الرئيسيةبحث

بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد المحمود

بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري عبد المحمود
  ► فهرس :إسلام مطبوع ضمن الرسائل والمسائل النجدية، ج4، ص320 ☰  

☰ جدول المحتويات

قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى -آمين- ورضي عنهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثل ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلهم شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، فاقبلها منهم وأتمها عليهم. اللهم انصر دينك وكتابك ورسولك وعبادك المؤمنين. اللهم أظهِر دينك دين الهدى، ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمدا ﷺ على الدين كله.

اللهم عذب الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيلك، ويبدلون دينك، ويعادون عبادك المؤمنين، اللهم خالف بين كلمتهم، وشتت بين قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأدر عليهم دائرة السوء، اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم منَزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلهم وانصرنا عليهم، اللهم أعنا ولا تعن علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغي علينا. اللهم اجعلنا شاكرين ذاكرين مطاويع إليك مخبتين، أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا واهد قلوبنا وثبت حجتنا، واسلل سخيمة صدورنا يا رب العالمين.

(أما بعد)، فاعلموا معشر الإخوان أن الله تعالى أرسل رسوله محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعرفهم ما خلقوا له من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، والرغبة عن عبادة غيره والبراءة منها والكفر بالطاغوت -وهو الشيطان- وما زينه من عبادة الأوثان. فدعا قريشا والعرب إلى أن يقولوا لا إله إلا الله لما دلت عليه من بطلان عبادة كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه. وهذا هو التوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله، وأرسل الرسل لأجله، وأنزل الكتب لأجله. وهو أساس الإيمان والإسلام ورأسه، وهو الدين الحق الذي لا يقبل الله من عبد دينا سواه. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي: يوحدون، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وهذه الآية تفسر الآية قبلها. وتبين أن المراد بالعبادة التوحيد، وأن يكون سبحانه وتعالى هو المعبود وحده دون كل ما سواه، والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد وبيانه، وبين ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}.

دعوة الرسل كلهم إخلاص العبادة لله وحده

والرسل عليهم الصلاة والسلام افتتحوا دعوتهم لقومهم بهذا التوحيد {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}. وقوله: {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات، وهم قوم لوط، وقد قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}.

وكل رسول يدعو قومه إلى أن يخلعوا عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله ويخلصوا أعمالهم كلها عن الأصنام والأوثان التي اتخذوها وجعلوها أندادا لله بعبادتهم، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}.

وهذا هو معنى لا إله إلا الله لا يشك في هذا مسلم كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، فأجابوه بقولهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون َ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ}. وهذا هو المنفي في كلمة الإخلاص {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون َ مِنْ دُونِهِ} كما قال تعالى مخبرا عن جميع رسله أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.

والإيمان بالله وحده هو البراءة مما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان وإخلاص العبادة لله وحده؛ لا يرتاب في هذا مسلم، فمن شك في أن هذا هو معنى لا إله إلا الله فليس معه من الإسلام ما يزن حبة خردل.

والقرآن أفصح عن معنى لا إله إلا الله في آيات كثيرة يطول الكتاب بذكرها، ويأتي بعضها إن شاء الله في هذا الجواب.

وأنتم معشر المخاطبين بهذا قد تقرر عند من له علم فيكم حتى العامة من أكثر من مائة وثلاثين سنة أن هذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فما بال أناس يرغبون عما عرفوه وعُرفوه من كتاب الله وسنة رسوله إلى طلب العلم ممن لم يعرف هذا التوحيد ولا نشأ في تعلمه ولا عرفه، كما هو ظاهر في كلامه؟ يعرف من له عقل وبصيرة أنه لا يتكلم به إلا من لم يعرف ما بعث الله به المرسلين من توحيد رب العالمين.

وقد علمتم معشر الموحدين ما حال بين كثير من الناس وبين معرفة التوحيد من العوائد الشركية والشبهات الخيالية لما افترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة. فلقد عظمت نعمة الإسلام على من عرفها وقبلها وأحبها وصار مستيقنا بها قلبه، مخلصا صادقا، ورزق الثبات والاستقامة على ذلك، فيا لها من نعمة ما أعظمها وموهبة ما أجملها. نعوذ بالله أن يصدف عنها صادف أو يصرف عنها صارف، ونعوذ بالله من مُضلّات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

فاتقوا الله عباد الله وارغبوا فيما كنتم فيه من نعمة الإسلام والإيمان، وجددوا وجدوا واجتهدوا في معرفته على الحقيقة بأدلته وبراهينه التي نصبها عليه رب العالمين في كتابه المبين، وبينها لكم نبيه الصادق المصدوق الأمين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى من اتبعه إلى يوم الدين.

ورقة في معنى كلمة التوحيد لكاتب مجهول

ثم إنه قد تكلم غريب في معنى لا إله إلا الله لا يعرف ما هو ولا ممن هو؟ وكتب في ذلك ورقة تبين فيها من الجهل والضلال ما سنذكره لكم حذرا وتحذيرا وإعذارا وتعذيرا، والقلوب بين أصابع الرحمن، نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان.

ذكر ما في الورقة

قال: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات.

(الجواب وبالله التوفيق(: لا يخفى على من له ذوق وممارسة ومعرفة بمذاهب المبتدعة أن هذا لفظ لا معنى له إلا على قول أهل الحلول من الجهمية ومن تابعهم؛ فإنهم يقولون: إن الله تعالى حالّ في جميع الجهات وفي كل مكان، ويجحدون ما تقرر في القرآن من علو الله على جميع خلقه واستوائه على عرشه {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}.

وهذا الرجل إنما تكلم بألسنتهم، فهذا محصوله من العلم الذي ادعاه قد ظهر واستبان على صفحات وجهه، وفلتات اللسان. وأهل السنة ينكرون هذه الألفاظ، ويشيرون إلى ما فيها من دسائس أهل البدع أسوة أمثال هذا من الفلاسفة وأهل الوحدة وغيرهم ممن لم يستضئ بنور العلم، ولم يلجأ إلى ركن وثيق، فلا تنظر إلى منظر الرجل وانظر إلى مخبره.

غلط كثير من الطوائف في مسمى التوحيد

وقد غلط أكثر الفرق الثلاث والسبعين في مسمى التوحيد، وكل فرقة لها توحيد تعتقد أنه هو الصواب حتى الأشاعرة القائلين بأن معنى الإله: الغني عما سواه، المفتقر إليه ما عداه. [1] ويقولون أنهم أهل السنة وهيهات هيهات، ولم يصبر منها على الحق إلا فرقة واحدة وهم الذين عرفوا التوحيد على الحقيقة من الآيات المحكمات وصحيح السنة. جعلنا الله وإياكم من الفرقة الناجية.

وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى هذا المعنى فقال: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، وهذا يفيد الحذر من مخالطة كل من لا يعرف دينه.

وقد كان بعض العلماء إذا دخل عليه مبتدع جعل أصبعيه في أذنيه حتى يفارقه حذرا من أن يلقي إليه كلمة تفتنه.

فارجعوا رحمكم الله إلى صريح القرآن فإنه حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، وهو النور كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

الرد على تفسير الورقة لكلمة إله

ثم إن هذا قال في ورقته: اعلم أن الإله هو المعبود فقط غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان إذ اشتقاقه من ألهه، إذا عبده، يوجب اتحاده معه في المعنى لعدم وجوده بدونه، إذ الاشتقاق وجود التناسب في اللفظ والمعنى.

(فالجواب) أن نقول: سبحان الله، كيف يشكل على من له أدنى مسكة من عقل ما في هذا القول من الكذب والضلال والإلحاد والمحال؟ فلقد صادم الكتاب والسنة والفطر والعقول واللغة والعرف.

أما مصادمته الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} في عدة مواضع من الكتاب والسنة، فالله تعالى الحق وعبادته وحده هي الحق أزلا وأبدا، وما يدعى من دونه هو الباطل قبل وضع اللغات وبعدها، وهذا لا يمتري فيه مسلم أصلا.

وأما مصادمته للعقل: فإن كلّ مألوه معبود ولا بد أن يكون حقا أو باطلا، فإن كان هو الله فهو الحق سبحانه كما في حديث الاستفتاح الذي رواه البخاري وغيره: "ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق". وإن كان المعبود غيره فهو باطل بنص القرآن. والقرآن كله يدل على أن الله هو الحق وأن ما يدعى من دونه فهو باطل.

وأما مخالفته للفطر: فباتفاق الناس على ما دل عليه الكتاب والسنة والمعقول، حتى أهل البدع من كل طائفة لا يقول بهذا القول الذي قاله هذا أحد منهم، لكن كل طائفة تدعي أنها أسعد من غيرها بالدليل، على ما في أدلة كل طائفة من التحريف والتأويل.

وأما مخالفته للغة: فلا ريب أن الواضع وضَع الألفاظ بإزاء معانيها، فكل لفظ وضع لمدلوله الذي وضع له لأجل الدلالة عليه، والواضع وضع الألفاظ دالة على معانيها، فاللفظ دال والمعنى مدلوله، يعرف هذا كل من له أدنى مسكة من عقل. وكل ما ذكرناه لا نزاع فيه ولا يعرف أن أحدا قال بخلاف ما ذكرنا.

وواضع اللغة قال بعض العلماء: هو الله تعالى، وقال بعضهم وضعها غيره من بني آدم المتقدمين بإلهام منه تعالى وجبلة جبلهم عليها. واللغات وإن تعددت فهي بإلهام من الله، وبها يعرف مراد المتكلم ومقصوده.

