بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه القديم فلا أول لوجوده، الدائم الكريم فلا آخر لبقائه ولا نهاية لجوده، الملك حقاً فلا تدرك العقول حقيقة كنهه، القادر فكلّ ما في العالم من أثر قدرته، المقدّس فلا تقرب الحوادث حماه، المنزَّهِ عن التغيير فلا ينجو منه سواه، مصرّف الخلائق بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وإبرام ونقض، وإماتة وإحياء، وإيجاد وإفناء، وإسعاد وإضلال، وإعزاز وإذلال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مبيد القرون السالفة، والأمم الخالفة، لم يمنعهم منه ما تخذوه معقلاً وحرزاً ف (هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً) مريم 19 : 98، بتقديره النفع والضرّ، (له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين) الأعراف 7 : 54.
أحمده علي ما أولى من نعمه، وأجذل للناس من قسمه، وأصلي على رسوله محمد سيد العرب والعجم، المبعوث إلى جميع الأمم، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظّلم، ﷺ.
أمّا بعد، فإني لم أزل محبّاً لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها، مؤثراً للاطلاع على الجليّ من حوادثها وخافيها، مائلاً إلى المعارف والآداب والتجارب المودعة في مطاويها، فلمّا تأمّلتها رأيتها متباينةً في تحصيل الغرض، يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل إلى العرض، فمن بين مطوّل قد استقصى الطرق والروايات، ومختصر قد أخلّ بكثير ممّا هو آت، ومع ذلك فقد ترك كلّهم العظيم من الحادثات، والمشهور من الكائنات، وسوّد كثيرٌ منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى، وترك تسطيرها أحى، كقولهم خلع فلان الذميّ صاحب العيار، وزاد رطلاً في الأسعار، وأكرم فلان، وأهين فلان، وقد أرّخ كلّ منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذيل عليه، وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه، والشرقيّ منهم قد أخلّ بذكر أخبار الغرب، والغربيّ قد أهمل أحوال الشرق؛ فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً متصلاً إلى وقته يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددّة مع ما فيها من الإخلال والإملال.
فلمّا رأيتُ الأمر كذلك شرعتُ في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما، ليكون تذكرةً لي أراجعه خوف النسيان، وآتي فيه بالحوادث والكائنات من أوّل الزمان، متتابعةً يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا.
ولا أقولُ إني أتيتُ على جميع الحوادث المتعلّقة بالتاريخ، فإنّ من هو بالموصل لا بدّ أن يشذّ عنه ما هو بأقصي الشرق والغرب، ولكن أقول إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، ومن تأمّله علم صحّة ذلك. فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبريّ إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه، والمرجوعُ عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم زخلّ بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عدد، كلّ رواية منها مثل التي قبلها أو أقل منها، وربّما زاد الشيء اليسير أو نقصه، فقصدتُ أتمّ الروايات فنقلتها وأضفت إليها من غيرها ما ليس فيها، وأودعت كل شيء مكانه، فجاء جميع ما في تلك الحادثة على اختلاف طرقها سياقاً واحداً على ما تراه.
فلمّا فرغتُ منه وأخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ووضعتُ كلّ شيء منها موضعه، إلاّ ما يتعلّق بما جري بين أصحاب رسول الله، ﷺ، فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً، إلاّ ما فيه زيادةُ بيان، أو اسم إنسان، أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله، وإنّما اعتمدت علهي من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقنُ حقّاً، الجامع علماً وصحّة اعتقاده وصدقاً. على أني لم أنقل إلاّ من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة، ممّن يُعلم بصدقهم فيما نقلوه، وصحّة ما دوّنوه، ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي، ولا كمن يجمع الحصباءواللآلي.
ورأيتهم أيضاً يذكرون الحادثة الواحدة في سنين، ويذكرون منها في كلّ شهر أشياء، فتأتي الحادثةُ مقطّعة لا يحصل منها على غرض، ولا تُفهم إلاّ بعد إمعان النظر، فجمعت أنا الحادثة في موضع واحد وذكرت كلّ شيء منها في أيّ شهر أو سنة كانت، فأتت متناسقة متتابعة، قد أخذ بعضها برقاب بعض.
وذكرت في كلّ سنة لكلّ حادثة كبيرة مشهورة ترجمة تخصّها، فأمّا الحوادث الصغار التي لا يحتمل منها كلّ شيء ترجمة فإني أفردتُ لجميعها ترجمةً واحدةً في آخر كلّ سنة، فأقول: ذكر عدة حوادث، وإذا ذكرت بعض من نبغ وملك قطراً من البلاد ولم تطل أيّامه فإني أذكر جميع حاله من أوّله إلى آخره، عند ابتداء أمره، لأنّه إذا تفرق خبره لم يعرف للجهل به.
وذكرت في آخر كلّ سنة من توفّي فيها من مشهوري العلماء والأعيان والفضلاء، وضبطت الأسماء المشتبهة المؤتلفة في الخط المختلفة في اللّفظ الواردة فيه بالحروف ضبطاً يزيل الإشكال، ويُغني عن الأنقاط والأشكال.
فلما جمعتُ أكثره أعرضتُ عنه مدّةً طويلة لحوادث تجددت، وقواطع توالت وتعدّدت، ولأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت. ثمّ إن نفراً من إخواني، وذوي المعارف والفضائل من خُلاّني، ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري، وأعدّهم من أماثل مُجالسيّ وسمّاري، رغبوا إليّ في أن يسمعوه مني، ليرووه عني؛ فاعتذرتُ بالأعراض عنه وعدم الفراغ منه، فإنني لم أعاود مطالعة مسوَّدته ولم أصلح ما أصلح فيها من غلط وسهو، ولا اسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو، وطالت المراجعة مدّةً وهم للطلب ملازمون، وعن الإعراض مُعرضون، وشرعوا في سماعه قبل إتمامه وإصلاحه، وإثبات ما تمسّ الحاجة إليه وحذف ما لا بدّ من اطراحه، والعزمُ على إتمامه فاتر، والعجز ظاهر، للاشتغال بما لا بدّ منه، لعدم المعين والمظاهر؛ ولهموم توالت، ونوائب تتابعت، فأنا ملازم الإهما والتواني، فلا أقول: إني لأسير إليه سير الشواني.
فبينما الأمر كذلك إذ برز أمرُ من طاعته فرض واجب، واتّباع أمره حكم لازب، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافقة، وأرواح الجهل بإعراضه عنها نافقة، من أحيا المكارم وكانت أمواتاً، وأعادها خلقاً جديداً بعد أن كانت رفاتاً؛ من عمّ رعيّته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وإفضاله، مولانا مالك الملك الرحيم، العالم المؤيّد، المنصور، المظفر بدر الدين، ركن الإسلام والمسلمين، محي العدل في العالمين، خلَد الله دولته. فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل، وأبطلت رداء الكسل، وألقيت الدواة وأصلحت القلم، وقلت: هذا زوان الشدّ فاشتدي زيم، وجعلت الفراغ أهم مطلب، وإذا أراد اللّه أمراً هيّأ له السبب، وشرعت في إتمامه مسابقاً، ومن العجب أن السكّيت يروم أن يجيء سابقاً، ونصبت نفسي غرضاً للسهام، وجعلتها مظنّة لأقوال اللّوام، لأن المآخذ إذا كانت تتطرّق إلى التصنيف المهذّب، والاستدراكات تتعلّق بالمجموع المرتَّب، الذي تكرّرت مطالعته وتنقيحه، وأجيد تأليفه وتصحيحه، فهي بغيره أولى، وبه أحرى، على أنّي مقرّ بالتقصير، فلا أقول إن الغلط سهو جرى به القلم، بل أعترف بأن ما أجهل أكثر ممّا أعلم. وقد سمّيته اسماً يناسب معناه، وهو: الكامل في التاريخ.
ولقد رأيت جماعة ممّن يدّعي المعرفة والدراية، ويظنّ بنفسه التبحّر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظنّاً منه أن غاية فائدتها إنّما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللبّ فنظره، وأصبح مخشلباً جوهره، ومن رزقه اللّه طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً، علم أنّ فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيويّة والأخرويّة جمّة غزيرة، وها نحن نذكر شيئاً ممّا ظهر لنا فيها، ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها.
فزمّا فوائدها الدنيويّة فمنها: أنّ الإنسان لا يخفى أنّه يحبّ البقاء، ويؤثرُ أن يكون في زمرة الأحياء، فيا ليت شعري أيّ فرق بين ما رآه أمس أو سمعه، وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين؟ فإذا طالعها فكأنّه عاصرهم، وإذا علمها فكأنّه حاضرهم.
وذكرت في كلّ سنة لكلّ حادثة كبيرة مشهورة ترجمة تخصّها، فأمّا الحوادث الصغار التي لا يحتمل منها كلّ شيء ترجمة فإني أفردتُ لجميعها ترجمةً واحدةً في آخر كلّ سنة، فأقول: ذكر عدة حوادث، وإذا ذكرت بعض من نبغ وملك قطراً من البلاد ولم تطل أيّامه فإني أذكر جميع حاله من أوّله إلى آخره، عند ابتداء أمره، لأنّه إذا تفرق خبره لم يعرف للجهل به.
وذكرت في آخر كلّ سنة من توفّي فيها من مشهوري العلماء والأعيان والفضلاء، وضبطت الأسماء المشتبهة المؤتلفة في الخط المختلفة في اللّفظ الواردة فيه بالحروف ضبطاً يزيل الإشكال، ويُغني عن الأنقاط والأشكال.
فلما جمعتُ أكثره أعرضتُ عنه مدّةً طويلة لحوادث تجددت، وقواطع توالت وتعدّدت، ولأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت.
ثمّ إن نفراً من إخواني، وذوي المعارف والفضائل من خُلاّني، ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري، وأعدّهم من أماثل مُجالسيّ وسمّاري، رغبوا إليّ في أن يسمعوه مني، ليرووه عني؛ فاعتذرتُ بالأعراض عنه وعدم الفراغ منه، فإنني لم أعاود مطالعة مسوَّدته ولم أصلح ما أصلح فيها من غلط وسهو، ولا اسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو، وطالت المراجعة مدّةً وهم للطلب ملازمون، وعن الإعراض مُعرضون، وشرعوا في سماعه قبل إتمامه وإصلاحه، وإثبات ما تمسّ الحاجة إليه وحذف ما لا بدّ من اطراحه، والعزمُ على إتمامه فاتر، والعجز ظاهر، للاشتغال بما لا بدّ منه، لعدم المعين والمظاهر؛ ولهموم توالت، ونوائب تتابعت، فأنا ملازم الإهما والتواني، فلا أقول: إني لأسير إليه سير الشواني.
فبينما الأمر كذلك إذ برز أمرُ من طاعته فرض واجب، واتّباع أمره حكم لازب، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافقة، وأرواح الجهل بإعراضه عنها نافقة، من أحيا المكارم وكانت أمواتاً، وأعادها خلقاً جديداً بعد أن كانت رفاتاً؛ من عمّ رعيّته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وإفضاله، مولانا مالك الملك الرحيم، العالم المؤيّد، المنصور، المظفر بدر الدين، ركن الإسلام والمسلمين، محي العدل في العالمين، خلَد الله دولته.
فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل، وأبطلت رداء الكسل، وألقيت الدواة وأصلحت القلم، وقلت: هذا زوان الشدّ فاشتدي زيم، وجعلت الفراغ أهم مطلب، وإذا أراد اللّه أمراً هيّأ له السبب، وشرعت في إتمامه مسابقاً، ومن العجب أن السكّيت يروم أن يجيء سابقاً، ونصبت نفسي غرضاً للسهام، وجعلتها مظنّة لأقوال اللّوام، لأن المآخذ إذا كانت تتطرّق إلى التصنيف المهذّب، والاستدراكات تتعلّق بالمجموع المرتَّب، الذي تكرّرت مطالعته وتنقيحه، وأجيد تأليفه وتصحيحه، فهي بغيره أولى، وبه أحرى، على أنّي مقرّ بالتقصير، فلا أقول إن الغلط سهو جرى به القلم، بل أعترف بأن ما أجهل أكثر ممّا أعلم. وقد سمّيته اسماً يناسب معناه، وهو: الكامل في التاريخ.
ولقد رأيت جماعة ممّن يدّعي المعرفة والدراية، ويظنّ بنفسه التبحّر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظنّاً منه أن غاية فائدتها إنّما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللبّ فنظره، وأصبح مخشلباً جوهره، ومن رزقه اللّه طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً، علم أنّ فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيويّة والأخرويّة جمّة غزيرة، وها نحن نذكر شيئاً ممّا ظهر لنا فيها، ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها.
فزمّا فوائدها الدنيويّة فمنها: أنّ الإنسان لا يخفى أنّه يحبّ البقاء، ويؤثرُ أن يكون في زمرة الأحياء، فيا ليت شعري أيّ فرق بين ما رآه أمس أو سمعه، وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين؟ فإذا طالعها فكأنّه عاصرهم، وإذا علمها فكأنّه حاضرهم.
ومنها: أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ورأها مدوّنةً في الكتب يتناقلها الناس، فيرويها خلف عن سلف، ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر، وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وذهاب الأموال، وفساد الأحوال، استقبحوها، وأعرضوا عنها واطَّرحوها، وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها، وما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم، وأنّ بلادهم وممالكهم عمرت، وأموالهم درّت، استحسنوا ذلك ورغبوا فيه، وثابروا عليه وتركوا ما يُنافيه، هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء، وخلصوا بها من المهالك، واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك، ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخراً.
ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها، فإنّه لا يحدث أمر إلاّ قد تقدّم هو أو نظيره، فيزداد بذلك عقلاً، ويصبح لأن يقتدى به أهلاً، ولقد أحسن القائل حيث يقول شعراً:
رأيت العقل عقلـين............فمطبوعٌ ومسمـوع
فلا ينفع مسـمـوع.............إذا لم يك مطبـوع
كما لا تنفع الشمـس.........وضوء العين ممنوع
يعني بالمطبوع العقل الغريزي الذي خلقه الله تعالى للإنسان، وبالمسموع ما يزداد به العقل الغريزي من التجربة، وجعله عقلاً ثانياً توسّعاً وتعظيماً له، وإلاّ فهو زيادة في عقله الأوّل.
ومنها ما يتجمّل به الإنسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها، ونقل طريفة من طرائفها، فترى الأسماع مصغيةً إليه، والوجوه مقبلةً عليه، والقلوب متأملةً ما يورده ويصدره، مستحسنةً ما يذكره.
وأمّا الفوائد الأخرويّة: فمنها أن العاقل اللبيب إذا تفكّر فيها، ورأى تقلّب الدنيا بأهلها، وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها، وأنّها سلبت نفوسهم وذخائرهم، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم، فلم تُبقِ على جليل ولا حقير، ولم يسلم من نكدها غنيّ ولا فقير، زهد فيها وأعرض عنها، وأقبل على التزوّد للآخرة منها، ورغب في دار تنزّهت عن هذه الخصائص، وسلم أهلها من هذه النقائص، ولعلّ قائلاً يقول: ما نرى ناظراً فيها زهد في الدنيا، وأقبل على الآخرة ورغب في درجاتها العليا، فيا ليت شعري كم رأى هذا القائل قارئاً، للقرآن العزيز، وهو سيّد المواعظ وأفصح الكلام، يطلب به اليسير من هذا الحطام؟ فإنّ القلوب مولعة بحبّ العاجل.
ومنها التخلّق بالصبر والتأسّي وهما من محاسن الأخلاق، فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرَّم، ولا ملك معظّم، بل ولا أحد من البشر، علم أنه يصيبه ما أصابهم، وينوبه ما نابهم.
ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) ق:50 : 37، فإن ظنّ هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الحكايات والأسمار فقد تمسّك من أقوال الزيغ بمحكم سببها حيث قالوا: هذه أساطير الأوّلين اكتتبها. نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلباً عقولاً ولساناً وصادقاً، ويوفقنا للسداد في القول والعمل، هو حسبنا ونعم الوكيل.
☰ جدول المحتويات
- ذكر الوقت الذي ابتدئ فيه بعمل التاريخ في الإسلام
- القول في ابتداء الخلق وما كان أوله
- قصة إبليس لعنه الله وابتداء أمره وإطغائه آدم عليه السلام
- ذكر خلق آدم عليه السلام
- ذكر إسكان آدم الجنة وإخراجه منها
- ذكر اليوم الذي أسكن آدم فيه الجنة واليوم الذي أخرج فيه منها واليوم الذي تاب فيه==
- ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم وحواء من الأرض
- ذكر إخراج ذريّة آدم من ظهره وأخذ الميثاق
- ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم في الدنيا
- ذكر ولادة شيث
- ذكر وفاة آدم عليه السلام
- ذكر شيث بن آدم عليه السلام
- ذكر الأحداث التي كانت من لدن ملك شيث إلى أن ملك يرد
- ذكر الأحداث التي كانت في زمن نوح عليه السلام
- ذكر ذرية نوح عليه السلام
- ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام ومن كان في عصره من ملوك العجم
- ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه
- ذكر ولادة إسماعيل عليه السلام وحمله إلى مكة
- ذكر عمارة البيت الحرام بمكة
- ذكر قصة الذبح
- ذكر من قال إنه إسحاق
- ذكر من قال ان الذبيح إسماعيل عليه السلام
- ذكر السبب الذي من أجله أُمر إبراهيم بالذبح وصفة الذبح
- ذكر ما امتحن الله به إبراهيم عليه السلام
- ذكر عدو الله نمرود وهلاكه
- ذكر قصة لوط وقومه
- ذكر وفاة سارة زوج إبراهيم عليه السلام وذكر أولاده وأزواجه
- ذكر وفاة إبراهيم وعدد ما أنزل عليه
- ذكر خبر ولد إسماعيل بن إبراهيم
- ذكر إسحاق بن إبراهيم وأولاده
- قصّة أيوب عليه السلام
- ذكر قصة يوسف عليه السلام
- قصة شعيب عليه السلام
- قصة الخضر وخبره مع موسى
- ذكر الخبر عن منوجهر والحوادث في أيامه
- قصة موسى عليه السلام ونسبه وما كان في أيامه من الأحداث
- ذكر يوشع بن نون عليه السلام وفتح مدينة الجبارين
- ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهر
- ذكر ملك كيقباذ
- ذكر حال اشمويل وطالوت
- ذكر ملك داود
- ذكر ملك سليمان بن داود عليه السلام
- ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذ
- ذكر أمر بني إسرائيل بعد سليمان
- ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب وظهور زرادشت
- ذكر مسير بختنصّر إلى بني إسرائيل
- ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب
- ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس إلى أيام بهمن بن اسفنديار
- ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني
- ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين
- ذكر الإسكندر ذي القرنين
- ذكر من ملك من قومه بعد الاسكندر
- ذكر الأحداث أيام ملوك الطوائف فمن ذلك ذكر المسيح عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام
- ذكر من ملك من الروم بعد رفع المسيح إلى عهد نبيّنا محمد ﷺ
- ذكر وصول قبائل العرب إلى العراق ونزولهم الحيرة
- ذكر طسم وجديس وكانوا أيّام ملوك الطوائف
- ذكر أصحاب الكهف وكانوا أيام ملوك الطوائف
- ذكر يونس بن متى
- ومما كان من الاحداث أيام ملوك الطوائف
- ومما كان من الأحداث شمسون
- ومما كان من الأحداث أيضاً جرجيس
- ذكر خالد بن سنان العبسي
- ذكر طبقات ملوك الفرس
- ذكر أخبار أردشير بن بابك وملوك الفرس
- ذكر ملك سابور بن أردشير بن بابك
- ذكر خبر مدينة الحضر
- ذكر ملك ابنه هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك
- ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور
- ذكر ملك نرسي بن بهرام
- ذكر ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز
- ذكر ملك ابنه سابور ذي الأكتاف
- سبب تنصر قسطنطين
- ذكر ملك أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن سابور بن أردشير بن بابك أخي سابور
- ذكر ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف
- ذكر ملك أخيه بهرام بن سابور ذي الأكتاف
- ذكر ملك يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف
- ذكر ملك بهرام بن يزدجرد الأثيم
- ذكر ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور
- ذكر ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام بعد أن قتل أخاه هرمز وثلاثة من أهل بيته
- ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروز
- ذكر ملك بلاش بن فيروز بن يزدجرد
- ذكر ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد !
- ذكر حوادث العرب أيام قباذ
- ذكر ملك لختيعة
- ذكر ملك ذي نواس وقصة أصحاب الأخدود
- ذكر ملك الحبشة اليمن
- ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذ
- ذكر ملك كسرى بلاد الروم
- ذكر ما فعله أنوشروان بأرمينية وأذربيجان
- ذكر أمر الفيل
ذكر الوقت الذي ابتدئ فيه بعمل التاريخ في الإسلام
قيل: لما قدم رسول الله، ﷺ، المدينة أمر بعمل التاريخ، والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ. وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنّه يزتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرّخْ لمبعث النبيّ، ﷺ، وقال بعضهم: لمهاجرة رسول الله ﷺ، فقال عمر: بل نؤرخ لمهاجرة رسول الله، فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل؛ قاله الشعبيّ.
وقال ميمون بن مهران: رفع إلى عمر صكّ محلّه شعبان فقال: أيّ شعبان؟ أشعبان الذي هو آتٍ أم شعبان الذي نحن فيه؟ ثمّ قال لأصحاب رسول الله، ﷺ: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا علي تاريخ الروم فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين، فقال: هذا يطول، فقال: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلّما قام ملك طرح تاريخ من كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة، فوجدوه عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة رسول الله، ﷺ.
وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرّخوا، فقال عمر: ما أرّخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر: حسن، فأرّخوا، فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثمّ قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام، فأجمعوا عليه. وقال سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فقال: من أيّ يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ: من مهاجرة رسول الله، ﷺ، وفراقه أرض الشرك، ففعله عمر.
وقال عمرو بن دينار: أوّل من أرّخ يعلى بن أميّة وهو باليمن.
وأمّا قبل الإسلام فقد كان بنو إبراهيم يؤرخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه إبراهيم واسماعيل، عليهما السلام، ثمّ أرّخ بنو إسماعيل من بنيان البيت حتى تفرقوا، فكان كلّما خرج قومٌ من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة بني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي وأرّخوا من موته إلى الفيل، ثمّ كان التاريخ من الفيل حتى أرّخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة.
وقد كان كلّ طائفة من العرب تؤرّخ بالحادثات المشهورة فيها، ولم يكن لهم تاريخ يجمعهم، فمن ذلك قول بعضهم:
ها أنا ذا آمل الخلود وقـد.........أدرك عقلي مولدي حجرا
وقال الجعديّ:
فمن يك سائلاً عني فإني.......من الشبّان أيّام الختـان
وقال آخر:
وما هي إلاّ في إزار وعلـقة........بغار ابن همّام على حيّ خثعما
وكلّ واحد أرّخ بحادث مشهور عندهم، فلو كان لهم تاريخ يجمعهم لم يختلفوا في التاريخ، واللّه أعلم.
القول في الزمان
الزمانُ عبارة عن ساعات الليل والنهار، وقد يقال ذلك للطويل والقصير منهما، والعرب تقول: أتيتك زمان الصّرام؛ وزمان الصّرام يعني به وقت الصّرام، وكذلك: أتيتك أزمان الحجّاج أمير، ويجمعون الزمان يريدون بذلك أنّ كلّ وقت من أوقات إمارته زمن من الأزمنة.
القول في جميع الزمان من أوله إلى آخره
اختلف الناس في ذلك فقال ابن عبّاس من رواية سعيد بن جبير عنه: سبعة آلاف سنة.
وقال وهب بن منبّه: ستة آلاف سنة، قال أبو جعفر: والصحيح من ذلك ما دلّ على صحته الخبرُ الذي رواه ابن عمر عن النبيّ، ﷺ، أنه قال: (أجلكم في أجل من قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس).
وروى نحو هذا المعنى أنس وأبو سعيد إلاّ أنهما قالا إنه قال: إلى غروب الشمس، وبدل صلاة العصر: بعد العصر، وروى أبو هريرة عن البنيّ، ﷺ، أنه قال: (بُعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بالسبابة والوسطى.
وروى نحوه جابر بن سمرة، وأنس، وسهل بن سعد، وبريدة بن الحصيب، والمستورد بن شدّاد، وأشياخ من الأنصار كلهم عن النبي، ﷺ. وهذه أخبار صحيحة.
قال: وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة من لدن خلق آدم إلى الهجرة أربعة آلاف سنة وست مئة واثنتان وأربعون سنة. وقالت اليوناينة من النصارى: إن من خلق آدم إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسع مئة واثنتين وتسعين سنة وشهراً. وزعم قائل أن اليهود إنما نقصوا من السنين دفعاً منهم لنبوة عيسى، إذ كانت صفته ومبعثه في التوراة، وقالوا: لم يأت الوقت الذي في التوراة أن عيسى يكون فيه، فهم ينتظرون بزعمهم خروجه ووقته.
قال: وأحسب أن الذي ينتظرونه ويدّعون صفته في التوراة هو الدجال.
وقالت المجوس: إن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرث إلى وقت الهجرة ثلاثة آلاف ومائة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك شيئاً يُعرف فوق جيومرث ويزعمون أنّه هو آدم.
وأهل الأخبار مختلفون فيه، فمن قائل مثل قول المجوس، ومن قائل: إنه يسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة وإنه حام بن يافث بن نوح، وكان بارّاً بنوح، فدعا له ولذريته بطول العمر، والتمكين في البلاد، واتصال الملك، فاستجيب له، فملك جيومرث وولده الفرس، ولم يزل الملك فيهم إلى أن دخل المسلمون المدائن وغلبوهم على ملكهم، ومن قائل غير ذلك؛ كذا قال أبو جعفر.
قلت: ثمّ ذكر أبو جعفر بعد هذا فصولاً تتضمّن الدلالة على حدوث الأزمان والأوقات، وهل خلق الله قبل خلق الزمان شيئاً أم لا؟ وعلى فناء العالم وأن لا يبقى إلاّ الله تعالى، وأنّه أحدث كلّ شيء، واستدلّ على ذلك بأشياء يطول ذكرها ولا يليق ذلك بالتواريخ لا سيما المختصرات منه، فإنه بعلم الأصول أولى، وقد فرغ المتكلّمون منه في كتبهم فرأينا تركه أولى.
بُرَيْدَة: بضم الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخرها هاء.
القول في ابتداء الخلق وما كان أوله
صحّ في الخبر عن رسول الله، ﷺ، فيما رواه عنه عبادة بن الصامت أنّه سمعه يقول: (إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم، وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن)، وروي نحو ذلك عن ابن عباس.
وقال محمد بن اسحاق: أول ما خلق الله النور والظلمة، فجعل الظلمة ليلاً أسود، وجعل النور نهاراً أبيض مضيئاً، والأول أصحّ للحديث، وابن اسحاق لم يسند قوله إلى أحد.
واعترض أبو جعفر علي نفسه بما روى سفيان عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عبّاس أنّه قال: إن اللّه تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فكان أوّل ما خلق اللّه القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ وأجاب بأن هذا الحديث إن كان صحيحاً فقد رواه شعبة أيضاً عن أبي هاشم ولم يقل فيه: إن الله كان على عرشه، بل روى أنّه قال: أوّل ما خلق الله القلم.
القول فيما خُلِق بعد القلم
ثمّ إنّ الله خلق، بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، سحاباً رقيقاً، وهو الغمام الذي قال فيه النبيّ، ﷺ، وقد سأله أبو رزين العقيلي: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: في غمام ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثمّ خلق عرشه على الماء، وهو الغمام الذي ذكره الله في قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) قلت: هذا فيه نظر، لأنه قد تقدم أن أوّل ما خلق الله تعالى القلم وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة، ثمّ ذكر ي أوّل هذا الفصل أن الله خلق بعد القلم وبعد أن جرى بما هو كائن سحاباً، ومن المعلوم أن الكتابة لا بدّ فيها من آلة يُكتبُ بها، وهو القلم، ومن شيء يكتب فيه، وهو الذي يعبّر عنه ههنا باللوح المحفوظ، وكان ينبغي زن يذكر اللوح المحفوظ ثانياً للقلم، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ترك ذكره لزنه معلوم من مفهوم اللفظ بطريق الملازمة. ثمّ اختلف العلماء فيمن خلق الله بعد الغمام، فروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عبّاس: أول ما خلق الله العرش، فاستوى عليه، وقال آخرون: خلق الله الماء قبل العرش، وخلق العرش فوضعه على الماء؛ وهو قول أبي صالح عن ابن عباس، وقول ابن مسعود، ووهب بن منبه.
وقد قيل: إن الذي خلق الله تعالى بعد القلم الكرسي، ثم العرش، ثم الهواء، ثم الظلمات، ثم الماء فوضع العرش عليه.
قال: وقول من قال: إن الماء خلق قبل العرش، أولي بالصواب لحديث أبي رزين عن النبي، ﷺ، وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق العرش؛ قاله سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، فإن كان كذلك فقد خلقا قبل العرش.
وقال غيره: إن الله خلق القلم قبل أن يخلق شيئاً بألف عام.
واختلفوا أيضاً في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق السموات والأرض، فقال عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد: ابتداء الخلق يوم الأحد. وقال محمد بن اسحاق: ابتداء الخلق يوم السبت، وكذلك قال أبو هريرة.
واختلفوا أيضاً فيما خَلَقَ كلّ يوم، فقال عبد الله بن سلام: إن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين يوم الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس والجمعة، ففرغ آخر ساعة من الجمعة فخلق فيها آدم، عليه السلام، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
ومثله قال ابن مسعود وابن عبّاس من رواية أبي صالح عنه، إلاّ أنّهما لم يذكرا خلق آدم ولا الساعة.
وقال ابن عبّاس من رواية عليّ بن أبي طلحة عنه: إنّ الله تعالى خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها، ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) النازعات: 79 : 30 وهذا القول عندي هو الصواب.
وقال ابن عبّاس أيضاً من رواية عكرمة عنه: إنّ الله تعالى وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثمّ دُحيت الأرض من تحت البيت، ومثله قال ابن عمر.
وروى السّديّ عن أبي صالح، وعن أبي مالك عن ابن عبّاس، وعن مُرّة الهمداني وعن ابن مسعود في قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات) البقرة: 2 : 29، قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسمّاه سماءً، ثمّ أيبس الماء فجعله أرضاً واحدةً، ثمّ فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين: يوم الأحد ويوم الأثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوت النون الذي ذكره الله تعالى في القرآن في قوله: (ن والقلم) القلم:68 : 1، والحوت في الماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوتُ، فاضطربت وتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، والجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم)، قال ابن عباس والضحاك ومجاهد وكعب وغيرهم: كل يوم من هذه الأيام الستة التي خلق الله فيها السماء والأرض كألف سنة.
قلت: أما ما ورد في هذه الأخبار من أن الله تعالى خلق الأرض في يوم كذا والسماء في يوم كذا، فإنما هو مجاز، وإلا فلم يكن ذلك الوقت أيام وليال، لأن الأيام عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها، والليالي عبارة عما بين غروبها وطلوعها، ولم يكن ذلك الوقت سماء ولا شمس، وإنما المراد به أنه خلق كل شيء بمقدار يوم، كقوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشيّاً) مريم: 19 : 62 وليس في الجنة بكرة وعشىً.
سلام: والدُ عبد الله، بتخفيف اللام.
القول في الليل والنهار أيّهما خلق قبل صاحبه
قد ذكرنا ما خلق الله تعالى من الأشياء قبل خلق الأوقات، وأن الأزمنة والأوقات إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك.
فلنذكر الآن بأيّ ذلك كان الابتداء، أبالليل أم بالنهار؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فإن بعضهم يقول: إنّ الليل خُلق قبل النهار؛ ويستدلّ على ذلك بأن النهار من نور الشمس فإذا غابت الشمس جاء الليل فبان بذلك أن النهار، وهو النور، وارد على الظلمة التي هي الليل، وإذا لم يرد نور الشمس كان الليل ثابتاً، فدّلّ ذلك على أنّ الليل هو الأوّل؛ وهذا قول ابن عباس.
وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستدلّوا بأن الله تعالى كان ولا شيء معه، ولا ليل ولا نهار، وأن نوره كان يضيءُ به كل شيء خلقه حتى خلق الليل. قال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليلٌ ولا نهار، نور السموات من نور وجهه.
قال أبو جعفر: والأوّل أولى بالصواب للعلة المذكورة أوّلاً، ولقوله تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها) 79 : 27 - 29 فبدأ بالليل قبل النهار.
قال عبيد بن عمير الحارثي: كنت عند عليّ فسأله ابن الكوّاء عن السواد الذي في القمر فقال: ذلك آية محيت، وقال ابن عباس مثله، وكذلك قال مجاهد وقتادة وغيرهما، لذلك خلقهما الله تعالى الشمس أنور من القمر.
قلت: وروى أبو جعفر ههنا حديثاً طويلاً عدة أوراق عن ابن عبّاس عن النبي، ﷺ، في خلق الشمس والقمر وسيرهما، فإنهما على عجلتين، لكل عجلة ثلاث مئة وستون عروة، يجرها بعددها من الملائكة، وإنهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء والأرض، فذلك كسوفهما، ثم إن الملائكة يخرجونهما فذلك تجليتهما من الكسوف، وذكر الكواكب وسيرها، وطلوع الشمس من مغربها، ثم ذكر مدينة بالمغرب تسمى جابرس وأخرى بالمشرق تسمّى جابلق ولكلّ واحدة منهما، عشرة آلاف باب يحرس كلّ باب منها عشرة آلاف رجل، لا تعود الحراسة إليهم إلى يوم القيامة.
وذكر يأجوج ومأجوج ومنسك وثاريس، إلى أشياء أخرى لا حاجة إلى ذكرها، فأعرضت عنها لمنافاتها العقول، ولو صحّ إسنادها لذكرناها وقلنا به، ولكن الحديث غير صحيح، ومثل هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف.
وإذ كنّا قد بيّنا مقدار مدة ما بين أوّل ابتداء الله، عز وجل، في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعه من سني الدنيا ومدة أزمانها، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينّا أنّا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة، والعاصية ربّها والمطيعة ربها، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنّا قد أتينا على ذكر ما تصحّ به التأريخات وتُعرف به الأوقات وهو الشمس والقمر، فلنذكر الآن أوّل من أعطاه الله تعالى ملكاً وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيّته واستكبر، فسلبه الله نعمته وأخزاه وأذله، ثمّ نتبعه ذكر من استن سنته واقتفى أثره وأحلّ الله به نقمته، ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها ومن الرسل والأنبياء، إن شاء الله تعالى.
قصة إبليس لعنه الله وابتداء أمره وإطغائه آدم عليه السلام
فأوّلهم وإمامهم ورئيسهم إبليس، وكان الله تعالى قد حسّن خلقه وشرّفه وملّكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر، وجعله مع ذلك خازناً من خُزّان الجنّة، فاستكبر على ربّه، وادّعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطاناً رجيماً، وشوّه خلقه، وسلبه ما كان خوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثمّ جعل مسكنه ومسكن أتباعه في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله تعالى من نار جهنم ونعوذ بالله تعالى من غضبه ومن الحور بعد الكور.
ونبدأ بذكر الأخبار عن السلف بما كان الله أعطاه من الكرامة وبادعائه ما لم يكن له، ونتبع ذلك بذكر أحداث في سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه والسبب الذي به زال عنه، إن شاء الله تعالى.
ذكر الأخبار بما كان لإبليس لعنه الله من الملك وذكر الأحداث في ملكه
روي عن ابن عباس وابن مسعود أن إبليس كان له ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجنّ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، قال ابن عبّاس: ثم إنه عصى الله تعالى فمسخه شيطاناً رجيماً.
وروي عن قتادة في قوله تعالى: (ومن يقل منهم إني إله من دونه) الأنبياء: 21 : 29 إنما كانت هذه الآية في إبليس خاصة لما قال ما قال لعنه الله تعالى وجعله شيطاناً رجيماً، وقال: (فذلك نجزيه جهنَّم، كذلك نجزي الظالمين) وروي عن ابن جريح مثله.
وأما الأحداث التي كانت في ملكه وسلطانه فمنها ما روي عن الضحّاك عن ان عبّاس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان خازناً من خزّان الجنة، قال: وخُلقت الملائكة من نور، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت، وخلق الإنسان من طين، فأوّل من سكن في الأرض الجن، فاقتتلوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله تعالى إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحيّ الذين يقال لهم الجن، فقاتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلمّا فعل ذلك اغترّ في نفسه وقال: قد صنعتُ ما لم يصنعه أحد، فاطّلع الله تعالى على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه أحد من الملائكة الذين معه.
وروي عن أنس نحوه.
وروى أبو صالح عن ابن عبّاس ومُرّة الهمداني عن ابن مسعود أنهما قالا: لما فرغ الله تعالى من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجن لأنهم من خزنة الجنّة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في نفسه كبر وقال: ما أعطاني الله تعالى هذا الأمر إلاّ لمزية لي على الملائكة، فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فدعاه ذلك إلى الكبر، وهذا قولٌ ثالث في سبب كبره.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله تعالى خلق خلقاً، فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم ناراً فأحرقتهم؛ ثمّ خلق خلقاً آخر، فقال: إني خالق بشراً من طين، فاسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله تعالى عليهم ناراً فأحرقتهم، ثمّ خلق هؤلاء الملائكة فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين لم يسجدوا.
وقال شهر بن حوشب: إن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض وطردهم الملائكة، وأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، وروي عن سعيد بن مسعود نحو ذلك.
وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كما قال الله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف: 18 : 50 وجائز أن يكون فسوقه من إعجابه بنفسه لكثرة عبادته واجتهاده، وجائز أن يكون لكونه من الجن.
ومرّة الهمداني، بسكون الميم، والدال المهملة، نسبة إلى همدان: قبيلة كبيرة من اليمن.
ذكر خلق آدم عليه السلام
ومن الأحاديث في سلطانه خلق أبينا آدم عليه السلام، وذلك لما أراد الله تعالى أن يطلع ملائكته على ما علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة حتى دنا أمره من البوار وملكه من الزوال فقال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) البقرة: روي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك للذي كانوا عهدوا من أمره وأمر الجنّ الذين كانوا سُكان الأرض قبل ذلك فقالوا لربهم تعالى: أتجعل فيها من يكون مثل الجن الذين كانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون ويعصونك ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فقال الله لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) يعني من انطواء إبليس على الكبر والعزم على خلاف أمري واغتراره، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروه عياناً، فلما أراد الله أن يخلق آدم أمر جبرائيل أن يأتيه بطين من الأرض، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني وتشينني، فرجع ولم يأخذ منها شيئاً وقال: يا ربّ إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل، فاستعاذت منه فأعاذها، فرجع وقال مثل جبرائيل، فبعث إليها ملك الموت فعاذت منه، فقال: أنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمر ربي، فأخذ من وجه الأرض فخلطه ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء وطيناً لازباً، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.
وروى أبو موسى عن النبي، ﷺ، أنه قال: (إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيّب)، ثم بلّت طينته حتى صارت طيناً لازباً ثم تركت حتى صارت حمأً مسنوناً ثم تركت حتى صارت صلصالاً، كما قال ربّنا، تبارك وتعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)، الحجر:15 : 26 واللازب: الطين الملتزب بعضه ببعض، ثمّ تُرك حتى تغيّر وأنتن وصار حمأً مسنوناً، يعني منتناً، ثمّ صار صلصالاً، وهو الذي له صوت.
وإنما سمّي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، قال ابن عباس: أمر الله بتربة آدم فرفعت، فخلق ادم من طين لازب من حمأ مسنون، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التزاب فخلق منه آدم بيده لئلا يتكبّر إبليس عن السجود له، قال: فمكث أربعين ليلة، وقيل: أربعين سنة، جسداً ملقىً، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، أي يصوِّت، قال: فهو قول الله تعالى: (من صلصال كالفخار) الرحمن: 55 : 14، يقول: منتن كالمنفوخ الذي ليس بمصمت، ثم يدخل من فيه فيخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت عليّ لأعصينك، فكانت الملائكة تمرّ به فتخافه، وكان إبليس أشدّهم منه خوفاً.
فلما بلغ الحين الذي أراد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر: 15 : 29؛ فلما نفخ الروح فيه دخلت من قبل رأسه، وكان لا يجري شيء من الروح في جسده إلا صار لحماً، فلما دخلت الروح رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، وقيل: بل ألهمه الله التحميد فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال الله له: رحمك ربك يا آدم، فلما دخلت الروح عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما بلغت جفوه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فلذلك يقول الله تعالى: (خلق الإنسان من عجل) الأنبياء: 21 : 37، فسجد له الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين، فقال الله له: يا إبليس ما منعك أن تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، فلم يسجد كبراً وبغياً وحسداً، فقال الله له: (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)، إلى قوله: (لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) ص: 38 : 75 - 58، فلما فرغ من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع عليه اللعنة وأيأسه من رحمته وجعله شيطاناً رجيماً وأخرجه من الجنة. قال الشعبيّ: أُنزل إبليس مشتمل الصّمّاء عليه عمامة أعور في إحدى رجليه نعل.
وقال حميد بن هلال: نزل إبليس مختصراً فلذلك كره الاختصار في الصلاة، ولما أنزل قال: يا ربّ أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإنني لا أقوى عليه إلا بسلطانك، قال: فأنت مسلّط، قال: زدني، قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله، قال: زدني، قال: صدورهم مساكن لك وتجري منهم مجرى الدم، قال: زدني، قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم.
قال آدم: يا ربّ قد أنظرته وسلّطته عليَّ وإنني لا أمتنع منه إلا بك، قال: لا يولد لك ولد إلا وكّلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال: يا ربّ زدني، قال: الحسنة بعشر أمثالها وأزيدها، والسيئة بواحدة وأمحوها، قال: يا ربّ زدني، قال: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) الزمر: 39 : 53، قال: يا رب زدني، قال: التوبة لا أمنعها من ولدك ما كانت فيهم الروح، قال: يا ربّ زدني، قال: أغفر ولا أبالي، قال: حسبي، ثمّ قال الله لآدم: إيتِ أولئك النفر من الملائكة فقل السلام عليكم، فأتاهم فسلّم عليهم، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، ثمّ رجع إلى ربّه فقال: هذه تحيّتك وتحيّة ذريتك بينهم.
فلمّا امتنع إبليس من السجود وظهر للملائكة ما كان مستتراً عنهم علّم الله آدم الأسماء كلها.
واختلف العلماء في الأسماء فقال الضحّاك عن ابن عباس: علمه الأسماء كلها التي تتعارف بها الناس: إنسان ودابّة وأرض وسهل وجبل وفرس وحمار وأشباه ذلك، حتى الفُسْوة والفُسَية، وقال مجاهد وسعيد بن جُبير مثله.
