خِدَاعُ العناوين
لقد جهل الذين قالوا: «إنَّ الكتاب يعرف بعنوانه.» فإني لم أرَ بين كتب التاريخ أكذب من كتاب «بدائع الزهور»، ولا أعذب من عنوانه، ولا بين كتب الأدب أسخف من كتاب «جواهر الأدب»، ولا أرقَّ من اسمه، كما لم أرَ بين الشعراء أعذب اسمًا وأحط شعرًا من ابن مَلِيكٍ، وابن النبيه، والشاب الظريف.
لقد كثر الاختلاف بين العناوين، وبين الكتب حتى كدنا نقول: «إنَّ العناوين أدل على نقائضها منها على مفهوماتها، وألصق بأضدادها منها بمنطوقاتها، وإنَّ العنوان الكبير حيث الكتاب الصغير، والكتاب الجليل حيث العنوان الضئيل.»
الأتقياء
لولا خداع العناوين ما سمينا صالحًا تقيًّا كلَّ من حرَّك سُبْحَتَهُ وأطال لحيته ووسع جُبَّتَهُ وكوَّر عِمامته، ولقد نعلم أنَّ وراء هذا العنوان الأبيض كتابًا أسود الصفحات، كثير السقطات، وأنَّ تحت هذا الستر الحريري الرقيق نفسًا سوداء مظلمة لا ينفُذ إليها شعاعٌ من أشعة الرحمة، ولا تهب عليها نسمةٌ من نسمات الإحسان.
لن يؤمن المؤمن حتى يبذل في سبيل الله أو في سبيل الجماعة من ذات نفسه أو ذات يده ما يشق على مثله الجودُ بمثله، أما الجود بالشفاه للهمهمة والأنامل للمسبحة فعملٌ لا يتكلَّف صاحبه له أكثر مما يتكلف لتقليب ناظريه وتحريك هُدْبَيْهِ، وهل خلقت الشفاه إلا للتحريك، والأنامل إلا للتقليب؟
إنَّ للإيمان مواقف يمتحن الله فيها عباده، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فإن بذل الضنين بمالِه مالَه في مواقف الرحمة والشفقة، والشحيحُ بنفسِه نفسَه في سبيل الذَّوْدِ عن حوضه، والذَّبِّ عن عشيرته وقومه، وضعيفُ العزيمة ما يملك من قوةٍ وأيدٍ في مغالبة شهوات النفس ومقاومة نزواتها، فذلك المؤمن الذي لا يشوب إيمانَه رياءٌ ولا دهان، ولا يخالط يقينَه خداعٌ ولا كذبٌ، أوْ لا، فأهوِن بهمهمته ودمدمته، ومسواكه ومسبحته، وهو بعنوان المنافق الكاذب أَحْرَى منه بعنوان التقي الصالح أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ.
الوطنيون
كنا وكان الرجل لا يبلغ ما يشتهيه من رتبة الوطنية إلا إذا قام في أمته مقامًا محمودًا يخاطر فيه بإحدى جَوْهَرَتَيْهِ، ليدفع عنها خَطْبًا مُقبلًا، أو ينقذها من بلاءٍ محيط، فإما بلغ في هجرته الغايةَ التي يريدها، وإما هلك من دونها هلاكًا لا تؤلم نفسَه صدمتُه ولا تمرُّ بفمه غضاضته؛ لأنه مخلصٌ، وحسب المخلص جزاءً له على إخلاصه أنه وفَّى دَيْنَهُ الذي كان يُثقل ظهره وكفى، فأصبحنا وليس بين المرء وبين نَيْلِ ألقاب الوطنية الأولى وشاراتها الفُضْلَى إلا صرخةٌ عالية يصرخها في أحد المجامع، أو كلمة تافهة يكتبها في إحدى الصحف حتى تقام له الحفلات كما تقام لعظماء الرجال، وتُمدُّ إليه الأصابع كما تُمَدُّ للقُوَّاد الأبطال، وربما كانت صرخة ذلك الصارخ جِنَّةً تمثَّلت في رأسه تمثُّلَ النهيق في رأس الحمار، فلما حان حينها عطس بها في ذلك المجمع الذي صادفه في طريقه لِيُنَفِّسَ عن نَفْسِهِ، ويُفَرِّجَ من كربته. وربما كانت كلمة ذلك الكاتب نغمةً من نغمات السؤال التي يترنَّم بها المتسولون، أو رُقيةً من رُقَى المُمَخْرَقِينَ التي يهمهمون بها استنداءً للأكفِّ واستدرارًا لحسنات المحسنين.
أعجب ما يعجب له المرء في هذه الأمة أنها لا تصدِّق الرجلَ المستورَ إذا ادَّعَى على آخر بفَلْسٍ أو سحتوتٍ حتى تطالبه بالشهود العدول، والصكوك المؤكدة والأيمان المُحرِّجة، فإذا قام بين يديها من لا تعرف له عدلًا في سيرته، ولا صدقًا في قوله، ولا إخلاصًا في عمله، فادَّعى الوطنية لنفسه — والوطنية أثمن من الجوهر المنتقى واللؤلؤ المكنون — حَكَمَتْ له بصحة دعواه في قضيته حُكْمَ القضاة الظالمين بغير بينةٍ ولا يمين!