إذا عرفت ذلك، فيلزم على قول هذا الجاهل أن الملائكة قبل خلق آدم وذريته كانت عبادتهم لله تعالى غير مقيدة بحق ولا باطل، وهذا اللازم باطل فبطل الملزوم. وكذلك عبادة آدم وذريته قبل حدوث الشرك في قوم نوح لا توصف عبادتهم لله بأنها حق أو باطل، وهذا اللازم باطل، فبطل الملزوم. وكذلك قوم نوح لما عبدوا آلهتهم، وقالوا لما دعاهم نوح عليه السلام: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، فيلزم على قول هذا أن عبادتهم لتلك الأصنام ليست باطلة، وهذه اللوازم الباطلة تلزمه، وببطلانها يبطل ملزومها الذي ذكرناه عنه.

وأيضا ففي قوله هذا مضاهاة لقول ابن عربي أمام أهل الوحدة:

وعباد عجل السامري على هدى ** ولائمهم في اللوم ليس على رشد

فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. فلا تعجب، فكل صاحب بدعة لا بد أن يجادل عن بدعته، والعلم نور يهبه الله لمن يشاء من عباده وهو معرفة الهدى بدليله، والناس ليسوا كلهم كذلك إلا أقل القليل الذين تمسكوا بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها علما وعملا.

ومن تدبر القرآن رأى العجب فيما قصه الله تعالى عن الرسل مع أممهم قديما وحديثا كما قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}.

أصل دعوة الرسل عبادة الله وحده

فإذا كان الكلام في بيان معنى لا إله إلا الله؛ فإن الله تعالى هو الذي تولى بيانه في مواضع من كتابه وأجمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} بل القرآن كله في بيان معناها، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: إليها من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله، وإخلاص العبادة له تعالى كقول أمام الحنفاء -عليه الصلاة والسلام- في هذه الآية {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} وهي لا إله إلا الله، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ}. والطاغوت: الشيطان وما زينه للمشركين من عبادة معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، كأصنام قوم نوح وأصنام قوم إبراهيم، واللات والعزى ومناة، وما لا يحصى كثرة في العرب والعجم وغيرهم، وهي موجودة في الخارج معينة معلومة الوجود كأصنام قوم نوح وغيرها مما لا يحصى كثرة. فمن قال: لا إله إلا الله بصدق وإخلاص وتعيين، فقد برئ من كل معبود يعبد من دون الله ممن كان يعبده أهل الأرض. وهذه الكلمة دلت على البراءة من الشرك والكفر به تضمنا، ودلت عليه وعلى إخلاص العبادة لله تعالى مطابقة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} بيّن تعالى أن الحكمة في خلق الجن والإنس أن يعبدوه وحده لا شريك له ومن المعلوم أنه خلق الجن قبل الإنس. فيلزم على هذا القول الفاسد الذي أبداه هذا الجاهل أن العبادة التي خلق تعالى لها الثقلين لا توصف بحق ولا باطل حين خلقهم لها. واللازم باطل فبطل الملزوم.

وهذا الموضع الذي بيّنا بطلانه بالمعقول والمنقول هو ثاني موضع زلت فيه قدم هذا الذي يدعي أنه على شيء وليس معه شيء يلتفت إليه بما يوجب إنكاره عليه، وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال "يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين" رواه الدارمي.

فرضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر كأنه ينظر إلى ما وقع في هذه الأمة من جدال أهل الأهواء بالكتاب، وكثرة الآراء المخالفة للحق التي بها كثر أهل الضلال، وكثرت بها البدع، وتفرقت الأمة واشتدت غربة الإسلام، حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. وما أحسن ما قال بعض السلف: "لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين". وقال بعضهم: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا". فالناصح لنفسه يتهم رأيه وهواه، ويرجع إلى تدبر كتاب الله سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، وإلى ما سنه الرسول ﷺ وما عليه سلف الأمة وأئمتها قبل حدوث الأهواء وتفرق الآراء، وليكن من الشيطان وجنده على حذر.

اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سِلما لأوليائك. حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، اللهم هذا الجهد وعليك التُكلان.

قول الورقة إن الإله مشتق من ألهه

وأما قول هذا في ورقته: (إذ اشتقاقه من ألهه بوجوب اتحاده معه في المعنى).

(أقول): قد عرفتم ما ذكرناه من تناقضه في هذه العبارة وما قبلها، وقد أخطأ أيضا فيما عبر به عن الاشتقاق من وجهين:

(الأول): أنه جعل ألهه مشتقا منه وهو فهل يشتق ولا يشتق منه، والمصدر هو الذي يشتق منه الفعل كما قال في الخلاصة [2]: وكونه أصلا لهذين انتخب. ومصدره أله إلاهة قال في القاموس: أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة. ومنه لفظ الجلالة وأصله إله كفعال بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه. انتهى.

(الوجه الثاني): قوله: ألهه إذا عبده فجعل عبده مشتقا من ألهه وهو من غير مادته وهو فعل أيضا، فإن عبده مشتق من عبادة يقال: عبده عبادة فمادته عبد لكن، عبد تفسير لأله فاتفقا في المعنى لا في اللفظ. وأيضا فقوله: ألهه إذا عبده يناقض ما سلف من كلامه.

وأما قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى لعدم وجوده بدونه.

(فالجواب): أن قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى، ليس كذلك بل لا بد أن يتضمن أحدهما وهو الفعل معنى المصدر وزيادة لدلالته على الحدث والزمان، والمصدر إنما يدل على الحدث فقط، وهذا أمر معروف عند النحاة وغيرهم، محسوس. فعبارته تدل على أنه لا يعرف معنى الاشتقاق الذي ذكره العلماء، ولو سئل عن معناه لما أجاب، ولكنه خلا بأناس عظموه في نفسه فأراد أن يأخذ العلوم بمجرد الدعوى.

ومن نظر في كلامه عرف أنه لا شيء هناك فتجده يأتي بعبارات متضمنة لجهالات لم يسبقه إليها سابق كما قد عرفتم وتعرفونه فيما يأتي من كلامه وما فيه من التناقص، فما أقبح جهل من يدعي العلم، وما أفحش خطأ من يدعي الفهم.

والله أسأل أن يُوزِعنا شكر ما أنعم به علينا مما علمناه وفهمناه. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، ونسأله الثبات والاستقامة، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولكل من عرف الإسلام وقبله ودان به، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قول الورقة إن العرف خص معنى الإله بالمعبود بحق

وأما قوله: ثم استعمل في العرف على الأغلب والأكثر على المعبود بحق لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد العابد استحقاق المعبود لها. وإلا فلا تسمى عبادة.

(فالجواب) أن قوله: ثم استعمل في العرف أي: بعد أن كان الإله المعبود لغة غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان كما تقدم صريحا في كل أمة. فليت شعري، متى هذا العرف الذي وضع للألفاظ اللغوية معناها؟ ومن هم أهل هذا العرف؟ هل كانوا في قوم نوح أو قوم هود، فيسأل هذا متى كانوا؟ فما أقبح هذه الأقوال المختلقة التي غايتها التمويه والتلبيس. فلا منقول ولا معقول ولم يسبقه إليها أحد. وقدم تقدم ما يلزم على هذا القول من اللوازم الباطلة.

فتبين أن قوله هذا كذب على اللغة لا يعرف عن أحد لغوي ولا عن عربي، والعرف لا يغير اللغة عن أصلها لفظا ومعنى. وهذه كتب اللغة كالقاموس وصحاح الجوهري وغيره ليس فيها ما يدل على هذا القول الباطل، فيكون قد كذب على اللغة والعربية وعلى غيرها من اللغات، وعلى كتاب الله وسنة رسوله.

وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وتوكلا وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا قول أهل السنة قاطبة لا يختلف فيه اثنان.

وأما قوله: على الأغلب والأكثر على المعبود بحق فمفهومه أنه يستعمل في غير الأغلب والأكثر على غير المعبود بحق، فهذا صحيح لكنه لا يختص بالعرف بل هو في اللغة كذلك، فإذا كان يطلق على غير المعبود بحق كما تفهمه كل أمة، فهذا حجة عليه؛ فإن جميع الأصنام والأوثان وما يعبد من دون الله كلها آلهة معبودة بغير حق، باطلة بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله. ففيها النفي والإثبات، كما سيأتي بيان ذلك. وكل ما نفته لا إله إلا الله من الأصنام والأنداد فليس كليا لا يوجد إلا ذهنا كما يقوله المفتري أفلاطون الفيلسوف وشيعته، وإنما كانت أشخاصا متعددة يباشرها عبادها بالعبادة بالدعاء، والاستغاثة والاستشفاع بها، والعكوف عندها، والتبرك بها كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم عاد القائلين: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}. وأصنام نمروذ التي تبرأ منها خليل الرحمن بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، وجعلها في ذريته باقية {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: إليها.

النفي والإثبات في كلمة التوحيد

فالخليل عليه السلام فسر لا إله إلا الله بمدلولها من النفي والإثبات، فالنفي في قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، فالبراءة منها وإبطالها نفيها، وقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} استثنى الإله الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الذي فطره أي: خلقه، وخلق جميع المخلوقات {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}. وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} {فَإِنْ تَوَلَّوا}أي: عما تدعوهم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، والرغبة عما كانوا يعبدونه من دون الله كالمسيح وأمه عليهما السلام.

فإن سبب نزول الآية في نصارى نجران وكانوا يعبدون آلهة أخرى، فقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} ينفي كل معبود سوى الله ويثبت العبادة لله وحده التي لا يستحقها غيره. وهذا ظاهر جلي لا يخفى على من له أدنى بصيرة، وسبب النّزول لا يمنع عموم النهي لجميع الأمة كما هو ظاهر في قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} فلم يستثن أحدا سواه لا ملكا ولا نبيا ولا من دونهما كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}. وقوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من جميع المخلوقات من بشر وحجر وغير ذلك، لكن قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} يختص بالبشر لما تقدم من أنهم كانوا يعبدون المسيح وأمه وغيرهما من الأنبياء والصالحين، ويشمل غيرهم من باب أولى. وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، و{أَحَدًا} نكرة في سياق النهي، وهي تعم كل مدعو من دون الله من أهل السماوات والأرض. وتأمل قوله: {مَعَ الله}.