وقال ابن زيد: عُلّم أسماء ذرّيته، وقال الربيع: علم أسماء الملائكة خاصة، فلما علمها عرض الله أهل الأسماء على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) البقرة: 2 : 31 إني إن جعلت الخليفة منكم أطعتموني وقدّستموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك الدماء، فإنكم إن لم تعلموا أسماء هؤلاء وأنتم تشاهدونهم فبأن لا تعلموا ما يكون منكم ومن غيركم وهو مغيب عنكم أولى وأحرى، وهذا قول ابن مسعود ورواية أبي صالح عن ابن عباس.
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: لما أعلم الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه و(قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) البقرة: 1 : 30 و(قال: إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: 2 : 30، قالوا فيما بينهم: ليخلق ربّنا ما يشاء فلن يخلق خلقاً إلا كنا أكرم على الله منه وأعلم منه، فلمّا خلقه وأمرهم بالسجود له علموا أنّه خير منهم وأكرم على الله منهم، فقالوا: إن يكُ خيراً منّا وأكرم على الله منا فنحن أعلم منه، فلمّا أعجبوا بعلمهم ابتلوا بأن علمه الأسماء كلها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)، البقرة:2 : 31 إني لا أخلق أكرم منكم ولا أعلم منكم، ففزعوا إلى التوبة، وإليها يفزع كل مؤمن، ف (قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) البقرة: 2 : 32، قالا: وعلمه اسم كل شيء من هذه: الخيل والبغال والإبل والجن والوحش وكل شيء.
ذكر إسكان آدم الجنة وإخراجه منها
فلما ظهر للملائكة من معصية إبليس وطغيانه ما كان مستتراً عنهم وعاتبه الله على معصيته بتركه السجود لآدم فأصرّ على معصيته وأقام على غيّه لعنه الله وأخرجه من الجنة وطرده منها وسلبه ما كان إليه من ملك سماء الدنيا والأرض وخزن الجنّة، فقال الله له: (اخرج منها - يعني من الجنة - فإنّك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) ص: 38 : 77 - 78؛ وأسكن آدم الجنة.
قال ابن عباس وابن مسعود: فلما أسكن آدم الجنة كان يمشي فيها فرداً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة واستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، قالت له الملائكة لينظروا مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، وقال الله له: (يا ادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما) البقرة: 2 : 35.
وقال ابن اسحاق فيما بلغه عن أهل الكتاب وغيرهم، منهم عبد الله بن عباس قال: ألقى الله تعالى على آدم النوم وأخذ ضلعاً من أضلاعه من شقّه الأيسر ولأم مكانه لحماً وخلق منه حواً، وآدم نائم، فلمّا استيقظ رآها إلى جنبه فقال: لحمي ودمي وروحي، فسكن إليها، فلما زوجه الله تعالى وجعل له سكناً من نفسه قال له: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة: 2 : 35.
وعن مجاهد وقتادة مثله: فلمّا أسكن الله آدم وزوجته الجنة أطلق لهما أن يأكلا كلّ ما أرادا من كل ثمارها غير ثمرة شجرة واحدة، ابتلاءً منه لهما وليمضي قضاؤه فيهما وفي ذريتهما، فوسوس لهما الشيطان، وكان سبب وصوله إليهما أنه أراد دخول الجنة فمنعته الخزنة، فأتى كلّ دابة من دواب الأرض وعرض نفسه عليها أنها تحمله حتى يدخل الجنة لكلّم آدم وزوجته، فكلّ الدواب أبى عليه حتى أتى الحية، وقال لها: أمنعك من ابن آدم فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني، فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، وكانت كاسية على أرع قوائم من أحسن دابّة خلقها الله كأنها بختيّة، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها.
قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها واخفروا ذمّة عدوّ الله فيها.
فلمّا دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فيها فناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس لهما وقال: (يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه:120 (وقال: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) الأعراف: 7 : 20، أن تكونا ملكين، أو تخلدان إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة، يقول الله تعالى: (فدلاهما بغرور) الأعراف: 7 : 22، وكان انفعال حواء لوسوسته أعظم، فدعاها آدم لحاجته، فقالت: لا إلا أن تأتي ها هنا، فلما أتى قالت: لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة، وهي الحنطة، قال: فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما، وكان لباسهما الظفر، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، قيل: كان ورق التين، وكانت الشجرة من أكل منها أحدث، وذهب آدم هارباً في الجنة، فناداه ربّه: أن يا آدم مني تفرّ؟ قال: لا ياربّ ولكن حياء منك، فقال: يا آدم من أين أتين؟ قال: من قبل حواء يا رب، فقال الله: فإن لها عليّ أن أدميها في كل شهر وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً وتشرف على الموت مراراً، قد كنت جعلتها تحمل يسراً وتضع يسراً، ولوا بليّتها لكان النساء لا يحضن، ولَكُنّ حليمات ولكن يحملن يسراً ويضعن يسراً، وقال الله تعالى له: لألعنن الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول بها ثمارها شوكاً، ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة أفضل من الطلح والسدر.
وقال للحيّة: دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنةً يتحوّل بها قوائمك في بطنك ولا يكون لك رزق إلا التراب، أنت عدوّة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت واحداً منهم أخذت بعقبه وحيث لقيك شدخ رأسك، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ آدم وإبليس والحيّة، فأهبطهم إلى الأرض، وسلب الله آدم وحواء كلّ ما كانا فيه من النعمة والكرامة.
قيل: كان سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن سقته حوّاء الخمر حتى سكر فلمّا سكر قادته إليها فأكل.
قلت: والعجب من سعيد كيف يقول هذا والله يقول في صفة خمر الجنة (لا فيها غول) الصافات: 37 : 47.
ذكر اليوم الذي أسكن آدم فيه الجنة واليوم الذي أخرج فيه منها واليوم الذي تاب فيه==
روى أبو هريرة عن النبيّ، ﷺ، قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة يقلّلها لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إيّاه، قال عبد الله بن سلام: قد علمتُ أيّ ساعة هي، هي آخر ساعة من النهار.
وقال أبو العالية: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة منه، وأهبط إلى الأرض لتسع ساعات مضين من ذلك اليوم، وكان مكثه في الجنّة خمس ساعات منه، وقيل: كان مكثه ثلاث ساعات منه.
فإن كان قائل هذا القول أراد أنه سكن الفردوس لساعتين مضتا من يوم الجمعة من أيّام الدنيا التي هي على ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب لأن الأخبار كذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم بأن آدم خُلق آخر ساعة من اليوم السادس التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا، فمعلوم أن الساعة الواحدة من ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاماً من أعوامنا، وقد ذكرنا أنّ آدم بعد أن خمّر ربنا طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاماً، وذلك لا شكّ أنه عنى به أعوامنا، ثمّ بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره وأسكن الجنّة وأهبط إلى الأرض غير مستنكر أن يكون مقدار ذلك من سنينا قدر خمس وثلاثين سنة، وإن كان أراد أنّه سكن الجنّة لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا فقد قال غير الحقّ، لأنّ كل من له قول في ذلك من أهل العلم يقول إنّه نفخ فيه الروح آخر نهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس.
وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مكث آدم كان في الجنّة نصف يوم كان مقداره خمسمائة عام، وهذا أيضاً خلاف ما وردت به الأخبار عن النبي، ﷺ، وعن العلماء.
ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم وحواء من الأرض
قيل: ثمّ إن الله تعالى أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه، وهو يوم الجمعة، مع زوجته حوّاء من السماء، فقال عليّ وابن عباس وقتادة وأبو العالية: إنّه أهبط بالهند على جبل يقال له نود من أرض سرنديب، وحواء بجدّة، قال ابن عباس: فجاء في طلبها فكان كلّما وضع قدمه بموضع صار قرية، وما بين خطوتيه مفاوز، فسار حتى أتى جمعاً فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات فلذلك سميت عرفات، واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعاً، وأهبطت الحيّة بأصفهان، وإبليس بميسان، وقيل: أهبط آدم بالبرية، وإبليس بالأبلة.
قال أبو جعفر: وهذا ما لا يصول إلى معرفة صحته إلا بخبر يجيء مجيء الحجة، ولا نعلم خبراً في ذلك غير ما ورد في هبوط آدم بالهند، فإنّ ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام.
قال ابن عباس: فلما أهبط آدم على جبل نود كانت رجلاه تمسان الأرض ورأسه بالسماء يسمع تسبيح الملائكة، فكانت تهابه، فسألت الله أن ينقص من طوله فنقص طوله إلى ستين ذراعاً، فحزن آدم لما فاته من الأنس بأصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال: يا ربّ كنت جارك في دارك ليس لي ربّ غيرك أدخلتني جنّتك آكل منها حيث شئت وأسكن حيث شئت فأهبطتني إلى الجبل المقدس فكنت أسمع أصوات الملائكة وأجد ريح الجنة فحططتني إلى ستين ذراعاً، فقد انقطع عني الصوت والنظر وذهبت عني ريح الجنّة فأجابه الله تعالى: بمعصيتك يا ادم فعلت بك ذلك.
فلما رأى الله تعالي عريّ آدم وحواء أمره أن يذبح كبشاً من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل الله من الجنة، فأخذ كبشاً فذبحه وأخذ صوفه، فغزلته حواء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبّة ولحواء درعاً وخماراً فلبسا ذلك.
وقيل: أرسل إليهما ملكاً يعلمهما ما يلبسانه من جلود الضأن والأنعام، وقيل: كان ذلك لباس أولاده، وأمّا هو وحوّاد فكان لباسهما ما كانا خصفا من ورق الجنّة، فأوحى الله إلى آدم: إن لي حرماً حيال عرشي فانطلق وابن لي بيتاً فيه ثم حفّ به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي، فهنالك أتسجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي، فقال آدم: يا ربّ وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي إليه، فقيّض الله ملكاً فانطلق به نحو مكّة، وكان آدم إذا مرّ بروضة قال للملك: انزل بنا ها هنا، فيقول الملك: مكانك، حتى قدم مكّة، فكان كلّ مكان نزله آدم عمراناً وما عداه مفاوز، فبنى البيت من خمسة أجبل: من طور سينا، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده من حراء؛ فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات فزراه المناسك التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكّة فطاف بالبيت أسبوعاً، ثم رجع إلى الهند فمات على نود.
فعلى هذا القول أهبط حواء وآدم جميعاً، وإن آدم بنى البيت، وهذا خلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى منه: أنّ البيت أنزل من السماء. وقيل: حج آدم من الهند أربعين حجّة ماشياً، ولما نزل إلى الهند كان على رأسه إكليل من شجر الجنة، فلما وصل إلى الأرض يبس فتساقط ورقه فنبتت منهن أنواع الطيب بالهند، وقيل: بل الطيب من الورق الذي خصفه آدم وحواء عليهما.
وقيل: لما أمر بالخروج من الجنة جعل لا يمر بشجرة منها إلاّ أخذ منها غصناً فهبط وتلك الأغصان معه فكان أصل الطيب بالهند منها، وزوّده الله من ثمار الجنّة، فثمارنا هذه منها، غير أن هذه تتغيّر وتلك لا تتغيّر، وعلمه صنعة كلّ شيء، ونزل معه من طيب الجنة، والحجر الأسود، وكان أشدّ بياضاً من الثلج، وكان من ياقوت الجنة، ونزل معه عصا موسى، وهي من آس الجنّة ومن لبان، وأنز بعد ذلك العلاة والمطرقة والكلبتان.
وكان حسن الصورة لا يشبهه من ولده غير يوسف، وأنزل عليه جبرائيل بصرّة فيها حنطة، فقال آدم: ما هذا؟ قال: هذا الذي أخرجك من الجنة، فقال: ما أصنع به؟ فقال: انثره في الأرض، ففعل، فأنبته الله من ساعته، ثمّ حصده وجمعه وفركه وذرّاه وطحنه وعجنه وخبزه، كل ذلك بتعليم جبرائيل، وجمع له جبرائيل الحجر والحديد فقدحه فخرجت منه النار، وعلّمه جبرائيل صنعة الحديد والحراثة، وأنزل إليه ثوراً، فكان يحرث عليه، قيل هو الشقاء الذي ذكره الله تعالى بقوله: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) طه: 20 : 117.
ثم إن الله أنزل آدم من الجبل وملّكه الأرض وجميع ما عليها من الجن والدوابّ والطير وغير ذلك، فشكا إلى الله تعالى وقال: يا رب أما في هذه الأرض من يسبحك غيري؟ فقال الله تعالى: سأخرج من صلبك من يسبّحني ويحمدني، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري، وأجعل فيها بيتاً أختصه بكرامتي وأسمّيه بيتي وأجعله حرماً آمناً، فمن حرّمه بحُرمتي، فقد استوجب كرامتي، ومن أخاف أهله فيه فقد خفر ذمّتي وأباح حرمتي، أوّل بيت وضع للناس فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إليّ وزارني وضافني، ويحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وأن يسعف كلاً بحاجته؛ تعمره أنت يا آدم ما كنت حيّاً، ثمّ تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمّة بعد أمّة، ثمّ أمر آدم أن يأتي البيت الحرام، وكان قد أهبط من الجنّة ياقوتة واحدة، وقيل: درّة واحدة، وبقي كذلك حتى أغرق الله قوم نوح، عليه السلام، فرفع وبقي أساسه، فبوّأ الله لإبراهيم، عليه السلام، فبناه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وسار آدم إلى البيت ليحجّه ويتوب عنده، وكان قد بكى هو وحواء على خطيئتهما وما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً، ثم أكلا وشربا بعدها، ومكث آدم لم يقرب حوّاء مائة عام، فحج البيت وتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه، وهو قوله تعالى: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف: 7 : 23.
نود بضم النون، وسكون الواو، وآخره دال مهملة.
ذكر إخراج ذريّة آدم من ظهره وأخذ الميثاق
روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: أخذ الله الميثاق على ذرية آدم بنعمان من عرفة فأخرج من ظهره كل ذرية ذرأها إلى أن تقوم الساعة فنثرهم بين يديه كالذّرّ ثم كلمهم قبلاً وقال: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة) - إلى قوله - : (بما فعل المبطلون) الاعراف: 7 : 172 - 173. نعمان بفتح النون الأولى.
وقيل عن ابن عباس أيضاً: إنه أخذ عليهم الميثاق بدحنا، موضع، وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه إلى الأرض من السماء ثم مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذّرّ بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم: ادخلوا الجنّة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها كهيئة الذرّ سوداء، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي، فذلك حين يقول: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فأعطوه الميثاق، طائفة طائعين وطائفة على وجه التقيّة؟
ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم في الدنيا
وكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، وأهل العلم مختلفون في اسم قابيل، فبعضهم يقول: قين، وبعضهم يقول: قائين، وبعضهم يقول: قاين، وبعضهم يقول: قابيل.
واختلفوا أيضاً في سبب قتله، فقيل: كان سببه أن آدم كان يغشى حوّاء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل بن آدم وتوأمته فلم تجد عليهما وحماً ولا وصباً ولم تجد عليهما طلقاً حين ولدتهما ولم تر معهما دماً لطهر الجنّة، فلما أكلا من الشجرة وهبطا إلى الأرض فاطمأنا بها تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فودجت عليهما الوحم والوصب والطلق حين ولدتهما ورأت معهما الدم، وكانت حواء فيما يذكرون لا تحمل إلا توأماً ذكراً وأنثى، فولدت حواء لآدم أربعين ولداً لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطناً، وكان الولد منهم أي أخواته شاء تزوج إلا توأمته التي تولد معه، فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم وأمهم حوّاء، فأمر آدم ابنه قابيل أن ينكح توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح توأمة أخيه قابيل.
وقيل: بل كان آدم غائباً وكان لما أراد السير قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض فأبت، وللجبال فأبت، وقال لقابيل، فقال: نعم تذهب وترجع وستجد كما يسرك، فانطلق ادم فكان ما نذكره، وفيه قال الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب 33 : 73 فلما قال آدم لقابيل وهابيل في معنى نكاح أختيهما ما قال لهما سلم هابيل لذلك ورضي به، وأبى ذلك قابيل وكرهه تكرّهاً عن أخت هابيل ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنّة وهما من ولادة الأرض فأنا أحقّ بأختي.
وقال بعض أهل العلم: إن أخت قابيل كانت من أحسن الناس فضنّ بها على أخيه وأرادها لنفسه، وإنهما لم يكونا من ولادة الجنّة إنما كانا من ولادة الأرض، والله أعلم، فقال له أبوه آدم: يا بنيّ إنها لا تحلّ لك، فأبى أن يقبل ذلك من أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرّب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيّكما قبل الله قربانه فهو أحقّ بها، وكان قابيل على بذر الأرض وهابيل على رعاية الماشية، فقرّب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه، وقيل: قرب بقرةً، فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقبل القربان إذا قبله الله، فلمّا قبل الله قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله الله، فلمّا قبل الله قربان هابيل، وكان في ذلك القضاء له بأخت قابيل، غضب قابيل وغلب عليه الكبر واستحوذ عليه الشيطان وقال: لأقتلنّك حتى لا تنكح أختي، قال هابيل: (إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك) إلى قوله: فطوعت له نفسه قتل أخيه) المائدة 5 : 27 - 31، فاتبعه وهو في ماشيته فقتله، فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن فقال: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحقّ إذ قرّبا قرباناً قتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر)، إلى آخر القصة.
قال: فلمّآ قتله سقط في يده ولم يدر كيف يواريه، وذلك أنّه كان فيما يزعمون أوّل قتيل من بني آدم، (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليُريه كيف يواري سوأة أخيه، قال: يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي، فأصبح من النادمين) إلى قوله: (لمسرفون) المائدة: 5 : 32، فلمّا قتل أخاه قال الله تعالى: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قال: لا أدري، ما كنت عليه رقيباً فقال الله تعالى: إن صوت دم أخيك يناديني من الأرض الآن، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض، فقال قابيل: عظمت خطيئتي إن لم تغفرها.
قيل: كان قتله عند عقبة حراء، ثم نزل من الجبل آخذاً بيد أخته فهرب بها إلى عدن من اليمن.
قال ابن عباس: لما قتل أخاه أخذ بيد أخته ثم هبط بها من جبل نود إلى الحضيض، فقال له آدم: اذهب فلا تزال مرعوباً لا تأمن من تراه، فكان لا يمرّ به أحد من ولده إلاّ رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له، فقال للأعمى ابنه: هذا أبوك قابيل فارمه، فرمى الأعمى أباه قابيل فقتله، فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك فرفع الأعمى يده فلطم ابنه فمات، فقال: يا ويلتي قتلت أبي برميتي وابني بلطمتي.
ولما قتل هابيل كان عمره عشرين سنة، وكان لقابيل يوم قتله خمس وعشرون سنة.
وقال الحسن: كان الرجلان اللذان ذكرهما الله تعالى في القرآن بقوله: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) من بني إسرائيل، ولم يكونا من بني آدم لصلبه، وكان آدم أوّل من مات.
وقال أبو جعفر: الصحيح عندنا أنهما ابنا آدم لصلبه للحديث الصحيح عن النبي، ﷺ، أنه قال: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ منها، وذلك لأنه أوّل من سنّ القتل) فبان بهذا أنهما لصلب آدم، فإن القتل مازال بين بني آدم قبل بني إسرائيل، وفي هذا الحديث أنه أول من سنّ القتل، ومن الدليل على أنه مات من ذريّة آدم قبله ما ورد في تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ) إلى قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) الأعراف: 7 : 189.
عن ابن عبّاس وابن جبير والسّدّيّ وغيرهم قالوا: كانت حواء تلد لآدم فتعبّدهم، أي تسميهم عبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: لو سميتما بغير هذه الأسماء لعاش ولدكما، فولدت ولداً فسمته عبد الحارث، وهو اسم إبليس، فنزلت: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) الآيات، وقد روى هذا المعنى مرفوعاً.
قلت: إنما كان الله تعالى يميت أولادهم أولاً، وأحيا هذا المسمى بعبد الحارث امتحاناً واختباراً وإن كان الله تعالى يعلم الأشياء بغير امتحان ، لكن علماً لا يتعلّق به الثواب والعقاب.
ومن الدليل على أن القاتل والمقتول ابنا آدم لصلبه ما رواه العلماء عن علي بن أبي طالب أنّ آدم قال لما قتل هابيل.
تغيرت البلاد ومن عليهـا.......فوجه الأرض مغبرّ قبيح تغيّر كلّ ذي طعم ولـون........وقلّ بشاشة الوجه المليح
في أبيات غيرها. وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيومرث هو آدم، وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من حواء، وقالوا فيه أقوالاً كثيرة يطول بذكرها الكتاب إذ كان قصدنا ذكر الملوك وأيامهم، ولم يكن ذكر الاختلاف في نسب ملك من جنس ما أنشأنا له الكتاب، فإن ذكرنا من ذلك شيئاً فلتعريف من ذكرنا ليعرفه من لم يكن عارفاً به، وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنّه آدم، ووافق علماء الفرس على اسمه، وخالفهم في عينه وصفته فزعم أن جيومرث الذي زعمت الفرس أنه آدم إنما هو حام بن يافث بن نوح، وأنه كان معمّراً سيّداً نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان من أرض المشرق وتملك بها وبفارس وعظم أمره وأمر ولده حتى ملكوا بابل وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها، وابتنى جيومرث المدن والحصون وأعدّ السّلاح وأتخذ الخيل وتجبّر في آخر أمره وتسمى بآدم، وقال: من سمّاني بغيره قتلته، وتزوج ثلاثين امرأة، فكثر منهنّ نسله، وان ماري ابنه وماريانة أخته ممن كانا ولداً في آخر عمره، فأعجب بهما وقدّمهما، فصار الملوك من نسلهما.