لولا خداع العناوين لوجدنا بين التجار الأمناء الذين يخدمون أمتهم بالصدق في القول والأمانة في العمل، والموظفين الشرفاء الأعِفَّاءِ الذين لا يحابون ولا يصانعون، والحكام العادلين المخلصين لله وللأمة في السر والعلن، والزارعين المستقيمين، والصناع المُجدِّين، والأكَّارين المستضعفين، من هو أولى بلقب الوطنية من أولئك الصارخين المتهوِّسين، والكاتبين المخادعين.
الأمجاد
يقولون: «إنَّ الولد سرُّ أبيه.» ويريدون بذلك أنه المرآة التي ترتسم فيها صورته، والبذرة التي تكمن فيها حقيقته وماهيته. وعلى هذه القاعدة بنى البانون قاعدة المجد، فأعظموا شأن الرجل الذي يمسك بطرف سلسلةٍ في النسب يتصل أولها بعظيمٍ من عظماء النفوس، أو شريفٍ من شرفاء الأخلاق.
ثم ما زال الناس يعبثون بعنوان الشرف ويتوسعون في معناه حتى نظموا في سلكه الجبابرة الذين يسمونهم أمراء، والظلمة الذين يسمونهم ملوكًا، والسفاحين الذين يسمونهم قُوَّادًا، واللصوص الذين يسمونهم وُجَهَاءَ، فساقهم الخطأ في فهم الشرف إلى الخطأ في فهم المجد، فسمَّوا ماجدًا كلَّ من ولد في فراش ملكٍ وإن كان الحاكمَ بأمر الله، أو أميرًا وإن كان الحجاجَ، أو وزيرًا وإن كان ابنَ الزياتِ، أو قائدًا وإن كان تيمورلنك، أو غنيًّا وإن كان قارون!
لا مجد إلا مجد العلم، ولا شرف إلا شرف التقوى، ولا عظمة إلا عظمة الآخذين بيد الإنسانية البائسة رحمةً بها وحنانًا عليها.
أولئك هم الأمجاد، وأولئك الذين يفخر الفاخرون بالاتصال بهم والانتماء إليهم، وأولئك هم المفلحون.
الأغنياء
لم أرَ بين جماعة المتسولين الذين يضربون في الأرض وراء لقمةٍ يَتبلَّغون بها أو خِرْقةٍ يتقون بخيوطها البالية ما يتقون من لفحة الرمضاء، وَهَبَّةِ النكباء، ولا بين البؤساء الذين يحرقون فحمة الليل بكاءً ونحيبًا حول صغارٍ كفراخ القطا يَتَلَوَّوْنَ في مضاجعهم من الجوع تَلَوِّيَ الأفاعي المضطربة فوق الرمال الملتهبة، وتحت الشمس المحرقة، أسوأ حالًا، ولا أنكد عيشًا، ولا أكثر عناءً، من هؤلاء الفقراء الذين يسميهم الناس أغنياءَ.
يأكل الموسر الباخل كما يأكل الفقير، ويجلس كما يجلس، وينام كما ينام، ويتشهَّى كما يتشهَّى، حتى لتكاد تثب أمعاؤه من جوفه، وتسيل أحشاؤه من فمه شوقًا إلى ما حَرَّمَ على نفسه من شهوات العيش وملذاته، ويَسْتَنُّ استنانَ الجواد الضامر في مَيْدَانِ السَّبْقِ وراء الدرهم البعيد منالُه حتى تنبهرَ أنفاسُه، وتَتَخَاذَلَ أَوْصَالُه، حتى لو تخيل أنَّ نجوم السماء دنانير منثورةٌ لطار إليها بغير جناحٍ فسقط هاويًا، أو أنَّ في بطن الأرض كنزًا مذخورًا لتمنى أن لو انفجر بركانها تحت قدميه فابتلعه فأصبح من الهالكين.
الغنيُّ هو الغنيُّ بما في يده عمَّا في أيدي الناس، والفقير هو الذي لا يقنعه في هذه الحياة مَقْنَعٌ، ولا تقف به نفسه عند مَطْمَعٍ.
فانظر تحت أيِّ عنوانٍ من هذين العنوانين تضع البخلاء الموسرين!
المجرمون
حضرت مجلسًا من مجالس الأحكام حكم فيه قاضٍ مرتشٍ على مُتَّهَمٍ سرق رغيفًا، فوضعت يميني على فمي؛ مخافةَ أن يخرج أمر نفسي من يدي فأهتف صارخًا لما ألمَّ بقلبي من الرعب والفزع صرخةً تُدَوِّي بها جوانب القاعة دَويَّ الموج الثائر في البحر الزاخر، قائلًا: «مهلًا، رويدًا أيها الحاكم الظالم، فأنت إلى قاضٍ عادلٍ تقف بين يديه أحوجُ منك إلى كرسيٍّ فخم تجلس عليه، ولو عدل القانون بينك وبين هذا الماثل بين يديك لَبِتَّ وأعلاكما الأسفل!