وخبر "لا" التي لنفي الجنس محذوف تقديره: حق، كما دل عليه القرآن قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}. وهذا قول أهل السنة والجماعة اتباعا لما دل عليه القرآن. ومن قدر الخبر المحذوف غير ذلك كقول بعضهم: إن المحذوف "أحد" فلا حجة له ولا برهان.

ينبئك عن هذا المعنى العظيم ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: فإن قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة أخرى غير الله لم يكن إلها حقا، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سميَّ له ولا مثل له. فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما فيه صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار، ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في تألهها إلى إلهين متساويين.

وقد قال رحمه الله في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية، قال: فالمؤمنون أشد حبا لربهم ومعبودهم من كل محب لكل محبوب. وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بُد؛ بل هذه أفرض مسألة على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها. فليشتغل العبد بها أو ليعرض عنها، ومن لم يتحقق بها علما وعملا وحالا لم يتحقق شهادة أن لا إله إلا الله فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن علمه الجاهلون؛ فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه، وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه. وليس ذلك إلا لله وحده. ولهذا كانت أصدق الكلام وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته.

فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله ولا حول ولا قوة إلا بالله، انتهى. فما أحسن هذا من بيان.

زعم عدم تحقق العبادة إلا بعد استحقاق المعبود لها

وأما قول الملحد في ورقته: (لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد استحقاق المعبود لها)؛

(فالجواب): هذا القيد ممنوع وهو من جملة اختلاقاته وأكاذيبه؛ لأنه فاسد شرعا ولغة وعرفا. ومما يبين فساده ما في الحديث من قصة الرجلين الذَين مرا على صنم قوم لا يجاوزه أحد إلا قرب له شيئا، فقالوا لأحد الرجلين: قرِّب فقال: ما عندي شيء أقرب. قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار، أي: بتقريبه الذباب لصنمهم. وهو إنما قربه للتخلص من شرهم من غير اعتقاد استحقاقه لذلك، فصار عبادة للصنم دخل بها النار. وهذا يدل على أن هذا الفعل منه هو الذي أوجب له دخول النار؛ لأنه عبد مع الله غيره بهذا الفعل. وقالوا للآخر: قرب فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة.

وأيضا فقد قال أبو طالب:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب ** لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

وقوله يخاطب النبي ﷺ:

ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه ** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فثبت بهذا أن أبا طالب لم يعتقد أن ما كان قومه عليه من الشرك حقا ولم يمنعه من الدخول في الإسلام إلا خوف أن يسب أسلافه فقط، ومع هذا مات مشركا كما ثبت في الصحيح، وهذا يبين فساد هذا القيد.

فإذا عرف ذلك، تبين أن هذا الرجل يختلق أقوالا لا برهان عليها ولا حجة، ثم إن من المعلوم أن كل من عبد معبودا غير الله وأصر على عبادته له أنه يعتقد استحقاقه للعبادة، وهذا هو الغالب على المشركين في حق معبوداتهم، ولهذا تجدهم يجادلون عنها ويناضلون مجادلة من يعتقد أنها تستحق ما كانوا يفعلونه لها من العبادة.

قوله إن المعبودات الباطلة سميت آلهة من حيث اعتقاد عبّادها

وقوله: (في كل أمة أيضا) اعتراف منه بأن الإله يطلق على كل معبود يعتقد عابده أنه يستحق العبادة كما هو حال أكثر المشركين، فاحفظ هذا الاعتراف منه فسيأتي في كل أمة ما يناقضه.

وأما قوله: (ولهذا ذهب كثير من المتبحرين إلى أنه عبارة عن المعبود بحق، وما قيل من أن كثيرا ما يطلق على الآلهة الباطلة كما ورد في أكثر موارد القرآن وهو يوجب عدم صحة المدعى، فمدفوع بأن إطلاقه عليها بالنظر إلى اعتقاد عبادها لا باعتبار نفس الأمر)

(فالجواب أن يقال): هذا يناقض ما تقدم له من أن العابد إذا اعتقد استحقاق معبوده للعبادة صار إلها، ولا يخفى مناقضة هذا له، فإنه أقر فيما تقدم قريبا أن المعبود يكون إلها باعتقاد عابده استحقاقه للعبادة في نفس الأمر، وقد عرفت أن القيد ممنوع، فأخطأ في الموضعين أي: في هذا والذي قبله وتناقض.

وأما قوله: ولهذا ذهب كثير من المتبحرين.. إلخ، فهذا القول مجهول قائله لا يعرف أن أحدا من المسلمين قاله، والقائل به مجهول لا يقبل له قول. وقد أجمع العلماء قديما وحديثا على أن المجهول لا يقبل له قول ولا خبر، ولا تقوم به حجة في شيء من أبواب العلم، فكيف إذا كان إلحادا وطعنا في أصل الدين؟ وقد أجمع المحدثون على أن رواية المجهول لا تقبل كذلك، فسقط هذا القول من أصله وفسد.

وقوله: (كما ورد في أكثر موارد القرآن)، انظر إلى هذا الجهل العظيم في محاولته رد ما ورد في أكثر موارد القرآن، بقول المجهولين الذين لا يعتد بقولهم عند أحد من طوائف العلماء، وموارد القرآن يحتج بها لا يحتج عليها بقول أحد، وهي الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، فما وافق القرآن سواء كان نصا أو ظاهرا قبل، وما خالفه رد على من قاله كائنا من كان. فقد ارتقى هذا مرتقى صعبا بتهجينه القرآن وإبطال دلالته عنه بما زخرفه ونسبه إلى مجهولين، فسبحان الله كيف يخفى هذا على أحد؟ فمن تدبر هذا المحل تبين له ضلاله.

وأما قوله: (فمدفوع بأن إطلاقه عليها بالنظر إلى اعتقاد عبادها)؛

(فالجواب): أن هذا يبطله القرآن كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. وقال: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} فسماها الخليل آلهة مع كونها باطلة، وكونها باطلة لا ينافي تسميتها آلهة. كما قال موسى عليه الصلاة والسلام، لما قال له بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وقال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} فسماه الكليم إلها مع إنكاره عليهم ما طلبوا، وهو قد أقر فيما تقدم أن يطلق على غير الإله الحق، فتناقض؛ والإلهية المنفية في كلمة الإخلاص بدخول أداة النفي عليها، وهي لا النافية. فالمراد بنفيها إبطالها والبراءة منها والكفر بها واعتزالها وغير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، فكما تسمى آلهة وأندادا وأربابا وشركاء وأولياء؛ لأن من عبدها فقد جعلها مألوهة له وجعل لها شركة في العبادة التي هي حقه، ومثلها بالله في عبادته لها، واتخذها أربابا وأولياء، وكل هذا في القرآن كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}. وقد تقدم كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى على هذه الآية العظيمة. وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ}. وهذا في القرآن كثير، فصارت تطلق عليها هذه الأوصاف بجعل عابديها واتخاذهم لها كذلك بعبادتهم وإرادتهم كما تقدم بيانه في هذه الآيات، كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}، فصارت آلهة بالفعل والاتخاذ والإرادة والقصد، واستشهد العلماء على ذلك بقول رؤبة بن العجاج:

لله درّ الغانيات المدّه ** سبحن واسترجعن من تألهي

أي: من تعبدي، وتقدم كلام صاحب القاموس على هذا المعنى. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} أي: عبادتك، قال: لأنه كان يُعبد. وتقدم تقرير هذا في كلام العلماء. وهذا يبين أن كل معبود إله، حقا كان أو باطلا؛ لأنه قد ألهه العابد بالعبادة، وتبين بهذا أن هذا الرجل يتكلم في هذه الأمور بلا علم، ويأتي بما يخالف القرآن واللغة والسلف والعلماء، ويتناقض.

الإله المنفي في كلمة الإخلاص

ومن فرط جهله قوله: (وبهذا تعين فساد ما توهم من أن الإله المنفي بلا، في الكلمة الطيبة هو المطلق غير المقيد بالحق أو الباطل) وهذا القول الذي أقر بفساده هو الذي قاله آنفا وبينا فساده في محله، فتأمل ما في هذا الكلام من الفساد والضلال، فإنه جعل المنفي في كلمة الإخلاص قابلا للوصفين أي: الحق والباطل، فإنه لا شك أن الإله المنفي باطل. ولا بد من تقييده بالبطلان؛ لأن المنفي في كلمة الإخلاص هي الطواغيت والأصنام وكل ما عبد من دون الله، وكلها باطلة بلا ريب، كما قال لبيد في شعره الذي سمعه منه النبي ﷺ:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

ومن لم يعتقد هذا فليس من الإسلام في شيء، وتقدم في الآيات أن المستثنى في كلمة الإخلاص "بإلا" هو الله الحق كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}.

وهذا الرجل قد افترى على اللغة وكذب عليها بقوله المتقدم: إن الإله هو المعبود لا بقيد الحقيقة ولا البطلان، فهو دائما يتناقض، يذكر قولا وينفيه ثم يذكره بعده ويثبته، ثم ينفيه. ومن وقف على ما كتبته في هذا المعنى عرف ذلك من حاله ومقاله، ومحط رحله هو قول الفلاسفة كابن سينا والفارابي وابن العلقمي القائلين بأن مدلول لا إله إلا الله نفيا وإثباتا فرد هو الوجود المطلق، أو قول الاتحادية أنه الوجود بعينه.