قال أبو جعفر: وإنما ذكرت من أمر جيومرث في هذا الموضع ما ذكرتُ لأنّه لا تدافع بين علماء الأمم أنّه أبو الفرس من العجم، وإنما اختلفوا فيه هل هو آدم أبو البشر أم غيره على ما ذكرنا، ومع ذلك فلأنّ ملكه وملك أولاده لم يزل منتظماً على سياق متّصل بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل يزدجرد بن شهريار بمرور أيّام عثمان بن عفان، والتاريخ على أسماء ملوكهم أسهل بياناً وأقرب إلى التحقيق منه على أعمار ملوك غيرهم من الأمم، إذ لا يُعلم أمّة من الأمم الذين ينتسبون إلى آدم دامت لهم المملكة واتصل الملك لملوكهم يأخذه آخرهم عن أولهم وغابرهم عن سالفهم سواهم.
وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم وأعمار من بعده من ولده من الملوك والأنبياء وجيومرث أبي الفرس فأذكر ما اختلفوا فيه من أمرهم إلى الحال التي اجتمعوا عليها واتفقوا على ملك منهم في زمان بعينه أنه هو امللك في ذلك الزمان إن شاء الله.
وكان آدم مع ما أعطاه الله تعالى من ملك الأرض نبيّاً رسولاً إلى ولده، وأنزل الله عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم بيده علمّه إيّاها جبرائيل. روى أبو ذرّ عن النبي، ﷺ، أنه قال: (الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قال: قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جمّاً غفيراً، يعني كثيراً، طيّباً، قال: قلت: من أولهم؟ قال: آدم، قال: قلت: يا رسول الله وهو نبي مرسل؟ قال: نعم، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلاً، وكان ممن انزل عليه تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة.
ذكر ولادة شيث
ومن الأحداث في أيامه ولادة شيث، وكانت ولادته بعد مضيّ مائة وعشرين سنة لآدم، وبعد قتل هابيل بخمس سنين، وقيل: ولد فرداً بغير توأم، وتفسير شيث هبة الله، ومعناه أنه خلف من هابيل، وهو وصيّ آدم، وقال ابن عباس: كان معه توأم، ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى شيث وعلّمه ساعات الليل والنهار وعبادة الخلوة في كل ساعة منها وأعلمه بالطوفان، وصارت الرياسة بعد آدم إليه، وأنزل الله عليه خمسين صحيفة، وإليه أنساب بني آدم كلّهم اليوم. وأما الفرس الذين قالوا إن جيومرث هو آدم، فإنهم قالوا: ولد لجيومرث ابنته ميشان أخت ميشى، وتزوج ميشى أخته ميشان فولدت له سيامك وسيامي، وفولد لسيامك بن جيومرث افروال ودقس وبواسب واجرب واوراش، وأمهم جيمعاً سيامي ابنه ميشي، وهي أخت أبيهم؟، وذكروا أن الأرض كلها سبعة أقاليم، فأرض باب وما يوصل إليه مما يأتيه الناس براً وبحراً فهو من إقليم واحد وسكانُه ولد افروال بن سيامك وأعقابهم، فولد لافروال ابن سيامك من افرى ابنة سيامك أو شهنج بيشداد الملك، وهو الذي خلف جدّه جيومرث في الملك، وهو أول من جميع ملك الأقاليم السبعة، وسنذكر أخباره.
وكان بعضهم يزعم أن اوشهنج هذا هو ابن آدم لصلبه من حواء. وأما ابن الكلبي فإنه زعم أن أول من ملك الأرض أو شهنق بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال: والفرس تزعم أنه كان بعد آدم بمائتي سنة، وإنما كان بعد نوح بمائتي سنة، ولم تعرف الفرس ما كان قبل نوح. والذي ذكره هشام بن الكلبيّ لا وجه له، لاأن أوشهنج مشهور عند الفرس، وكل قوم أعلم بأنسابهم وأيامهم من غيرهم، قال: وقد زعم بعض نسّابة الفرس أن أوشهنج هذا هو مهلائيل، وأنّ أباه أفروال هو قينان، وأنّ سيامك هو أنوش أبو قينان، وأن ميشي هو شيث أبو أنوش، وأنّ جيومرث هو آدم، فإن كان الأمر كما زعم فلا شكّ أن أوشهنج كان في زمن آدم رجلاً، وذلك لأنّ مهلائيل فيما ذكر في الكتب الأولى كانت ولادة أمّه دينة ابنة براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم وأتاه بعدما مضى من عمر آدم ثلاثمائة سنة وخمس وتسعون سنة، وقد كان له حين وفاة أبيه آدم ستمائة سنة وخمس وستون سنة على حساب أن عمر آدم كان ألف سنة، وقد زعمت الفرس أن ملك أوشهنج كان أربعين سنة، فإن كان الأمر على ما ذكره النسّابة الذي ذكرت عنه ما ذكرت فيما يبعد من قال: إن ملكه كان بعد وفاة آدم بمائتي سنة.
ذكر وفاة آدم عليه السلام
ذكر أن آدم مرض أحد عشر يوماً وأوصي إلى ابنه شيث وأمره أن يخفي علمه عن قابيل وولده لأنه قتل هابيل حسداً منه له حين خصّه آدم بالعلم، فأخفى شيث وولده ما عندهم من العلم، ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به.
وقد روى أبو هريرة عن النبي، ﷺ، أنه قال: قال الله تعالى لآدم حين خلقه: إئتِ أولئك النفر من الملائكة قل السلام عليكم، فأتاهم فسلّم عليهم، وقالوا له: عليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربّه فقال له: هذه تحيّتك وتحية ذريتك بينهم، ثم قبض له يديه فقال له: خذ واختر، فقال: أحببت يمين ربي وكلتا يديه يمين، ففتحها له فإذا فيها صورة آدم وذريته كلهم، وإذا كل رجل منهم مكتوب عنده أجله، وإذا آدم قد كتب له عمر ألف سنة، وإذا كل رجل منهم مكتوب عنده أجله، وإذا آدم قد كتب له عمر ألف سنة، وإذا قوم عليهم النور، فقال: يا رب من هؤلاء الذين عليهم النور؟ فقال: هؤلاء الأنبياء والرسل الذين أرسلهم إلى عبادي، وإذا فيهم رجل هو من أضوئهم نوراً ولم يكتب له من العمر إلا أربعون سنة، فقال آدم: يا ربّ هذا من أضوئهم نوراً ولم تكتب له إلا أربعين سنة، بعد أن أعلمه أنه داود، عليه السلام، فقال: ذلك ما كتبت له، فقال: يا ربّ انقص له من عمري ستين سنة، فقال رسول الله، ﷺ، فلما أهبط إلى الأرض كان يعدّ أيّامه، فلما أتاه ملك الموت لقبضه قال له آدم: عجلت يا ملك الموت قد بقي من عمري ستون سنة، فقال له ملك الموت: ما بقي شيء، سألت ربّك أن يكتبه لابنك داود، فقال: ما فعلت فقال النبيّ، ﷺ: فنسي آدم فنسيت ذرّيته وجحد فجحدت ذرّيّته فحينئذٍ وضع الله الكتاب وأمر بالشهود.
وروي عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله، ﷺ: إنّ أول من جحد آدم ثلاث مرار، وإن الله لما خلقه مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرضهم على آدم فرأى منهم رجلاً يزهر، قال: أي ربّ أيّ بنيّ هذا؟ قال: ابنك داود، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: زده من العمر، قال الله تعالى: لا، إلا أن تزيده أنت، وكان عمر آدم ألف سنة، فوهب له أربعين سنة، فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم أتته الملائكة لتقبض روحه فقال: قد بقي من عمري أربعون سنة، قالوا: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلتُ ولا وهبتُ له شيئاً، فأنزل الله عليه الكتاب وأقام الملائكة شهوداً، فأكمل لآدم ألف سنة وأكمل لداود مائة سنة.
وروي مثل هذا عن جماعة، منهم سعيد بن جبير، وقال ابن عباس: كان عمر آدم تسعمائة سنة وستّاً وثلاثين سنة، وأهل التوراة يزعمون أن عمر آدم تسعمائة سنة وثلاثون سنة، والأخبار عن رسول الله والعلماء ما ذكرنا، ورسول الله، ﷺ، أعلم الخلق.
وعلى رواية أبي هريرة التي فيها أنّ آدم وهب داود من عمره ستين سنة لم يكن كثير اختلاف بين الحديثين وما في التوراة سوى ما وهبه لداود.
قال ابن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه قال: بلغني أن آدم حين مات بعث الله بكفنه وحنوطه من الجنّة ثمّ وليت الملائكة قبره ودفنه حتى غيّبوه. وروى أبي بن كعب عن النبي، ﷺ: (أن آدم حين حضرته الوفاة بعث الله إليه بحنوطه وكفنه من الجنّة، فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم، فقال: خلّي عني وعن رسل ربي، فما لقيت ما لقيت إلا منك، ولا أصابني ما أصابني إلا فيك، فلما قبض غسلوه بالسدر والماء وتراً وكفنوه في وتر من الثياب ثم لحدوا له ودفنوه، ثم قالوا: هذه سنّة ولد آدم من بعده). قال ابن عباس: لما مات آدم قال شيث لجبرائيل: صلّ عليه، فقال: تقدّمْ أنت فصلّ على أبيك، فكبّر عليه ثلاثين تكبيرة، فأمّا خمس فهي الصلاة، وأما خمس وعشرون فتفضيلاً لآدم. وقيل: دفن في غار في جبل أبي قبيس يقال له غار الكنز، وقال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة دفن آدم ببيت المقدس. وكانت وفاته يوم الجمعة، كما تقدّم، وذكر أن حوّاء عشات بعده سنة ثمّ ماتت فدفنت مع زوجها في الغار الذي ذكرت إلى وقت الطوفان، واستخرجهما نوح وجعلهما في تابوت ثم حملهما معه في السفينة، فلما غاضت الأرض الماء ردّهما إلى مكانهما الذي انا فيه قبل الطوفان، قال: وكانت حواء فيما ذكر قد غزلت ونسجت وعجنت وخبزت وعملت أعمال النساء كلها. وإذ قد فرغنا من ذكر آدم وعدوّه إبليس وذكر أخبارهما وما صنع الله بعدوّه إبليس حين تجبّر وتكبر من تعجيل العقوبة وطغى وبغى من الطرد والإبعاد والنظرة إلى يوم الدين، وما صنع بآدمٍ إذ أخطأ ونسي من تعجيل العقوبة له ثم تغمّده إيّاه بالرحمة إذ تاب من زلّته، فأرجع إلى ذكر قابيل وشيث ابني آدم وأولادهما، إن شاء الله.
ذكر شيث بن آدم عليه السلام
قد ذكرنا بعض أمره وأنه كان وصي آدم في مخلفيه بعد مضيّه لسبيله، وما أنزل الله عليه من الصحف، وقيل: إنه لم يزل مقيماً بمكّة يحج ويعتمر إلى أن مات، وإنه كان جمع ما أنزل عليه وعلى أبيه آدم من الصحف وعمل بما فيها؛ وإنه بنى الكعبة بالحجارة والطين.
وأما السلف من علمائنا فإنهم قالوا: لم تزل القبة التي جعل الله لآدم مكان البيت إلى أيام الطوفان فرفعها الله حين أرسل الطوفان، وقيل: إن شيثاً لما مرض أوصى إلى ابنه أنوش ومات فدفن مع أبويه بغار أي قبيس؛ وكانت وفاته وقد أتت عليه تسعمائة سنة واثنتا عشرة سنة، وقام أنوش بن شيث بعد موت أبيه بسياسة الملك وتدبير من تحت يديه من رعيّته مقام أبيه لا يوقف منه على تغيير ولا تبديل، فكان جميع عمر أنوش سبعمائة وخمس سنين، وكان مولده بعد أن مضى من عمر أبيه شيث ستمائة سنة وخمس سنين، وهذا قول أهل التوراة.
وقال ابن عباس: ولد لشيث أنوش وولد معه نفر كثير، وإليه أوصى شيث، ثم ولد لأنوش بن شيث ابنه قينان من أخته نعمة بنت شيث بعد مضيّ تسعين سنة من عمر أنوش وولد معه نفر كثير، وإليه الوصيّة، وولد قينان مهلائيل ونفراً كثيراً عنه، وإليه الوصيّة، وولد مهلائيل يرد، وهو اليارد، ونفراً معه، وإليه الوصيّة، فولد يرد حنوخ، وهو إدريس النبيّ، ونفراً معه، وإليه الوصية، وولد حنوخ متوشلخ ونفراً معه، وإليه الوصية.
وأما التوراة ففيها أن مهلائيل ولد بعد أن مضى من عمرآدم، عليه السلام، ثلاثمائة وخمس وتسعون سنة، ومن عمر قينان سبعون، وولد يرد لمهلائيل بعدما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة، فكان على منهاج أبيه، غير أن الأحداث بدأت في زمانه.
ذكر الأحداث التي كانت من لدن ملك شيث إلى أن ملك يرد
ذكر أن قابيل لما قتل هابيل وهرب من أبيه آدم إلى اليمن أتاه إبليس فقال له: إنّ هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها.
وقال ابن اسحاق: إن قيناً، وهو قابيل، نكح أخته أشوت بنت آدم فولدت له رجلاً وامرأة: خنوخ بن قين وعذب بنت قين، فنكح خوخ أخته عذب فولدت ثلاثة بنين وامرأة: غيرد ومحويل وزنوشيل وموليث ابنة خنوخ، فنكح أنوشيل بن خنوخ أخته موليث وولدت له رجلاً اسمه لامك، فنكح لامك امرأتين اسم إحداهما عدّى والأخرى صلّى، فولدت عدّى بولس بن لامك، فكان أول من سكن القباب واقتنى المال، وتوبلين فكان أول من ضرب بالونج والصنج، وولدت رجلاً اسمه توبلقين، وكان أول من عمل النحاس والحديد، وكان أولادهم فراعنة وجبابرة، وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق، قال: ثم انقرض ولد قين ولم يتركوا عقباً إلا قليلاً، وذرية آدم كلها جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم إلا ما كان من شيث، فمنه كان النسل، وأنساب الناس اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم، ولم يذكر ابن اسحاق من أمر قابيل وولده إلا ما حكيت.
وقال غيره من أهل التوراة: إن أول من اتخذ الملاهي من ولد قابيل رجل يقال له ثوبان بن قابيل، اتخذها في زمان مهلائيل بن قينان، اتخذ المزامير والطنابير والطبول والعيدان والمعازف، فانهمك ولد قابيل في اللهو، وتناهى خبرهم إلى من بالجبل من ولد شيث، فهم منهم مائة رجل بالنزول إليهم وبمخالفة ما أوصاهم به آباؤهم، وبلغ ذلك يارد فوعظهم ونهاهم فلم يقبلوا، ونزلوا إلى ولد قابيل فأعجبوا بما رأوا منهم، فلمّا أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من آبائهم، فلمّا أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوةٍ سبقت من آبائهم، فلما أبطأوا ظنّ من بالجبل ممن كان في نفسه زيغ أنهم أقاموا اغتباطاً، فتسلّلوا ينزلون من الجبل ورأوا اللهو فأعجبهم ووافقوا نساءً من ولد قابيل متشرّعات إليهم وصرن معهم وانهمكوا في الطغيان وفشت الفحشاء وشرب الخمر فيهم، وهذا القول غير بعيد من الحق، وذلك أنه قد روي عن جماعة من سلف علمائنا المسلمين نحو منه، وإن لم يكونوا بينوا زمان من حدث - ذلك في ملكه، إلا أنهم ذكروا أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح؛ منهم ابن عباس أو مثله، ومثله روى الحكم بن عتيبة عن أبيه مع اختلاف قريب من القولين، والله أعلم.
وأما نسّابو الفرس فقد ذكرت ما قالوا في مهلائيل بن قينان وأنه هو أوشهنج الذي ملك الأقاليم السبعة، وبينت قول من خالفهم، وقال هشام بن الكلبيّ: إنه أول من بني البناء واستخرج المعادن وأمر أهل زمانه باتخاذ المساجد، وبني مدينتين كانتا أول ما بني على ظهر الأرض من المدائن، وهما مدينة بابل، وهي بالعراق، ومدينة السوس بخوزستان، وكان ملكه أربعين سنة. وقال غيره: هو أوّل من استنبط الحديد وعمل منه الأدوات للصناعات وقدّر المياه في مواضع المنافع وحضّ الناس على الزراعة واعتماد الأعمال، وأمر بقتل السباع الضارية واتخاذ الملابس من جلودها والمفارش، وبذبح البقر والغنم والوحش وأكل لحومها، وإنه بنى مدينة الريّ، قالوا: وهي أول مدينة بنيت بعد مدينة جيومرث التي كان يسكنها بدنباوند، وقالوا: إنه أول من وضع الأحكام والحدود، وكان ملقبّاً بذلك يدعى بيشداد، ومعناه بالفارسية أول من حكم بالعدل، وذلك أن بيش معناه أول، وداد معناه عدل وقضى، وهو أول من استخدم الجواري وأوّل من قطع الشجر وجعله في البناء، وذكروا أنه نذل الهند وتنقل في البلاد وعقد على رأسه تاجاً، وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده ومنعهم الاختلاط بالناس وتوعدهم على ذلك وقتل مردتهم، فهربوا من خوفه إلى المفاوز والجبال، فلما مات عادوا.
وقيل: إنه سمى شرار الناس شياطين واستخدمهم، وملك الأقاليم كلّها، وإنه كان بين مولد أوشهنج وموت جيومرث مائتا سنة وثلاث وعشرون سنة. عتيبة بالعين، وبعدها تاء فوقها نقطتان، وياد تحتها نقطتان، وباء موحدة.
ذكر يرد
وقيل يارد بن مهلائيل أمّه خالته سمعن ابنة براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم، ولد بعدما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة، وفي أيامه عملت الأصنام وعاد من عاد عن الاسلام، ثم نكح يرد، في قول ابن اسحاق، وهو ابن مائة واثنتين وستين سنة، بركتا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له خنوخ، وهو إدريس النبيّ، فكان أول بني آدم أعطي النبّوة وخط بالقلم، وأول من نظر في علوم النجوم والحساب، وحكماء اليونانيين يسمونه هرمس الحكيم، وهو عظيم عندهم، فعاش يرد بعد مولد إدريس ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان عمره تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة، وقيل: أنزل على إدريس ثلاثون صحيفة، وهو أول من جاهد في سبيل الله وقطع الثياب وخاطها، وأوّل من سبى من ولد قابيل بن آدم فاسترقَّ منهم، وكان وصيّ والده يرد فيما كان آباؤه وصّوا به إليه وفيما أوصى بعضهم بعضاً، وتوفي آدم بعد أن مضى من عمر إدريس ثلاثمائة وثماني سنين، ودعا إدريس قومه وعظهم وأمرهم بطاعة الله تعالى ومعصية الشيطان وأن لا يلابسوا ولد قابيل، فلم يقبلوا منه.
قال: وفي التوراة أن الله رفع إدريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة من عمره، وبعد أن مضى من عمر أبيه خمسمائة سنة وسبع وعشرون سنة، فعاش أبوه بعد ارتفاعه أربعمائة وخمساً وثلاثين سنة تمام تسعمائة واثنتين وستين سنة.
قال النبي، ﷺ: يا أبا ذرّ من الرسل أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ، وهو أول من خط بالقلم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وقيل: إن الله أرسله إلى جميع أهل الأرض في زمانه، وجمع له علم الماضين وزاده ثلاثين صحيفة، وقال بعضهم: ملك بيوراسب في عهد إدريس، وكان قد وقع عليه من كلام آدم، فاتخذه سحراً، وكان بيوراسب يعمل به، يارد بياء معجمة باثنتين من تحتها، وراء مهملة، وذال معجمة، وحنوخ بحاء مهملة مفتوحة، ونون بعدها واو، وخاء معجمة، وقيل: بخائين معجمتين).
ذكر ملك طهمورث
زعمت الفرس أنه ملك بعد موت أوشهنج طهمورث بن ويونجهان، يعني خير أهل الأرض، ابن حبايداد بن أوشهنج، وقيل في نسبه غير ذلك، وزعم الفرس أيضاً أنه ملك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجاً، وكان محموداً في ملكه مشفقاً على رعيّته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها وتنقل في البلدان، وأنه وثب بإبليس حتى ركبه فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها، وأفزعه ومردته حتى تفرّقوا، وكان أوهل من اتخذ الصوف والشعر للّبس والفرش، وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وغيرها، وأخذ الجوارح للصيد، وكتب بالفارسية، وأنّ بيوراسب ظهر في أول سنة من ملكه ودعا إلى ملّة كذا قال أبو جعفر وغيره من العلماء: إنه ركب إبليس وطاف عليه، والعهدة عليهم، وإنما نحن نقلنا ما قالوه. قال ابن الكلبي: أول ملوك الأرض من بابل طهمورث، وكان لله مطيعاً، وكان ملكه أربعين سنة، وهو أوّل من كتب بالفارسية، وفي أيامه عبدت الأصنام، وأول ما عرف الصوم في ملكه، وسببه أن قوماً فقراء تعذّر عليهم القوت فأمسكوا نهاراً وأكلوا ليلاً ما يمسك رمقهم، ثم اعتقدوه تقرُّباً إلى الله وجاءت الشرائع به. ذكر خنوخ وهو إدريس عليه السلام
ثم نكح خنوخ بن يرد هدانة، ويقال اذانة، ابنة باوبل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمس وستين سنة، فولدت له متوشلخ بن خنوخ، فعاش بعدما ولد متوشلخ ثلاثمائة سنة، ثمّ رفع واستخلفه خنوخ على أمر ولده وأمر الله وأوصاه وأهل بيته قبل أن يرفع وأعلمهم أن الله سوف يعذب ولد قابيل ومن خالطهم، ونهاهم عن مخالطتهم، وإنه كان أوّل من ركب الخيل لأنه سلك رسم أبيه خنوخ في الجهاد، ثم نكح متوشلخ عربا ابنة عزازيل بن أنوشيل بن خنوخ بن قين، وهو ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة، فولدت له لمك بن متوشلخ، فعاش بعدما ولد له لمك سبع مائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كلُّ ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وسبعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى إلى ابنه لمك، فكان لمك يعظ قومه وينهاهم عن مخالطة ولد قابيل، فلم يقبلوا حتى نزل إليهم جميع من كان معهم في الجبل.
