدي خالد فيمن معه من جنود العراق، وخرج منها، فوافى المسلمين بالواقوصة، فنازلهم بها في تسعة آلاف.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: ولما رجع خالد من حجة وافاه كتاب أبي بكر بالخروج في شطر الناس، وأن يخلف على الشطر الباقي المثنى بن حارثة، وقال: لا تأخذن نجدًا إلا خلفت له نجدًا، فإذا فتح الله عليكم فارد هم إلى العراق، وأنت معهم، ثم أنت على عملك؛ وأحضر خالد أصحاب رسول الله ﷺ واستأثر بهم على المثنى، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة ممن لم يكن له صحبة، ثم نظر فيمن بقي، فاختلج من كان قدم على النبي ﷺ وافدًا أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل القناعة؛ ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة أو بع النصف؛ وبالله ماأرجو النصر إلا بهم، فأنى تعريني منهم! فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلي، وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان، ومعبد بن أم معبد الأسلمى، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمى؛ والحارث بن بلال المزنى، وعاصم بن عمرو التميمي؛ حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته، انجذب خالد فمضى لوجهه وشيعه المثنى إلى قراقر، ثم رجع إلى الحيرة في المحرم، فأقام في سلطانه، ووضع في المسلحة التي كان فيها على السيل أخاه، ومكان ضرار بن الخطاب عتيبة بن النهاس، ومكان ضرار بن الأزور مسعودًا أخاه الآخر، وسد أماكن كل من خرج من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء، ووضع مذعور بن عدي في بعض تلك الأماكن، واستقام أهل فارس - على رأس سنة من مقدم خالد الحيرة؛ بعد خروج خالد بقليل؛ وذلك في سنة ثلاث عشرة - على شهر براز بن أرشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جندًا عظيمًا عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف، ومعه فيل، وكتب المسالح إلى المثنى بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة نحوه، وضم إليه المسالح، وجعل على مجنبتيه المعنى ومسعودًا ابني حارثة، وأقام له ببابل، وأقبل هرمز جاذويه، وعلى مجنبتيه الكوكبد والخر كبذ. وكتب إلى المثنى: من شهر براز إلى المثنى؛ إني قد بعثت إليك جندًا من وخش أهل فارس، إنما هم رعاة الدحاج والخنازير؛ ولست أقاتلك إلا بهم فأجابه المثنى: من المثنى إلى شهر براز؛ إنما أنت أحد رجلين: إما باغ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله في الناس الملوك. وأما الذي يدلنا عليه الرأى؛ فإنكم إنما اضطررتم إليهم؛ فالخمد لله الذي رد كيدطمك إلى رعاة الدجاج والخنازير. فجزع أهل فارس من كتابه، وقالوا: إنما أتى شهر براز من شؤم مولده ولؤم منشئه - وكان يسكن ميسان - وبعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له: جرأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم؛ فإذا كاتبت أحدًا فاستشر. فالتقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا على الطريق الأول قتالًا شديدًا.
ثم إن المثنى وناسًا من المسلمين اعتوروا الفيل - وقد كان يفرق بين الصفوف والكراديس - فأصابوا مقتله، فقتلوه وهزموا أهل فارس، واتبعهم المسلمون يقتلون، حتى جازوا بهم مسالحهم، فأقاموا فيها، وتتبع الطلب الفالة؛ حتى انتهوا إلى المدائن؛ وفي ذلك يقول عبدة بن الطبيب السعدي، وكان عبدة قد هاجر لمهاجر حليلة له حتى شهد وقعة بابل؛ فلما آيسته رجع إلى البادية، فقال:
هل حبل خولة بعد البين موصول ** أم أنت عنها بعيد الدار مشغول!
وللأحبة أيام تذكرها ** والمنوى قبل يوم البين تأويل
حلت خويلة في حي عهدتهم ** دون المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رءوس العجم ضاحية ** منهم فوارس، لا عزل ولا ميل
القصيدة. وقال الفرزدق يعدد بيوتات بكر بن وائل وذكر المثنى وقتله الفيل:
وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة ** ببابل إذا في فارس ملك بابل
ومات شهر براز منهزم هرمز جاذويه.
واختلف أهل فارس، وبقي ما دون دجلة وبرس من السواد في يدي المثنى والمسلمين.
ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهر براز على دخت زنان ابنة كسرى؛ فلم ينقذ لها أمر فخلعت.
وملك سابور بن شهر براز. قالوا: ولما ملك سابور بن شهر براز قام بأمره الفر خزاذ بن البنوان، فسأله أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، ففعل، فغضبت من ذلك، وقالت: يا بن عم، أتزوجني عبدي! قال: استحي من هذا الكلام ولا تعيديه على، فإنه زوجك، فبعثت إلى سياوخش الرازي - وكان من فتاك الأعاجم - فشكت إليه الذي تخاف، فقال لها: إن كنت كارهة لهذا فلا تعاوديه فيه، وأرسلى إليه وقولي له: فليقل له فليأتك؛ فأنا أكفيكه. ففعلت وفعل؛ واستعد سياوخش، فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاذ حتى دخل، فثار به سياوخش فقتله ومن معه، ثم نهد بها معه إلى سابور، فحضرته ثم دخلوا عليه فقتلوخه. وملكت آزر ميدخت بنت كسرى، وتشاغلوا بذلك؛ وأبطأ خبر أبي بكر على المسليمن فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية، ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي؛ وخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين، وليستأذنه في الاستعانة بمن قد ظهرت توبته وندمه من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو، وليخبره أنه لم يخلف أحدًا أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم. فقدم المدينة وأبو بكر مريض، وقد كان مرض أبو بكر بعد مخرج خالد إلى الشأم - مرضته التي مات فيها - بأشهر؛ فقدم المثنى وقد أشفى، وعقد لعمر، فأخبر الخبر، فقال: على بعمر، فجاء فقال له: اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به؛ إني لأرجو أن أموت من يومي هذا - وذلك يوم الاثنين - فإن أنامت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم؛ وقد رأيتني متوفى رسول الله ﷺ وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله؛ وبالله لو أني أنى عن أمر رسوله لخذلنا ولعاقبنا، فاضطرمت المدينة نارًا. وإن فتح الله على أمراء الشأم فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولادة أمره وحده وأهل الضراوة منهم والجراءة عليهم.
ومات أبو بكر رحمه الله مع الليل، فدفنه عمر ليلًا، وصلى عليه في المسجد، وندب الناس مع المثنى بعدما سوى على أبي بكر، وقال عمر: كان أبو بكر قد علم أنه يسوءني أن أؤمر خالدًا على حرب العراق حين أمرني بصرف أصحابي، وترك ذكره.
قال أبو جعفر: وإلى آزر ميخت انتهى شأن أبي بكر، وأحد شقي السواد في سلطانه، ثم مات وتشاغل أهل فارس فيما بينهم عن إزالة المسلمين عن السواد، فيما بين ملك أبي بكر إلى قيام عمر ورجوع المثنى مع أبي عبيد إلى العراق، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة، والمسالح بالسيب، والغازات تنتهي بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
فهذا حديث العراق في إمارة أبي بكر من مبتدئه إلى منتهاه.
ذكر وقعة أجنادين
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. وكتب أبو بكر إلى خالد وهو بالحيرة، يأمره أن يمد أهل الشأم بمن معه من أهل القوة، ويخرج فيهم، ويستخلف على ضعفه الناس رجلًا منهم؛ فلما أتى خالدًا كتاب أبي بكر بذلك، قال خالد: هذا عمل الأعسير بن أم شملة - يعني عمر بن الخطاب - حسدني أن يكون فتح العراق على يدي. فسار خالد بأهل القوة من الناس ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة؛ مدينة رسول الله ﷺ، وأمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري، واستخلف خالد على من أسلم بالعراق من ربيعة وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني. ثم سار حتى نزل على عين التمر، فأغار على أهلها، فأصاب منهم، ورابط حصنًا بها فيه مقاتلة كان كسرى وضعهم فيه حتى استنزلهم، فضرب أعناقهم، وسبى من عين التمر ومن أبناء تلك المرابطة سبايا كثيرة فبعث بها إلى أبي بكر؛ فكان من تلك السبايا أبو عمرة مولى شبان؛ وهو أبو عبد الأعلى بن أبي عمرة، وأبو عبيدة مولى المعلى، من الأنصار من بني زريق، وأبو عبد الله مولى زهرة، وخير مولى أبي داود الأنصاري ثم أحد بني مازن بن النجار، ويسار وهو جد محمد بن إسحاق مولى قيس بن مخرومة بن المطلب بن عبد مناف، وأفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ثم أحد بني مالك بن النجار، وحمران بن أبان مولى عثمان بن عفان. وقتل خالد بن الوليد هلال بن عقة ابن بشر النمري وصلبة بعين التمر، ثم أراد السير مفوزا من قراقر - وهو ماء لكلب إلى سوى، وهو ماء لبهران بينهما خمس ليال - فلم يهتد خالد الطريق، فالتمس دليلًا، فدل على رافع بن عميرة الطائي؛ فقال له خالد: انطلق، بالناس فقال له رافع: إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأثقال؛ والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه وما يسلطها إلا مغررًا؛ إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها، فقال له خالد: ويحك! إنه والله إن لي بد من ذلك، إنه قد أتتني من الأمير عزمة بذلك فمر بأمرك. قال: استكبروا من الماء؛ من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل؛ فإنها المهالك إلا ما دفع الله؛ ابغني عشرين جزورًا عظامًا سمانًا مسان. فأتاه بهن خالد، فعمد إليهن رافع فظمأهن، حتى إذا أجهدهن عطشًا أوردهن فشربن حتى إذا تملأن عمد إليهن، فقطع مشافرهن، ثم كعمهن لئلا يجتررن، ثم أخلى أدبارهن.
ثم قال لخالد: سر؛ فسار خالد معه مغذًا بالخيول والأثقال؛ فكلما نزل منزلًا افتظ أربعًا من تلك الشوارف؛ فأخذ كا في أكراشها، فسقاه الخيل؛ ثم شرب الناس مما حملوا معهم من الماء؛ فلما خشي خالد على أصحابه في آخر يوم من المفاز قال لرافع بن عميرة وهو أرمد: ويحك يا رافع! ما عندك؟ قال أدركت الري إن شاء الله فلما دنا من العلمين، قال للناس: انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل؟ قالوا: ما نراها. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! هلكتم والله إذًاي وهلكت؛ لا أباكم! انظروا فطلبوا فوجودها قد قطعت وبقيت منها بقية، فلما فحفروا فاستخرجوا عينًا، فشربوا حتى روى الناس، فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة، وردته مع أبي وأنا غلام، فقال شاعر من المسلمين:
لله عينًا رافع أنى اهتدى ** فوز من قراقر إلى سوى!
خمًا إذا ما سارها الجيش بكى ** ما سارها قبلك إني يرى
فلما انتهى خالد إلى سوى، أغار على أهله - وهم بهراء - قبيل الصبح، وناس منهم يشربون خمرًا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ** لعل منايانا قريب وما ندري
ألا عللاني بالزجاج وكررا ** على كميتاللون صافية تجري
ألا عللاني من سلافة قهوة ** تسلى هموم النفس من جيد الخمر
أظن خيول المسلمين وخالدًا ** ستطرقكم قبل الصباح من البشر
فهل لكم في السيرقبل قتالهم ** وقبل خروج المعصرات من الخدر
فيزعمون أن مغنيهم ذلك قتل تحت الغارة، فسال دمه في تلك الجفنة. ثم سار خالد على وجهه ذلك، حتى أغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى، وعليها عيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان؛ فاجتمعوا عليها، فرابطواها حتى صالحت بصرى على الجزية، وفتحها الله على المسلمين، فكانت أول مدينة من مدائن الشأم فتحت في خلافة أبي بكر. ثم ساروا جميعًا إلى فلسطين مددًا لعمرو العاص، وعمرو مقيم بالعربان من غور فلسطين، وسمعت الروم بهم، فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين؛ وعليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه - وأجنادين بلد بين الرملة وبين جبرين من أرض فلسطين - وسار عمرو بن العاص حين سمع بأبي عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان حتى لقيهم، فاجتمعوا بأجنادين؛ حتى عسكروا عليهم.
حدثنا بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له القبقلار؛ وكان هرقل استخلفه على أمراء الشأم حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق بمن معه من الروم. قأما علماء الشأم فيزعمون أنما كان على الروم تذارق. والله أعلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، قال: تدانى العسكران بعث القبقلا رجلًا عربيًا - قال: فحدثت أن ذلك الرجل رجل من قضاعة، من تزيد بن حيدان، يقال له ابم هزارف - فقال: ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يومًا وليلة، ثم ائتني بخبرهم. قال: فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر؛ فأقام فيهم يومًا وليلة، ثن يأتاه فقال له: ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان، وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم؛ لإقامة الحق فيهم. فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بيني وبينهم، فلا ينصرني عليهم، ولا ينصرهم على. قال: ثم تزحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتال المسلمين؛ قال للروم: لفوا رأسي بثوب، قالوا له: لم؟ قال: يوم البئيس، لا أحب أن أراه! ما رأيت في الدنيا يومًا أشد من هذا! قال فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
وكانت وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة لليلتين بقيتا من جمادى الأولى. وقتل يومئذ من المسلمين جماعة؛ منهم سلمة بن هشام بن المغيرة، وهبار بن الأسود بن عبد الأسد، ونعيم بن عبد الله النحام، وهشام بن العاصي بم وائل، وجماعة أخر من قريش. قال: ولم يسم لنا من الأنصار أحد أصيب بها.
وفيها توفي أبو بكر لثمان ليال بقين - أو سبع بقين - من جمادى الآخر.
رجع الحديثإلى حديث أبي يزيد، عن علي بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره. قال: وأني خالد دمشق فجمعله صاحب بصرى، حصنهم؛ وطلبوا الصلح، فصالحهم على كل رأس دينار في كل عام وجريب حنطة. ثم رجع العدو للمسلمين، فتوافت جنود المسلمين والروم بأجنادين، فالتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة؛ فظهر المسلمون، ثم رجع هرقل للمسلمين، فالتقوا بالواقوصة فقاتلوهم؛ وقاتلهم العدو، وجاءتهم وفاة أبي بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة، وكانت هذه الوقعة في رجب.
ذكر مرض أبي بكر ووفاته
حدثني أبو زيد؛ عن علي بن محمد، بإسناده الذي قد مضى ذكره؛ قالوا: توفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة في جمادى الآخرة يوم الاثنين لثمان بقين منه. قالوا: وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزة، ويقال في جذيذة، وتناول معه الحارث بن كلدة منها، ثم كف وقال لأبي بكر: أكلت طعامًا مسموما سم سنة. فمات بعد سنة، ومرض خمسة عشر يومًا، فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب! فقال: قد رآني، قالوا فما قال لك؟ إني أفعل ما أشاء.
قال أبو جعفر: ومات عتاب بن أسيد بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر - وكانا سما جميعًا - ثم مات عتاب بمكة.
وقال غير من ذكرت في سبب مرض أبي بكر الذي توفي فيه، ما حدثني الحادث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن يزيد الليثي، عن محمد بن حمزة، عن عمرو، عن أبيه قال. وأخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، قال. وأخبرنا عمر بن عمران بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن عمر بن الحسين مولى آل مظعون، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر، قالوا: كان أول ما بدأ مرض أبي بكر به باردًا فحم خمسة عشر يومًا لا يخرد إلى الصلاة؛ وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس؛ ويدخل الناس يعودونه؛ وهو يثقل كل يوم، وهو نازل داره التي قطع رسول الله ﷺ وجاه دار عثمان بن عفان اليوم، وكان عثمان ألزمهم في مرضه؛ وتوفي أبو بكر مسى ليلة الثلاثاء؛ لثمال ليال بقين من جمادى الآخر سنة ثلاث عشرة من الهجرة. وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال. قال: وكان أبو معشر يقول: كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، فتوفي سن النبي ﷺ، وكان أبو ولد بعد الفيل بثلاث سنين.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا جرير، عن يحيى بن يعيد، قال: قال سعيد بن المسيب: استكمل أبو بكر بخلافته سن رسول الله ﷺ، فتوفي وهو بسن النبي ﷺ.
حدثنا أبو كريب، قال حدثنا أبو نعيم، عن يونس بن إسحاق، عن أبي السفر، عن عامر، عن جرير، قال كنت عند معاوية فقال: توفي النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وحدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن جرير، قال: قال معاوية: قبض رسول الله ﷺ وهو ابن ثلاث وستين، وقتل عمر وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين.
وقال علي بن محمد في خبره الذي ذكرت عنه: كانت ولاية أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يومًا، ويقال: عشرة أيام.
ذكر الخبر عمن غسله والكفن الذي كفن فيه أبو بكر ومن صلى عليه والوقت الذي صلي عليه فيه والوقت الذي توفي فيه
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني مالك بن أبي الرحال، عن أبيه، عن عائشة، قالت: توفي أبو بكر رحمه الله بين المغرب والعشاء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن محمد بن عبد الله، عن غطاء وابن أبي نليكة، أن أسماء بنت عميس، قالت: قال لي أبو بكر: غسليني، قلت: لا أطيق ذلك، قال: يعينك عبد الرحمن ابن أبي بكر، يصب الماء.
حدثني الحارث، عن محمد بن سعد، قال: أخبرنا معاذ بن معاذ ومحمد بن عبد الله الأنصاري، قالا: حدثنا الأشعث، عن عبد الواحد بن صبرة، عن القاسم بن محمد. قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: وهذا الحديث وَهِل؛ وإنما كان لمحمد يوم توفي أبو بكر ثلاث سنين.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، سألها أبو بكر؛ كم كفن النبي ﷺ؟ قالت: في ثلاثة أثواب، قال: اغسلوا ثوبي هذين - وكانا ممشقين - وابتاعوا لي ثوبًا آخر. قلت: يا أبه، إنا موسرون، قال: أي بنية، الحي أحق بالجديد من الميت، وإنما هما للمهلة والصديد.
حدثني العباس بن الوليد، قال: أخبرنا أبي قال: حدثنا الأوزاعي؛ قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم؛ أن أبا بكر توفي عشاء بعد ما غابت الشمس ليلة الثلاثاء، ودفن ليلًا ليلة الثلاثاء.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا غنام عن هشام، عن أبيه أن أبا بكر مات ليلة الثلاثاء ودفن ليلًا.
حدثني أبو زيد، عن علي بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكريه، أن أبا بكر حمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله ﷺ، وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله ﷺ، ودخل قبره عمر، وعثمان؛ وطلحة؛ وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ وأراد عبد الله أن يدخل قبره، فقال له عمر: كفيت.
قال أبو جعفر: وكان أوصى - فيما حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمر بن عبد الله - يعني ابن عروة - أنه سمع عروة والقاسم بن محمد يقولان: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب النبي ﷺ، فلما توفي حفر له، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله ﷺ، وألصقوا اللحد يلحد النبي ﷺ فقير هنالك.
قال الحارث: حدثني ابن سعد، قال: وأخبرنا محمد بن عمر، يقال: حدثني ابن عثمان، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، جعل رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله ﷺ، ورأس عمر عند حقوى أبي بكر.
حدثني علي بن مسلم الكوسي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: أخبرني عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم بن محمد، قال: دخلت على عائشة رضى الله تعالى عنها، فقلت: يا أمه، اكشفى لي عن قبر النبي ﷺ وصاحبيه؛ فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء؛ قال: فرأيت قبر النبي ﷺ مقدمًا وقبر أبي بكر عند رأسه، وعمر رأسه عند رجل النبي ﷺ.
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال: جعل قبر أبي بكر مثل قبر النبي ﷺ مسطحًا؛ ورش عليه الماء، وأقامت عليه عائشة النوح.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب؛ قال: حدثني سعيد بن المسيب، قال: لما توفي أبو بكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها، فنهاهن عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إلى ابنة أبي قحافة؛ أخت أبي بكر، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك، فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرة، فضربها ضربات، فتفرق النوح حين سمعوا ذلك.
وتمثل في مرضه - فيما حدثني أبو زيد، عن علي ابن محمد بإسناده - الذي توفي فيه:
وكل ذي إبل موروث ** وكل ذي سلب مسلوب
وكل ذي غيبة يئوب ** وغائب الموت لا يئوب
وكان آخر ما تكلم به، رب (توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين).
ذكر الخبر عن صفة جسم أبي بكر رحمه الله
حدثني الحارث، عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال حدثنا شعيب بن طلحة بن عبد الله بم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أبيه، عن عائشة، رضى الله تعالى عنها، أنها نظرت إلى رجل من العرب مر وهي في هودجها، فقالت: ما رأيت رجلًا أشبه بأبي بكر من هذا، فقلنا لها: صفي أبا بكر، فقالت: رجل أبيض نفيف العارضين، أجنأ لا يستمسك إزاره، يسترخي عن حقويه، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع.
وأما علي بن محمد؛ فإنه قال في حديثه الذي ذكرت إسناده قبل: إنه كان أبيض يخالطه صفرة، حسن القامة، نحيفًا أجنأ، رقيقًا عتيقًا، أقنى، معروق الوجه، غائر العينين، حمش الساقين، ممحوص الفخذين، يخضب بالحناء والكتم.
وكان أبو قحافة حين توفي حيًا بمكة، فلما نعي إليه قال: رزء جليل!
ذكر نسب أبي بكر واسمه وما كان يعرف به
حدثني أبو زيد، قال: حديثنا علي بن محمد بإسناده الذي قد مضى ذكره، أنهم أجمعوا على أن اسم أبي بكر عبد الله، وأنه إنما قيل له عتيق عن عتقه قال: قال بعضهم: قيل له ذلك؛ لأن النبي ﷺ، قال له: أنت عتيق من النار.
حدثني الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن معاوية بن إسحاق، عن أبيه، عن عائشة، أنها سئلت: لم سمى أبو بكر عتيقًا؟ فقالت: نظر إليه النبي ﷺ يومًا، فقال: هذا عتيق الله من النار.
واسم أبيه عثمان، وكنيته أبو قحافة، قال: فأبو بكر عبد الله بن عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى ابن غالب بن فهر بن مالك، وأمه أم الخير بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وقال الواقدي: اسمه عبد الله بن أبي قحافة - وإسمه عثمان - بن عامر. وأمه أم الخير، واسمها بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وأما هشام، فإنه قال - فيما حدثت عنه - إن اسم أبي بكر عتيق ابن عثمان بن عامر.
وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، قال: سألت عبد الرحمن بن القاسم عن اسم أبي بكر الصديق، فقال: عتيق؛ وكانوا إخوة ثلاثة بني أبي قحافة: عتيق ومعتق وعتيق.
ذكر أسماء نساء أبي بكر الصديق رحمه الله
حدث علي بن محمد، عمن حدثه ومن ذكرت من شيوخه، قال: تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة - ووافقه على ذلك الواقدي زالكلبي - قالوا: وهي قتيلة ابنة عبد العزى بن عبد بن أسعد بن جابر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، فولدت له عبد الله أسماء. وتزوج أيضًا في الجاهلية أم رومان بنت عامر بن عمير بن ذهل بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - وقال بعضهم: هي أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذنية بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة - فولدت له عبد الرحمن وعائشة فكل هؤلاء الأربعة من أولاده، ولدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية.
وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس؛ وكانت قبله عندج جعفر بن أبي طالب؛ وهي أسماء بنت عميس بن معد بن تيم بن الحارث بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بم ربيعة بن عامر بن مالك بن نسر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن حلف بن أفتل - وهو خثعم - فولدت له محمد بن أبي بكر.
وتزوج أيضًا فيالإسلام حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير؛ من بني الحارث بن الخروج؛ وكانت نشأ حين توفي أبو بكر؛ فولدت له بعد وفاته جارية سميت أم كلثوم.
ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات
حدثنا محمد بن عبد الله المخزمي، قال: حدثنا أبو الفتح نصر بن المغيرة، قال قال سفيان - وذكره عم مسعر: لما ولى أبو بكر؛ قال أبو عبيدة: أنا أكفيك المال - يعني الجزاء - وقال عمر: أنا أكفيك القضاء: فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان.
وقال علي بن محمد عن الذين سميت: قال بعضهم: جعل أبو بكر عمر قاضيًا في خلافته، فمكث سنة لم يخاصم إليه أحد.
قال: قالوا: كان يكتب له زيد بن ثابت، ويكتب له الأخبار عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان يكتب له من حضر.
وقالوا: كان عامله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاصي، وعلى صنعاء المهاجر بن أبي أمية، وعلى حضرموت زياد بن لبيد، وعلى خولان يعلى بن أمية؛ وعلى زبيد ورمع أبو موسى الأشعري، وعلى الجند معاذ بن جبل، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي. وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران، وبعث بعبد الله بن ثمر؛ أحد بني الغوث إلى ناحية جرش، وبعث عياض بن غنم الفهري إلى دومة الجندل؛ وكان بالشأم أبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص؛ كل رجل منهم على جند، وعليهم خالد بن الوليد.
ذكر بعض مناقبه
قال أبو جعفر: وكان رضي الله عنه سخيًا لينًا، عالمًا بأنساب العرب؛ وفيه يقول خفاف بن ندبة - وندبة أمه، وأبوه عمير بن الحارث - في مرثبته أبا بكر:
أبلج ذو عرف وذو منكر ** مقسم المعروف رحب الفناء
للمجد في منزله باديًا ** حوض رفيع لم يخنه الإزاء
والله لا يدرك أيامه ** ذو مئزر حاف ولا ذو رداء
من يسع كي يدرك ايامه ** يجتهد الشد بأرض فضاء
وكان - فيما ذكر الحارث، عن ابن سعد، عن عمرو بن الهيثم أبي قطن؛ قال: حدثنا الربيع عن حيان الصائغ، قال: كان نقش خاتم أبي بكر رحمه الله: نعم القادر الله.
قالوا: ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأيامًا؛ وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة؛ وهو ابن سبع وتسعين سنة.
ذكر استخلافه عمر بن الخطاب
وعقد أبو بكر في مرضته التي توفي فيها لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده.
وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف؛ فيما ذكر ابن سعد، عن الواقدي، عن ابن سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن؛ قال: لما نزل بأبي بكر رحمه الله الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل؛ ولكن فيه غلطة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقًا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه. ويا أبا محمد قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشئ أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه؛ لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئًا، قال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر: على ذاك يا أبا عبد الله! قال اللهم علمني به أن سريرته خير من علانيته؛ وأن يس فينا مثله. قال أبو بكر رحمه الله: رحمك الله يا أبا عبد الله، لا تذكر مما ذكرت لك شيئًا، قال أفعل، فقال له أبو بكر: لو تركته ما وعدتتك، وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئًا، ولوددت أني كنت خلوًا من أموركم؛ وأني كنت فيمن مضى من سلفكم؛ يا أبا عبد الله، لا تذكرون مما قلت لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن عمرو، عن أبي السفر، قال: أشرف أبو بكر على الماس من كنيفه وأسماء ابنة عميس ممسكته، موشومة اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلف عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
حدثني عثمان بن يحيى، عن عثمان القرقساني، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل، عن قيس، قال: رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة، وهو يقول: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله ﷺ؛ إنه يقول: إني لم آلكم نصحًا. قال: ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر.
قال أبو جعفر: وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن أبي النضر، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: دعا أبو بكر عثمان خاليًا، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين؛ أما بعد. قال: ثم أغمى عليه، فذهب عنه، فكتب عثمان: أما بعد؛ إني قد استخلف عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرًا منه، ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ على، فقرأ عليه، فكبر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتى! قال: نعم، قال: جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا علوان، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، أنه دخل على أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه في مرضه الذي توفي فيه؛ فأصابه مهتمًا، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئًا! فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتراه؟ قال: نعم، قال: إني وليت أمركم خيركم في نفسي؛ فكلكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر لخ دونه،؛ ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ومنضائد الديباج، وتألموا الإضطجاع على الصوف الأذري؛ كما يألم أحدكم أن ينام على حسك؛ والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا وأنتم أول ضال بالناس غدًا، فتصدونهم عن الطريق يمينًا وشمالًا. يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البجر، فقلت له: خفض عليك رحمك الله؛ فإن هذا يهيضك في أمرك. إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب؛ ولا نعلمك أردت إلا خيرًا، ولم تزل صالحًا مصلحًا، وأنك لا تأسى على شئ من الدنيا. قال أبو بكر رضي الله عنه: أجل، إني لا آسى على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن؛ وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله ﷺ. فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن؛ فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ. وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي، وأني كنت قتلته سريحًا أو خليته نجيحًا. ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميرًا؛ وكنت وزيرًا. وأما اللاتي تركتهن؛ فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرًا كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلى أنه لا يرى شرًا إلا أعان عليه. ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة؛ كنت أقمت بذي القصة؛ فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مددًاز ووددت أني كنت إذا وجهت خالد بن الوليد إلى الشأم كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق؛ فكنت قد بسطت يدي كليتهما في سبيل الله - ومد يديه - ووددت أني كنت سألت رسول الله ﷺ: لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد؛ ووددت أني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة؛ فإن في نفسي منهما شيئًا.
قال لي يونس: قال لنا يحيى: ثم قدم علينا علوان بعد وفاة الليث، فسألته عن هذا الحديث، فحدثني به كما حدثني الليث بن سعد، وسألته عن اسم أبيه، فأخبرني أنه علوان بن داود.
وحدثني محمد بن إسماعيل المرادي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح المصري، قال حدثني الليث، عن علوان بن صالح، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، قال - ثم ذكر نحوه، ولم يقل فيه: عن أبيه.
حال أبي بكر قبل الخلافة وبعدها
قال أبو جعفر: وكان أبو بكر قبل أن يشتغل بأمور المسلمين تاجرًا، وكان منزله بالسنخ، ثم تحول إلى المدينة. فحدثني الحارث، قال: حدثنا بن سعيد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: سمعت سعيد بن المسيب قال، وأخبرنا موسى بن محمد بن أبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن صبيحة التيميمي، عن أبيه، قال. وأخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، قال، وأخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: وأخبرنا أبو قدامة عثمان بن محمد، عن أبي وجزة، عن أبيه؛ قال. وغير هؤلاء أيضًا قد حدثني ببعضه، فدخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: قالت عائشة: كان منزل أبي بالسنح عند زوجته حبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث ابن الخزرج، وكان قد حجر عليه حجرة من سعف؛ فما زاد على ذلك حتى تحول إلى منزلة بالمدينة؛ فأقام هنالك بالسنح بعدما بويع له ستة أشهر، يغدو على رجليه إلى المدينة فيصلى الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء؛ رجع إلى أهله بالسنح؛ فكان إذا حضر صلى بالناس وإذا لم يحضر صلى بهم عمر بن الخطاب. قال: فكان يقيم يوم الجمعة صدر النهار بالسنح يصبغ رأسه ولحيته ثم يروح لقدر الجمعة، فيجمع بالناس. وكان رجلًا تاجرًا، فكان يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع؛ وكانت له قطعة غنم تروح عليه؛ وربما خرج هو بنفسه فيها؛ وربما كفيها فرعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر، فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم؛ وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه. فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية أتحبينأن أرعى لك، أو أصرح؟ فربما قالت: ارع، وربما قالت: صرح؛ فأي ذلك قالته فعل؛ فمكث كذلك بالسنح ستة أشهر؛ ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها، ونظر في أمره، فقال: لا والله، ما تصلح أمور الناس التجارة، وما يصلحهم. فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يومًا بيوم، ويحج ويعتمر. وكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم؛ فلما حضرته الوفاة، قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين؛ فإ، ي لا أصيب من هذا المال شيئًا، وإن أرضى التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصيب من أموالهم؛ فدفع ذلك إلى عمر، ولقوحًا وعبدًا صقيلًا، وقطيفة ما تساوى خمسة دراهم؛ فقال عمر: لقد أتعب من بعده.
وقال علي بن محمد - فيما حدثني أبو زيد عنه في حديثه عن القوم الذين ذكرت روايته عنهم - قال أبو بكر: انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عني. فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف درهم في ولايته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم بن محمد، عن أسماء ابنة عميس، قالت " دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه؛ فكيف به إذا خلا بهم! وأنت لاق ربك فسئلك عن رعيتك. فقال أبو بكر - وكان مضطجعًا: أجلسوني، فأجلسوه، فقال لطلحة: أبا لله تفرقني - أو أبالله تخوفني - إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحصين بمثل ذلك.
قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا وقت عقد أبي بكر لعمر بن الخطاب الخلافة، ووقت وفاة أبي بكر، وأن عمر صلى عليه، وأنه دفن ليلة وفاته قبل أن يصبح الناس، فأصبح عمر صبيحة تلك الليلة، فكان أول ما عمل وقال - فيما ذكر - ما حدثنا أبة كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن أبيه؛ قال: لما استخلف عمر صعد المنبر، فقال: إني فائل كلمات فأمنوا عليهن، فكان أول منطق نطق به حين استخلف - فيما حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ضرار، عن حصين المرى، قال: قال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتبع قائدة، فلينظر قائده حيث يقود؛ وأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.
حدثنا عمر، قال: حدثني على، عن عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، قال: كان أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد: أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه؛ الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكه رجاء غنيمة؛ ولا تنزلهم منزلًا قبل أن تستريده لهم؛ وتعلم كيف مأتاه؛ ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس؛ وإيامك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك؛ فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قبلك عنها؛ وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم.
ذكر غزوة فحل وفتح دمشق
حدثني عمر، عن علي بن محمد، بإسناده، عن النفر الذين ذكرت روايتهم عنهم في أول ذكرى أمر أبي بكر؛ أنهم قالوا: قدم بوفاة أبي بكر إلى الشأم شداد بن أوس بن ثابت الأنصارى ومحمية بن جزء، ويرفأ؛ فكتموا الخبر الناس حتى ظفر المسلمون - وكانوا بالياقوصة يقاتلون عدوهم من الروم؛ وذلك في رجب - فأخبروا أبا عبيدة بوفاة أبي بكر وولايته حرب الشأم، وضم عمر إليه الأمراء، وعزل خالد بن الوليد.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثناي سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ المسلمون من أجنادين ساروا إلى يفحل من أرض الأردن؛ وقد اجتمعت فيها رافضة الروم، والمسلمون على أمرائهم وخالد على مقدمة الناس. فلما نزلت الروم بيسان بثقوا أنهارها؛ وهي أرض سبخة، فكانت وحلًا، ونزلوا فحلًا - وبيسان بين فلسطين وبين الأردن - فلما غشيها المسلمون ولم يعلمون بما صنعت الروم، وحلت خيولهم، ولقوا فيها عناء، ثم سلمهم الله - وسميت بيسان ذات الردغة لما لقى المسلمون فيها - ثم نهضوا إلى الروم وهم بفحل؛ فاقتتلوا فهزمت الروم، ودخل المسلمون فحلًا ولحقت وافضة الروم بدمشق؛ فكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، على ستة أشهر من خلافة عمر. وأقام تلك الحجة للناس عبد الرحمن بن عوف. ثم ساروا إلى دمشق وخالد على مقدمة الناس؛ وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان بدمشق - وقد كان عمر عزل خالد بن الوليد واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس - فالتقى المسلمون والروم فيما حول دمشق، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثم هزم الله الروم، وأصاب منهم المسلمون، ودخلت الروم دكشق؛ فغلقوا أبوابها وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت دمشق، وأعطوا الجزية، وقد قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمارته وعزل خالد، فاستحيا أبو عبيدة أن يقرئ خالدًا الكتاب حتى فتحت دمشق لحق باهان - صاحب الروم الذي قاتل المسلمين - بهرقل. وكان فتح دمشق دمشق في سنة أربع عشرة في رجب، وأظهر أبو عبيدة إمارته وعزل خالد؛ وقد كان المسلمون، التقوا هم والروم ببلد يقال له عين فحل بين فلسطين والأردن، فاقتتلوا به قتالًا شديدًا، ثم لحقت الروم بدمشق.
وأما سيف - فيما ذكر السري، عن شعيب، عنه عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة - فإنه ذكر في خبره أن البريد قدم على المسلمين من المدينة بموت أبي بكر وتأمير أبي عبيدة؛ وهم باليرموك؛ وقد إلتحم القتال بينهم وبين الروم. وقص من خبر اليرموك وخبر اليرموك؛ وخبر دمشق غير الذي اقتصه ابن إسحاق؛ وأنا ذاكمر بعض الذي اقتص من ذلك: كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، عن أبي سعيد، قال: لما قام عمر رضى عن خالد بن سعيد والوليد بن عقبة فأذن لهما بدخول المدينة، وكان أبو بكر قد منعهما لفرتهما التي فراها وردهما إلى الشام، وقال: ليبلغني غناء أبلكما بلاء؛ فانضما إلى أي أمرائنا أحببتما؛ فلحقا بالناس فأبليا وأغنيا.
خبر دمشق من رواية سيف
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة؛ قالا لما هزم الله جند اليرموك، وتهافت أهل الواقوصة وفرغ من المقاسم والأنفال، وبعث بالأخماس وسرحت الوفود، استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبي الحميري كيلا يغتال بردة؛ ولا تقطع الروم على مواده، وخرج أبو عبيدة حتى ينزل بالصفر؛ وهو يريد إتباع الفالة؛ ولا يدري يجتمعون أو يفترقون؛ فأتاه الخبر بأنهم أزروا إلى فحل، وأتاه الخبر بأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فهو لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن. فكتب في ذلك إلى عمر، وانتظر الجواب، وأقام بالصفر، فلما جاء عمر فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه أبو بكر إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، فإنه ضم خالدًا إلى أبي عبيدة، وأمر عمرًا بمعونة الناس؛ حتى يصير الحرب إلى فلسطين، ثم يتولى حربها.
وأما ابن إسحاق؛ فإنه قال في أمر خالد وعزل عمر إياه ما حدثنا محمد بن حميد، قال حدثنا سلمة عنه، قال: إنما نزع عمر خالدًا في كلام كان خالدًا في كلام كان خالدًا تكلم به - فيما يزعمون - ولم يزل عمر عليه ساخطًا ولأمره كارهًا في زمان أبي بكر كله، لوقعته بابن نويرة، وما كان يعمل به في حربه؛ فلما استخلف عمر كان أول ما تكلم به عزله، فقال: لا يلي لي عملًا أبدًا؛ فكتب عمر إلى أبي عبيدة: إن خالدًا أكذب نفسه فهو أمير على ما هو عليه؛ وإن هو لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه؛ ثم انزع عمامته عن رأسه، وقاسمه ماله نصفين. فلما ذكر أبو عبيدة ذلك لخالد، قال أنظرني أستشر أختي في أمري، ففعل أبو عبيدة؛ فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد - وكانت عند الحارث بن هشام - فذكر لها ذلك، فقالت: والله لا يحبك عمر أبدًا، وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. فقبل رأسها وقال: صدقت والله! فتم على أمره، وأبى أن يكذب نفسه. فقام بلال مولى أبي بكر إلى أبي عبيدة، فقال: مأ امرت به خالد؟ قال: أمرت أن أنزع عمامته، وأقاسمه ماله. فقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه، فقال أبو عبيدة: إن هذا لا يصلح إلا بهذا فقال خالد: أجل، ما أنا بالذي أعصى أمير المؤمنين؛ فاصنع ما بدا لك! فأخذ نعلًا وأعطاه نعلَا. ثم قدم خالد على عمر المدينة حين عزله.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمر بم عطاء، عن سليمان بن يسار، قال: كان عمر كلما مر بخالد قال: يا خالد، أخرج مال الله من تحت استك، فيقول: والله ما عندي من مال؛ فلما أكثر عليه عمر قال له خالد: يا أمير المؤمنين، ما قيمة ما أصيب في سلطانهكم! أربعين ألف درهم! فقال عمر: قد أخذت ذلك منك بأربعين ألف درهم، قال: هو لك، قال: قد أخذته. ولم يكن لخالد مال إلا عدة ورقيق، فحسب ذلك، فبلغت قيمته ثمانين ألف درهم فناصفه عمر ذلك، فأعطاه أربعين ألف درهم، وأخذ المال. فقيل له: يا أمير المؤمنين، لو رددت على خالد ماله! فقال: إنما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أرده عليه أبدًا فكان عمر يرى أنه قد اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.
رجع الحديث إلى حديث سيف، عن أبي عثمان، عن خالد وعبادة، قالا: ولما جاء عمر الكتاب عن أبي عبيدة بالذي ينبغي أن يبدأ به كتب إليه:
أما بعد؛ فابدءوا بدمشق، فانهدوا لها؛ فإنها حصن الشأم وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص؛ فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل بدمشق من يمسك بها، ودعوها، وانطلق أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمرًا وأخلهما بالأردن وفلسطين، وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته. فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة قواد: أبا الأعور السلمى، وعبد عمرو بن يزيد ين عامر الجرشي، وعامر بن حثمة، وعمرو بن كليب من يحصب، وعمارة بن الصعق بن كعب، وصيفي بن علبة بن شامل، وعمرو بن الحبيب بن عمرو، ولبدة بن عامر بن خثعمة، وبشر بن عصمة، وعمارة بن مخش قائد الناس؛ ومع كل رجل خمسة قواد؛ وكانت الرؤساء تكون من الصحابة حتى لا يجدوا من يحتمل ذلك منهم، فساروا من الصفر حتى نزلوا قريبًا من فحل، فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه جول فحل، فأردغت الأرض، ثم وحلت، واغتم المسلمون من ذلك، فحسبوا عن المسلمين بها ثمانين ألف فارس. وكان أول محصور بالشأم أهل فحل، ثم أهل دمشق. وبعث أبو عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص رداءًا. وبعث علقمة بن حكيم ومسروقًا فكانا بين دمشق وفلسطين، والأمير يزيد. ففصل، وفصل بأبي عبيدة من المرج؛ وقدم خالد بن الوليد، فقدموا على دمشق، وعليهم نسطاس بن نسطورس؛ فحصروا أهل دمشق، ونزلوا حواليها، فكان أبو عبيدة على ناحية، وعمرو على ناحية، ويزيد على ناحية، وهرقل يومئذ بحمص، ومدينة حمص بينه وبينهم. فحاصروا أهل دمشق نحوًا من سبعين ليلة حصارًا شديدًا بالزحوف والترامي والمجانيق؛ وهم معتصمون بالمدينة يرجون الغياث، وهرقل منهم قريب وقد استمدواه. وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق؛ كأنه يريد حمص، وجاءت خيول هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها الخيول التي مع ذي الكلاع، وشغلتها عن الناس، فأرزوا بإزائه، وأهل دمشق على حالهم.
فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا وازداد المسلمون طعمًا فيهم؛ وقد كانوا يرون أنها كالغارات قبل ذلك؛ إذا هجم البرد قفل الناس، فسقط النجم والقوم مقيمون؛ فعند ذلك انقطع رجاؤهم، وندموا على دخول دمشق، وولد للبطريق الذي دخل على أهل دمشق مولود ح فصنع عليه، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم؛ ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد؛ فإنه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفي عليه من أمورهم شئ؛ عيونه ذاكية وهو معنى بما يليه، قد اتخذ حبالًا كهيئة السلاليم وأوهاقًا فلما أمسى من ذلك اليوم نهد ومن معه من جنده الذين قدم بهم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وأمثاله من أصحابه في أول يومه، وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا، وانهدوا للباب. فلما انتهى إلى الباب الذي يليه هو وأصحابه المتقدمون رموا بالحبال الشرف وعلى ظهورهم القرب التي قطعوا بها خنمدقهم. فلما ثبت لهم وهقان تسلق فيهما القعقاع ومذعور، ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها - والأوهاق بالشرف - وكان المكان الذي اقتحموا منه أحصن مكان يحيط بدمشق، أكثره ماء، وأشده مدخلًا وتوافوا لذلك فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقى أو دنا من الباب؛ حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه، وانحدر معهم؛ وخلف من يحمي ذلك لمن يرتقى، وأمرهم بالتكبير، فكبر الذين على رأس السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير، فوثبوا فيها، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم، وانحدر إلى الباب، فقتل البوابين، وثار أهل المدينة وفزع سائر الناس؛ فأخذوا مواقفهم، ولا يدرون ما الشأ،! وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم، وقطع خالد بن الوليد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل، حتى ما بقي مما يلي باب خالد مقاتل إلا أنيم. ولما شد خالد على من يليه؛ وبلغ منهم الذي أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التي تلي غيره؛ وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح، فأجابوا وقبلوا منهم، وفتحوا لهم الأبواب، وقالوا: ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب. فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة، فالتقى خالد والقواد في وسطها؛ هذا استعراضًا وانتهابًا وكان صلح دمشق على المقاسمة، الدينار والعقار، ودينار عن كل رأس، فاقتسموا الأسلاب؛ فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد، وجرى على الديار ومن بقي في الصلح جريب من كل جريب أرض؛ ووقف كا كان للملوك ومن صوب معهم فيسئًا، وقسموا لذي الكلاع ومن معه، ولأبي الأعور ومن معه، ولبشير ومن معه، وبعثوا بالبشارة إلى عمر، وقدم على أبي عبيدة كتاب عمر؛ بأن اصرف جند العراق إلى العراق، وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك، فأمر على جند العراق هاشم بن عتبة، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهري وربعي بن عامر، وضربوا بعد دمشق نحو سعد، فخرج هاشم نحو العراق في جند العراق؛ وخرج القواد نحو فحل وأصحاب هاشم عشرة آلاف إلا من أصيب منهم، فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم؛ ومنهم قيس والأشير، وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء، فنزلا على طريقها، وبقي بدمشق مع يزيد بن أبي سفيان من قواد أهل اليمن عدد؛ منهم عمرو بم شمرين غزية، وسهم بن المسافر بن هزمة، ومشافع ابن عبد الله بن شافع. وبعث يزيد دحية ين خليفة الكلبي في خيل بعد ما فتح دمشق إلى تدمر، وأبا الزهراء القشيري إلى البثنية وحوران، فصالحوهما على صلح دمشق؛ ووليًا القيام على فتح ما بعثا إليه.