وكلام هذا وعبارته المتقدم منها والآتي يدل على أنه يقول بقولهم، ويحمل معنى كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" على إلحادهم، يعرف هذا من له فهم واطلاع على ما ذكره العلماء في بيان حقيقة قول هاتين الطائفتين الكفريتين كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم.

إعراب لا إله إلا الله

وهذا إعراب كلمة الإخلاص الذي يعرفه أهل العربية وغيرهم من العلماء في إعرابها فيقولون: لا نافية للجنس، واسمها إله، مبني معها على الفتح، منفي بلا، والإله جنس يتناول كل معبود من بشر أو حجر أو شجر أو مدر أو غير ذلك، فهذا الجنس على تعدد أفراده منفي بلا، وخبر لا محذوف على الصحيح كما في الآيات، وتقدم ذكره، والاستثناء من الخبر، وإلا أداة الاستثناء، والله هو المستثنى بإلا، وهو الإله الحق وعبادته حق وقوله الحق. والصحيح أنه مخرج من اسم لا وحكمه كما قرره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، والأدلة على هذا في القرآن أكثر من أن تحصر، وقد صرحت بذلك الآيات المحكمات كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}، وهذا هو المنفى بلا في كلمة الإخلاص. وقوله: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} هو معنى إلا الله، وهذا هو الذي أمر الله نبيه ﷺ أن يدعو أمته إليه، وما خالف هذا فهو تلبيس وتشبيه وبهرج وباطل. نعوذ بالله من كل قول يؤخذ عن غير القرآن، وعن غير ما دان به أهل الإسلام والإيمان.

ما يقتضيه إعراب المعترض لها من الفساد

ثم إن هذا الرجل انتهى أمره فيما كتبه إلى أن زعم أن المنفي بلا كلي، وهذا الكلي منوي ذهنا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وذلك الفرد المنفي بلا هو المستثنى بعينه وهذا صريح كلامه وأتى فيه بثلاث عظائم هي إلى الكفر أقرب منها إلى الإيمان:

(الأولى): أنه زعم أن المنفي بلا كلي لا يوجد إلا ذهنا، فعنده أنها لم تنف طاغوتا ولا وثنا ولا صنما ولا غيرها مما يعبد من دون الله. فخالفوا أيضا أهل المنطق، فإن الكلي عندهم مقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة، ولم يقولوا: إنه منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد.

(الثانية): أنه زعم أن ذلك الفرد الذي لا يوجد غيره، لما كان منفيا بلا صار ثابتا بإلا، وهو فرد واحد، فصار الإله عنده متصفا بالنفي والإثبات، والنفي والإثبات في فرد نقيضان، ومقتضاه أن هذا الفرد صار أولا باطلا؛ لأنه منفي ثم صار حقا؛ لأنه استثني بإلا، فاجتمع فيه الوصفان. نعوذ بالله من هذا التهافت والإلحاد والتناقض والعناد. وقد عرفت أن النحاة وأهل الكلام كالرازي وغيره ومن قبلهم يعلمون أن المنفي غير المثبت كما سنذكر عنهم اتفاقهم على ذلك، وأنه لا يحصل التوحيد إلا بذلك. وهذا أمر يعرفه كل أحد حتى مشركو العرب ومن ضاهاهم من الأمم أعداء الرسل، يعلمون أنها نفت الآلهة التي كانت تُعبد من دون الله، وأثبتت إلهية الحق الذي أقروا أنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء ورازق كل حي، وذلك هو الله العلي الأعلى القاهر فوق عباده.

(والثالثة): أنه صرح أن المنفي كلي، والفرد الموجود في الخارج جزئي، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهذا هو حقيقة قول هذا ولهذا مثّله بقوله: لا شمس إلا الشمس.

وجوب تحقيق معنى لا إله إلا الله

ومن أشكل عليه فساد قول هذا وضلاله فلْيتدبر القرآن، ولْيراجع كلام المفسرين في معنى كلمة الإخلاص، وما وضعت له وما دلت عليه هذه الكلمة العظيمة، فقد قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فدلت الآية على أنه لا يكون مستمسكا بلا إله إلا الله إلا إذا كفر بالطاغوت، وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم؛ لأنه لم يتمسك بلا إله إلا الله.

فتدبر واعتقد ما ينجيك من عذاب الله، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، وتدبر قوله تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. والكلمة هي لا إله إلا الله بإجماع المفسرين. فلا أحسن من هذا التفسير ولا أبين منه، وليس للجنة طريق إلا بمعرفته وقبوله واعتقاده والعمل به.

نسأل الله أن يُوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا التوحيد والبصيرة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فتأمل كيف عبر الخليل عليه السلام عن هذه الكلمة بمدلولها الذي وضعت له من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله من وثن وصنم وغير ذلك، وقصر العبادة على الله وحده بقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}. ودلت على أن المنفي جنس تحته أفراد موجودة في الخارج يعبدها المشركون وليست آلهة إلا في حق من يعبدها ويتألهها، دون من يكفر بها ويتبرأ منها ويعاديها ويعادي من عبدها.

أقوال كبار المتكلمين في معنى لا إله إلا الله وإعرابها

إذا ثبت ذلك وعرفت أن الحق فيما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله في بيان معنى هذه الكلمة، فاعلم أن النحاة والمتكلمين اختلفوا: هل تحتاج لا النافية لخبر مضمر أم لا؟ فمنعه الرازي والزمخشري وأبو حيان، وقالوا: إنه يكفي في الدلالة على التوحيد ما تضمنته من النفي والإثبات، بناء على أن أصلها مبتدأ وخبر، ثم قدم الخبر على المبتدأ، ثم دخل حرف النفي على الخبر المقدم، ودخل حرف إلا مستثنى على المبتدأ، فانتفت الإلهية عن كل ما سوى الله من كل ما يعبد من دونه من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك. هذا مضمون ما ذهب إليه هؤلاء، وغيرهم وافقهم في المعنى فاتفقوا أن المستثنى مخرج بإلا، ولولا الاستثناء لدخل. قال الكسائي: هو مخرج من اسم لا، وقال الفراء: مخرج من حكم اسمها وهو النفي، والصحيح أنه مخرج منهما، كما قرره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى.

إذا عرفت ذلك، فأكثر النحاة وغيرهم يقولون لا بد لها من خبر مضمر قال بعض من صنف في إعراب هذه الكلمة ومعناها -بعد كلام له سبق- أقول: قد عرفت أن المضمر على تقدير أن يكون في الكلام إضمار إما الخبر أو المرفوع بإلا المكتفى به عن الخبر، وقد عرفت أيضا أن المعنى المقصود في لا إله إلا الله هو قصر الألوهية على الله تعالى.

والعلامة الدواني قائل بهذا كما يشير إليه في البحث الخامس من رسالته، وصرح به في شرحه للعقائد العضدية حيث قال: واعلم أن التوحيد إما بحصر وجوب الوجود أو بحصر الخالقية أو بحصر العبودية. ثم قال: الأول كذا والثاني كذا. وساق الكلام وحقق المقام، أي: في رده إلى أن قال: والثالث وهو حصر العبودية، وهو أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا، فقد دلت عليه الدلائل السمعية، وانعقد عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام، وكلهم دعوا المكلفين أولا إلى هذا التوحيد، ونهوهم عن الإشراك في العبادة قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. انتهى.

ثم قال الناقل: ومصداق إجماع الأنبياء قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} بعد قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}. وقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.

إلى أن قال: فإثبات الألوهية له تعالى على وجه الانحصار فرع على أصل ثبوتها له تعالى، وأصل ثبوتها له تعالى فرع على ثبوته تعالى في نفسه؛ بل أصل ثبوت الألوهية له تعالى أيضا على ما يقتضيه دلالة هذا الكلام لغة أمر مسلم الثبوت مفروغ منه لا نزاع فيه. وإنما النّزاع -أي مع المشركين- في قصر الألوهية عليه تعالى، فالموحد يخصها به فيقول: لا إله إلا الله، والمشرك ينكر ذلك استكبارا، فيقول: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}.

إلى أن قال: فإذا تمهد هذا، فنقول: لما كان في لا إله إلا الله نفي وإثبات فهي في الحقيقة جملتان اسميتان؛ لأن كلا من النفي والإثبات يقتضي طرفين ينعقد الحكم بينهما، فطرف الإثبات هو الاسم الجليل مع صحة الإيجاب من إله، فصح أن يقصر بالأولى استمرار الثبوت الممتنع الانفكاك، وبالثانية استمرار النفي الممتنع الانفكاك، ومقام الدعوة إلى كلمة التوحيد قرينة على أن المعنى المراد من لا إله إلا الله نفيا وإثباتا هو هذا الاستمرار الممتنع الانفكاك ضرورة أن الشارع لا يقول إلا صدقا. واستمرار ثبوت الإلهية له تعالى على سبيل امتناع الانفكاك واستمرار انتفاء الألوهية عن غيره تعالى هو المطابق لما في نفس الأمر، فهو المقصود للشارع فلم يبق إلا أن أهل اللسان: هل فهموا ذلك منه حتى يكون دلالته لغوية أم لا؟

فنقول: إنهم قد فهموا منه ذلك بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}.

ووجه دلالته على ما ذكرناه هو أن الصادق أخبر بأن إنكارهم لما يلزم من الاعتراف بلا إله إلا الله من تركهم آلهتهم واختصاصه تعالى بالألوهية إنكار بمحض استكبار، لا لتمسك عقلي. انتهى ما نقلته وهو تقرير حسي موافق لما دل عليه الكتاب والسنة، كما عرفت من صريح الآيات والأحاديث.