وقيل: كان لمتوشلخ ابن آخر غير لمك يقال له صابي، وبه سمي الصابئون.
قلت: محويل بحاء مهملة، وياء معجمة باثنتين من تحت، وقين بقاف، وياء معجمة باثنتين من تحت، ومتوشلخ بفتح الميم، وبالتاء المعجمة باثنتين من فوق، وبالشين المعجمة، وبحاء مهملة، وقيل خاء معجمة.
ونكح لمك بن متوشلخ قينوش ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين، وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة، فولدت له نوح بن لمك، وهو النبيّ، فعاش لمك بعد مولد نوح خمسمائة سنة وخمساً وتسعين سنة وولد له بنون بونات ثمّ مات، ونكح نوح بن لمك عزرة بنت براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين، وهو ابن خمسمائة سنة، فولدت له ولده ساماً وحاماً ويافث بني نوح، وكان مولد نوح بعد موت آدم بمائة سنة وستّ وعشرين سنة، ولما أدرك قال له أبوه لمك: قد علمت أنه لم يبق في هذا الجبل غيرنا فلا تستوحش ولا تتبع الأمّة الخاطئة، وكان نوح يدعو قومه ويعظهم فيستخفّون به.
وقيل: كان نوح في عهد بيوراسب وكانوا قومه فدعاهم إلى الله تسعمائة وخمسين سنة كلّما مضى قرن اتبعهم قرن على ملّة واحدة من الكفر حتى أنزل الله عليهم العذاب.
وقال ابن عبّاس فيما رواه ابن الكلبيّ عن أبي صالح عنه: فولد لمك نوحاً، وكان له يوم ولد نوح اثنتان وثمانون سنة، ولم يكن في ذلك الزمان أحد ينهى عن منكر، فبعث الله إليهم نوحاً وهو ابن أربع مائة وثمانين سنة فدعاهم مائة وعشرين سنة ثمّ أمره الله بصنعة الفلك فصنعها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ثمّ مكث من بعد السفينة ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
وروي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على ملّة الحقّ، وأن الكفر بالله حدث في القرن الذي بعث فيه إليهم نوح، فأرسله الله، وهو أوّل نبيّ بعث بالإنذار والدّعاء إلى التوحيد؛ وهو قول ابن عبّاس وقتادة.
ذكر ملك جمشيد
وأما علماء الفرس فإنهم قاولا: ملك بعد طهمورث جم شيد، والشيد عندهم الشعاع، وجم القمر، لقبوه بذلك لجماله، وهو جم بن ويونجهان، وهو أخو طهمورث، وقيل: إنه ملك الأقاليم السبعة وسخر له ما فيها من الجنّ والإنس، وعقد التاج على رأسه، وأمر لسنة مضت من ملكه إلى خمسين سنة بعمل السيوف والدروع وسائر الأسلحة والة الصنّاع من الحديد، ومن سنة خمسين من ملكه إلى سنة مائة بعمل الإبريسم وغزله والقطن والكتّان وكلّ ما يستطاع غزله وحياكة ذلك وصبغه ألواناً ولبسه، ومن سنة مائة إلى سنة خمسين ومائة صنف الناس أربع طبقات: طبقة مقاتلة، وطبقة فقهاء، وطبقة كتّاب وصنّاع، وطبقة حرّاثين، واتخذ منهم خدماً، ووضع لكل أمر خاتماً مخصوصاً به، فكتب على خاتم الحرب: الرفق والمداراة، وعلى خاتم الخراج: العمارة والعدل، وعلى خاتم البريد والرسل: الصدق والأمانة، وعلى خاتم المظالم: السياسة والانتصاف، وبقيت رسوم تلك الخواتيم حتى محاها الإسلام.
ومن سنة مائة وخمسين إلى سنة خمسين ومائتين حارب الشياطين وأذلهم وقهرهم وسخروا له، ومن سنة خمسين ومائتين إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة وكّل الشياطين بقطع الأحجار والصخور من الجبال وعمل الرخام والجصّ والكلس والبناء بذلك الحمّامات والنقل من البحار والجبال والمعادن والذهب والفضّة وسائر ما يذاب من الجواهر وأنواع الطيب والأدوية، فنفذوا في ذلك بأمره، ثم أمر فصنعت له عجلة من الزجاج، فأصفد فيها الشياطين وركبها وأقبل عليها في الهواء من دنباوند إلى بابل في يوم واحد، وهو يوم هرمزروز وافروز دين ماه، فاتخذ الناس ذلك اليوم عيداً وخمسة أيام بعده، وكتب إلى الناس في اليوم السادس يخبرهم أنه قد سار فيهم بسيرة ارتضاها الله، فكان من جزائه إياه عليها أنه قد جنبهم الحرّ والبرد والأسقام والهرم والحسد، فمكث الناس ثلاثمائة سنة بعد الثلاثمائة والستّ عشرة سنة لا يصيبهم شيء مما ذكر.
ثم بنى قنطرة على دجلة فبقيت دهراً طويلاً حتى خرّبها الاسكندر، وأراد الملوك عمل مثلها فعجزوا فعدلوا إلى عمل الجسور من الخشب، ثم إن جمّاً بطر نعمة الله عليه وجمع الإنس والجن والشياطين وأخبرهم أنه وليّهم ومانعهم بقوته من الأسقام والهرم والموت، وتمادى في غيّه، فلم يحر أحد منهم جواباً، وفقد مكانه وبهاءه وعزّه وتخلّت عنه الملائكة الذين كان الله أمرهم بسياسة أمره، فأحسّ بذلك بيوراسب الذي تسمّى الضحّاك فابتدر إلى جم لينتهسه، فهرب منه، ثمّ ظفر به بعد ذلك بيوراسب فاستطرد امعاءه وأشره بمئشار.
وقيل: إنه ادعى الربوبية فوثب عليه أخوه ليقتله واسمه استغتور فتوارى عنه مائة سنة، فخرج عليه في تواريه بيوراسب فغلبه على ملكه. وقيل: كان ملكه سبعمائة سنة وستّ عشرة سنة وأربعة أشهر.
قلت: وهذا الفصل من حديث جم قد أتينا به تاماً بعد أن كنّا عازمين على تركه لما فيه من الأشياء التي تمجّها الأسماع وتأباها العقول والطباع، فإنها من خرافات الفرس مع أشياء أخرى قد تقدّمت قبلها، وإنما ذكرناها ليعلم جهل الفرس، فإنهم كثيراً ما يشنعون على العرب بجهلهم وما بلغوا هذا؛ ولأنّا لو كنّا تركنا هذا الفصل لخلا من شيد نذكره من أخبارهم.
ذكر الأحداث التي كانت في زمن نوح عليه السلام
قد اختلف العلماء في ديانة القوم الذي أرسل إليهم نوح، فمنهم من قال: إنهم كانوا قد أجمعا على العمل بما يكرهه الله تعالى من ركوب الفواحش والكفر وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله، ومنهم من قال: إنهم كانوا أهل طاعة، وبيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئين وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح، وسنذكر أخبار بيوراسب فيما بعد.
وأما كتاب الله، قال: فينطق بأنهم أهل أوثان؛ قال تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلّوا كثيراً) نوح 71 : 23 - 24.
قلت: لا تناقض بين هذه الأقاويل الثلاثة، فإنّ القول الحقّ الذي لا يشكّ فيه هو أنهم كانوا أهل أوثان يعبدونها، كما نطق به القرآن، وهو مذهب طائفة من الصابئين، فإن أصل مذهب الصابئين عدابة الروحانيين، وهم الملائكة لتقربهم إلى الله تعالى زلفى، فإنهم اعترفوا بصانع العالم وأنه حكيم قادر مقدّس، إلا أنهم قالوا الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى معرفة جلاله وإنما نتقرب إليه بالوسائط المقرِّبة لديه؛ وهم الروحانيون، وحيث لم يعاينوا الروحانيين تقربوا إليهم بالهياكل، وهي الكواكب السبعة السيارة لأنها مدبرة لهذا العالم عندهم، ثم ذهبت طائفة منهم، وهم أصحاب الأشخاص، حيث رأوا أن الهياكل تطلع وتغرب وترى ليلاً ولا ترى نهاراً، إلى وضع الأصنام لتكون نصب أعينهم ليتوسّلوا بها إلى الهياكل، والهياكل إلى الروحانيين، والروحانيون إلى صانع العالم؛ فهذا كان أصل وضع الأصنام أولاً، وقد كان أخيراً في العرب من هو على هذا الاعتقاد، وقال تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الزمر: 39 : 3، فقد حصل من عبادة الأصنام مذهب الصابئين والكفر والفواحش وغير ذلك من المعاصي.
فلما تمادى قوم نوح على كفرهم وعصيانهم بعث الله إليهم نوحاً يحذّرهم بأسه ونقمته ويدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الحقّ والعمل بما زمر الله تعالى، وأرسل نوح، وهو ابن خمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.
وقال عون بن أبي شداد: إن الله تعالي أرسل نوحاً وهو ابن ثلاثمائة وخسمين سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخسمين سنة، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم.
قال ابن إسحاق وغيره: إن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لي ولقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في معصيتهم وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاول عليه وعليهم الشأن اشتد عليه البلاء وانتظر النجل بعد النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله حتى إن كان الآخر ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً، وكان يضرب ويلفّ ويلقى في بيته، ويرون أنه قد مات، فإذا أفاق اغتسل وخرج إليهم يدعوهم إلى الله، فلما طال ذلك عليه ورأى الأولاد شرّاً من الآباء قال: ربّ قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن تك لك فيهم حاجة فاهدهم، وإن يك غير ذلك فصيرني إلى أن تحكم فيهم، فأوحى إليه: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) هود: 36، فلما يئس من إيمانهم دعا عليهم فقال: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً) نوح 71 : 26، إلى آخر القصة، فلما شكا إلى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه أن: (اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) هود: 11 : 37، فأقبل نوح على عمل الفلك ولها عن دعاء قومه وجعل يهيء عتاد الفلك من الخشب والحديد والقار وغيرها مما لا يصلحه سواه، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله فيسخرون منه، فيقول: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون) هود: 11 : 38 - 39، قال: ويقولون: يا نوح قد صرت نجّاراً بعد النبوّة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم، وصنع الفلك من خشب الساج وأمره أن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال الحسن: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، والله أعلم.
وأمر نوحاً أن يجعله ثلاث طبقات: سفلى ووسطى وعليا، ففعل نوح كما أمره الله تعالى، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) هود:11 : 40؛ وقد جعل التنور ايةً فيما بينه وبينه، فلمّا فار التنور، وكان فيما قيل من حجارة كان لحواء: وقال ابن عباس: كان ذلك تنوراً من أرض الهند، وقال مجاهد والشعبيّ: كان التنور بأرض الكوفة، وأخبرته زوجته بفوران الماء من التنور، وأمر الله جبرائيل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة، وكانت من ياقوت الجنة، كما ذكرناه، وخبز الحجر الأسود بجبل أبي قُبيس، فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله موضعه، ولما فار التنور حمل نوح من أمر الله بحمله، وكانوا أولاده الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم وستة أناسي، فكانوا مع نوح ثلاثة عشر.
وقال ابن عبّاس: كان في السفنية ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم، كلهم بنو شيث، وقال قتادة: كانوا ثمانية أنفس: نوح وامرأته وثلاثة بنوه ونساؤهم، وقال الأعمش: كانوا سبعة، ولم يذكر فيهم زوج نوح، وحمل معه جسد آدم ثمّ أدخل ما أمر الله به من الدواب، وتخلّف عنه ابنه يام، وكان كافراً، وكان آخر من دخل السفينة الحمار، فلما دخل صدره تعلّق إبليس بذنبه فلم ترتفع رجلاه، فجعل نوح يأمره بالدخول فلا يستطيع حتى قال: ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال كلمة زلّت على لسانه، فلمّا قالها دخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أدخلك يا عدوّ الله؟ فقال: ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك؟ فتركه، ولما أمر نوح بإدخال الحيوان السفينة قال: أي ربّ كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب والطير والهر؟ قال: الذي ألقى بينها العداوة هو يؤلف بينها، فألقى الحمى على الأسد وشغله بنفسه، ولذلك قيل:
وما الكلب محموماً وإن طال عمره........ولكنما الحمى على الأسد الـورد
وجعل نوح الطير في الطبق الأسفل من السفينة، وجعل الوحش في الطبق الأوسط، وركب هو ومن معه من بني آدم في الطبق الأعلى، فلما أطمأن نوح في الفلك وأدخل فيه كلّ من أمر به، وكان ذلك بعد ستمائة سنة من عمره في قول بعضهم، وفي قول بعضهم ما ذكرناه، وحمل معه من حمل، جاء الماء كما قال الله تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقي الماء على أمر قد قدر) القمر: 54 : 44 - 12، فكان بين أن أرسل الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً وأربعون ليلة، وكثر واشتدّ وارتفع وطمى، وغطى نوح وعلى من معه طبق السفينة، وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال، ونادي نوح ابنه الذي هلك، وكان في معزل: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) هود: 11 : 42، وكان كافراً؛ (قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، وكان عهد الجبال وهي حرز وملجأ، فقال نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) هو:11 : 43، وعلا الماء على رؤوس الجبال، فكان على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، فهلك ما على وجه الأرض من حيوان ونبات، فلم يبق إلا نوح ومن معه وإلا عوج بن عنق، فيما زعم أهل التوراة، وكان بين إرسال الماء وبين أن غاض ستّة أشهر وعشر ليال.
قال ابن عباس: أرسل الله المطر أربعين يوماً، فأقبلت الوحش حين أصابها المطر والطين إلى نوح وسخّرت له، فحمل منها كما أمره الله، فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب، وكان ذلك لثلاث عشرة خلت من آب، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرّم، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء، وكان الماء نصفين: نصف من السماء ونصف من الأرض، وطافت السفينة بالأرض كلها لا تستقر حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعاً ثم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت إلى الجودي، وهو جبل بقردى بأرض الموصل، فاستقرت عليه، فقيل عند ذلك: (بعداً للقوم الظالمين) هود: 11 : 44، ولما استقرت قيل: (يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، وغيض الماء) هود: 11 : 44، نشفته الأرض، وأقام نوح في الفلك إلى أن غاض الماء، فلما خرج منها اتخذ بناحية من قردى من أرض الجزيرة موضعاً وابتنى قريةً سمّوها ثمانين، وهي الآن تسمى بسوق الثمانين لأن كلّ واحد ممن معه بنى لنفسه بيتاً وكانوا ثمانين رجلاً. قال بعض أهل التوراة: لم يولد لنوح إلا بعد الطوفان، وقيل: إن ساماً ولد قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة، وقيل: إنّ اسم ولده الذي أغرق كان كنعان وهو يام.
وأما المجوس فإنهم لا يعرفون الطوفان ويقولون لم يزل الملك فينا من عهد جيومرث، وهو آدم، قالوا: ولو كان كذلك لكان نسب القوم قد انقطع وملكهم قد اضمحلّ، وكان بعضهم يقرّ بالطوفان ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه، وأن مساكن ولد جيومرث كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم، وقول الله تعالى أصدق في أن ذرّية نوح هم الباقون فلم يعقب أحد ممن كان معه في السفينة غير ولده سام وحام ويافث.
ولما حضرت نوحاً الوفاة قيل له: كيف رأيت الدنيا؟ قال: كبيت له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، وأوصى إلى ابنه سام وكان أكبر ولده.
ذكر بيوراسب وهو الازدهاق الذي يسميه العرب الضحّاك
وأهل اليمن يدّعون أنّ الضحاك منهم، وأنه أول الفراعنة، وكان ملك مصر لما قدمها إبراهيم الخليل، والفرس تذكر أنه منهم وتنسبه إليهم وأنه بيوراسب بن أرونداسب بن رينكار بن وندريشتك بن يارين بن فروال بن سيامك بن ميشي بن جيومرث، ومنهم من ينسبه غير هذه النسبة، وزعم أهل الأخبار أنه ملك الأقاليم السبعة، وأنه كان ساحراً فاجراً.
قال هشام بن الكلبيّ: ملك الضحاك بعد جم فيما يزعمون، والله أعلم، ألف سنة، ونزل السواد في قرية يقال لها برس في ناحية طريق الكوفة، وملك الأرض كلها، وسار بالجور والعسف، وبسط يده في القتل، وكان أول من سن الصلب والقطع، وأول من وضع العشور وضرب الدراهم، وأول من تغنى وغني له، قال: وبلغنا أنّ الضحاك هو نمرود، وأن ابراهيم، عليه السلام، ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه، وتزعم الفرس أن الملك لم يكن إلا للبطن الذي منه أوشهنج وجم وطهمورث، وأن الضحّاك كان غاصباً، وأنه غصب أهل الأرض بسحره وخبثه وهوّل عليهم بالحيّتين اللّتين كانتا على منكبيه.
وقال كثير من أهل الكتب: إن الذي كان على منكبيه كان لحمتين طويلتين كلّ واحدة منهما كرأس الثعبان، وكان يسترهما بالثياب، ويذكر على طريق التهويل أنهما حيتان تقتضيانه الطعام، وكانتا تتحركان تحت ثوبه إذا جاعتا، ولقي الناس منه جهداً شديداً، وذبح الصبيان لأنّ اللحمتين اللتين كانتا على منكبيه كانتا تضطربان فإذا طلاهما بدماغ إنسان سكنتا، فكان يذبح كلّ يوم رجلين، فلم يزل الناس كذلك حتى إذا أراد الله هلاكه وثب رجل من العامة من أهل أصبهان يقال له كابي بسبب ابنين له أخذهما أصحاب بيوراسب بسبب اللحمتين اللتين على منكبيه، وأخذ كابي عصاً كانت بيده فعلّق بطرفها جراباً كان معه ثمّ نصب ذلك كالعلم ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب ومحاربته، فأسرع إلى إجابته خلق كثير لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور، فلما غلب كابي تفاءل الناس بذلك العلم فعظّموه وزادوا فيه حتى صار عند ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبركون به وسموه درفش كابيان، فكانوا لا يسيرونه إلا في الأمور الكبار العظام، ولا يرفع إلا لأولاد الملوك إذا وجهوا في الأمور الكبار.
وكان من خبر كابي أنه من أهل أصبهان، فثار بمن اتبعه، فالتفت الخلائق إليه، فلمّا أشرف على الضحّاك قذف في قلب الضحاك منه الرعب فهرب عن منازله وخلّى مكانه، فاجتمع الأعجام إلى كابي، فأعلمهم أنه لا يتعرض للملك لأنه ليس من أهله، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جم لأنه ابن الملك أوشهنق الأكبر بن فروال الذي رسم الملك وسبق في القيام به، وكان أفريدون بن أثغيان مستخفياً من الضحاك فوافى كابي ومن معه، فاستبشروا بموافاته فملّكوه، وصار كابي والوجوه لأفريدون أعواناً على أمره، فلمّا ملك وأحكم ما احتاج إليه من أمر الملك احتوى على منازل الضحاك وسار في أثره فأسره بدنباوند في جبالها. وبعض المجوس تزعم أنه وكل به قوماً ن الجن، وبعضهم يقول: إنه لقي سليمان بن داود، وحبسه سليمان في جبل دنباوند، وكان ذلك الزمان بالشام، فما برح بيوراسب بحبسه يجرّه حتى حمله إلى خراسان، فلمّا عرف سليمان ذلك أمر الجنّ فأوثقوه حتى لا يزول وعملوا عليه طلسماً كرجلين يدقّان باب الغار الذي حبس فيه أبداً لئلا يخرج، فإنه عندهم لا يموت.
وهذا أيضاً من أكاذيب الفرس الباردة، ولهم فيه أكاذيب أعجب من هذا تركنا ذكرها.
وبعض الفرس زعم أن أفريدون قتله يوم النّيروز، فقال العجم عند قتله: إمروز نوروز، أي استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيداً، وكان أسره يوم المهرجان، فقال العجم: آمد مهرجان لقتل من كان يذبح، وزعموا أنهم لم يسمعوا في أمور الضحاك بشيء يستحسن غير شيء واحد، وهو أن بليته لما اشتدت ودام جوره وتراسل الوجوه في أمره فأجمعوا على المصير إلى بابه فوافاه الوجوه، فاتفقوا على أن يدخل عليه كابي الأصبهاني، فدخل عليه ولم يسلم، فقال: أيها الملك أي السلام أسلم عليك؟ سلام من يملك الأقاليم كلها أم سلام من يملك هذا الإقليم؟ فقال: بل سلام من يملك الأقاليم كلها لأني ملك الأرض، فقال كابي: إذ كنت تملك الأقاليم كلها فلم خصصتنا بأثقالك وأسبابك من بينهم ولم لا تقسم الأمور بيننا وبينهم؟ وعدّد عليه أشياء كثيرة، فصدّقه، فعمل كلامه في الضحّاك، فأقرّ بالإساءة وتألّف القوم ووعدهم بما يحبون وأمرهم بالانصراف ليعودوا ويقضي حوائجهم ثم ينصرفوا إلى بلادهم.