وقال محمد بن إسحاق: كان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب.
قال أيضًا: كانت وقعة فحل قبل دمشق؛ وإنما صار إلى دمشق رافضة فحل، واتبعهم المسلمون إليها. وزعم أن وقعة فحل كانت سنة ثلاث عشرة في ذي القعدة منها؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه.
وأما الواقدي: فإنه زعم أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة؛ كما قال ابن إسحاق. وزعم أن حصار المسلمين لها كان ستة أشهر. وزعمأن وقعة اليرموك كانت في سنة خمس عشرة وزعم أن هرقل جلا في هذه السنة بعد وقعة اليرموك في شعبان من أنطاكية إلى قسجطنطينية، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة.
قال أبو جعفر: وقد مضى ذكرى ماروى عن سيف، عمن روى عنه؛ أن وقعة اليرموك كانت في سنة ثلاث عشرة؛ وأن المسلمين ورد عليهم البريد بوفاة أبي بكر باليرموك، في اليوم الذي هزمت الروم في آخره، وأن عمر أمرهم بعد فراغهم من اليرموك بالمسير إلى دمشق، وزعم أن فحلًا كانت بعد دمشق؛ وأن حروبًا بعد ذلك كانت بين المسلمين والروم سوى ذلك، قبل شخوص هرقل إلى قسطنطينية؛ سأذكرها إن شاء الله في مواضعها.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث عشرة - وجه عمر بن الخطاب أبا عبيد بن مسعود الثقفينحو العراق. وفيها استشهد في قول الواقدي. وأما ابن إسحاق؛ فإنه قال: كان يوم الجسر، جسر أبي عبيد بن مسعود الثقفي في سنة أربع عشرة.
ذكر أمر فحل من رواية سيف
قال أبو جعفر: ونذكر الآن أمر فحل إذا كان في الخبر الذي فيه من الاختلاف ما ذكرت من فتوح جند الشأم. ومن الأمور التي تستنكر وقوع مثل الاختلاف الذي ذكرته في وقته؛ لقرب بعض ذلك من بعض.
فأما ما قال ابن إسحاق من ذلك وقص من قصته، فقد تقدم ذكريه قبل.
وأما السري فإنه فيما كتب به إلى، عن شعيب، عن سيف عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني وأبي حارثة العبشمي، قالا: خلف الناس بعد فتح دمشق يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق، ساروا نحو فحل، وعلى الناس شرحبيل بن حسنة، فبعث خالدًا على المقدمة وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجل عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل، وخلفهم ثمانون ألفًا، وعلموا أن من بإزاء فحل جنة الروم وإليهم ينظرون، وأن الشأم بعدهم سلم. فلما انتهوا إلى أبي الأعور، قدموه إلى طبرية، فحاصرهم ونزلوا على فحل من الأردن، - وقد كان أهل فحل حين نزل بهم أبو الأعور تركوه وأرزوا إلى بيسان - فنزل شرحبيل بالناس فحلًا، والروم بيسان، وبينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر بالخبر، وهم يحدثون أنفسهم بالمقام، ولا يريدون أن يريموا فحلًا حتى يرجع جواب كتابهم من عند عمر، ولا يستطيعون الإقدام على عدوهم في مكانهم لما دونهم من الأوحال، وكانت العرب تسمى تلك الغراة فحلًا وذات الردغة وبيسان. وزأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون؛ مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد؛ فاغترهم القوم، وعلى القوم سقلا ربن مخراق؛ ورجوا أن يكونوا على غرة فأتوهم والمسلمون لا يأمنون مجيئهم، فهم على حذر وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبية. فلما هجموا على المسلمين غافصوهم، فلم يناظروهم، واقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزموا وهم حيارى. وقد أصضيب وئيسهم سقلًا ربن مخراق؛ والذي يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد وجدد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل، فركبوه، ولحق أوائل المسلمين بهم؛ وقد وحلوا فركبوهم؛ وما يمنعون يد لامس ح فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة في فحل؛ وكان مقتلهم في الرداغ، فأصيب الثمانون ألفا، لم يفلت منهم إلا الشريد؛ وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق فكانت عونًا لهم على عدوهم، وأناة من الله ليزدادوا بصيرة وجدًا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا سمير بن كعب معهم، ومضوا بذي الكلاع ومن معه، وخلفوا شرحبيل ومن معه.
ذكر بيسان
ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد في الناس ومعه عمرو إلى أهل بَيْسان، فنزلوا عليهم، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق، وما لقى سقلار والروم بفحل وفي الردغة، ومسير شرحبيل إليهم، معه عمرو بن العاص والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو؛ يريد بيسانح فحصروهم أيامًا. ثم إنهم مخرجوا عليهم فقاتلوهم، فأناموا من خرج إليهم، وصالحوا بقية أهلها، فقبل ذلك على صلح دمشق.
طبرية
وبلغ أهل طبرية الخبر، فصالحوا أبا الأعور، على أن يبلغهم شرحبيل، ففعل؛ فصالحوهم وأهل بيسان على صلح دمشق؛ على أن يشاطروا المسلمين المنازل في المدائن، وما أحاط بها مما يصلها، فيدعون لهم نصفًا، ويجتمعون في النصف الآخر، وعن كل رأس دينار كل سنة، وعن كل جريب أرض جريب بر أو شعير؛ أي ذلك حرث؛ وأشياء في ذلك صالحوهم عليها، ونزلت القواد وخيولهم فيها، وتم صلح الأردن، وتفرقت الأمداد في مدائن الأردن وقراها، وكتب إلى عمر بالفتح.
ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيفبن عمر، عن محمد بن عبد الله بن سواد وطلحة بن الأعلم وزياد بن سرجس الأحمري بإسنادهم، قالوا: أول ما عمل به عمر أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الفجر، من الليلة التي مات فيها أبو بكر رضي الله عنه، ثم أصبح فبايع الناس، وعاد فندب الناس إلى فارس، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم ألأمم. قالوا: فلما كان اليوم الرابع؛ عاد فندب الناس إلى العراق؛ فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود وسعد بن عبيد الأنصاري حليف بني فزازة؛ هرب يوم الجسر، فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك، فيأبى العراق، ويقول: إن الله جل وعز اعتد على فيها بفرة؛ فلعله أن يرد على فيها كرة وتتابع الناس.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: وتكلم المثنى بن حارثة، فقال: يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه؛ فإنا قد تبحبحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد وشاطرناهم ونلنا منهم؛ وأجترأ من قبلنا عليهم؛ ولها إن شاء الله ما بعدها. وقام عمر رحمه الله في الناس؛ فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النعجة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك؛ أين الطراء المهاجرون عن موعود الله! سيروا في الأرض التي وعدوكم الله في الكتاب أن يورثكموها؛ فإنه قال: (ليظهره على الدين كله)، والهل مظهر دينه، ومعز ناصره، ومول أهله مواريث الأمم. أين عباد الله الصالحون! فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود، ثم ثنى سعد بن عبيد - أو سليط بن قيس - فلما اجتمع ذلك البعث، قيل لعمر: أمر عليهم رجلًا من السابقين من المهاجرين واظلنصار. قال: لا والله لا أفعل؛ إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو؛ فإذا جبتم وكرهتم اللقاء؛ فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع، وأجاب إلى الدعاء! والله لآ أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابًا. ثم دعا أبا عبيد، وسليطًا وسعدًا؛ فقال: أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى مالكما من القدمة. فأمر أبا عبيد على الجيش، وقال لأبي عبيد: اسمع من أصحاب النبي ﷺ، وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعًا حتى تتبين؛ فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف.
وقال رجل من الأنصار: قال عمر رضي الله عنه لأبي عبيد: إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطًا إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الرحب ضياع إلا عن بيان، والله لولا سرعته لأمرته؛ ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن المجالد، عن الشعبي، قال: قدم المثنى بن حارثة على أبي بكر سنة ثلاث عشرة؛ فبعث معه بعثًا قد كان ندبهم ثلاثًا؛ فلم ينتدب له أحد حتى انتداب له أبو عبيد ثم سعد بن عبيد، وقال أبو عبيد حين انتدب: أنا لها، وقال سعد: أنا لها؛ لفعله فعلها. وقال سليط: فقيل لعمر: أمر عليهم رجلًا له صحبة، فقال عمر إنما فضل الصحابة بسرعتهم إلى العدو وكفايتهم من أبي؛ فإذا فعل فعلهم قوم واثاقلوا كان الذي ينفرون خفافًا وثقالًا أولى بها منهم؛ والله لا أبعث عليهم إلا أولهم انتدابًا فأمر أبا عبيد، وأوصاه بجنده.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيبب بن أبراهيم، عن سيف بن عمر، عن سهل، عن القاسم مبشر، عن سالم، قال: كان أول بعث بعثه عمر بعث أبي عبيد، ثم بعث يعلي بن أمية إلى اليمن وامره بإجلاء أهل نجران، لوصية رسول الله ﷺ في مرضه بذلك، ولوصية أبي بكر رحمه الله بذلك في مرضه، وقال: ائتهم ولا تفتنهم عن دينهم عن دينهم، ثم أجلهم؛ من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من تجلى منهم، ثم خيرهم البلدان، وأعلمهم أنا نجليهم بأمر الله ورسوله؛ ألا يترك بجزيرة العرب دينان؛ فليخرجوا؛ من أقام على دينه منهم؛ ثم نعطيهم أرضًا كأرضهم، إقرارًا لهم بالحق على أنفسنا، ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك، بدلًا بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم بالريف.
خبر النمارق
كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن سهل ومبشر بإسنادهما، ومجالد عن الشعبي قالوا: فخرج أبو عبيد ومعه سعد بن عبيد، وسليط بن قيس؛ أخو بني النجار، والمثنى بن حارثة أخو بني شيبان، ثم أحد بني هند.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، وعمرو عن الشعبي، وأبي روق، قالوا: كانت بوران بنت كسرى - كلما اختلف الناس بالمدائن - عدلًا بين الناس حتى يصطلحوا، فلما قتل الفرخزاذبن البندوان وقدم رستم فقتل آزرميدخت، كانت عدلًا إلى أن استخرجوا يزدجرد، فقدم أبو عبيد والعدل بوران، وصاحب الحرب رستم؛ وقد كانت بوران أهدت للنبي ﷺ فقبل هديتها، وكانت ضدًا على شيرى سنة، ثم إنها تابعته، واجتمعا على أن رأس وجعلها عدلًا.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد باستنادهم، لما قالوا: قتل سياوخش فرخزاذ بن البندوان، وملكت آزرميدخت، اختلف أهل فارس، وتشاغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها إلى أن رجع من المدينة. فبعث بوران إلى رستم بالخبر، واستحثته بالسير؛ وكان على فرج خراسان، فأقبل في الناس حتى نزل المدائن؛ لا يلقى جيشًا لآزرميدخت إلا هزمه، فاقتتلوا بالمدائن، فهزم سياوخش وحصر وحصرت آزرميدخت؛ ثم افتتحها فقتل سياوخش، وفقأ عين آزرميدخت، ونصب بوران ودعته إلى القيام بأمر أهل فارس، وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم؛ على أن تملكه عشر حجج؛ ثم يكون الملك في آل كسرى، إن وجدوا من غلمانهم أحدًا؛ وإلا ففي نسائهم. فقال رستم: أما أنا فسامع مطيع، غير طالب عوضًا ولا ثوابًا، وإن شرفتموني وصنعتم إلى شيئًا فأنتم أولياء ما صنعتم؛ إنما أنا سمهكم وطوع أيديكم. فقالت بوران: اغد على، فغدا عليها ودعت مرازبة فارس، وكتبت له بأنك على حرب فارس؛ ليس عليك إلا الله عز وجل، عن رضا منا وتسليم لحكمك، وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك في منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم. وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا. فدانت له فارس بعد قدوم أبي عبيد؛ وكان أول شئ أحدثه عمر بعد موت أبي بكر من الليل؛ أن نادى: الصلاة جامعة! ثم ندبهم فتفرقوا على غير إجابة من أحد، ثم ندبهم في اليوم الرابع، فأجاب أبو عبيد في اليوم الرابع أول الناس، وتتابع الناس، وانتخب عمر من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل، أمر عليهم أبا عبيد، فقيل له: استعمل عليهم من أصحاب النبي ﷺ، فقال: لاها الله ذا يا أصحاب النبي، لا أندبكم فتنكلون، وينتدب غيركم فأمروكم عليهم! إنكم إنما فضلتم بتسرعكم إلى مثلها؛ فإن نلكتم فضلوكم؛ بل أؤمر عليكم أولكم انتدابًا. وعجل المثنى، وقال: النجاء حتى يقدم عليك أصحابك! فكان أول شئ أحدثه عمر في خلافته مع بيعته بعثه أبا عبيد، ثم بعث أهل نجران، ثم ندب أهل الردة فأقبلوا سراعًا من كل أوب؛ فرمى بهم الشأم والعراق؛ وكتب إلى أهل اليرموك؛ بأن عليكم أبا عبيدة بن الجراح؛ وكتب إليه: إنك على الناس؛ فإن أظفرك الله فاصرف أهل العراق إلى العراق؛ ومن أحب من أمدادكم إذا هم قدموا عليكم. فكان أول فتح أتاه اليرموك على عشرين ليلة من متوفى أبي بكر؛ وكان في الإمداد إلى اليرموك في زمن عمر قيس بن هبيرة، ورجع مع أهل العراق ولم يكن منهم، وإنما غزا حين أذن عمر لأهل الردة في الغزو. وقد كانت فارس تشاغلت بموت شهر براز عن المسلمين؛ فملكت شاه زنان؛ حتى اصطلحوا على سابور بن شهر براز بن أردشير بن شهريار، فثارت به آزرميدخت، فقتله والفرخزاذ، وملكت - ورستم بن الفرخزاذ بخراسان على فرجها - فأتاه الخبر عن بوران. وقدم المثنى الحيرة من المدينة في عشر، ولحقه أبو عبيد بعد شهر، فأقام المثنى بالحيرة خمس عشرة ليلة؛ وكتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثورا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلً ليثور بأهله، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل؛ وبعث نرسى إلى كسكر، ووعدهم يومًا؛ وبعث جندًا لمصادمة المثنى؛ وبلغ المثنى ذلك؛ فضم إليه مسالحه وحذر، وعجل جابان، فثار ونزل النمارق.
وتوالوا على الخروج؛ فخرج نرسي، فنزل زندورد، وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله؛ وخرج المثنى في جماعة حتى ينزل خفان؛ لئلا يؤتى من خلفه بشئ يكرهه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيدة؛ فكان أبو عبيد على الناس، فأقام بخفان أيامًا ليستجم أصحابه؛ وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير، وخرج أبو عبيد بعد ما جم الناس وظهورهم، وتعبى، فجعل المثنى على الخيل، وعلى ميمنته والق بن جيدارة، وعلى ميسرته عمرو بن الهيثم بن الصلت بن حبيب السلمى. وعلى مجنبتى جابان جشنس ماه ومردانشاه. فنزلوا على جابان بالنمارق، فاقتتلوا قتالًا شديدًا. فهزم الله أهل فارس، وأسرجابان، أسره مطر بن فضة التيمي، وأسر مردانشاه، أسرة أكتل بن شماخ العكلي فأما أكتل فأنه ضرب عنق مردنشاه وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه، حتى تفلت منه بشئ فخلى عنه؛ فأخذه المسلمون، فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه الملك، وأشاروا عليه بقتله، فقال: إني أخاف الله أن أقتله؛ وقد آمنه رجل مسلم والمسلمون، فقالوا له: إنه الملك، قال: وإن كان لا أغدر، فتركه.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن أبي عمران الجعفى، قال: ولت حربها فارس رستم عشر سنين، وملكوه، وكان منجمًا عالمًا بالنجوم، فقال له قائل: ما دعاك إلى هذا الأمر وأنت ترى ما ترى! قال: الطمع وحب الشرف. فكاتب أهل السواد، ودس إليهم الرؤساء، فثارروا بالمسلمين؛ وقد كان عهد إلى القوم أن الأمير عليكم أول من ثار، فثار جابان في فرات بادقلي، وثار الناس بعده، وأرز المسلمون إلى المثنى بالحيرة، فصمد لخفان، ونزل خفان حتى قدم عليه أبو عبيد وهو الأمير على المثنى وغيره، ونزل جابان النمارق، فسار إليه أبو عبيد من خفان، فالتقوا بالنمارق؛ فهزم الله أهل فارس وأصابوا منهم ما شاءوا وبصر مطر بن فضة - وكان ينسب إلى أمه - وأبى برجل عليه حلى؛ فشدا عليه فأخاه أسيرًا، فوجداه شيخًا كبيرًا فزهد فيه أبى ورغب مطر في فدائه، فاصطلحا على أن سلبه لأبى، وأن إساره لمطر، فلما خلص مطر به، قال: إنكم معاشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمنني وأعطيتك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا! قال: نعم، قال: فأدخلني على ملككم؛ حتى يكون ذلك بمشهد منه، ففعل فأدخله على أبي عبيد، فتم له على ذلك؛ فأجاز أبو عبيد، فقام أبي وأناس من ربيعة؛ فأما أبي فقال: أسرته أما وهو على غير أمان؛ وإما الآخرون فعرفوه، وقالوا: هذا الملك جابان؛ وهو الذي لقينا بهذا الجمع، فقال: ما تروني فاعلًا معاشر ربيعة؟ أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا! معاذ الله من ذلك! وقسم أبو عبيد الغنائم، وكان فيها عطر كثير ونفل، وبعث بالأخماس مع القاسم.
السقاطية بكسكر
كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقال أبو عبيد حين انهرموا وأخذوا نحو كسكر ليلجئوا إلى نرسي - نرسى ابن خالة كسرى؛ وكانت كسكر قطيعة له؛ وكان النرسيان له، يحميه لا يأكله بشر، ولا يغرسه غيرهم أو ملك فارس إلا من أكرمه بشئ منه، وكان ذلك مذكورًا من فعلهم في الناس، وأن ثمرهم هذا حمى، فقال له رسم وبوران: اشخص إلى قطيعتك فاحمها من عدوك وعدونا وكن رجلًا، فلما انهزم الناس يوم النمارق، ووجهت الفالة نحو نرسى - ونرسى في عسكره ت نادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجردة: أتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسى، أو تبيدهم فيما بين النمارق إلى بارق إلى درتا. وقال عاصم بن عمرو في ذلك:
لعمري وما على بهين ** لقد صبحت بالخزى أهل النمارق
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم ** يجوسونهم ما بين درتا وبارق
قتلناهم ما بين مرج مسلح ** وبين الهوافي من طريق البذارق
ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر - ونرسى يومئذ بأسفل كسكر - والمثى في تعبيته التي قاتل فيها جابان، ونرسى على مجنبتيه ابنا خاله - وهما ابنا خال كسرى بندويه وتيرويه ابنا بسطام - وأهل باروسما ونهر جوبر والزوابي معه إلى جنده وقد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان؛ فبعثوا إلى الجالنوس، وبلغ ذلك نرسى وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزاب، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة، وعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية فاقتتلوا في صحارى ملس قتالا شديدًا. ثم إن الله هزم فارس، وهرب نرسى، وغلب على عسكره وأرضه، وأخرب أبو عبيد ما كان حول معسكرهم من كسكر، وجمع الغنائم فرأى من الأطعمة شيئًا عظيمًا، فبعث فيمن يليه من العرب فانتقلوا ما شاءوا، وأخذت خزائن نرسى؛ فلم يكونوا بشئ مما خزن أفرح منهم بالنرسيان؛ لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم؛ فاقتسموه فجعلوا يطعمونه الفلاحين؛ وبعثوا بخمسة إلى عمر وكتبوا إليه: إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها، وأجبنا أن تروها؛ ولتذكروا إنعام الله وإفضاله.
وأقام أبو عبيد وسرح المثنى إلى باروسما، وبعث والقا إلى الزوابي وعاصمًا إلى نهر جوبر؛ فهزموا من كان تجمع وأخبروا وسبوا، وكان مما أخرب المثنى وسبى أهل وزندورد وبسوسيا، وكانوكان أبو زعبل من سبى زندورد؛ وهرب ذلك الجند إلى الجالنوس؛ فكان ممن أسر عاصم أهل بيتيق من نهر جوبر، وممن أسر والق أبو الصلت. وخرج فروخ وفر ونداد إلى المثنى، يطلبان الجزاء والذمة، دفعًا عن أرضهم؛ فأبلغهما أبا عبيد: أحدهما باروسما والآخر نهر جوبر، فأعطياه كل رأس أربعة، فروخ عن باروسما وفر ونداد عن نهر جوبر، ومثل ذلك الزوابي وكسكر، وضمنا لهم الرجال عن التعجيل، ففعلوا وصاروا صلحًا. وجاء فروخ وفر ونداد إلى أبي عبيد بآنية فيها أنواع أطعمة فارس م الألوان والأخبصة وغيرها؛ فقالوا: هذه كرامة أكرمناك بها، وقرى لك. قال: أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله؟ قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون؛ وإنما يتربصون بهم قدوم الجالنوس وما يصنع؛ فقال أبو عبيد: فلا حاجة لنا فيما لا يسع الجند، فرده، وخرج أبو عبيد حتى ينزل بباروسما فبلغه مسير الجالنوس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري الضبي، قال: فأتاه الأندرزغربن الحركبذ بمثل ما جاء به فروج وفرونداذ. فقال لهم: أأكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا: لا، فرده، وقال: لا حاجة لنا فيه؛ بئس المرء أبو عبيد؛ إن صحب قومًا من بلادهم أهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوا فاستأثر عليهم بشئ يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم.
قال أبو جعفر: وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق بنحو من حديث سيف هذا، عن رجاله في توجيه عمر المثنى وأبا عبيد ابن مسعود إلى العراق في حرب من بها من الكفار وحروبهم، ومن حاربهم بها؛ غير أنه قال: لما هزم جالنوس وأصحابه، ودخل أبو عبيد باروسما، نزل هو وأصحابه قرية من قراها؛ فاشتملت عليهم، فصنع لأبي عبيد طعام فأتى به؛ فلما رآه قال: ما أنا بالذي آكل هذا دون المسلمين! فقالوا له: كل فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منزله بمثل هذا أو أفضل؛ فأكل فلما رجعوا إليه سألهم عن طعامهم، فأخبروه بما جاءهم من الطعام.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة وزيادة بإسنادهم، قالوا: كان جابان ونرسي استمدا بوران، فأمدتهما بالجالنوس في جند جابان، وأمر أن يبدأ بنرسى؛ ثم يقاتل أبا عبيد بعد، فبادره أبو عبيد، فنهض في جنده قبل أن يدنو، فلما دنا استقبله أبو عبيد، فنزل الجالنوس بباقسياثا من باروسما، فنهد إليه أبو عبيد في المسلمين؛ وهو على تعبيته؛ فالتقوا على باقسياثا، فهزمهم المسلمون وهرب الجالنوس، وأقام أبو عبيد، قد غلب على تلك البلاد.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري والمجالد بنجو من وقعة باقسياثا.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة ومجالد وزياد والنضر بإسنادهم، قالوا: أتاه أولئك الدهاقين المتربصون جميعًا بما وسع الجند، وهاربوا وخافوا على أنفسهم. وأما النضر ومجالد فإنهما قالا: قال أبو عبيد: ألم أعلمكم أني لست آكلا إلا ما يسع من معي ممن أصبتم بهم! قالوا: لم يبق أحد إلا وقد أتى بشبعه من هذا في رحالهم وأفضل. فلما راح الناس عليه سألهم عن قرى أهل الأرض فأخبروه، وإنما كانوا قصروا أولا تربصا ومخافة عقوبة أهل فارس. وأما محمد وطلحة وزياد فإنهم قالوا: فلما علم قبل منهم، وأكل وأرسل إلى قوم كانوا يأكلون معه أضيافًا عليه يدعوهم إلى الطعام وقد أصابوا من نزل فارس ولم يروا أنهم أتوا أبا عبيد بشئ فظنوا أنهم يدعون إلى مثل ما كانوا يدعون إليه من غليظ عيش أبي عبيد؛ وكرهوا ترك ما أتوا به من ذلك؛ فقالوا له: قل للأمير إنا لا نشتهي شيئًا مع شئ أتتنا به الدهاقين؛ فأرسل إليهم: إنه طعام كثير من أطعمة الأعاجم؛ أين هو مما أتيتم به؟ أنه قوؤ نجم وجدزل وشواء وخردل وشواء وخردل فقال في ذلك عاصم بن عمرو وأضيافه عنده: ذلك عاصم بن عمرو وأضيافه عنده:
إن تك ذا قرو ونجم وجوزل ** فعند ابن فروخ شواء وخردل
وقرو رقاق كالصحائف طويت ** على مزع فيها بقول وجوزل
وقال أيضًا
صبحنا بالبقايس رهط كسرى ** صبوحًا ليس من خمر السواد
صبحناهم بكل فتى كمى ** وأجرد سابح من خيل عاد
ثم ارتحل أبو عبيد، وقدم المثنى، وسار في تعبيته حتى قدم الحيرة. وقال النضر ومجالد ومحمد وأصحابه: تقدم عمر إلى أبي عبيد، فقال: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية، تقدم على قوم جرءوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوا، فانظر كيف تكون! واخزن لسانك، ولا تفشين سرك؛ فإن صاحب السر ما ضبطه، متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه؛ وإذا ضيعه كان بمضيعة.
وقعة القرقس
ويقال لها القس قس الناطف، ويقال لها الجسر، ويقال لها المروحة.
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ولما رجع الجالنوس إلى رستم ومن أفلت من جنوده، قال رستم: أي العجم أشد على العرب فيما ترون؟ قالوا: بهمن جاذويه؛ فوجهه ومعه فيلة ورد الجالنوس معه، وقال له: قدم الجالنوس، فإن عاد لمثلها فاضرب عنقه، فأقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان راية كسرى - وكانت من جلود النمر، وعرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر ذراعًا - وأقبل أبو عبيد، فنزل المروحة، موضع البرج والعاقول، فبعث إليه بهمن جاذويه: إما أن تعبروا إلينا وندعهم والعبور وإما أن تدعونا نعبر إليكم؟ فقال الناس: لا تعبر يا أبا عبيد يا أبا عبيد، ننهاك عن العبور. وقالوا له: قل لهم: فليعبروا - وكان من أشد الناس عليه في ذلك سليط - فلج أبو عبيد، وترك الرأي، وقال: لا يكونون أجرأ على الموت منا؛ بل نعبر إليهم. فعبروا إليهم وهم في منزل ضيق المطرد والمذهب، فاقتتلوا يومًا - وأبو عبيد فيما بين الستة والعشرة - حتى إذا كان من آخر النهار، واستبطأ رجل من ثقيف الفتح ألف بين الناس فتصافحوا بالسيوف وضرب أبو عبيد الفيل، وخبط الفيل أبا عبيد، وقد أسرعت السيوف في أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف في المعركة، ولم يبق ولم ينتظر إلا الهزيمة، فلما خبط أبو عبيد، وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة، ثم تموا عليها، وركبهم أهل فارس، فبادر رجل من ثقيف إلى الجسر فقطعه، فانتهى الناس إليه والسيوف تأخذهم من خلفهم، فتهافتوا في الفرات، فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف؛ من بين غريق وقتيل، وحمى المثنى الناس وعاصم والكلج الضبى ومذعور، حتى عقدوا الجسر وعبروهم ثم عبروا في آثارهم، فأقاموا بالمروحة والمثنى جريح، والكلج ومذعور وعاصم - وكانوا حماة الناس - مع المثنى، وهرب من الناس بشر كثير على وجوههم؛ وافتضحوا في أنفسهم، واستحيوا مما نزل بهم، وبلغ ذلك عمر عن بعض من أوى إلى المدينة فقال: عباد الله! اللهم إن كل مسلم في حل منى، أنا فئة كل مسلم، يرحم الله أبا عبيد! لو كان عبر فاعتصم بالخيف، أو تحيز إلينا ولم يستقبل لكنا به فئة!
وبينا أهل فارس يحاولون العبور أتاهم الخبر أن الناس بالمدائن قد ثاروا برستم، ونقضوا الذي بينهم وبينه فصاروا فرقتين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان؛ وكان بين وقعة اليرموك والجسر أربون ليلة. وكان الذي جاء بالخبر عن اليرموك جرير بن عبد الله الحميري؛ والذي جاء بالخبر عن الجسر عبد الله بن زيد الأنصاري - وليس بالذي رأى الرؤيا - فانتهى إلى عمر وعمر على المنبر. فنادى عمر: الخبر يا عبد الله بن زيد! قال: أتاك الخبر اليقين؛ ثم صعد إليه المنبر فأسر ذلك إليه.
وكانت اليرموك في أيام من جمادى الآخر، والجسر في شعبان.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وسعيد ابن المرزيان، قالا: واستعمل رستم على حرب أبي عبيد بهمن جاذويه؛ وهو ذو الحاجب، ورد الجالنوس ومعه الفيلة، فيها فيل أبيض عليه النخل، وأقبل في الدهم، وقد استقبله أبو عبيد حتى انتهى إلى بابل؛ فلما بلغه انحاز حتى جعل الفرات بينه وبينه؛ فعسكر بالمروحة.
ثم إن أبا عبيد ندم حين نزلوا به قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر، فحلف ليقطعن الفرات إليهم، وليمحصن ما صنع، فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس، قالوا إن العرب لم تلق مثل جنود فارس منذ كانوا، وإنهم قد حفلوا لنا واستقبلوا من الزهاء والعدة بما لم يلقنا به أحد منهم؛ وقد نزلت منزلًا لنا فيه مجال وملجأ ومرجع؛ من فرة إلى كرة. فقال: لاأفعل؛ جبنت والله! وكان الرسول فيما بين ذي الحاجب وأبي عبيد مردانشاه الخصى؛ فأخبرهم أن أهل فارس قد عيروهم؛ فازداد أبو عبيد محكًا، ورد على أصحابه الرأى، وجبن سليطًا، فقال: سليط: أنا والله أجرأ منك نفسًا؛ وقد أشرنا عليك الرأي فستعلم! كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن الأغر العجلي، قال: أقبل ذو الحاجب حتى وقف على شاطئ الفرات بقس الناطف، وأبو عبيد معسكر على شاطئ الفرات بالمروحة فقال: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال أبو عبيد: بل نعبر إليكم. فعقد ابن صلوبا الجسر للفريقين جميعًا؛ وقبل ذلك ما قد رأت دومة امرأة أبي عبيد رؤيا وهي بالمروحة؛ أن رجلًا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد وجبر في أناس من أهله؛ فأخبرت بها أبا عبيد، فقال: هذه الشهادة وعهد أبو عبيد إلى الناس، فقال: إن قتلت فعلى الناس جبر، فإن قتل فعليكم فلان، حتى أمر الذين شربوا من الإناء على الولاء من كلامه. ثم قال: إ، قتل أبو القاسم فعليكم المثنى، ثم نهد بالناس فعبر وعبروا إليهم، وعضلت الأرض بأهلها، وألحم الناس الحرب. فلما نظرت الخيول إلى الفيلة عليها النخل؛ والخيل عليها التجافيف والفرسان عليهم الشعر رأت شيئا منكرًا لم تكن ترى مثله فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم؛ لا تقوم لها الخيل إلا على نفار. وخزقهم الفرس بالنشاب، وعض المسلمين الألم؛ وجعلوا لا يصلون إليهم؛ فترجل أبو عبيد وترجل الناس، ثم مشوا إليهم فصافحوهم بالسيوف؛ فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم؛ فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة؛ وقطعوا بطنها واقبلوا عنها أهلها؛ وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلق ببطانة فقطعه؛ ووقع الذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك؛ فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله؛ وقتلوا أصحابه، وأهوى الفيل لأبي عبيد، فنفخ مشفره بالسيف، فاتقاه الفيل بيده؛ وأبو عبيد يتجرثمه؛ فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل، وقام عليه؛ فلما بصر الناس بأبي عبيد تحت الفيل، خشعت أنفس بعضهم، وأخذ اللواء الذي كان أمره بعده، فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد، فاجتراه إلى المسلمين، وأحرزوا شلوه؛ وتجرثم الفيل فاتقاه الفيل بيده، دأب أبي عبيد وخبطه الفيل. وقام عليه وتتابع سبعة من ثقيف؛ كلهم بأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت. ثم أخذ اللواء المثنى، وهرب الناس، فملا رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقى أبو عبيد وخلفاؤه وما يصنع الناس، بادرهم إلى الجسر فقطعه، وقال يا أيها الناس، موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا. وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر؛ وخشع ناس فتواثبوا في الفرات؛ فغرق من لم يصبر وأسرعوا فيمن صبر، وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس، ونادى: يأيها الناس، إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا؛ فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم. فوجدوا الجسر وعبد الله بن مرثد قائم عليه يمنع الناس من العبور، فأخذوه فأتوه به المثنى، فضربه وقال: مما حملك على الذي صنعت؟ قال: ليقاتلوا، ونادى من عبر فجاءوا بعلوج، فضموا إلى السفينة التي قطعت سفائنها، وعبر الناس، وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنى وحمى جانبه؛ فاضرب عسكره، ورامهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم؛ فلما عبر المثنى وحمى جانبه ارفض عنه أهل المدينة حتى لحقوا بالمدينة وتركها بعضهم ونزلوا البوادي وبقي المثنى في قلة.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن رجل، عن أبي عثمان النهدي، قال: هلك يومئذ أربعة آلاف بين قتيل وغريق؛ وهرب ألفان، وبقى ثلاثة آلاف، وأتى ذا الحاجب الخبر باختلاف فارس؛ فرجع بجنده؛ وكان ذلك سببًا لرفضاضهم عنه، ورجح المثنى، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهن الرمح.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعطية نحوًا منه.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن مجالد وعطية والنضر، أن أهل المدينة لما لحقوا بالمدينة وأخبروا عمن سار في البلاد استحيا من الهزيمة، اشتد على عمر ذلك ورحمهم. قال الشعبي: قال عمر: اللهم كل مسلم في حل منى، أنا فئة كل مسلم، من لقى العدو ففظع بشئ من أمره فأنا له فئة؛ يرحم الله أبا عبيد لو كان انحاز إلى لكنت له فئة؟ وبعث المثنى بالخبر إلى عمر مع عبيد بن زيد، وكان أول من قدم على عمر.
وحدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق بنحو خير سيف هذا في أمر أبي عبيد وذي الحاجب، وقصة حربهما، إلا أنه قال: وقد كانت رأت دومة أم المختار بن أبي عبيد، أن رجلًا نزل من السماء معه إناء فيه شراب من الجنة فيما يرى النائم، فشرب منه أبو عبيد وجبر بن أبي عبيد وأناس من أهله. وقال أيضًا: فلما رأى أبو عبيد ما يصنع الفيل، قال: هل لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا: نعم؛ فإذا قطع مشفرها ماتت، فشد على الفيل فضرب ممشفرة فقطعه، وبرك عليه الفيل فقتله. وقال أيضًا: فرجعت الفرس ونزل المثنى بن حارثة أليس، وتفرق الناس، فلحقوا بالمدينة، فكان أول من قدم المدينة بخبر الناس عبد الله بن زيد بن الحصين الخطمى، فأخبر الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة ابنة عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي ﷺ، قالت: سمعت عمر بن الخطاب حين قدم عبد الله بن زيد؟ وهو داخل المسجد، وهو يمر على باب حجرتي، فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد؟ قال: أتاك الخبر يا أمير المؤمنين؛ فلما انتهى إليه أخبره خبر الناس، فما سمعت برجل حضر أمرًا فحدث عنه كان أثبت خبرًا منه. فملما قدم فل الناس، ورأى عمر جزع المسلمين من المهاجرين والأنصار من الفرار، قال: لا تجزعوا يا معشر المسلمين، أنا فئتكم، إنما انحزتم إلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن الحصين وغيره؛ أن معاذًا القارئ أخا بني النجار؛ كان ممن شهدها ففر يومئذ، فكان إذا قرأ هذه الآية: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)، بكى، فيقول له عمر: لا تبك يا معاذ، أنا فئتك، وإنما انحزت إلى.
خبر أليس الصغرى
قال أبو جعفر: كتب إلى السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن محمد بن نويرة وطلحة وزياد وعطية، قالوا: وخرج جابان مراد انشاه حتى أخذا بالطريق، وهم يرون أنهم سيرفضون ولا يشعرون بما جاء ذا الحاجب من فرقة أهل فارس، فلما ارفض أهل فارس. وخرج ذو الحاجب في آثارهم، وبلغ المثنى فعله جابان ومردانشاه؛ استخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج في جريدة خيل يريدهما، فظنا أنه هارب، فاعترضاه فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس على أصحابهعما، فأتوه بهم أسراء؛ وعقد لهم بها ذمة وقد مهما، قال: أنتما غررتما أميرنا، وكذبتماه واستفززتماه. فضرب أعناقهما، وضرب أعناق الأسراء؛ ثم رجع إلى عسكره وهرب أبو محجن من أليس؛ ولم يرجع مع المثنى؛ وكان جرير بن عبد الله وحنظلة بن الربيع ونفر استأذنوا خالدًا من سوى، فأذن لهم، فقدموا على أبي بكر، فذكر له جرير حاجته، فقال: أعلى حالنا؟ وأخره بها، فلما ولى عمر دعاه بالبينة؛ فأقامها، فكتب له عمر إلى عماله السعادة في العرب كلهم: من كان فيه أحد ينسب إلى بجيلة في الجاهلية، وثبت عليه في الإسلام يعرف ذلك فأخرجوه إلى جرير. ووعدهم جرير مكانًا بين العراق والمدينة. ولما أعطى جرير حاجته في استخراج بجيلة من الناس فجمعهم فأخرجوا له، وأمرهم بالموعد ما بين مكة والمدينة والعراق، فتتاموا، قال لجرير: اخرج حتى تلحق بالمثنى، فقال: بل الشأم، قال " بل العراق، فإن أهل الشأم قد قووا على عدوهم، فأبى حتى أكرهه؛ فلما خرجوا له وأمرهم بالموعد عوضة إكراهه واستصلاحًا له، فجعل له ربع خمس ما أفاء الله عليهم في غزاتهم هذه له ولمن اجتمع إليه، ولمن أخرج له إليه من القبائل، وقال: اتخذونا طريقًا، فقدموا المدينة، ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى، وبعث عصمة بن عبد الله من بني عبد الحارث الضبي فيمن تبعه من بني ضبة؛ وقد كان كتب إلى أهل الردة، فلم يواف شعبان أحد إلا رمى به المثنى.
البويب
كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وبعث المثنى بعد الجسر فيمن يليه من الممدين، فتوافوا إليه في جمع عظيم، أو بلغ رستم والفيرزان ذلك، وأتتهم العيون به بما ينتظرون من الإمداد، واجتمعا على أن يبعثا مهران الهمذاني؛ حتى يريا من رأيهما، فخرج مهران في الخيول وأمرأه بالحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ بين القادسية وخفان في الذين أمدوه من العرب عن خبر بشير وكنانة - وبشير يومئذ بالحيرة - فاستبطن فرات بادقلي، وأرسل إلى جرير ومن معه: إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب.
وكان جرير ممدًا له، وكتب إلى عصمة ومن معه، وكان ممدًا له بمثل ذلك، وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك، وقال: خذوا على الجوف، فسلكوا القادسية والجوف، وسلك المثنى وسط السواد، فطلع على النهرين ثم على الخورنق، وطلع عصمة على النجف، ومن سلك معه طريقه، وطلع جرير على الجوف ومن سلك معه طريقه، فانتهوا إلى المثنى، وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم؛ وعليهم المثنى وهم بإزاء مهران وعسكره. فقال المثنى لرجل من أهل السواد: ما يقال للرقعة للتي فيها مهران وعسكره؟ قال: بسوسيا. فقال: أكدى مهران وهلك نزل منزلًا هو البسوس؛ وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم؛ فقال المثنى: اعبروا؛ فعبر مهران، فنزل على شاطئ الفرات معهم في الملطاط، فقال المثنى لذلك الرجل: ما يقال لهذ الرقعة التي نزلها مهران وعسكره؟ قال: شوميا - وذلك في رمضان - فنادى الناس: انهدوا لعدوكم، فتناهدوا، وقد كان المثنى عبى جيشه، فجعل على مجنبتيه مذعورًا والنسير، وعلى المجردة عاصمًا، وعلى الطلائع عصمة، واصطف الفريقان؛ وقام المثنى فيهم خطيبًا؛ فقال: إنكم صوام؛ والصوم مرقة ومضعفة؛ وإني أرى من الرأي أن تفطروا ثم تقووا بالطعام على قتال عدوكم. قالوا: نعم فأفطروا؛ فأبصر رجلًا يستوفز ويستنتل من الصف، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر؛ وهو يريد أن يستقتل، فقرعه بالرمح، وقال: لا أبالك؟ الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل، قال: إني بذلك لجدير، فاستقر ولزم الصف.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن أبي إسحاق الشيباني بمثله.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن عطية. وعن سفيان الأحمري، عن المجالد، عن الشعبي، قالا: قال عمر حين استجم جمع بجيلة: اتخذونا طريقًا، فخرج سروات بجيلة ووفدهم نحوه، وخلفوا الجمهور، فقال: أي الوجوه أحب إليكم؟ قالوا: الشأم فإن أسلافنا بها فقال: بل العراق؛ فإن الشأم في كفاية؛ فلم يزل بهم، ويأبون عليه حتى عزم على ذلك؛ وجعل لهم ربع خمس ما أفاء الله على المسلمين إلى نصيبهم من الفئ، فاستعمل عرفجة على من كان مقيمًا على جديلة من بجيلة، وجريرًا على من كان من بني عامر وغيرهم؛ وقد كان أبو بكر ولاه قتال أهل عمان في نفر، وأقفله حين غزا في البحر، فولاه عمر عظم بجيلة، وقال: اسمعوا لهذا، وقال للآخرين: اسمعوا لجرير، فقال جرير لبجيلة: تقرون بهذا - وقد كانت بجيلة غضبت على عرفجة في امرأة منهم - وقد أدخل علينا ما أدخل علينا ما أدخل فاجتمعوا فأتوا عمر، فقالوا: أعفنا من عرفجة، فقال: لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلامًا، فقالوا: اعفنا من عرفجة فقال: لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلامًا، وأعظمكم بلاء وإحسانًا، قالوا: استعمل علينا رجلًا منا، ولا يستعمل علينا نزيعًا فينا، فظن عمر أنهم ينفوفنه من نسبه، فقال: انظروا ما تقولون قالوا: نقول ما تسمع؛ فأرسل إلى عرفجة، فقال: إن هؤلاء استعفوني منك، وزعموا أنك لست منهم؛ فما عندك؟ قال: صدقوا، وما يسرني أني منهم. أنا امرؤ من الأزد، ثم من بارق، في كهف لا يحصى عدده، وحسب غير مؤتشب. فقال عمر: نعم الحي الأزد؟ يأخذون نصيبهم من الخير والشر. قال عرفجة: إنه كان من شأني أن الشر تفاقم فينا، ودارنا واحدة؛ فأصبنا الدماء، ووتر بعضنا بعضا، فاعتزلتهم لما خفتم، فكنت في هؤلاء أسود وأقودهم، فحفظوأ على لأمر دار بيني وبين دهاقينهم، فحسدوني وكفروني. فقال: لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك. واستعمل جريرًا مكانه، وجمع له بجلية، وأرى جريرًا وبجيلة أنه يبعث عرفجة إلى الشأم، فجبب ذلك إلى جرير العراق، وخرج جرير في قومه ممدًا للمثنى بن حارثة، حتى نزل ذا قار، ثم ارتفع حتى إذا كان بالجل والمثنى بمرج السباخ، أتى المثنى الخبر عن حديث بشير وهو بالحيرة. فأرسل المثنى إلى قد بعثوا مهران، ونهض من المدائن شاخصًا نحو الحيرة. أن الأعاجم جرير وإلى عصمة بالحث، وقد كان عهد إليهم عمر ألا يعبروا بحرًا ولا جسرًا إلا بعد ظفر، فاجتمعوا بالبويب فاجتمع العسكران على شاطئ البويب الشرقي وكان البويب مغيضًا للفرات أيام المدود، وأزمان فارس، يصب في الجوف، والمشركون بموضع دار الرزق، والمسلمون بموضع السكون.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن عطية والمجالد بإسنادهما، قالا: وقدما على عمر غزاة بني كنانة والأزد في سبعمائة جميعًا، فقال: أي الوجوه أحب إليكم؟ قالوأ: الشأم، أسلافنا أسلافنا؟ فقال: ذلك قد كفيتموه؛ العراق العراق ذروا بلدة قد قلل الله شوكتها وعددها، واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش، لعل الله أن يورثكم بقسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس. فقال غالب بن عبد الله الليثي وعرفجة البارقي، كل واحد منهما لقومه، وقاما فيهم يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أرى وأراد. فدعا لهم عمر بخير وقاله لهم، وأمر على بني كنانة غالب بن عبد الله وسرحه، وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة وعامتهم من بارق، وفرحوا برجوع عرفجة إليهم. فخرج هذا في قومه، وهذا في قومه، حتى قدما على المثنى.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وعمرو بإسنادهما، قالا: وخرج هلال بن علفة التيمي فيمن اجتمع إليه من الرباب حتى أتى عمر، فأمره عليهم وسرحه، فقدم على المثنى وخرج ابن المثنى الجشمى؛ جشم سعد، حتى قدم عليه، فوجهه وأمره على بني سعد، فقدم على المثنى.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي وعطية بإسنادهما، قالا: وجاء عبد الله بن ذي السهمين في أناس من خثعم، فأمره عليهم ووجهه إلى المثنى، فخرج نحوه حتى قدم عليه.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وعمرو بإسنادهما، قالا: وجاء ربعي في أناس من بني حنظلة، فأمره عليهم وسرحهم، وخرجوا حتى قدم بهم على المثنى، فرأس بعده ابنة شبث بن ربعى وقدم عليه أناس من بني عمرو، فأمر عليهم ربعي بن عامر بم خالد العنود، وألحقه بالمثنى، وقدم عليه قوم من بني ضبة، فجعلهم فرقتين، فجعل على إحدى الفرقتين ابن الهوبر، وعلى الأخرى المنذر بن حسان، وقدم عليه قرط بن جماح في عبد القيس، فوجهه. وقالوا جميعًا: اجتمع الفيرزان ورستم على أن يبعثا مهران لقتال المثنى واستأذنا بوران - وكانا إذا أرادا شيئًا دنوا من حجابها حتى يكلماها به - فقالا بالذي رأيا وأخبراها بعدد الجيش - وكانت فارس لا تكثر البعوث؛ حتى كان من أمر العرب ما كان - فلما أخبراها بكثرة عدد الجيش، قالت: ما بال أهل فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟ وما لكما لا تبعثان كما لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟ ومالكما لا تبعثان كما كانت الملوك تبعث قبل اليوم قالا: إن الهيبة كانت مع عدونا يومئذ، وإنها فينا اليوم؛ فما لأتهما وعرفت ما جاءاها به، فمضى مهران في جنده حتى نزل من دون الفرات والمثنى وجنده على شاطئ الفرات؛ والفرات بينهما؛ وقدم أنس بن هلال النمري ممدًا للمثنى في أناس من النمر نصارى وجلاب جلبوا خيلًا - وقدم ابن مردى الفهري التغلبي من أناس بن تغلب يصارى وجلاب خيلا - وهو عبد الله بن كليب بن خالد - وقالوا حين رأوا نزول العرب والعجم: نقاتل مع قومنا. وقال مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المسلمون: اعبروا إلينا، فارتحلوا من بسوسيا إلى شوميا، موضع دار الرزق.