لكن قوله: وأصل ثبوتها له تعالى فرع على ثبوته تعالى في نفسه أمر فطري مسلم حتى عند أعداء الرسل؛ فإنهم يعرفونه ويعبدونه لكن عبدوا معه غيره. فدلالتها على وجوده تعالى دلالة التزام، فيلزم من اختصاصه بالإلهية وجوده وكماله في ذاته وصفاته ومباينته للمخلوقين، وأنه أحد صمد لا كُفؤ له ولا مثل له ولا شريك له، ولا ظهير له ولا نِد له -تعالى وتقدس- كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. وقال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إلى أمثال هذه الآيات.

رجعنا إلى تقرير معنى هذه الكلمة العظيمة قال الله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}.

عود الآيات في معنى لا إله إلا الله

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في هذه الآية: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} فالآية إنما سِيقت فيمن يعبد غير الله، فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت. انتهى.

وقد فسر العلماء من المفسرين وغيرهم سلفا وخلفا معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أن الطاغوت هو الشيطان وما زينه من عبادة الأوثان كما تقدم.

ولا ريب أن الكفر بالشيطان يحصل بالبراءة منه ومعصيته في كل ما أمر به ونهى عنه. وكان موجودا أعاذنا الله من عبادته، وكذلك الأوثان يكفر بها المؤمنون ويتبرؤون من عبادتها مع وجودها ومن عبادة المشركين لها.

والمقصود أن نفي الأوثان الذي دلت عليه كلمة الإخلاص يحصل بتركها والرغبة عنها والبراءة منها، والكفر بها وبمن يعبدها، واعتزالها واعتزال عابديها، وبغضها وعداوتها. وكل هذا في القرآن مبينا، وقد انتفت عبادة كل ما عبد من دون الله مما هو موجود في الخارج مما يعبده المشركون سلفا وخلفا بهذه الكلمة كما تقدم.

وقد ذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} الآيات، وبالله التوفيق.

وصح عن أهل السير والمغازي وغيرهم من العلماء أن الله تعالى لما أرسل محمدا ﷺ يدعو الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما تعبدها قريش، وكانوا يعبدون اللات والعزى ومناة -وهي أكبر الطواغيت التي يعبدها أهل مكة والطائف ومن حولهم- فاستجاب للنبي ﷺ من استجاب من السابقين الأولين، وهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، وكل من آمن منهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله رغبة عن الشرك وعبادة الأوثان وكفرا بها، وبراءة منها، ومسبة لها، فصح إسلامهم وإيمانهم بذلك مع كونها موجودة يعبدها من يعبدها ممن لم يرغب عنها وعن عبادتها.

اقتضاء كلمة التوحيد إبطال عبادة كل ما عبد من دون الله

فبهذا يتبين أنه ليس المراد من نفي الأوثان والأصنام وغيرها في كلمة الإخلاص زوال ماهية الأصنام ونفي وجودها، وإنما المراد إنكار عبادتها والكفر بها وعداوتها كما تقدم بيانه، وكل من تبرأ منها ورغب عنها فقد نفاها بقول لا إله إلا الله، وأثبت الألوهية لله تعالى دون كل ما يعبد من دونه. فلما تمكن ﷺ من إزالة هذه الأصنام كسرها، وبعث من يزيل ما بعد عنه منها، فخلت الجزيرة من أعيانها، وهذا معنى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}. وفيه الرد على الفلاسفة وأهل الاتحاد القائلين بأن المنفي كلي يوجد ذهنا ولا يوجد منه في الخارج إلا فرد، بناء على ما اعتقدوه في الله تعالى من الكفر به وبكتابه وبرسوله، وقد عرفت أن المنفي بها أفراد متعددة من الأصنام والأنداد والشركاء والأولياء، من حين حدث الشرك بعبادة الأصنام في قوم نوح إلى أن تقوم الساعة. فيجب بلا إله إلا الله البراءة من كل ما يعبده المشركون من دون الله. فلا بد من نفي هذا كله بالبراءة من عبادته ومن عابديه. فمن تبرأ من عبادتها كلها وأنكرها وكفر بها، فقد قال لا إله إلا الله وأخلص العبادة لله وحده، وصار بهذا التوحيد مسلما مؤمنا.

وتأمل ما ذكره المفسرون في قول الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.

شكوى قريش لأبي طالب من النبي وكلامه

قال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى: أنبأ أبو كريب وابن وكيع قال: ثنا أبو أسامة أنبأ الأعمش ثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته. فبعث إليه، فجاء النبي ﷺ فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال فخشي أبو جهل إن جلس النبي ﷺ إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله ﷺ مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب. فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه القول. وتكلم رسول الله ﷺ فقال: "يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية" [3] ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال: القوم كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عشرا، فقالوا وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: (لا إله إلا الله) فقاموا فزعين ينفضون التراب عنهم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} إلى قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} لفظ أبي كريب. وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد منسوبا به نحوه، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الترمذي: حسن.

زعم أن كلمة التوحيد لا تنفي إلا مفهوما كليا

ففي هذا من البيان والعلم، أن لا إله إلا الله تبطل عبادة كل ما يعبده المشركون من دون الله، وتنفي ما كان بينهم من معبوداتهم الموجودة في الخارج بأعيانها، وفيه أن المشركين عرفوا معناها الذي وضعت له ودلت عليه من إبطال عبادة كل معبود سوى الله.

فإذا كان معناها هذا يعرفه كل أحد حتى المشركون يعرفون ما نفته وما أثبتته، فإذا جاء ملحد لا يعرف معناها من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا لغة ولا عُرْف ولا عَرَف من معناها ما عرفه المشركون. وقال: إن لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهذا الفرد المنفي هو المثبت، فأين هذا من معناها الذي يعرفه المسلمون وبه يدينون، ويعرفه المشركون أيضا ويشمئزون منه وينفرون؟ كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}.

فالمشركون عرفوا وأنكروا مدلولها، وهذا الملحد أنكر مدلولها مع الجهل بمعناها الذي يعرفه كل أحد حتى أعداء الرسل القائلون: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ}.

فسبحان الله ما أبين ضلال هذا الملحد عند أهل البصيرة من أهل التوحيد، وعند أهل الفطر والعقول قاطبة. فكل ذي عقل ينكر هذا القول ويعرف بطلانه.

الوجوه المبطلة للقول بأن نفي الكلي ليس له أفراد في الخارج

ونذكر وجوها تبين بطلان هذا القول مع ما تقدم:

(الأول): أن هذا يناقض ما شهد الله به وشهدت به ملائكته وأولو العلم من عباده قال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. فلم يبق معبود يعبده الأولون والآخرون من دون الله إلا بطلت عبادته وإلهيته بشهادة الله عز وجل وملائكته وأولي العلم قاطبة، وأن المعبودات التي بطلت بشهادة الله ليست كليا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد كما يقوله الملحد، بل كل ما يوجد في الأمم وفي العرب من الأوثان والأصنام التي لا تحصى كثرة كأصنام قوم نوح وغيرها. ومن لم يعتقد أن هذا هو الذي شهد الله به وملائكته وأنبياؤه بنفيه عن هذه الأصنام، وكل ما عبد من دون الله، فما قال لا إله إلا الله، وما عرف من الإسلام ما يعصم دمه وماله، وصار عما شهد الله به في معزل.

(الوجه الثاني): أن هذا القول ينافي ما بينه الله تعالى في كتابه من ملة الخليلين لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الآية وقد تقدمت. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وأطيعون ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَإِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا}. فذكرها عليه السلام بصيغة الجمع. أيجوز في عقل عاقل أن ما ذكره تعالى عن خليله من إنكاره لعبادة هذه الأوثان، وإخباره أنهم لا يملكون لعابديهم رزقا؛ أنها لا توجد في الخارج؟ ولا ريب أنه لا يجحد هذا إلا مكابر معاند مخالف لما جاءت به الرسل من التوحيد. وقوله تعالى عن خليله وقال: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية. أيشك من له عقل أن تلك الأوثان موجودة عند عابديها يباشرونها بالعبادة؟ وهل يعرف أحد من هذا السياق إلا أنها موجودة معبودة منتفية بلا إله إلا الله.

وكذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.

ولا خلاف أن الصنم شيء مصور على صورة شخص يعبد من دون الله، وذلك لا يكون إلا موجودا في الخارج، فسماه الخليل أوثانا وآلهة، وأنكرها وتبرأ منها وممن عبدها.

(الوجه الثالث): أن الله بعث محمدا ينهى قريشا والعرب وغيرهم من المشركين عن أن يعبدوا مع الله غيره كاللات والعُزى ومناة والأصنام التي كانت حول الكعبة كما تقدم، وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} إلى قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}. أيشك أحد بعد هذا أنها موجودة تعبد من دون الله؟ بل لا يشك مسلم ولا مشرك في وجودها وأن قريشا وغيرهم يعبدونها.

(الوجه الرابع): أن الله تعالى قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}، فأجابوا ردا عليه فيما دعاهم إليه وقالوا: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}.

ومعلوم عند العلماء قاطبة بل وعند العامة أنها أسماء رجال صالحين صورها قومهم أصناما على صورهم وسموها بأسمائهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها وهي موجودة في الخارج لا يشك في وجودها أحد، ولا ريب أنها منتفية بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله. وهذه الأصنام استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي الكاهن لما كان واليا على مكة قبل قريش وفرقها في العرب فعبدوها كما عبدها قوم نوح كما ذكره البخاري في صحيحه.

(الوجه الخامس): ما ذكره الله عن قوم هود لما دعاهم هود عليه السلام إلى أن يعبدوا الله وحده ويتقوه، قال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [4] فأجابوا بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، فظهر أن لهم ولآبائهم معبودات في الخارج يعبدونها من دون الله، ودعوة الرسل تبطل عبادتها. وتقدم ما ذكره الله تعالى في سورة هود من قولهم لهود عليه السلام: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، وهذا لا يقال إلا على آلهة موجودة تعبد، ودلت هذه الآيات على أن الإلهية هي العبادة، وأن المشركين وضعوها فيمن لا يستحقها من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك.