وكانت أمّه حاضرة تسمع معاتبتهم، وكانت شرّاً منه، فلمّا خرج القوم دخلت مغتاظة من احتماله وحلمه عنهم فوبخته وقالت له: ألا أهلكتهم وقطعت أيديهم؟ فلما أكثرت عليه قال لها: ياهذه لا تفكري في شيء إلا وقد سبقت إليه، إلا أن القوم بدهوني بالحقّ وقرعوني به، فكلما هممت بهم تخيل لي الحق بمنزلة الجبل بيني وبينهم فما أمكنني فيهم شيء، ثم جلس لأهل النواحي فوفى لهم بما وعدهم وقضى أكثر حوائجهم.
وقال بعضهم: كان ملكه ستمائة سنة، وكان عمره ألف سنة، وإنه كان في باقي عمره شبيهاً بالملك لقدرته ونفوذ أمره، وقيل: كان ملكه ألف سنة وكان عمره ألف سنة ومائة سنة.
وإنما ذكرنا خبر بيوراسب ها هنا لأن بعضهم يزعم أن نوحاً كان في زمانه، وإنما أرسل إليه والى أهل مملكته، وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة صور ومدينة دمشق.
ذكر ذرية نوح عليه السلام
قال النبي، ﷺ، في قوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات: 37 : 77؛ إنهم سام وحام ويافث، وقال وهب بن منبّه: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم، وإن حاماً أبو السودان، وإنّ يافث أبو الترك ويزجوج ومأجوج، وقيل: إنّ القبط من ولد قوط بن حام، وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحاً نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام ويافث فألقيا عليه ثوباً، فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدعا عليهم. قال ابن اسحاق: فكانت امرأة سام بن نوح صل ابنة بتأويل بن محويل بن خانوخ بن قين بن آدم فولدت له نقراً: أرفخشذ واشوذ ولاوذ وإرم، قال: ولا أدري أإرم لأمّ أرفخشذ وإخوته أم لا، فمن لود لاوذ بن سام فارس وجرجان وطسم وعميلق، وهو أبو العماليق، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، والفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وعمان منهم ويسمون جاشم، وكان منهم بنو أميم بن لاوذ أهل وبار بأرض الرمل، وهي بين اليمامة والشحر، وكانوا قد كثروا فأصابتهم نقمة من الله من معصية أصابوها فهلكوا وبقيت منهم بقيّة، وهم الذين يقال لهم النسناس، وكان طسم ساكني اليمامة إلى البحرين، فكانت طسم والعماليق وأميم وجاشم قوماً عرباً لسانهم عربيّ، ولحقت عبيل بيثرب قبل أن تبنى، ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، وانحدر بعضهم إلى يثرب فأخرجوا منها عبيلاً فنزلوا موضع الجحفة، فأقبل سيل فاجتحفهم، أي أهلكهم، فسميت الجحفة.
قال: وولد إرم بن سام عوضاً وغائراً وحويلاً، فولد عوض غاثراً وعاداً وعبيلاً، وولد غائر بن إم ثمود وجديساً، وكانوا عرباً يتكلّمون بهذا اللسان المصريّ، وكانت العرب تقول لهذه الأمم ولجرهم العرب العاربة، ويقولون لبني إسماعيل العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أطهرهم، فكانت عاد بهذا الرمل إلى حضرموت، وكانت ثمود بالحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، ولحقت جديس بطسم وكانوا معهم باليمامة إلى البحرين، واسم اليمامة إذ ذاك جوّ، وسكنت جاشم عمام، والنبط من ولد نبيط بن ماش بن إرم بن سام، والفرس بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام.
قال: وولد لأرفخشذ بن سام ابنه قينان، كان ساحراً، وولد لقينان شالخ بن أرفخشذ من غير ذكر قينان لما ذكر من سحره، وولد لشالخ غابر، ولغابر فالغ، ومعناه القاسم، لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه، وقحطان بن غابر، فولد لقحطان يعرب ويقظان، فنزلا اليمن، وكان أول من سكن اليمن وأول من سلم عليه بأبيت اللعن، وولد لفالغ بن غابر أرغو، وولد لأرغو ساروغ، وولد لساروغ ناخور، وولد لناخور تارخ، واسمه بالعربية آزر، وولد لآزر إبراهيم، عليه السلام، وولد لأرفخشذ أيضاً نمرود، وقيل هو نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
قال هشام بن الكلبي: السند والهند بنو توقير بن يقطن بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وجرهم من ولد يقطن بن غابر، وحضرموت ابن يقطن، ويقطن هو قحطان في قول من نسبه إلى غير اسماعيل، والبربر من ولد ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لاود بن سام بن نوح ما خلا صنهاجة وكتامة، فإنهما بنو فريقش بن صيفي بن سبأ.
وأما يافث فمن ولده جامر وموعع ومورك وبوان وفوبا وماشج وتيرش، فمن ولد جامر ملوك فارس في قول، ومن ولد تيرش الترك والخزر، ومن ولد ماشج الأشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع بها من وقع من ولد العيص بن إسحاق وغيرهم، وقصد كلّ فريق من هؤلاء الثلاثة سام وحام ويافث أرضاً فسكنوها ودفعوا غيرهم عنها، ومن ولد يافث الروم، وهم بنو لنطى بن يوان بن نافث بن نوح.
وأما حام فولد له كوش ومصرايم وقوط كنعان، فمن ولد كوش نمرود بن كوش، وقيل: هو من ولد سام، وصارت بقية ولد حام بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج، ويقال: إن مصرايم ولد القبط والبربر.
وأما قوط فقيل إنه سار إلى الهند والسند فنزلها وأهلها من ولده.
وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها وصار الشام لبني إسرائيل، ثمّ وثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام إلى العراق إلا قليلاً منهم، ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام، وكان يقال لعاد عاد إرم، فلمّا هلكوا قيل لثمود ثمود إرم، قال:
وزعم أهل التوراة أن أرفخشذ ولد لسام بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان، وكان جميع عمر سام ستمائة سنة.
ثم ولد لأرفخشذ قينان بعد أن مضى من عمر أرفخشذ خمس وثلاثون سنة، وكان عمره أربعمائة وثمانياً وثلاثين سنة، ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضي من عمره تسع وثلاثون سنة، ولم تذكر مدّة عمر قينان في الكتب لما ذكرنا من سحره، ثمّ ولد لشالخ غابر بعدما مضى من عمره ثلاثون سنة، وكان عمره كله أربعمائة وثلاثاً وثلاثين سنة، ثم ولد لغابر فالغ وأخوه قحطان، وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة، وكان عمره أربعمائة وأربعاً وسبعين سنة، ثم ولد لفالغ أرغو بعد ثلاثين سنة من عمر فالغ، وكان عمره مائتين وتسعاً وثلاثين سنة، وولد لأرغو ساروغ بعدما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة، وكان عمره مائتين وتسعاً وثلاثين سنة، وولد لساروغ ناخور بعد ثلاثين سنة من عمره، وكان عمره كلّه مائتين وثلاثين سنة، ثمّ ولد لناخور تارخ أبو إبراهيم بعدما مضى من عمره سبع وعشرون سنة، وكان عمره كله مائتين وثمانياً وأربعين سنة، وولد لتارخ، وهو آزر، ابراهيم، عليه السلام، وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين سنة، وولد لقحطان بن غابر يعرب، فولد ليعرب يشجب، فولد يشجب سبأ، فولد سبأ حمير وكهلان وعمراً والأشعر وأنمار ومرّاً، فولد عمرو بن سبأ عديّاً، وولد عديّ لخماً وجذاماً.
فأمّا عاد: فهو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، وهو عاد الأولى، وكانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالأحقاف، فكانوا جبّارين طوال القامة لم يكن مثلهم، يقول الله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوحٍ وزادكم في الخلق بسطة) الأعراف: 7 : 69؛ فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض، ومن الناس من يزعم أنه هو دوهو غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يقال لأحدها ضراً وللآخر ضمور وللثالث الهبا، فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم الناس، فكذّبوه وقالوا: من أشدُّ منا قوّةً ولم يؤمن بهود منهم إلاّ قليل، وكان من أمرهم ما ذكره ابن اسحاق قال: إن عاداً أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هوداً، فلمّا أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفداً إلى مكة يستسقون لكم، فبعثوا قيل بن عير ولقيم بن هزّال ومرثد بن سعد، وكان مسلماً يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر، ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلاً من قومهم، فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكّة خارجاً عن الحرم، فأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره لأنّ لقيم بن هزال كان تزوّج هزيلة بنت بكر أخت معاوية فأولدها أولاداً كانوا عند خالهم معاوية بمكّة، وهم: عبيد وعمرو وعامر وعمير بنو لقيم، وهم عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى، فلمّا نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان، فينتان لمعاوية، فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شقّ عليه ذلك وقال: هلك أخوالي، واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له، فذكر ذلك للجرادتين فقال: قل شعراً نغنّيهم به لا يدرون من قائله لعلّهم يتحركون؛ فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينـم......لعل الله يصبحنا غمامـا
فيسقي أرض عاد إنّ عاداً......قد أمسوا لا يُبينون الكلاما
في أبيات ذكرها، والهيمنة: الكلام الخفي، فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليها فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد: إنهم والله لا يسقون بدعائكم ولكن أطيعوا نبيكم فأنتم تسقون، وأظهر إسلامه عند ذلك، فقال جلهمة بن الخيبري، خال معاوية، لمعاوية بن بكر: احبس عنّا مرثد بن سعد، وخرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، فدعوا الله تعالى لقومهم واستسقوا، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ونادى منادٍ منها: يا قيل اختر لنفسك وقومك، فقال: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماء فناداه مناد: اخترت رماداً رمددا، لا تبقي من عاد أحداً، لا ولداً تترك ولا والداً إلا جعلته همدا، إلا بني اللوذيّة المهدى، وبنو اللوذية: بنو لقيم بن هزّال، كاوا بمكة عندهم خالهم معاوية ابن بكر، وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب إلى عاد، فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلمّا رأوها استبشروا بها وقالوا: (هذا عارض ممطرنا) يقول الله تعالى: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شيءٍ بأمر ربها) الاحقاف: 46 : 24 - 25؛ أي كل شيء أمرت به، وكان أول من رأى ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها فهدد، فلمّا رأت ما فيها صاحت وصعقت، فلمّا خرجت الريح ن الوادي قال سبعة رهط منهم، أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردّها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله ثم ترمي به فتدقّ عنقه، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال:
لم يق إلا الخلجان نفسـه.....يالك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديدٍ وطسه......لو لم يجئني جئته أجسّـه
فقال له هود: أسلم تسلم، فقال: ومالي؟ قال: الجنة، فقال: فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت؟ قال: الملائكة، قال: أيعيذني ربك منهم إن أسلمت؟ قال: هل رأيت ملكاً يعيذ من جنده؟ قال: لو فعل ما رضيت.
ذكر ملك أفريدون
وهو أفريدون بن اثغيان، وهو من ولد جم شيد، وقد زعم بعض نسّابة الفرس أن نوحاً هو أفريدون الذي قهر الضحّاك وسلبه ملكه، وزعم بعضهم أنّ أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم الذي ذكره الله في كلامه العزيز، وإنما ذكرته في هذا الموضع لأن قصته في أولاده الثلاثة شبيهة بقصة نوح على ما سيأتي ولحسن سيرته وهلاك الضحّاك على يديه ولأنه قيل إنّ هلاك الضحّاك كان على يد نوح.
وأما باقي نسابة الفرس فإنهم ينسبون أفريدون إلى جم شيد الملك، وكان بينهما عشرة آباء كلهم يسمى اثغيان خوفاً من الضحّاك، وإنما كانوا يتميزون بألقاب لقبوها، فكان يقال لأحهم اثغيان صاحب البقر الحمر واثغيان صاحب البقر البلق وأشباه ذلك، وكان أفريدون أول من ذلّل الفيلة وامتطاها ونتج البغال واتخذ الإوز والحمام وعلم الترياق وردّ المظالم وأمر النّاس بعبادة الله والإنصاف والإحسان، وردّ على الناس ما كان الضحّاك غصبه من الأرض وغيرها إلاّ ما لم يجد له صاحباً فإنه وقفه على المساكين.
وقيل: إنه أول من سمّي الصوفي، وهو أوّل من نظر في علم الطبّ، وكان له ثلاثة بنين، اسم الأكبر شرم، والثاني طوج، والثالث إيرج، فخاف أن يختلفوا بعده فقسم ملكه بينهم أثلاثاً وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها وأمر كلّ واحد منهم فأخذ سهماً، فصارت الروم وناحية العرب لشرم، وصارت الترك والصين لطوج، وصارت العراق والسند والهند والحجاز وغيرها لإيرج، وهو الثالث، وكان يحبّه، وأعطاه التاج والسرير، ومات أفريدون ونشبت العداوة بين أولاده وأولادهم من بعدهم، ولم يزل التحاسد ينمو بينهم إلى أن وثب طوج وشرم على أخيهما إيرج فقتلاه وقتلا ابنين كانا لإيرج وملكا الأرض بينهما ثلاثمائة سنة، ولم يزل أفريدون يتبع من بقي بالسواد من آل نمرود والنبط وغيرهم حتى أتى على وجوههم ومحا أعلامهم، وكان ملكه خمسمائة سنة.
ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم
قد ذكرنا ما كان من أمر نوح وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده ومساكن كلّ فريق منهم، فكان ممن طغى وبغى فأرسل الله إليهم رسولاً فكذبوه فأهلكهم الله، هذان الحيّان من ولد إرم بن سام بن نوح، أحدهما عاد والثاني ثمود.
ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه و(سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً) الحاقة 69 : 7، كما قال تعالى، والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك، واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلاّ تليين الجلود، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وعاد وفد عاد إلى معاوية بن بكر فنزلوا عليه، فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود.
قال: وكان قد قيل للقمان بن عاد: اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل إلى الخلود، فقال: يا ربّ أعطني عمراً، فقيل له: اختر، فاختار عمر سبعة أنسر، فعمّر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره، وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة، فلما مات السابع مات لقمان معه، وكان السابع يسمى لبداً، قال: وكان عمر هود مائة وخمسين سنة، وقبره بحضرموت، وقيل بالحجر من مكّة، فلمّا هلكوا أرسل الله طيراً سوداً فنقلتهم إلى البحر، فذلك قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) الاحقاف: 46 : 25، ولم تخرج ريح قطّ إلا بمكيال إلا يومئذٍ فإنها عتت على الخزنة، فذلك قوله: (أهلكوا بريح صرصر عاتية) الحاقة: 69 : 6، وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه.
وأما ثمود: فهم ولد ثمود بن جاثر بن إرم بن سام، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام، وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود، وقيل أسف بن كماشج بن اروم بن ثمود يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة قوله تعالى (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) هود: 11 : 62 الآية؛ وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حيّ، فلمّا رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بويتاً فارهين فنحتوها، وكانوا في سعة من معايشهم، ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون، فلما ألح عليهم بالدّعاء والتحذير والتخويف سألوه فقالوا: يا صالح اخرج معنا إلى عيدنا، وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم، فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال: نعم، فخرجوا بأصنامهم وصالح معهم، فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به، وقال له سيّد قومه: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - لصخرة منفردة - ناقة جوفاء عشراء، فإن فعلت ذلك صدّقناك.
فأخذ عليهم المواثيق بذلك وأتى الصخرة وصلّى ودعا ربّه عز وجل فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ثمّ نتجت سقباً مثلها في العظم، فآمن به سيد قومه، واسمه جندع بن عمرو، ورهط من قومه، فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) الشعراء: 26 : 155، ومتى عقرتموها أهلككم الله، فكان شربها يوماً وشربهم يوماً معلوماً، فإذا كان يوم شربها خلّوا بينها وبين الماء وحلبوا لبنها وملأوا كلّ وعاء وإناء، وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئاً وتزوّدوا من الماء للغد.
فأوحى الله إلى صالح أن قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنّا لنفعل، قال: إلاّ تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها، قالوا: وما علامته؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه قال: فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر، قال: فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً فزوّج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود، فلمّا قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهنّ شرطاً يطوفون في القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو، فلّما وجدوا ذلك المولد صرخ النسوة وقلن: هذا الذي يريد نبيّ الله صالح، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جدّاه بينهم وبينه وقالا: لو أراد صالح هذا لقتلناه، فكان شرّ مولود وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في الجمعة، فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفاً أن يكون عاقر الناقة منهم، ثمّ ندموا فأقسموا ليقتلنَّ صالحاً وأهله وقالوا: نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه، فإذا جاء الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه ثمّ رجعنا إلى الغار ثم انصرفنا إلى رحالنا وقلنا ما شهدنا قتله فيصدّقنا قومه، وكان صالح لا يبيت معهم، كان يخرج إلى مسجد له يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه، فلمّا دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم، فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى، فعادوا يصيحون: إنّ صالحاً أمرهم بقتل أولادهم ثمّ قتلهم. وقيل: إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إيّاهم بالعذاب، وذلك أنّ التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: تعالوا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً عجّلنا قتله، وإن كان كاذباً ألحقناه بالناقة، فأتوه ليلاً في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا، فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، وأرادوا قتله، فمنعهم عشيرته وقالوا: إنه قد أنذركم العذاب، فإن كان صادقاً فلا تزيدوا ربّكم غضباً وإن كان كاذباً فنحن نسلّمه إليكم، فعادوا عنه؛ فعلى القول الأوّل يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة، والثاني أصح، والله أعلم.
وأما سبب قتل الناقة فقيل: إن قدار بن سالف جلس مع نفر يشربون الخمر فلم يقدروا على ماء يمزجون به خمرهم لأنه كان يوم شرب الناقة، فحرّض بعضهم بعضاً على قتلها، وقيل: إنّ ثموداً كان فيهم امرأتان يقال لإحداهما قطام وللأخرى قبال، وكان قدار يهوى قطام ومصدع يهوى قبال ويجتمعان بهما، ففي بعض الليالي قالتا لقدار ومصدع: لا سبيل لكما إلينا حتى تقتلا الناقة، فقالا: نعم، وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدا الناقة وهي على حوضها، فقال الشقيّ لأحدهم: اذهب فاعقرها، فأتاها، فتعاظمه ذلك، فأضرب عنه، وبعث آخر فأعظم ذلك وجعل لا يبعث أحداً إلاّ تعاظمه قتلها حتى مشى هو إليها فتطاول فضرب عرقوبها فوقعت تركض، وكان قتلها يوم الأربعاء، واسمه بلغتهم جبّار، وكان هلاكهم يوم الأحد، وهو عندهم أوّل، فلمّا قتلت أتى رجل منهم صالحاً فقال: أدرك الناقة فقد عقروها، فأقبل وخرجوا يتلقّونه يعتذرون إليه: يا نبيّ الله إنما عقرها فلان إنّه لا ذنب لنا قال: انظروا هل تدركون فصيلها؟ فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمّه تضطرب قصد جبلاً يقال له القارة قصيراً فصعده، وذهبوا يطلبونه، فأوحى الله إلى الجبل فطال في السماء حتى ما يناله الطير، ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحاً فرغاً ثلاثاً، فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب) هود: 11 : 65، وآية العذاب أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة وتصبح في اليوم الثاني محمرّة وتصبح في اليوم الثالث مسودّة، فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم، فلمّا أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة، فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنما طليت بالقار، فتكفّنوا وتحنّطوا، وكان حنوطهم الصبر والمر، وكانت أكفانهم الأنطاع، ثمّ ألقوا أنفسهم إلى الأرض فجعلوا يقلبّون أبصارهم إلى السماء والأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلمّا أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة، فتقطّعت قلوبهم في صدورهم (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) هود: 11 : 67، وأهلك الله من كان بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلاً كان في الحرم فمنعه الحرم، قيل: ومن هو؟ قيل: هو أبو رغال، وهو أبو ثقيف في قول.
ولا سار النبيّ، ﷺ، إلى تبوك أتى على قرية ثمود فقال لأصحابه: لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها، وأراهم مرتقى الفصيل في الجبل وأراهم الفجّ الذي كانت الناقة ترد منه الماء.
وأمّا صالح، عليه السلام، فإنّه سار إلى الشام فنزل فلسطين ثمّ انتقل إلى مكة فأقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وكان قد أقام في قومه يدعوهم عشرين سنة.
وأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أنه لا ذكر لعاد وهود وثمود وصالح في التوراة، قال: وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل، عليه السلام.
قلت: وليس إنكارهم ذلك بأعجب من إنكارهم نبوّة إبراهيم الخليل ورسالته، وكذلك إنكارهم حال المسيح، عليه السلام.
ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام ومن كان في عصره من ملوك العجم
وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام، واختلف في الموضع الذي كان فيه والموضع الذي ولد فيه، فقيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل: ولد ببابل، وقيل: بكوثى، وقيل: بحرّان ولكن أباه نقله، قال عامة أهل العلم: كان مولده في عهد نمرود بن كوش، ويقول عامّة أهل الأخبار: إنّ نمرود كان عاملاً للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحاً أرسل إليه، وأمّا جماعة من سلف من العلماء فإنهم يقولون: كان ملكاً برأسه.