إنك ترتزق في كل شهر ثلاثين دينارًا، فلم تَرْتَشِ إلا لأنك شرهٌ طماع! وهذا السارق لم يسرق ذلك الرغيف إلا لأنه جائعٌ ملتاع، ولو ملك مما تملك ثلاثين درهمًا ما فعل فَعْلَتَهُ التي فَعلَ، فأنت مجرمٌ إلا أنك في وشاح شريفٍ، وهو شريفٌ إلا أنه في شَمْلَةِ مجرم.»
فيا لله للحقيقة التي عبثت بها القوانين، ولعبت بعقول الناس فيها العناوين!
رُبَّ نفسٍ بين جدران السجون أطهر قلبًا، وأنقى رُدْنًا وأبيض عِرْضًا من مثلها بين جدران القصور، وربَّ طريدةٍ من طرائد المجتمع الإنساني ساقها المُقَدَّرُ الذي لا مفر من حكمه إلى وقفةٍ فوق أعواد المشنقة كان أجدر بها ذلك المرابي الذي ينصب حبالة ماله لخراب البيوت العامرة، وإطفاء النجوم الزاهرة، أو ذلك القائد الذي يسفك في مواقفه دم مائة ألفٍ أو يزيدون في غير سبيل سوى سبيل المجد المصنوع، والفخر الموضوع، أو ذلك السياسيُّ الذي يُدَبِّرُ المكيدة للحملة على أمة مستضعفة آمنةٍ في مرقدها سعيدةٍ في نفسها، فيستعبد أحرارها، ويَسْتَذِلُّ أعزاءها، ثم يسلبها أثمن ما تملك يمينها من حريتها واستقلالها، وسعادتها وهنائها.
المتمدينون
ليس بين المصريِّ وبين أن يأخذ من إخوانه المصريين لقب الشاب العصري، أو الرجل المتمدين إلا أن يُصْقِلَ جبهتَه، ويُصفف طُرَّتَه، ويفتح فمه للابتسام المتصنع، ويقوِّس يده للسلام المتعمَّل، ويستكثِر في حديثه من ذكر المدنية الغربية وشئونها، وسرد أسماء نسائها ورجالها، وطرفها ونوادرها، ويستحسن ما تستحسنه، وإن كان البرَازَ والانتحار، ويستطرف ما تستطرفه وإن كان الزندقة والإلحاد، وربما زاد على ذلك شيئًا من العلم بفلسفة الميكروبات، ونظرية البالونات، ثم لا يحول بعد ذلك تمدينه بينه وبين أن يكون فاسقًا ينتهك الحرمات، أو مدمنًا يترامى على أعتاب الحانات، أو أحمق لا يصفح عن ذنب ولا يصانع في هفوة، ولا يعفو عن سيئة، أو سفيهًا يشتم حتى أميره وسلطانه، ووالده وأستاذه، أو وَقاحَ الوجه لا يستحيي لمكرمة ولا يغضي لمروءة، أو شحيحًا لا يشرك صاحبه في مَطْعَمٍ ولا مَشْرَبٍ، ولا يفتح بابه لضيفٍ زائرٍ أو طارقٍ حائر.
إن كان حقًّا ما يقولون من أن التَمَدْيُنَ يُصقل الطباعَ الخشنة، ويقوِّم الألسنة المعوجَّة، ويهذب النفوس الجافية، ويوسِّع الصدور الحَرِجَة، فكثيرٌ ممن ندعوهم متمدينين متوحشون، وكثير ممن نسميهم همجيين مهذَّبون.
لو كان بي أن أكتب لِمَحْوِ الفساد من المجتمع الإنساني والقضاء على شروره وآثامه لما حركت يدًا، ولا جَرَّدْتُ قلمًا؛ لأني أعلم — كما يعلم الناس جميعًا — أنَّ طلب المحال عثرةٌ من عثرات النفوس، وضَلَّةٌ من ضلالات العقول، ولكنني أطلب مطلبًا واحدًا لا أرى في عقول الناس وأفهامهم ما يحول بينهم وبين تصوُّره وإدراكه: أن يهذِّبوا قليلًا من هذه المصطلحات التي أنسوا بها، والعناوين التي جمدوا عليها، فلا يُسَمُّون المنافق تقيًّا، ولا المخادع وطنيًّا، ولا المتمجِّد ماجدًا، ولا البخيل غنيًّا ولا المفلوك مجرمًا، ولا المتوحش متمدينًا، حتى لا ينزع محسنٌ عن إحسانه، ولا يستمرَّ مسيءٌ في إساءته.