كتب إلي السري، عن شعيب بن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه، أن العجم لما أذن لهم في العبور نزلوا شوميا موضع دار الرزق، فتعبوا هنالك؛ فأقبلوا إلى المسلمين في صفوف ثلاثة مع كل صف فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همسًا. فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بني سليم نحو موضع نهر بني سليم، فلما دنوا زحفوا، وصف المسلمين فيما بين نهر بني سليم اليوم وما وراءها.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكان على مجنبتي المثنى بشير وبسرين أبي رهم، وعلى مجردته المعنى، وعلى الرجل مسعود، وعلى الطلائع قبل ذلك اليوم النسير، وعلى الردء مذعور؛ وكان على مجنبتي مهران ابن الآزاذبه مرزبان الحيرة ومردانشاه. ولما خرج المثنى طاف في صفوفه يعهد إليهم عهده، وهو على فرسه الشموس - وكان يدعى الشموس من لين عريكته وطهارته، فكان إذا ركبه قاتل؛ وكان لا يركبه إلالقتال ويدعه ما لم يكن قتال - فوقف على الرايات راية راية يخضضهم، ويأمرهم بأمره، ويهزمهم بأحسن ما فيهم، تحضيضًا لهم، ولكلهم يقول: إني لأرجو ألا تؤتى العرب اليوم من قبلكم؛ والله ما يسرني اليوم لنفسي شئ إلا وهو يسرني لعامتكم؛ فيجيبونه بمثل ذلك. وأنصفهم المثنى في القول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب؛ فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولًا ولا عملًا. ثم قال: المكروه والمحبوب؛ فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا. ثم قال: إني مكبر ثلاثًا فتهيئوا؛ ثم احملوا مع الرابعة، فلما كبر أول تكبير أعجلهم أهل فارس وعاجلوهم فخالطوهم مع أول تكبير؛ وركدت حربهم مليًا، فرأى المثنى خللًا في بعض صفوفه، فأرسل إليهم رجلًا، وقال: إن الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم، فقالوا: نعم، واعتدلوا، وجعلوا قبل ذلك يرونه وهو يمد لحيته لما يرى منهم؛ فاعتنوا بأمر لم يجئ به أحد من المسلمين يومئذ فرمقوه، فرأوه يضحك فرحًا والقوم بنو عجل. فلما طال القتال واشتد، عمد المثنى إلى أنس بن هلال، فقال: يا أنس، إنك امرؤ عربي، وإن لم تكن على ديننا؛ فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي، وقال لأبن مردي الفهر مثل ذلك فأجابه. فحمل المثنى على مهران؛ فأزاله حتى دخل في ميمنته، ثم خالطوهم، واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل، لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم، لا المشركون ولا المسلمون، وارتث مسعود يومئذ وقواد من قواد المسلمين؛ وقد كان قال لهم: إن رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه؛ فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف؛ الزموا مصافكم، وأغنوا غناء من يليكم. وأرجع قلب المسلمين في قلب المشركين، وقتل غلام من التغلبيين نصراني مهراني واستوى على فرسه، فجعل المثنى سلبه لصاحبه خيله؛ وكذلك إذا كان المشرك في خيل رجل فقتل وسلب فهو للذي هو أمير على من قتل؛ وكان له قائدان: أحدهما جرير والآخر ابن الهوبر؛ فاقتسما سلاحه.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه محفز بن ثعلبة؛ قال: جلب فتية من بني تغلب أفراسًا، فلما التقى الزحفان يوم البويب، قالوا: نقاتل العجم مع العرب، فأصاب أحدهم مهران يومئذ، ومهران على فرس له ورد مجفف بتجفاف أصفر، بين عبينيه هلال، وعلى ذنبه أهلة من شبه، فاستوى على فرسه، ثم انتمى: أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان؟ فأتاه جرير وابن الهوبر في قومهما فأخذ برجله فأنزلاه.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، أن جريرًا والمنذر اشتركا فيه فاختصما في سلاحه، فتقاضيا إلى المثنى، فجعل سلاحه بينهما والمنطقة والسوارين بينهما، وأفنوا قلب المشركين.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن أبي روق، قال: والله إن كنا لنأتي البويب، فنرى فيما بين موضع السكون وبني سليم عظامًا بيضًا تلولًا تلوح من هامهم وأوصالهم؛ يعتبر بها. قال: وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحزرونها مائة ألف، وما عفى عليها حتى دفنها أدفان البيوت.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة؛ قالا: وقف المثنى عند ارتفاع الغبار؛ حتى أسفر الغبار، وقد فنى قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضًا، فملا رأوه وقد أزوال القلب، وأفنى أهله، قويت المجنبات - مجنبات المسلمين - على المشركين، وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون من القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل عليهم من يزحرهم، ويقول: إن المثنى يقول: عاداتكم في أمثالهم؛ انصروا الله ينصركم؛ حتى هزموا القوم، فسابقهم المثنى إلى الجسر فسبقهم وأخذ الأعاجم، فافترقوا بشاطئ الفرات مصعدين ومصوبين، واعتورتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم، ثم جعلوهم جثًا؛ فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أبقى رمة منها. ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ - وكان صرع قبل الهزيمة، فتضعضع من معه، فرأى ذلك وهو دنف - قال: يا معشر بكر بن وائل، ارفعوا رايتكم، رفعكم الله لا يهولنكم مصرعي. وقاتل أنس بن هلال النمري يومئذ حتى ارتث، ارتثه للثنى، وضمه وضم مسعودًا إليه. وقاتل قرط بن جماح العبدي يومئذ حتى دق قنًا، وقطع أسيافًا. وقتل شهر براز من دهاقين فارس صاحب مجردة مهران.
قال: ولما فرغوا جلس المثنى للناس من بعد الفراغ يحدثونه، وكلما جاء رجل فتحدث قال له: أخبرني عنك؛ فقال له قرط بن جماح: قتلت رجلًا فوجدت منه رائحة المسك، فقلت: مهران، ورجوت أن يكون إياه، فإذا هو صاحب الخيل شهر براز، فوالله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئًا.
فقال: المثنى: قد قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام؛ والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد على من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد على من ألف من العجم؛ إن الله أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم؛ فلا يروعنكم زهاء ترونه، ولا سواد ولا قسي فج، ولا نبال طوال، فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها، كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت.
وقال ربعي وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها، قلت: تترسوا بالمجان، فإنهم شادون عليكم؛ فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر في الثالثة؛ فأجابوني والله؛ فوفى الله كفالتي.
وقال ابن ذي السهمين محدثًا: قلت لأصحابي: إني سمعت الأمير يقرأ ويذكر في قراءته الرعب؛ فما ذكره إلا لفضل عنده؛ اقتدوا برايتكم، وليحم راجلكم خيلكم، ثم احملوا فما لقول الله من خلف؛ فأنجز الله لهم وعده، وكان كما رجوت.
وقال عرفجة محدثًا: حزنا كتبة منهم إلى الفرات، ورجوت أن يكون الله تعالى قد أذن في غرقهم وسلى عنا بها مصيبة الجسر، فلما دخلوا في حد الإحراج، كروا علينا، فقاتلناهم قتالًا شديدًا حتى قال بعض قومي: لو أخرت رايتك؟ فقلت: على إقدامها، وحملت بها على حاميتهم فقتلته، فولوا نحو الفرات، فما بلغه منهم أحد فيه الروح.
وقال ربعي بن عامر بن خالد: كنت مع أبي يوم البويب - قال وسمى البويب يومي الأعشار - أحصى مائة رجل، قتل كل رجل منهم عشرة في المعركة يومئذ، وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة، وغالب في بني كنانة من أصحاب التسعة، وعرفجة في الأزاد من أصحاب التسعة.
وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم إلى شاطئ الفرات، ضفة البويب الشرقية؛ وذلك أن المثنى بادرهم عند الهزيمة الجسر، فأخذه عليهم، فأخذوا يمنة ويسرة، وتبعهم المسلمون إلى الليل، ومن الغد إلى الليل، وندم المثنى على أخذه بالجسر، وقال: لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعة؛ حتى أحرجتهم؛ فإني غير عائد؛ فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيها الناس، فإنها كانت منى زلة لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع. ومات أناس من الجرحى من أعلام المثنى، المسلمين منهم خالد بن هلال ومسعود بن حارثة فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن؛ وقال: والله إنه ليهون على وجدى أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجرعوا ولم ينكلوا، وإن كان في الشهادة كفارة لتجوز الذنوب.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقد كان المثنى وعصمة وجرير أصابوا في أيام البويب على الظهر نزل مهران غنمًا ودقيقًا وبقرًا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم؛ وهم بالحيرة. وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات الذين بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل، تصايحن وحسبنها غارة، فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو: هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش وبشروهن بالفتح، وقالوا: هذا أوله، وعلى الخيل التي أتتهم بالنزل النسير؛ وأقام في خيله حامية لهم، ورجع عمرو بن عبد المسيح فبات بالحيرة. وقال المثنى يومئذ: من يتبع الناس حتى ينتهي إلى السبب؟ فقام جرير بن عبد الله في قومه، فقال: يا معشر بجيلة، إنكم وجميع من شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة والبلاء سواء، وليس لأحد منهم في هذا الخمس غدًا من النفل مثل الذي لكم منه؛ ولكم ربع خمسه نفلا من أمير المؤمنين؛ فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذي لكم منه، ونية إلى ما ترجون فإنما تنتظرون إحدى الحسنين: الشهادة والجنة أو الغنيمة والجنة.
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستقتلوا من منهزمة يوم الجسر، ثم قال: أين المستبسل بالأمس وأصحابه! انتدبوا في آثار هؤلاء القوم إلى السيب، وابلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به، فهو خير لكم وأعظم أجرًا؛ واستغفروا الله أن الله غفور رحيم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حمزة بن علي بن محفز، عن رجل من بكر بن وائل، قال: كان أول الناس انتدب يومئذ للمثنى واتبع آثارهم المستبسل وأصحابه؛ وقد كان أراد الخروج بالأمس إلى العدو من صف المسلمين واستوفز واستنتل، فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر؛ ثم أخرجهم في آثار للقوم، واتبعهم بجيلة وخيول من المسلمين تغذ من كل فارس، فانطلقوا في طلبهم حتى بلغوا السيب، ولم يبق في العسكر جسرى إلا خرج في الخيل، فأصابوا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئًا كثيرًا فقسمه المثنى عليهم، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية، وبعث بثلاثة أرباع مع عكرمة، وألقى الله الرعب في قلوب أهل فارس. وكتب القواد الذين قادوا الناس في الطلب إلى المثنى، وكتب عاصم وعصمة وجرير: إن الله عز وجل قد سلم وكفى، ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شئ؛ فتأذن لنا في الإقدام؛ فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهل ساباط منهم واستباحوا القربات دونها؛ وراماهم أهل الحصن بساباط عن حصنهم، وكان أول من دخل حصنهم ثلاثة قواد: عصمة، وعاصم، وجرير؛ وقد تبعهم أوزاع من الناس كلهم. ثم انكفؤا راجعين إلى المثنى.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية بن الحارث، قال: لما أهلك الله مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة فمخروها، لا يخافون كيدًا، ولا يلقون فيها مانعًا، وانتقضت مسالح العجم، فرجعت إليهم؛ واعتصموا بساباط، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة.
وكانت وقعة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة قتل الله عليه مهران وجيشه، وأفعموا جنبتى البويب عظامًا، حتى استوى وما عفى عليها إلا التراب أزمان الفتنة، وما يثار هنالك شئ إلا وقعوا منها على شئ؛ وهو ما بين السكون ومر هبة وبنى سليم؛ وكان مغيضًا للفرات أزمان الأكاسرة بصب في الجوف. وقال الأعور العبدي الشنى:
هاجت لأعور دار الحي أحزانا ** واستبدلت بعد عبد القيس خفانا
وقد أرانا بها واشمل ومجتمع ** إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم ** فقتل الزحف من فرس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه ** حتى أبادهم مثنى ووحدانًا
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في أمر جرير وعرفجة والمثنى وقتال المثنى مهران غير ما قص سيف من أخبارهم؛ والذي قال في أمرهم ما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما انتهت إلى عمر بن الخطاب مصيبة أصحاب الجسر، وقدم عليه فلهم؛ قدم عليه جرير بن عبد الله البجلي من اليمن في ركب من بجيلة، وعرفجة بن هرثمة - وكان عرفجة يومئذ سيد بجيلة، وكان حليفًاي لهم من الأزد - فكلمهم عمر، فقال لهم: إنكم قد علمتم ما كان حليفًا لهم من إخوانكم بالعراق؛ فسيروا إليهم وأنا أخرج إليكم من كان منكم في قبائل العرب فأجمعهم إليكم. قالوا: نفعل يا أمير المؤمنين، فأخرج لهم قيس كبة وسحمة وعرينة؛ وكانوا في قبائل بني عامر بم صعصعة، وأمر عليهم عرفجة بن هرثمة، فغضب من ذلك جرير بن عبد الله البجلي، فقال لبجلية: كلموا أمير المؤمنين، فقالوا له: استعملت علينا رجلًا ليس منا، فأرسل إلى عرفجة، فقال: ما يقول هؤلاء؟ قال: صدقوا يا أمير المؤمنين، لست منهم، ولكني رجل من الأزد، كنا أصبنا في الجاهلية دمًا في قومنا، فلحقنا بجلية فبلغنا فيهم من السؤدد ما بلغك. فقال له عمر: فاثبت على منزلتك، ودافعهم كما يدافعونك. قال: لست فاعلًا ولا سائرًا معهم؛ فسار عرفجة إلى البصرة بعد أن نزلت، وترك بجلية، وأمر عمر على بجيلة جرير بن عبد الله، فسار بهم مكانه إلى الكوفة، وضم إليه عمر قومه من بجلية، فأقبل جرير حتى إذا مر قريبًا من المثنى بن حارثة، كتب إليه المثنى أن أقبل إلى، فإنما أنت مدد لي. فكتب إليه جرير: إني لست فاعلًا إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين؛ أنت أمير وأنا أمير.
ثم سار جرير نحو الجسر، فلقيه مهران بن باذان - وكان من عظماء فارس - عند النخيلة، قد قطع إليه الجسر، فاقتتلا قتالًا شديدًا، وشد المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران فطعنه، فوقع عن دابته، فاقتحم عليه جرير فاختر رأسه فاختصما في سلبه اصطلحا فيه فأخذ جرير السلاح، وأخذ المنذر بن حسان منطقته.
قال: وحدثت أن مهران لما لقى جريرًا قال:
إن تسألوني عنى فإني مهران ** أنا لمن انكرني ابن باذان
قال: فأنكرت ذلك حتى حدثني من لا أتهم من أهل العلم أنه كان عربيًا نشأ مع أبيه باليمن إذ كان عاملا لكسرى. قال: فلم أنكر ذلك حين بلغني.
كتب المثنى إلى عمر يمحل بجرير، فكتب عمر إلى المثنى: إني لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب محمد ﷺ - يعني جريرًا. وقد وجه عمر سعد بن بي وقاص إلى العراق في ستة آلاف، أمره عليهم؛ وكتب إلى المثنى وجرير بن عبد الله أن يجتمعا إلى سعد بن أبي وقاص، وأمر سعدًا عليهما؛ فسار سعد حتى نزل شراف، وسار المثنى وجرير حتى نزلا عليه، فشتا بها سعد، واجتمع إليه الناس، ومات المثنى بن حارثة رحمه الله.
خبر الخنافس
رجع الحديث إلى حديث سيف. كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ومخر المثنى السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية، وأرسل جريرًا إلى ميسان، وهلال بن علفة التيمي إلى دست ميسان، وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبي وبالكلج الضبي وبعرفجة البارقي؛ وأمثالهم في قواد المسلمين؛ فبدأ فنزل أليس - قرية من قرى الأنبار - وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخر؛ وغزاة أليس الآخر، وألز رجلان بالمثنى: أحدهما أنباري والآخر حيري يدله كل واحد منهما على سوق، فأما الأنباري فدله على الخنافس، وأما الحيري فدله على بغداد. فقال المثنى: أيتهما قبل صاحبتها؟ فقالوا: بينهما أيام، قال: أيهما أعجل؟ قالوا: الخنافس سوق يتوافى إليها الناس، ويجتمع بها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى؛ حتى إذا ظن أنه موافيها يوم سوقها ركب نحوهم، فأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة، وعلى قضاعة رومانس بن وبرة، وعلى ربيعة السليل بن قيس وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع عوده على بدئه حتى يطرق داهاقين الأنبار طروقًا في أول النهار يومه، فتحصنوا منه، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد؛ وأتوه بالأدلاء على بغداد؛ فكان وجهه إلى سوق بغداد، فصبحهم والمسلمون يمخرون السواد والمثنى والأنبار، ويشنون الغارات فيما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات وجسور مثقف إلى عين التمر وما والاها من الأرض في أرض الفلاليج والعال.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن مخفر، عن أبيه، قال: قال رجل من أهل الحيرة للمثنى: ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى والسواد، وتجتمع بها في كل سنة مرة ومعهم فيها الأموال؛ كبيت المال؛ وهذه أيام سوقهم، فإن أنت قدرت أن تغير عليهم وهم لا يشعرون أصبت فيها مالًا يكون غناء للمسلمين؛ وقووا به على عدوهم دهرهم، قال: وكم بين كسرى وبينها؟ قال بعض يوم أو عامة يوم، قال: فكيف لي بها؟ قالوا: نأمرك إن أردتها أن تأخذ طريق البر، حتى تنتهي إلى الخنافس، فإن الأنبار سيضربون إليها، ويخبرون عنك فيأمنون، ثم تعوج على أهل الأنبار فتأخذ الدهاقين بالأدلاء، فتسير سواد ليلتك من الأنبار حتى تأتيهم صبحًا فتصبحهم غارة.
فخرج من أليس حتى أتى الخنافس، ثم عاج حتى رجع على الأنبار، فلما أحسه صاحبها تحصن وهو لا يدري من هو؛ وذلك ليلًا؛ فلما عرفه نزل إليه فأطعمه المثنى، وخوفه واستكتمه، وقال: إني أريد أن أغير فابعث معي الأدلاء إلى بغداد، حتى أغير منها إلى المدائن. قال: انا أجئ معك، قال: لا أريد أن تجئ معي، ولكن ابعث من هو أدل منك فزودهم الأطعمة والأعلاف وبعث معهم الأدلة، فساروا حتى إذا كانوا بالنصف، قال لهم المثنى: كم بيني وبين هذه القرية؟ قالوا: أربعة أو خمسة فراسخ. فقال لأصحابه: من ينتدب للحرس؟ فانتدب له قوم فقال لهم: أذكوا حرسكم، ونزل وقال: أيها الناس، أقيموا واطعموا وتوضئوا وتهيؤا. وبعث الطلائع فحسبوا الناس ليسبقوا الأخبار، فلما فرغوا أسرى إليهم آخر الليل، فعبر إليهم، فصبحهم في أسواقهم، فوضع فيهم السيف فقتل، وأخذوا ما شاءوا، وقال المثنى: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ولا تأخذوا من المتاع إلا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته. وهرب أهل الأسواق، وملأ السلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحر من كل شئ، ثم خرج كارًا حتى نزل بنهر السيلحين بالأنبار؛ فنزل وخطب الناس، وقال: أيها الناس، انزلوا وقضوا أوطاركم، وتأهبوا للسير، واحمدوا لله وسلوه العافية، ثم انكشفوا قبيضًا. ففعلوا، فسمع همسًا فيما بينهم: ما أسرع القوم في طلبنا! فقال: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا في الأمور وقد روها ثم تكلموا؛ إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد؛ ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم. إن للغارات روعات تنتشر عليها؛ يومًا إلى الليل ولو طلبكم المحامون من رأى العين ما أدركوكم وأنتم على العراب حتى تنتهوا إلى عسكركم وجماعتكم، ولو أدركوكم لقاتلتهم لأثنتين: التماس الأجر ورجاء النصر؛ فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعد منكم؛ وسأخبركم غنى وعن انكماشي والذي أريد بذلك؛ إن خليفة رسول الله ﷺ أبا بكر أوصانا أن نقلل العرجة، ونسرع الكرة في الغارات، ونسرع في غير ذلك الأوبة. وأقبل بهم ومعهم أدلاؤهم يقطعون بهم الصحارى والأنهار؛ حتى انتهى بهم إلى الأنبار؛ فاستقبلهم دهاقين الأنبار بالكرامة، واستبشروا بسلامته، وكان موعده الإحسان إليهم إذا استقام لهم من أمرهم ما يحبون.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار سرح المضارب العجلي وزيدًا إلى الكباث، وعليه فارس العناب التغلبي، ثم خرج في آثارهم، فقدم الرجلان الكباث، وقد ارفضوا وأخلوا الكباث، وكان أهله كلهم من بني تغلب فركبوا آثارهم يتبعونهم، فأدركوا أخرياتهم وفارس العناب يحميهم، فحماهم ساعة ثم هرب، وقتلوا في أخرياتهم وأكثروا، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار والخليفة عليهم فرات بن حيان فلما رجع إلى الأنبار سرح فرات بن حيان وعتيبة بن النهاس وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبي سلمى الهجيمي؛ فلما دنوا من صفين، افترق المثنى وفرات وعتيبة، وفر أهل صفين وعبروا الفرات إلى الجزيرة، وتحصنوا، وأرمل المثنى وأصحابه من الزاد، حتى أقبلوا على رواحلهم إلا مالا دياف وحوران، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بني تغلب خفراء، بد منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها ثم أدركوا عيرًا من أهل واخذوا العير وكان ظهيرًا فاضلًا وقال لهم: دلوني فقال أحدهم آمنوني على أهلي ومالي، وأدلكم على حتى من تغلب غدوت من عندهم اليوم؛ فآمنه المثنى وسار معه يومه، حتى إذا كان العشى هجم على القوم، فإذا النعم صادرة عن الماء، وإذا القوم جلوس بأفنية البيوت، فبث غارته، فقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية؛ واستاقوا الأموال، وإذا هم بنو ذي الرويحلة؛ فاشترى من كان بين المسلمين من ربيعة السبايا بنصيبه من الفئ، وأعتقوا سبيهم؛ وكانت ربيعة لا تسبى إذ العرب يتسابون في جاهليتهم.
وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا الشط؛ شاطئ دجلة، فخرج المثنى، وعلى مقدمته في غزواته هذه بعد البويب كلها حذيفة بن محصن الغلفاني، وعلى مجنبتيه النعمان بن عوف بن النعمان ومطر الشيبانيات، فسرح في أدبارهم حذيفة واتبعه؛ فأدركوهم بتكريت دوينها من حيث طلبوهم يخوضون الماء، فأصابوا ما شاءوا من النعم، حتى أصاب الرجل خمسًا من النعم، وخمسًا من السبي، وخمس المال؛ وجاء به حتى ينزل على الناس بالأنبار؛ وقد مضى فرات وعتيبة في وجوههما؛ حتى أغاروا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا بطائفة منهم في الماء، فناشدوهم فلم يقلعوا عنهم، وجعلوا ينادونهم: الغرق الغرق! وجعل عتيبة وفرات يذمرون الناس، وينادونهم: تغريق بتحريق - يذكرونهم يومًا من أيامهم في الجاهلية أحرقوا فيه قومًا من بكر بن وائل في غيضة من الغياض - ثم انكفئوا راجعين إلى المثنى، وقد غرقوهم.
ولما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافى بها البعوث والسرايا، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة، فنزل بها. وكانت تكون لعمر رحمه الله العيون في كل جيش، فكتب إلى عمر بما كان في تلك الغزاة، وبلغه الذي قال عتيبة وفرات يوم بني تغلب والماء؛ فبعث إليهما فسألهما، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه أنه مثل، فحلفا أنهما ما أرادا بذلك إلا المثل وإعزاز الإسلام، فصدقهما وردهما حتى قد ما على المثنى.
ذكر الخبر عما هيج أمر القادسية
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة، عن عزيز بن مكنف التميمي ثم الأسيدي، وطلحة بن الأعلم الحنفي، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس العجلي، وزياد بن سرجس الأحمري، عن عبد الرحمن بن ساباط الأحمري، قالوا جميعًا: قال أهل فارس لرستم والفيرزان - وهما على أهل فارس، أين يذهب بكما! لم يبرح الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس واطعمتما فيهم عدوهم! وإنه لم يبلغ من خطركما أن يقركما فارس على هذا الرأي، وأن تعرضاها للهلكة؛ ما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن؛ والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفز، عن أبيه، قال: قال أهل فارس لرستم والمسلمون يمخرون السواد: ما تنتظرون والله إلا أن ينزل بنا ونهلك! والله ما جر هذا الوهن علينا غيركم يا معاشر القواد! لقد فرقتم بين أهل فارس وثبطتموهم عن عدوهم. والله لولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فقال الفيرزان ورسم لبوران ابنة كسرى: اكتبي لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم. ففعلت، ثم أخرجت ذلك إليهم في كتاب، فأرسلوا في طلبهن فلم يبق منهن امرأة إلا أتوابها، فأخذوهن بالرجال ووضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى، فلم يوجد عندهن منهم أحد، وقلن - أو من قال منهن: لم يبق إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى، وأمه من أهل بادوريا. فأرسلوا إليها فأخذوها به، وكانت قد أنزلته في أيام شيرى حين جمعهن في القصر الأبيض، فقتل الذكور، فواعدت أخواله، ثم دلته إليهم في زبيل فسألوها عنه وأخذوها به، فدلتهم عليه، فأرسلوا إليه فجاءوا به فملكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى الرؤساء في طاعته ومعونته فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى أو موضع ثغر، فسمى جند الحيرة والأنبار والمسالح والأبلة. وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد؛ من كان له منهم عهد ومن لم يكن له منهم عهد، فخرج المثنى على حاميته حتى نزل بذى قار، وتنزل الناس بالطف في عسكر واحد حتى جاءهم كتاب عمر: أما بعد؛ فاخرجوا من بين ظهري الأعاجم، وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا في ربيعة أحدًا ولا مضر ولا حلفائهم أحدًا من أهل النجدات ولا فارسًا إلا اجتلبتموه؛ فإن جاء طائعًا وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجد إذ جد العجم؛ فلتلقوا جدهم بجدكم.
فنزل المثنى بذي قار، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى - وغضى حيال البصرة - فكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو والعنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معه إلى سلمان، فكانوا في أمواه الطف من أولها إلى آخرها مسالح بعضهم ينظر إلى بعض؛ ويغيث بعضهم بعضًا إن كان كون، وذلك في ذي العقدة سنة ثلاث عشرة.
حدثنا السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: كان أول ما عمل به عمر حين بلغه أن فارس قد ملكوا يزدجرد، أن كتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجة إلى الحج، وحج سنواته كلها: لا تدعا أحدًا له سلاح، أو فرس، أو نجدة، أو أرى إلا انتخبتموه، ثم وجهتموه إلى، والعجل العجل! فمضت الرسل إلى من أرسلهم إليهم مخرجة إلى الحج، ووافاه أهل هذا الضرب من القبائل التي طرقها على مكة والمدينة، فأما من كان من أهل المدينة على النصف ما بينه وبين العراق فوافاه بالمدينة مرجعه من الحج، وأما من كان أسفل من ذلك فانضموا إلى المثنى، فأما من وافى عمر فإنهم أخبروه عمن وراءهم بالحث.
وقال أبو معشر، فيما حدثنى الحارث، عن ابن سعد، عنه. وقال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: الذي حج بالناس سنة ثلاث عشرة عبد الرحمن بن عوف.
وقد حدثني المقدمى، عن إسحاق الفروى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: استعمل عمر على الحج عبد الرحمن بن عوف في السنة التي ولى فيها، فحج بالناس، ثم حج سنية كلها بعد ذلك بنفسه.
وكان عامل عمر في هذه السنة - على ما ذكر - على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى عمان واليمامة حذيفة بن محصن على البحرين العلاء بن الخضرمي الشأم أبو عبيدة بن الجراح، وعلى فرج الكوفة وما فتح من أرضها المثنى بن حارثة.
وكان على القضاء - فيما ذكر - علي بن أبي طالب. وقيل: لم يكن لعمر في أيامه قاض.
ثم دخلت سنة أربع عشرة
ذكر ابتداء أمر القادسية
ففي أول يوم من المحرم سنة أربع عشرة - فيما كتب إلى به السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد يإسنادهم - خرج عمر حتى نزل على ماء يدعى صرارًا، فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد؛ أيسير أم يقيم. وكانوا إذا ارادوا أن يسألوه عن شئ رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف؛ وكان عثمان يدعى في إمارة عمر رديفًا - قالوا: والرديف بلسان العرب الرجل الذي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيسهم - وكانوا إذا لم يقدر هذان على علم شئ مما يريدون، ثلثوا بالعباس، فقال عثمان لعمر: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إليه، فأخبرهم الخبر. ثم نظر ما يقول الناس، فقال العامة: سر وسر بنا معك؛ فدخل معهم في رأيهم، وكره أن يدعهم حتى يخرجهم منه في رفق، فقال: استعدوا وأعدوا فإني سائر إلا أن يجئ رأى هو أمثل من ذلك. ثم بعث إلى أهل الرأى، فاجتمع إليه وجوه أصحاب النبي ﷺ وأعلام العرب، فقال: أحضروني الرأي فإني سائر. فاجتمعوا جميعًا، وأجمع ملؤهم على أن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله ﷺ ويقيم، ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يشتهي من الفتح، فهو الذي يريد ويريدون؛ وإلا أعاد رجلًا وندب جندًا آخر؛ وفي ذلك ما يغيظ العدو، ويرعوى المسلمون، ويجئ نصر الله بإنجاز موعود الله. فنادى عمر: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إليه، وأرسل إلى على عليه السلام، وقد استخلفه على المدينة، فأتاه، وإلى طلحة وقد بعثه على المقدمة، فرجع إليه، وجعل على المجنبتين الزبير وعبد الرحمن بن عوف، فقام الناس فقال: إن الله عز وجل قد جمع على الإسلام أهله؛ فألف بين القلوب، وجعلهم فيه إخوانًا، والمسلمون فيما بينهم كالجسد لا يخلو منه شئ من شئ أصاب غيره؛ وكذلك يحق على المسلمين أن يكونوا أمرهم شورى بينهم وبين ذوى الرأى منهم؛ فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر؛ ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعًا لهم، ومن أقام بهذا الأمر تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعًا لهم. بأيها الناس، إني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلًا، وقد أحضرت هذا الأمر؛ من قدمت ومن خلفت. وكان على عليه السلام خليفته على المدينة، وطلحة على مقدمته بالأعوص؛ فأحضرهما ذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عمر بن عبد العزيز، قال: لما انتهى قتل أبي عبيد ابن مسعود إلى عمر، واجتماع أهل فارس على رجل من آل كسرى، ونادى في المهاجرين والأنصار؛ وخرج حتى أتى صرارًا، وقدم طلحة بن عبيد الله حتى بأتي الأعوص، وسمى لميمنته عبد الرحمن بن عوف، ولميسرته الزبير بن العوام، واستخلف عليًا رضي الله عنه على المدينة، واستشار الناس، فكلهم أشار عليه بالسير إلى فارس، ولم يكن استشار في الذي كان حتى نزل بصرار ورجع طلحة، فاستشار ذوى الرأي فكان طلحة ممن تابع الناس، وكان عبد الرحمن ممن نهاه، فقال عبد الرحمن: فما فديت أحدًا بأبي وأمي بعد النبي ﷺ قبل يومئذ ولا بعده؛ فقلت: يا بأبي وأمي، اجعل عجزها بي وأقم وابعث جندًا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد، فإنه إن يهزم جيشك ليس كهزيمتك؛ وإنك إن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت ألا يكبر المسلمون وألا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدًا وهو في ارتياد من رجل؛ وأتى كتاب سعد على حفف كشورتهم؛ وهو على بعض صدقات نجد، فقال عمر: فأشيروا على برجل، فقال عبد الرحمن: وجدته، قال: من هو؟ قال: الأسد في براثنه؛ سعد بن مالك؛ ومالأه أولو الرأى.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة، عن أبيه، قال: كتب المثنى إلى عمر بإجتماع فارس على يزد جرد وببعوثهم، وبحال أهل الذمة. فكتب إليه عمر؛ أن تنح إلى البر، وادع من يليك، وأقم منهم قريبًا على حدود أرضك وأرضهم؛ حتى يأتيك أمري.
وعاجلتهم الأعاجم فزاحفتهم الزحوف، وثار بهم أهل الذمة؛ فخرج المثنى بالناس حتى ينزل الطف، ففرقهم فيه من أوله إلى آخره، فأقام ما بين غضى إلى القططقانة مسالحه، وعادت مسالح كسرى وثغوره، واستقر أمر فارس وهم في ذلك هائبون مشفقون، والمسلمون متدفقون قد ضروابهم كالأسد ينازع فريسته ثم يعادود الكر؛ وأمراؤهم يكفكفونهم بكتاب عمر وأمداد المسلمين.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: قد كان أبو بكر استعمل سعدًا على صدقات هوازن بنجد، فأقره عمر، وكتب إليه فيمن كتب إليه من العمال حين استنفر الناس أن ينتخب أهل الخيل والسلاح ممن له رأى ونجدة. فرجع إليه كتاب سعد بمن جمع الله له من ذلك الضرب؛ فوافق عمر وقد استشارهم في رجل، فشاروا عليه به عند ذكره.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: كان سعد بن أبي وقاص على صدقات هوزان، فكتب إليه عمر فيمن كتب غليه بانتخاب ذوى الرأى والنجدة ممن كان له سلاح أو فرس، فجاءه كتاب سعد: إني قد انتخبت لك ألف فارس مؤذ كلهم له نجدة ورأى، وصاحب حيطة يحوط حريم قومه، ويمنع ذمارهم، إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم، فشأنك بهم. ووافق كتابه مشورتهم، فقالوا: قد وجدته، قال: فمن؟ قالوا: الأسد عاديًا، قال: من؟ قالوا: سعد، فانتهى إلى قولهم فأرسل إليه، فقدم عليه، فأمره على حرب العراق وأوصاه. فقال: يا سعد، سعد بنى وهيب؛ لا يغرنك من الله أن عز وجل لا يمحو السيئ؛ ولكنه يمحو السيئ بالحسن؛ فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته؛ فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء؛ الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت النبي ﷺ منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمة فإنه الأمر. هذه عظتى إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك؛ وكنت من الخاسرين.
ولما أراد أن يسرحه دعاه، فقال: إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتى فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق، فعود نفسك ومن معك الخير، واستفتح به. واعلم أن لكل عادة عتادًا، فعتاد الخير الصبر؛ فالصبر على ما أصابك أو نابك؛ يجتمع لك خشية الله. واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته؛ وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة؛ وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء؛ منها السر، ومنها العلانية؛ فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس؛ فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم؛ وإن الله إذا أحب عبدًا حببه؛ وإذا أبغض عبدًا بغضه. فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس، ممن بشرع معك في أمرك. ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين. فخرج سعد بن أبي وقاص من المدينة قاصدًا العراق في أربعة آلاف؛ ثلاثة ممن قدم عليه من اليمن والسراة؛ وعلى أهل السروات حميضة بن النعمان بن حميضة البارقى؛ وهم بارق وألمع وغامد وسائر إخوانهم؛ وفي سبعمائة من أهل السراة، وأهل اليمن ألفان وثلاثمائة؛ منهم النخع بن عمرو، وجميعهم يومئذ أربعة آلاف؛ مقاتلهم وذرارتهم ونساؤهم؛ وأتاهم عمر في عسكرهم؛ فأرادهم جميعًا على العراق، فأبوا إلا الشأم، وأبى إلا العراق، فسمح نصفهم فأمضاهم نحو العراق، وأمضى النصف الآخر نحو الشأم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حنش النخعي، عن أبيه وغيره منهم، أن عمر أتاهم في عسكرهم؛ فقال: إن الشرف فيكم يا معشر النخع لمتربع، سيروا مع سعد. فنزعوا إلى الشأم، وأبى إلا العراق، وأبوا إلا الشأم؛ فسرح نصفهم إلى الشأم؛ فسرح نصفهم إلى الشأم ونصفهم إلى العراق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمستنير وحنش؛ قالوا: وكان فيهم من حضرموت والصدف ستمائة؛ عليهم شداد بن ضمعج، وكان فيهم ألف وثلثمائة من مذحج، على ثلاثة رؤساء: عمرو بن معد يكرب على بني منبه، وأبو سبرة بن ذؤيب على جعفى ومن في حلف جعفى من إخوة جزء وزبيد وأنس الله ومن لفهم، ويزيد بن الحارث الصدائي على صداء وجنب ومسلية في ثلثمائة؛ هؤلاء شهدوا من مذحج فيمن خرج من المدينة مخرج سعد منها، وخرج معه من قيس عيلان ألف بشر بن عبد الله الهلالي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال: خرج أهل القادسية من المدينة، وكانوا أربعة آلاف؛ ثلاثة آلاف منهم من أهل اليمن وألف من سائر الناس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وسهل، عن القاسم، قالوا: وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص، ثم قام في الناس خطيبًا، فقال: إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول، ليحيى به القلوب؛ فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله؛ من علم شيئًا فلينتفع به؛ وإن للعدل أمارات وتباشير؛ فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين، وأما التباشير فالرحمة وقد جعل الله لكل أمر بابًا ويسر لكل باب مفتاحًا، فباب العدل الإعتبار ومفتاحه الزهد. والإعتبار. ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، وتأديه الحق إلى كل أحد له حق. ولا تصانع في ذلك أحدًا، واكتف بما يكفيك من الكفاف؛ فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شئ. إني بينكم وبين الله؛ وليس بيني وبينه أحد؛ وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه، فأنهوا شكاتكم إلينا؛ فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع. وأمر سعدًا بالسير، وقال: إذا انتهت إلى زرود فانزل بها؛ وتفرقوا فيما حولها، واندب من حولك منهم، وانتخب أهل النجدة والرأى والقوة والعدة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن رجل، قال: مرت السكون مع أول كندة مع حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج في أربعمائة؛ فاعترضهم؛ فإذا فيهم فتية دلم سباط مع معاوية بن حديج، فأعرض عنهم، ثم أعرض، ثم أعرض؛ حتى قبل له: مالك ولهؤلاء! قال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إلى منهم. ثم أمضاهم، فكان بعد يكثر أن يتذكرهم بالكراهية، وتعجب الناس من رأى عمر. وكان منهم رجل يقال له سودان بن حمران، قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ وإذا منهم حليف لهم يقال له خالد بن ملجم، قتل علي بن أبي طالب رحمه الله؛ وإذا منهم معاوية بن حديج؛ فنهض في قوم منهم يتبع قتلة عثمان يقتلهم؛ وإذا منهم قوم يقرون قتلة عثمان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، عن ماهان، وزياد بإسناده، قالوا: وأمد عمر سعدًا بعد خروجه بألفى يماني وألفى نجدي مؤد من غطفان وسائر قيس، فقدم سعد زرود في أول الشتاء، فنزلها وتفرقت الجنود فيما حولها من أمواه بني تميم وأسد، وانتظر اجتماع الناس، وأمر عمر، وانتخب من بني تميم والرباب أربعة آلاف؛ ثلاثة آلاف تميمي وألف ربي؛ وانتخب من بني أسد ثلاثة آلاف، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبي وقاص وبين المثنى بن حارثة، وكان المثنى في ثمانية آلاف؛ من ربيعة ستة آلاف من بكر بن وائل، وألفان من سائر ربيعة أربعة آلاف ممن كان النحت بعد فصول خالد زأربعة آلاف كانوا معه ممن بقي يوم الجسر وكان معه من أهل اليمن ألفان من بحيلة، وألفان من قضاعة وطيئ ممن النتخبوا إلى ما كان قبل ذلك، على طيئ عدي بن حاتم، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله، فبينا الناس لذلك سند يرجو أن عليه عليه المثنى، والمثى يرجو أن يقدم عليه سعد، مات المثنى من جراحته التي كان جرحها يوم الجسر، انتفضت به؛ فاستخلف المثنى على الناس بشير بن الخصاصية، وسعد يومئذ بزرود، ومع بشير يومئذ وجوه أهل العراق، ومع سعد وفود أهل العراق الذين كانوا قدموا على عمر، منهم فرات بن حيان العجلي وعتيبة، فردهم مع سعد.
كتب إلى السسرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بإسناده، وزياد عن ماهان، قالا: فمن أجل ذلك اختلف الناس في عدد أهل القادسية، فمن قال: اربعة آلاف فلمخرجهم مع سعد من المدينة، ومن قال: ثمانية آلاف فلاجتماعهم يزرود، ومن قال: تسعة آلاف فللحاق القيسيين، ومن قال: اثنا عشر ألفًا فلدفوف بني أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف. وأمر سعدًا بالإقدام، فأقام ونهض إلى العراق وجموع الناس بشراف، وقدم عليه مع قومه شراف الأشعث بن قيس في ألف وسبعمائة من أهل؛ فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفًا، وجميع من قسم عليه فئ القادسية نحو من ثلاثين ألفًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد، عن جرير، قال: كان أهل اليمن ينزعون إلى الشأم؛ وكانت مضر تنزع إلى العراق، فقال عمر: أرحامكم أرسخ من أرحامنا! ما بال مضر لا تذكر أسلافها من أهل الشأم! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سعد بن المرزبان، عمن حدثه، عن محمد بن حذيفة بن اليمان، قال: لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة، فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس، وكانت العرب في جاهليتها تسمى فارس الأسد ولاروم الأسد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: قال عمر: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب؛ فلم يدع رئيسًا، ولا ذا رأي، ولا ذا شرف، ولا ذا سطة ولا خطيبًا؛ ولا شاعرًا؛ إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان عمر قد كتب إلى سعد مرتحله من زرود؛ أن ابعث إلى فرج الهند رجلًا ترضاه يكون بحياله، ويكون ردءًا لك من شئ إن أتاك من تلك التخوم؛ فبعث المغيرة بن شعبة في خمسمائة؛ فكان بحيال الأبلة من أرض العرب؛ فأتى غضيًا، ونزل على جرير؛ وهو فيما هنالك يومئذ. فلما نزل سعد بشراف، كتب إلى عمر بمنزله وبمنازل الناس فيما بين غضى إلى الجبانة، فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي هذا فعشر الناس وعرف عليهم، وأمر على أجنادهم، وعبهم، ومرو رؤساء المسلمين فليشهدوا، وقدر هم وهم شهود؛ ثم وجههم إلى اصحابهم، وواعدهم القادسية؛ واضمم إليك المغيرة بن شعبة في خيلة؛ والتب إلى بالذي يستقر عليه أمرهم.