قال ابن إسحاق: وكان ملكه قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل، قال: ويقال: لم يجتمع ملك الأرض إلا لثلاثة ملوك: نمرود وذي القرنين وسليمان بن داود، وأضاف غيره إليهم بخت نصرّ، وسنذكر بطلان هذا القول.
فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على خلقه ورسولاً إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبيّ إلا هود وصالح، فلمّا تقارب زمان إبراهيم أتى أصحابُ النجوم نمرود فقالوا له: إنها نجد غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم يفارق دينكم ويكسّر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا، فلمّا دخلت السنة التي ذكروا حبس نمرود الحبالى عنده إلاّ أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنه لم يظهر عليها أثره، فذبح كلّ غلام ولد في ذلك الوقت، فلمّا وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة وكانت قريبة منها فولدت إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ثم سعت إلى بيتها راجعة، ثمّ كانت تطالعه لتنظر ما فعل، فكان يشبّ في اليوم ما يشبّ غيره في الشهر، وكانت تجده حيّاً يمصّ إبهامه جعل الله رزقه فيها.
وكان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدتُ غلاماً فمات، فصدّقها، وقيل: بل علم آزر بولادة إبراهيم وكتمه حتى نسي الملك ذكر ذلك ، فقال آزر: إنّ لي ابناً قد خبأته أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به؟ فقالوا: لا، فانطلق فأخرجه من السرب، فلما نظر إلى الدواب والى الخلق، ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه، جعل يسأل أباه عما يراه، فيقول أبوه: هذا بعير أو بقرة أو غير ذلك، فقال: ما لهؤلاء الخلق بدّ من أن يكون لهم ربّ وكان خروجه بعد غروب الشمس، فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب فقال: لا أحب الآفلين، وكان خروجه في آخر الشهر فلهذا رأى الكوكب قبل القمر.
وقيل: كان تفكّر وعمره خمسة عشر شهراً، قال لأمّه وهو في المغارة: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء فنظر فرأى الكوكب وتفكّر في خلق السموات والأرض وقال في الكوكب ما تقدّم، (فلما رأى القمر بازغاً قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) الأنعام: 6 : 77، فلما جاء النهار وطلعت الشمس رأى نوراً أعظم من كلّ ما رأى فقال: (هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون) الانعام: 6 : 78، ثم رجع إبراهيم إلى أبيه وقد عرف ربه وبريء من دين قومه إلاّ أنه لم ينادهم بذلك، فأخبرته أمّه بما كانت صنعت من كتمان حاله، فسرّه ذلك.
وكان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها، فكان إبراهيم يقول: من يشري ما لا يضرّه ولا ينفعه؟ فلا يشتريها منه أحد، وكان يأخذها وينطلق بها إلى نهر فيصوّب رؤوسها فيه ويقول: اشربي استهزاء بقومه، حتى فشا ذلك عنه في قومه، غير أنّه لم يبلغ خبره نمرود، فلمّا بدا لابراهيم أن يدعو قومه إلى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه إلى التوحيد فلم يجبه، ودعا قومه فقالوا: من تعبد أنت؟ قال: ربّ العالمين، قالوا: نمرود؟ قال: بل أعبد الذي خلقني، فظهر أمره، وبلغ نمرود أنّ إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجّة، فجعل يتوقّع فرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك، فنظر نظرة في النجوم فقال: إنيّ سقيم، أي طعين، ليهربوا منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم ليخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم، وكان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم، فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم إلى العيد وخالف إلى أصنامهم وهو يقول: (تالله لأكيدنّ أصنامكم) الأنبياء: 21 : 57 فسمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم، ورجع إلى الأصنام وهي في بهو عظيم بعضها إلى جنب بعض كلّ صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي آلهتهم وقالوا: نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله، فلما نظر إبراهيم إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: (ألا تأكلون؟) فلما لم يجبه أحد قال: (مالكم لا تنطقون؟ فراغ عليهم ضرباً باليمين) الصافات: 37 : 91 - 93، فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثمّ تركهنّ.
فلما رجع قومه ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلك وأعظموه وقالوا: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا: سمعنا فتىً يذكرهم يقال له ابراهيم) الأنبياء: 21 : 59 - 60 يعنون يسبّها ويعيبها، ولم نسمع ذلك من غيره وهو الذي نظنّه صنع بها هذا، وبلغ ذلك نمرود وأشراف قومه، فقالوا: (فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) الأنبياء: 21 : 61 ما نفعل به، وقيل: يشهدون عليه، كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة، فلما أُتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود وقالوا: (أأنت فعلت هذا بآلهتنها يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون) الأنبياء: 21 : 63، غضب من أن يعبدوا هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرها، فارعووا ورجعوا عنه فيما ادّعوا عليه من كسرها إلى أنفسهم فيما بينهم فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلاّ كما قال، ثم قالوا، وعرفوا أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) الأنبياء: 21 : 65، أي لا يتكلمون، فتخبرنا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدّقك، يقول الله تعالى: (ثم نكسوا على رؤوسهم) في الحجة عليهم لإبراهيم، فقال لهم إبراهيم عند قولهم (ما هؤلاء ينطقون): (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أُفّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) الأنبياء: 21 : 67.
ثم إنّ نمرود قال لإبراهيم: أرأيت إلهك الذي تعبد وتدعو إلى عبادته ما هو؟ قال: (ربي الذي يحي ويميت) البقرة: 2 : 258، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: وكيف ذلك؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته، فقال ابراهيم: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت) البقرة: 2 : 258 عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئاً، ثمّ إنه وأصحابه أجمعوا على قتل إبراهيم فقالوا: (حرقوه وانصروا آلهتكم) الأنبياء: 68.
قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس، قيل له: وللفرس أعراب؟ قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
فأمر نمرود بجمع الحطب من أصناف الخشب حتيإن كانت المرأة لتنذر ب : إن بلغت ما تطلب أن تحتطب لنار إبراهيم، حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدّموه وأشعلوا النّار حتى إن كانت الطير لتمرّ بها فتحترق من شدّتها وحرّها، فلمّا أجمعوا لقذفه فيها صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلاّ الثقلين إلى الله صيحة واحدة: أي ربّنا إبراهيم ليس في أرضك من يعبدك غيره يحرق بالنار فيك فأذن لنا في نصره قال الله تعالى: إن استغاث بشيء منكم فلينصره وإنه لم يدعُ غيري فأنا له، فلما رفعوه على رأس البنيان رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ أنت الواحد في المساء وأنت الواحد في الأرض، حسبي الله ونعم الوكيل، وعرض له جبرائيل وهو يوثق فقال: ألك حاجة يا إباهيم؟ قال: أما إليك فلا، فقذفوه في النّار فناداها فقال: (يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم) الأنبياء: 21 : 96، وقيل: ناداها جبرائيل، فلو لم يتبع بردها سلام لمات إبراهيم من شدة بردها، فلم يبق يومئذٍ نارٌ إلاّ طفئت ظنت أنها هي، وبعث الله ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنبه يؤنسه.
فمكث نمرود أياماً لا يشكّ أن النار قد أكلت إبراهيم، فرأى كأنه نظر فيها وهي تحرق بعضها بعضاً وإبراهيم جالس إلى جنبه رجل مثله، فقال لقومه: لقد رأيتُ كأنّ إبراهيم حيّ ولقد شبّه عليّ، ابنوا لي صرحاً يشرف بي على النار، فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالساً وإلى جانبه رجل في صورته، فناداه نمرود: يا إبراهيم كبيرٌ إلهك الذي بلغت قدرته وعزّته أن حال بينك وبين ما أرى، هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال: لا، فقام إبراهيم فخرج منها، فلما خرج قال له: يا إبراهيم من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني، قال نمرود: إني مقرّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزّته وما صنع بك حين أبيت إلا عبادته.
فقال إبراهيم: إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على شيء من دينك، فقال: يا إبراهيم لا استطيع ترك ملكي، وقرّب أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم ومنعه الله منه، وآمن مع إبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملإهم، وآمن له لوط بن هاران، وهو ابن أخي ابراهيم، وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارَخ، وهو أبو بتويل، وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أمّ يعقوب، ولابان أبو ليا وراحي زوجتي يعقوب، وآمنت به سارة، وهي ابنة عمّه، وهي سارة ابنة هاران الأكبر عمّ إبراهيم، وقيل: كانت ابنة ملك حرّان فآمنت بالله تعالى مع ابراهيم.
ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه
ثم إنّ إبراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم، فخرج مهاجراً حتيقدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى كان اسمه سنان بن علوان بين عبيد بن عولج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وقيل: كان أخا الضحّاك استعمله على مصر، وكانت سارة من أحسن النساء وجهاً، وكانت لا تعصي إبراهيم شيئاً، فلما وصفت لفرعون أرسل إلى إبراهيم فقال: من هذه التي معك؟ قال: أختي، يعني في الإسلام، وتخوّف إن قال هي امرأتي أن يقتله، فقال له: زيّنها وأرسلها إليّ، فأمر بذلك ابراهيم، فتزيّنت، وأرسلها إليه، فلمّا دخلت عليه أهوى بيده إليها، وكان إبراهيم حين أرسلها قام يصلّي، فلمّا أهوى إليها أخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرّك، فدعت له، فأرسل، فأهوى إليها، فأخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له، فأرسل، ثمّ فعل ذلك الثالثة، فذكر مثل المرّتين، فدعا أدنى حجّابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر، ففعل، فأقبلت بهاجر، فلما أحسّ إبراهيم بها انفتل من صلاته فقال: مهيم فقالت: كفى الله كيد الكافرين وأخدم هاجر.
وكان أبو هريرة يقول: تلك أمكم يا بني ماء السماء، وروى أبو هريرة عن النبي، ﷺ، أنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث مرات، اثنتين في ذات الله، قوله: (إني سقيم) وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وقوله في سارة: هي أختي).
ذكر ولادة إسماعيل عليه السلام وحمله إلى مكة
قيل: كانت هاجر جارية ذات هيئة فوهبتها سارة لإبراهيم وقالت: خذها لعلّ الله يرزقك منها ولداً، وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت، فوقع إبراهيم على هاجر فولدت إسماعيل، ولهذا قال النبي، ﷺ: إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإنّ لهم ذمّة ورحماً)، يعني ولادة هاجر. فكان إبراهيم قد خرج بها إلى الشام من مصر خوفاً من فرعون، فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع مسيرة يوم وليلة، فبعثه الله نبيّاً، وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئراً ومسجداً، وكان ماء البئر معيناً طاهراً، فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم، فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم، فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معيناً طاهراً فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض، فخرجوا بالأعنز، فلمّا وقفت على الماء ظهر إليها، وكانوا يشربون منه، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء إلى الذي هو عليه اليوم، وأقام إبراهيم بين الرملة وإيليا ببلد يقال له قطّ أوقطّ.
قال: فلما ولد إسماعيل حزنت سارة حزناً شديداً، فوهبها الله إسحاق وعمرها سبعون سنة، فعمر إبراهيم مائة وعشرون سنة، فلما كبر إسماعيل واسحاق اختصما، فغضبت سارة على هاجر فأخرجتها ثم أعادتها، فغارت منها فأخرجتها وحلفت لتقطعن منهابضعة فتركت أنفها وأذنها لئلا تشينها ثم خفضتها، فمن ثمّ خفض النساء، وقيل: كان إسماعيل صغيراً، وإنما أخرجتها سارة غيرةً منها، وهو الصحيح، وقالت سارة: لا تساكنني في بلد، فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت، فجاء إبراهيم باسماعيل وأمّه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم، فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس؟ قال: ربي أمرني، قالت: فإنّه لن يضيعنا، فلما ولّى قال: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) ابراهيم: 14 : 38 يعني من الحزن، وقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) الآية ابراهيم: 14 : 38.
فلمّا ظميء إسماعيل جعل يدحض الأرض برجله، فانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئاً، فلم تر شيئاً، فانحدرت إلى الوادي فسعت حتى أتت المروة فاستشرفت هل ترى شيئاً فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات، فذلك أصل السعي، ثمّ جاءت إلى إسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين، وهي زمزم، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء، وكلّما اجتمع أخذته وجعلته في سقائها، قال: فقال النبي، ﷺ،: (يرحمها الله لو تركتها لكانت عيناً سائحة).
وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكّة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاؤوا إلى هاجر فقالوا: لو شئت لكنّا معك فآنسناك والماء ماؤك، قالت: نعم، فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده، فهم العرب المتعرّبة.
واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه ألا ينزل، فقدم وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ليس ههنا، ذهب يتصيّد، وكان إسماعيل بخرج من الحرم يتصيّد ثم يرجع، قال ابراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي ضيافة وما عندي أحد، فقال ابراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه.
وعاد ابراهيم، وجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل عندك أحد؟ قالت: جاءني شيخ كذا وكذا، كالمستخفّة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه، فطلّقها وتزوج أخرى.
فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور اسماعيل، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لأمرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب ليتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى، فانزل يرحمك الله، فقال لهاك فعندك ضيافة؟ قالت: نعم، قال: فهل عندك خبز أوبرٌّ أو شعير لكانت أكثر أرض الله من ذلك، فقالت: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام بالإناء فوضعته عند شقّه الأيمن، فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه فيه، فغسلت شقّ رأسه الأيمن ثمّ حوّلت المقام إلى شقه الأيسر ففعلت به كذلك، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك- فلمّا جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لأمرأته: هل جاءكِ أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس وجهاً وأطيبهم ريحاً فقال لي كذا وكذا، وقلتُ له كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدمه، وهو يُقرئك السلام ويقول: قد استقامت عتبة بابك، قال: ذلك إبراهيم.
وقيل: إنّ الذي أنبع الماء جبرائيل، فإنه نزل إلى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسّه فقالت: قد أسمعتني فأغثني فقد هلكتُ أنا ومن معي، فجاء بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً، فتعجلت، فجعلت تفرغ في شنّها، فقال لها: لا تخافي الظمأ.
ذكر عمارة البيت الحرام بمكة
قيل: ثم أمر الله إبراهيم ببناء البيت الحرام، فضاق بذلك ذرعاً فأرسل الله السكينة، وهي ريح خجوج، وهي الليّنة الهبوب، لها رأسان، فسار معها إبراهيم حتى انتهت إلى موضع البيت فتطوت عليه كتطوي الحجفة، فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقرّ السكينة، فبنى إبراهيم. وقيل: أرسل الله مثل الغمامة له رأس فكلّمه وقال: يا إبراهيم ابن على ظلّي أو على قدري لا تزدْ ولا تنقص، فبنى، وهذان القولان نُقِلا عن عليّ، وقال السّدّيّ: الذي دلّه على موضع البيت جبرائيل.
فسار إبراهيم إلى مكّة، فلمّا وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلاً له وراء زمزم، فقال له: يا إسماعيل إنّ الله قد أمرني أن أبني له بيتاً، قال اسماعيل: فأطع ربّك، فقال ابراهيم: قد أمرك أن تعينني على بنائه، قال: إذن أفعل، قال فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه واسماعيل يناوله الحجارة، ثمّ قال إبراهيم لاسماعيل: إيتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علماً، فناداه أبو قبيس: إنّ لك عندي وديعة، وقيل: بل جبرائيل أخبره بالحجر الأسود، فأخذه ووضعه موضعه، وكانا كلّما بنيا دعوا الله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة: 2 : 127.
فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر، وهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله، فلمّا فرغ من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّنْ وعليّ البلاغ، فنادى: أيها الناس إنّ الله قد كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق فيعلم الله أن يحج إلى يوم القيامة، فأجيب: لبيّك لبيك ثم خرج بإسماعيل معه إلى التروية فنزل به منىً ومن معه من المسلمين فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات حتى أصبح فصلّى بهم الفجر، ثمّ سار إلى عرفة فأقام بهم هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثمّ راح بهم إلى الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام، فوقف به على الأراك، فلما غربت الشمس دفع به ون معه حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات بها ومن معه حتى إذا طلع الفجرُ صلّى الغداة ثمّ وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة وأراه المنحر ثمّ نحر وحلق وأراه كيف يوطف ثمّ عاد به إلى منىً ليريه كيف رميُ الجمار حتى فرغ من الحجّ.
وروي عن النبي، ﷺ، أن جبرائيل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحجّ، ورواه عنه ابن عمر، ولم يزل البيت على ماب ناه إبراهيم، عليه السلام، إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد النبيّ ﷺ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قصة الذبح
واختلف السلف من المسلمين في الذّبيح، فقال بعضهم: هو اسماعيل، وقال بعضهم: هو إسحاق، وقد روي عن النبيّ، ﷺ، كلا القولين، ولو كان فيهما صحيح لم نعدُه إلى غيره؛ فأمّا الحديث في أنّ الذبيح إسحاق فقد روى الأحنف عن العباس بن عبد المطلب عن رسول الله، ﷺ، في حديث ذكر فيه: (وفديناه بذبحٍ عظيم) الصافات: 37 : 107 هو إسحاق، وقد روى هذا الحديث عن العبّاس من قوله لم يرفعه. وأما الحديث الآخر في أن الذبيح إسماعيل فقد روى الصنابحي قال: كنّا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح فقال: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله، ﷺ، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله عُد عليَّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فضحك، ﷺ، فقيل لمعاوية: وا الذبيحان؟ فقال: إنّ عبد المطلب نذر إن سهّل الله حفر زمزم أن يذبح أحد أولاده، فخرج السهم على عبد الله أبي النبي، صلى الله عليه سلم، ففداه بمائة بعير، وسنذكره إن شاء الله، والذبيح الثاني إسماعيل.
ذكر من قال إنه إسحاق
ذهب عمربن الخطاب وعليّ والعبّاس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، رضي الله عنهم، فيما رواه عنه عكرمة وعبد الله بن مسعود وكعب وابن سابط وابن أبي الهذيل ومسروق إلى أنّ الذبيح إسحاق، عليه السلام.حدّث عمرو بن أبي سفيان بن أبي أسيد بن أبي جارية الثقفي أن كعباً قال لأبي هريرة: ألا أخبرك عن إسحاق بن ابراهيم؟ قال: بلى، قال كعب: لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق قال الشيطان: والله لئن لم أفتتن عند هذا آل إبراهيم لم أفتتن أحداً منهم بعد ذلك أبداً، فتمثّل رجلاً يعرفونه فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارة امرأة إبراهيم فقال لها: أين أصبح إبراهيم غادياً بإسحاق؟ قالت: لبعض حاجته، قال: لا والله إنما غدا به ليذبحه قالت سارة: لم يكن ليذبح ولده، قال الشيطان: بلى والله لأنّه زعم أنّ الله قد أمره بذلك، قالت سارة: فهذا أحسن أن يطيع ربّه، ثمّ خرج الشيطان فأدرك إسحاق وهو مع أبيه فقال له: إنّ إبراهيم يريد أن يذبحك قال إسحاق: ما كان ليفعل، قال: بلى والله إنه زعم أنّ ربّه أمره بذلك، قال اسحاق: فوالله لئن أمره ربّه بذلك ليطيعنّه فتركه ولحق إبراهيم فقال: أين أصبحت غادياً بابنك؟ قال: لبعض حاجتي، قال: لا والله إنما تريد ذبحه قال: ولِمَ؟ قال: لأنك زعمت أنّ الله أمرك بذلك، قال ابراهيم: فو الله إن كان الله أمرني بذلك لأفعلن. فلما أخذ إبراهيم اسحاق ليذبحه أعفاه الله من ذلك وفداه بذبح عظيم، وأوحى الله إلى إسحاق: إنّي معطيك دعوة أستجيب لك فيها، قال اسحاق: اللهم فأيّما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنّة. وقال عبيد بن عمير: قال موسى: يا ربّ يقولون يا إله إبراهيم واسحاق ويعقوب، فبم نالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني، وإن اسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإنّ يعقوب كلما زدته بلاءً زادني حسن ظنّ بي. أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين، وجارية بالجيم.
ذكر من قال ان الذبيح إسماعيل عليه السلام
روى سعيد بن جبير ويوسف بن مهران والشعبي ومجاهد وعطاء بن أبي رباح كلّهم عن أبن عبّاس أنّه قال: إنّ الذبيح اسماعيل، وقال: زعمت اليهود أنه اسحاق، وكذبت اليهود، وقال أبو الطفيل والشعبيّ: رأيت قرني الكبش في الكعبة. قال محمد بن كعب: إنّ الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه اسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أمر به من ذبحه ابنه أنّه اسماعيل، وذلك أنّ الله تعالى حين فرغ من قصّة المذبوح من ابني إبراهيم قال: (وبشرناه بإسحق نبيّاً من الصالحين) الصافات: 37 : 100، ويقول: وبشرناه بإسحاق نبيّاً، ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح اسحاق، وله فيه من الله عزّ وجلّ ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلاّ اسماعيل؛ فذكر ذلك محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال: إنّ هذا الشيء ما كنتُ أنظر فيه وإنّي لأراه كما قلت.
ذكر السبب الذي من أجله أُمر إبراهيم بالذبح وصفة الذبح
قيل: أمر الله ابراهيم، عليه السلام، بذبح ابنه فيما ذكر أنّه دعا الله أن يهب له ولداً ذكراً صالحاً، فقال: (رب هب لي من الصالحين) الصافات: 37 : 112، فلما بشرته الملائكة بغلام حليم قال: إذن هو لله ذبيح، فلمّا ولد الغلامُ وبلغ معه السعي قيل له: أوفِ نذرك الذي نذرت، وهذا على قول من زعم أن الذبيح اسحاق، وقائل هذا يزعم أن ذلك كان بالشام على ميلين من إيليا، وأما من زعم أنه إسماعيل فيقول: إنّ ذلك كان بمكة.
