→ الجزء الثالث | تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام الجزء الرابع الذهبي |
الجزء الخامس ← |
☰ جدول المحتويات
- عمره ﷺ وقت بعثته وتاريخها
- فصل حزن النبي ﷺ عندما فترعنه الوحي
- فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن
- فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله ﷺ
- فصل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه
- فصل أول من أسلم من متقدمي الإسلام والصحابة وغيرهم
- فصل أشد ما صنعه المشركون برسول الله ﷺ
- فصل تأليب الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وأصحابه
عمره ﷺ وقت بعثته وتاريخها
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، أن رسول الله ﷺ نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة. فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة.. فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي، وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل. وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال: وحديث عائشة لا ينافي هذا، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا. ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجا له وتمرينا إلى أن جاءه جبريل، فعلَّمه بعدما غطه ثلاث مرات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنزل على النبي ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا، وبالمدينة عشرا. ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهكذا روى يحيى بن سعيد، وسعيد بن المسيب. ثم روى أحمد، عن غندر، ويزيد بن هارون، كلاهما عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بُعث رسول الله ﷺ وأُنزل عليه القرآن، وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين. ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: أقام النبي ﷺ بمكة خمس عشرة سنة: سبع سنين يرى الضوء، ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشر سنين. قال أبو شامة: وقد كان رسول الله ﷺ يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك: ما في صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلِّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن». انتهى كلامه. وإنما كان رسول الله ﷺ يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين، من عبادة الأوثان، والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه.. وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة - قال: وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال: وكان رسول الله ﷺ يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه. وكان من نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته وقضائه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة. وهكذا روي عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش، أنهم يجاورون في حراء للعبادة، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة: وثورٍ ومَن أرْسَى ثبيرا مَكانه * وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازِلِ هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي، وأبو شامة، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه: وراق ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم. وحراء: يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المارّ إلى منى، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنية، وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج: فَلا وربِّ الآمِناتِ القُطَّن * وربِّ رُكنٍ من حِراءَ مُنْحني وقوله في الحديث: والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث من حنث البِنْيَة فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث، ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء. كحنث: أي خرج من الحنث، وتحوب، وتحرج، وتأثم، وتهجد هو ترك الهجود وهو: النوم للصلاة، وتنجس وتقذر، أوردها أبو شامة. وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد. فقال: لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. قال ابن هشام: والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جدف وجذف كما قال رؤبة بن العجاج. لو كان أحجاري مع الأحذاف يريد الأجداث. قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فُمَّ في موضع ثمَّ. قلت: ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها. وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا؟ وما ذلك الشرع؟ فقيل: شرع نوح، وقيل: شرع إبراهيم، وهو الأشبه الأقوى. وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه، وعمل به. ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه. والله أعلم. وقوله: حتى فجئه الحق وهو بغار حراء: أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } الآية [سورة القصص: 86] . وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [سورة العلق: 1-5] . وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير، وكما سيأتي أيضا في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله ﷺ: سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه» وقال ابن عباس: ولد نبيكم محمد ﷺ يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين. وهكذا قال عبيد بن عمير، وأبو جعفر الباقر، وغير واحد من العلماء: أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم. ثم قيل: كان ذلك في شهر ربيع الأول، كما تقدم عن ابن عباس وجابر، أنه ولد عليه السلام، في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، كما نصَّ على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما. قال ابن إسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } [البقرة: 185] . فقيل في عشره. وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال: كان ابتداء الوحي إلى رسول الله ﷺ يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل في الرابع والعشرين منه. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله ﷺ قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان». وروى ابن مردويه في (تفسيره) عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين. وأما قول جبريل: اقرأ. فقال: «ما أنا بقارئ» فالصحيح أن قوله: «ما أنا بقارئ» نفي: أي لست ممن يحسن القراءة. وممن رجحه النووي، وقبله الشيخ أبو شامة، ومن قال: إنها استفهامية فقوله بعيد؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات. ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه: فقال رسول الله ﷺ - وهو خائف يرعد - «ما قرأت كتابا قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ» فأخذه جبريل فغتَّه غتا شديدا. ثم تركه. فقال له: اقرأ. فقال محمد ﷺ: «ما أرى شيئا أقرأه، و ما أقرأ، وما أكتب». يروى "فغطني" كما في (الصحيحين)، و"غتني"، ويروى "قد غتني": أي خنقني حتى بلغ مني الجهد، يروى بضم الجيم، وفتحها، وبالنصب، وبالرفع، وفعل به ذلك ثلاثا. قال أبو سليمان الخطابي: وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه الرحضاء: أي البهر والعرق. وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور: منها: أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس. كما قال تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } [سورة المزمل: 5] . ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمرُّ وجهه، ويغطّ كما يغطّ البكر من الإبل، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد. وقوله فرجع بها رسول الله ﷺ إلى خديجة يرجف فؤاده. وفي رواية: بوادره، جمع بادرة. قال أبو عبيدة: وهي لحمة بين المنكب والعنق. وقال غيره: هو عروق تضطرب عند الفزع، وفي بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة. وقيل: بادل، وهو ما بين العنق والترقوة، وقيل: أصل الثدي، وقيل: لحم الثديين، وقيل: غير ذلك. فقال: «زملوني، زملوني» فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة: «مالي؟ أي شيء عرض لي؟» وأخبرها ما كان من الأمر. ثم قال: «لقد خشيت على نفسي». وذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك. ولا كان في خلده. ولهذا قالت خديجة: ابشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدا. قيل: من الخزي، وقيل: من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا، ولا في الآخرة، ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة. فقالت: إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث - وقد كان مشهورا بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكلّ. أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله. وتكسب المعدوم: أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك، ويسمى الفقير معدوما؛ لأن حياته ناقصة. فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم: ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ * إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء وقال أبو الحسن التهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم: عدَّ ذا الفقر ميتا وكساهُ * كفنا باليا ومأواه قـبرا وقال الخطابي: الصواب وتكسب المعدم، أي: تبذل إليه، أو يكون تلبس العدم بعطيته مالا يعيش به.. واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى: أي يعطى المال لمن هو عادمه. ومن قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل النظير، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له به علم، فإن مثل هذا لا يمدح به غالبا، وقد ضعَّف هذا القول عياض، والنووي وغيرهما، والله أعلم. وتقري الضيف: أي تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه. وتعين على نوائب الحق، ويروي الخير: أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش. وقوله: ثم أخذتْه فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، وكان شيخا كبيرا قد عمي. وقد قدَّمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله. وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية، ففارقهم وارتحل إلى الشام، هو وزيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش، فتنصروا كلهم؛ لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق، إلا زيد بن عمرو بن نفيل؛ فإنه رأى فيه دخلا، وتخبيطا، وتبديلا، وتحريفا، وتأويلا، فأبت فطرته الدخول فيه أيضا. وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي، قد أزف زمانه، واقترب أوانه، فرجع يتطلب ذلك، واستمر على فطرته، وتوحيده. لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية. وأدركها ورقة بن نوفل، وكان يتوسمها في رسول الله ﷺ، كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له، وما هو منطوٍ عليه من الصفات الطاهرة الجميلة، وما ظهر عليه من الدلائل، والآيات. ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله ﷺ وجاءت به إليه فوقفت به عليه، وقالت: ابن عم اسمع من ابن أخيك. فلما قص عليه رسول الله ﷺ خبر ما رأى قال ورقة: سبُّوح سبُّوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ولم يذكر عيسى، وإن كان متأخرا بعد موسى؛ لأنه كانت شريعته متممة، ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام، ونسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء. كما قال: { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [آل عمران: 50] . وقول ورقة هذا كما قالت الجن: { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ }. [الأحقاف: 30] . ثم قال ورقة: يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك: يعني حتى أخرج معك وأنصرك؟ فعندها قال رسول الله ﷺ: «أو مخرجي هم؟» قال السهيلي: وإنما قال ذلك؛ لأن فراق الوطن شديد على النفوس، فقال: نعم!إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا: أي أنصرك نصرا عزيزا أبدا. وقوله: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي»: أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد، وإيمان بما حصل من الوحي، ونية صالحة للمستقبل. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، عن ابن لهيعة، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة. أن خديجة سألت رسول الله ﷺ عن ورقة بن نوفل فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار، لم يكن عليه ثياب بياض». وهذا إسناد حسن، لكن رواه الزهري، وهشام، عن عروة مرسلا فالله أعلم. وروى الحافظ أبو يعلى، عن شريح بن يونس، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله ﷺ سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة، وعليه السندس». وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: «يبعث يوم القيامة أمة وحده». وسئل عن أبي طالب فقال: «أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها». وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن. فقال: «أبصرتها على نهر في الجنة، في بيت من قصب، لا صخب فيه، ولا، نصب». إسناد حسن، ولبعضه شواهد في (الصحيح)، والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة، أو جنتين». وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. وهذا إسناد جيد، وروي مرسلا وهو أشبه. روى الحافظان البيهقي، وأبو نعيم، في كتابيهما (دلائل النبوة) من حديث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله ﷺ قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر». قالت: معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك. فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث.. فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله ﷺ ثم ذكرت له خديجة حديثه له فقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله ﷺ أخذ بيده أبو بكر. فقال انطلق بنا إلى ورقة. قال: «ومن أخبرك؟» قال: خديجة. فانطلقا إليه فقصا عليه. فقال رسول الله ﷺ: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض». فقال له لا تفعل. إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه يا محمد قل: { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } حتى بلغ: { ولا الضالين } قل لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: ابشر ثم ابشر. فأنا أشهد أنك الذي بشَّر بك ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا. ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك. فلما توفي ورقة قال رسول الله ﷺ: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني». يعني: ورقة. هذا لفظ البيهقي. وهو مرسل وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل. وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان، وعقده عليه، وتأكده عنده. وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة، وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ. فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا، منها قوله: لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لأمرٍ طالما بعث النشيجا ووصف من خديجة بعد وصفٍ * فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكَّتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا بما أخبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم به البرية أن تعوجا فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا فياليتي إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا ولو كان الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا أرجّي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي العرش إذ سلفوا عروجا فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا وقال أيضا في قصيدته الأخرى: وأخبار صدق خبرت عن محمدٍ * يخِّبرها عنه إذا غاب ناصح بأن ابن عبد الله أحمد مرسلٌ * إلى كل من ضمت عليه الأباطح وظني به ٌأن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الحق واضح ويتبعه حيا لؤي بن غالبٍ * شبابهم والأشيبون الجحاجح فإن ابق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الودِّ فارح وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح. وقال يونس عن بكير، عن ابن إسحاق قال ورقة: فان يكُ حقا يا خديجة فاعلمي * حديثك إيانا فأحمد مرسل وجبريل يأتيه وميكال معهما * من الله وحي يشرح الصدر منزل يفوز به من فاز فيها بتوبةٍ * ويشقى به العاني الغرير المضلَّل فريقان منهم فرقة في جنانه * وأخرى بأحواز الجحيم تعلَّل إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت * مقامع في هاماتهم ثم تشعل فسبحان من يهوي الرياح بأمره * ومن هو في الأيام ما شاء يفعل ومن عرشه فوق السموات كلها * واقضاؤه في خلقه لا تبدل وقال ورقة أيضا: يا للرجال وصَرْف الدهر والقدر * وما لشيءٍ قضاه الله من غير حتى خديجة تدعوني لأخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر وخبرتني بأمر قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر بأن أحمد يأتيه فيخبره * جبريل أنك مبعوث إلى البشر فقلت علَّ الذي ترجين ينجزه * لك الإله فرجِّي الخير وانتظري وأرسليه إلينا كي نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر فقال حين أتانا منطقا عجبا * يقف منه أعالي الجلد والشعر إني رأيت أمين الله واجهني * في صورة أكملت من أعظم الصور ثم استمر فكاد الخوف يذعرني * مما يسلِّم من حولي من الشجر فقلت ظني وما أدري أيصدقني * أن سوف يبعث يتلو مُنزل السور وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا منّ ولا كدر هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل، وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم. وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية -عن بعض أهل العلم: أن رسول الله ﷺ حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر البيوب عنه، ويفضي إلى شعاب مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر، ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. قال فيلتفت حوله عن يمينه، وعن شماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله ﷺ كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان. قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد، كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله ﷺ من النبوة، حين جاءه جبريل قال: فقال عبيد وأنا حاضر - يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس -: كان رسول الله ﷺ يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث قال: وكان ذلك مما يحبب به قريش في الجاهلية، والتحنث: التبرز. فكان رسول الله ﷺ يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها. وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله ﷺ إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد به، جاءه جبريل بأمر الله تعالى. فقال رسول الله ﷺ: «فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب. فقال اقرأ، قلت ما أقرأ؟ قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني. فقال: اقرأ؛ قال: قلت ما أقرأ؟ قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني. فقال اقرأ، قلت ما أقرأ؟ قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني. فقال اقرأ، قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتدا منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [سورة العلق: 1-5] . قال: فقرأتها، ثم انتهى وانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا. قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم، وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك. فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني. وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها. فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة، ورجعوا إليّ. ثم حدثتها بالذي رأيت. فقالت: أبشر يا ابن العم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله ﷺ. فقال ورقة: قدوس، قدوس، والذي نفس ورقة بيده؛ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، وقولي له: فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله ﷺ جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة. فقال: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره. فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى منزله. وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة، كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ، ويحتمل أنه كان بعده بمدة، والله أعلم. وقال موسى بن عقبة: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: وكان فيما بلغنا أول ما رأى - يعني: رسول الله ﷺ - أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب، وشرح صدرها للتصديق. فقالت: أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا، ثم إنه خرج من عندها، ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر، ثم أعيد كما كان. قالت: هذا والله خير فأبشر. ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي ﷺ يقول: «أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت، واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عز وجل، حتى اطمأن رسول الله ﷺ». فقال له جبريل: اقرأ، فقال: كيف اقرأ؟ فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [سورة العلق: 1-5] . قال: ويزعم ناس أن { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } أول سورة نزلت عليه، والله أعلم. قال فقبل رسول الله ﷺ رسالة ربه، واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله، فلما انصرف منقلبا إلى بيته، جعل لا يمرُّ على شجر، ولا حجر، إلا سلَّم عليه، فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما. فلما دخل على خديجة قال: أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن إليّ، أرسله إليّ ربي عزَّ وجل، وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه. فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، وأقبل الذي جاءك من أمر الله فإنه حق، وأبشر فإنك رسول الله حقا. ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له: عداس، فقالت له: يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل؟ فقال: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان؟ فقالت: أخبرني بعلمك فيه. قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام. فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي ﷺ وما ألقاه إليه جبريل. فقال لها ورقة: يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وأقسم بالله لئن كان إياه، ثم أظهر دعواه وأنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر. فمات ورقة رحمه الله. قال الزهري: فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله ﷺ. قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه: والذي ذكر فيه من شق بطنه، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعني: شق بطنه عند حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء والله أعلم. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمي. قال: بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة وكان أول شيء اختصه به من النبوة، والكرامة رؤيا كان يراها، فقصَّ ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد، فقالت له: ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا. فبينما هو ذات يوم في حراء، وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل فدنا منه فخافه رسول الله ﷺ مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره، ومن خلفه بين كتفيه. فقال: اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر!فإنك نبي هذه الأمة. اقرأ، فقال له نبي الله: - وهو خائف يرعد - ما قرأت كتابا قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ. فأخذه جبريل فغته غتا شديدا، ثم تركه، ثم قال له: اقرأ، فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك، فرأى فيه من صفاءه، وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت، وقال له: «اقرأ باسم ربك الذي خلق» الآيات. ثم قال له: لا تخف يا محمد إنك رسول الله، ثم انصرف وأقبل على رسول الله ﷺ همه فقال كيف أصنع؟ وكيف أقول لقومي؟ ثم قام رسول الله ﷺ وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته، فرأى رسول الله ﷺ أمرا عظيما ملأ صدره. فقال له جبريل: لا تخف يا محمد: جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله، فإنك رسول الله. فرجع رسول الله ﷺ لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا هو ساجد يقول: السلام عليك يا رسول الله. فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك، فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول: لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم. فقال: يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة، وأهال منه فإنه جبريل قد استعلن لي وكلمني وأقرأني كلاما فزعت منه ثم عاد إليّ فأخبرني أني نبي هذه الأمة، فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر، وحجارة، فقلن السلام عليك يا رسول الله. فقالت خديجة: أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيرى الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة. فلم تزل برسول الله ﷺ حتى طعم وشرب وضحك، ثم خرجت إلى الراهب، وكان قريبا من مكة، فلما دنت منه وعرفها. قال: مالك يا سيدة نساء قريش؟ فقالت: أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل؟ فقال: سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان؟ جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله، وهو صاحب موسى، وعيسى، فعرفت كرامة الله لمحمد. ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له: عداس فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها الراهب وأزيد. قال: جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه، وكان معه حين كلمه الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به. ثم قامت من عنده، فأتت ورقة بن نوفل، فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك، ثم سألها ما الخبر فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها. فقالت له: إن ابن عبد الله ذكر لي، وهو صادق، أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة، وأقرأه آيات أرسل بها. قال: فذعر ورقة لذلك، وقال: لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض، وما نزل إلا على نبي، وهو صاحب الأنبياء والرسل، يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه، فأرسلي إلي ابن عبد الله أسأله، وأسمع من قوله، وأحدثه، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلها مجنونا. فقامت من عنده، وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بما قال ورقة، فأنزل الله تعالى: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } الآيات [القلم: 1-2] . فقال لها: كلا والله إنه لجبريل. فقالت له: أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه فجاءه رسول الله ﷺ فقال له ورقة: هذا الذي جاءك جاءك في نور أو ظلمة؟ فأخبره رسول الله ﷺ عن صفة جبريل، وما رآه من عظمته، وما أوحاه إليه. فقال ورقة: أشهد أن هذا جبريل، وأن هذا كلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك وأنه لأمر نبوة فإن أُدرك زمانك أتبعك، ثم قال: أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به. قال: وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله ﷺ فشق ذلك على الملأ من قومه، قال وفتر الوحي. فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع، ولكن الله قلاه فأنزل الله (والضحى) و (ألم نشرح) بكمالهما. وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد، أنها قالت لرسول الله ﷺ فيما بيّنه مما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك. فقال: نعم! فقالت: إذا جاءك فأخبرني. فبينا رسول الله ﷺ عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله ﷺ. فقال: يا خديجة! هذا جبريل. فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم! قالت: فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم! قالت: فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله ﷺ فجلس في حجرها فقالت: هل تراه الآن؟ قال: نعم! فتحسرت رأسها فشالت خمارها، ورسول الله ﷺ جالس في حجرها فقالت: هل تراه الآن؟ قال: لا. قالت: ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم، فاثبت وأبشر، ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق. قال ابن إسحاق: فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله ﷺ بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل عليه السلام. قال البيهقي: وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقا. فأما النبي ﷺ فقد كان قد وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر، والحجر عليه ﷺ تسليما. وقد قال مسلم في (صحيحه): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه. أن رسول الله ﷺ قال: «إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليَّ قبل أن بعث، إني لأعرفه الآن». وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن بمكة لحجرا كان يسلم عليّ ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه». وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، عن عباد بن عبد الله، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: كنا مع رسول الله ﷺ بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل، إلا قال السلام عليك يا رسول الله. وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه - يعني: النبي ﷺ - الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله. وأنا أسمعه.
فصل حزن النبي ﷺ عندما فترعنه الوحي
قال البخاري في روايته المتقدمة: ثم فتر الوحي حتى حزن النبي ﷺ فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقرَّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل، فقال له مثل ذلك. وفي (الصحيحين) من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: سمعت أبا سلمة عبد الرحمن، يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يحدث عن فترة الوحي. قال: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء و الأرض فجثيت منه فرقا، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [المدثر: 1-5] . قال: ثم حمي الوحي وتتابع فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقا. ذاك قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه، فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانيا بما عرفه به أولا إليه. ثم قوله: يحدّث عن فترة الوحي دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء والله أعلم. وقد ثبت في (الصحيحين) من حديث علي بن المبارك، وعند مسلم، والأوزاعي، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: «يا أيها المدثر». فقلت: «واقرأ باسم ربك». فقال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن نزل قبل؟ فقال: «يا أيها المدثر». فقلت: «واقرأ باسم ربك». فقال: أحدثكم ما حدثنا رسول الله ﷺ. قال رسول الله ﷺ: «إني جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم، فدثروني، فأنزل الله: «يا أيها المدثر» حتى بلغ «وثيابك فطهر». وقال في رواية -: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه». وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه والله أعلم. ومنهم: زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة: { والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } إلى آخرها. قاله محمد بن إسحاق. وقال بعض القرَّاء: ولهذا كـَّبر رسول الله ﷺ في أولها فرحا وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي (الصحيح) من أن أول القرآن نزولا بعد فترة الوحي: { يا أيها المدثر * قم فانذر } ولكن نزلت سورة (والضحى) بعد فترة أخرى، كانت ليالي يسيرة كما ثبت في (الصحيحين) وغيرهما، من حديث الأسود بن قيس، عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: اشتكى رسول الله ﷺ فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك. فأنزل الله: { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [الضحى: 1-2] . وبهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس وبالأول حصلت النبوة. وقد قال بعضهم: كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا، والظاهر والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي، وغيره. ولا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم اقترن به جبريل بعد نزول: { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر }. وثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع - أي: تدارك شيئا بعد شيء - وقام حينئذ رسول الله ﷺ في الرسالة أتم القيام وشمَّر عن ساق العزم، ودعا إلى الله، القريب، والبعيد، والأحرار، والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد. فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق. ومن الغلمان: علي بن أبي طالب. ومن النساء: خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام. ومن الموالي: مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم. وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ومات في الفترة رضي الله عنه.
فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن
لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه، أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله: { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسا شَدِيدا وَشُهُبا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابا رَصَدا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا } [الجن: 8-10] . وقال تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 210- 212] قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد - وهو الطبراني - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فتكون باطلا. فلما بعث النبي ﷺ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال لهم إبليس: هذا لأمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله ﷺ قائما يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه. فقال: هذا الأمر الذي قد حدث في الأرض. وقال أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله ﷺ، وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم. فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له. فقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا }. [الجن: 2] . فأوحى الله إلى نبيه ﷺ: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } الآية [الجن: 1] . أخرجاه في (الصحيحين). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا، قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤسهم حتى ينزل. فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء. قالوا: الحق وهو العلي الكبير، وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب، أو موت، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به. فقالوا: يكون كذا وكذا فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم، فلما بعث النبي محمد ﷺ دحروا بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذا الإبل فينحر كل يوم بعيرا، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا فإن كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فإنه لأمر حدث، فنظروا فإذا النجوم التي يهتدي بها كما هي لم يزل منها شيء فكفوا وصرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا: انصتوا وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه. فقال: هذا حدثٌ حدث في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة تهامة، فقال: ههنا الحدث. ورواه البيهقي، والحاكم، من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب.. وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن عمر بن عبدان العبسي، عن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى، حتى تنبأ رسول الله ﷺ فرمى بها، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم، ويعتقون أرقاءهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف مثل ذلك، فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف. قال: ولم فعلتم ما أرى؟ قالوا: رمى بالنجوم، فرأيناها تهافت من السماء. فقال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد، فلا تعجلوا، وانظروا: فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه. فقال: الأمر فيه مهلة بعد هذا عند ظهور نبي. فما مكثوا إلا يسيرا، حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل. فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمى بها. وقال سعيد بن منصور، عن خالد بن حصين، عن عامر الشعبي. قال: كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث الله، رسول الله ﷺ فرمي بها ﷺ فسيبوا أنعامهم، وأعتقوا رقيقهم. فقال عبد ياليل: انظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف. قال: فأمسكوا، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى جاءهم خروج النبي ﷺ. وروى البيهقي، والحاكم، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه. فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة. ويجب حمل ذلك على هذا لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينا رسول الله ﷺ جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستدار فقال: «ما كنتم تقولون إذا رمي بهذا؟». قال: كنا نقول مات عظيم، وولد عظيم. فقال: «لا ولكن». فذكر الحديث كما تقدم عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق ولله الحمد. وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم: إن كانت أعلام السماء أو غيرها، ولكن سماه عمرو بن أمية، فالله أعلم. وقال السدي: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر، وكانت الشياطين قبل محمد ﷺ قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر. فلما بعث الله محمدا ﷺ نبيا، رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف. فقالوا: هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء، واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم. فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، وإنما هو من ابن أبي كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء. فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم، وفزعت الشياطين في تلك الليلة، فأتوا إبليس، فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب. فأتوه فشمَّ. فقال: صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة، فوجدوا رسول الله ﷺ في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن، حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا فأنزل الله أمرهم على نبيه ﷺ. وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن ابن أبي حكيم - يعني: إسحاق - عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: لما بعث رسول الله ﷺ أصبح كل صنم منكسا، فأتت الشياطين، فقالوا له: ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا. قال: هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف، فالتمسوه، فقالوا: لم نجده. فقال: أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي عليك بجنبة الباب - يعني: مكة - فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب، فخرج إلى الشياطين. فقال: إني قد وجدته معه جبريل، فما عندكم؟ قالوا: نزين الشهوات في عين أصحابه، ونحببها إليهم. قال: فلا آسى إذا. وقال الواقدي: حدثني طلحة بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله ﷺ منعت الشياطين من السماء، ورموا بالشهب، فجاؤوا إلى إبليس فذكروا ذلك له. فقال: أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج نبي إسرائيل. قال: فذهبوا إلى الشام، ثم رجعوا إليه، فقالوا: ليس بها أحد. فقال إبليس: أنا صاحبه، فخرج في طلبه بمكة؛ فإذا رسول الله ﷺ بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه. فقال: قد بعث أحمد ومعه جبريل، فما عندكم؟ قالوا: الدنيا نحببها إلى الناس. قال: فذاك إذا. قال الواقدي: وحدثني طلحة ابن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كانت الشياطين يستمعون الوحي، فلما بعث محمد ﷺ منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر فرقي فوق أبي قبيس - وهو أول جبل وضع على وجه الأرض - فرأى رسول الله ﷺ يصلي خلف المقام. فقال: اذهب فاكسر عنقه. فجاء يخطر وجبريل عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا فولى الشيطان هاربا.. ثم رواه الواقدي، وأبو أحمد الزبيري، كلاهما عن رباح بن أبي معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، فذكر مثل هذا، وقال: فركضه برجله فرماه بعدن.
فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله ﷺ
قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة، وثاني مرة أيضا. وقال مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. إن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ. قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس - وهو أشده عليّ - فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فأعي ما يقول». قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ﷺ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصد عرقا أخرجاه في (الصحيحين) من حديث مالك به. ورواه الإمام أحمد، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه. وكذا رواه عبدة بن سليمان، وأنس بن عياض، عن هشام بن عروة. وقد رواه أيوب السختياني، عن هشام، عن أبيه، عن الحارث بن هشام أنه قال: سألت رسول الله ﷺ فقلت: كيف يأتيك الوحي؟ فذكره، ولم يذكر عائشة. وفي حديث الإفك قالت عائشة: فوالله ما رام رسول الله ﷺ، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه. فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال: أملى عليّ يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله ﷺ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل.. وذكر تمام الحديث في نزول: { قد أفلح المؤمنون }. وكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عبد الرزاق، ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدا رواه، غير يونس بن سليم، ولا نعرفه. وفي (صحيح مسلم)، وغيره، من حديث الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت. قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك، وتربد وجهه. وفي رواية - وغمض عينيه - وكنا نعرف ذلك منه. وفي (الصحيحين) حديث زيد بن ثابت حين نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: { غير أولى الضرر }. قال: وكانت فخذ رسول الله ﷺ على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي. وفي (صحيح مسلم) من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية. قال: قال لي عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله ﷺ وهو يوحى إليه؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة؛ فإذا هو محمرّ الوجه، وهو يغط كما يغط البكر. وثبت في (الصحيحين) من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة. فرجعت إلى رسول الله ﷺ فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال: «إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن». فدلَّ هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس. قال: كان رسول الله ﷺ إذا أنزل عليه الوحي تربَّد لذلك جسده ووجهه، وأمسك عن أصحابه، ولم يكلمه أحد منهم. وفي (مسند أحمد)، وغيره، من حديث ابن لهيعة: حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن ابن عبد الله بن عمرو، قلت يا رسول الله هل تحس بالوحي؟. قال: «نعم اسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه». وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب، حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم. قال: كنا عند رسول الله ﷺ وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة، وفرغ سمعه وقلبه، لما يأتيه من الله عز وجل. وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا علي بن غراب، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. قال: كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي صدع وغلف رأسه بالحناء. هذا حديث غريب جدا. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد. قالت: إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول الله ﷺ، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري، عن ليث بن أبي سليم به. وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني جبر بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله ﷺ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها. وروى ابن مردويه من حديث صباح ابن سهل، عن عاصم الأحول، حدثتني أم عمرو، عن عمها: أنه كان في مسير مع رسول الله ﷺ، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها. وهذا غريب من هذا الوجه. ثم قد ثبت في (الصحيحين) نزول سورة الفتح على رسول الله ﷺ مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته، فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال والله أعلم. وقد ذكرنا أنواع الوحي إليه ﷺ في أول (شرح البخاري)، وما ذكره الحليمي، وغيره من الأئمة رضي الله عنهم.
فصل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه
قال الله تعالى: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16-19] . وقال تعالى: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما } [طه: 114] . وكان هذا في الابتداء، كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عز وجل ليساوقه في التلاوة.. فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه ويوقفه على المراد منه. ولهذا قال: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما } وقال: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي: في صدرك { وَقُرْآنَهُ } أي: وأن تقرأه. { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي: تلاه عليك الملك. { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: فاستمع له وتدبره. { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : وهو نظير قوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما } وفي (الصحيحين) من حديث موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة؛ فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله: { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه }. قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } : فاستمع له وأنصت. { ثم إن علينا بيانه } قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل. فصل تتابع الوحي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام
قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحي إلى رسول الله ﷺ وهو مؤمن بالله مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله - على رضا العباد وسخطهم - وللنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة، والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاؤوا به عن الله عز وجل. فمضى رسول الله ﷺ على ما أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف، والأذى. قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن رسوله ﷺ لا يسمع شيئا يكرهه من ردٍ عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها. قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نضب». وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) من حديث هشام. قال ابن هشام: القصب هاهنا: اللؤلؤ المجوف.. قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله ﷺ يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة؛ سرا إلى من يطمئن إليه من أهله. وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة. قلت: يعني الصلوات الخمس ليلة الإسراء. فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه. وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به. ثم أن جبريل أتى رسول الله ﷺ وهو بأعلى مكة حين افترضت عليه الصلاة. فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي ﷺ وقد أقرَّ الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله. فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا. قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان..