فبعث سعد إلى المغيرة؛ فانضم إليه وغلى رؤساء القبائل، فأتوه، فقدر الناس وعباهم بشراف، وأمر أمراء الأجناد، وعرف العرفاء؛ فعرف على كل عشرة رجلًا، كما كانت العرافات أزمان النبي ﷺ، وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء، وأمر على الرايات رجالًا من أهل السابقة، وعشر الناس، وأمر على الأعشار رجالًا من الناس لهم وسائل في الإسلام، وولى الحروب رجالًا، فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وطلائعها ورجلها وركبانها، فلم بفصل إلا على تعبية، ولم بفصل منها إلا بكتاب عمر وإذنه؛ فأما أمراء التعبية، فاستعمل زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الحوية بن مرثد بن معاوية بن معن بن مالك بن أرثم بن جشم بن الحارث الأعرج؛ وكان ملك هجر قد سوده في الجاهلية، ووفده على النبي ﷺ، فقدمه، ففصل بالمقدمات بعد الإذن من شراف؛ حتى انتهى إلى العذيب، واستعمل على الميمنة عبد الله بن المعتم، وكان من أصحاب النبي ﷺ، فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة؛ فكانوا عرافة، واستعمل على الميسرة شرحبيل بن السمط بن شرحبيل الكندي - وكان غلامًا شابًا، وكان قد قاتل أهل الردة، ووفى الله، فعرف ذلك له، وكان قد غلب الأشعث على الشرف فيما بين المدينة؛ إلى أن اختلطت الكوفة وكان أبوه ممن تقدم إلى الشأم مع أبي عبيدة بن الجراح - وجعل خليفة خالد ابن عرفطة، وجعل عاصم بن عمرو التيمي ثم العمري على الساقة، وسواد بن مالك التيمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة، وعلى الرجل حمال بن مالك الأسدي، وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي، فكان أمراء التعبية يلون الأمير، والذين يلون أمراء الأعشار، والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات، والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رءوس القبائل وقالوا جميعًا: لا يستعين أبو بكر في الردة ولا على الأعاجم بمرتد، واستنفرهم عمر ولم يول منهم أحدًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد وعمرو بإسنادهم، وسعيد بن المرزبان، قالوا: بعث عمر الأطبة، وجعل على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور، وجعل إليه الأقباص وقسمة الفئ، وجعل داعيتهم ورائدهم سلمان الفارسي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي؛ قال: والترجمان هلال الهجري والكاتب زياد بن أبي سفيان. فملا فرغ سعد من تعبيته، وعد لكل شئ من أمره جماعًا ورأسًا، كتب بذلك إلى عمر، وكان من أمر سعد فيما بين كتابه إلى عمر بالذي جمع عليه الناس وبين رجوع جوابه ورحله من شراف إلى القادسية قدوم المعنى بن حارثة وسلمى بنت خصفة التيمية؛ تيم اللات، إلى سعد بوصية المثنى، وكان قد أوصى بها، وأمرهم أن يعجلوها على سعة بزرود، فلم يفرغوا لذلك وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر؛ وذلك أن الآزاذمرد بن الآزاذبه بعثه إلى القادسية، وقال له: ادع العرب، فأنت على من أجابك، وكن كما كان آباؤك. فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعيدًا. فملا انتهى إلى المعنى خبره، اسرى المعنى من ذي قار حتى بيته، فأنامه ومن معه، ثم رجع إلى ذي قار، وخرج منها هو وسلمى إلى سعد بوصية المثنى بن حارثة ورأيه، فقدموا عليه وهو بشراف، يذكر فيها أن رأيه لسعد ألا يقاتل عدوه وعدوهم - يعني المسلمين - ومن أهل فارس؛ إذا استجمع أمرهم وملؤهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم؛ فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم؛ وإن تكن الأخرى فاءوا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم؛ إلى أن يرد الله الكرة عليهم.
فلما انتهى إلى سعد رأى المثنى ووصيته ترحم عليه، وأمر المعنى على عمله، وأوصى بأهل بيته خيرًا، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها؛ وكان في الأعشار كلها بضعة وسبعون بدرياُ، وثلثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة، فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، وثلثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة، في جميع أحياء العرب. وقدم على سعد وهو بشراف كتاب عمر بمثل رأى المثنى؛ وقد كتب إلى أبي عبيدة مع كتاب سعد؛ ففصل كتاباهما إليهما، فأمر أبا عبيدة في كتابه بصرف أهل العراق وهم ستة آلاف، ومن اشتهى أن يلحق بهم؛ وكان كتابه إلى سعد: أما بعد، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين؛ وتوكل على الله، واستعن به على أمرك كله؛ واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير، وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع - وإن كان سهلا - كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه؛ إلا أن توافقوا غيضًا من فيض، وإذا لقيم القوم أو أحد منهم فابدءوهم الشدة والضرب، وإياكم والمناظرة لجموعهم ولا يخدعنكم؛ فإنهم خدعة مكرة؛ أمرهم غير أمركم؛ إلا أن تجادوهم، وإذا انتهت إلى القادسية - والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لما دتهم، ولما يريدونه من تلك الآصل؛ وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر، وأنهار ممتنعة - فتكون مسالحك على أنقابها، ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر، والجزاع بينهما؛ ثم الزم مكانك فلا تبرحه؛ فإنهم إذا أحسوك أنغضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم؛ فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم لقتاله ونويتم الأمانة؛ رجوت أن تنصروا عليهم؛ ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبدًا إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم؛ فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم؛ ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل؛ حتى يأتى الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة.
وكتب إليه أيضًا باليوم الذي يرتحل فيه من شراف: فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس، وشرق بالناس وغرب بهم.
ثم قدم عليه كتاب جواب عمر: أما بعد، فتعاهد قبلك، وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما؛ والصبر الصبر؛ فإن المعونة تأتى من الله على قدر النية؛ والأحر على قدر الحسنة. والحذر الحذر على من أنت عليه وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، واكتب إلى أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؛ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم؛ فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأنى أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وارجه، ولا تدل بشئ. واعلم أن الله قد وعدكم. وتوكل لهذا الأمر بما لا خلف له؛ فاحذر أن تصرفه عنك، ويستندل بكم غيركم.
فكتب إليه سعد بصفة البلدان: إن القادسية بين الخندق والعتيق، وإن ما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين؛ فأما أحدهما فعلى الظهر، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يدعى الحضوض؛ يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة؛ وما عن يمين القادسية إلى الولجة فيض من فيوض مياههم. وإن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلى ألب لأهل فارس قد خفوا لهم، واستعدوا لنا. وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال منهم؛ فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا؛ ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم؛ وأمر الله بعد ماض؛ وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا؛ فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية.
فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك؛ واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن؛ فإنه خرابها إن شاء الله.
وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، ويدعون له معه، وللمسلمين عامة، فقدم زهرة سعد حتى عسكر بعذيب الهجانات، ثم خرج في أثره حتى ينزل على زهرة بعذيب الهاجنات، وقدمه، فنزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنظرة؛ وقديس يومئذ أسفل منها بميل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القعقاع بإسناده، قال: وكتب عمر إلى سعد: إني قد أقى في روعى أنكم إذا لقيم العدو هزكتمزهم، فاطرحوا الشك، وآثروا التقية عليه؛ فإن لاعب أحد منكم أحدًا من العجم بأمان أو قرفة بإشارة أو بلسان، فكان لا يدري الأعجمي ما كلمه به، وكان عندهم أمانًا؛ فأجروا ذلك له مجرى الأمان. وإياكم والضحك؛ والوفاء الوفاء! فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر الهلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم، وذهاب ريحكم، وإقبال ريحكم. واعلموا أنى أحذركم أن تكونوا شيئًا على المسلمين وسببًا لتوهينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن مسلم العكلى والمقدام بن أبي المقدام، عن أبيه، عن كرب بن أبي كرب العكلى - وكان في المقدمات أيام القادسية - قال: قدمنا سعد من شراف، فنزلنا بعذيب الهجانات ثم ارتحل؛ فلما نزل علينا بعذيب الهاجانات وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بن الحوية في المقامات، فلما رفع لنا العذيب - وكان من مسالحهم - استبنًا على بروجه ناسًا، فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلًا أو بين شرفتين إلا رأيناه، وكنا في سرعان الخيل، فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلًا، ثم أقدمنا على العذيب، فلما دنونا منه، خرج رجل يركض نحو القادسية، فانتهينا إليه، فدخلناه فإذا ليس فيه أحد؛ وإذا ذلك الرجل هو الذي كان يتراءى لنا على البروج وهو بين الشرف مكيدة، ثم انطلق بخبرنا، فطلبناه فأعجزنا، وسمع بذلك زهرة فاتبعنا، فلحق بنا وخلفنا واتبعه. وقال: إن أفلت الربئ أتاهم الخبر. فلحقه بالخندق فطعنه فجد له فيه، وكان أهل القادسية يتعجبون من شجاعة ذلك الرجل، ومن علمه بالحرب، لم يلحق به، ولم يصبه زهرة، ووجد المسلمون في العذيب رماحًا ونشابًا وأسفاطًا من جلود وغيرها، انتفع بها المسلمون. ثم بث الغازات، وسرحهم في جوف الليل، وأمرهم بالغارة على الحيرة، وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثي - وكان فيها الشماخ الشاعر القيسي في ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس - فسروا حتى جازوا السيلحين، وقطعوا جسرها يريدون الحيرة، فسمعوا جلبة وأزفلة، فأحجموا عن الإقدام، وأٌاموا كمينًا حتى يتبينوا، فما زالوا كذلك حتى جازوا بهم، فإذا خيول تقدم تلك الغوغاء، فتركوها فنفذت الطريق إلى الصنين، وإذا هم لم يشعروا بهم؛ وإنما ينتظرون ذلك العين لا يريدنهم، ولا يأبهون لهم، إنما همتهم الصنين؛ وإذا أخت آزاذ مردبن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين - وكان من أشرف العجم - فسار معها من يبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا؛ فلما انقطعت الخيل عن الزواف، والمسلمون كمين في النخل، فقصم صلبه، وطارت الخيل على وجوهها، وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع، ومعهم مالا يدري قيمته، ثم عاج واستاق ذلك، فصبح سعدًا بعذيب الهجانات بما أفاء الله على المسلمين، فكبروا تكبيرة شديدة. فقال سعد: أقسم بالله لقد كبرتم تكبيرة قوم عرفت فيهم العز، فقسم ذلك سعد على المسلمين فالخمس نفله، وأعطى المجاهدين بقيته، فوقع منهم موقعًا، ووضع سعد بالعذيب خيلًا تحوط الحريم، وانضم إليها حاطة كل حريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي، ونزل سعد القادسية، فنزل بقديس، ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم؛ وبعث بخبر سرية يكبر، وبنزوله قديسًا، فأقام بها شهرًا، ثم كتب إلى عمر: لم يوجه القوم غلينا أحدًا، ولم يسندوا حربًا إلى أحد علمناه، ومتى ما يبلغنا ذلك نكتب به؛ واستنصر الله، فإنا بمنحاة دنيا عريضة؛ دونها بأس شديد؛ قد تقدم إلينا في الدعاء إليهم، فقال: (ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد).
وبعث سعد في مقامه ذلك إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أنى ميسان فطلب غنمًا أو بقرًا فلم يقدر عليها، وتحصن منه من في الأفدان، ووغلوا في الآجام، ووغل حتى أصاب رجلًا على طف أجمة، فسأله واستد له على البقر والغنم، فحلف له وقال: لا أعلم؛ وإذا هو راعى ما في تلك الأجمة، فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء؛ فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر، فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أيامًا؛ وبلغ ذلك الحجاج في زمانه، فأرسل إلى نفر ممن شهدها أحدهم نذير بن عمرو والوليد بن عبد شمس وزاهر، فسألهم فقالوا: نعم، نحن سمعنا ذلك، ورأيناه واستقناها، فقال: كذبتم! فقالوا: كذلك؛ إن كنت شهدتها وغبنا عنها، فقال: صدقتم، فما كان الناس يقولون في ذلك؟ قالوا: آية تبشير يستدل بها على رضا الله، وفتح عدونا؛ فقال: والله ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء، قالوا: والله ما ندري ما أجنت قلوبهم؛ فأما ما رأينا فإنا لم نر قومًا قط أزهد في دنيا منهم، ولا أشد لها بغضًا؛ ما اعتد على رجل منهم في ذلك اليوم بواحدة من ثلاث؛ لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول؛ وكان هذا اليوم يوم الأباقر؛ وبث الغازات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما كانوا يستكفون به زمانًا، وبعث سعد عيونًا إلى أهل الحيرة وإلى صلوبا، ليعلموا له خبر أهل فارس؛ فرجعوا إليه بالخبر؛ بأن الملك قد ولى رستم بن الفرخزاذ الأزمنى حربه، وأمره بالعسكرة. فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به؛ واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالًا من أهل المنظرة والرأى والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم، وفلجًا عليهم؛ واكتب إلى كل يوم. ولما عسكر رستم بساباط كتبوا بذلك إلى عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة، عن بن سيرين، وإسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، قالا: لما بلغ سعدًا فصول رسم إلى ساباط، أقام في عسكره لاجتماع الناس؛ فأما إسماعيل فإنه قال: كتب إليه سعد أن رستم قد ضرب عسكره بساباط دون المدائن وزحف إلينا؛ وأما أبو ضمرة فإنه قال: كتب إليه أن رستم قد عسكر بساباط، وزحف إلينا بالخيول والفيول وزهاء فارس، وليس شئ أهم إلى ولا أنا له أكثر ذكرًا منى لما أحببت أن أكون عليه؛ ونستعين بالله، ونتوكل عليه، وقد بعثت فلانًا وفلانًا وهم ما وصفت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد بإسنادهما، وسعيد بن المرزبان؛ أن سعد بن أبي وقاص حين جاءه أمر عمر فيهم، جمع نفرًا عليهم نجار، ولهم آراء، ونفرًا لهم منظر؛ وعليهم مهابة ولهم آراء؛ فأما الذين عليهم نجار لهم آراء ولهم اجتهاد فالنعمان بن مقرن وبسر بن أبي رهم وحملة بن جوية الكناني وحنظلة بن الربيع التميمي وفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة بن البناش بن حبيب؛ وأمامن لهم منظر لأجسامهم؛ وعليهم مهابة ولهم آراء؛ فعطارد بن حاجب والأشعث بن قيس والحارث بن حسان وعاصم بن عمرو وعمرو بن معد يكرب والمغيرة بن شعبة والمعنى بن حارثة؛ فبعثهم دعاة إلى الملك.
حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو وائل: جاء سعد حتى نزل القادسية، ومعه الناس، قال: لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف أو نحو من ذلك، والمشركين ثلاثون ألفًا أو نحو ذلك: فقالوا لنا: لا يدى لكم ولا قوة ولا سلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا، قال: قلنا: لا نرجع؛ وما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا، ويقولون: دوك دوك، ويشيهونها بالمغازل. قال: فلما أبينا عليهم أن نرجع، قالوا: ابعثوا إلينا رجلًا منكم، عاقلًا يبين لنا ما جاء بكم؛ فقال المغيرة بن شعبة: أنا، فعبر إليهم، فقعد مع رستم على السرير، فنخروا وصاحوا، فقال: إن هذا لم يزدني رفعة، ولم ينقص صاحبكم، قال رستم: صدقت، ماجاء بكم؟ قال: إنا كنا قومًا في شر وضلالة؛ فبعث الله فينا نبيًا، فهدانا الله به ورزقنا على يديه؛ فكان مما رزقنا حبة زعمت تنبت بهذا البلد؛ فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبر لنا عن هذه، أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة، فقال رستم: إذًا نقتلكم، فقال: إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار؛ أو أديتم الجزية. قال: فلما قال: أديتم الجزية، نخروا وصالحوا، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم، فقال المغيرة: تعبرون غلينا أو نعبر إليكم؟ فقال رستم: بل نبد إليكم، فاستأخر المسلمون حتى عبر منهم من عبر، فحملوا عليهم فهزموهم.
قال حصين: فحدثني رجل منا يقال له عبيد بن جحش السلمى، قال: لقد رأيتنا وإنا لنطأ على ظهور الرجال، ما مسهم سلاح، قتل بعضهم بعضًا، ولقد رأينا أصبنا جرابًا من كافور، فحسبناه ملحًا لا نشك أنه ملح؛ فطبخنا لحمًا، فجعلنا نلقه في القدر فلا نجد له طعمًا، فمر بنا عبادي معه قميص فقال: يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم؛ فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه، هل لكم أن تأخذوا هذا القميص به؟ فأخذناه منه، وأعطيناه منا رجلًا يلبسه، فجعلنا نطيف به ونعجب منه، فلما عرفنا الثياب، إذا ثمن ذلك القميص درهمان. قال: ولقد رأيتني أقرب إلى رجل عليه سواران من ذهب، وسلاحه، فجاء فما كلمته حتى صربت عنقه.
قال: فانهزموا حتى انتهوا إلى الصراة؛ فطلبناهم فانهزموا حتى انتهوا إلى المدائن؛ فكان المسلمون بكوثى وكان مسلحة المشركين بدير المسلاخ، فأتاهم المسلمون فالتقوا، فهزم المشركون حتى نزلوا بشاطئ دجلة، فمنهم من عبر من كلواذى، ومنهم من عبر من أسفل المدائن، فحصروهم حتى ما يجدون طعامًا يأكلونه، إلا كلابهم وسنانيرهم. فخرجوا ليلًا، فلحقوا بجلولاء فأتاهم المسلمون؛ وعلى مقدمة سعد هاشم بن عتبة، وموضع الوقعة التي ألحقهم منها فريد. قال أبو وائل: فبعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على أهل الكوفة، ومجاشع بن مسعود على أهل البصرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، وطلحة عن المغيرة، قالوا: فخرجوا من العسكر حتى قدموا المدائن احتجاجًا ودعاة ليزدجرد، فطووا رستم، حتى انتهوا إلى باب يزدجرد، فوقفوا على خيول عروات، معهم جنائب، وكلها صهال، فاستأذنوا فحبسوا، وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه يستشيرهم فيما يصنع بهم، ويقوله لهم، وسمع بهم الناس فحضروهم ينظرون إليهم، وعليهم المقطعات والبرود، وفي أيديهم سياط دقاق، وفي أرجلهم النعال. فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فأدخلوا عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن بنت كيسان الضبية، عن بعض سبايا القادسية ممن حسن إسلامه، وحضر هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب. قال: وثاب إليهم الناس ينظرون إليهم؛ فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم، وخيلهم تخبط ويوعد بعضها بعضًا. وجلع أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم؛ فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس؛ وكان سيئ الأدب، فكان أول شئ دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان بينه وبينهم فقال: سلهم ما يسمون هذه الأردية؟ فسأل النعمان - وكان على الوفد: ما تسمى رداءك؟ قال: البرد، فتطير وقال بردجهان، وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم. ثم قال: سلهم عن أحذيتهم، فقال: ما تسمون هذه الحذية؟ فقال: النعال، فعاد لمثلها، فقال: ناله ناله في أرضنا، ثم سأله عن الذي في يده فقال: سوط، والسوط بالفارسية الحريق، فقال: أحرقوا فارس أحرقهم الله! وكان تطيره على أهل فارس، وكانوا يجدون من كلامه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، بمثله وزاد: ثم قال الملك: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا أجممناكم، وتشاغلنا عنكم، اجترأتم علينا! فقال لهم النعمان بن مقرن: إن شئتم أجبت عنكم؛ ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم، وقالوا للملك: كلام هذا الرجل كلامنا. فتكلم النعمان، فقال: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة؛ فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين؛ فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص. فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب؛ وبدأ بهم وفعل؛ فدخلوا معه جميعًا على وجهين: مكروه عليه فاغتبط؛ وطائع أتاه فازداد؛ فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كما عليه من العداوة والضيق؛ ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء؛ فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم؛ وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم؛ وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم؛ قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى فيكفونناكم. لا تغزون فارس ولا تطعمون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم؛ وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم.
فأسكت القوم. فقام المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدى، فقال أيها الملك، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم؛ وهم أشراف يستحيون من الأشراف؛ وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك؛ فجاوبني لأكون الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك؛ إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأنا ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات؛ فنرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأل من طعامنا؛ فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك؛ فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا، نعرف نسبة، ونعرف وجهه ومولده؛ فأرضه خير أرضنا، وحسبة خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا؛ وقبيلته خير قبائلنا؛ وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي فيها أصدقنا وأحملنا؛ فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد قبل ترب كان له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصثديق له واتباعه؛ فصار فيما بيننا وبين رب العالمين؛ فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله؛ فقال لنا: إن ربكم يقول: إني أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شئ، وكل شئ هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شئ، وإلى يصير كل شئ، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري؛ دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبي فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوا مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبي فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم. فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من نأوأه؛ فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر؛ وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجى نفسك. فقال: أتستقبلني بمثل هذا! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أأستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم؛ لا شئ لكم عندي، وقال: ائتوني بوقر من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن؛ ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنى مرسل إليكم رستم حتى يدفيكم ويدفيه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم، حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
ثم قال: من أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو - وافتأت ليأخذ التراب: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملينه، فقال: أكذاك؟ قالوا: نعم فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها؛ ثم انجذب في السير، فأتوا به سعدًا وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه، فقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله. ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبر الخبر فقال: أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم.
وجاء أصحابه وجعلوا يزدادون في كل يوم قوة، ويزداد عدوهم في كل يوم وهنًا، واشتد ما صنع المسلمون، وصنع الملك من قبول التراب على جلساء الملك، وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم، وكيف رآهم، فقال الملك: ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا على وما أنتم بأعقل منهم، ولا أحسن جوابًا منهم؛ وأخبره بكلام متكلمهم، وقال: لقد صدقني القوم، لقد وعد القوم أمرًا ليدركنه أو ليموتن عليه، على أنى قد وجدت أفضلهم أحمقهم، لما ذكروا الجزية أعطيته ترابًا فحمله على رأسه، فخرج به، ولو شاء أتقى بغيره؛ وأنا لا أعلم.
قال: أيها الملك، إنه لأعقلهم، وتطير إلى ذلك، وأبصرها دون أصحابه.
وخرج رستم من عنده كئيبًا غضبان - وكان منجمًا كاهناُ - فبعث في أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزوه سلبكم الله أرضكم وأبناءكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك، ماكان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا؟ فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظًا. وأغاروا بعدما خرج الوفد إلى يزدجرد، إلى أن جاءوا إلى صيادين قد اصطادوا سمكًا، وسار سواد بن مالك التيمي إلى النجاف والفراض إلى جنبها، فاستاق ثلثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور، فأوقروها سمكًا، واستاقوها، فصبحوا العسكر، فقسم السمك بين الناس سعد، وقسم الدواب، ونفل الخمس إلا ما رد على المجاهدين منه، وأسهم على السبى؛ وهذا يوم الحيتان، وقد كان الآزاذ مرد بن الآزاذبه خرج في الطلب، فعطف عليه سواد وفوارس معه، فقاتلهم على قنطرة السليحين؛ حتى عرفوا أن الغنيمة قد نجت، ثم اتبعوها فأبلغوها المسلمين، فكانوا قد اكتسبوا منها ما اكتفوا به لو أقاموا زمانًا؛ فكانت السرايا إنما تسرى للحوم، ويسمون أيامها بها، ومن أيام الحم يوم الأباقر ويم الحيتان. وبعث مالك بن ربيعة بم خالد التيمي؛ تيم الرباب، ثم الواثلي ومعه المساور بن النعمان التيمي ثم الربيعي في سرية أخرى؛ فأغاروا على الفيوم؛ فأصابا إبلًا لبني تغلب والنمر فشلاها ومن فيها، فغدوا بها على سعد فنحرت الإبل في الناس. وأخصبوا، وأغار على النهرين عمرو بن الحارث، فوجدوا على باب ثوراء مواشي كثيرة، فسلكوا أرض شيلى - وهي اليوم نهر زياد - حتى أتوا بها العسكر.
وقال عمرو: ليس بها يومئذ إلا نهران. وكان بين قدوم خالد العراق ونزول سعد القادسية سنتان وشئ. وكان مقام سعد بها شهرين وشيئًا حتى ظفر.
وقال - والإسناد الأول -: وكان من حديث فارس والعرب بعد البويب أن الأنوشجان بن الهربذ خرج من سواد البصرة يريد أهل غض، فاعترضه أربعة نفر على أفناء تميم؛ وهم بإزائهم: المستورد وهو على الرباب، وعبد الله بن زيد يسانده؛ الرباب بينهما، وجزء بن معاوية وابن النابغة يسانده؛ سعد بينهما، والحصين بن نيار والأعور بن يشامة يسانده على عمرو، والحصين بن معبد والشبه على حنظلة، فقتلوه دونهم. وقدم سعد فانضموا إليه هم وأهل غضى وجميع تلك الفرق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: وعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار، وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب، وإن فعل العرب مذ نزلوا القادسية لا يبقى عليه شئ؛ وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات؛ وليس فيما هنالك أنيس إلا في الحصون، وقد ذهب الدواب وكل شئ لم تحتمله الحصون من الأطعمة، ولم يبق إلا أن يستنزلونا، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف، وأعانهم عليه، وهيجوه على بعثه رستم.
ولما بدا ليزدجرد أن يرسل رستم أرسل إليه، فدخل عليه، فقال له: إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه؛ وإنما يعد للأمور على قدرها، وأنت رجل أهل فارس اليوم، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم مثله منذ ولى آل أردشير. فأراه أن قد قبل منه، وأثنى عليه.
فقال له الملك: قد أحب أن أنظر فيما لديك لأعرف ما عندك، فصف لي العرب وفعلهم منذ نزلوا القادسية، وصف لي العجم وما يلقون منهم.
فقال رستم: صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت. فقال: ليس كذلك؛ إني إنما سألتك رجاء أن تعرب صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب، فافهم عنى؛ إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفى على جبل يأوى إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير، فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شئ اختطفه، فلما أبصرته الطير لم تنهض من مخافته؛ وجعلت كلما شذ منها طائر اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته؛ وأشد شئ يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحدًا؛ وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت؛ فهذا مثلهم ومثل الأعاجم؛ فاعمل على قدر ذلك. فقال له رستم: أيها الملك، دعني؛ فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضرهم بي؛ ولعل الدولة أن تثبت بي فيكون الله قد كفى، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب؛ فإن الرأى فيها والمكيدة أنفع من بعض الظفر. فأبى عليه، وقال: أي شئ بقى! فقال رستم: إن للأناة في الحرب خير من العجلة، والأناة اليوم موضع، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا. فلج وأبى، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط، وجعلت تختلف إلى الملك الرسل ليرى موضعًا لإعفائه وبعثه غيره، ويجتمع إليه الناس. وجاء العيون إلى سعد بذلك من قبل الحيرة وبني صلوبا، وكتب إلى عمر بذلك. ولما كثرت الاستغاثة على يزدجر من أهل السواد على يدى الآزاذ به جشعت نفسه واتقى الحرب برستمر، وترك الرأي - وكان ضيفًا لجوجًا - فاستحث رستم، فأعاد عليه رستم القول، وقال: أيها الملك؛ لقد اضطرني تضييع الرأى إلى إعظام نفسي وتزكيتها؛ ولو أجد من ذلك بدًا لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وأهلك وملكك؛ دعنى أقم بعسكري وأسرح الجالنوس؛ فإن تكن لنا فذلك؛ وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره، حتى إذا لم نجد بدًا ولا حيلة صبرنا لهم؛ وقد وهنا هم وحسرناهم ونحن جامون. فأبى إلا أن يسير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري الضبى، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم بساباط، وجمع آله الحرب وأداتها بعث على مقدمته الجالنوس في أربعين ألفًا، وقال: ازحف زحفًا، ولا تنجذب إلا بأمري؛ واستعمل على ميمنته الهرمزان، وعلى ميسرته مهران بن بهران الرازي، وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم ليشجع الملك: إن فتح الله علينا القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم، إلى أن يقبلوا المسالمة أو يرضوا بما كانوا يرضون به. فلما قدمت وفود سعد على الملك، ورجعوا من عنده رأى رستم فيما يرى النائم رؤيا فكرهها، وأحس بالشر، وكره لها الخروج ولقاء القوم، واختلف عليه رأيه واضطرب،. وسأل الملك أن يمضى الجالنوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون، وقال: إن غناء الجالنوس كغنائي، وإن كان اسمي أشد عليهم من اسمه، فإن ظفر فهو الذي نريد، وإن تكن الأخرى وجهت مثله، ودفعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما؛ فإني لا أزال مرجوًا في أهل فارس، ما لم أهزم ينشطون، ولا أزال مهيبًا في صدرور العرب؛ ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم؛ فإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم. فبعث مقدمته أربعين ألفًا؛ وخرج في ستين ألفًا، وساقته في عشرين ألفًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم؛ قالوا: وخرج رستم في عشرين ومائة ومائة ألف، كلهم متبوع، وكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف، وخرج من المدائن في ستين ألف متبوع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رستم زحف لسعد وهو بالقادسية في ستين ألف متبوع.
كتب إلي السري عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما أبى الملك إلا السير، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس أهل بلادهم: من رستم إلى البندوان مرزبن الباب، وسهم أهل، الذي كان لكل كون يكون، فيفض الله به كل جند عظيم شديد، ويفتح به كل حصن حصين، ومن يليه؛ فرموا حصونكم، وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم، وقارعكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأي مدافتهم ومطاولتهم حتى تعود سعود هم نحوسًا؛ فأبى الملك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصلت بن بهرام، عن رجل؛ أن يزدجرد لما أمر رستم بالخروج من ساباط، كتب إلى أخيه بنحو من الكتاب الأول، وزاد فيه: فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، وحسنت الزهرة، واعتل الميزان، وذهب بهرام؛ ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا، ويستولون على ما يلينا. وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسير إليهم أنا بنفسي. فأنا سائر إليهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى، وكان من أهل فرات بادقلى، فأرسل إليه فقال: ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه، وكان رستم يعلم نحوًا من علمه، فثقل عليه مسيره لعلمه، وخف على الملك لما غره منه، وقال: إني أحب أن تخبرني بشئ أراه أطمئن به إلى قولك، فقال الغلام لزرنا الهندي: أخبره، فقال: سلنى، فسأله فقال: أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شئ في فيه ها هنا - وخط دارة - فقال العبد: صدق، والطائر غراب، والذي في فيه درهم. وبلغ جابان أن الملك طلبه، فأقبل حتى دخل عليه، فسأله عما قال غلامه، فحسب فقال: صدق ولم يصب؛ هو عقيق، والذي في فيه درهم، فيقع منه على هذا المكان، وكذب زرنا. ينزو الدرهم فيستقر ها هنا - ودور دارة أخرى - فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق، فسقط منه الدرهم في الخط الأول، فنزا فاستقر في الخط الآخر ونافر الهندي جابان حيث خطأه؛ فأتيا ببقرة نتوج؛ فقال الهندي: سخلتها غراء سوداء، فقال جابان: كذبت، بل سوداء صبغاء، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها، فإذا هي ذنبها بين عينيها، فقال جابان: من ها هنا أتى زرنا، وشجعاه على إخراج رستم، فأمضاه، وكتب جابان إل جشنسماه: إن أهل فارس قد زال أمرهم، وأديل عدوهم عليهم، وذهب ملك المجوسية، وأقبل ملك العرب، وأديل دينهم؛ فاعتقد منهم الذمة، ولا تخلبنك الأمور، والعجل العجل قبل أن تؤخذ! فلما وقع الكتاب إليه خرج جشنسماه إليهم حتى أتى المعنى؛ وهو في خيل بالعتيق، وأرسله إلى سعد، فاعتقد منه على نفسه وأهل بيته ومن استجاب له ورده، وكان صاحب أخبارهم. وأهدى للمعنى فالوذق، فقال لأمرأته: ما هذا؟ فقالت: أظن البائسة امرأته أراغت العصيدة فأخطأتها، فقال المعنى: بؤسًا لها! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد وعمرو بإسنادهم، قالوا: لما فصل رستم من ساباط، لقيه جابان على القنطرة، فشكا إليه، وقال: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: أما أنا فأقاد بخشاش وزمام، ولا أجد بدًا من الإنقياد. وأمر الجالنوس حتى قدم الحيرة؛ فمضى واضطرب فسطاطه بالنجف، وخرج رستم وأمر الجالنوس حتى ينزل بكوني، وكتب إلى الجالنوس والآززاذ مرد: أصيبا لي رجلًامن العرب من جند سعد فركبا بأنفسهما طليعة فأصابا رجلًا، فبعثا به إليه وهو بكوثى فاستخبره، ثم قتله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما فصل رستم، وأمر الجالنوس بالتقدم إلى الحيرة، أمره أن يصيب له رجلًا من العرب، فخرج هو والآزاذ مرد سرية في مائة؛ حتى انتهيا إلى القادسية، يفأصابا رجلًا دون قنطرة القادسية فاختطفاه، فنفر الناس فأعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم. فملا انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم، وهو بكوثى، فقال له رستم: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ قال: جئنا نطلب موعود الله، قال: وما هو؟ قال: ارضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: في موعود الله أن من قتل منا قبل ذلك أدخله الجنة. وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك، فنحن على يقين. فقال رستم: قد وضعنا إذًا في أيديكم؛ قال: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها؛ فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الإنس؛ وإنما تحاول القضاء والقدر! فاستشاط غضبًا؛ فأمر به فضربت عنقه، وخرج رستم من كوثى؛ حتى ينزل ببرس، فغضب أصحابه الناس أموالهم ووقعوا على النساء، وشربوا الخمور. فضج العلوج إلى رستم، وشكوا إليه ما يلقون في أموالهم وأبنائهم. فقام فيهم، فقال: يا معشر أهل فارس، والله لقد صدق العربي؛ والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم. إن الله كان ينصركم على العدو، ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهود والإحسان؛ فأما إذ تحولتم عن ذلك إلى هذه الأعمال، فلا أرى الله إلا مغيرًا ما بكم، وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم. وبعث الرجال؛ فلقطوا له بعض من يشكى فأتى بنفر، فضرب أعناقهم، ثم ركب ونادى في الناس بالرحيل، فخرج ونزل بحيال أهل دير الأعور، ثم انصب إلى المطاط؛ فعسكر مما يلي الفرات بحيال أهل النجف بحيال الخورنق إلى الغريين، ودعا بأهل الحيرة، فأوعدهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا اثنتين: أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على الدفع عن أنفسنا وبلادنا. فسكت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، والمقدام الحارثى عمن ذكره، قالا: دعا رستم أهل الحيرة وسرادقه إلى جانب الدير، فقال: يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيونًا لهم علينا، وقويتموهم بالأموال! فاتقوه بابن بقيلة، وقالوا له: كن أنت الذي تكلمه، فتقدم، فقال: أما أنت وقولك: إنا فرحنا بمجيئهم. فماذا فعلوا؟ وبأى ذلك من أمورهم نفرح! إنهم ليزعمون أنا عبيد لهم، وما هم على ديننا؛ وإنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار. وأما قولك: إنا كنا عيونًا لهم، فما الذي يحوجهم إلى أن نكون عيونًا لهم، وقد هرب أصحابكم منهم، وخلوا لهم القرى! فليس يمنعهم أحد من وجه ارادوه؛ إن شاءوا أخذوا يمينًا أو شكالًا. وأما قولك: إنا قويناهم بالأموال؛ فإنا صانعناهم بالأموال عن أنفسنا؛ وإذ لم تمنعونا مخافة أن نسبى وأن نحرب، وتقتل مقاتلتنا - وقد عجز منهم من لقيهم منكم - فكنا نحن أعجز؛ ولعمري لأنتم أحب إلينا منهم؛ وأحسن عندنا بلاء، فامنعونا منهم لكن لكم أعوانًا؛ فإنما نحن بمنزلة علوج السواد، عبيد من غلب. فقال رستم: صدقكم الرجل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: رأى رستم بالدير أن ملكًا جاء حتى دخل عسكر فارس، فختم السلاح أجمع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وأصحابه؛ وشاركهم النضر بإسناده، قالوا: ولما اطمأن رستم أمر الجالنوس أن يسير من النجف، فسار في المقدمات، فنزل فيما بين النجف والسيلحين، وارتحل رستم، فنزل النجف - وكان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته بساباط وزحفه منها إلى أن لقى سعدًا أربعة أشهر، ولا يقدم ولا يقاتل - رجاء أن يضجروا بمكانهم، وأن يجهدوا فينصرفوا، وكره قتالهم مخافة أن يلقى ما لقى من قبله. وطالهم لولا ماجعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه؛ حتى أقحمه؛ فملا نزل رستم النجف عادت عليه الرؤيا، فرأى ذلك الملك ومعه النبي ﷺ وعمر، فأخذ الملك سلاح أهل فارس، فختمه، ثم دفعه إلى النبي ﷺ فدفعه النبي ﷺ إلى عمر. فأصبح رستم، فازداد حزنًا، فملا رأى الرفيل ذلك رغب في الإسلام؛ فكانت داعيته إلى اٌسلام، وعرف عمر أن القوم سيطاولونهم، فعهد إلى سعد وإلى المسلمين أن ينزلوا حدود أرضهم، وأن يطالوهم أبدًا حتى ينغضوهم، فنزلوا القادسية، وقد وطنوا أنفسهم على الصبر والمطاولة، وأبى الله إلا أن يتم نوره، فأقاموا واطمأنوا، فكانوا يغيرون على السواد، فانتسفوا ما حولهم فحووه وأعدوا للمطاولة؛ وعلى ذلك جاءوا، أو يفتح الله عليهم. وكان عمر يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون؛ فلما رأى ذلك الملك ورستم وعرفوا حالهم، وبلغهم عنهم فعلهم؛ علم أن القوم غير منتهين، وأنه إن أقام لم يتركوه؛ فرأى أن يشخص رستم، ورأى رستم أن ينزل بين العتيق والنجف، ثم يطالولهم مع المنازلة، ورأى أن ذلك أمثل ما هم فاعلون، حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم، أو تدور لهم سعود.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وجعلت السرايا تطوف، ورستم بالنجف والجالنوس بين النجف والسيلحين وذو الحاجب بين رستم والجالنوس، والهرمزان ومهران على مجنبتيه، والبيرزان على ساقته وزاد بن بهيش صاحب فرات سريا على الرجالة؛ وكنارى على المجردة؛ وكان جنده مائة وعشرين ألفًا، وستين ألف متبوع مع الرجل الشاكرى، ومن الستين ألفًا خمسة عشر ألف شريف متبوع، وقد تسلسلوا وتقارنوا لتدور عليهم رحى الحرب.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بن طريف، قال: قال الناس لسعد: لقد ضاق بنا المكان؛ فأقدم، فزبر من كلمه بذلك، وقال: إذا كفيتم الرأى، فلا تكلفوا؛ فإنا لن نقدم إلا على رأى ذوى الرأى، فاسكتوا ما سكتنا عنكم وبعث طليحة وعمرًا في غير خيل كالطليعة، وخرج سواد وحمضية في مائة مائة؛ فأغاروا على النهرين؛ وقد كان سعدنها هما أن يمنعا، وبلغ رستم، فأرسل إليهم خيلًا، وبلغ سعدًا أن خيله قد وغلت: فدعا عاصم بم عمرو وجابرًا الأسدي، فأرسلهما في آثارهما يقتصانها، وسلكا طريقهما، وقال لعاصم: إن جمعكم قتال فأنت عليهم، فلقيهم بين النهرين وإصطيميا؛ وخيل أهل فارس محتوشتهم، يريدون تخلص ما بين أيديهم؛ وقد قال سواد لحمضية: أختر؛ إما أن تقيم لهم وأستاق الغنيمة، أو أقيم لهم وتستاق الغنيمة. قال: أقم لهم ونهنههم عنى، وأنا أبلغ لك الغنيمة؛ فأقام لهم سواد، وانجذب حمضية، فلقيه عاصم بن عمرو، فطن حمضية أنها خيل للأعاجم أخرى، فصد عنها منحرفًا؛ فلما تعارفوا ساقها؛ ومضى عاصم إلى سواد - وقد كان أهل فارس تنقذوا بعضها - فلما رأت الأعاجم عاصمًا هربوا، وتنقذ سواد ما كانوا ارتجعوا؛ فأتوا سعدًا بالفتح والغنائم والسلامة؛ وقد خرج طليحة وعمرو؛ فأما طليحة فأمره بعسكر رستم، وأما عمرو فأمره بعسكر الجالنوس؛ فخرج طليحة وحده، وخرج عمرو في عدة، فبعث قيس بن هبيرة في آثارهما؛ فقال: إن لقيت قتالًا فأنت عليهم - وأراد إذلال طليحة لمعصيته، وأما عمرو فقد أطاعه - فخرج حتى تلقى عمرًا، فسأله عن طليحة، فقال: لا علم لي به، فلما انتهينا إلى النجف من قبل الجوف، قال له قيس: ما تريد؟ قال: أريد أن أغير على أدنى عسكرهم؛ قال: في هؤلاء! قال: نعم، قال: لا أدعك والله وذاك! أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال: وما أنت وذاك! قال: إني أمرت عليك؛ ولو لم أكن أميرًا لم أدعك طليحة إذا اجتمعتم، فقال عمرو: والله يا قيس؛ إن زمانًا تكون على فيه أميرًا لزمان سوء! لأن أرجع عن دينكم هذا إلى ديني الذي كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلى من أن تتأمر على ثانية. وقال: لئن عاد صاحبك الذي بعثك لمثلها لنفارقنه؛ قال: ذاك إليك بعد مرتك هذه، فرده؛ فرجعا إلى سعد بالخبر. وبأعلاج وأفراس، وشكاكل واحد منهما صاحبه؛ أما قيس فشكا عصيان عمرو، وأما عمرو، فشكا غلظة قيس، فقال سعد: يا عمرو، الخبر والسلامة أحب إلى من مصاب مائة بقتل ألف، أتعمد إلى حلبة فارس فتصاد مهم بمائة إن كنت لأراك أعلم بالحرب مماأرى. فقال: إن الأمر لكما قلت؛ وخرج طليحة حتى دخل عسكرهم في ليلة مقمرة، فتوسم فيه، فهتك أطناب بيت رجل عليه، واقتاد فرسه، ثم خرج حتى مر بعسكر ذي الحاجب، فهتك على رجل آخر بيته، وحل فرسه ثم دخل على الجالنوس عسكره فهتك على آخر بيته، وحل فرسه، ثم دخل على الجالنوس؛ فهتك على آخر بيته، وحل فرسه ثم حتى أتى الحرارة وخرج الذي كان بالنجف، والذي كان في عسكر ذي الحاجب فاتبعه الذي كان في عسكر الجالنوس، فكان أولهم لحاقًا به الجالنوس ثم الحاجبي، ثم النجفى؛ فأصاب الأولين، وأسر الآخر. وأتى به سعدًا فأخبره، وأسلم؛ فسماه سعد مسلمًا؛ ولزم طليحة؛ فكان معه في تلك المغازى كلها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن أبي عثمان النهدي، قال: كان عمر قد عهد إلى سعد جين بعثه إلى فارس؛ ألا يمر بماء من المياه بذي قوة ونجدة ورياسة إلا أشخصه؛ فإن أبي انتخبه، فأمره عمر، فقدم القادسية في اثني عشرألفًا من أهل الأيام، وأناس من الحمراء استجابوا للمسلمين، فأعانوهم؛ أسلم بعضهم قبل القتال، وأسلم بعضهم غب القتال، فأشركوا في الغنيمة، وفرضت لهم فرائض أهل القادسية: ألفين ألفين؛ وسألوا عن أمنع قبائل العرب، فعادوا تميمًا؛ فلما دنا وستم، ونزل النجف بعث سعد الطلائع؛ وأمرهم أن يصيبوا رجلا ليسأله عن أهل فارس؛ فخرجت الطلائع بعد اختلاف؛ فلما أجمع ملأ الناس أن الطليعة من الواحد إلى العشرة سمحوا فأخرج سعد طليحة في خمسة، وعمرو بن معد يكرب في خمسة؛ وذلك صبيحة قدم رستم الجالنوس وذا الحاجب؛ ولا يشعرون بفصولهم من النجف؛ فلم يسيروا إلا فرسخًا وبعض آخر؛ حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملئوها، فقال بعضهم: ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم؛ وهو يرى أن القوم بالنجف؛ فأخبروه الخبر، وقال بعضهم: ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم! فقال عمرو لأصحابه: صدقتم، وقال طليحة لأصحابه: كذبتم؛ ما بعثتم لتخبروا عن السرح، وما بعثتم إلا للخبر قالوا: فما تريد؟ قال: أريد أن أخاطر القوم أو أهلك، فقالوا: أنت رجل في نفسك غدر؛ ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن؛ فاجع بنا فأبى. وأتى سعدًا الخبر برحيلهم؛ فبعث قيس بن هبيرة الأسدي، وأمره على مائة، وعليهم إن هو لقيهم. فانتهى إليهم وقد افترقوا، فلما رآه عمرو قال: تجلدوا له، أروه أنهم يريدون الغارة؛ فردهم، ووجد طليحة قد فارقهم فرجع بهم. فأتوا سعدًا، فأخبروه بقرب القوم، ومضى طليحة، وعارض المياه على الطفوف؛ حتى دخل عسكر رستم، وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم؛ فلما أدبر الليل، خرج وقرأتي أفضل من توسم في ناحية العسكر، فإذا فرس له لم ير في خيل القوم مثله، وفسطاط أبيض لم ير مثله؛ فانتضى سيفه، فقطع مقود الفرس، ثم ضمه إلى مقود فرسه، ثم حرك فرسه، فخرج يعدو به، ونذر به الناس والرجل، فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول، وعجل بعضهم أن يسرج، فخرجوا في طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند، فلما غشيه وبوأ له الرمح ليطعنه عدل طليحة فرسه، فندر الفارسي بين يديه، فكر عليه طليحة، فقصم ظهره بالرمج، ثم لحق له آخر، ففعل به مثل ذلك، ثم لحق به آخر؛ وقد رأى مصرع صاحبيه - وهما ابنا عمه - فازداد حنقًا، فلما لحق بطليحة، وبوأ له الرمح، عدل طليحة فرسه، فندر الفارسى أمامه، وكر عليه طليحة أن يركض؛ ودعاه إلى الإسار، فعرف الفارسي أنه قاتله فاستأسر، وأمره طليحة أن يركض بين يديه؛ ففعل. ولحق الناس فرأوا فارسى الجند قدقتلا وقد أسرى الثالث، وقد شارف طليحة عسكرهم، فأحجموا عنه، ونكسوا، وأقبل طليحة حتى غشى العسكر، وهم على تعبية، فأفرغ الناس، وجوزوه إلى سعد؛ فلما انتهى إليه، قال: ويحك ما وراءك! قال: دخلت عساكرهم وجستها منذ الليلة، وقد أخذت أفضلهم توسمًا، وما أدري أصبت أم أخطأت! وها هو ذا فاستخبره. فأقيم الترجمان بين سعد وبين الفارسي، فقال له الفارس: أتؤمننى على دمى إن صدقتك؟ قال: نعم، الصدق في الحرب أحب إلينا من الكذب، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي؛ باشرت الحروب وغشيتها، وسمعت بالأبطال ولقيتها؛ منذ أنا غلام إلى أن بلغت ما ترى، ولم أر ولم أسمع بمثل هذا؛ أم رجلًا قطع عسكرين لا يجترى عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفًا، يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة إلى ما هو دون؛ فلم يرض أم يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند؛ وهتك أطناب بيته فأنذروه، فأنذرنا به، فطلبناه، فأدركه الأول وهو فارس الناس، يعدل ألف فارس فقتله، فأدركه الثاني وهو نظيره فقتله، ثم أدركته، ولا أظن أنني خلقت بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين، وهما ابنا عمي، فرأيت المونت فاستأسرت. ثم أخبره عن أهل فارس؛ بأن الجند عشرون ومائة ألف، وأن الأتباع مثلهم خدام لهم. وأسلم الرجل وسماه سعد مسلمًا، وعاد إلى طليحة، وقال: لا والله، لا تهزمون ما دمتم على ما أرى من الوفاءوالصدق والإصلاح والمؤاساة؛ لا حاجة لي في صحبة فارس؛ فكان من أهل البلاء يومئذ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بنطريف، قال: قال سعد لقيس بن هبيرة الأسدي: اخرج يا عاقل، فإنه ليس وراءك من الدنيا شئ تحنو عليه حتى تأتينى بعلم القوم. فخرج وسرح عمرو بن معد يكرب وطليحة؛ فلما حاذى القنطرة لم يسر إلا يسيرًا حتى لحق، فانتهى إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم، فإذا رستم قد ارتحل من النجف، فنزل منزل ذي الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل ذو الحاجب منزله، والجالنوس منزله، والجالنوس يريد طيزنا باذ؛ فنزل بها، وقدم تلك الخيل. وإن ما خمل سعدًا على إرسال عمرو وطليحة معه لمقالة بلغته عن عمرو، وكلمة قالها لقيس بن هبيرة قبل هذه المرة، فقال: قاتلوا عدوكم يا معشر المسلمين. فأنشب القتال، وطاردهم ساعة. ثم إن قيسًا حمل عليهم، فكانت هزيمتهم، فأصاب منهم اثني عشر رجلًا، وثلاثة أسراء، وأصاب أسلابًا، فأتوا بالغنيمة سعدًا وأخبروه الخبر؛ فقال: هذه بشرى إن شاء الله؛ إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم؛ فلهم أمثالهم، ودعا عمرا وطليحة، فقال: كيف رأيتما قيسًا؟ فقال طليحة: رأيناه أكمانا، وقال عمرو: الأمير أعلم بالرجال منا. قال سعد: إن الله تعالى أحيانًا بالإسلام وأحيا به قلوبًا كانت ميتة، وأمات به قلوبًا كانت حية، وإني أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على الإسلام؛ فتموت قلوبكما وأنتما حيان؛ الزما السمع والطاعة والإعتراف بالحقوق؛ فما رأى الناس كأقوام أعزهم الله بالإسلام.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد؛ وشاركهم المجالد وسعيد بن المرزبان، قالوا: فلما أصبح رستم من الغد من يوم نزل السيلحين قدم الجالنوس وذا الحاجب، فارتحل الجالنوس، فنزل من دون القنطرة بحيال زهرة، ونزل إلى صاحب المقدمة، ونزل ذو الحاجب؛ منزله بطرنا باذ، ونزل رستم منزل ذي الحلجب بالحرارة ثم قدم ذا الحاجب فلما انتهى إلى العتيق تياسر حتى إذا كان بحيال قديس خندق خندقًا، وارتحل الجالنوس فنزل عليه وعلى مقدمته - أعني سعدًا - زهرة بن الحوية، وعلى مجنبتيه عبد الله بن المعتم، وشرحبيل بن السمط الكندي، وعلى مجردته عاصم بن عمرو، وعلى المرامية فلان، وعلى الرجل فلان، وعلى الطلائع سواد بن مالك، وعلى مقدمة رستم الجالنوس، وعلى مجنبتيه الهرمزان ومهران وعلى مجردته ذو الحاجب، وعلى الطلائع البيرزان، وعلى الرجالة زاذ بن بهيش. فملا انتهى رستم إلى العتيق، وقف عليه بحيال عسكر سعد؛ ونزل الناس؛ فما زالوا يتلاحقون وينزلولهم فينزلون؛ حتى أعتموا من كثرتهم؛ فبات بها تلك الليلة والمسلمون ممسكون عنهم.