(الوجه السادس) قول يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}. فسبحان الله أين ذهب عقل الفيلسوف حين اعتقد أن المنفي كلي لا يوجد إلا ذهنا. ومعلوم أنه لا يكون له إعداد على هذا الاعتقاد الباطل. وتبين أن كلمة الإخلاص نفت أربابا متفرقين وضعت عليها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، كما كان أهل الأوثان يسمون آلهتهم، وفيما ذكرنا في هذه الوجوه كفاية. فلو ذكرنا ما يبطل قوله من الوجوه لبلغ مائة أو أكثر.

الإله هوالمعبود، والعبادة حق الله وحده بالإجماع

وقد قدمنا عن أئمة اللغة في معنى الإله موافقتهم في لغتهم لما دل عليه الكتاب والسنة من معنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما. وكذلك النحاة وجميع العلماء من المفسرين وغيرهم أجمعوا قاطبة على أن الإله هو المعبود، وأن العبادة حق لله لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله كائنا ما كان، وأن المنفي في كلمة الإخلاص كل ما كان يعبد من دون الله من بشر أو ملك أو شجر أو حجر أو غير ذلك. ولولا قصد الاختصار لبسطت القول في هذا المعنى العظيم الذي لا يصلح لأحد دين إلا إذا عرفه على الحقيقة،وقبل ما دل عليه الكتاب والسنة من بيان توحيد الله،وقصر العبادة عليه دون كل ما سواه.

رد قول أن المنفي بلا إله إلا الله كلي منوي

واعلم أنني لما كتبت قبل هذا في رد قول هذا الملحد أن المنفى بلا إله إلا الله كلي منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو المستثنى، فأجبت بما حاصله:

إذا كانت لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا، فعلى هذا القول الباطل لم تنف لا إله إلا الله صنما ولا وثنا ولا طاغوتا، وصار النفي منصبا على الفرد، فهو المنفي وهو المستثنى، وتناقض هذا لا يخفى على من له عقل وفهم. وقد عرفت أن هذه دعوى منه مخالفة لما بعث الله به رسله من توحيده، وعلى قول هذا لم يكن للا إله إلا الله مدخل في الكفر بالطاغوت والبراءة من الأوثان التي صرح القرآن بنفيها بكلمة الإخلاص -لا إله إلا الله- كما في آية البقرة وغيرها، وقد تقدم بيان ذلك.

وبهذا يتبين لمن له فهم أن قول هذا الرجل من أبطل الباطل وأبين الضلال وأمحل المحال.

والمسلم الموحد يعلم من الكتاب والسنة ومن قول أهل العقول الصحيحة والفطر السليمة أن لا إله إلا الله لها موضوع عظيم، ومدلولها هو حقيقة الإسلام والإيمان. فإنها إنما وضعت للرغبة عن عبادة كل ما يعبد من دون الله، والبراءة منه والكفر به، وإنكار ذلك وبغضه وعداوته وعداوة من اتخذ الشرك في العبادة دينا، وهذا هو أظهر ما في القرآن، وأبينه إيضاحا وتقريرا.

وجواب ثانٍ وهو قولي: كيف يجوز أن يكون الفرد الذي وجد من الكلي المنفي داخلا في المنفي بإلا خارجا بالاستثناء، فيكون متصفا بالنفي والإثبات وأحدهما نقيض الآخر، وأن لا إله إلا الله لا تدل إلا على هذا الفرد خاصة نفيا وإثباتا؟ هذا لا يقبله إلا من كان عقله فاسدا لا يعرف حقا من باطل ولا هدى من ضلال، كيف يصح استثناء فرد منفي ويكون هو المستثنى فأين المستثنى والمستثنى منه الذي يعرفه العرب من لغتهم المستعمل في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها وأهل العربية وغيرهم ويعرفه أهل اللغات؟ فما أبعد ضلال هذا وأجهله وأبعده عن العلم وأهله.

الزعم بأن المستثنى بها هو المفهوم العام

ثم إن هذا الرجل سمع بما كتبته على قوله من الرد والإبطال. فأجاب بقوله: قلنا: إنما يلزم هذا لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي، وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق سواء كانت في الذهن أو في الخارج.

(فالجواب): أنه عدل عن قوله الأول إلى ما هو أفظع منه وأشنع، فزعم أن المستثنى منه إنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، فصرح بأن المستثنى منه إنما أريد منه المفهوم العام المنفي مرادا، فصار المفهوم العام المنفي له أفراد.

ومعلوم أن الأفراد لا توجد في الذهن وإنما توجد في الخارج، فتراه يحوم حول الباطل ويتهافت. وأعظم من هذا قوله: إن المفهوم العام المنفي متناول لأفراد المعبود بحق فجعل للمعبود بحق، أفرادا منفية بلا، وكلها حق، فكيف يجوز أن ينفي ما هو حق؟ وكيف تكون الأفراد كلها حقا؟

فتدبر يتضح لك الحال. فهذه فنون من الضلال والإلحاد يبديها تارة، ثم يأتي بما هو أعظم منها وأبين في الضلال والمحال، والمنفي بلا في كلمة الإخلاص لا يكون حقا، بل هو الباطل كما دل عليه الكتاب والسنة وما عليه المسلمون، والحق في كلمة الإخلاص هو المستثنى، وهو الله تعالى {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أفعاله، ولا مثل له، ولا كفء له، ولا ند له، وكل معبود سواه فباطل، ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم.

ولا يخفى أنه يلزم على قول هذا أن للكلي أفرادا معبودة، فإذا كانت كلها معبودة بحق جاز أن تقصد بالعبادة، وهذا دين المشركين الذي بعث الله رسله بإنكاره وإبطاله كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}. والآيات في المعنى كثيرة جدا، فمن عبد مع الله غيره فقد ألحد وأشرك. وكل هذه العبارات التي ذكرها هذا في ورقته ينكرها كل من له عقل.

قول أفلاطون وأتباعه إن الله هو الوجود المطلق

وأصل هذا الرجل الذي اعتمده وعبر عنه هو بعينه الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله عن أفلاطون الفيلسوف وأتباعه، بناء منهم على كفرهم، فإنهم يقولون: إن الله هو الوجود المطلق.

ومعلوم أن هذا لا يكون له وجود متميز بنفسه مباين للمخلوقات، إذ الكلي كالجنس والفصل والخاصة والعرض العام لا يوجد في الخارج منفصلا عن الأعيان الموجودة، وهذا معلوم بالضرورة، متفق عليه بين العقلاء.

قال شيخ الإسلام: وإنما يحكى الخلاف في ذلك عن شيعة أفلاطون ونحوه، الذين يقولون بإثبات المثل الأفلاطونية، وهي الكليات المجردة عن الأعيان خارج الذهن.

(قلت): وهذا قول هذا الرجل في ورقته تبع فيه أفلاطون، وهو قوله: إن المنفي في "لا إله إلا الله" كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد وهو المستثنى. وقد عرفت بطلان هذا القول من الكتاب والسنة، وأن العلماء أنكروا هذا القول غاية الإنكار -كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام-؛ لأن المنفي بـ "لا إله إلا الله" كل ما يعبد من دون الله، وهي أجناس موجودة في الخارج، كما قال الخليل عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}. وقال تعالى عن أهل الكهف: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله} ولا ريب أن المنفي ما كان أهل الشرك يباشرونه بعباداتهم، وهي أنداد موجودة في الخارج.

رد الشيخ على أفلاطون

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في رده قول أفلاطون ومن تبعه: "والمعلم الأول أرسطو وأتباعه متفقون على بطلان قول هؤلاء، فلو ظنوا أن البارئ هو الوجود المطلق بهذا الاعتبار لوقعوا فيما منه فروا، فإن هذا يستلزم مباينته لجميع المخلوقات وانفصاله عنها، مع أن عاقلا لا يقول أن الكليات هي المبدعة لمعيّناتها، بل هم يقولون: إن العلم بالقضية المعينة المطلوب إثباتها- وهو علو الله على العالم- معلوم بالضرورة والفطرة، ويعلمون بطلان نقيضها بالفطرة والضرورة، ويعلمون أنه إذا لم يكن مباينا كان داخلا محايدا فيلزم الحلول والاتحاد".

وذكر رحمه الله تعالى في موضع آخر: أن قدماء الفلاسفة خالفوا أفلاطون وأتباعه في الكلي والجزئي؛ لأنه قول غير معقول.

(قلت): وبهذا يعلم أن قول هذا الرجل: أن المنفي كلي لا يوجد في الخارج. قول غير معقول.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن جميع الطوائف من المسلمين وغيرهم خالفوا هذا القول، وذكروا أنه لا يعقل، وذكر رحمه الله تعالى أن الفلاسفة وأهل الاتحاد لم يفرقوا بين القديم والحديث، ولا بين المأمور والمحظور، وقد وقع كثير من الصوفية في هذا الضلال، وكلتا الطائفتين ضلوا، وأضلوا عن سواء السبيل.

وقال رحمه الله تعالى: إن ابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة وكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت واللوح المحفوظ، كما يوجد في كلام أبي حامد -يعني الغزالي- ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يحرفون كلام الله ورسوله.

(قلت): ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم عنهم من أنهم يقولون: "عناية إلهية". وتحت هذه الكلمة نفي القدر والحكمة.

الرد على تفسير الورقة لكلمة التوحيد

ثم إن هذا في ورقته صرح بأن معنى "لا إله إلا الله" مثل: "لا شمس إلا الشمس" استثناء للشيء من نفسه، وهذا قول في غاية الضلال والجهل، باطل بأدلة الكتاب والسنة، لا يقوله أحد من الأولين والآخرين، ولا في لغة أحد، وليس في المعقول والمنقول إلا رده وإبطاله، ومن لم يعرف بطلان هذا القول فلا حيلة فيه.