فصل أول من أسلم من متقدمي الإسلام والصحابة وغيرهم
قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان. فقال علي: يا محمد ما هذا؟ قال: «دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته». «وأن تكفر باللات والعزى». فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرا حتى أحدث به أبا طالب. فكره رسول الله ﷺ أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره. فقال له: «يا علي إذا لم تسلم فاكتم». فمكث علي تلك الليلة، ثم أن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله ﷺ، حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله ﷺ: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد». ففعل علي وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره. وأسلم ابن حارثة - يعني: زيدا - فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله ﷺ، وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله ﷺ قبل الإسلام. قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: وكان مما أنعم الله به على علي ومما صنع الله له، وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة. فقال رسول الله ﷺ لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم - «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه حتى نخفف عنه من عياله».... فأخذ رسول الله ﷺ عليا فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله ﷺ حتى بعثه الله نبيا، فاتَّبعه علي وآمن به وصدقه. وقال يونس بن بكير، عن محمد ابن إسحاق، حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي - من أهل الكوفة - حدثني إسماعيل بن أبي إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف - وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه - أنه قال: كنت امرءا تاجرا، فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه. قال: فبينا نحن عنده إذ خرج رجل من خباء، فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه. فقلت يا عباس ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما ندري ما هو؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ، فكنت أكون ثانيا. وتابعه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، وقال: في الحديث: إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلي. ثم ذكر قيام خديجة وراءه. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد بن عبدة البجلي، عن يحيى بن عفيف عن عفيف قال: جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس، وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدا، فسجدا معه. فقلت: يا عباس أمر عظيم! فقال: أمر عظيم. فقال: أتدري من هذا؟ فقلت: لا فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. أتدري من الغلام؟ قلت: لا قال: هذا علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه -. أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي. وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. وقال ابن جرير: حدثني ابن حميد، حدثنا عيسى بن سوادة بن أبي الجعد، حدثنا محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو حازم، والكلبي. قالوا: علي أول من أسلم. قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين. وحدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. قال: أول ذكر آمن برسول الله ﷺ وصلى معه وصدقه علي بن أبي طالب، وهو ابن عشر سنين، وكان في حجر رسول الله ﷺ، قبل الإسلام.. قال الواقدي: أخبرنا إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال: أسلم علي وهو ابن عشر سنين. قال الواقدي: وأجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة. وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الأمة: خديجة وأول رجلين أسلما: أبو بكر، وعلي. وأسلم علي قبل أبي بكر، وكان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه، حتى لقيه أبوه قال: أسلمت؟ قال: نعم. قال: وازر ابن عمك وانصره. قال: وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الإسلام. وروى ابن جرير في (تاريخه): من حديث شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: أول من صلى علي. وحدثنا عبد الحميد بن يحيى، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. قال: بعث النبي ﷺ يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء وروى من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة - رجل من الأنصار -سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، قال: فذكرته للنخعي فأنكره. وقال: أبو بكر أول من أسلم. ثم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله سمعت عليا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين. وهكذا رواه ابن ماجه، عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن عبيد الله بن موسى الفهمي - وهو شيعي من رجال الصحيح - عن العلاء بن صالح الأزدي الكوفي - وثقوه، ولكن قال أبو حاتم: كان من عتق الشيعة - وقال علي بن المديني: روى أحاديث مناكير والمنهال بن عمرو ثقة. وأما شيخه عباد بن عبد الله - وهو الأسدي الكوفي -فقد قال فيه علي بن المديني: هو ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر. وذكره ابن حبان في الثقات، وهذا الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله علي رضي الله عنه، وكيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين؟ هذا لا يتصور أصلا والله أعلم. وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق، والجمع بين الأقوال كلها أن: خديجة أول من أسلم من النساء وظاهر السباقات - وقيل: الرجال أيضا - وأول من أسلم من الموالي: زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان: علي بن أبي طالب. فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت. وأول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم، إذ كان صدرا معظما، ورئيسا في قريش مكرما، وصاحب مال، وداعية إلى الإسلام. وكان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله كما سيأتي تفصيله. قال يونس عن ابن إسحاق: ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله ﷺ فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد؟ من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا؟ فقال رسول الله ﷺ: «بلى إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته». وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر. فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق. قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله ﷺ قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه» عكم - أي: تلبث - وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله فلم يقر ولم ينكر، منكر فإن ابن إسحاق، وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله ﷺ قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته، وحسن سجيته، وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق. فكيف يكذب على الله؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له إن الله أرسله بادر إلى تصديقه ولم يتلعثم، ولا عكم، وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي أفردناه في سيرته، وأوردنا فضائله وشمائله، وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي ﷺ من الأحاديث. وما روي عنه من الآثار والأحكام والفتاوى، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات والله الحمد والمنة. وقد ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة وفيه فقال رسول الله ﷺ: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي» مرتين. فما أوذي بعدها، وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه وقد روى الترمذي، وابن حبان من حديث شعبة، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد. قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ألست أحق الناس بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا؟ وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد، حدثنا أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث سمعت عليا يقول: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر الصديق وأول من صلى مع النبي ﷺ من الرجال: علي ابن أبي طالب. وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع النبي ﷺ: أبو بكر الصديق. رواه أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث شعبة وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم علي بن أبي طالب. قال عمرو بن مرة فذكرته لإبراهيم النخعي فأنكره وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وروى الواقدي بأسانيده عن أبي أروى الدوسي، وأبي مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف: أول من أسلم أبو بكر الصديق. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن مالك بن مغول، عن رجل قال: سئل ابن عباس من أول من آمن؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعت قول حسان: إذا تذكَّرتَ شجْوا من أخي ثقةٍ * فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا خيرَ البريةِ أوفاها وأعدلها * بعد النبيّ وأولاها بما حملا والتاليُ الثانيُ المحمودُ مشهدُه * وأول الناس منهم صدَّق الرسلا عاشَ حميدا لأمرِ الله متبعا * بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا شيخ لنا، عن مجالد، عن عامر قال: سألت ابن عباس - أو سئل ابن عباس - أي الناس أول إسلاما؟ قال: أما سمعت قول حسان بن ثابت فذكره وهكذا رواه الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن عامر الشعبي سألت ابن عباس فذكره. وقال أبو القاسم البغوي: حدثني سريج بن يونس، حدثنا يوسف بن الماجشون قال: أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكُّون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب، ومحمد بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة. وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم يكن أولهم إسلاما، ولكن كان أفضلهم إسلاما. قال سعد: وقد آمن قبله خمسة. وثبت في (صحيح البخاري) من حديث همام بن الحارث، عن عمار بن ياسر. قال: رأيت رسول الله ﷺ وما معه إلا خمسة: أعبد وامرأتان، وأبو بكر. وروى الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله ﷺ فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد. وهكذا رواه الثوري، عن منصور، عن مجاهد مرسلا. فأما ما رواه ابن جرير قائلا: أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن حبلة، عن إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص. قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاما؟ قال: لا! ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ولكن كان أفضلنا إسلاما. فإنه حديث منكر إسنادا ومتنا. قال ابن جرير وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد ابن حارثة، ثم روى من طريق الواقدي، عن ابن أبي ذئب، سألت الزهري من أول من أسلم من النساء؟ قال: خديجة. قلت: فمن الرجال؟ قال: زيد بن حارثة. وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير واحد: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة. وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الأقوال بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر، ومن النساء: خديجة، ومن الموالي: زيد بن حارثة، ومن الغلمان: علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عز وجل، وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر. وكان رجلا تاجرا ذا خلق معروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم على يديه - فيما بلغني - الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله ﷺ ومعهم أبو بكر. فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس في الإسلام صدقوا رسول الله ﷺ وآمنوا بما جاء من عند الله.. وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة، قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم، ومهاجرا إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تُسْبَق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حديث؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ، وقد اتبعه أبو بكر بن أبي قحافة. قال: فخرجت حتى قدمت على أبي بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم فانطلق إليه فادْخُل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب. فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله ﷺ فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله ﷺ بما قال الراهب فسرَّ رسول الله ﷺ بذلك. فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية - وكان يدعى أسد قريش - فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين. وقال النبي ﷺ: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية». وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي حدثنا عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة، حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عبيد الله، حدثني عبد الله بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: حدثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله ﷺ، وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها. فقال رسول الله ﷺ: «إني رسول الله أدعوك إلى الله» فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله ﷺ، وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص فأسلموا. ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم. قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبي، محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة؛ قالت: لما اجتمع أصحاب النبي ﷺ وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألحَّ أبو بكر على رسول الله ﷺ في الظهور فقال: «يا أبا بكر إنا قليل». فلم يزل أبو بكر يلحُّ حتى ظهر رسول الله ﷺ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله ﷺ جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله، وإلى رسوله ﷺ، وثار المشركون على أبي بكر، وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه. وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم، فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب. فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا: لأمه أم الخير انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله ﷺ؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاما، ولا أشرب شرابا، أو آتي رسول الله ﷺ. فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله ﷺ، قال: فأكبَّ عليه رسول الله ﷺ فقبَّله وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله ﷺ رقة شديدة. فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برَّة بوالدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله ﷺ، ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله ﷺ في الدار شهرا، وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر. ودعا رسول الله ﷺ لعمر بن الخطاب - أو لأبي جهل بن هشام - فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكـَّبر رسول الله ﷺ وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلا مكة.. وخرج أبو الأرقم - وهو أعمى كافر - وهو يقول: اللهم اغفر لبني عبيد الأرقم فإنه كفر. فقام عمر فقال: يا رسول الله على ما نخفي ديننا ونحن على الحق، ويظهر دينهم وهم على الباطل؟ قال: «يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا». فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مرَّ بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس. واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي ﷺ وهو ظاهر عليهم. قال: ما عليك بأبي وأمي والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله ﷺ، وخرج عمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر مؤمنا، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي ﷺ. والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله. وقد استقصينا كيفية إسلام أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد. وثبت في (صحيح مسلم) من حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله ﷺ في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذٍ مستخفٍ، فقلت: ما أنت؟ قال: «أنا نبي». فقلت: وما النبي؟ قال: «رسول الله». قلت: الله أرسلك؟ قال: «نعم». قلت: بما أرسلك؟ قال: «بأن تعبد الله وحده لا شريك له، وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام». قال: قلت: نِعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا؟ قال: «حر وعبد - يعني: أبا بكر وبلالا - قال: فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام». قال: فأسلمت، قلت: فأتبعك يا رسول الله؟ قال: «لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني». ويقال: إن معنى قوله عليه السلام «حر وعبد» اسم جنس، وتفسير ذلك: بأبي بكر، وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا، فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم، لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم، دع الأجانب، دع أهل البادية من الأعراب والله أعلم.. وفي (صحيح البخاري) من طريق أبي أسامة، عن هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام. أما قوله: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه فسهل، ويروى إلا في اليوم الذي أسلمت فيه وهو مشكل، إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالإسلام. وقد علم أن الصدّيق، وعليا، وخديجة، وزيد بن حارثة، أسلموا قبله، كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الأثير. ونص أبو حنيفة رضي الله عنه: على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه والله أعلم. وأما قوله: ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام فمشكل، وما أدري على ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه والله أعلم. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة. فأتى عليّ رسول الله ﷺ وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال أو فقالا -: عندك يا غلام لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما. فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم! فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله ﷺ الضرع، ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله ﷺ فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن -. فقال: «إنك غلام معلم». فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد. وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة به. ورواه الحسن بن عرفة، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود به. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله بن بطة الأصبهاني، حدثنا الحسن بن الجهم، قال: حدثنا الحسين بن الفرج، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير، عن أبيه - أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان -. قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما، وكان أول إخوته أسلم. وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به. ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها ويرى رسول الله ﷺ آخذا بحقويه لا يقع، ففزع من نومه، فقال: أحلف بالله أن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال أبو بكر: أُريد بك خيرا هذا رسول الله ﷺ فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها. فلقي رسول الله ﷺ وهو بأجيادٍ، فقال: يا رسول الله يا محمد إلى ما تدعو؟ قال: «أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده». قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فسرَّ رسول الله ﷺ بإسلامه، وتغيب خالد، وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتى به، فأنَّبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه. وقال: والله لأمنعنك القوت. فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله ﷺ، فكان يكرمه ويكون معه.
إسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي ﷺ
قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق حدثني رجل ممن أسلم - وكان واعية - أن أبا جهل اعترض رسول الله ﷺ عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجَّه منها شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، وقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت؟ قال حمزة: ومن يمنعني وقد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله ﷺ وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله ﷺ قد عز وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه. وقال حمزة في ذلك شعرا. قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت. فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول الله ﷺ. فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد أم هو غي شديد؟ فحدثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني، فأقبل رسول الله ﷺ فذكَّره ووعظه، وخوَّفه وبشَّره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله ﷺ. فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء، وأني على ديني الأول. فكان حمزة ممن أعزَّ الله به الدين. وهكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به. ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه
قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن زياد قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله ﷺ فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله ﷺ. هذا سياق مختصر.. وقال البخاري: إسلام أبي ذر: حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى عن أبي حمزة، عن ابن عباس. قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله ﷺ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء. فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدمه، وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس رسول الله ﷺ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، اضطجع فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح. ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي ﷺ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمرَّ به علي، فقال: أما آن للرجل يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت. ففعل فأخبره. قال: فإنه حق وإنه رسول الله ﷺ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي ﷺ ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي ﷺ: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري». فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلا صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام. فأنقذه منهم. ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه هذا لفظ البخاري. وقد جاء إسلامه مبسوطا في (صحيح مسلم) وغيره، فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار - وكان يحلون الشهر الحرام - أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مالٍ وهيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس. فجاء خالنا فثنى ما قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد. قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي، قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال: فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها، فأتيا الكاهن فخير أنيسا. فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله ﷺ بثلاث سنين، قال: قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: حيث وجهني الله. قال: وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فألقني حتى آتيك قال: فانطلق فراث علي، ثم أتاني فقلت ما حسبك؟ قال: لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له؟ قال: يقولوا إنه شاعر وساحر، وكان أنيس شاعرا. قال: فقال: لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: فقلت له: هل أنت كافيِّ حتى انطلق؟ قال: نعم! وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنَّعوا له وتجهموا له. قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلى الصابئ فمال أهل الوادي عليّ بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يابن أخي ثلاثين من يوم وليلة، مالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي وهما يدعوان: إساف ونائلة. فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك، فقلت: وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن. قال: فانطلقتا يولولان ويقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله ﷺ وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال ما لكما؟ فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. قال: وجاء رسول الله ﷺ هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت ثم صلى. قال: فأتيته فكنت أول من حيَّاه بتحية أهل الإسلام. فقال: «عليك السلام ورحمة الله من أنت؟» قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته. قال: فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار. قال: فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه وكان أعلم به مني. قال: متى كنت ههنا؟ قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم. قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: قال رسول الله ﷺ «إنها مباركة، إنها طعام طعم». قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، قال: ففعل. قال: فانطلق النبي ﷺ، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت. فقال رسول الله ﷺ: «إني قد وجِّهت إليَّ أرض ذات نخل ولا أحبسها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟». قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا، قال: فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: صنعت إني أسلمت وصدقت. قال: فما بي رغبة عن دينك. فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما. فإني قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله ﷺ المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم يومئذٍ. وقال: بقيتهم إذا قدم رسول الله ﷺ أسلمنا، قال: فقدم رسول الله ﷺ فأسلم بقيتهم. قال: وجاءت أسلم. فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله ﷺ: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله». ورواه مسلم، عن هدبة بن خالد، عن سليمان بن المغيرة به نحوه. وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر، وفيه زيادات غريبة فالله أعلم. وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في كتاب (البشارات) بمبعثه عليه الصلاة والسلام. ذكر إسلام ضماد
روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون: إن محمدا مجنون. فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟ قال: فلقيت محمدا؛ فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وأن الله يشفي على يدي من شاء فهلم. فقال محمد: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات». فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام. فبايعه رسول الله ﷺ، فقال له: وعلى قومك؟ فقال: وعلى قومي، فبعث النبي ﷺ جيشا، فمروا بقوم ضماد. فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردها عليهم فإنهم قوم ضماد. وفي رواية فقال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر. وقد ذكر أبو نعيم في (دلائل النبوة) إسلام من أسلم من الأعيان فصلا طويلا، واستقصى ذلك استقصاءً حسنا رحمه الله وأثابه. وقد سرد ابن إسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضي الله عنهم. قال: ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر - وهي صغيرة -، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، وخباب بن الأرت، وعمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود. ومسعود بن القاري، وسليط بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلمة بن مخرمة التيمي، وخنيس بن حذافة، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فكيهة ابنة يسار، وحطاب بن الحارث، و امرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحي، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد مناف، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم.. والنحام واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن سعيد، وأمينة ابنة خلف بن سعد بن عامر بن بياضة بن خزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن عرين بن ثعلبة التميمي حليف بني عدي، وخالد ابن البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني سعد بن ليث. وكان اسم عاقل غافلا فسماه رسول الله ﷺ عاقلا، وهم حلفاء بني عدي بن كعب، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان. ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا أمر الإسلام بمكة، وتحدث به. قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسوله ﷺ بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين. قال: وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام. وروى الأموي في (مغازيه) من طريق الوقاصي، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه. فذكر القصة بطولها، وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله.
باب الأمر بابلاغ الرسالة
إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الأعظم إليهم، وذكر ما لقي من الأذية منهم، هو وأصحابه رضي الله عنهم. قال الله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء: 214-220] . وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [الزخرف: 44] . وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [القصص: 88] . أي: أن الذي فرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن: لرادك إلى دار الآخرة، وهي المعاد، فيسألك عن ذلك. كما قال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر: 92-93] والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا. وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء: { وأنذر عشيرتك الأقربين }. وأوردنا أحاديث جمَّة في ذلك، فمن ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله { وأنذر عشيرتك الأقربين } أتى النبي ﷺ الصفا، فصعد عليه، ثم نادى:«يا صباحاه»، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله ﷺ: «يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني كعب أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟». قالوا: نعم! قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب - لعنه الله -: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله عز وجل: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] . وأخرجاه من حديث الأعمش به نحوه. وقال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، وحدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة. قال: لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله ﷺ قريشا فعمَّ وخصَّ. فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلائها». ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وله طرق أخر عن أبي هريرة في مسند أحمد وغيره.. وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع بن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين }. قام رسول الله ﷺ فقال: «يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» ورواه مسلم أيضا. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي (في الدلائل): أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب. قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 214-215] . قال رسول الله ﷺ: «عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت، فجاءني جبريل عليه السلام فقال لي: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار». قال علي: فدعاني فقال: «يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره فصمتّ عن ذلك ثم جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدَّ لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب» ففعلت. فاجتمعوا له يومئذٍ وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا، أو ينقصون فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث. فقدَّمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله ﷺ منها حذية فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: «كلوا بسم الله». فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله ﷺ: «اسقهم يا علي»، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا منه جميعا وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله فلما أراد رسول الله ﷺ أن يكلمهم بدره أبو لهب - لعنه الله - فقال: لهدَّ ما سحركم صاحبكم؟ فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله ﷺ. فلما كان من الغد قال رسول الله ﷺ: «يا علي عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم» ففعلت ثم جمعتهم له. فصنع رسول الله ﷺ كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا، وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها. ثم قال رسول الله ﷺ: «يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل من ما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة». هكذا رواه البيهقي، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمه، عن عبد الله بن الحارث به. وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل الأبرش، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي فذكر مثله. وزاد بعد قوله: «وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي» وكذا وكذا. قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت: ولأني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا، أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: «إن هذا أخي، وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا». قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع! تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعَّفه الباقون. ولكن روى ابن أبي حاتم في (تفسيره) عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث. قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين }. قال لي رسول الله ﷺ: إصنع لي رِجل شاة بصاع من طعام، وإناء لبنا، وأدع لي بني هاشم، فدعوتهم وإنهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: وبدرهم رسول الله ﷺ الكلام. فقال: «أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟». قال: فسكتوا، وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُ أنا لسن العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله، قال: أنت؟ قال: وإني يومئذٍ لأسوأهم هيئة، وإني لأعمش العينين، ضخم البطن؛ خمش الساقين. وهذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم.. وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الأسدي وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم - أو كالشاهد له - والله أعلم. ومعنى قوله في هذا الحديث: «من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي» يعني: إذا مت، وكأنه ﷺ خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه؛ وقد أمَّنه الله من ذلك في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67] الآية. والمقصود أن رسول الله ﷺ استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عنه ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحج. يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء. وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية. وكان من أشدِّ الناس عليه: عمه أبو لهب - واسمه عبد العزى بن عبد المطلب - وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب. وكان رسول الله ﷺ أحب خلق الله إليه طبعا، وكان يحنو عليه ويحسن إليه ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا. وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه. ولاجترؤا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه وربك يخلق ما يشاء ويختار. وقد قسَّم خلقه أنواعا وأجناسا، فهذان العمان كافران: أبو طالب وأبو لهب. ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب. قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه. قال: أخبر رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان جاهليا فأسلم - قال: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية في سوق ذي المجاز، يمشي بين ظهراني الناس وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ، كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب، ثم رواه هو والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه.. وقال البيهقي أيضا: حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان، حدثنا أبو الأزهر: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا محمد بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الديلي. قال: رأيت رسول الله ﷺ بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم. قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب. ثم رواه من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة. قال: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا» وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى. كذا قال أبو جهل، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى. وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه، وسجاياه، واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم. قال يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن موسى بن طلحة، أخبرني عقيل بن أبي طالب. قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا. فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد، فانطلقت إليه فاستخرجته من كنس - أو قال خنس - يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم فحلّق رسول الله ﷺ ببصره إلى السماء. فقال: «ترون هذه الشمس؟». قالوا: نعم! قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة». فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا. رواه البخاري في (التاريخ)، عن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير. ورواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار عنه به - وهذا لفظه -. ثم روى البيهقي من طريق يونس، عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث. أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله ﷺ. فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني وقالوا: كذا وكذا فابقِ علي، وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك. فظن رسول الله ﷺ أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلِّمه، وضعف عن القيام معه. فقال رسول الله ﷺ: «يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه». ثم استعبر رسول الله ﷺ فبكى، فلما ولىّ قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله ﷺ: يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا. قال ابن إسحاق ثم قال أبو طالب في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسَّد في التراب دفينا فامضي لأمرك ما عليك غضاضة * أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا ودعوتني وعلمتُ أنك ناصحي * فلقد صدقت، وكنت قِدمُ أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سُبّة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا ثم قال البيهقي: وذكر ابن إسحاق لأبي طالب في ذلك أشعارا؛ وفي كل ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه. وقال يونس بن بكير: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مصر قديما منذ بضعا وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله ﷺ، فلما قام رسول الله ﷺ قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلس له غدا بحجرٍ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. فلما أصبح أبو جهل - لعنه الله - أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله ﷺ ينتظره، وغدا رسول الله ﷺ كما كان يغدو، وكان قبلته الشام.. فكان إذا صلّى صلّى بين الركنين الأسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام. فقام رسول الله ﷺ يصلي، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله ﷺ احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال من قريش. فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قطّ فهمَّ أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله ﷺ قال: «ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه». وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا عثمان الدارمي، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن عباس بن عبد المطلب. قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل - لعنه الله - فقال: إن لله عليَّ إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله ﷺ، حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضبانا، حتى جاء المسجد فعجل أن يدخل من الباب، فاقتحم الحائط. فقلت: هذا يوم شر، فاتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله ﷺ فقرأ: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق } فلما بلغ شأن أبي جهل { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى }. فقال إنسان لأبي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد؟ فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى؟ والله لقد سدَّ أفق السماء عليّ، فلما بلغ رسول الله ﷺ آخر السورة سجد. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا».. ورواه البخاري عن يحيى، عن عبد الرزاق به. قال داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: مر أبو جهل بالنبي ﷺ وهو يصلي. فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني. فانتهره النبي ﷺ. فقال جبريل: «فليدع ناديه سندع الزبانية» والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب. رواه أحمد، والترمذي، وصححه النسائي من طريق داود به. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلي لأتيته حتى أطأ عنقه، قال: فقال: «لو فعل لأخذته الزبانية عيانا». وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس. قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه. فأنزل الله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ من الآية { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية }. فجاء النبي ﷺ يصلي فقيل ما يمنعك؟ قال: قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة. قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم! قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب. فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلي ليطأ على رقبته. قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له مالك؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة. قال: فقال رسول الله ﷺ: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا». قال: وأنزل الله تعالى - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى آخر السورة. وقد رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي به. وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود. قال: ما رأيت رسول الله ﷺ دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه. فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة ابن أبي معيط: أنا. فأخذه، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة، فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف - أو أمية بن خلف» شعبة الشاك. قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي - أو أمية بن خلف - فإنه كان رجلا ضخما فتقطع. وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من (صحيحه) ومسلم من طرق عن أبي إسحاق به. والصواب أمية بن خلف فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أُبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه - والسلا: هو الذي يخرج مع ولد الناقة، كالمشيمة لولد المرأة. وفي بعض ألفاظ (الصحيح): أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا، حتى جعل بعضهم يميل على بعض، أي: يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله. وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه، أقبلت عليهم، فسبتهم، وأنه ﷺ لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه ﷺ دعا على الملأ منهم جملة وعين في دعائه سبعة. وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم وهم: عتبة، وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف. قال أبو إسحاق: ونسيت السابع. قلت: هو عمارة بن الوليد وقع تسميته في (صحيح البخاري). قصة الأراشي
قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي. قال: قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها. فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله ﷺ جالس في ناحية المسجد. فقال: يا معشر قريش مَنْ رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟ فقال أهل المجلس: ترى ذلك - يهزون به - إلى رسول الله ﷺ لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة، اذهب إليه فهو يعديك عليه. فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله ﷺ، فذكر ذلك له، فقام معه. فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع؟ فخرج رسول الله ﷺ حتى جاءه فضرب عليه بابه. فقال: من هذا؟ قال: «محمد فاخرج!» فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه. فقال: «أعط هذا الرجل حقه». قال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له. قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله ﷺ. وقال للأراشي: الحق لشأنك. فأقبل الأراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد أخذت الذي لي. وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه فقال: أعط هذا الرجل حقه. فقال: نعم! لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه إياه. ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك مالك فوالله ما رأينا مثل ما صنعت؟ فقال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فوالله لو أبيت لأكلني.
فصل أشد ما صنعه المشركون برسول الله ﷺ
وقال البخاري: حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير. سألت ابن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله؟ قال: بينما النبي ﷺ يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي ﷺ وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } [المؤمنين: 28] الآية. تابعه ابن إسحاق قال: أخبرني يحيى بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عمرو. وقال: عبدة، عن هشام، عن أبيه قال: قيل لعمرو بن لعاص. وقال: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، حدثني عمرو بن العاص.. قال البيهقي: وكذلك رواه سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، كما رواه عبدة. انفرد به البخاري. وقد رواه في أماكن من (صحيحه)، وصرَّح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وكونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة. وقد روى البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه عروة. قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله ﷺ فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ. فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم - أو كما قال - قال: فبينما هم في ذلك، طلع رسول الله ﷺ فأقبل يمشي، حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله ﷺ، فمضى. فلما مرَّ بهم الثانية، غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى فمرَّ بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها. فقال: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح». فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه أحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم راشدا، فما كنت بجهول. فانصرف رسول الله ﷺ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم على ذلك طلع رسول الله ﷺ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم. فيقول رسول الله ﷺ: «نعم أنا الذي أقول ذلك» ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكى دونه ويقول: ويلكم { أتقتلون رجلا يقول ربي الله } ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط.
فصل تأليب الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وأصحابه
في تأليب الملأ من قريش على رسول الله ﷺ وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته. قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس. قال: قال رسول الله ﷺ: «لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال». وأخرجه الترمذي، وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال محمد بن إسحاق: وحدب على رسول الله ﷺ عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله ﷺ على أمر الله مظهرا لدينه، لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وأبو سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأبو البختري - واسمه العاص - بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل - واسمه عمرو - بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة ابن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، والعاص: ابن وائل بن سعيد بن سهم. قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم. فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه؟ فقال لهم أبو طالب: قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله ﷺ على ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم سرى الأمر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا. وأكثرت قريش ذكر رسول الله ﷺ بينها فتذامروا فيه وحضَّ بعضهم بعضا عليه، ثم أنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى. فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا له - ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله ﷺ ولا خذلانه. قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث: أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله ﷺ فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني، فقالوا: كذا وكذا الذي قالوا له، فابق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. قال: فظن رسول الله ﷺ أنه قد بدا لعمه فيه بدو وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قال: فقال رسول الله ﷺ: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته». قال: ثم استعبر رسول الله ﷺ فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب. فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله ﷺ. فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمتك لشيء أبدا. قال ابن إسحاق: ثم أن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ﷺ، وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له - فيما بلغني -: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك؟ وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل! قال: والله لبئس ما تسومونني؟ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؟ فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك - أو كما قال - فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضا.. فقال أبو طالب عند ذلك يعرِّض بالمطعم بن عدي، ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم: ألا قُلْ لعمروٍ والوليدِ ومطعمٍ * ألا ليت حظِّي من حياطتكم بكرُ من الخورِ حبحابٌ كثيرٌ رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر تخلَّف خلْفَ الوردِ ليس بلاحقٍ * إذ ما علا الفيفاء قيل له وبر أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سُئلا قالا إلى غيرنا الأمر بلى لهما أمرٌ ولكنْ تحرجما * كما حرجمت من رأس ذي علق الصخر أخصّ خصوصا عبدَ شمسٍ ونَوْفلا * هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صفر هما أشركا في المجد من لا أبا له * من الناس إلا أن يرسَّ له ذِكر وتيمٍ ومخزومٍ وزهرةٍ منهم * وكانوا لنا مولىً إذا بغي النصر فوالله لا تنفك منا عداوةٌ * ولا منكم ما دام من نسلنا شفر قال ابن هشام: وتركنا منها بيتين أقذع فيهما. و الباقي في الجزء الخامس