قال سعيد بن المرزبان: فلما أصبحوا من ليلتهم بشاطئ العتيق غدا منجم رستم على رستم برؤيا أريها من الليل، قال: رأيت الدلو في السماء؛ دلوًا أفرغ ماؤه، ورأيت السمكة؛ سمكة في ضحضاح من الماء تضطرب، ورأيت النعائم والزهرة تزدهر، قال: ويحك! هل أخبرت أحدًا؟ قال: لا، قال: فاكتمها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان رستم منجمًا، فكان يبكي مما يرى ويقدم عليه، فلما كان بظهر الكوفة رأى أن عمر دخل عسكر فارس، ومعه ملك، فختم على سلاحهم، ثم حزمه ودفعه إلى عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم - وكان قد شهد القادسية - قال: كان مع رستم ثمانية عشر فيلًا، ومع الجالنوس عشر فيلا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي؛ قال: كان مع رستم يوم القادسية ثلاثون فيلا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن رجل، قال: كان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلا؛ منها فيل سابور الأبيض؛ وكانت الفيلة تألفه، وكان أعظمها وأقدمها.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، معه في القلب ثمانية عشر فيلًا، ومعه المجنبتين خمسة عشر فيلا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وسعيد وطلحة وعمرو وزياد، قالوا: فلما أصبح رسم من ليلته التي باتها بالعتيق، أصبح راكبًا في خيله، فنظر إلى المسلمين، ثم صعد نحو القنطرة، وقد حزر الناس، فوقف بحيالهم دون القنظرة؛ وأرسل إليهم رجلًا؛ إن رستم يقول لكم: أرسلوا إلينا رجلًا نكلمه ويكلمنا، وانصرف فأرسل زهرة إلى سعد بذلك؛ فأرسل إليه المغيرة بن شعبة، فأخرجه زهرة إلى الجالنوس؛ فأبلغه الجالنوس رستم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم على العتيق وبات به، أصبح غاديًا على التصفح والحزر، فساير العتيق نحو خفان؛ حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة؛ فتأمل القوم؛ حتى أتى على شئ يشرف منه عليهم؛ فلما وقف على القنطرة راسل زهرة، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جعلًا على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول فيما يقول: انتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا؛ فكنا نحسن جوارهم، ونكف الأذى عنهم، ونوليهم المرافق الكثيرة، نحفظهم في أهل باديتهم؛ فنزعيهم مراينا، ونميرهم من بلادنا، ولا نمنعهم من التجارة في شئ من أرضنا؛ وقد كان لهم في ذلك معاش - يعرض لهم بالصلح؛ وإنما يخبره بصنيعهم، والصلح يريد ولا يصرح - فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر؛ وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا. إنا لم نأتكم لطلب الدنيا؛ إنما طلبنا وهمتنا الآخرة؛ كنا كما ذكرت، يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم. ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولًا، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه ﷺ: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم؛ وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز. فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شئ إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى. قال: ما أحسن هذا؟ وأي شئ أيضًا؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى. قال: حسن، وأي شئ أيضًا؟ قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا؟ ثم قال له رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه؛ ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون؟ قال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبدًا إلا في تجارة أو حاجة. قال: صدقني الله، أما إن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحدًا يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولن إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم. وعادوا أشرافهم. فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون؛ نطيع الله في السفلة، ولا يضرنا من عصى الله فينا. فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا من ذلك وأنفوا، فقال: ابعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبنا؟ فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة، فكان إسلامي؛ وكنت له عديدًا. وفرض لي فرائض أهل القادسية.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد بإسنادهم مثله. قالوا: وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبلي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ثم الوائلى ومذعور بن عدي العجلي، والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي - وكان من دهاة العرب - فقال: إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم؛ فما عندكم؟ قالوا جميعًا: نتبع ما تأمرنا به، وننتهي غليه؛ فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شئ نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس؛ فكلمناهم به. فقال سعد: هذا فعل الحزمة، اذهبوا فتهيئوا، فقال ربعي بن عامر: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتهم جميعًا يروا أنا قد احتفلنا بهم؟ فلا تزدهم على رجل؛ فمألئوه جميعًا على ذلك، فقال: فسرحوني، فسرحه، فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره، فاحتسبه الذين على القنطرة، وأرسل إلى رستم لمجيئه، فاستشار عظماء أهل فارس، فقال: ما ترون أنباهي أم نتهاون فأجمع ملؤهم على التهاون، فأظهروا الزبرج، وبسطوا البسط والنمارق، ولم يتركوا شيئًا، ووضع لرستم سرير الذهب، وألبس زينته من النماط والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعي يسير على فرس له رباء قصيرة، معه سيف له، غمدة لفلفه ثوب خلق، ورمحه مغلوب بقدمعه حجفة من جلود البقر؛ على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله. فلما غشى الملك، وانتهى إليه وإلى أدنى البسط، قيل له: انزل، فحملها على البساط، فلما استوت عليه، نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه؛ وإنما أرواه التهاون وعرف ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وعليه درع له كأنها أضاة ويلمقه عباءة بعيره، قد جابها وتدرعها، وشدها على وسطه بسلب وقد شد رأسه بمعجرته؛ وكان أكثر العرب شعرة، ومعجرته نسعة بعيره؛ ولرأسه أربع ضفائر؛ قد قمن قيامًا، كأنهن قرون الوعلة. فقالوا: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت. فأخبروا رستم؛ فقال: ائذنوا له؛ هل هو إلا رجل واحد؟ فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط؛ فما ترك لهم نمرقه ولا بساطًا إلا أفسده وتركه منهتكًا مخرقًا؛ فملما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فكلمه، فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العبادة إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه حتى نفضي إلى موعود الله قال: وما موعود الله: قال الجنة لمن مات على قتال من أبي لمن بقي فقال رستم: قد سمعت مقالتكمورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي قاتلناه أبدًا؛ فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا! قال: نعم، كم أحب إليكم؟ أيومًا أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. وأراد مقاربته ومدافعته، فقال: إن مما سن لنا رسول الله ﷺ وعمل به أئتمتنا، ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثًا، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء، فنقبل ونكف عنك؛ وإن كنت عن نصرنا غنيًا تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجًا منعناك؛ أو المنابذة في اليوم الرابع؛ ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا؛ أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا؛ ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض؛ يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، ما تورن؟ هل رأيتم كلامًا قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شئ من هذا وتدع دينك لهذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم لا تنظرو إلى الثبات؛ ولكن انظروا؛ ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، ولا يرون فيه ما ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه، ويزهدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني فأريكم؟ فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار. فقال القوم: اغمد، فغمده؛ ثم رمى ترسًا ورموا حجفته، فخرق ترسهم، وسلمت حجفته، فقال: يا أهل فارس؛ إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب؛ وإنا صغرناهن. ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل، فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي، حتى إذا كان على أدنى البساط، قيل له: انزل، قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي؛ فقولا لملككم: أله الحاجة أم لي؟ فإن قال: لي؛ فقد كذب؛ ورجعت وتركتكم؛ فإن قال: له، لم آتكم إلا على ما أحب. فقال: دعوه، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره، فقال: انزل، قال: لا أفعل، فلما أبى سأله: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء؛ فهذه نوبتي. قال: ما جاء بكم؟ قال: إن الله عو وجل من علينا بدينه، وأرانا آياته، حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث؛ فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة فقال: أو الموادعة إلى يوم ما؟ فقال: نعم، ثلاثًا من أمس. فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه، فقال: ويحكم! ألا ترون إلى ما أرى! جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به؛ فهو في يمن الطائر، وذهب بأرضنا وما فيها إليهم، مع فضل عقله. وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا؛ فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا؛ حتى أغضبهم وأغضبوه. فلما كان من الغد أرسل: ابعثوا إلينا رجلًا، فبعثوا إليهم المغيرة بن شعبة.؟ فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار. فقال القوم: اغمد، فغمده؛ ثم رمى ترسًا ورموا حجفته، فخرق ترسهم، وسلمت حجفته، فقال: يا أهل فارس؛ إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب؛ وإنا صغرناهن. ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل، فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي، حتى إذا كان على أدنى البساط، قيل له: انزل، قال: ذلك لو جئتكم في حاجتي؛ فقولا لملككم: أله الحاجة أم لي؟ فإن قال: لي؛ فقد كذب؛ ورجعت وتركتكم؛ فإن قال: له، لم آتكم إلا على ما أحب. فقال: دعوه، فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره، فقال: انزل، قال: لا أفعل، فلما أبى سأله: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء؛ فهذه نوبتي. قال: ما جاء بكم؟ قال: إن الله عو وجل من علينا بدينه، وأرانا آياته، حتى عرفناه وكنا له منكرين. ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث؛ فأيها أجابوا إليها قبلناها: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك، أو المنابذة فقال: أو الموادعة إلى يوم ما؟ فقال: نعم، ثلاثًا من أمس. فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه، فقال: ويحكم! ألا ترون إلى ما أرى! جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به؛ فهو في يمن الطائر، وذهب بأرضنا وما فيها إليهم، مع فضل عقله. وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا؛ فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا؛ حتى أغضبهم وأغضبوه. فلما كان من الغد أرسل: ابعثوا إلينا رجلًا، فبعثوا إليهم المغيرة بن شعبة.
كتب إلي السري، عن سيف، عن سيف، عن أبي عثمان النهدي. قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئًا من شارتهم، تقوية لتهاونهم؛ فأقبل المغيرة بن شعبة، والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم؛ حتى يمشي عليهم غلوة؛ وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي؛ حتى جلس معه على سريره وووسادته؛ فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوا ومغثوه. فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام؛ ولا أرى قومًا أسفه منكم! إنا معشر العرب سواء؛ ولا يستعبد بعضنا بعضًا إلا أن يكون محاربًا لصاحبه؛ فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى؛ وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر فيكم فلا نصفه، نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموين اليوم، علمت أن أمركم لا يستقم فيكم مضمحل، وأنكم مغلوبون؛ وأن ملكًا لا يقول على هذه السيرة، ولا على هذه العقول.
فقال السفلة: صدق والله العربي، وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه؛ قاتل الله أولينا، ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة! فمازحه رستم ليمحو ما صنع، وقال له: يا عربي؛ إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك، فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك؛ فالأمر على ماتحب من الوفاء وقبول الحق؛ ما هذه المغازل التي معك؟ قال: ما ضر الجمرة ألا تكون طويلة! ثم راماهم. وقال: ما بال سيفك رثًا! قال: رث الكسوة، حديد المضربة. ثم عاطاه سيفه، ثم قال له رستم: تكلم أم أتكلم؟ فقال المغيرة: أنت الذي بعثت إلينا، فتكلم. فأقام الترجمان بينهما، وتكلم رستم، فحمد قومه، وعظم أمرهم وطوله. وقال: لم نزل متمكنين في البلاد، ظاهرين على الأعداء، أشرافًا في الأمم؛ فليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا، ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين، أو الشهر والشهرين؛ للذنوب؛ فإذا انتقم الله فرضى رد إلينا عزنا، وجمعنا لعدونا شر يوم هو آت عليهم. ثم إنه لم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرًا منكم؛ كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة، لا نراكم شيئًا ولا نعدكم، وكنتم إذا قطحت أرضكم، وأصابتكم السنة استغثتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بالشئ من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنتعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلاد، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل رجل منكم بوقر تمر وبثوبين، وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهى أن أقتلكم ولا آسركم.
فتكلم المغيرة بن شعبة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله خالق كل شئ ورازقه؛ فمن صنع شيئًا فإنما هو الذي يصنعه هو له. وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك؛ من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد وعظم السلطان في الدنيا؛ فنحن نعرفه، ولسنا ننكره؛ فالله صنعه بكم؛ ووضعه فيكم وهو له دونكم؛ وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال، وضيق المعيشة واختلاف القلوب؛ فنحن نعرفه؛ ولسنا ننكره؛ والله ابتلانا بذلك، وصيرنا إليه، والدنيا دول؛ ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليها؛ ولو يزل أهل رخاتها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولوكنتم فيما آتاكم الله ذوى شكر، كان شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال؛ ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر؛ كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه؛ أو كنتم تعرفوننا به؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولًا.. ثم ذكر مثل الكلام الأول؛ حتى انتهى إلى قوله: وإن احتجت إلينا أن نمنعك فكن لنا عبد تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر، وإلا فالسيف إن أبيت! فنخر نخرة، واستشاط غضبًا، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الصبح غدًا حتى أقتلكم أجمعين.
فانصرف المغيرة؛ وخلص رستم تألفا بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا! ألم يأتكم الأولان فحسراكم واستحرجاكم، ثم جاءكم هذا، فلم يختلوفا، وسلكوا طريقًا واحجدًا، ولزموا أمرًا واحدًا؛ هؤلاء والله الرجال؛ صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من إربهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا، فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم؛ لئن كانوا صادقين ما يقول لهؤلاء شئ! فلجوا وتجلدوا وقال: والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم؛ وإن هذا منكم رئاء؛ فازدادوا لجاجة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: فأرسل مع المغيرة رجلًا. وقال له: إذا قطع القنطرة، ووصل إلى أصحابه، فناد: إن الملك كان منجمًا قد حسب لك ونظر في أمرك، فقال: إنك غدًا تفقأ عينك. ففعل الرسول، فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر؛ ولولا أن أجاهد بعد اليوم أشباهكم من المشركين، لتمنيت أن الأخرى ذهبت أيضًا. فرآهم يضحكون من مقالته، ويتعجبون من بصيرته؛ فرجع إلى الملك بذلك، فقال: أطيعوني يا أهل فارس؛ وإني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم. وكانت خيولهم تلقى على القنطرة لا تلقى إلا عليها، فلا يزالون يبدءون المسلمين، والمسلمون كافون عنهم الثلاثة الأيام؛ لا يبدءونهم؛ فإذا كان ذلك منهم صدوهم ورد عوهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان ترجمان رستم عن أهل الحيرة يدعى عبود.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي وسعيد بن المرزبان، قالا: دعا رستم بالمغيرة، فجاء ححتى جلس على سريره، ودعا رستم ترجمانه - وكان عربيًا من أهل الحيرة، يدعى عبود - فقال له المغيرة: ويحك يا عبود! أنت رجل عربي؛ فأبلغه عنى إذا أنا تكلمت كما تبلغي عنه. فقال له رستم مثل مقالته، وقال له المغيرة مثل ومقالته، إلى إحدى ثلاث خلال: إلى الإسلام ولكم فيه مالنا وعليكم فيه ما علينا؛ ليس فيه تفاضل بيننا، أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون. قال: ما صاغرون؟ قال: أن يقوم الرجل منكم على رأس أحدنا بالجزية يحمده أن يقبلها منه.. إلى آخر الحديث؛ والإسلام أحب إلينا منهما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن شقيق، قال: شهدت القادسية غلامًا بعدما احتملت؛ فقدم سعد القادسية في اثني عشر ألفًا؛ وبها أهل الأيام، فقدمت علينا مقدمات رستم، ثم زحف إلينا في ستين ألفًا، فملا أشرف رستم على العسكرقال: يا معشر العرب، ابعثوا إلينا رجلًا يكلمنا ونكلمه؛ فبعث إليه المغيرة بن شعبة ونفرًا، فلما أتوا رستم جلس المغيرة على السرير، فنخر أخو رستم، فقال المغيرة: لا تنخر؛ فما زادني هذا شرفًا ولا نقص أخاك. فقال رستم: يا مغيرة، كنتم أهل شقاء، حتى بلغ؛ وإن كان لكم أمر سوى ذلك، فأخبرونا. ثم أخذ رستم سهمًا من كنانته، وقال: لا تروا أن هذه المغازل تغنى عنكم شيئًا؛ فقال المغيرة مجيبًا له، فذكر النبي ﷺ قال: فكان مما رزقنا الله على يديه حبة تنبت في أرضكم هذه؛ فلما أذقناها عيالنا، قالوا: لا صبر لما عنها، فجئنا لنطعمهم أو نموت. فقال رستم: إذًا تموتون أو تقتلون، فقال المغيرة: إذًا يدخل من قتل منا الجنة، ويدخل من قتلنا منكم النار، ويظفر من بقى منا بمن بقى منكم؛ فنحن نخيرك بين ثلاث خلال.. إلى آخر الحديث فقال رستم: لا صلح بيننا وبينكم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأى جميعًا، وحبس الثلاثة، فخرجوا حبى أتوه ليعظموا عليه استقباحًا، فقالوا له: إن أميرنا يقول لك: إن الجوار يحفظ الولاة، وإنى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك، العافية أن تقبل ما دعاك الله إليه، ونرجع إلى أرضنا، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض؛ إلا أن داركم لكم، وأمركم فيكم؛ وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا؛ وكنا لكم عونا على أحد إن ارادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم؛ ولا يكونن هلاك قومك على يديك، فإنه ليس بينك وبين أن تغبط به إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك؛ فقال: إني قد كلمت منكم نفرًا، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد فهمتم، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام، وسأضرب لكم مثلكم تبصروا. إنكم كنتم أهل جهد في المعيشة، وقشف في الهيئة، لا تمتنعون ولا تنتصفون، فلم نسئ جواركم، ولم ندع مواساتكم، تقحمون المرة بعد المرة، فنميركم ثم نردكم، وتأتوننا أجراء وتجارًا، فنحسن إليكم؛ فلما تطاعمتم بطعامنا، وشربتم شرابنا، وأظلكم ظلنا، وصفتم لقومكن؛ فدعوتموهم، ثم أتيتمونا بهم، وإنما مثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له كرم، فرأى فيه ثعلبًا، فقال: وما ثعلب! فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعن عليه سد عليهن صاحب الكرم الحجر الذي كن يدخلن منه، فقتلهن، وقد علمت أنا الذي حملكم على حملكم على هذا الحرص والطمع والجهد، فارجعوا عنا عامكم هذا، وامتاروا حاجتكم، ولكم العود كلما احتجتم، فإني لا أشتهي أن أقتلكم.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن عمارة بن القعقاع الضبى، عن رجل من يربوع شهدها، قال: وقال وقد أصاب أناس كثير منكم من أرضنا ما أرادوا، ثم كان مصيركم القتل والهرب، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى؛ وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئًا أصيب بعضهم ونجا بعضهم؛ وخرج مما كان أصاب، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جردان ألفت جرة فيها حب، وفي الجرة ثقب، فدخل الأول فأقام فيها، وجعل الأخر ينقلن منها ويرجعن ويكلمنه في الرجوع، فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله، فضاق عليه الحجر، ولم يطق الخروج، فشكا القلق إلى أصحابه، وسألهم المخرج، فقلن له: ما أنت بخارج منها حتى تعود كماكنت قبل أن تدخل، فكف وجوع نفسه، وبقى في الخوف، حتى إذا عاد كما كان قبل أن يدخلها أتى عليه صاحب الجرة فقتله. فاخرجوا ولا يكونن هذا لكم مثلًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: وقال: لم يخلق الله خلقًا أولع من ذباب ولا أضر؛ ما خلاكم يا معشر العرب؛ ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع؛ وسأضرب لكم مثلكم: إن الذباب إذا رأى العسل طار، وقال: من يوصلني إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهنهه أحد إلا عصاه، فإذا دخله غرق ونشب وقال: من يخرجني وله اربعة دراهم؟ وقال أيضًا: إنما مثلكم مثل ثعلب دخل حجرًا وهو مهزول ضعيف إلى كرم، فكان فيه يأكل ما شاء الله، فرآه صاحب الكرم، ورأى ما به، فرحمه، فملا طال مكثه في الكرم وسمن، وصلحت حاله، وذهب ما كان به من الهزال أشر، فجعل يبعث بالكرم ويفسد أكثر مما يأكل، فاشتد على صاحب الكرم، فقال: لا أصبر على هذا من أمر هذا، فأخذ له خشبة واستعان عليه غلمانه، فطلبوه وجعل يراوغهم في الكرم، فملا رأى أنهم غير مقلعين عنه، ذهب ليخرج من الحجر الذي دخل منه، فنشب. أتسع عليه وهو مهزول، وضاق عليه وهو سمين؛ فجاءه وهو على تلك الحال صاحب الكرم، فلم يزل يضربه حتى قتله، وقد جئتم وأنتم مهازيل؛ وقد سمنتم شيئًا من سمن؛ فانظروا كيف تخرجون! وقال أيضًا: إن رجلا وضع سلا، وجعل طعامه فيه؛ فأتى الجرذان، فخرجوا سله، فدخلوا فيه فأراد سده، فقيل له: لا تفعل، إذًا يخرقنه، ولكن انقب بحياله؛ ثم اجعل فيها قصبة مجوفة، فإذا جاءت الجرذان دخلن من القصبة وخرجن منها، فلكما طلع عليكم جرذ قتلموه. وقد سددت عليكم؛ فإياكم أن تقتحموا القصبة، فلا يخرج منها أحد إلا قتل، وما دعاكم إلى ما صنعتم؛ ولا أرى عدد ولا عدة!
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما وزياد معهما، قالوا فتكلم القوم فقالوا: أما ما ذكرتم من سوء حالنا فيما مضى، وانتشار أمرنا، فلما تبلغ كنهه! يموت الميت منا إلى النار، ويبقى الباقي منا في بؤس؛ فبينا نحن في أسوإ ذلك؛ بعث الله فينا رسولًا من أنفسنا إلى الإنس والجن، رحمة رحم بها من أراد رحمته، ونقمة ينتقم بها من رد كرامته؛ فبدأ بنا قبيلة قبيلة، فلم يكن أحد أشد عليه؛ ولا أشد إنكارًا لما جاء به، ولا أجهد على قتله ورد الذي جاء به من قومه، ثم الذين يلونهم، حتى طابقناه على ذلك كلنا، فنصبنا له جميعًا، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى، فأعطى الظفر علينا، فدخل بعضنا طوعًا، وبعضنا كرهًا، ثم عرفنا جميعًا الحق والصدق لما أتانا به من الآيات المعجزة؛ وكان مما أتانا به من عند ربنا جهاد الأدنى فالأدنى، فسرنا بذلك فيما بيننا، نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا يخرم عنه ولا ينقض؛ حتى اجتمعت العرب على هذا، وكانوا من اختلاف الرأى فيما لا يطيق الخلائق تألفيهم. ثم اتيناكم بأمر ربنا، نجاهد في سبيله، وننفذ لأمره، وننتجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام وحكمه؛ فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله؛ وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزى؛ فإن فعلتم وإى فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا؛ فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم، ولقتالكم بعد أحب من صلحكم. وأما ما ذكرت من رثائتنا وقلتنا فإن أداتنا الطاعة، وقتالنا الصبر. وأما ما ضربتم لنا من الأمثال، فإنكم ضربتم للرجال والأمور الجسام وللجد الهزل؛ ولكنا سنضرب مثلكم، وإنما مثلكم مثل رجل غرس أرضًا، واختار لها الشجر والحب، وأجرى إليها ألأنهار، وزينها بالقصور، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها، ويقومون على جناتها، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب، وفي الجنان بمثل ذلك، فأطال نظرتهم؛ فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم؛ استعتبهم فكابروه، فدعا إليها غيرهم، وأخرجهم منها؛ فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولًا لهؤلاء يملكونهم؛ ولا يملكون عليهم؛ فيسمونهم الخسف أبدًا؛ والله أن لو لم يكن ما نقول لك حقًا، ولم يكن إلا الدنيا، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبر جكم من صبر، ولقارعناكم حتى نغلبكم عليه.
فقال رستم: أتعبرون إلينا أن نعبر إليكم؟ فقالوا: بل عبروا إلينا، فخرجوا من عنده عشيًا، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم: شأنكم والعبور؛ فأرادوا القنظرة، فأرسل إليهم: لا ولا كرامة! أما شئ قد غلبناكم عليه فلم نرده عليكم؛ تكفلوا معبرًا غير القناطر، فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم.
يوم أرماث
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع وعن الحكم، قالا: لما أراد رستم العبور أمر بسكر العتيق بحيال قادس، وهو يومئذ أسفل منها اليوم مما يلي عين الشمس، فباتوا ليلتهم حتى الصباح يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقًا، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: ورأى رستم من الليل أن ملكًا نزل من السماء، فأخذ قسى أصحابه، فختم عليها، ثم صعد بها السماء؛ فاستيقظ مهمومًا محزونًا فدعا خاصته فقصها عليهم، وقال إن الله ليعظنا، لو أن فارس تركوني أتعظ! أما ترون النصر قد رفع عنا، وترون الريح مع عدونا، وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق، ثم هم يريدون مغالبة بالجبرية! فعبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأغمش، قال: لما كان يوم السكر، لبس رستم درعين ومغفرًا وأخذ سلاحه، وأمر بفرسه فأسرج، فأتى به فوثب؛ فإذا هو عليه لم يمسه ولم يضع رجله في الركاب، ثم قال: غدًا ندقهم دقًا، فقال له رجل: إن شاء الله، فقال: وإن لم يشأ!
كتب إلي السري، بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال رستم: إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد أيذكرهم موت كسرى ثم قال لأصحابه: قد خشيت أن تكون هذه سنة القدود ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم، وجلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة، وعبى في القلب ثمانية وسبعة عشرة فيلًا، عليها الصناديق والرجال، وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته والبيرزان بينه وبين ميسرته، ويقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين؛ وكان يزدجرد وضع رجلًا على باب إيوانه، إذ سرح رستم، وأمره بلزومه وإخباره، وآخر حيث يسمعه من الدار، وآخر خارج الدار، وكذلك على كل دعوة رجلًا؛ فلما نزل رستم، قال الذي بساباط: قد نزل، فقاله الآخر.. حتى قاله الذي على باب الإيوان؛ وجعل بين كل مرحلتين على كل دعوة رجلًا؛ فكلما نزل وارتحل أو حدث أمر قاله؛ فقاله الذي يليه، حتى يقوله الذي يلي باب الإيوان؛ فنظم ما بين العتيق والمدائن رجالًا، وترك البرد، وكان ذلك هو الشأن.
وأخذ المسلمون مصافهم، وجعل زهرة وعاصم بين عبد الله وشرحبيل، ووكل صاحب الطلائع بالطرد، وخلط بين الناس في القلب والمجنبات، ونادى مناديه: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله يأيها الناس؛ فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد. وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس، به حبون، فإنما هو على وجهه في صدره وسادة، هو مكب عليها، مشرف على الناس من القصر، يرمى بالرقاع فيها أمره ونهيه، إلى خالد بن عرفطة، وهو أسفل منه؛ وكان الصف إلى جنب القصر، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدًا مشرفًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد الهمداني، عن أبيه عن أبي نمران، قال لما عبر رستم تحول زهرة والجالنوس جهل سعد الزهرة مكان ابن السمط وجعل رستم الجالنوس مكان الهرمزان، وكان بسعد عرق على الناس، فاختلف عليه الناس، فقال: احملوني، وأشرفوا بي على الناس والد ما قبل وكان إنما هو مكب فاستخلف خالد بن عرفطة على الناس، فاتقوا به، فأكب مطلعًا عليهم، والصف في أصل حائط قديس؛ يأمر خالدًا فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس، فهم بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالًا لغيركم! فحسبهم - ومنهم أبو محجن الثقفي - وقيدهم في القصر، وقال جرير: أما إني بايعت رسول الله ﷺ على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبدًا حبشيًا، وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سنت به سنة يؤخذ بها من بعدي.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: إن سعدًا خطب من يليه يومئذ؛ وذلك يوم الاثنين في المحرم سنة أربع عشرة، بعد ما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك؛ وليس لقوله خلف، قال الله جل ثناؤه: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)، إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج؛ فأنتم تطعمون منها، وتأكلون منها، ونقتلون أهلها، يوتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع؛ وأنتم وجوه العرب وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعز من وراءكم فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك احدًا إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم.
وقام عاصم بن عمرو في المجردة ح فقال: إن هذه بلاد قد أحل الله لكم أهلها، وأنتم تنالون منهم منذ ثلاث سنين مالا ينالون منكم، وأنتم الأعلون والله معكم؛ إن صبرتم وصدقتموهم الضرب والطعن فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم؛ وإن خرتم وفشلتم فالله لكم من ذلك جار وحافظ، لم يبق هذا الجمع منكم باقية؛ مخافة أن تعودوا عليهم بعائدة هلاك. الله الله! اذكروا الأيام وما منحكم الله فيها خمر ولا وزر يعقل إليه، ولا يمتنع به! اجعلوا همكم الآخرة.
وكتب سعد إلى الرايات: إني قد استخلف عليكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعني أن أكون إلا وجعي الذي يعودني وما بي من الحبون، فإني مكب على وجهي وشخصي لكم باد، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمري، ويعمل برأي فقرى على الناس فزادهم خيرًا، وانتهوا إلى رأيه، وقبلوا منه وتحاثوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حلام، عن مسعود، قال: وخطب أمير كل قوم أصحابه، وسير فيهم، وتحاضوا على الطاعة والصبر تواصوا؛ ورجع كل أمير إلى موقفه بمن والاه من أصحابه عند المواقف؛ ونادى منادى سعد بالظهر، ونادى رستم: باد شهان مرندر، أكل عمر كبدى أحرق الله كبده! علم هؤلاء حتى علموا.
كتب إلي السري، عن شعيب، قال: حدثنا سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، قال: لما نزل رستم النجف بعث منها عينًا إلى عسكر المسلمين، فانغمس فيهم بالقادسية كبعض من ند منهم، فرآهم يستاكون عند كل صلاة ثم يصلون فيفترقون إلى مواقفهم، فرجع غليه فأخبره بخبرهم، وسيرتهم، حتى سأله: ما طعامهم؟ فقال: مكثت فيهم ليلة، لا والله ما رأيت أحدًا منهم يأكل شيئًا إلا يمصوا عيدانًا لهم حين يمسون، وحين ينامون، وقبيل أن يصبحوا. فلما سار فنزل بين الحصن والعتيق وافقهم وقد اذن مؤذن سعد الغداة، فرآهم يتحشحشون، فنادى في أهل فارس أن يركبوا، فقيل له: ولم؟ قال: أما ترون إلى عدوكم ق نودى فيهم فتحشحشوا لكم! قال عينه: ذلك إنما تخشخشهم هذا للصلاة، فقال بالفارسية، وهذا تفسيره بالعربية: أتاني صوت عند الغداة، وإنما هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل، فلما عبروا توافقوا، وأذن نؤذن سعد للصلاة، فصلى سعد، وقال رستم: أكل عمر كبدي! كتب إلى السري، قال: حدثنا شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: وأرسل سعد الذين انتهى إليهم رأى الناس، والذين انتهت إليهم نجدتهم وأصناف الفضل منهم إلى الناس، فكان منهم من ذوي الرأى النفر الذين أتوا رستم المغيرة، وحذيفة، وعاصم؛ وأصحابهم؛ ومن أهل النجدة طليحة، وقيس الأسدي، وغالب، وعمرو بن معد يكرب وأمثالهم؛ ومن الشعراء الشماخ والحطيئة، وأوس ين مغراء، وعبدة بن الطبيب؛ ومن سائر الأصناف أمثالهم. وقال قبل أن يرسلهم: انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم عند مواطن البأس؛ فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروهم وحرضوهم على القتال، فساروا فيهم. فقال قيس بن هبيرة الأسدي: أيها الناس، احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه في عادته؛ فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم؛ وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء والأرض الفقر، والظراب الخشن، والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.
وقال غالب: ايها الناس، احمدوا الله على ما أبلاكم، وسلوه يزدكم، وادعوه يجبكم؛ يا معاشر معد؛ ما علتكم اليوم وأنتم في حصونكم - يعنى الخيل أومعكم من لا يعصكم يعنى السيوف؟ اذكروا حديث الناس في غد؛ فإنه بكم غدًا يبدأ عنده، وبمن بعدكم يثنى.
وقال ابن الهذيل الأسدي: يا معاشر معد، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وادرعوا العجاج، وثقوا بالله وغضبوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل، فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.
وقال بسرين أبي رهم الجهنى: احمدوا الله، وصدقوا قولكم بفعل، فقد حمدتم الله على ما هداكم له ووحدتموه ولا إله غيره، وكبرتموه، وى منتم بنبيه ورسله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون؛ ولا يكونن شئ بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتى من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم لتميل بكم انصروا الله ينصركم.
وقال عاصم بن عمرو: يا معاشر العرب؛ إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم الأعيان من العجم؛ وإنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. لا تحدثوا اليوم أمرًا تكونون به شيئًا على العرب غدًا.
وقال ربيع بن البلاد السعدي: يا معاشر العرب، قاتلوا للدين والدنيا؛ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقي، وإن عظك الشيطان عليكم الأمر، فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل.
وقال ربعي بن عامر: إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة، وفي الصبر الراحة، فعودوا أنفسكم الصبر تعتادوه، ولا تعودوها الجزع فتعتادوه.
وقام كلهم بنحو من هذا الكلام، وتوائق الناس، وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما كان ينبغي لهم، وفعل أهل فارس فيما بينهم مثل ذلك، وتعاهدوا وتواصوا؛ واقتربوا بالسلاسل؛ وكان المقتربون ثلاثين ألفًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: إن أهل فارس كانوا عشرين ومائة ألف، معهم ثلاثون فيلًا، مع كل فيل أربعة آلاف.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن حلام، عن مسعود بن خراش، قال: كان صف المشركين على شفير العتيق، وكان صف المسلمين مع حائط قديس، الخندق من ورائهم. فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق. ومعهم ثلاثون ألف مسلسل، وثلاثون فيلا تقاتل، وفيلة عليها الملوك وقوف لا تقاتل. وأمر سعد الناس أن يقرءوا على الناس سورة الجهاد، وكانوا يتعلمونها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال سعد: الزموا مواقفكم، لا تحركوا شيئًا حتى تصلوا الظهر، فإذا صليتم الظهر فإنى مكبر تكبيرة، فكبروا واستعدوا. واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم، واعلموا أنما أعطيتموه تأييدًا لكم. ثم إذا سمعتم الثانية فكبروا ولتستتم عدتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعًا حتى تخالطوا عدوكم؛ وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن مصعب بن سعد مثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء، عن أبي إسحاق، قال: ارسل يعد يوم القادسية في الناس: إذا سمعتم التكبير فشدوا شسوع نعالكم، فإذا كبرت الثانية فتهيئوا، فإذا كبرت الثالثة فشدوا النواجذ على الأضراس واحملوا.
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد يإسنادهم، قالوا: لما صلى سعد الظهر أمر الغلام الذي كان ألزمه عمر إياه - وكان من القراء - أن يقرأ سورة الجهاد، وكان المسلمون يتعلمونها كلهم، فقرأ على الكتيبة الذين يلونه سورة الجهاد، فقرئت في كل كتبية، فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: لما فرغ القراء كبر سعد، فكبر الذين يلونه تكبيرة، وكبر بعض الناس بتكبير بعض، فتحشحش الناس، ثم ثنى فاستتم الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج من أهل فارس أمثالهم، فاعتروا الطعن والضرب، وخرج غالب بن عبد الله الأسدي وهو يقول:
قد علمت واردة المسائح ** ذات اللبان والبنان الواضح
أنى سمام البطل المشايح ** وفارج الأمر المهم الفادح
فخرج إليه هرمز - وكان من ملوك الباب، وكان متوجًا - فأسره غالب أسرًا، فجاء سعدًان فأدخل، وانصرف عالب إلى المطاردة، وخرج عاصم ابن عمرو وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب ** مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أنى أنى امرؤ لا من تعبيه السبب ** مثلى على مثلك يغريه العتب
فطارد رجلًا من أهل فارس، فهرب منه اتبعه، حتى إذا خالط صفهم التقى بفارس معه بغلة، فترك الفارس البغل، واعتصم بأصحابه فمحوه، واستاق عاصم البغل والرحل، حتى أفضى به إلى الصف، فإذا هو خباز الملك وإذا الذي معه لطف الملك الأخبصة والعسل المعقود، فأتى به سعدًا، ورجع إلى موقفه، فلما نظر فيه سعد، قال: انطلقوا به إلى أهل موقفه، وقال: إن الأمير قد نفلكم هذا فكلوه، فنفلهم إياه. قالوا: وبينا الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة، إذ قام صاحب رجالة بني نهد قيس بن حذيم بن جرثومة، فقال: يا بني نهد انهدوا، إنما سميتم نهدًا لتفعلوا، فبعث إليه خالد بن عرفطة: والله لتكفن أو لأولين عملك غيرك. فكف.