وتأمل قول هذا أيضا: وخلاصة المعنى سلب مفهوم الإله لما سوى الله، وإيجابه له، وانحصاره فيه، وصرح بهذا المراد بـ "إلا الله".

(قلت): من يسمع كلامه هذا ظن أنه حق، وقد بناه على ما مثل به: "لا شمس إلا الشمس".

وحقيقة هذا القول أن الإله واحد، يبينه قوله: سلب مفهوم الإله على ما تقدم له من أن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. وقد عرفت مما قدمناه أن توحيد الأنبياء والمرسلين البراءة من عبادة الأصنام والأوثان والطواغيت، وكلها موجودة في الخارج بأعيانها كما قال تعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}.

فتبين أن نوحا عليه السلام دعا قومه إلى ترك عبادة هذه الأصنام، والبراءة منها، والكفر بها.

وكذلك هود عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك ما كان يعبده آباؤهم كما أخبر تعالى عنهم أنهم قالوا له: {أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ماكان يعبد آباؤنا}.

ومعلوم أن آباءهم لم يكونوا يعبدون كليا ذهنيا لا يوجد إلا في الذهن، بل يعبدون أشخاصا موجودة في الخارج، وقد قالوا لهود عليه السلام: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}. وقد تقدم من الأدلة ما يدل على أن المنفي والمنهي عنه هو عبادة الأصنام والأوثان والطواغيت التي تعبد من دون الله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ}. فلا يشك مسلم -بل كل من له عقل- أن الطواغيت التي يعبدها المشركون موجودة في الخارج، والقرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا.

المنفي بكلمة التوحيد كل ما عبد ويعبد من دون الله

فيا من لا يعرف من كلمة الإخلاص ما عرفه عوام المسلمين، ارجع إلى نفسك، وتأمل ما وقعت فيه، أما علمت أن لا النافية إنما وضعت لغة لنفي الجنس تنصيصا؟ والجنس الذي وضعت له لا بد له من أشخاص متعددة في الخارج، قديمة وحديثة، يعبدها كل مشرك؟ وليست كليا لا يوجد إلا في الذهن، فإن هذه الدعوى الباطلة لم يقل بها مسلم في معنى كلمة الإخلاص، حتى المشركين في لغاتهم لا يعرفون أن هذا معناها، ولا أنها سلبت مفهوم الإله، بل عرفوا كلهم أن من دعاهم إلى أن يقولوا: "لا إله إلا الله". فإنما أراد منهم ترك ما كانوا يعبدونه من أصنامهم وأوثانهم، وطواغيتهم التي كانت عندهم يعبدونها من دون الله.

أما قريش والعرب، فأخبر الله تعالى عنهم أنهم لما قال لهم رسول الله ﷺ: "قولوا لا إله إلا الله" [5] قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}، وآلهتهم: اللات والعزى ومناة التي كانت حول الكعبة، فهذا هو المراد من هذه الكلمة من لغتهم، لا يعرفون غير ذلك. فمعنى النفي في هذه الكلمة ترك عبادة الأوثان، والبراءة منها، والكفر بها، وعداوتها، وعداوة من عبدها. وقد كان العرب يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك". والشريك إنما هو أوثانهم، أشركوها مع الله في العبادة، واتخذوها أندادا كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، ومفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا لا يوصف بالاتخاذ ولا بالمحبة، بل ولا له ثبوت.

وتأمل ما فهمه أعداء الرسل لما دعتهم الرسل إلى أن يعبدوا الله وحده. قال تعالى عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، وقالوا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، عرفوا أنه دعاهم إلى ترك عبادتها والبراءة منها، قال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.

التوحيد هو الكفر بالطواغيت والأصنام وإخلاص العبادة لله وحده

والمفهوم الكلي الذي لا يوجد في الخارج لا يوصف بهذه الصفات، ولا يجمع بهذا الجمع، بل ولا يتصور أن يدعى من دون الله. وقال تعالى عن قوم صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} عرفوا أنه أراد منهم ونهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم من الأوثان. وقال تعالى عن قوم شعيب: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، عرفوا في لغاتهم أنه نهاهم عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم من الأوثان الموجودة في الخارج.

وتأمل قول الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ}، وقال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}، وقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}. ولا شك عند من له أدنى مسكة من عقل أن الذي اتخذه المشركون يعبدونه من دون الله أشخاصا متعددة في القرآن من هذا النمط لا تحصى. والمقصود أن الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا أممهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دونه، والكفر به، والبراءة منه، كما أفصح عن ذلك خليل الرحمن إبراهيم كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، وقال: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.

فالنهي عن عبادة الأصنام والطواغيت، والبراءة منها، والكفر بها، وإخلاص العبادة لله وحده هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأفصح القرآن عنه، وجرى بسبب جحوده على الأمم والمشركين ما جرى من العذاب والذهاب والعقاب، فإن هذا من سلب مفهوم ذهني لا يفيد شركا ولا براءة ولا عداوة.

فسبحان من طبع من شاء من عباده عن فهم ما بعث الله به رسله من توحيده في العبادة، وصرفهم عن فهم الأدلة التي أظهر فيها لعباده مراده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وبهذا يتبين فساد ما لبس به هذا المفتري في معنى كلمة التوحيد، وأنه مصادم لما في كتاب الله من تفسير هذه الكلمة العظيمة، ومناقض لما بعث الله به رسله من إخلاص العبادة له، وترك عبادة ما سواه، والبراءة منها؛ وهذا أظهر شيء في القرآن وأبينه، لا يمتري فيه مسلم.

ونشير إلى ما ذكره بعض العلماء في أصل هذه المقالة وبطلانها.

معنى لا إله إلا الله وإعرابها عند الكوراني

قال إبراهيم بن سعد الكوراني في مصنفه في بيان معنى "لا إله إلا الله" وإعرابها، وإنها دلت على توحيد الإلهية مطابقة وتضمنا وما دلت عليه التزاما، وذكر كلاما في تقرير هذا المعنى، وذكر أن بعضهم اشترط في لا النافية للجنس في هذه الكلمة الوحدة الذهنية، فجعلوا الجنس المنفي واحدا لا يوجد إلا ذهنا. قال: وبما ذكرناه يتضح أنه لا يصح أن يقال: نأخذ الجنس بشرط الوحدة الذهنية فتكون القضية طبيعية.

(أما أولا): فالمراد بالجنس-بلا شرط- الصالح للصدق على الأفراد، كما هو الشأن في موضوع القضايا.

(وأما ثانيا): فلأن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية، لأن حاصله حينئذ هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية المغايرة لله تعالى منتف، وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه.

(ويقال ثالثا): إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن فهو قطعي البطلان، إذ كل من ينطق بهذا التوحيد مستحضرا لمعناه قد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصلح نفيه؟ وعلى كل حال فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة، لأن المراد من "لا إله إلا الله" هو الدلالة على توحيد الألوهية، وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينه وبين الدلالة على التوحيد بُعد المشرقين.

(قلت): وهذا الذي ذكره إبراهيم بن سعد من اشتراطهم أن يكون الجنس فردا لا يؤخذ إلا ذهنا، هو الذي صرح به هذا الملحد في ورقته، وهو أن "لا" في كلمة التوحيد سلبت مفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا، وقد عرفت بعد هذا عن التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص.

ولقد صرفوا هذه الكلمة العظيمة عما وضعت له وأريد بها لغة وشرعا وعقلا وفطرة، فإنها وضعت للبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإبطال عبادته، والكفر به؛ وقد عرف هذا كل أحد حتى مشركو الأمم، ومشركو العرب كما تقدم بيانه.

الرد على من صرف كلمة التوحيد عن معناها

وأما قوله: وخلاصة المعنى سلب مفهوم الإله لما سوى الله وإيجابه له وانحصاره فيه. وصرح بهذا المراد بـ "إلا الله"، فمراده بقوله: وإيجابه له وانحصاره فيه، هذا هو توحيد الفلاسفة وأهل الوحدة، فإن الله عندهم مسماه: الكون المطلق، فكل ما كان خارجا عن الذهن من الأشخاص فقد دخل في مسمى الله، فكل ما في الكون من خبيث وطيب فهو الله، كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وغيره عنهم. فواجب الوجود والممكن كله داخل في هذا المسمى عندهم، وقد صرحوا بهذا في كتبهم، فلم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، وقد قدمنا التنبيه في كلام شيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما تعالى- كما ذكر إبراهيم بن سعد ذلك عنهم، وكما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:

يا أمة معبودها موطوؤها ** أين الإله وثغرة الطعان؟

والناصح لنفسه يكون من هؤلاء الملبسة على حذر، ولا يهمل السؤال عنهم وعن مذاهبهم، وما يخدعون به العامة من زخرف القول، الذي ربما يظن الجاهل أنه حق، وهو عبارة هؤلاء عن باطلهم، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام من وضعهم أسماء الحق على باطلهم، وكل طائفة من أهل البدع لها توحيد. وهذا الذي ذكرناه هو توحيد الفلاسفة والاتحادية، وقد أضلوا بما موهوا به كثيرا ممن ينتسب إلى العلم.

يا قومنا الله في إسلامكم ** لا تفسدوه لنخوة الشيطان

وتأمل ما ذكره الفخر الرازي في معنى "لا إله إلا الله"، فإنه قال: التحقيق أن المضمر المرفوع بإله راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة من حيث إنها آلهة، لا إلى وجودها في حد ذاتها ضرورة أنها موجودة في الخارج بالفعل محسوسة. وحاصله نفي كل فرد من أفراد إله من تلك الحيثية غير الله راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله. انتهى.

فتأمل قوله: راجع إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة. (قلت): وهو الحق، لأنها نفت إلهية كل مألوه يألهه المشركون غير الله، من كل صنم ووثن وشريك وطاغوت، وهذا هو مدلول "لا إله إلا الله": نفي إلهية كل ما يؤله من دون الله. وقوله: لا إلى وجودها، دفعا لقول من قال: إن الخبر المضمر موجود، وقد بيّن وجه ذلك، وتقديره للخبر بأحد قريب مما تقدم في المعنى.

المنفي في كلمة التوحيد الإلهية الكثيرة الموجودة في الخارج

وتأمل قوله: وحاصله نفي كل فرد من أفراد إله. فبيّن أن المنفي له أفراد كثيرة، وهذا ظاهر بيّن لا يمنعه أحد، كما هو ظاهر في الكتاب والسنة واللغة والفطرة خلافا للفلاسفة. وكذلك قوله: راجع إلى نفي الإلهية عن كل موجود غير الله، وهذا هو الذي يعرفه الناس كلهم إلا ما كان من هذه الطائفة ومن أهل الوحدة، فإنهم ألحدوا في التوحيد، وأتوا بكل ما يستحيل عقلا وشرعا. فسبحان الله، والله أكبر، أيجوز في عقل أن المشركين من أولهم إلى آخرهم الذين عبدوا مع الله غيره أنهم إنما عبدوا فردا في الذهن لا وجود له في الخارج؟ هذا أمحل المحال، وأبطل الباطل.

وقد نبهت فيما تقدم على أنهم أرادوا بهذا أن الأصنام والأوثان والطواغيت لا تدخل في المنفي لأنها من جملة الوجود الذي يسمونها الله.

وأقول أيضا: الآلهة هي الأنداد والطواغيت والشركاء، وقد قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فذكرها مجموعة لكثرة أفرادها في الخارج، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، فذكرها بصيغة الجمع يدل على كثرة أفرادها، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}،وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا}.

وهذه الآيات تدل على أن المعبودات التي تعبد من دون الله كثيرة من الطواغيت وغيرها كقوله في آية البقرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، وكقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}، ولا ريب أن الجن لهم وجود في الخارج، وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.

فدلت هذه الآيات على أن لهذه المعبودات أفرادا كثيرة، وكلها منتفية بـ "لا إله إلا الله"، كما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}، وهذا واضح بحمد الله، فبطل ما اختلقه الفيلسوف، وتبين به إلحاده في التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}.

وضع الأسماء الشرعية للمسميات البدعية

واعلم أن هؤلاء الزنادقة قد طردوا أصلهم هذا حتى في الإيمان، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان عن هؤلاء: إنهم يثبتون لهذه المسميات وجودا مطلقا مجردا عن جميع القيود والصفات، وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا محدثا، ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما، ويقول الماهية من حيث هي لا توصف بوجود ولا عدم، ويقول الماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج، فهكذا الإيمان يقدر إيمانا لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، كتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين.

(قلت): وكذلك إله لا يوجد إلا مع مألوه تألهه القلوب بالعبادة، وقد أشرت إلى ما ذكره شيخ الإسلام عن هذه الطائفة كابن سينا ومن سبقه، أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم قصدوا بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة فكسوه ثوب الشريعة، وهذا كلفظ الملك والملكوت والجبروت واللوح المحفوظ، والملك والملكوت والشيطان والحدث والقدم وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين، وابن عربي، وما يوجد في كلام أبي حامد، وغيره من أصول الفلاسفة والملاحدة التي يحرفون بها كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

والمقصود من هذا الجواب بيان ما قد يفتريه الجاهل من كلام هؤلاء الذين يلبسون على العامة، فيأتونهم بما لا يعرفون أنه حق وباطل، فربما اعتقدوه تعليلا لهؤلاء، فيقعون في حيرة وشك، وهم قبل الابتلاء بهؤلاء في عافية. فسبحان مقلب القلوب.

والأصل في ذلك ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مثل هؤلاء أنه ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدفع الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

فليكن العبد المؤمن من المحنة بأهل الأهواء على حذر، ومن دنياه على خطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا على توحيدك وطاعتك وتقواك، وأقم لنا ديننا الذي ارتضيته لنا، وثبتنا عليه. اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

تفسير العلماء لكلمة التوحيد

ونختم الجواب بذكر ما ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في معنى "لا إله إلا الله":

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: الكلام على "لا إله إلا الله": الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا وسؤالا منه ودعاء له. ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول "لا إله إلا الله"، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.

وقال البقاعي: "لا إله إلا الله" أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.

وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلاهة، أي عبد عبادة.

(قلت): وهذا الذي ذكره الطيبي رحمه الله تعالى على معنى ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قرأ: "ويذرك وإلاهتك" قال: لأنه كان يعبد ولا يعبد. وهذا ظاهر بحمد الله لمن تدبر القرآن، وعرف حقيقة الإسلام والإيمان.

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

ذيل للرد للعلامة أبابطين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين -وفقه الله تعالى ورحمه وغفر له- لما ذكر له الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن يرد على المحمود لما غلط في معنى "لا إله إلا الله"، وقال بعد السلام ورحمة الله وبركاته وغير ذلك: ذكرت لي أني أكتب على كلام الدرويش الذي عندكم في بيان بعض ما فيه من العيب، والذي كتبتم عليه فيه كفاية، لكن نذكر على بعض ألفاظه بيان مخالفته للحق.

منها قوله: "الحمد لله المتوحد بجميع الجهات" فنقول: لا يشك من سمع هذا الكلام في أن المراد بالجهات الجهات الست، التي يقول المعطل فيها: إن الرب -سبحانه وتعالى- من الجهات الست خالٍ، والاتحادي يقول: إنه سبحانه متحد فيها، والحلولي يقول: إن الله سبحانه حالٌّ فيها. تعالى الله عما يقول الجميع علوا كبيرا. وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب سبحانه مستو على عرشه بائن من خلقه.

وظاهر قول الرجل: "المتوحد بجميع الجهات"، يشبه قول الاتحادية، وإن حملت الباء على الظرفية شابه قول الحلولية، وربما يظن أنه لعجمته يعبر بعبارات لا يعرف معناها، لكن سمعت أنه قد شرع في وضع حاشية على النونية، ولا يتنَزل لذلك إلا من يدعي تمام المعرفة. وحكي عنه أنه يقول: مرادي بالجهات جهات التوحيد الثلاث وهو توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات. وهذا بعيد من كلامه لأن هذه تسمى أنواعا لا جهات. وبكل حال فظاهر كلامه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة، لكن ينبغي أولا إحضاره، ويبين له ما في كلامه مما ظاهره خلاف الحق، وتبين له الأدلة الشرعية على خلاف ما يوهمه كلامه، فإن اعترف فهو المطلوب والحمد لله.

وفي كلامه من العيب والركاكة كثير، كقوله: "لا شريك له في الذات ولا في الصفات" فنفى الشركة في الذات، ولم يقل أحد من بني آدم إن لله -سبحانه وتعالى- شريكا في ذاته حتى يحتاج إلى نفي ذلك، وإنما يقول أهل الحق: "لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته" ردا لقول المشبهة. فهذا من قوله: "لا شريك له في ذاته" يدل على قلة معرفته في هذا الباب.

وكذلك قوله: "لا شريك له في الملك فضلا عن الملكوت". فأشار بقوله: "فضلا عن الملكوت" إلى بعد ما بينهما، وقد ذكر العلماء أن الملكوت هو الملك، وإنما زيدت التاء للمبالغة في التعظيم.

وكذلك قوله في إعراب "لا إله إلا الله ": "من قبيل استثناء الجزئي من الكلي". فجعله استثناء للاسم الكريم من نوع استثناء الجزئي من الكلي غلط، بل الجزئي مقابل الكلي وقسيمه لا قسم منه، فالكلي ما اشترك في معناه كثيرون كالإنسان والحيوان، والجزئي يراد به الأسماء الأعلام كزيد وعمرو، والاسم الكريم أعرف المعارف كما قال سيبويه وغيره.

وكذلك قوله في إعراب "لا إله إلا الله": "إنه كقولنا لا شمس إلا الشمس". لأن قول القائل: "لا شمس إلا الشمس" لفظ لا فائدة فيه، وأيضا فاسم الشمس من الألفاظ الكلية؛ لقولهم في تعريف الكلي: ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فهو الكلي سواء وقعت الشركة كالإنسان، أو لم تقع وأمكنت كالشمس، أو استحالت كالإله. فإن استحالة ذلك للأدلة القاطعة عليه، فجعل الاسم الكريم الذي هو أرفع الأعلام، وأعرف المعارف مثل الشمس التي هي من الألفاظ الكلية غلط. بل الموافق لقولنا: "لا شمس إلا الشمس" قول القائل: "لا إله إلا الإله"، وهذا لفظ مع الإطلاق، لا يستفاد منه توحيد الإلهية لله رب العالمين.

هذا وكثير من كلامه جعجعة بلا طحن، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يهدينا وجميع الأمة إلى صراطه المستقيم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

هامش

  1. هذه العبارة هي التي بنى عليها السنوسي عقيدته الصغرى المشهورة وزعم أنها معنى كلمة التوحيد واستنبط الصفات السلبية والثبوتية منها وما هي إلا من لوازمها، وما كل الأشعرية يقول بأنها معناها.
  2. المعروفة بألفية ابن مالك.
  3. أحمد والترمذي
  4. هذه الآية في قول يوسف عليه السلام. أما قول هود عليه السلام فهو: (أتجادلونني في أسماء) إلخ من سورة الأعراف.
  5. أحمد والترمذي