ولما تطاردت الخيل والفرسان خرج رجل من القوم ينادى: مرد ومرد، فانتدب له عمرو بن معد يكرب وهو بحياله، فبارزه فاعتنقه، ثم جلد به الأرض فذبحه، ثم التفت إلى الناس، فقال: إن الفارسي إذا فقد قوسه فإنما هو تيس. ثم تكتتب الكتائب من هؤلاء وهؤلاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: مر بنا عمرو بن معد يكرب وهو يحضض الناس بين الصفين، وهو يقول: إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى مزراقه، فإنما هو تيس؛ فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم، فوقف بين الصفين فرمى بنشابة، فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها، فالتفت إليه فحمل عليه، فاعتنقه، ثم أخذ بمنطقته، فاحتمله فوضعه بين يديه، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه؛ ثم ألقاه. ثم قال: هكذا فاصنعوا بهم! فقلنا: يا أبا ثور، من يستطيع أن يصنع كما تصنع! وقال بعضهم غير إسماعيل: وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم؛ أن الأعاجم وجهت إلى وجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: كانت - يعني وقعة القادسية - في المحرم سنة أربع عشرة في أوله. وكان قد خرج من الناس إليهم، فقال له أهل فارس: أحلنا، فأحالهم على بجيلة، فصرفوا إليهم ستة عشر فيلًا كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما تكتتبت الكتائب بعد الطراد حمل أصحاب الفيلة عليهم، ففرقت بين الكتائب، فابذعرت الخيل؛ فكادت بجلية أن تؤكل؛ فرت عنها خيلها نفارًا، وعمن كان معهم في مواقفهم، وبقيت الرجالة من أهل المواقف، فأرسل سعد إلى بني أسد: ذببوا عن بجيلة ومن لافها من الناس؛ فخرج طليخحة بن خويلد وحمال بني مالك وغالب بن عبد الله والربيل بن عمرو في كتائبهم، فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها؛ وإن على كل فيل عشرين رجلًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بن طريف، أن طليحة قام في قومه حين استصرخهم سعد، فقال: يا عشيرتاه؛ إن المنوه بإسمه، الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحدًا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم؛ ابتدءوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة؛ فإنما سميتم أسدًا لتفعلوا فعله؛ شدوا ولا تصدوا، وكروا ولا تفروا، لله در ربيعة! أي فرى يفرون! وأي قرن يغنون! هل يوصل إلى مواقفهم! فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله! شدوا عليهم باسم الله! فقال المعرور بن سويد وشقسيق. فشدوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حسبنا الفيلة عنهم؛ فأخرت، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه؛ فما لبثه طليحة أن قتله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقام الأشعث بن قيس فقال: يا معشر كندة؛ لله در بني أسد! أي فري يفرون! وأي هذي يهذون عن موقفهم منذ اليوم! أغنى كل قوم ما يليهم؛ وأنتم تنتظرون من يكفيكم البأس! أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم العرب منذ اليوم، وإنهم ليقتلون ويقاتلون؛ وأنتم جثاة على الركب تنظرون! فوثب إليه عدد منهم عشرة؛ فقالوا: عثر الله جدك! إنك لتؤبسنا جاهدًا، ونحن أحسن الناس موقفًا! فمن أين خذلنا قومنا العرب وأسأنا إسوتهم فها نحن معك. فنهد ونهدوا، فأزالوا الذين بإزائهم؛ فلما رأى أهل فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة أسد رموهم بحدهم وبدر المسلمين الشدة عليهم ذو الحاجب والجالنوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة، وقد ثبتوا لهم؛ وقد كبر سعد الرابعة فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة على الخيول؛ فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وتلح فرسانها على الرجل يشمسون بالخيل؛ فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد، وتلح فرسانها على الرجل يشمسون بالخيل؛ فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو، فقال: يا معشر بني تميم؛ ألستم أصحاب الإبل والخيل! أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة! قالوا: بلى والله؛ ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة، فقال لهم: يا معشر الرماة ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل، وقال: يا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها؛ وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد؛ واقبل أصحاب عاصم على الفيلة، فأخذوا بأذنابها وذباذب توابيتها، فقطعوا وضنها، وارتفع عواؤهم؛ فما بقي لهم يومئذ فيل إلا أعرى، وقتل أصحابها، وتقابل الناس ونفس عن أسد، وردوا فارس عنهم إلى مواقفهم؛ فاقتتلوا حتى غربت الشمس. ثم حتى ذهبت هدأة من الليل؛ ثم رجع هؤلاء وهؤلاء؛ وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة؛ وكانوا ردءًا للناس؛ وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم؛ وهذا يومها الأول وهو يوم أرماث.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن، عن القاسم، عن رجل من بني كنانة، قال: حالت المجنبات ودارت على أسد يوم أرماث فقتل تلك العشية منهم خمسمائة رجل؛ فقال عمرو بن شأس الأسدى:
جلبنا الخيل من أكناف نيق ** إلى كسرى فوافقها رعالا
تركن لهم على الأقسام شجوًا ** وبالحقوين أيامًا طوالا
وداعية بفارس قد تركنا ** تبكى كلما رأت الهلالا
قتلنا رستما وبنية قسرًا ** تثير الخيل فوقهم الهيالا
تركنا منهم حيث التقينا ** فئامًا ما يريدون ارتحالا
وفر البيرزان ولم يحامى ** وكان على كتيبته وبالا
ونجى الهرمزان حذار نفس ** وركض الخيل موصلة عجلا
يوم أغواث
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكان سعد قد تزوج سلمى بنت خصفة؛ امرأة المثنى بن حارثة قبله بشراف، فنزل بها القادسية، فلما كان يوم أرمات، ث وجال الناس، وكان لا يطيق جلسة إلا مستوفزًا أو على بطنه؛ جعل سعد يتململ ويحول جزعًا فوق القصر؛ فملا رأت ما يصنع أهل فارس، قالت: وامثنياه ولا مثنى للخيل لايوم! - وهي عند رجل قد أضجره ما يرى من أصحابه وفي نفسه - فلطم وجهها، وقال: اين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى! - يعنى أسدًا وعاصمًا وخيله - فقالت: أغيرة وجبنًا! قال: والله لا يعذروني اليوم أحد إذا أنت لم تعذريني وأنت ترين ما بي، والناس أحق ألا يعذرونى! فتعلقها الناس؛ فلما ظهر الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه؛ وكان غير جبان ولا ملوم. ولما أصبح القوم من الغد أصبحوا على تعبية، وقد وكل سعد رجالًا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث؛ فأما الرثيث فأسلم إلى النساء يقمن عليهم إلى قضاء الله عز وجل عليهم؛ وأما الشهداء فدفنوهم هنالك على مشرق - وهو واد بين العذيب وبين عين الشمس في عدوتيه جميعًا؛ الدنيا منهما إلى العذيب والقصوى منهما من العذيب - والناس ينتظرون بالقتال حمل الرثيث الأموت؛ فلما استقلت بهم الإبل وتوجهت بهم نحو العذيب طلعت نواصى الخيل من الشأم - وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر - فلما قدم على أبي عبيدة كتاب عمر بصرف أهل العراق أصحاب خالد؛ ولم يذكر خالدًا ضن بخالد فحبسه وسرح الجيش؛ وهم ستة آلاف؛ خمسة آلاف من ربيعة ومضر وألف من أفناء اليمن من أهل الحجاز؛ وأمر عليهم هاشم بن عتيبة بن أبي وقاص، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، فجعله أمامه؛ وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن هبيرة بن عبد يغوث المرادي - ولم يكن شهد الأيام، أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق وصرف معهم - نوعلى المجنة الأخرى الهزهاز بن عمرو العجلي، وعلى الساقة أنس بن عباس. فانجذب القعقاع وطوى وتعجل، فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطعوا أعشارًا؛ وهم ألف فكلما بلغ عشرة مدى البصر سرحوا في آثارهم عشرة، فقدم القعقاع أصحابه في عشرة، فأتى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، فقال: يأيها الناس؛ إني قد جئتكم في قوم؛ والله أن لو كانوا بمكانكم، ثم أحسوكم حسدوكم حظوتها، وحاولوا أن يطيروا دونكم، فاصنعوا كما أصنع، فتقدم ثم نادى: من يبارز؟ فقالوا فيه بقول أبي بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا، وسكنوا إليه، فخرج إليه ذو الحاجب، فقال له القعقاع: من أنت؟ قال: أنا بهمن جاذويه، فنادى: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر! فاجتلدا، فقتله القعقاع، وجعلت خيله ترد قطعًا، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس؛ وكأن لم يكن بالأمس مصيبة؛ وكأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وللحاق القطع، وانكسرت الأعاجم لذلك. ونادى القعقاع أيضًا: من يبارز؟ فخرج إليه رجلان: أحدهما البيرزان والآخر البندوان؛ فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان بن الحارث أخو بني تيم اللات، فبارز القعقاع البيرزان، فضربه فأذرى رأسه، وبارزا بن ظبيان البندوان، فضربه فأذرى رأسه، وتوردوهم فرسان المسلمين، وجعل القعقاع يقول: يا معاشر المسلمين، باشروهم بالسيوف، فإنما يحصد الناس بها فتواصى الناس، نوتشايعوا إليهم، فاجتلدوا بها حتى المساء. فلم ير أهل فارس في هذا اليوم شيئًا مما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل، كانت توابيتها تكسرت بالأمس، فاستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان الغد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية؛ فقالت لبنيها: إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثوبوا، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين أهل فارس؛ والله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم؛ انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره. فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ادفع عن بني! فرجعوا إليها، وقد أحسنوا القتال؛ ما كلم منهم رجل كلمًا؛ فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، ثم يأتون أمهم، فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم ويرضيهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فأزر القعقاع يومئذ ثلاثة نفر من بني يربوع رياحيين، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمين، ويحمل ويحملون، واليربوعيون: نعيم بن عمرو بن عتاب، وعتاب بن نعيم بن عتاب ابن الحارث بن عمر بن همام، وعمرو بن شيب بن زنباع بن الحارث بن ربيعة؛ أحد بني زيد. وقدم ذلك اليوم رسول لعمر بأربعة أسياف وأربعة أفراس يقسمها فيمن انتهى إليه البلاء، إن كنت لقيت حربًا. فدعا حمال بن مالك والربيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد الفقعسي - وكلهم من بني أسد - وعاصم بن عمرو التميمي؛ فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع ابن عمرو واليربوعيين فحملهم على الأفراس؛ فأصاب ثلاثة من بني يربوع ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال في ذلك الربيل بن عمرو:
لقد علم الأقوام أنا أحقهم ** إذا حصلوا بالمرهفات البواتر
وما فتئت خيلي عشية أرمثوا ** يذودون رهوًا عن جموع العشائر
لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم ** وقد أفلحت أخرى الليالي الغوابر
وقال القعقاع في شأن الخيل:
لم تعرف الخيل العراب سواءنا ** عشية أغواث بجنب القوادس
عشية رحنا بالرماح كأنها ** على القوم ألوان الطيور الرسارس
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن سليم بن عبد الرحمن السعدي، عن أبيه، قال: كان يكون أول القتال في كل أيامها المطاردة، فلما قدم القعقاع قال: يأيها الناس، اصنعوا كما أصنع، ونادى: من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، ثم البيرزان فقتله، ثم خرج الناس من كل ناحية، وبدأ الحرب والطعان، وحمل بنو عم القعقاع يومئذ؛ عشرة عشرة من الرجالة، على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم أن يحملوا على خيلهم بين الصفين يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين. فلما رأى ذلك الناس استنوا بهم، فلقى فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
وحمل رجل من بني تميم ممن كان يحمى العشيرة يقال له سواد، وجعل يتعرض للشهادة، فقتل بعد ما حمل، وأبطأت عليه الشهادة؛ حتى تعرض لرستم يريده، فأصيب دونه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء بن زياد، والقاسم بن سليم عن أبيه، قالا: خرج رجل من أهل فارس، ينادى: من يبارز؟ فبرز له علباء بن جحش العجلى، فنفحه علباء، فأسحره، ونفحه الآخر فأمعاه، وخرا؛ فأما الفارسي فمات من ساعته، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج إدخالها فلم يتأدت له حتى مر به رجل من المسلمين، فقال: يا هذا، أعني على بطني، فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعًا من مصرعه، إلى صف فارس، وقال:
أرجو بها من ربنا ثوابًا ** قد كنت ممن أحسن الضرابا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: وخرج رجل من أهل فارس فنادى: من يبارز؟ فبرز له الأعراف بن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه فأخذوه، فغبر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه؛ وقال في ذلك:
وإن يأخذوا بزى فإني مجرب ** خروج من الغماء محتضر النصر
وإني لحام من وراء عشيرتي ** ركوب لآثار الهوى محفل الأمر
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: فحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة؛ كلما طلعت قطعة حملة، وأصاب فيها، وجعل يرتجز ويقول:
أزعجهم عمدًا بها إزعاجًا ** أطعن طعنًا صائبًا ثجاجا
أرجو به من جنة أفواجًا كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة؛ كلما حمل حملة قتل فيها، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني، وقال في ذلك القعقاع:
حبونه جيلشة بالنفس ** هدارة مثل شعاع الشمس
في يوم أغواث فليل الفرس ** أنخش بالقوم أشد النخس
حتى تفيض معشري ونفسي وبارز الأعور بن قطبة شهر براز سجستان، فقتل كل واحد منهما صاحبه، فقال أخوه في ذلك:
لم أر يومًا كان أحلى وأمر ** من يوم أغواث إذا افتر الثغر
من غير ضحك كان أسوا وأبر كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد؛ وشاركهم ابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف النهار؛ فلما عدل النهار تزاحف الناس؛ فاقتتلوا بها صتيتا حتى انتصف الليل؛ فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، والنصف الأول يدعى السواد. ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث في القادسية الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم؛ وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم؛ فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد بات الناس على مثل ما بات عليه القوم ليلة أرماث؛ ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا حتى تفايئوا. فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الإنتماء فلا توقظني، فإنهم أقوياء على عدوهم؛ وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقطنى، فإنهم على السواء فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني؛ فإن انتماءهم عن السوء.
فقالوا: ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفييه ويستقيله، فزبره ورده، فنزل، فأتى سلمى بنت خصفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خصفة؛ هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عنى وتعيرينني البلقاء؛ فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فقالت: وما أنا وذاك! فرجع يرسف في قيوده، ويقول:
كفى حزنًا أن تردى الخيل بالقنا ** وأترك مشدودًا على وثاقيًا
إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت ** مصاريع دونى قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ** فقد تركوني واحدًا لا أخاليا
ولله عهد لا أخيس بعهده ** لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
فقالت سلمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته. وقالت: أما الفرس فلا أعيرها؛ ورجعت إلى بيتها، فاقتادها فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها؛ ثم دب عليها؛ حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين؛ فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم: عريًا؛ ثم رجع من خلف المسلمين إلى المسيرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فنذر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه؛ وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفًا منكرًا وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه. وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء! وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر، وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لآ تباشر القتال لقلنا: ملك يثبتنا؛ ولا يذكره الناس ولا يأبهون له؛ لأنه بات في محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج؛ ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيديه، وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر ** بأنا نحن أكرمهم سيوفًا
وأكثرهم دروعًا سابغات ** وأصبهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا وفدهم في كل يوم ** فإن عميوا فسل بهم عريفًا
وليلة قادس لم بشعروا بي ** ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي وإن أترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شئ حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسني بحرام أكتله ولا شربته؛ ولكني كنت صاحب شراب في الجاهليه، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحيانًا، فيساء لذلك ثنائي؛ ولذلك حبسني، قلت:
إذا مت فادفنى إلى أصل كرمة ** تروى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفننى بالفلاة فإني ** أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وتروى بخمر الحص لحدى فإنني ** أسير لها من عبد ما قد أسوقها
ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث، وليلة الهدأة، وليلة السواد؛ حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: اذهب فما مؤاخذك بشئ تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدًا.
يوم عماس
كتب إلي السري بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، وابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: فأصبحوا من اليوم الثالث؛ وهم على مواقفهم؛ وأصبحت الأعاجم على مواقفهم، وأصبح ما بين الناس كالرجلة الحمراء - يعني الحرة - ميل في عرض ما بين الصفين، وقد قتل من المسلمين ألفان من رثيث وميت، ومن المشركين عشرة آلاف من رثيث وميت. وقال سعد: من شاء غسل الشهداء، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وأقبل المسلمون على قتلاهم فأحزروهم، فجعلوهم من وراء ظهورهم، وأقبل الذين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر، ويبلغون الرثيث إلى النساء، وحخاجب بن زيد على الشهداء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور في اليومين: يوم أغواث، ويم أرماث، بعدوتي مشرق، فدفن ألفان وخمسمائة من أهل القادسية وأهل الأيام، فمر حاجب وبعض أهل الشهادة وولاة الشهداء في أصل نخلة بين القادسية والعذيب، وليس بينهما يومئذ نخلة غيرها، فكان الرثيث إذا حملوا فانتهى بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها، ورجل من الجرحى يدعى بجيرًا، يقول وهو مستظل بظلها:
ألا اسلمى يا نخلة بين قادس ** وبين العذيب لا يجاورك النخل
ورجل من بني ضبة، أو من بني ثور يدعى غيلان، يقول:
ألا يا سلمى يا نخلة بين جرعة ** يجاورك الجمان دونك والرغل
ورجل من بني تيم الله، يقال له: ربعي سقول:
أيا نخلة الجرعاء يا جرعة العدى ** سقتك الغوادى والغيوث الهواطل
وقال الأعور بن قطبة:
أيا نخلة الركبان لا زلت فانضرى ** ولا يزال في أكناف جرعاتك النخل
وقال عوف بن مالك التيمي - ويقال التيمي تيم الرباب:
أيا نخلة دون العذيب بتلعة ** سقيت الغوادى المدجنات من النخل
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه من الأمس، ثم قال: إذا طلعت لكم الشمس، فأقبلوا مائة مائة، كلما توارى عنكم مائة فليتبعها مائة؛ فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدًا، ففعلوا ولا يشعر بذلك أحد، وأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم؛ وخلوا بينهم وبين حاجب بن زيد وقتلى المشركين بين الصفين قد أضيعوا، وكانوا لا يعرضون لأمواتهم، وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين مكيدة فتحها ليشد بها أعضاد المسلمين؛ فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل، وطلعت نواصيها كبر وكبر الناس، وقالوا: جاء المدد، وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها، فجاءوا من قبل خفان، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب، فاختلفوا الضرب والطعن، ومددهم متتابع؛ فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم؛ وقد طلعوا في سبعمائة، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع في يوميه، فعبى أصحاب سبعين سبعين، فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بن هبيرة بن عبد يغوث - ولم يكن من أهل الأيام؛ إنما أتى من اليمن اليرموك - فانتدب مع هاشم، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب؛ كبر وكبر المسلمون؛ وقد أخذوا مصافهم، وقال هاشم: أول القتال المطاردة ثم المراماة؛ فأخذ قوسه، فوضع سهمًا على كبدره، ثم نزع فيها، فرفعت فرسه رأسها، فخل أذنها، فضحك وقال: واسوأتاه من رمية رجل كل من رأى ينتظره أين ترون سهمي كان بالغًا؟ فقيل: العتيق، فنزقها وقد نزع السهم، ثم ضربها حتى بلغت العتيق، ثم ضربها فأقبلت به تخرقهم، حتى عاد إلى مموقفه، وما زالت مقانبه تطلع إلى الأول، وقد بات المشركون في علاج توابيتهم، حتى أعادوها، وأصبحوا على مواقفهم، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونها، إذا أرادوا كتيبة دلفوا لها بفيل وأتباعه لينفروا بهم خيلهم فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش، وإذا أطافوا به كان آنس، فكان القتال كذلك، حتى عدل النهار، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدًا؛ العرب والعجم فيه على السواء، ولا يكون بينهم نقطة إلا تعاورها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرت، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن بقى عنده، فيقوون بهم، وأصبحت عنده للذي لقى بالأمس الأمداد على البرد، فلولا الذي صنع الله للمسلمين بالذي ألهم القعقاع في اليومين وأتاح لهم بهاشم، كسر ذلك المسلمين.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قدم هاشم بن عتيبة من قبل الشأم، معه قيس بن المكشوح المرادي في سبعمائة بعد فتح اليرموك ودمشق؛ فتعجل في سبعين، فيهم سعيد بن نمران الهمداني. قال مجالد: وكان قيس بن أبي حازم مع القعقاع في مقدمة هاشم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن جخدب بن جرعت، عن عصمة الوابلي - وكان قد شهد القادسية - قال: قدم هاشم في أهل العراق من الشأم، فتعجل أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفير، منهم ابن المكشوح؛ فلما دنا تعجل في ثلثمائة، فوافق الناس وهم على مواقفهم، فدخلوا مع الناس في صفوفهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان اليوم الثالث يوم عماس؛ ولم يكن في أيام القادسية مثله؛ خرج الناس منه على السواء، كلهم على ما أصابه كان صابرًا، وكلما بلغ منهم المسلمون بلغ الكافرون من المسلمين مثله، وكلما بلغ الكافرون من المسلمين بلغ المسلمون من الكافرين مثله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، قال: قدم هاشم بن عتبة القادسية يوم عماس، فكان لا يقاتل إلا على فرس أنثى، لا يقاتل على ذكر؛ فلما وقف في الناس رمى بسهم، فأصاب أذن فرسه، فقال: واسوأتاه من هذه أين ترون سهمي كان بالغًا لو لم يصب أذن الفرس قالوا: كذا وكذا، فأجال فنزل وترك فرسه، ثم خرج يضربهم حتى بلغ حيث قالوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وكان في الميمنة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن إسماعيل بن محمد، قال: كنا نرى أنه كان على الميمنة، وما كان عامة جنن الناس إلا البراذع؛ براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، وعصب من لم يكن له وقاية رءوسهم بالأنساع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي كبران الحسن بن عقبة، أن قيس بن المكشوح، قال: مقدمه من الشأم مع هاشم، وقام فيمن يليه، فقال لهم: يا معشر العرب، إن الله قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد ﷺ فأصبحتم بنعمة الله إخوانًا. دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضًا اختطاف الذئاب، فانصروا الله ينصركم، وتنجزوا من الله فتح فارس؛ فإن إخوانكم من أهل الشأم قد أنجز الله لهم فتح الشأم، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر.
كتب إلى إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام الحارثى، عن الشعبي، قال: قال عمرو بن معد يكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله - لفيل بإزائهم - فلا تدعوني أكثر من جزر جزور؛ فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور؛ فأنى لكم مثل أبي ثور؟ فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف. فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنتظرون ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملة، فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه، وإن سيفه لفي يده يضاربهم، وقد طعن فرسه، فلما رأى أصحابه، وانفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس رجل من أهل فارس، فحركه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسي إلى عمرو؛ فهم به وأبصره المسلمون، فغشوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه فركبه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدي، عن الأسواد بن قيس، عن أشياخ لهم شهدوا القادسية، قالوا: لما كان يوم عماس خرج رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى: من يبارز؟ فخرج رجل منا يقال له شبر بن علقمة - وكان قصيرًا قليلًا دميمًا - فقال: يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل، فلم يجبه أحد؛ ولم يخرج إليه أحد، فقال: أما والله لولا أن تزدروني لخرجت إليه. فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وحجفته، وتقدم. فلما رآه الفارسي هدر، ثم نزل إليه فاحتمله، فجلس على صدره، ثم أخذ سيفه ليذبحه مقود فرسه مشدود بمنطقته، فملا استل السيف حاص الفرس حيصة فجذبه المقود، فقبله عنه، فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه، فجعل أصحابه يصيحون به، فقال: صيحوا ما بدا لكم؛ فوالله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه. فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدًا، فقال: إذا كان حين الظهر فأتنى، فوافاه بالسلب، فحمد الله سعد وأثنى عليه، ثم قال: إني قد رأيت أن أنحله إياه، وكل من سلب سلبًا فهو له، فباعه باثنى عشر ألفًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: ولما رأى سعد الفيلة تفرق بين الكتائب وعادت لفعلها يوم أرماث، أرسل إلى أولئك المسلمة: ضخم، ومسلم، ورافع، وعشنق؛ وأصحابهم من الفرس الذين أسلموا، فدخلوا عليه، فسألهم عن الفيلة: هل لها مقاتل؟ فقالوا: نعم، المشافر والعيون لا ينتفع بها بعدها. فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابنى عمرو: اكفياني الأبيض - وكانت: لها آلفة له، وكان بإزائهما - وأرسل إلى حمال والربيل: اكفياني الفيل الجرب، وكانت آلفة له كلها، وكان بإزائهما، فأخذ القعقاع وعاصم ومحين أصمين لينين ودبًا في خيل ورجل فقالا: اكتنفوه لتحيروه، وهما مع القوم، ففعل حمال والربيل مثل ذلك، فلما خالطوهما اكتنفوهما، فنظر كل واحد منهما يمنة ويسرة، وهما يريدان أن يتخبطا، فحمل القعقاع وعاصم، والفيل متشاغل بمن حوله، فوضعا ومحيهما معًا في عيني الفيل الأبيض، وقبع ونفض رأسه، فطرح سائسه ودلى مشفره، فنفحه القعقاع، فرمى به ووقع لجنبه، فقتلوا من كان عليه، وحمل حمال، وقال للربيل: اختر، إما أن تضرب المشفر وأطعن في عينه، أو تطعن في عينه وأضرب مشفره؛ فاختار الضرب، فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه؛ لا يخاف سائسه إلا على بطانه، فانفرد به أولئك، فطعنه في عينه، فأقعى؛ ثم استوى ونفحه الربيل، فأبان مشفره وبصر به سائسه، فبقر أنفه وجبينه بفأسه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد عن الشعبي، قال: قال رجلان من بني أسد؛ يقال لهما الربيل وحمال: يا معشر المسلمين أي الموت أشد؟ قالوا: أن يشد على هذا الفيل، فنزقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بإزائهما، فطعن أحدهما في عين الفيل، فوطئ الفيل من خلفه، وضرب الآخر مشفره، فضربه سائس الفيل ضربه شائنة بالطبرزين في وجهه؛ فأفلت بها هو والربيل، وحمل القعقاع وأخوه على الفيل الذي بإزائهما، ففقآ عينه، وقطعا مشفره، فبقي متلددًا بين الصفين؛ كلما أتى صف المسلمين وخزوه، وإذا أتى صف المشركين نخسوه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان في الفيلة فيلان يعلمان الفيلة، فلما كان يوم القادسية حملوهما على القلب؛ فأمر بهما سعد القعقاع وعاصمًا التميميين وحمالا والربيل الأسديين؛ فذكر مثل الأول إلا أن فيه: وعاش بعد، وصاح الفيلان صياح الخنزير، ثم ولى الأجرب الذي عور، فوثب في العتيق، فاتبعه الفيلة؛ فخرقت صف الأعاجم فعبرت العتيق في أثره، فأتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد؛ قالوا: فلما ذهبت الفيلة، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظل تزاحف المسلمون، وحماهم فرسانهم الذين قاتلوا أول النهار، فاجتلدوا بها حتى أمسوا على حرد؛ وهم في ذلك على السواء، لأن المسلمين حين فعلوا بالفيول ما فعلوا، تكتبت كتائب الإبل المجففة، فعرقبوا فيها؛ وكفكفوا عنها. وقال في ذلك القعقاع بن عمرو:
حضض قومي مضرحي بن يعمر ** فلله قومي حين هزوا العواليا
وما خام عنها يوم سارت جموعنا ** لأهل قديس يمنعون المواليا
فإن كنت قاتلت العدو فللته ** فإني لألقى في الحروب الدواهيا
فيولا أراها كالبيوت مغيرة ** أسمل أعيانًا لها ومآقيا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما أمسى الناس من يومهم ذلك، وطعنوا في الليل؛ اشتد القتال وصبر الفريقان، فخرجا على السواء إلا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسميت ليلة الهرير؛ لم يكن قتال بليل بعدها بالقادسية.
قال أبو جعفر: كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد بن قيس، عن عبد الرحمن بن جيش؛ أن سعدًا بعث ليلة الهرير طليحة وعمرًا إلى مخاضة أسفل من العسكر ليقوما عليها خشية أن يأتيه القوم منها؛ وقال لهما: إن وجدتما القوم قد سبقوكما إليها فانزلا بحيالهم؛ وإن لم تجداهم علموا بها، فأقيما حتى بأتيكما أمري كان عمر قد عهد إلى سعد ألايولي رؤساء أهل الردة على مائة - فلما انتهيا إلى المخاضة فلم يريا فيها أحدًا، قال طليحة: لو خضنا فأتينا الأعاجم من خلفهم فقال عمرو: لا، بل نعبر أسفل؛ فقال طليحة: إن الذي أقوله أنفع للناس، فقال عمرو: إنك تدعوني إلى مالا أطيق، فافترقا، فأخذ طليحة نحو العسكر من وراء العتيق وحده، وسفل عمرو بأصحابهما جميعًا، فأغاروا، وثارت بهم الأعاجم، وخشى سعد منهما الذي كان فبعث قيس ين المكشوح في آثارهما في سبعين رجلًا، وكان من أولئك الرؤساء الذين نهى عنهم أن يوليهم المائة، وقال: إن احقتهم فأنت عليهم. فخرج نحوهم، فلما كان عند المخاضة وجد القوم يكردون عمرًا وأصحابه، فنهنه الناس عنه، وأقبل قيس على عمرو ويلومه، فتلاحيا، فقال أصحابه: إنه قد أمر عليك؛ فسكت، وقال: يتأمر على رجل قد قاتلته في الجاهلية عمر رجل فرجع إلى العسكر، وأقبل طليحة حتى إذا كان بحيال السكر، كبر ثلاث تكبيرات؛ ثم ذهب، فطلبه القوم فلم يدروا أين سلك؟ وسفل حتى خاض، ثم أقبل إلى العسكر، فأتى سعدًا فأخبره؛ فاشتد ذلك على المشركين، وفرح المسلمون وما يدرون ما هو؟ كتب إلى السري، ع، شعيب، عن سيف، عن قدامة الكاهلي، عمن حدثه، أن عشرة إخوة من بني كاهل بن أسد، يقال لهم بنو حرب؛ جعل أحدهم يرتجز ليلتئذ، ويقول:
أنا ابن حرب ومعي مخراقي ** أضربهم بصارم رقراق
إذ كره الموت أبو إسحاق ** وجاشت النفس على التراقي
صبرًا عفاق إنه الفراق وكان عفاق أحد العشرة، فأصيب فخذ صاحب هذا الشعر يومئذ، فأنشأ يقول:
صبرًا عفاق إنها الأساورة ** صبرًا ولا تغررك رجل نادره
فمات من ضربته يومئذ كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، عن حميد بن أبي شجار، قال: بعث سعد طليحة في حاجة فتركها، وعبر العتيق؛ فدار إلى عسكر القوم، حتى إذا وقف على ردم النهر كبر ثلاث تكبيرات، فراغ أهل فارس، وتعجبت المسلمون، فكف بعضهم عن بعض للنظر في ذلك، فأرسلت الأعاجم في ذلك، وسأل المسلمون عن ذلك. ثم أنهم عادوا وجدوا تعبية، وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة، والمسلمون على تعبيتهم، وجعل طليحة يقول: لا تعدموا امرأ ضعضعكم. وخرج مسعود بن مالك الأسدي وعاصم بن عمرو التيمي وابن ذي البردين الهلالي وابن ذي السهمين وقيس بن هبيرة الأسدي؛ وأشباهههم، فطاردوا القوم، وانبعثوا للقتال، فإذا القوم لمة لا يشدون، ولا يريدون غير الزحف؛ فقدموا صفًا له أذنان، وأتبعوا آخر مثله، وآخر وآخر، حتى تمت صفوفهم ثلاثة عشر صفًا في القلب والمجنبتين كذلك؛ فملا أقدم عليهم فرسان العسكر راموهم فلم يعطفهم ذلك عن ركوبهم؛ ثم لحقت بالفرسان الكتائب، فأصيب ليلتئذ خالد بن يعمر التيمي، ثم العمري؛ فحمل القعقاع على ناحية التي رمى بها مزدلفًا، فقاموا على ساق، فقال القعقاع:
سقى الله يا خوصاء قبر ابن يعمر ** إذا ارتحل السفار لم يترحل
سقى الله أرضًا حلها قبر خالد ** ذهاب غواد مدجنات تجلجل
فأقسمت لا ينفك سيفى يحسهم ** فإن زحل الأقوام لم أتزحل
فزاحفهم والناس على راياتهم بغير إذن سعد؛ فقال سعد: اللهم اغفرها له، وانصره قد أذنت له إذ لم يستأذني، والمسلمون على مواقفهم، إلا من تكتب أو طاردهم وهم ثلاثة صفوف، فصف فيه الرجالة أصحاب الرماح والسيوف، وصف فيه الميرامية، وصف فيه الخيول، وهم أمام الرجالة، وكذلك الميمنة، وكذلك الميسرة. وقال سعد: إن الأمر الذي صنع القعقاع، فإذا كبرت ثلاثًا فازحفوا، فكبر تكبيرة فتهيئوا، ورأى الناس كلهم مثل الذي رأى والرحى تدور على القعقاع ومن معه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن عبد الأعلى، عن عمرو بن مرة، قال: وقام قيس بن هميرة المرادي فيمن يليه، ولم يشهد شيئًا من لياليها إلا تلك الليلة؛ فقال: إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة، والرأى رأى أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجالة، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم؛ ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم، فتيسروا للحملة. فتيسروا وانتظروا التكبيرة وموافقة حمل الناس؛ وإن نشاب الأعاجم لتجوز صف المسلمين.
كتب إلى، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عمن حدثه، قال: وقال دريد بن كعب النخعي، وكان معه لواء النخع: إن المسلمين تهيئوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إلى الله والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سيقه؛ نافسوهم في الشهادة، وطيبوا بالموت نفسًا؛ فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا مالآخرة ما أردتم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأجلح، قال: قال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب؛ إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت، ولا أسخى أنفسنًا عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل، فإنه أماني الكرام، ومنايا الشهداء، وترجل.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، قال: قال حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار: ترجلوا أيها الناس، وافعلوا كما نفعل، ولا تجزعوا مما لا بد منه، فالصبر أنجى من الفزع. وفعل طليحة وغالب وحمال وأهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والنضر بن السري، قالا: ونزل ضرار بن الخطاب القرشي، وتتابع على التسرع إليهم الناس كلهم فيها ين تكبيرات سعد حين استبطئوا. فلما كبر الثانية، حمل عاصم بن عمرو حتى انضم إلى القعقاع، وحملت النخع، وعصى الناس كلهم سعدًا، فلم ينتظر الثالثة إلا الرؤساء، فلما كبر الثالثة زحفوا فلحقوا بأصحابهم، وخالطوا القوم، فاستقبلوا الليل استقبالا بعد ما صلوا العشاء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله بن أبي طبية، عن أبيه، قال: حمل ليلة الهرير عامة؛ ولم ينتظروا بالحملة سعدًا، وكان أول من حمل القعقاع، فقال: اللهم اغفرها له وانصره. وقال: واتميماه سائر الليلة؟ ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبرت ثلاثًا فاخملوا. فكبر واحدة فلحقتهم أسد، فقيل: قد حملت أسد، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم؛ واأساه سائر الليلة؟ ثم قيل؟ ثم قيل: حملت بجلية، فقال: اللهم اغفرها لهم، وانصرهم؛ وابجيلتاه؟ ثم حملت الكنود، فقيل: حملت كندة، فقال: واكندتاه ثم زحف الرؤساء بمن انتظر التكبيرة، فقامت حربهم على ساق حتى الصباح، فذلك ليلة الهرير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن نويرة، عن عنه أنس بن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغًا، بات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرًا لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء، حتى إذا كان وجه الصبح، انتهى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وأن الغلبة لهم.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الأعور بن بنان المنقري، قال: أول شئ سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشرًا وزائدًا ** أربعة وخمسة وواحدًا
نحسب فوق اللبد الأساودا ** حتى إذا ماتوا دعوتن جاهدًا
الله ربي، واحترزت عامدًا كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الأعور ومحمد عن عمه، والنضر عن ابن الرفيل، قالوا: اجتلدوا تلك الليلة من أولها حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسميت ليلة الهرير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عن مصعب بن سعد، قال: بعث سعد في تلك الليلة بجادًا وهو غلام إلى الصف، إذ لم يجد رسولًا، فقال: انظر ما ترى من حالهم؛ فرجع فقال: ما رأيت أي بني؟ قال: رأيتهم يلبعون، فقال: أو يجدون! كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن جرير العبدي، عن عابس الجعفى، عن أبيه، قال: كانت بإزاء جعفى يوم عماس كتبة من كتائب العجم، عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم، فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل في الحديد فارتدعوا، فقال حميضة: ما لكم؟ قالوا: لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا. فحمل على رجل منهم، فدق ظهره بالرمح، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: ما أراهم إلا يموتون دونكم. فحملوا عليهم فأزالوهم إلى صفهم.
كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: لا والله ما شهدها من كندة خاصة إلا سبعمائة؛ وكان بإزائهم ترك الطبرى، فقال الأشعث: يا قوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة، فأزالهم وقتل تركًا، فقال راجزهم:
نحن تركنا في المصطره ** مختضبًا من بهران الأبهره
ليلة القادسية
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وأصبحوا ليلة القادسية؛ وهي صبحة ليلة الهرير، وهي تسمى ليلة القادسية، من بين تلك الأيام والناس حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلها، فسار القعقاع في الناس، فقال: إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر. فآثروا الصبر على الجزع؛ فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم، حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح
ولما رات ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث والأشعث بن قيس وعمرو بن معد يكرب وابن ذي السهمين الخثعمى وابن ذي البردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ولا يكونن هؤلاء - لأهل فارس - أجرأ على الموت منكم؛ ولا اسخى أنفسًا عن الدنيا، تنافسوها. فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين يإزائهم وقام في ربيعة رجال، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى؛ فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم بالجرأة! فكان أول من زال حين قام قائم الظهيرة الهزمزان والبيرزان، فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب حين قام قائم الظهيرة، وركد عليهم النقع، وهبت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق؛ وهي ذبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علفة الحمل الذي رستم تحته؛ فقطع حباله، ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به؛ فأزال من ظهره فقارًا، ويضربه ضربه فنفحت مسكًا، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه؛ فتناوله وقد عام؛ وهلال قائم، فأخذ برجله، ثم خرج به إلى الجد، فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين أرجل البغال، وصعد السرير، ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة؛ إلى؛ فأطافوا به وما يحسون السرير ولا يرونه؛ وكبروا وتنادوا، وانبت قلب المشركين عندها وانهزموا، وقام الجالنوس على الردم، ونادى أهل فارس إلى العبور، وانسفر الغبار؛ فأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفًا، وأخذ ضرار بن الخطاب درفش كابيان، فعوض منها ثلاثين ألفًا وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف، وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام فبله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عمرو بن سلمة، قال: قتل هلال بن علفة رستم يوم القادسية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن مخراق، عن أبي كعب الطائي، أبيه قال: أصيب من الناس قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويم القادسية ستة آلاف من المسلمين، فدفنوا في الخندق بحيال مشرق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما انكشف أهل فارس؛ فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد، وطبقت القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة باتباعهم، فنادى زهرة في المقدمات، وأمر القعقاع بمن سفل، وشرحبيل بمن علا، وأمر خالد بن عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداء، فدفن الشهداء، شهداء ليلة الهرير ويوم القادسية، حول قديس ألفان وخمسمائة وراء العتيق بحيال مشرق، ودفن شهداء ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق، وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شئ لم يجمع قبله ولا بعده مثله؛ وأرسل سعد إلى هلال، فدعا له، فقال: أين صاحبك؟ قال: رميت به تحت أبغل؛ قال: اذهب فجئ به، فذهب فجاء به، فقال: جرده إلا ما شئت، فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئًا، ولما رجع القعقاع وشرحبيل قال لهذا: أغد فيما طلب هذا، وقال لهذا: أغد فيما طلب هذا؛ فعلا هذا، وسفل هذا، حتى بلغا مقدار الحرارة من القادسية، وخرج زهرة بن الحوية في آثارهم، وانتهى إلى الردم وقد بثقوه ليمنعوهم به من الطلب، فقال زهرة: يا بكير، أقدم، فضرب فرسه، وكان يقاتل على الإناث، فقال: ثبي أطلال، فتجمعت وقالت: وثبا وسورة البقرة! ووثب زهرة - وكان عن حصان - وسائر الخيل فاقتحمته، وتتابع على ذلك ثلثمائة فارس، ونادى زهرة حيث كاعت الخيل: خذوا أيها الناس على القنطرة، وعارضونا، فمضى ومضى الناس إلى القنطرة يتبعونه، فلحق بالقوم والجالنوس في آخرهم يحميهم، فشاوله زهرة، فاختلفا ضربتين، فقتله زهرة، وأخذ سلبه، وقتلوا ما بين الحرارة إلى السيلحين، إلى النجف؛ وأمسوا فرجعوا فباتوا بالقادسية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة، عن شقيق، قال: اقتحمنا القادسية صدر النهار، فتراجعنا وقد أتى الصلاة؛ وقد أصيب المؤذن، فتشاح الناس في الأذن حتى كادوا أن يجتلدوا بالسيوف، فأقرع سعد بينهم؛ فخرج سهم رجل فأذن.
ثم رجع الحديث. وتراجع الطلب الذين طلبوا من علا على القادسية ومن سفل عنها، وقد أنى الصلاة وقد قتل المؤذن فتشاحوا على الأذن، فأقرع بينهم سعد، وأقاموا بقية يومهم ذلك وليلتهم حتى رجع زهرة، وأصبحوا وهم جميع لا ينتظرون أحدًا من جندهم؛ وكتب سعد بالفتح وبعدة من قتلوا ومن أصيب من المسلمين، وسمى لعمر من يعرف مع سعد بن عميلة الفزاري.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: دعاني سعد، فأرسلني أنظر له في القتلى، وأسمى له رءوسهم، فأتيته فأعلمته، ولم أر رستم في مكانه، فأرسل إلى رجل من التيم يدعى هلالًا، فقال: ألم تبلغني أنك قتلت رستم! قال: بلى، قال: فما صنعت به؟ قال: ألقته تحت قوائم الأبغل، قال: فكيف قتله؟ فأخبره، حتى قال: ضربت جبينه وأنفه. قال: فجئنا به، فأعطاه سلبه، وكان قد تخفف حين وقع إلى الماء، فباع الذي عليه بسبعين ألفًا، وكانت قيمة قلنسوته مائة ألف لو ظفر بها. وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد، فقالوا: أيها الأمير؛ رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره؛ وكان الضرب قد شوهه؛ فضحك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وقال الديلم ورؤساء أهل المسالح الذين استجابوا للمسلمين، وقاتلوا معهم على غير الإسلام: إخواننا الذين دخلوا في هذا الأمر من أول الشأن أصوب منا خير، ولا والله لا يفلح اهل فارس بعد رستم إلا من دخل في هذا الأمر منهم؛ فأسلموا؛ وخرج صبيان العسكر في القتلى، ومعهم الأداوى يسقون من به رمق من المسلمين، ويقتلون من به رمق من المشركين، وانحدروا من العذيب مع العشاء. قال: وخرج زهرة في طلب الجالنوس، وخرج القعقاع وأخوة وشرحبيل في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كل قرية وأجمة وشاطئ نهر، ورجعوا فوافوا صلاة الظهر، وهنأ الناس أميرهم، وأثنى على كل حي خيرًا، وذكره منهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، قال: خرج زهرة حتى أدرك الجالنوس؛ ملكًا من ملوكهم؛ بين الحرارة والسيلحين، وعليه يارقان وقلبان وقرطان على برذون له قد خضد، فحمل عليه، فقتله. قال: والله إن زهرة يومئذ لعلى فرس له ما عنانها إلا من حبل مضفور كالمقود، وكذلك حزامها شعر منسوج، فجاء بسلبه إلى سعد، فعرف الأسارى الذين عند سعد سلبه، فقالوا: هذا سلب الجالنوس، فقال له سعد: هل أعانك عليه أحد؟ قال: نعم، قال: من؟ قال: الله، فنفله سلبه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال: كان سعد استكثر له سلبه، فكتب فيه إلى عمر، فكتب إليه عمر: إني قد نفلت من قتل رجلًا سلبه؛ فدفعه إليه فباعه بسبعين ألفًا.
وعن سيف، عن البرمكان، والمجالد عن الشعبي، قالك لحق به زهرة، فرفع له الكرة فما يخطئها بنشابة، فالتقيا فضربه زهرة فجد له - ولزهرة يومئذ ذاؤبه وقد سود في الجاهلية، وحسن بلاؤه في الإسلام وله سابقة، وهو يومئذ شاب - فتذرع زهرة ما كان على الجالنوس، فبلغ بضعة وسبعين ألفًا. فلما رجع إلى سعد نزع سلبه، وقال: ألا انتظرت إذني! وتكاتبا، فكتب عمر إلى سعد: تعمد إلى مثل زهرة - وقد صلى بمثل ما صلى به، وقد بقى عليك من حربك ما بقى - تكسر قرنه، وتفسد قلبه! أمض له سلبه، وفضله على أصحابه عند العطاء بخمسمائة.
وعن سيف، عن عبيد، عن عصمة، قال: كتب عمر إلى سعد: أنا أعلم بزهرة منك، وإن زهرة لم يكن ليغيب من سلب سلبه شيئًا؛ فإن كان الذي سعى به إليك كاذبًا فلقاه الله مثل زهرة، في عضديه يا رقان؛ وإني قد نفلت كل من قتل رجلًا سلبه؛ فدفعه إليه فباعه بسبعين ألفًا.
وعن سيف، عن عبيدة، عن إبراهيم وعامر، أن أهل البلاء يوم القادسية فضلوا عند العطاء بخمسمائة خمسمائة في أعطياتهم، خمسة وعشرين رجلًا؛ منهم زهرة، وعصمة الضبى، والكلج. وأما أهل الأيام، فإنه فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية.
وعن سيف، عن عبيدة، عن يزيد الضخم، قال: فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية! فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم. وقيل له في أهل القادسية. لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه! قال: وكيف أفضلهم عليهم على بعد دارهم، وهم شجن العدو، وما سويت بينهم حتى استطبتهم؛ فهلا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوا بفنائهم مثل هذا!
وعن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، وسعيد بن المرزبان عن رجل من بني عبس، قال: لما زال رستم عن مكانه ركب بغلًا، فلما دنا منه هلال نزع له نشابة، فأصاب قدمه فشكها في الركاب، وقال: بيابه، فأقبل عليه هلال. فنزل فدخل تحت البغل، فلما لم يصل إليه قطع عليه المال، ثم نزل إليه ففلق هامته.
وعن سيف، عن عبيدة، عن شقيق، قال: حملنا على الأعاجم يوم القادسية حملة رجل واحد، فهزمهم الله، فلقد رأيتني أشرت إلى أسوار منهم فجاء إلى وعليه التام، فضربت عنقه، ثم أخذت ما كان عليه.
وعن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن رجل من بني عبس، قال: أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم؛ قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعوا الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به، وحتى إنه ليأمر الرجلين أحدهما بصاحبه؛ وكذلك في العدة.
وعن سيف، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عمن شهدها، قال: أبصر سلمان بن ربيعة الباهلي أناسًا من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها، وجلسوا تحتها، وقالوا لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم فقتل من كان تحتها وسلبهم. وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية وكان أحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت، والآخر عبد الرحمن بن ربيعة ذو النور، ومال على آخرين قد تكتبوا، ونصبوا للمسلمين فطحنهم بخيله.
وعن سيف، عن الغصن، عن القاسم، عن البهى، أن الشعبي قال: كان يقال: لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور. فكان موضع المحبس اليوم دار عبد الرحمن بن ربيعة، والتي بينها وبين دار المختار دار سليمان؛ وإن الأشعث بن قيس استقطع فناء كان قدامها، هو اليوم في دار المختار، فأقطعه فقال له: ما جرأك على يا أشعث؟ والله لئن حزتها لأضربنك بالجنثى - يعنى سيفه - فانظر ما يبقى منك بعد فصدف عنها ولم يتعرض لها.
وعن سيف، عن المهلب ومحمد وطلحة وأصحابه، قالوا: وثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة، واستقتلوا واستحيوا من الفرار، فأبادهم الله، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، ولم يتبعوا فاله القوم، فصمد سلمان بن ربيعة لكتبية وعبد الرحمن بن ربيعة ذو النور لأخرى؛ وصمد لكل كتيبة منها رأس من رؤساء المسلمين. وكان قتال أهل هذه الكتائب، من أهل فارس على وجهين؛ فمنهم من كذب فهرب، ومنهم من ثبت حتى قتل؛ فكان ممن هرب من أمراء تلك الكتائب الهرمزان وكان بإزاء عطارد، وأهود وكان بإزاء حنظلة بن الربيع، وهو كاتب النبي ﷺ وزاد بن بهيش وكان بإزاء عاصم بن عمرو، وقارن وكان بإزاء القعقاع بن عمرو؛ وكان ممن استقتل شهريار بن كنار وكان بإزاء سلمان. وابن الهربذ وكان بإزاء عبد الرحمن، والفرخان الأهوازي بإزاء يسر بن أبي رهم الجهني، وحشر وشنوم والهمذاني وكان بحيال ابن الهذيل الكاهلي.
ثم إن سعدًا أتبع بعد ذلك القعقاع وشرحبيل من صوب في هزيمته أو صعد عن العسكر وأتبع زهرة بن الحوية الجالنوس.
ذكر حديث ابن سحاق
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ومات المثنى بن حارثة، وتزوج سعد بن أبي وقاص امرأته سلمى ابنة خصفة وذلك في سنة أربع عشرة. وأقام تلك الحجة للناس عمر بن الخطاب. ودخل أبو عبيدة بن الجراح تلك السنة دمشق، فشتا بها، فلما أصافت الروم سار هرقل في الروم حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلى وعاملة، وتلك القبائل من قضاعة، غسان بشر كثير؛ ومعه من أهل أرمينية مثل ذلك، فلما نزلها أقام بها، وبعث الصقلار؛ خصيًا له، فسار بمائة ألف مقاتل، معه من أهل أرمينة اثنا عشر ألفًا، عليهم جرحة، ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفًا عليهم جبلة بن الأيهم العساني، وسائرهم من الروم؛ وعلى جماعة الناس الصقلار خصى هرقل؛ وسار إليهم المسلمون وهم أربعة وعشرون ألفًا عليهم أبو عبيدة بن الجراح، فالتقوا باليرموك في رجب سنة خمس عشرة؛ فاقتتل الناس قتالًا شديدًا حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من نساء قريش بالسيوف حين دخل العسكر - منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام - حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام؛ فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا المسلمين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محي بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: قال قائل من المسلمين حين رأى من لخم وجذام ما رأى:
القوم لخم وجذام في الهرب ** ونحن والروم بمرج نضطرب
فإن يعودوا بعدها لا نصطحب حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب ابن كيسان، عن عبد الله بن الزبير، قال: كنت مع أبي الزبير عام اليرموك؛ فلما تعبى المسلمون للقتال، لبس الزبير لأمته، ثم جلس على فرسه، ثم قال لموليين له: احبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل؛ فإنه غلام صغير. قال: ثم توجه فدخل في الناس؛ فلما اقتتل الناس والروم نظرت إلى ناس وقوف على تل لا يقاتلون مع الناس. قال: فأخذت فرسًا للزبير كان خلفه في الرحل فركبته، ثم ذهبت إلى أولئك الناس فوقفت معهم؛ فقلت: أنظر ما يصنع الناس؛ فإذا أبو سفيان بن حرب في مشيخة من قريش من مهاجرة الفتح وقوفًا لا يقاتلون؛ فلما رأوني رأوا غلامًا حدثا، فلم يتقوني. قال: فجعلوا والله إذا مال المسلمون وركبتهم الحرب، للروم يقولون: إيه بلأ صفر! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون، قالوا: يا ويح بلأ صفر! فجعلت أعجب من قولهم، فلما هزم الله الروم ورجع الزبير، جعلت أحدثه خبرهم. قال: فجعل يضحك ويقول: قاتلهم الله، أبوا إلا ضغنًا! ماذا لهم إن يظهر علينا الروم! لنحن خير لهم منهم.
ثم إن الله تبارك وتعالى أنزل نصره، فهزمت الروم وجموع هرقل التي جمع فأصيب من الروم أهل إرمينية والمستعربة سبعون ألفًا، وقتل الله الصقلار وباهان؛ وقد كان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به، فملا هزمت الروم بعث أبو عبيدة عياض بن غنم في طلبهم، فسلك الأعماق حتى بلغ ملطية، فصالحه أهلها على الجزية، ثم انصرف، ولما سمع هرقل بذلك بعث إلى مقاتلتها ومن فيها، فساقهم إليه، وأمر بملطية فحرقت. وقتل من المسلمين يوم اليرموك من قريش من بني أمية بن عبد شمس عمرو بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص؛ ومن بني مخزوم عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد، ومن بني سهم سعيد بن الحارث بن قيس.
قال: وفي آخر سنة خمس عشرة، قتل الله رستم بالعراق؛ وشهد أهل اليرموك حين فرغوا منه يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، وذلك أن سعدًا حين حسر عنه الشتاء، سار من شراف يريد القادسية، فسمع به رستم، فخرج إليه بنفسه؛ فلما سمع بذلك سعد وقف، وكتب إلى عمر يستمده؛ فبعث إليه عمر المغيرة بن شعبة الثقفي في أربعمائة رجل مددًا من المدينة، وأمده بقيس بن مكشوح المرادي في سبعمائة، فقدموا عليه من اليرموك، وكتب إلى أبي عبيدة: أن أمد سعد بن أبي وقاص أمير العراق بألف رجل من عندك؛ ففعل أبو عبيدة، وأمر عليهم عياض بن غنم الفهري؛ وأقام تلك الحجة للناس عمر بن الخطاب سنة خمس عشرة.
وقد كان لكسرى مرابطة في قصر بني مقاتل، عليها النعمان بن قبيصة؛ وهو ابن حية الطائي ابن عم قبيصة بن إياس بن حية الطائي صاحب الحيرة؛ فكان في منظرة له، فلما سمع بسعد بن أبي وقاص سأل عنه عبد الله بن سنان ابن جرير الأسدي؛ ثم الصيداوى، فقيل له: رجل من قريش، فقال: أما إذ كان قرشيًا فليس بشئ؛ والله لأجاهدنه القتال؛ إنما قريش عبيد من غلب؛ والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير؛ فغضب حين قال ذلك عبد الله بن سنان الأسدي، فأمهله حتى إذا دخل عليه وهو نائم، فوضع الرمح بين كتفيه فقتله، ثم لحق بسعد فأسلم. وقال في قتله النعمان بن قبيصة:
لقد غادر الأقوام ليلة أدلجو ** بقصر العبادى ذا الفعال مجدلا
دلفت له تحت العجاج بطعنة ** فأصبح منها في النجيع مرملًا
أقول له والرمح في نغض كتفه ** أبا عامر عنك اليمين تحللا
سقيت بها النعمان كأسًا روية ** وعاطيته بالرمح سمًا مثملًا
تركت سباع الجو يعرفن حوله ** وقد كان عنها لأبن حية معزلا
كفيت قريشًا إذ تغيب جمعها ** وهدمت للنعمان عزًا مؤثلا
ولما لحق سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة وقيس بن مكشوح فيمن معهما، سار إلى رستم حين سمع به حتى نزل قادس - قرية إلى جانب العذيب - فنزل الناس بها، ونزل سعد في قصر العذيب، وأقبل رستم في جموع فارس ستين ألفًا مما أحصى لنا في ديوانه، سوى التباع والرقيق، حتى نزل القادسية وبينه وبين الناس جسر القادسية، وسعد في منزله وجع، قد خرج به قرح شديد، ومعه أبو محجن بن حبيب الثقفي محبوس في القصر، حبسه في شرب الخمر، فلما أن نزل بهم رستم بعث إليهم أن ابعثوا إلى رجلًا منكم جليداُ أكلمه، فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة، فجاءه وفد فرق رأسه أربع فرق: فرقة من بين يديه إلى قفاه، وفرقة إلى أذنيه، ثم عقص شعره، ولبس بردًا له، ثم أقبل حتى انتهى إلى رستم، ورستم من وراء الجسر العتيق مما يلي العراق، والمسلمون من ناحيته الأخرى مما يلي الحجاز فيما بين القادسية والعذيب، فكلمه رستم، فقال: إنكم معشر العرب كنتم أهل شقاء وجهد، وكنتم تأتوننا من بين تاجر وأجير ووافد، فأكلتم من طعامنا، وشربتم من شرابنا، واستظللتم من طلالنا؛ فذهبتم فدعوتم أصحابكم، ثم أتيتمونا بهم، وإنما مثلكم مثل رجل كان له حائط من عنب، فرأى فيه ثعلبًا واحدًا، فقال: ما ثعلب واحد! فانطلق الثعلب، فدعا الثعالب إلى الحائط؛ فلما اجتمعن فيه جاء الرجل فسد الجحر الذي دخلن منه، ثم قتلهن جميعًا. وقد أعلم أن الذي حملكم على هذا معشر العرب الجهد الذي قد أصابكم؛ فارجعوا عنا عامكم هذا، فإنكم قد شغلتمونا عن عمارة بلادنا، وعن عدونا، ونحن نوقر لكم ركائبكم قمحًا وتمرًا، ونأمر لكم بكسوة، فارجعوا عنا عافاكم الله! فقال المغيرة بن شعبة: لا تذكر لنا جهدًا إلا وقد كنا في مثله أو أشد منه؛ أفضلنا في أنفسنا عيشًا الذي يقتل ابن عمه، ويأخذ ماله فيأكله، نأكل الميتة والدم والعظام، فلم نزل كذلك حتى بعث الله فينا نبيًا، وأنزل عليه الكتاب، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به، فصدقه منا مصدق، وكذبه منا آخر، فقاتل من صدقه من كذبه، حتى دخلنا في دينه من بين موقن به، وبين مقهور؛ حتى استبان لنا أنه صادق، وأنه رسول من عند الله. فأمرنا أن نقاتل من خالفنا، وأخبرنا أن من قتل منا على دينه فله الجنة، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه؛ فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله، وتدخل في ديننا، فإن فعلت كانت لك بلادك، لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وإن أبيت ذلك فالجزية؛ وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال له رستم: ما كنت أظن أنى أعيش حتى حتى أسمع منكم هذا معشر العرب. لا أمسى غدًا حتى أفرغ منكم وأقتلكم كلكم. ثم بالعتيق أن يسكر، فبات ليلته يسكر بالبراذع والتراب والقصب حتى أصبح، وقد تركه طريقًا مهيعًا وتعبى له المسلمون، فجعل سعد على جماعة الناس خالد بن عرفطة حليف بني أمية بن عبد شمس، وجعل على ميمنة الناس جرير بن عبد الله البجلي، وجعل على ميسرتهم قيس بن المكشوح المرادي.
ثم زحف إليهم رستم، وزحف إليه المسلمون، وما عامة جننهم - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر - غير براذع الرحال، قد عرضوا فيها الجريد، يترسون بها عن أنفسهم، وما عامة ما وضعوه على رءوسهم إلا أنساع الرحال، يطوى الرجل نسع رحله على رأسه يتقى به، والفرس فيما بينهم من الحديد واليلامق؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وسعد في القصر ينظر، معه سلمى بنت خصفة؛ وكانت قبله عند المثنى بن حارثة، فجالت الخيل، فرعبت سلمى حين رأت الخيل جالت، فقالت: وامثنياه ولا مثنى لي اليوم! فغار سعد فلطم وجهها، فقالت: أغيرة وجبنًا! فلما رأى أبو محجن ما تصنع الخيل حين جالت، وهو ينظر من قصر العذيب وكان مع سعد فيه، قال:
كفى حزنًا أن تردى الخيل بالقنا ** وأترك مشدودًا على وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ** مصاريع دوني لا تجيب المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ** فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا
فكلم زبراء أم ولد سعد - وكان عندها محبوسًا، وسعد في رأس الحصن ينظر إلى الناس - فقال: يا زبراء، أطلقينى ولك على عهد الله وميثاقه، لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلى الحديد في رجلى، فأطلقته وحملته على فرس لسعد بلقاء وخلت سبيله، فجعل يشد على العدو وسعد ينظر. فجعل سعد يعرف فرسه وينكرها، فلما أن فرغوا من القتال؛ وهزم الله جموع فارس، رجع أبو محجن إلى زبراء، فأدخل رجله في قيده، فلما نزل سعد من رأس الحصن رأى فرسه تعرق، فعرف أنها قد ركبت، فسأل عن ذلك زبراء، فأخبرته خبر أبي محجن فخلى سبيله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: وقد كان عمرو بن معد يكرب شهد القادسية مع المسلمين.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود النخعي، عن أبيه، قال: شهدت القادسية؛ فلقد رأيت غلامًا منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار. فقلت: لقد أذل الله أبناء الأحرار؟! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي خالد، مولى بجيلة، عن قيس بن أبي حازم البجلي - وكان ممن شهد القادسية مع المسلمين - قال: كان معنا يوم القادسية رجل من ثقيف، فلحق بالفرس مرتدًا، فأخبرهم أن بأس الناس في الجانب الذي به بجيلة. قال: وكنا ربع الناس؛ فوجهوا إلينا ستة عشر فيلا وإلى سائر الناس فيلين، وجعلوا يلقون تحت أرجل خيولنا مسك الحديد، ويرشفوننا بالنشاب، فكأنه المطر علينا، وقرنوا خيلهم بعضها إلى بعض لئلا يفروا. قال: وكان عمرو بن معد يكرب يمر بنا فيقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أسودًا، فإنما الأسد من أغنى شأنه؛ فإنما الفارس تيس إذا ألقى نيزكه.
قال: وكان أسوار منهم لا يكاد تسقط له نشابة، فقلنا له: يا أبا ثور، اتق ذلك الفارس فإنه لا تقع له نشابة؛ فتوجه إليه ورماه الفارس بنشابة فأصاب قوسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه فذبحه، واستلبه سوارين من ذهب ومنطقة من ذهب ويلمقًا من ديباج، وقتل الله رستم، وأفاء على المسلمين عسكره وما فيه، وإنما المسلمون ستة آلاف أو سبعة آلاف، وكان الذي قتل رستم هلال بن علفة التيمي رآه فتوجه إليه، فرماه رستم بنشابة فأصاب قدمه وهو يتبعه، فشكها إلى ركاب سرجه، ورستم يقول بالفارسية: بيابه، أي كما أنت؛ وحمل عليه هلال بن علفة فضربه فقتله، ثم احتز رأسه فعلقه، وولت الفرس فأتبعهم المسلمون يقتلونهم؛ فلما بلغت الفرس الحرارة نزلوا فشربوا من الخمر، وطعموا من الطعام، ثم خرجوا يتعجبون من رميهم، وأنه لم يعمل في العرب. وخرج جالنوس فرفعوا له كرة فهو يرميها ويشكها بالنشاب، ولحق بهم فرسان من المسلمين وهم هنالك، فشد على جالنوس زهرة بن حوية التيمي فقتله، وانهزمت الفرس، فلحقوا بدير قرة وما وراءه، ونهض سعد بالمسلمين حتى نزل بدير قرة على من هنالك من الفرس؛ وقد قدم عليهم وهم بدير قرة عياض بن غنم في مدده من أهل الشأم، وهم ألف رجل، فأسهم له سعد ولأصحابه مع المسلمين فيما أصابوا بالقادسية، وسعد وجع من قرحته تلك، وقال جرير بن عبد الله:
أنا جرير كنيتي أبو عمرو ** قد نصر الله وسعد في القصر
وقال رجل من المسلمين أيضًا:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ** وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ** ونسوة سعد ليس فيهن أيم
قال: ولما بلغ ذلك من قولهما سعدًا، خرج إلى الناس فاعتذر إليهم، ورأاهم ما به من القرح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناس، ولم يكن سعد لعمري يجبن؛ فقال سعد يجيب جريرًا فيما قال:
وما أرجو بجلية غير أنى ** أومل أجرهم يوم الحساب
فقد لقيت خيولهم خيولا ** وقد وقع الفوارس في ضراب
وقد دلفت بعرصتهم فيول ** كأن زهاءها إبل جراب
ثم أن الفرس هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند، واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرند والحرير والسلاح وثياب كسرى وبناته، وخلوا ما سوى ذلك، وأتبعهم سعد الطلب من المسلمين، فبعث خالد بن عرفطة حليف بني أمية، ووجه معه عياض بن غنم في أصحابه، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي، وعلى ميسرتهم زهرة بن حوية التيمي؛ وتخلف سعد لما به من الوجع؛ فلما أفاق سعد من وجعه ذلك اتبع الناس بمن بقى معه من المسلمين؛ حتى أدركهم دون دجلة على بهر سير، فلما وضعوا على دجلة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة، فلم يهتدوا لها؛ حتى أتى سعدًا علج من أهل المدائن، فقال: أدلكم على طريق تدركونهم قبل أن يمعنوا في السير! فخرج بهم على مخاضة بقطر بل، فكان أول من خاض المخاضة هاشم بن عتبة في رجله، فلما جاز اتبعه خيلة، ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيله، ثم أجاز عياض بن غنم نجيلة، ثم تتابع الناس فخاضوا حتى أجازوا فزعموا أنه لم يهتد لتلك المخاضة بعد. ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط، فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو، فتردد الناس، وجبنوا عنه؛ فكان أول من دخله بجيشه هاشم بن عتبة، فلما أجاز ألاح للناس بسيفه، فعرف الناس أن ليس به شئ يخافونه، فأجازوا بهم خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بالناس، حتى انتهوا إلى جاولاء وبها جماعة من الفرسفكانت وقعة جلولاء بها، فهزم الله الفرس، وأصاب المسلمون بها من الفئ أفضل مما أصابوا بالقادسية، وأصيب ابنة لكسرى، يقال لها منجانة؛ ويقال: بل ابنة ابنة. وقال شاعر ن المسلمين:
يا رب مر حسن مطهم ** يحمل أثقال الغلام المسلم
ينجو إلى الرحمن من جهنم ** يوم جلولاء ويوم رستم
ويم زحف الكوفة المقدم ** ويم لاقى حنيقة مهزم
ثم كتب إلى سعد إلى عمر بما فتح الله بلى المسلمين؛ فكتب إليه عمر: أن قف ولا تطلبوا غير ذلك. فكتب إليه سعد أيضًا: إنما هي سربة واتخذ للمسلمين دار هجرة ومنزل جهاد، ولا تجعل بيني وبين المسلمين بحرًا. فنزل سعد بالناس الأنبار، فاجتووها وأصابتهم بها الحمى، فلم توافقهم، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك، فكتب إلى سعد أنه لا تصلح العرب إلا حيث يصلح البعير والشاة في منابت العشب؛ فانظر فلاة في جنب البحر فارتد للمسلمين بها منزلا.
قال: فسار سعد حتى نزل كويفة عمرو بن سعد، فلم توافق الناس مع الذباب والحمى. فبعث سعد رجلًا من الأنصار يقال له الحارث بن سلمة - ويقال: بل عثمان بن حنيف، أخابني عمرو بن عوف - فارتاد لهم موضع الكوفة اليوم، فنزلها سعد بالناس، وخط مسجدها، وخط فيها الخطط للناس.
وقد كان عمر بن الخطاب خرج في تلك السنة إلى الشأم فنزل الجابية، وفتحت عليه إيلياء؛ مدينة بيت المقدس، وبعث فيها أبو عبيدة بن الجراح حنظلة بن الطفيل السلمى إلى حمص، ففتحها الله على يديه، واستعمل سعد بن أبي وقاص على المدائن رجلًا من كندة، يقال له شرحبيل بن السمط؛ وهو الذي يقول فيه الشاعر:
ألا ليتني والمرء سعد بن مالك ** وربراء وابن السمط في لجة البحر
ذكر أحوال أهل السواد
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: قال رجل منا يوم القادسية مع الفتح:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ** وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ** ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فبعث بها في الناس، فبلغت سعدًا، فقال: اللهم إن كان كاذبًا، أو قال الذي رياء وسمعه وكذبًا، فاقطع عنى لسانه ويده.
وقال قبيضة: فو الله إنه لواقف بين الصفين يومئذ؛ إذا أقبلت نشابة لدعوة سعد، حتى وقعت في لسانه فيبس شقة؛ فما تكلم بكلمة حتى لحق الله.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام بن شريح الحارثى، عن أبيه، قال: قال جرير يومئذ:
أنا جرير كنيتي أبو عمرو ** قد نصر الله وسعد في القصر
فأشرف عليه، فقال:
وما أرجو بجيلة غير أنى ** أؤمل أجرها يوم الحساب
وقد لقيت خيولهم خيولًا ** وقد وقع الفوارس في الضراب
فلولا جمع قعقاع بن عمرو ** وحمال للجوا في الكذاب
هم منعوا جموعكم بطعن ** وضرب مثل تشقيق الإهاب
ولولا ذاك ألفيتم رعاعًا ** تشل جموعكم مثل الذباب
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن سليم بن عبد الرحمن السعدي، عن عثمان بن رجاء السعدي، قال: كان سعد بن مالك أجرأ الناس وأشجعهم؛ إنه نزل قصرًا غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس، ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذ برمته؛ فوالله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بن بشير، عن أم كثير؛ امرأة همام بن الحارث النخعي، قالت: شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوى، ثم أتينا القتلى؛ فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه؛ وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك، ونصرفهم به.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية - وهو ابن الحارث - عمن أدرك ذلك؛ قال: لم يكن من قبائل العرب أحد أكثر امرأوة يوم القادسية من بجلية والنخع، وكان في النخع سبعمائة امرأة فارغة، وفي بجيلة ألف، فصاهر هؤلاء ألف من أحياء العرب، وهؤلاء سبعمائة، وكانت النخع تسمى أصهار المهاجرين، وبجيلة، وإنما جرأهم على الإنتقال بأثقالهم توطئة خالد، والمثنى بعد خالد، وأبي عبيد بعد المثنى، وأهل الأيام، فلا قوا بأسًا بعد ذلك شديدًا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وكان بكير بن عبد الله الليثي وعتبة بن فرقد السلمى وسماك بن خرشة الأنصاري - وليس بأبي دجانة - قد خطبوا امرأة يوم القادسية، وكان مع الناس نساؤهم؛ وكانت مع النخع سبعمائة امرأة فارغة؛ وكانوا يسمون أختان المهاجرين حتى كان قريبًا؛ فتزوجهن المهاجرون قبل الفتح وبعد الفتح؛ حتى استوعبهن، فصار إليهن سبعمائة رجل من الأفناء؛ فلما فرغ الناس خطب هؤلاء النفر هذه المرأة - وهي أروى ابنة عامر الهلالية - هلال النخع؛ وكانت أختها هنيدة تحت القعقاع بن عمرو التيمي، فقالت لأختها: استشيري زوجك أيهم يراه لنا! ففعلت؛ وذلك بعد الوقعة وهم بالقادسية؛ فقالك القعقاع: سأصفهم في الشعر فانظرى لأختك، وقال:
إن كنت حاولت الداراهم فانكحى ** سماكًا أخا الأنصار أو إبن فرقد
وإن كنت حاولت الطعان فيممى ** بكيرًا إذا ما الخيل جالت عن الردى
وكلهم في ذروة المجد نازل ** فشأنكم إن البيان عن الغد
وقالوا: وكانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس في القادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين، وفيما بين الأبلة وأيلة؛ يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وكانت في كل بلد مصيخة إليها، تنظر مايكون من أمرها؛ حتى إن كان الرجل ليريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه حتى أنظرما يكون من أمر القادسية. فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن فأتت بها ناسًا من الإنس، فسبقت أخبار الإنس إليهم؛ قالوا: فبدرت امرأة ليلًا على جبل بصنعاء، لا يدري من هي؟ وهي تقول:
حييت عنا عكرم ابنة خالد ** وما خير زاد بالقليل المصرد
وحيتك عنى الشمس عند طلوعها ** وحياك عنى كل ناج مفرد
وحيتك عنى عصبة نخعية ** حسان الوجوه آمنوا بمحمد
أقاموا لكسرى يضربون جنوده ** بكل رقيق الشفرتين مهند
إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكل ** من الموت تسود الغياطل مجرد
وسمع أهل اليمامة مجتازًا يغنى بهذه الأبيات:
وجدنا الأكثرين بني تميم ** غداة الروع أصبرهم رجالًا
هم ساروا بأرعن مكفهر ** إلى لجب فزرتهم رعالا
بحور للأكاسير من رجال ** كأسد الغاب تحبهم جبالًا
تركن لهم بقادس عز فخر ** وبالخيفين أيامًا طوالا
مقطعة أكفهم وسوق ** بمردى حيث قابلت الرجالا
قال: وسمع بنجو ذلك في عامة بلاد العرب.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وكتب سعد بالفتح وبعدة من قتلوا وبعدة من أصيب من المسلمين؛ وسمى لعمر من يعرف مع سعد بن عميله الفزارى، وشاركهم النضر بن السري عن ابن الرفيل بن ميسور؛ وكان كتابه: أما بعد؛ فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراءون مثل زهائها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام وفي الفجاج؛ وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان، ورجال من المسلمين لاتعلمهم، الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل ذوى النحل، وهم آساد الناس؛ لا يشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد بن سعيد، قال: لما أتى عمر بن الخطاب نزول رسم القادسية، كان يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتضاف النهار، ثم يرجع إلى أهله ومنزله. قال: فلما لقى البشير سأله من أين؟ فأخبره، قال: يا عبد الله حدثني، قال: هزم الله العدو، وعمر يخب معه ويستخبره والآخر يسير على ناقته ولا يعرفه؛ حتى دخل المدينة، فإذا الناس يسلمون عليه بإمره المؤمنين، فقال: فهلا أخبرتني رحمك الله، أنك أمير المؤمنين! وجعل عمر يقول: لا عليك يا أخي! كتب إلى السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزيادة، قالوا: وأقام المسلمون في انتظار بلوغ البشير وأمر عمر، يقومون أقباضهم، ويحزرون جندهم، ويرمون أمروهم. قالوا: وتتابع أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك ودمشق، ورجعوا ممدين لأهل القادسية؛ فتوافوا بالقادسية من الغد ومن الغد، وجاء أولهم يوم أغواث، وآخرهم من بعد الغد من يوم الفتح، وقدمت أمداد فيها مراد وهمدان، ومن أفناء الناس، فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه عما يسألونه عما ينبغي أن يسار به فيهم - وهذا الكتاب الثاني بعد الفتح - مع نذير بن عمرو. ولما أتى عمر الفتح قام الناس فقرأ عليهم الفتح، وقال: إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تآسينا في عيشنا حتى نستوى في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل؛ إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض على الأمانة، فإن أبيتها ورددتها عليكم واتبعتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبقها إلى بيتي شقيت؛ ففرحت قليلا، وحزنت طويلًا، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.
قالوا: وكتبوا إلى عمر مع أنس بن الحليس: إن أقوامًا من أهل السواد أدعوا عهودًا، ولم يقم على عهد أهل الأيام لنا، ولم يف به أحد علمناه إلا أهل بانقيًا وبسمًا وأهل أليس الآخرة وادعى أهل السواد أن فارس أكرهوهم وحشروهم؛ فلم يخالفوا إلينا؛ ولم يذهبوا في الأرض.
كتب مع أبي الهياج الأسدي - يعنى ابن مالك - إن أهل السواد جلوا، فجاءنا من أمسك بعهده ولم يجلب علينا؛ فتممنا لهم ما كان بين المسلمين قبلنا وبينهم؛ وزعموا أن أهل السواد قد لحقوا بالمدائن، فأجدث إلينا فيمن تم وفيمن جلا وفيمن ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل، او استسلم؛ فإنا بأرض رغيبة، والأرض خلاء من أهلها، وعددنا قليل، وقد كثر أهل صلحنا؛ وإن عمر لنا وأوهن لعدونا تألفهم. فقام عمر في الناس فقال: إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا بضر إلا نفسه، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع، ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل الطاعة؛ أصاب أمره، وظفر بحظه، وذلك بأن الله عز وجل يقول: (ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدا)، وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر؛ وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئًا، ولم يجل، وفيمن استسلم. فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف لم يزده غابه إلا خيرا، وأن من ادعى فصدق أو وفى فبمنزلتهم، وإن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم؛ وأن يجعل أمر من جلا إليهم، فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال؛ وأن يخيروا من أقام واستسلم: الجزاء، أو الجلاء، وكذلك الفلاح.
وكتب جواب كتاب أنس بن الحليس: أما بعد؛ فإن الله جل وعلا أنزل في كل شئ رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر؛ فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرضى منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا في رخاء، والعدل - وإن رئى لينًا - فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وإن رئى شديدًا فهو أنكش للكفر؛ فمن تم على عهده من أهل السواد، ولم يعن عليكم بشئ؛ فلهم الذمة، وعليهم الجزية؛ وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض؛ فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاءوا؛ وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وأبلغوا مأمنهم.
وأجابهم في كتاب أبي الهياج: أما من أقام ولم يجل وليس له عهد فلم ما لأهل العهد بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة، وكذلك الفلاحون إذا فعلوا ذلك؛ وكل من ادعى ذلك فصدق فلهم الذمة؛ وإن كذبوا نبذ إليهم؛ وأما من أعان وجلا؛ فذلك أمر جعله الله لكم؛ فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقيموا لكم في أرضهم، ولهم الذمة وعليهم الجزية؛ وإن كرهوا ذلك فاقسموا ما أفاء الله عليكم منهم.
فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى عن السواد أن يتراجعوا، ولهم الذمة وعليهم الجزية، فتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم وازم عهده؛ إلا أن خرجوا أثقل؛ فأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم، وأنزلوا من أقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحين، ولم يدخلوا في الصلح ما كان لآل كسرى، ولا ما كان لمن خرج معهم، ولم يجبهم إلى واحدة من اثنتين: الإسلام، أو الجزاء، فصارت فيئًا لمن أفاء الله عليه؛ فهي والصوافى الأولى ملك لمن أفاء الله عليه، وسائر السواد ذمة وأخذوهم بخراج كسرى، وكان خراج كسرى على رءوس الرجال على ما في أيديهم من الحصة والأموال، وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى، ومن صوب معهم وعيال من قاتل معهم وماله، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه، وكا كان للسكك، وما كان لآل كسرى، فلم يتأت قسم ذلك الفئ الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم؛ لأنه كان متفرقًا في كل السواد، فكان يليه لأهل الفئ من وثقوا به، وتراضوا عليه؛ فهو الذي يتداعاه أهل الفئ لآعظم السواد؛ وكانت الولاة عند تنازعهم فيها بقسمة بينهم؛ فذلك الذي شبه على الجهلة أمر السواد، ولكن الحلماء أبوا، فتابع الولاة الحلماء، وترك قول السفهاء. كذلك صنع على رحمه الله، وكل من طلب إليه قسم ذلك فإنما تابع الحلماء، وترك قول السفهاء، وقالوا: لئلا يضرب بعضهم وجوه بعض.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن عامر الشعبي، قال: قلت له: السواد ما حاله؟ قال: أخذ عنوة، وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها؛ فدعوا إلى الصلح والذمة، فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة، عليهم الجزاء، ولهم المنعة، وذلك هو السنة، كذلك صنع رسول الله ﷺ بدومة، وبقى ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم فيئًا لمن أفاء الله عليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة وسفيان، عن ماهان، قالوا: فتح الله السواد عنوة - وكذلك كل أرض بينهما وبين نهر بلخ - إلا حصنًا، ودعوا إلى الصلح، فصاروا ذمة، وصارت لهم أرضوهم ولم يدخلوا في ذلك أموال آل كسرى ومن اتبعهم، فصارت فيئًا لمن أفاءه الله عليه، ولا يكون شئ من الفتوح فيئًا حتى يقسم؛ وهو قوله: (ما غنمتم من شيء)؛ مما اقتسمتم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: عامة ما أخذ المسلمون عنوة فدعوهم إلى الرجوع والذمة، وعرضوا عليهم الجزاء فقبلوه ومنعوهم.
وعن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: قلت له: إن أناسًا يزعمون أن أهل السواد عبيد، فقال: فعلام يؤخذ الجزاء من العبيد؟ أخذ السواد عنوة، وكل أرض علمتها إلا حصنًا في جبل أو نحوه. فدعوا إلى الرجوع، وقبل منهم الجزاء، وصاروا ذمة؛ وإنما يقسم من الغنائم ما تغنم؛ فأما ما لم يغنم وأجاب أهله إلى الجزاء من قبل أن يتغنم، فلهم جرت السنة بذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة، عن عبد الله بن المستورد، عن محمد بن سيرين، قالك البلدان كلها أخذت عنوة إلا حصون قليلة، عاهدوا قبل أن ينزلوا. ثم دعوا - يعنى الذين أخذوا عنوة - إلى الرجوع والجزاء، فصاروا ذمة أهل السواد، والجبل كله أمر لم يزل يصنع في أهل الفئ، وإنما عمل عمر والمسلمون في هذا الجزاء والذمة على إجرايا ما عمل به رسول الله ﷺ في ذلك، وقد كان بعث خالد بن الوليد من تبوك إلى دومة الجندل، فأخذها عنوة، وأخذ ملكها أكيدر بن عبد الملك أسيرًا، فدعاه إلى الذمة والجزاء، وقد أخذت بلاده عنوة، وأخذ أسيرًا؛ وكذلك فعل با بني عريض، وقد أخذا فادعيا أنهما أوداؤه، فعقد لهما على الجزية والذمة، وكذلك كان أمر يحنه ابن رؤية صاحب أيلة. وليس المعمول به من الأشياء كرواية الخاصة، من روى غير ما عمل به الأئمة العدول المسلمون، فقد كذب وطعن عليهم.
وعن سيف، عن حجاج الصواف، عن مسلم مولى حذيفة، قال: تزوج المهاجرون والأنصار في أهل السواد - يعنى في أهل الكتابين منهم، ولو كانوا عبيدًا لم يستحيوا ذلك، ولم يحل لهم أن ينكحوا إماء أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى يقول: (ومن لم يستطع منكم طولًا.. ) الآية، ولم يقل: " فتياتهم من أهل الكتابين ".
وعن سيف، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، قال: بعث عمر بن الخطاب إلى حذيفة بعدما ولاه المدائن وكثر المسلمات: إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها. فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني: أحلال أم حرام، وما أردت بذلك! فكتب إليه: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم. فقال: الآن؛ فطلقها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أشعث، بن سوار، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: شهدت القادسية مع سعد، فتزوجنا نساء أهل الكتاب، ونحن لا نجد كثير مسلمات، فلما قفلنا؛ فمنا من طلق، ومنا من أمسك.
وعن سيف، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع والجزاء، فأجابوا إليه، فصاروا ذمة، إلا ما كان لآل كسرى، وأتباعهم، فصار فيئًا لأهله، وهو الذي يتحجى أهل الكوفة إلى أن أجهل ذلك، فحسبوه السواد كله، وأما سوادهم؛ فذلك.
وعن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن إبراهيم بن يزيد النخعى، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع، فن أجاب فعليه الجزية وله الذمة، ومن أبى صار ماله فيئًا، فلا يحل بيع شئ من ذلك الفئ فيما بين الجبل إلى العذيب من أرض السواد ولا في الجبل.
وعن سيف، عن محمد بن قيس، عن الشعبي، بمثله: لا يحل بيع شئ من ذلك الفئ فيما بين الجبل والعذيب.
وعن سيف، عن عمرو بن محمد، عن عامر، قال: أقطع الزبير وخباب وابن مسعود وابن ياسر وابن هبار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأ؛ وهم الذين أخذنا عنهم ديننا. وأقطع عمر طلحة وجرير بن عبد الله والربيل بن عمرو، وأقطع أبا مفرزردار الفيل في عدد ممن أخذنا عنهم، وإنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء الله. وكتب عمر إلى عثمان بن حنيف مع جرير: أما بعد؛ فأقطع جرير ابن عبد الله قدر ما يقوته لا وكس ولا شطط فكتب عثمان إلى عمر: إن جريرًا قدم على بكتاب منك تقطعه ما يقوته ما يقوته، فكرهت أن أمضى ذلك حتى أراجعك فيه. فكتب إليه عمر: أن قد صدق جرير، فأنفذ ذلك، وقد أحسنت في مؤامرتي وأقطع أبا موسى. وأقطع على رحمه الله كردوس بن هانئ الكردوسية، وأقطع سويد بن غفلة الجعفى.
وعن سيف، عن ثابت بن هريم، عن سويد بن غفلة، قال: استقطعت عليًا رحمه الله، فقال: اكتب: هذا ما أقطع على سويدًا أرضًا لداذويه؛ ما بين كذا إلى كذا وما شاء الله.
وعن سيف، عن المستنير، عن إبراهيم بن يزيد، قال: عمر: إذا عاهدتم قومًا فأبرءوا إليهم من معرة الجيوش. فكانوا يكتبون في الصلح لمن عاهدوا: ((ونبرأ إليكن من معرة الجيوش)).
وقال الواقدي: كانت وقعة القادسية وافتتاحها ست عشرة، وكان بعض أهل الكوفة يقول: كانت وقعة القادسية سنة خمس عشرة.
قال: والثبت عندنا أنها كانت في سنة عشرة.
وأما محمد بن إسحاق فإنه قال: كانت سنة خمس عشرة، وقد مضى ذكرى الرواية عنه بذلك
ذكر بناء البصرة
قال أبو جعفر: وفي سنة أربع عشرة أمر عمر بن الخطاب رحمه الله - فيما زعم الواقدي - الناس بالقيام في المساجد في شهر رمضان بالمدينة، وكتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك.
وفي هذه السنة - أعني سنة أربع عشرة - وجه عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان إلى البصرة، وأمره بنزولها بمن معه، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني وروايته.
وزعم سيف أن البصرة مصرت في ربيع سنة ست عشرة، وأن عتبة بن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت والحصنين؛ وجهه غليها سعد بأمر عمر.
كتب إلي السري، عن شعيب، عنه. فحدثني عمر بن شبة؛ قال: حدثنا علي بن محمد، عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قتل مهران سنة أربع عشرة في صفر، فقال عمر لعتبة - يعني ابن غزوان -: قد فتح الله جل وعز على إخوانكم الحيرة وما حولها، وقتل عظيم من عظمائها، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس؛ فإني أريد أن أوجهك إلى أرض الهند، لتمنع أهل تلك الجيزة من إمداد إخوانهم على إخوانكم، وتقاتلهم؛ لعل الله أن يفتح عليكم. فسر على بركة الله، واتق الله ما استطعت، واحكم بالعدل، وصل الصلاة لوقتها، وأكثر ذكر الله. فأقبل عتبة في ثلثمائة وبضعة عشر رجلًا، وضوى إليه قوم من الأعراب وأهل البوادي، فقدم البصرة في خمسمائة، يزيدون قليلًا أو ينقصون قليلًا، فنزلها في شهر ربيع الأول - أو الآخر - سنة أربع عشرة، والبصرة يومئذ تدعى أرض الهند فيها حجارة بيض خشن، فنزل الخريبة، وليس بها إلا سبع دساكر؛ بالزابوقة والخيبة وموضع بني تميم والأزد: ثنتان بالخريبة، وثنتان بالأزد، وثنتان في موضع بني تميم وواحدة بالزابوقة. فكتب إلى عمر، ووصف له منزله فكتب إليه عمر: اجمع للناس موضعًا واحدًا؛ ولا تفرقهم؛ فأقام عتيبة أشهرًا لا يغزو ولا يلقى أحدًا.
وأما محمد بن بشار؛ فإنه حدثنا، قال: حدثنا صفوان بن عيسى الزهري، قال: حدثنا عمرو بن عيسى أبو نعامة العدوي، قال: سمعت خالد بن عمير وشويسًا أبا الرقاد، قالا بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان، فقال له: انطلق أنت ومن معك؛ حتى إذا كنتم في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم، فأقيموا. فأقبلوا حتى إذا كانوا بالمريد وجدوا هذا الكذان. قالوا: ما هذه البصرة؟ فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير، فإذا فيه حلفاء وقصب نابتة، فقالوا: هاهنا قومًا معهم راية، وهم يريدونك، فأقبل في أربعة أسوار، فقال: ماهم إلا ما أرى؛ اجعلوا في أعناقهم الحبال؛ وأتونى بهم؛ فجعل عتبة يزحل، وقال: إني شهدت الحرب مع النبي ﷺ؛ حتى إذا زالت الشمس، قال: احملوا؛ فحملوا عليهم فقتلوهم أجمعين، فلم يبق منهم أحدًا إلا صاحب الفرات، أخذواه أسيرًا، فقال عتبة بن غزوان: ابغوا لنا منزلًا هو أنزه من هذا - وكان يوم عكاك وومد - فرفعوا له منبرًا، فقام يخطب، فقال: إن الدنيا قد تصرمت وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناة. ألا وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم. وقد ذكر لى: لو أن صخرة ألقت من شفير جهنم هوت سبعين خريفًا، ولتملأنه؛ أو عجبتم! ولقد ذكر لى أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ بزحام، ولقد رأيتنى وأنا سابع سبعة مع النبي ﷺ، ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى تقرحت أشداقنا؛ والتقت بردة فشققتها بينى وبين سعد، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار، وسيجربون الناس بعدنا.
وعن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما توجه عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور من المدائن إلى فرج الهند، نزل على الشاطئ بحيال جزيرة العرب، فأقام قليلًا ثم أرز، ثم شكوا ذلك حتى أمره عمر بأن ينزل الحجر بعد ثلاثة أوطان إذا اجتووا الطين، فنزلوا في الرابعة البصرة - والبصرة كل أرض حجارتها جص - وأمر لهم بنهر يجري من دجلة، فساقوا إليها نهرًا للشفة، وكان إيطان أهل البصرة اليوم وإيطال أهل الكوفة اليوم في شهر واحد. فأما أهل الكوفة فكان مقامهم قبل نزولها المدائن إلى أن وطنوها، وأما أهل البصرة فكان مقامهم على شاطئ دجلة. ثم أزروا مرات تحتى استقروا وبدءوا، فخنسوا فرسخًا وجروا معهم نهرًا، ثم فرسخًا ثم جروه ثم فرسخًا، ثم جروه ثم أتوا الحجر، ثم جروه، واختطت على نحو من خطط الكوفة، وكان على إنزال البصرة أبو الجرباء عاصم بن الدلف، أحد بني غيلان بن مالك بن عمرو بن تميم.
وقد كان قطبة بن قتادة - فيما حدثني عمر، قال: حدثنا المدائني عن النضر بن إسحاق السلمى، عن قطبة بن قتادة السدوسي - يغير بناحية الخريبة من البصرة، كما: ان المثنى بن حارثة الشيباني يغير بناحية الحبيرة. فكتب إلى عمر يعلمه مكانه، وأنه لو كان معه عدد يسير ظفر بمن قبله من العجم، فنفاهم من بلادهم. وكانت الأعاجم بتلك الناحية قد هابوه بعد وقعة خالد بنهر المرأة فكتب إليه عمر: إنه أتاني كتابك أنك تغير على من قبلك من الأعاجم، وقد أصيب ووفقت؛ أقم مكانك، واحذر على من معك من أصحابك حتى يأتيك أمرى. فوجه عمر شريح بن عامر، أحد بني سعد بن بكر إلى البصرة؛ فقال له: كن ردءًا للمسلمين بهذه الجيزة، فأقبل إلى البصرة؛ فترك بها قطبة، ومضى إلى الأهواز حتى انتهى إلى دارس، وفيها مسلحة للأعاجم؛ فقتلوه، وبعث عمر عتبة بن غزوان.
حدثنا عمر، قال: حدثني على، عن عيسى بن يزيد، عن عبد الملك بن حذيفة ومحمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، قال: إن عمر قال لعتبة بن غزوان إذ وجهه إلى البصرة: يا عتبة، إني قد استعملتك على أرض الهند، وهي حومة من حومة العدو، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، وأن يعينك عليها. وقد كتب إلى العلاء بن الحضرمى أن يمدك بعرفجة بن هرثمة؛ وهو ذو مجاهدة العدو ومكايدته، فإذا قدم عليك فاستشره وقربه، وادع إلى الله؛ فمن أجابك فاقبل منه، من أبى فالجزية عن صغار وذلة، وإلا فالسيف في غير هوادة. واتق الله فيما وليت، وإياك أن تناوعك نفسك إلى كبر يفسد عليك إخوتك، وقد صبحت رسول الله ﷺ فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميرًا مسلطًا وملكًا مطاعًا، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، قيالها نعمة؛ إن لم ترفعك فوق قدرك وتبرطرك على من دونك! احتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية؛ ولهى أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك، فتسقط سقطة تصير بها إلى جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك. إن الناس أسرعوا إلى الله حين رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأراد الله ولا ترد الدنيا، واتق مصارع الظالمين.
حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا على، قال: حدثنا أبو إسماعيل الهمداني وأبو مخنف، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، قال: قدم عتيبة بن غزوان البصرة في ثلثمائة، فلما رأى منبت القصب، وسمع نقيق الضفادع قال: إن أمير المؤمنين أمرني أن أنزل أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم؛ فهذا حيث واجب علينا فيه طاعة إمامنا. فنزل الخربية وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها. وكانت مرفأ السفن من الصين وما دونها، فسار عتيبة فنزل دون الإجانة، فأقام نحوا من شهر، ثم خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة، وجعل قطبة بن قتادة السدوسي وقسامة بن زهير المازني في عشرة فوارس، وقال لهما: كونا في ظهرنا، فتردا المنهزم، وتمنعا من أرادنا من ورائنا ثم التقوا فما اقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها؛ حتى منحهم الله أكتافهم، وولوا منهزمين؛ حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره، فأقاموا أيامًا، وألقى الله في قلوبهم الرعب. فخرجوا عن المدينة، وحملوا ما خف لهم، وعبروا إلى الفرات، وخلوا المدينة، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعًا وسلاحًا وسبيًا وعينًا، فاقتسموا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وولى عتبة نافع بن الحارث أقباض الأبلة؛ فأخرج خمسة، ثم قسم الباقي بين أفاءه الله عليه؛ وكتب بذلك مع نافع بن الحارث.
وعن بشير بن عبيد الله؛ قال: قتل نافع بن الحارث يوم الأبلة تسعة، وأبو بكر ستة.
وعن داود بن أبي هند، قال: أصاب المسلمون بالأبلة من الدراهم ستمائة درهم، فأخذ كل رجل درهمين، ففرض عمر لأصحاب الدرهمين ممن أخذهما من فتح الأبلة في ألفين من العطاء، وكانوا ثلثمائة رجل، وكان فتح الأبلة في رجب، أو في شعبان من هذه السنة.
وعن الشعبي، قال: شهد فتح الأبلة مائتان وسبعون، فيهم أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، والمغيرة بن شعبة، ومجاشع بن مسعود، وأبو مريم البلوى، وربيعة بن كلدة بن أبي الصلت الثقفي، والحجاج.
وعن عباية بن عبد عمرو، قال: شهدت فتح الأبلة مع عتبة، فبعث نافع بن الحارث إلى عمر رحمه الله بالفتح، وجمع لنا أهل دست ملسان، فقال: عتبة: ارى أن نسير إليهم، فسرنا فلقينا مرزبان دست ميسان، فقاتلناه، فانهزم أصحابه وأخذ أسيرًا، فأخذ قباؤه ومنطقته، فبعث به عتبة مع أنس ابن حجية اليشكرى.
وعن أبي المليح الهذلي، قال: بعث عتبة أنس بن حجية إلى عمر بمنطقة مرزبان دست ميسان؛ فقال له: كيف المسلمون؟ قال: انثالت عليهم الدنيا، فهم يهيلون الذهب والفضة. فرغب الناس في البصرة، فأتوها.
وعن علي بن زيد، قال: لما فرغ عتبة من الأبلة، جمع له مرزبان دست ميسان، فسار إليه عتيبة فقتله، ثم سرح بما سعود إلى الفرات وبها مدينة ووفد عتبة إلى عمر، وأمر المغيرة أن يصلى بالناس حتى يقدم مجاشع من الفرات، فإذا قدم فهو الأمير. فظفر مجاشع بأهل الفرات، ورجع إلى البصرة وجمع الفيلكان؛ عظيم من عظماء أبز قباذ للمسلمين، فخرج إليه المغيرة بن شعبة، فلقيه بالمرغاب، فظفر به، فكتب إلى عمر بالفتح، فقال عمر لعتبة: من استعملت على البصرة؟ قال: مجاشع بن مسعود، قال: لا، تستعمل رجلًا من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث! قال: لا، فأخبره بما كان من أمر المغيرة، وأمره أن يرجع إلى عمله، فمات عتبة في الطريق، واستعمل عمر المغيرة بن شعبة.
وعن عبد الرحمن بن جوشن، قال: شخص عتبة بعدما ما قتل مرزبان دست ميسان، ووجه مجاشعًا إلى الفرات، واستخلفه على عمله، وأمر المغيرة ابن شعبة بالصلاة حتى يرجع مجاشع من الفرات، وجمع أهل ميسان، فلقيهم المغيرة، وظهر عليهم قبل قدوم مجاشع من الفرات، وبعث بالفتح إلى عمر.
الطبري، بإسناده عن قتادة، قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف المغيرة الأثقال، فلقى العدو دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم! فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مددًا أتى المسلمين فانكشفوا، وأتبعهم المسلمون فقتلوا منهم عدة.
وعن حارثة بن مضرب، قال: فتحت الأبلة عنوة فقسم بينهم عتبة - ككة - يعنى خبزًا أبيض. وعن محمد بن سيرين مثله.
قال الطبري، وكان ممن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصري، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان.
وعن المثنى بن موسى بن سلمة بن المحبق، عن أبيه، عن جدة، قال: شهدت فتح الأبلة، فوقع لي في سهمي قدر نحاس، فلما نظرت إذا هي ذهب فيها ثمانون ألف مثقال، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب أن يصبر يمين سلمة بالله لقد أخذها وهي عنده نحاس، فإن حلف سلمت إليه؛ وإلا قسمت بين المسلمين. قال: فحلفت، فسلمت لي.
قال: المثنى: فأصول أموالنا اليوم منها.
وعن عمرة ابنة قيس، قالت: لما خرج الناس لقتال أهل الأبلة خرج زوجي وابني معهم، فأخذوا الدرهمين ومكوك زبيب، وإنهم مضوا حتى إذا كانوا حيال الأبلة، قالوا للعدو، نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ قال: بل اعبروا إلينا فأخذوا خشب العشرة فأوثقوه، وعبروا إليهم، فقال المشركون: لا تأخذوا أولهم حتى يعبر آخرهم. فلما صاروا على لأرض كبروا تكبيرة، ثم كبروا الثانية، فقامت دوابهم على أرجلها، ثم كبروا الثالثة فجعلت الدابة تضرب بصاحبها الأرض، وجعلنا ننظر إلى رءوس تنذر، ما نرى من يضربها؛ وفتح الله على أيديهم.
المدائني، قال: كانت عند عتبة صفية بنت الحارث بن كلدة، وكانت أختها أردة بنت الحارث عند شبل بن معبد البجلي، فلما ولى عتبة البصرة انحدر معه أصهاره: أبو بكرة، ونافع، وشبل بن معبد؛ وانحدر معهم زياد؛ فلما فتحوا الأبلة لم يجدوا قاسمًا يقسم بينهم، فكان زياد قاسمهم؛ وهو ابن أربع عشرة سنة، له ذؤابة، فأجروا عليه كل يوم درهمين.
وقيل: إن إمارة عتبة البصرة كانت سنة خمس عشرة، وقيل ست عشرة؛ والأول أصح؛ فكانت إمارته عليها ستة أشهر.
واستعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة فبقى سنتين، ثم رمى بمارمى؛ واستعمل أبا موسى، وقيل استعمل بعد عتبة أبا موسى، وبعده المغيرة.
وفيها - أعني أربع عشرة - ضرب عمر ابنة عبيد الله وأصحابه في شراب شربوه وأبا محجن.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان على مكة عتاب بن أسيد في قوله، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، وعلى الشأم أبو عبيدة بن الجراح، وعلى البحرين عثمان بن أبي العاص - وقيل: العلاء بن الحضرمى - وعلى عمان حذيفة بن محصن.
ثم دخلت سنة خمس عشرة
قال ابن جرير: قال بعضهم: فيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة؛ دلهم عليها ابن بقيلة؛ قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق، وانحدرت عن الفلاة! فدلتهم على موضع الكوفة اليوم.
ذكر الوقعة بمرج الروم
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص، وانصرف إليهم من اليرموك؛ فنزلوا جميعًا على ذي الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذارا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله يوم نزل عليه شنس الرومي، في مثل خيل توذرا؛ إمدادًا لتوذرا وردءًا لأهل حمص؛ فنزل في عسكر على حدة، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من توذارا بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدًا الخبر أن توذرا قد رحل إلى دمشق، فأجمع رأيه ورأى أبي عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه خالد من ليلته في جريدة؛ وقد بلغ يزيد بن أبي سفيان الذي فعل، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون؛ فأخذهم من خلفهم، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم؛ فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد؛ فأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب، وقسم ذلك يزيد بن أبي سفيان على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة، وقد قتل خالد توذرا، وقال خالد:
نحن قتلنا شوذرا ** وقبله ما قد قتلنا حيدرًا
نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا وقد ناهد أبو عبيدة بعد خروج خالد في أثر توذرا شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم مقتلة عظيمة، وقتل أبو عبيدة شنس، وامتلأ المرج من قتلاهم، فأنتنت منهم الأرض، وهرب من هرب منهم، فلم يفلتهم، وركبوا أكساءهم إلى حمص.
ذكر فتح حمص
حكى الطبرى عن سيف، عن كتابه، عن أبي عثمان، قال: ولما بلغ هرقل الخبر بمقتل أهل المرج، أمر أمير حمص بالسير والمضى إلى حمص، وقال: إنه بلغني أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحدًا، هذا جل طعامه وشرابه. وارتحل من عسكره ذلك، فأتى الرهاء، وأخذ بعده حتى ينزل عليها، فكانوا يعارون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد؛ ولقى المسلمون بها بردًا شديدًا، والروم حصارًا طويلًا، فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ الله عليهم الصبر، وأعقبهم النصر، حتى اضطرب الشتاء، وإنما تمسك القوم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء.
وعن أبي الزهراء القشيرى، عن رجل من قومه، قال: كان أهل حمص يتواصون فيما بينهم، ويقولن: تمسكوا فإنهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون؛ فكانت الروم تراجع، وقد سقطت أقدام بعضهم في خفافهم، وإن المسلمين في النعال ما أصيب أصبع أحد منهم، حتى إذا انخنس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين. قالوا: كيف والملك في سلطانه وعزه، ليس بيننا وبينهم شيء فتركهم وقم فيهم آخر فقال ذهب الشتاء وانقطع الرجاء، فما تنتظرون؟ فقالوا: البرسام، فإنما يسكن في الشتاء ويظهر في الصيف، فقال: إن هؤلاء قوم يعانون؛ ولأن تأتونهم بعهد وميثاق، خير من أن تؤخذوا عنوة؛ أجيبوني محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين! فقالوا: شيخ خرف، ولا علم له بالحرب.
وعن أشياخ من غسان وبلقين، قالوا أثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص أن زلزل بأهل حمص؛ وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وإلى ذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة، فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك، ثم كبروا الثانية، فتهافتت منها دور كثيرة وحيطان؛ وفزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب الله! فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم؛ فأشرفوا فنادوا: الصلح الصلح! ولا يشعرون المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال الروم وبينانهم؛ لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام، على كل جريب أبدًا أيسروا أو أعسروا. وصالح بعضهم على قدر طاقته؛ إن زاد ماله زيد عليه، وإن نقص نقص، وكذلك كان صلح دمشق والأردن؛ بعضهم على شئ إن أيسروا وإن عسروا، وبعضهم على قدر طاقته، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.
وبعث أبو عبيدة السمط بن الأسود بني معاوية، والأشعث بن مئناس في السكون، معه ابن عابس، والمقداد في بلى، وبلالا وخالدًا في الجيش، والصباح بن شتير وذهيل بن عطية وذا شمستان، فكانوا في قصبتها. وأقام في عسكره، وكمتب إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع عبد الله بن مسعود، وقد وفده. وأخبر هرقل؛ وأنه عبر الماء إلى الجزيرة، فهو بالرهاء ينغمس أحيانًا، ويطلع أحيانًا. فقدم ابن مسعود على عمر، فرده، ثم بعثه بعدذلك إلى سعد بالكوفة، ثم كتب إلى أبي عبيدة: أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشأم، فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكانفك؛ إن شاء الله.
حديث قنسرين
وعن أبي عثمان وجارية، قالا: وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليهم الروم، وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتله لم يقتلوا مثلها، فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربة، فقبل منهم وتركهم. ولما بلغ عمر ذلك قال: أمر خالد نفسه؛ يرحم الله أبا بكر؛ هو كل أعلم بالرجال منى، وقد كان عزله والمثنى مع قيامه، وقال: إني لم أعزلهما عن ريبة؛ ولكن الناس عظموها، فخشيت أن يوكلوا إليهما. فلما كان من أمره وأمر قنسرين ما كان، رجع عن رأيه، وسار خالد حتى نزل قنسرين، فتحصنوا منه، فقال: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم الله إلينا. قال: فنظروا في أمرهم، وذكروا ما لقى أهل حمص؛ فصالحوه على صلح حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة فأخبرها، واتطأت حمص وقنسرين؛ فعند ذلك خنس هرقل؛ وإنما كان سبب خنوسه أن خالدًا حين قتل ميتاس ومات الروم على دمه، وعقد لأهل الحاضر وترك قنسرين، طلع من قبل الكوفة عمر بن مالك من قبل قرقيسيا، وعبد الله بن المعتم من قبل الموصل، والوليد بن عقبة من بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة، وطووا مدائن الجزيرة من نحو هرقل، وأهل الجزيرة في حران والرقة ونصيبين وذواتها لم يغرضوا غرضهم؛ حتى يرجعوا إليهم؛ إلا أنهم خلفوا في الجزيرة الوليد لئلا يؤتوا من خلفهم؛ فأدرب خالد وعياض مما يلي الشأم، وأدرب عمر وعبد الله مما يلي الجزيرة؛ ولم يكونوا أدبروا قبله؛ ثم رجعوا، فهي أول مدربة كانت في الإسلام سنة ست عشرة. فرجع خالد إلى قنسرين فنزلها، وأتته امرأته، فلما عزله قال: إن عمرو ولا أن الشأم حتى إذا صارت بثينة وعسلًا عزلني.
قال أبو جعفر الطبري: ثم خرج هرقل نحو القسطنطينة، فاختلف في حين شخوصة إليها وتركه بلاد الشأم؛ فقال ابن إسحاق: كان ذلك سنة خمس عشرة؛ وقال سيف: كان سنة ست عشرة.
ذكر خبر ارتحال هرقل إلى القسطنطينية
ذكر سيف عن أبي الزهراء القشيرى، عن رجل من بني قشير، قالوا: لما خرج هرقل من الرهاء واستتبع أهلها، قالوا: نحن ها هنا خير منا معك، وأبوا أن يتبعوه، وتفرقوا عنه وعن المسلمين؛ وكان أول من أبج كلابها، وأنفر دجاجها زياد بن حنظلة، وكان من الصحابة، وكان مع عمر بن مالك مسانده، وكان حليفًا لبني عبد بن قصي؛ وقبل ذلك ما قد خرج هرقل حتى شمشاط؛ فلما نزل القوم الرهاء أدرب فنفذ نحو القسطنطينية، ولحقه رجل من الروم كان أسيرًا في أيدي المسلمين، فأفلت، فقال: له أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: احدثك كأنك تنظر إليهم؛ فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليرثنى ما تحت قدمي هاتين.
وعن عبادة وخالد، أن هرقل كان كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن في أرض الروم التفت فقال: عليك السلام يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد. فلما توجه المسلمون نحو حمص عبر الماء، فنزل الرهاء، فلم يزل بها حتى طلع أهل الكوفة وفتحت قنسرين وقتل ميناس، فخنس عند ذلك إلى شمشاط؛ حتى إذا فصل منها نحو الروم علا على شرف، فالتفت ونظر نحو سورية، وقال: عليك السلام يا سورية، سلامًا لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومى أبدًا إلا خائفًا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد! ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم!
وعن أبي الزهراء وعمرو بن ميمون، قالا: لما فصل هرقل من شمشاط داخلا الروم التفت إلى سورية، فقال: قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسلم المفارق، ولا يعود إليك رومى أبدًا إلا خائفًا، حتى يولد المولود المشئوم، وليته لم يولد! ومضى حتى نزل القسطنطينية. وأخذ أهل الحصون التي بين اسكندرية وطرسوس معه؛ لئلا يسير المسلمون لا يجدون بها أحدًا، وربما كمن عندها الروم؛ فأصابوا غرة المتخلفين، فاحتاط المسلمون لذلك.
ذكر فتح قيسارية وحصر غزة
ذكر سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة، عن خالد وعبادة، قالا لما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص من فحل، نزل عمرو وشرحبيل على بيسان فافتتحاها، وصالحته الأردن، واجتمع عسكر الروم بأجنادين. وبيسان وغزة، وكتبوا إلى عمر بتفرقهم، فكتب إلى يزيد بأن يدفئ ظهورهم بالرجال، وأن يسرح معاوية إلى قبسارية. وكتب إلى عمرو يأمره بصدم الأرطبون، وإلى علقمة بصدم الفيقار.
وكان كتاب عمر إلى معاوية: أما بعد، فإني قد وليتك قيسارية، فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: ((لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا مولانا، نعم المولى ونعم النصير)). فانتهى الرجلان إلى ما أمرا به، وسار معاوية في جنده حتى نزل على أهل قيسارية وعليهم أبنى، فهزمه وحصره في قيسارية. ثم إنهم جعلوا يزاحفونه، وجعلوا لا يزاحفونه من مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم. ثم زاحفوه آخر ذلك، وخرجوا من صياصيهم، فاقتتلوا في حفيظة واستماتة، فبغلت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفًا، كملها في هزيمتهم مائة ألف، وبعث بالفتح مع رجلين من بني الضبيب، ثم خاف منهما الضعف، فبعث عبد الله بن علقمة الفراسي وزهير بن الحلاب الخثعمى، وأمرهما أن يتبعاهما ويسبقاهما، فلحقاهما، فطوياهما وهما نائمان. وابن علقمة يتمثل وهي هجيراه:
أرق عيني أخوا جذام ** كيف أنام وهما أمامي!
إذ يرحلان والهجير طامي ** أخو حشيم وأخو حرام
وانطلق علقمة بن مجزز، فحصر الفيقار بغزة، وجعل يراسله، فلم يشفه مما يريد أحد؛ فأتاه كأنه رسول علقمة، فأمر الفيقار رجلًا أن يقعد له بالطريق، فإذا مر قتله، ففطن علقمة، فقال: إن معى نفرًا شركائي في الرأى، فأنطلق فآتيك بهم؛ فبعث إلى ذلك الرجل: لا تعرض له. فخرج من عنده ولم يعد، وفعل كما فعل عمرو بالأرطبون، وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخبر، فجمع الناس وأباتهم على الفرح ليلًا، فحمد الله وقال: لتحمدوا الله على فتح قيسارية، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يحبس الأسرى عنده، ويقول: ما صنع ميخائيل بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله، ففطمه عن العبث بأسرى المسلمين حتى افتتحها.
ذكر فتح بيسان ووقعه أجنادين
ولما توجه علقمة إلى غزة وتوجه معاوية إلى قيسارية، صمد عمرو بن العاص إلى الأرطبون، ومر بإزائه، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته، واستخلف على عمل الأردن أبا الأعور، وولى عمرو بن العاص مجنبتيه عبد الله بن عمرو وجناده بن تميم المالكي؛ مالك بن كنانة، فخرج حتى ينزل على الروم بأجنادين، والروم في حصونهم وخنادقهم وعليهم الأرطبون. وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورًا، وأنكاها فعلًا، وقد كان وضع بالرملة جندًا عظيمًا، وبإيلياء جندًا عظيمًا؛ وكتب عمرو إلى عمر بالخبر؛ فلما جاءه كتاب عمرو، قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تتفرج! وجعل عمر رحمه الله من لدن وجه أمراء الشأم يمد كل أمير جند ويرميه بالأمداد؛ حتى إذا أتاه كتاب عمرو بتفريق الروم، كتب إلى يزيد أن يبعث معاوية في خيله إلى قيسارية، وكتب إلى معاوية بإمرته على قتال أهل قيسارية؛ وليشغلهم عن عمرو؛ بن حكيم الفراسي ومسروق بن فلان العكي على قتال أهل إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو؛ وبعث أبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، وكان بإزائهما، ولما تتابعت الأمداد على عمرو، بعث محمد بن عمرو مددًا لعلقمة ومسروق، وبعث عمارة بن عمرو، بن أمية الضمرى مددًا لأبي أيوب، وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطه، ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمل حصونه حتى عرف ما أراد. وقال أرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذي يأخذ عمرو برأيه؛ وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله. ثم دعا حرسيًا فساره بقتله، فقال: اخرج. فقم مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال: قد سمعت منى وسمعت منك، فأما ما قتله فقد وقع منى موقعًا؛ وأنا واحد من عشرة؛ بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن ورأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير؛ وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك. فقال: نعم، ودعا رجلًا فساره، وقال: اذهب إلى فلان فرده إلى، فرجع إليه الرجل وقال لعمرو: انطلق فجئ بأصحابك؛ فخرج عمرو ورأى ألا يعود لمثلها، وعلم الرومى بأنه قد خدعه، فقال: خدعني الرجل؛ هذا أدهى الخلق. فبلغت عمر، فقال: غلبه عمرو، لله عمرو! وناهده عمرو، وقد عرف مأخذه وعاقبته، والتقوا ولم يجد من ذلك بدًا فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا كقتال اليرموك؛ حتى كثرت القتلى بينهم.
ثم أن أرطبون انهزم في الناس فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين. ولما أتى أرطبون إيلياء أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، فانضم علقمة ومسروق ومحمد بن عمرو وأبو أيوب إلى عمرو بأجنادين، وكتب أرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري؛ أنت في قومك مثلى في قومى؛ والله لا تفتتح من فلسطين شيئًا بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى ما لقى الذين قبلك من الهزيمة. فدعا عمرو رجلًا يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يغرب ويتنكر، وقال: استمع ما يقول حتى تخبرني به إذا رجعت إن شاء الله.
وكتب إليه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أنى صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدى عليك فلانًا وفلانًا - لو زرائه - فأقرئهم كتابي، ولينظروا فيما بيني وبينك.
فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون فدفع إليه الكتاب بمشهد من النفر، فضحكوا وتعجبوا، واقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه ((عمر)) ثلاثة أحرف؛ فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر.
وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إني أعالج حربًا كئودًا صدومًا وبلادًا ادخرت لك، فرأيك. ولما كتب عمرو إلى عمر بذلك، عرف أن عمرًا لم يقل إلا بعلم، فنادى في الناس، ثم خرج فيهم حتى نزل بالجابية. وجميع ما خرج عمر إلى الشأم أربع مرات، فأما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر عنها أن الطاعون مستعر، وأما الرابعة فدخلها على حمار. فاستخلف عليها، وخرج وقد كتب مخرجه أول مرة إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية - ليوم سماه لهم في المجردة - وأن يستخلفوا على أعمالهم. فلقوه حيث رفعت لهم الجابية؛ فكان أول من لقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول؛ عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة، فرماهم بها، وقال: سرع ما لفتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي؛ وإنما شبعتم منذ سنتين! سرع ما ندت بكم البطنة! وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذًا. وركب حتى دخل الجابية وعمرو وشرحبيل بأجنادين لم يتحركا من مكانهما.
ذكر فتح بيت المقدس
وعن سالم بن عبد الله، قال: لما قدم عمر رحمه الله الجابية، قال له رجل من يهود: يا أمير المؤمنين؛ لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك إيلياء؛ فبينا عمر بن الخطاب بها؛ إذ انظر إلى كردوس من خيل مقبل، فلما دنوا منه سلوا السيوف، فقال عمر: هؤلاء قوم يستأمنون، فأمنوهم؛ فأقبلوا فإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوها له، فلما فتحت عليه دعا ذلك اليهودي، فقيل له: إن عنده لعمًا. قال: فسأله عن الدجال - وكان كثير المسألة عنه - فقال له اليهودي: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين! فأنتم والله معشر العرب تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعًا.
وعن سالم، قال: لما دخل عمر الشأم تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق! أنت صاحب إيلياء لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء؛ وكانوا قد أشجوا عمرًا وأشجاهم؛ ولم يقدر عليها ولا على الرملة، فبينا عمر معسكرًا بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف! فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف؛ فقال عمر: مستأمنة، ولا تراعوا وأمنوهم؛ فأمنوهم؛ وإذا هم أهل إيلياء، فأعطوه واكتتبوا منه على إيلياء وحيزها، والرملة وحيزها؛ فصارت فلسطين نصفين: نصف مع أهل إيلياء، ونصف مع أهل الرملة؛ وهم عشر كور، وفلسطين تعدل الشأم كله؛ وشهد ذلك اليهودي الصلح، فسأله عمر عن الدجال؛ فقال: هو من بني بنيامين؛ وأنتم والله يا معشر العرب تقتلونه على بضع عشرة ذراعًا من باب لد.
وعن خالد وعبادة، قالا: كان الذي صالح فلسطين العوام من أهل إيلياء والرملة؛ وذلك أن أرطبون والتذارق لحقًا بمصر مقدم عمر الجابية، وأصبيا بعد في بعض الصوائف.
وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشأم، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشأم، وأن يكون المتولى للعقد عمر بن الخطاب؛ فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة.
وعن عدى بن سهل، قال: لما استمد أهل الشأم عمر على أهل فلسطين، استخلف عليًا، وخرج ممدًا لهم، فقال على: أين تخرج بنفسك! إنك تريد عدوًا كلبًا، فقال: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس؛ إنكم لو قد فقدتم العباس لا نتقض بكم الشر كما ينتقض أول الحبل.
قال: وانضم عمرو وشرحبيل إلى عمر بالجابية حين جرى الصلح فيما بينهم، فشهد الكتاب.
وعن خالد وعباده، قالا: صالح عمر أهل إيلياء بالجابية، وكتب لهم فيها الصلح لكل كورة كتابًا واحدًا، ما خلا أهل إيلياء.
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شئ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت؛ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم مأمنهم؛ ومن أقام منهم فهو آمن؛ وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم آمنوا على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم؛ ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شئ حتى يحصد حصادهم؛ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان. وكتب وحضر سنة خمس عشرة.
فأما سائر كتبهم فعلى كتاب لد. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا مللها، ولا من صلبهم ولا من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم؛ ولا يضار أحد منهم؛ وعلى أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل مدائن الشأم، وعليهم إن خرجوا مثل ذلك الشرط إلى آخره. ثم سرح إليهم، وفرق فلسطين على رجلين، فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقممة بن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء؛ فنزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي معه.
وعن سالم، قال: استعمل علقمة بن مجزز على إيلياء وعلقمة بن حكيم على الرملة في الجنود التي كانت مع عمرو وضم عمرًا وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إلى الجابية، وافقًا عمر رحمه الله راكبًا، فقبلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما.
وعن عبادة وخالد، قالا: ولما بعث عمر بأمان أهل إيلياء وسكنها الجند، شخص إلى بيت المقدس من الجابية، فرأى فرسه يتوجى، فنزل عنه، وأتى ببرذون فركبه، فهزه فنزل، فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح الله من علمك هذا! ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أيامًا يوقحه فركبه، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس.
وعن أبي صفية؛ شيخ من بني شيبان، قال: لما أتى عمر الشأم أتى ببرذون فركبه، فلما سار جعل يتخلج به، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علم الله من علمك! هذا من الخيلاء؛ ولم يركب برذونا قبله ولا بعده. وفتحت إيلياء وأرضها كلها على يديه، ما خلا أجنادين فإنها فتحت على يدى عمرو، وقيسارية على يدي معاوية وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: افتتحت إيلياء وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة ست عشرة.
وعن أبي مريم مولى سلامة، قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رحمه الله، فسار من الجابية فاصلًا حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود؛ ونحن معه، فدخله ثم قرأ سجده داود، فسجد وسجدنا معه.
وعن رجاء بن حيوة، عمن شهد؛ قال: لما شخص عمر من الجانية إلى إيلياء، فدنا من باب المسجد، قال: ارقبوا لي كعبًا، فلما انفرق به الباب، قال: لبيك، اللهم لبيك، بما هو أحب إليك! ثم قصد المحراب؛ محراب داود عليه السلام، وذلك ليلًا، فصلى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر، فأمر المؤذن باٌقامة، فتقدم فصلى بالناس، وقرأ بهم ((ص))، وسجد فيها، ثم قام، وقرأ بهم في الثانية صدر ((بني إسرائيل))، ثم ركع ثم انصرف، فقال: على بكعب، فأتى به، فقال: أين ترى أن نجعل المصلى؟ فقال: إلى الصخرة، فقال: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، وقد رأيتك، وخلعك نعليك، فقال: أحببت أن أباشره بقدمي، فقال: قد رأيتك، بل نجعل قبلته صدره، كما جعل رسول الله ﷺ قبلة مساجدنا صدورها، اذهب غليك، فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكنا أمرنا بالكعبة، فجعل قبلته صدره، ثم قام من مصلاة إلى كناسة قد كانت الروم قد دفنت بها بيت المقدس في زمان بني إسرائيل؛ فلما صار إليهم أبرزوا بعضها، وتركوا سائرها، وقال: يا أيها الناس، اصنعوا كما أصنع، وجثا في أصلها، وجثا في فرج من فروج قبائه، وسمع التكبير من خلفه، وكان يكره سوء الرعة في كل شئ فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره فقال: على به فأتى به، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة، فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل، فأديلوا عليهم، فدفنوه، ثم أديلوا فلم يفرغوا ثم أدليت الروم عليهم إلى أن وليت، فبعث الله نبيًا على الكناسة، فقال: أبشرى أورى شلم! عليك الفاروق ينقيك مما فيك. وبعث إلى القسطنطينية نبي؛ فقام على تلها، فقال: يا قسطنطينية، ما فعل أهلك ببيتي! أخرجوه وشبهوك كعرشي؛ وتأولوا على، فقد قضيت عليك أن أجعلك جلحاء يومًا ما، لا يأوى إليك أحد، ولا يستظل فيك على أيدي بني القاذر سبأ وودان؛ فما أمسوا حتى ما بقي شئ.
وعن ربيعة الشامي بمثله؛ وزاد: أتاك الفاروق في جندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم. وقال في قسطنطينية: أدعك جلحاء بارزة للشمس، لا يأوى إليك أحد، ولا تظلينه.
وعن أنس بن مالك، قال: شهدت إيلياء مع عمر، فبينا هو يطعم الناس يومًا بها أتاه راهبا وهو لا يشعر أن الخمر محرمة، فقال: هل لك في شراب نجده في كبتنا حلالًا إنا حرمت الخمر! فدعاه بها قال: من أي شئ هذا؟ فأخبره أنه طبخه عصيرًا، حتى صار إلى ثلثه، فغرف بإصبعه، ثم حركه في الإناء فشطره، فقال: هذا طلاء؛ فشبهه بالقطران، وشرب منه، وأمروأمراء الأجناد بالشأم به؛ وكتب في الأمصار: إني أتيت بشراب مما قد طبخ من العصير حتى ذهب ثلثاه وبقى ثلثه كالطلاء، فاطبخوه وارزقوه المسلمين.
وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: ولحق أرطبون بمصر مقدم عمر الجابية، ولحق به من أحب ممن أبى الصلح، ثم لحق عند صلح أهل مصر، وغلبهم بالروم في البحر، وبقى بعد ذلك؛ فكان يكون على صوائف الروم، والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين فيختلف هو ورجل من قيس يقال له ضريس؛ فقطع يد القيسى، وقتله القيسى، فقال:
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها ** فإن فيها بحمد الله منتفعًا
بنانتان وجرموز أقيم به ** صدر القناة إذا ما آنسوا فزعًا
وإن يكن أرطبون الروم قطعها ** فقد تركت بها أوصاله قطعًا
وقال زياد بن حنظلة:
تذكرت حرب الروم لما تطاولت ** وإذ نحن في عام كثير نزائله
وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا ** مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمى بلاده ** يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ** سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صواله ** أتوه وقالوا أنت ممن بواصله
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها ** وعيشًا خصيبًا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب ** مواريث أعقاب بنتها قرامله
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ** تحمل عبئًا حين شالت شوائله
وقال أيضًا:
سما عمر لما أتته رسائل ** كأصيد يحمى صرمة الحي أغيدا
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها ** تريد من الأقوام من كان أنحدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم ** بجيش ترى منه الشبائك سجدا
وأقبلت الشأم العريضة بالذي ** أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
فقسط فيما بينهم كل جزية ** وكل رفاد كان أهنا وأحمدا
ذكر فرض العطاء وعمل الديوان
وفي هذه السنة فرض عمر للمسلمين الفروض، ودون الدواووين، وأعطى العطايا على السابقة، وأعطى صفوان بن أمية والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم، فامتنعوا من أخذه وقالوا: لا نعترف أن يكون أحدًا أكرم منا، فقال: إنى إنما أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب؛ قالوا: فنعم إذًا، وأخذوا، وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشأم؛ فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب؛ وقيل: ماتا في طاعون عمواس.
ولما أراد عمر وضع الديوان، قال له على وعبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل أبدأ بعم رسول الله ﷺ، ثم الأقرب فالأقرب؛ ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف؛ في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر، ومن ولى الأيام قبل القادسية؛ كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف. ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشأم ألفين ألفين؛ وفرض لأهل البلاء البارع منهم ألفين وخمسمائة، ألفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا، وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت دارهأحق بالزيادة، لأنهم كانوا ردءًا للحوق وشجى للعدو، فهلا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقين منهم والأنصار؟ فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم؛ وهاجر إليهم المهاجرون من بعد؛ وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفًا ألفًا، ثم فرض للروادف: المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم؛ ثلثمائة ثلثمائة؛ سوى كل طبقة في العطاء، قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة من غير أهلها: الحسن والحسين وأباذر وسلمان؛ وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفًا - وقيل. أثنى عشر ألفًا - وأعطى نساء النبي ﷺ عشرة آلاف عشرة آلاف؛ إلا من جرى عليها الملك؛ فقال نسوة رسول الله ﷺ: ما كان رسول الله ﷺ يفضلنا عليهن في القسمة؛ فسو بيننا؛ ففعل وفضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله ﷺ إياها فلم تأخذ؛ وجعل نساء أحل بدر في خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة؛ ونساء من بعد ذلك إلى الأيام ثلثمائة ثلثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبان سواء على مائة مائة مسكينًا، وأطعمهم الخبر، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر.
وقال عمر قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، ألفًا يجعلها الرجل في أهله، وألفًا يزودها، وألفًا يتجهز بها وألفًا يتفرق بها؛ فمات قبل أن يفعل.
قال أبو جعفر الطبري: كتب إلى السري عن شعيب، عن سيف؛ عن محمد وطلحة والمهلب وزيادة والمجالد وعمرو، عن الشعبي؛ وإسماعيل عن الحسن، وابى ضمرة عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين، ويحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيب، والمستنير بن يزيد عن إبراهيم، وزهرة عن أبي سلمة، قالوا: فرض عمر العطاء حين فروض لأهل الفئ الذين أفاء الله عليهم؛ وهم أهل المدائن، فصاروا بعد إلى الكوفة، انتقوا عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ودمشق وحمص والأردن وفلسطين ومصر، وقال: الفئ لأهل هؤلاء الأمصار ولمن لحق بهم وأعانهم، وأقام معهم ولم يفرض لغيرهم؛ ألا فبهم سكنت المدائن والقرى، وعليهم جرى الصلح؛ وإليهم أدى الجزاء، وبهم سدت الفروج ودوخ العدو. ثم كتب في إعطاء أهل العطاء أعطياتهم إعطاءًا واحدًا سنة خمس عشرة.
وقال قائل: يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال عدة لكون إن كان فقال: كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرها؛ وهي فتنة لمن بعدى؛ بل أعد لهم ما أمرنا الله ورسوله طاعة لله ورسوله؛ فهما عدتنا التي بها أفضينا إلى ما ترون، فإذا كان هذا المال ثمن دين أحدكم هلكتم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد؛ قالوا: لما فتح الله على المسلمين وقتل رستم، وقدمت على عمر الفتوح من الشأم جمع المسلمين، فقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ فقالوا جميعًا: أما لخاصته فقوته وقوت عياله، لا وكس ولا شطط، وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده وحوائجه وحملانه إلى حجة وعمرته، والقسم بالسوية، أن يعطى أهل البلاء على قدر بلائهم، ويرم أمور الناس بعد؛ ويتعاهدهم عند الشدائد والنوازل حتى تكشف، ويبدأ بأهل الفئ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: جمع الناس عمر المدينة حين انتهى إليه فتح القادسية ودمشق، فقال: إني كنت امرأ تاجرًا، يغنى الله عيالي بتجارتي وقد شغلتموني بأمركم، فماذا ترون أنه يحل لي من هذا المال؟ فأكثر القوم وعلى عليه السلام ساكت، فقال: ما تقول يا علي؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، ليس لك من هذا المال غيره، فقال القوم: القول قول ابن أبي طالب.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن نافع، عن أسلم، قال: رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: ما يحل لك من هذا المال؟ فقال: ما اصلحنى وأصلح عيالي بالمعروف، وحلة الشتاء وحلة الصيف، وراحلة عمر للحج والعمرة، ودابة في حوائجه وجهاده.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما ولى عمر قعد على رزق أبي بكر الذي كانوا فرضوا له، فكان بذلك؛ فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين منهم عثمان، وعلى طلحة، والزبير، فقال الزبير: لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه فقال على: وددنا قبل ذلك؛ فانطلقوا بنا فقال عثمان: إنه عمر! فهلموا فلنستبرئ ما عنده من وراء؛ نأتى حفصة فنسألها ونستكتمها، فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر، ولا تسمى له أحدًا، إلا أن يقبل، وخرجوا من عندها، فلقيت عمر في ذلك، فعرفت الغضب في وجهه، وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك، فقال: لو علمت من هم لسؤت وجوهم؛ أنت بيني وبينهم! أنشدك بالله؛ ما أفضل ما اقتنى رسول الله ﷺ في بيتك من الملبس؟ قالت: ثوبين ممشقين كان يلبسهما للوفد، ويخطب فيهما للجمع؛ قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبزة شعير، فصببنا عليها وهي حارة أسفل عكة لنا، فجعلناها هشة دسمة؛ فأكل منها وتطعم منها استطابة لها. قال: فأي مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء لنا ثخين كنا نربعه في الصيف، فنجعله تحتنا، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه، قال: يا حفصة؛ فأبلغيهم عني أن رسول الله ﷺ قدر فوضع الفضول مواضعها؛ وتبلغ بالتزجية، وإني قدرت فو الله لأضعن الفضول مواضعها، ولأتبلغن بالتزجية؛ وإنما مثلى ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقًا؛ فمضى الأول وقد تزود زادًا فبلغ، ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه، فأفضى إليه، ثم اتبعه الثالث، فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما لحق بهما وكان معهما؛ وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن أصحابه. والضحاك عن ابن عباس، قال: لما افتتحت القادسية وصالح من صالح من أهل السواد وافتتحت دمشق، وصالح أهل دمشق، قال عمر للناس: اجتمعوا فأحضروني علمكم فيما أفاء الله على أهل القادسية وأهل الشأم. فاجتمع رأى عمر وعلي على أن يأخذوا من قبل القرآن، فقالوا: " ماأفاء الله على رسوله من أهل القرى " - يعنى من الخمس - " فلله وللرسول "؛ إلى الله وإلى الرسول؛ من الله الأمر وعلى الرسول القسم " ولذي القربى واليتامى والمساكين.. " الآية، ثم فسروا ذلك بالآية التي تليها: " للفقراء المهاجرين.. " الآية، فأخذوا الأربعة أخماس على ما قسم عليه الخمس فيمن بدئ به وثنى وثلث، وأربعة أخماس لمن أفاء الله عليه المغنم. ثم استشهدوا على ذلك أيضًا: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه "، فقسم الأخماس على ذلك، واجتمع على ذلك عمر وعلي، وعمل به المسلمون بعده، فبدأ بالمهاجرين، ثم بالأنصار، ثم التابعين الذين شهدوا معهم وأعانوهم، ثم فوض الأعطية من الجزاء على من صالح أو دعى إلى الصلح من جزائه، مردود عليهم بالمعروف؛ وليس في الجزاء أخماس، والجزاء لمن منع الذمة. ووفى لهم ممن ولى ذلك منهم؛ ولمن لحق بهم فأعانهم، إلا أن يؤاسوا بفضلة من طيب أنفس منهم من لم ينل مثل الذي نالوا.
قال الطبري: وفي هذه السنة - أعني سنة خمس عشرة - كانت وقعات في قول سيف بن عمر، وفي قول ابن إسحاق: كان ذلك في سنة ست عشرة، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل؛ وكذلك ذلك في قول الواقدي.
نذكر الآن الأخبار التي وردت بما كان بين ما ذكرت من الحروب إلى انقضاء السنة التي ذكرت أنهم اختلفوا فيما كان فيها من ذلك: كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: عهد عمر إلى سعد حين أمره بالسير إلى المدائن أن يخلف النساء والعيال بالعتيق، ويجعل معهم كثفا من الجند، ففعل وعهد إليه أن يشركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم. قالوا: وكان مقام سعد بالقادسية بعد الفتح شهرين في مكاتبة عمر في العمل بما ينبغي، فقدم زهرة نحو اللسان - واللسان لسان البر الذي أدلعه في الريف، وعليه الكوفة اليوم، والحيرة قبل اليوم - والنخيرجان معسكر به، فارفض ولم يثبت حين سمع بمسيرهم إليه، فلحق بأصحابه. قالوا: فكان مما يلعب به الصبيان في العسكر وتلقيه النساء عليهم، وهم على شاطئ العتيق، أمر كان النساء يلعبن به في زرود وذي قار؛ وتلك الأمواه حين أمروا بالسير في جمادى إلى القادسية، وكان كلامًا أبدن فيه كالأوابد من الشعر؛ لأنه ليس بين جمادى ورجب شئ:
العجب كل العجب ** بين جمادى ورجب
أمر قضاه قد وجب ** يخبره من قد شجب
تحت غبار ولجب
خبر يوم برس
قال: ثم إن سعدا ارتحل بعد الفراغ من أمر القادسية كله، وبعد تقديم زهرة بن الحوية في المقدمات إلى اللسان، ثم أتبعه عبد الله بن المعتم، ثم أتبع عبد الله شرحبيل بن السمط، ثم أتبعهم هاشم بن عتبة، وقد ولاه خلافته، عمل خالد بن عرفطة، وجعل خالدًا على الساقة، ثم أتبعهم وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل الله إليهم ما كان في عسكر فارس من سلاح وكراع ومال، لأيام بقين من شوال، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة - والكوفة كل حصباء حمراء وسهلة حمراء مختلطتين - ثم نزل عليه عبد الله وشرحبيل، وارتحل زهرة حين نزلا عليه نحو المدائن، فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى في جمع فناوشوه فهزمهم، فهرب بصبهري ومن معه إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم: النخيرجان ومهران الرازي والهرمزان وأشباههم؛ فأقاموا واستعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهري وقد نجا بطعنة، فمات منها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: طعن زهرة بصبهري في يوم برس، فوقع في النهر فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل؛ ولما هزم بصبهري أقبل بسطام دهقان برس، فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور، وأتاه بخير الذين اجتمعوا ببابل.
يوم بابل
قالوا: ولما أتى بسطام زهرة بالخبر عن الذين اجتمعوا ببابل من فلال القادسية، أقام وكتب إلى سعد بالخبر. ولما نزل سعد على من بالكوفة مع هاشم بن عتبة، وأتاه الخبر عن زهرة باجتماع الفرس ببابل على الفيرزان، قدم عبد الله، وأتبعه شرحبيل وهاشمًا، ثم ارتحل بالناس، فلما نزل عليهم برس، قدم زهرة فأتبعه عبد الله وشرحبيل وهاشما، واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل، وقد قالوا: نقاتلهم دستًا قبل أن نفترق، فاقتتلوا ببابل، فهزموهم في أسرع من لفت الرداء، فانطلقوا على وجوههم؛ ولم يكن لهم همة إلا الإفتراق، فخرج الهرمزان متوجها نحو الأهواز، فأخذها فأكلها ومهرجان قذق، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند، وبها كنوز كسرى؛ فأخذها وأكل الماهين، وصمد النخيرجان ومهران الرازي للمدائن، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر، ثم قطعا الجس، وأقام سعد ببابل أيامًا، وبلغه أن النخيرجان قد خلف شهريار؛ دهقانا من دهاقين الباب بكوثى في جمع، فقدم زهرة ثم أتبعه الجنود، فخرج زهرة حتى ينزل على شهريار بكوثى بعد قتل فيومان والفرخان فما بين سورا والدير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: كان سعد قدم زهرة من القادسية فمضى متشعبًا في حربه وجنده، ثم لم يلق جمعًا فهزمهم إلا قدم، فأتبعهم لا يمرون بأحد إلا قتلوه ممن لحقوا به منهم أو أقام لهم، حتى إذا قدمه من بابل قدم زهرة بكير بن عبد الله الليثي وكثير بن شهاب السعدي أخا الغلاق حين عبر الصراة، فيلحقون بأخريات القوم وفيهم فيومان والفرخان؛ هذا ميساني وهذا أهوازي، فقتل بكير الفرخان، وقتل كثير فيومان بسورا. ثم مضى زهرة حتى جاوز سورا، ثم نزل، وأقبل هاشم حتى نزل عليه، وجاء سعد حتى ينزل عليهم، ثم قدم زهرة، فسار تلقاء القوم، وقد أقاموا له فيما بين الدير وكوثى، وقد التخلف النخيرجان ومهران على جنودهما شهريار، دهقان الباب. ومضيا إلى المدائن، وأقام شهريار هنالك، فلما التقوا بأكناف كوثى؛ جيش شهريار وأوائل الخيل، خرج فنادى: ألا رجل، ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إلى حتى أنكل به! فقال زهرة: لقد أردت أن أبارزك؛ فأما إذ سمعت قولك، فإني لا أخرج إليك إلا عبدًا؛ فإن أقمت له قتلك إن شاء الله ببغيك؛ وإن فررت منه فإنما فررت من عبد، وكايده؛ ثم أمر أبا نباتة نائل بن جعشم الأعرجي - وكان من شجعان بني تميم - فخرج إليه، ومع كل واحد منهما الرمح، وكلاهما وثيق الخلق؛ إلا أن الشهريار مثل الجمل، فلما رأى نائلا ألقى الرمح ليعتنقه، وألقى نائل رمحه ليعتنقه، وانتضيا سيفيهما فاجتلدا، ثم اعتنقا فخرا عن دابتيهما، فوقع على نائل كأنه بيت، فضغطه بفخذه، وأخذ الخنجر وأراغ حل أزرار درعه، فوقعت إبهامه في فم نائل، فحطم عظمهما، ورأى منه فتورًا، فثاوره فجلد به الأرض، ثم قعد على صدره، وأخذ خنجره، فكشف درعه عن بطنه، فطعنه في بطنه وجنبه حتى مات، فأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه، فذهبوا في البلاد، وأقام زهرة بكوثى حتى قدم عليه سعد، فأتى به سعدًا، فقال سعد: عزمت عليك يا نائل بن جعشم لما لبست سواريه وقباءه ودرعه، ولتركبن برذونه! وغنمه ذلك كله. فانطلق، فتدرع سلبه، ثم أتاه في سلاحه على دابته، فقال: اخلع سواريك إلا أن ترى حربًا فتلبسهما؛ فكان أول رجل من المسلمين سور بالعراق.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمر وسعيد، قالوا: فأقام سعد بكوثى أيامًا، وأتى المكان الذي جلس فيه إبراهيم عليه السلام بكوثى، فنزل جانب القوم الذين كانوا يبشرون إبراهيم ن وأتى البيت الذي كان فيه إبراهيم عليه السلام محبوسًا، فنظر إليه وصلى على رسول الله وعلى إبراهيم، وعلى أنبياء الله صلوات الله عليهم، وقرأ: " وتلك الأيام نداولها بين الناس ".
حديث بهرسير في ذي الحجة سنة خمس عشرة في قول سيف
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد والنضر، عن ابن الرفيل، قالوا: ثم إن سعدًا قدم زهرة إلى بهرسير، فمضى زهرة من كوثى في المقدمات حتى ينزل بهرسير، وقد تلقاه شيرزاذ بساباط بالصلح وتأدية الجزاء، فأمضاه إلى سعد، فأقبل معه وتبعته المجنبات، وخرج هاشم، وخرج سعد في أثره، وقد فل زهرة كتيبة كسرى بوران حول المظلم، وانتهى هاشم إلى مظلم ساباط، ووقف لسعد حتى لحق به، فوافق ذلك رجوع المقرط. أسد كان لكسرى قد ألفه وتخيره من أسود المظلم؛ وكانت به كتائب كسرى التي تدعى بوران، وكانوا يحلفون بالله كل يوم: لا يزول ملك فارس ما عشنا -، فبادر المقرط الناس حين انتهى إليهم سعد، فنزل إليه هاشم فقتله، وسمى سيفه المتن، فقبل سعد رأس هاشم، وقبل هاشم قدم سعد، فقدمه سعد إلى بهرسير، فنزل إلى المظلم وقرأ: " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال "، فلما ذهب من الليل هدأة ارتحل، فنزل على الناس ببهرسير، وجعل المسلمون كلما قدمت خيل على بهرسير وقفوا ثم كبروا، فكذلك حتى نجز آخر من مع سعد، فكان مقامه بالناس على بهرسير شهرين، وعبروا في الثالث.
ذكر حج عمر بن الخطاب في هذه السنة
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان عامله فيها على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف يعلى بن منية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان ابن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى كور الشأم أبو عبيدة ابن الجراح، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة؛ وعلى البصرة وأرضها المغيرة بن شعبة.