قال محمّد بن اسحاق: إنّ إبراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب لأهلك، فلمّا توجه اعترضه إبليس ليصدّه عن ذلك، فقال: إليك عني يا عدوّ الله فو الله لأمضينّ لأمر الله فاعترض إسماعيل فأعلمه ما يريد إبراهيم يصنع به، فقال: سمعاً لأمر ربيّ وطاعة، فذهب إلى هاجر فأعلمها، فقالت: إن كان ربّه أمره بذلك فتسليماً لأمر الله، فرجع بغيظه لم يصبْ منهم شيئاً.
فلمّا خلا إبراهيم بالشعب، وهو شعب ثبير، قال له: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، الصافات: 37 : 102، ثم قال له: يا أبتِ إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري، فإنّ الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبّني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنّك تدركك رحمةٌ فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى هاجر أمّي فعسى أن يكون أسلى لها عني، فافعل، فقال ابراهيم: نعم المعين أنت، أي بني، على أمر الله فربطه كما أمره ثم حدّ شفرته (وتلّه للجبين)، ثم ادخل الشفرة لخلقه، فقلبها الله لقفاها ثمّ اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) الصافات: 37 : 104، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها.
وقيل: جعل الله على خلقه صحيفة نحاس، قال ابن عباس: خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفاً، وقيل: هو الكبش الذي قرّبه هابيل، وقال عليّ، عليه السلام: كان كبشاً أقرن أعين أبيض، وقال الحسن: ما فُدي إسماعيل إلاّ بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه، قيل: بالمقام، وقيل: بمنىً في المنحر.
ذكر ما امتحن الله به إبراهيم عليه السلام
بعد ابتلاء الله تعالى إبراهيم بما كان من نمرود وذبح ولده بعد أن رجا نفعه ابتلاه الله بالكلمات التي أخبر أنّه ابتلاه بهنّ فقال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن) البقرة: 2 : 124، واختلف السلف من العلماء الأئمة في هذه الكلمات، فقال ابن عباس من رواية عكرمة عنه في قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن): لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا ابراهيم، وقال الله: (وإبراهيم الذي وفّى) النجم: 53 : 37، قال: والكلمات عشر في براءة، وهي: (العابدون الحامدون) الآية التوبة: 112، وعشر في الأحزاب، وهي: (إن المسلمين والمسلمات) الآية الاحزاب: 35، وعشر في المؤمنين من أولها إلى قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) المعارج: 34، وقال آخرون: هي عشر خصال.
قال ابن عباس من رواية طاووس وغيره عنه: الكلمات عشر، وهي خمس في الرأس: قصّ الارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد، وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والحيتان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط ، وقال آخرون: هي مناسك الحج، وقوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) البقرة: 2 : 124 وهو قول أبي صالح ومجاهد، وقال آخرون: هي ستّ، وهي: الكواكب والقمر والشمس والنار والهجرة والختان. وذبح ابنه، وهو قول الحسن، قال: ابتلاه بذلك فعرف أنّ ربّه دائم لا يزول فوجّه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهاجر من وطنه وأراد ذبح ابنه وختن نفسه، وقيل غير ذلك ممّا لا حاجة إليه في التاريخ المختصر، وإنما ذكرنا هذا القدر لئلا يخلو من فصول الكتاب.
ذكر عدو الله نمرود وهلاكه
ونرجع الآن إلى خبر عدوّ الله نمرود وما آل إليه أمره في دنياه وتمرّده على الله تعالى وإملاء الله له، وكان أول جبّار في الأرض، وكان إحراقه إبراهيم ما قدّمنا ذكره، فأخرج إبراهيم، عليه السلام، من مدينته وحلف أنه يطلب إله ابراهيم، فأخذ أربعة أفرخ نسور فربّاهنّ باللّحم والخمر حتى كبرن وغلظن، فقرنّنّ بتابوت وقعد في ذلك التابوت فأخذ معه رجلاً ومع لحم لهنّ، فطرن به حتى إذا ذهبن أشرف ينظر إلى الأرض فرأى الجبال تدبّ كالنّمل، ثم رفع لهنّ اللحم ونظر إلى الأرض فرآها يحيط بها بحر كأنّها فلك في ماء، ثمّ رفع طويلاً فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته، ففزع وألقى اللحم، فاتّبعته النسور منقضّات، فلمّا نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهنّ فزعت الجبال وكادت تزول ولم يفعلن، وذلك قول الله تعالى: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) ابراهيم: 14 : 47، وكانت طيرورتهنّ من بيت المقدس، ووقوعهنّ في جبل الدخان.
فلمّا رأى أنه لايطيق شيئاً أخذ ف يبنيان الصرخ فبناه حتى علا وارتقى فوقه ينظر إلى إله إبراهيم بزعمه وأحدث، ولم يكن يحدث، وأخذ الله بنيانهم من القواعد من أساس الصرخ فسقط وتبلبلت الألسن يومئذ من الفزع، فتكلّموا بثلاثة وسبعين لساناً، وكان لسان الناس قبل ذلك سُريانياً.
هكذا روي أنه لم يحدث، وهذا ليس بشيء، فإن الطبع البشريّ لم يخل منه إنسان حتى الأنبياء، صلوات الله عليهم، وهم أكثر اتصالاً بالعالم العلويّ وأشرف أنفساً، ومع هذا فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوّطون، فلو نجا منه أحد لكان الأنبياء أولى لشرفهم وقربهم من الله تعالى، وإن كان لكثرة ملكه فالصحيح أنه لم يملك مستقلاً، ولو ملك مستقلاً لكان الإسكندر أكثر ملكاً منه ومع هذا فلم يقل فيه شيء من هذا.
قال زيد بن أسلم: إن الله تعالى بعث إلى نمرود بعد إبراهيم ملكاً يعدوه إلى الله أربع مرات فأبى وقال: أربّ غيري؟ فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع جموعه، ففتح الله عليه باباً من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروهامن كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلتهم ولم يبق منهم إلا العظام والملك كما هو لم يصبه شيء، فأرسل الله عليه بعوضةً فدخلت في منخره فمكث يضرب رأسه بالمطارق فأرحم الناس به من يمع يديه ويضرب بهما رأسه، وكان ملكه ذلك أربعمائة سنة، وأماته الله تعالى، وهو الذي بنى الصرح.
وقال جماعة: إن نمرود ن كنعان ملك مشرق الأرض ومغربها، وهذا قول يدفعه أهل العلم بالسير وأخبار الملوك، وذلك أنهم لا ينكرون ان مولد إبراهيم كان أيام الضحّاك الذي ذكرنا بعض أخباره فيما مضى، وأنه كان ملك شرق الأرض وغربها، وقول القائل إنّ الضحّاك الذي ملك الأرض هو نمرود ليس بصحيح، لأن أهل العلم المتقدّمين يذكرون أنّ نسب نمرود في النّبط معروف، ونسب الضحّاك في الفرس مشهور، وإنما الضحّاك استعمل نمرود على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة وجعله وولده عمّالاً على ذلك، وكان هو ينتقل في البلاد، وكان وطنه ووطن أجداده دنباوند من جبال طبرستان، وهناك رمى به أفريدون حين ظفر به، وكذلك بخت نصّر.
ذكر بعضهم أنه ملك الأرض جميعها، وليس كذلك، وإنما كان اصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة من قبل لُهراسب، لأنّ لهراسب كان مشتغلاً بقتال الترك مقيماً بإزائهم ببلخ، وهو بناها لما تطاول مقامه هناك لحرب الترك، ولم يملك أحد من النبط شبراً من الأرض مستقلاً برأسه، فكيف الأرض جميعها وإنما تطاولت مدّة نمرود بالسواد أربعمائة سنة ثمّ دخل من نسله بعد هلاكه جيل يقال له نبط بن قعود ملك بعده مائة سنة، ثمّ كداوص بن نبط ثمانين سنة، ثم بالش بن كداوص مائة وعشرين سنة، ثمّ نمرود بن بالش سنة وشهراً، فذلك سبع مائة سنة وسنة، وشهد أيام الضحّاك، وظنّ الناس في نمرود ما ذكرناه، فلمّا ملك أفريدون وقهر لازدهاق قتل نمرود بن بالش وشرد النبط وقتل فيهم مقتلةً عظيمة.
ذكر قصة لوط وقومه
قد ذكرنا مهاجر لوط مع ابراهيم، عليه السلام، إلى مصر وعودهم إلى الشام ومقام لوط بسدوم. فلمّا أقام بها أرسله الله إلى أهلها، وكانوا أه كفر بالله تعالى وركوب فاحشة، كما قال تعال: (إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) فكان قطعهم السبيل أنهم كانوا يأخذون المسافر إذا مر بهم ويعلمون به ذلك العمل الخبيث، وهو اللّواطة، وأما إتيانهم المنكر في ناديهم فقيل كانوا يحذفون من مرّ بهم ويسخرون منهم، وقيل: كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقيل: كان يأتي بعضهم بعضاً في مجالسهم. وكان لوط يدعوهم إلى عبادة الله وينهاهم عن الأمور التي يكرهها الله منهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار ويتوعدهم على إصرارهم وترك التوبة بالعذاب الأليم، فلا يزجرهم ذلك ولا يزيدهم وعظه إلا تمادياً واستعجالاً لعقاب الله إنكاراً منهم لوعيده ويقولون له: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، حتى سأل لوط ربّه النصرة عليهم لما تطاول عليه أمرهم وتماديهم في غيّهم. فبعث الله، لما أراد هلاكهم ونصر رسوله، جبرائيل وملكين آخرين معه أحدهما ميكائيل والآخر إسرافيل، فأقبلوا فيما ذكر مشاة في صورة رجال وأمرهم أن يبدأوا بإبراهيم وسارة ويبشّروه باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
فلمّا نزلوا على إبراهيم، وكان الضيف قد أبطأ عنه خمسة عشر يوماً حتى شقّ ذلك عليه، وكان يضيف من نزل به، وقد وسّع الله عليه الرزق، فرح بهم ورأى ضيفاً لم ير مثلهم حسناً وجمالاً، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلاّ أنا بيدي، فخرج إلى أهله فجاء بعجل سمين قد حنّذه، أي أنضجه، فقرّبه إليهم، فأمسكوا أيديهم عنه، (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوطٍ، وامرأته - سارة - قائمة فضحكت - لما عرفت من أمر الله ولما تعلم من قوم لوط - فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) فقالت، وصكّت وجهها: (أألد وأنا عجوز)، إلى قوله: (حميد مجيد)، وكانت ابنة تسعين سنة وابراهيم ابن عشرين ومائة.
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ذهب يجادل جبرائيل في قوم لوط، فقال له: أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين لم يعذّبهم؟ قال: وأربعون، قالوا: وأربعون؟ قال: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كان فيهم عشرة؟ قال: ما قم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ثم قال: (إنّ فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). ثمّ مضت الملائكة نحو سدوم قرية لوط، فلمّا انتهوا إليها لقوا لوطاً في أرض له يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: لاتهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فأتوه فقالوا: إنّا متضيفوك اللّيلة، فانطلق بهم، فلّما مشى ساعة التفت إليهم فقال لهم: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض إنساناً أخبث منهم، حتى قال ذلك أربع مرّات.
وقيل: بل لقوا ابنته فقالوا: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، خافت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت أصبح وجوهاً منهم لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وكان قومه قد نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم إلاّ أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت لهم: قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً منهم ولا أطيب رائحة، فجاءه قومه يهرعون إليه، فقال: يا قوم (اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد)، فنهاهم ورغبّهم وقال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) مما تريدون، (قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) هود: 11 : 79 (أولم ننهك عن العالمين) الحجر: 15 : 70، فلما لم يقبلوا منه (قال: لو أنّ لي بكم قوّة أو اوي إلى ركن شديد) هود: 11 : 80 يعني لو أنّ لي أنصاراً أو عشيرة يمنعوني منكم، فلمّا قال ذلك وجد عليه الرسل فقالوا: إنّ ركنك لشديد ولم يبعث الله نبياً إلا في ثروة من قومه ومنعة من عشيرته، وأغلق لوط الباب، فعالجوه، وفتح لوط الباب، فدخلوا، واستأذن جبرائيل ربّه في عقوبتهم فأذن له فبسط جناحه ففقأ أعينهم وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً يقولون: النجاء النجاء فنّ في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقالوا للوط: (إنا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود: 11 : 81 (واتبع أدبارهم : وامضوا حيث تؤمرون) الحجر: 15 : 65.
فأخرجهم الله إلى الشام وقال لوط: أهلكوهم الساعة؛ فقالوا: لن نؤمر إلاّ بالصبح، (أليس الصبح بقريب) هود: 11 : 81، فملا كان الصبح أدخل جبرائيل، وقيل ميكائيل، جناحه في أرضهم وقراهم الخمس فرفعها حتى سمع أهل المساء صياح ديكتهم ونباح كلابهم، ثمّ قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل فأهلكت من لم يكن بالقرى، وسمعت امرأة لوط الهدّة فقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها، ونجّى الله لوطاً وأهله إلاّ امرأته، وذكر أنه كان فيها أربعمائة ألف، وكان إبراهيم يتشرّف عليها ويقول: سدوم يوماً هالك، ومدائن قوم لوط خمس: سدوم وصبعة وعمرة ودوما وصعوة، وسدوم هي القرية العظمى. قوله يهرعون إليه، هو مشيٌ بين الهرولة والجمز.
ذكر وفاة سارة زوج إبراهيم عليه السلام وذكر أولاده وأزواجه
لا يدفع أحد من أهل العلم أن سارة توفيّت بالشام ولها مائة وسبع وعشرون سنة، وقيل: إنها كانت بقرية الجبابرة من أرض كنعان، وقيل: عاشت هاجر بعد سارة مدّة، والصحيح أن هاجر توفيّت قبل سارة، كما ذكرنا في مسير إبراهيم إلى مكّة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. فلمّا ماتت سارة تزوج بعدها قطوراً ابنة يقطن امرأة من الكنعانيين فولدت له ستّة نفر: نفشان ومران ومديان ومدن ونشق وسرح، وكان جميع أولاد إبراهيم مع إسماعيل واسحاق ثمانية نفر، وكان إسماعيل بكره؛ وقيل في عدد أولاده غير ذلك، فالبربر من ولد نفشان، وأهل مدين قوم شعيب من ولد مديان. وقيل: تزوج بعد قطورا امرأة اخرى اسمها حجون ابنة اهير.
ذكر وفاة إبراهيم وعدد ما أنزل عليه
قيل: لما أراد الله قبض روح إبراهيم أرسل اليه ملك الموت في صورة شيخ هرم، فرآه إبراهيم وهو يطعم الناس وهو شيخ كبير في الحرّ، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه فيدخلها في عينه وأذنه ثمّ يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره، وكان إبراهيم سأل ربّه أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال: يا شيخ مالك تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم الكبر، قال: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين، فقال ابراهيم: إنّما بيني وبين أن أصير هكذا سنتان، اللهم اقبضني إليك فقام الشيخ وقبض روحه ومات وهو ابن مائتي سنة.
وقيل مائة وخمس وسبعين سنة، وهذا عندي فيه نظر لأن إبراهيم لا يخلو أن يكون قد رأى من هو أكبر منه بسنتين أو أكثر من ذلك، فإنّ من عاش مائتي سنة كيف لا يرى من هو أكبر منه بهذا القدر القريب؟ ولكن هكذا روي، ثمّ إنه قد بلغه عمر نوح ولم يصبه شيء مما رأى بذلك الرجل.
وروى أبو ذرّ عن النبي، ﷺ، أنه قال: وأنزل الله على إبراهيم عشر صحائف، قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلّها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وكان فيها أمثال، منها: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزوده لمعاده ومرَّمة لمعاشه ولذّة ي غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بأمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه. وهو أوّل من اختتن، وأوّل من أضاف الضيف، وأوّل من اتخذ السراويل، إلى غير ذلك من الأقاويل.
ذكر خبر ولد إسماعيل بن إبراهيم
قد ذكرنا فيما مضى سبب إسكان إسماعيل الحرم وتزوّجه امرأة من جرهم وفراقه إيّاها بأمر إبراهيم ثمّ تزوّج أخرى، وهي السيدة بنت مضاض الجرهمي، وهي التي قال لها: قولي لزوجك: قد رضيت لك عتبة بابك، فولدت لإسماعيل اثني عشر رجلاً: نابت وقيدار واذيل وميشا ومسمع ورما وماش وآذر وقطورا وقافس وطميا وقيدمان، وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون سبعاً وثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدار ابني إسماعيل نشر الله العرب، وأرسله الله تعالى إلى العماليق وقبائل اليمن، وقد ينطق أولاد إسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت، ولما حضرت إسماعيل الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق، وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، ودفن عند قبر أمّه هاجر بالحجر.
ذكر إسحاق بن إبراهيم وأولاده
قيل: ونكح إسحاق رفقا بنت بتويل فولدت له عيصاً ويعقوب توأمين، وإن عيصاً كان أكبرهما، وكان عمر إسحاق لما ولد له ستين سنة، ثمّ نكح عيص بن إسحاق نسمة بنت عمه إسماعيل فولدت له الروم بن عيص، وكلّ بني الأصفر من ولد، وزعم بعض الناس أنّ اشبان من ولده.
ونكح يعقوب بن إسحاق - وهو إسرائيل - ابنة خاله ليا بنت لبان بن بتويل فولدت له روبيل، وكان أكبر ولده، وشمعون ولاوي ويهوذا وزبالون ولشحر، وقيل ويشحر، ثمّ توفّيت ليا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وهو بالعربية شداد، وولد له من سرِّيتين أربعة نفر: دان ونفتالي وجاد واشر، وكان ليعقوب اثنا عشر رجلاً.
قال السّدّيّ: تزوّج إسحاق بجارية فحملت بغلامين، فلما أرادت أن تضع زراد يعقوب أن يخرج قبل عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقب عيص، فسمّي يعقوب وسمّي أخوه عيصاً لعصيانه، وكان عيص أحبّهما إلي أبيه ويعقوب أحبّهما إلى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فقال له اسحاق لما كبر وعمي: يا بنيّ أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلاً أشعر، وكان يعقوب أجرد، وسمعت أمهما ذلك وقالت ليعقوب: يا بنيّ أذبح شاة واشوها والبس جلدها وقرّبها إلى أبيك وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كلْ، قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، فمسحه اسحاق فقال: المسّ مسّ عيص والريح ريح يعقوب، فقالت أمّه: إنّه عيص فكلْ، فأكل ودعا له أن يجعل الله في ذرّيته الأنبياء والملوك.
وقام يعقوب وجاء عيص، وكان في الصيد، فقال لأبيه: قد جئتك بالصيد الذي طلبت، فقال: يا بنيّ قد سبقك أخوك، فحلف عيص ليقتلنّ يعقوب، فقال: يا بنيّ قد بقيت لك دعوة، فدعا له أن يكون ذرّيّتُه عدد التراب وأن لا يملكهم غيرهم.
وهرب يعقوب خوفاً من أخيه إلى خاله، وكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، فلذلك سمي إسرائيل، ثم إن يعقوب تزوج ابنتي خاله جمع بينهما، فلذلك قال الله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) النساء: 4 : 23، وولد له منهما، فماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، وأراد يعقوب الرجوع إلى بيت المقدس فأعطاه خاله قطيع غنم، فلمّا ارتحلوا لم يكن لهم نفقة، فقالت زوجة يعقوب ليوسف: اسرق صنماً من أصنام أبي نستنفق منه، فسرق صنماً من أصنام أبيها.
وأحبّ يعقوب يوسف وأخاه بنيامين حبّاً شديداً ليتمهما، وقال يعقوب لراع من الرّعاة: إذا أتاكم أحد يسألكم من أنتم فقولوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فسألهم فأجابه الراعي بذلك الجواب، فكفّ عيص عن يعقوب ونزل يعقوب الشام، ومات إسحاق بالشام وعمره مائة وستون سنة ودفن عند أبيه إبراهيم، عليه السلام.
قصّة أيوب عليه السلام
وهو رجل من الروم من ولد عيص، وهو أيّوب بن موص بن رازج بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم، وقيل: موص بن روعيل بن عيص، وكانت زوجته التي أمر أن يضربها بالضغّث ليا ابنة يعقوب بن اسحاق، وقيل: هي رحمة ابنة إبراهيم بن يوسف، وكانت أمه من ولد لوط، وكان دينه التوحيد والإصلاح بين النّاس، وإذا أراد حاجة سجد ثمّ طلبها.
وكان من حديثه وسبب بلائه أنّ إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب حين ذكره الله فحسده وسأل الله أن يسلّطه عليه ليفتنه عن دينه، فسّلطه على ماله حسب، فجمع إبليس عظماء أصحابه من العفاريت، وكان لأيّوب البثنيّة جميعها من أعمال دمشق بما فيها، وكان له فيها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة الفدّان أتان وكلّ أتان ولد واثنان وما فوق ذلك، فلمّا جمعهم إبليس قال: ما عندكم من القوّة والمعرفة فإني قد تسلطت على مال أيوب، فقال كل منهم قولاً، فأرسلهم فأهلكوا ماله كله وأيوب يحمد الله ولا يرجع عن الجدّ في عبادته والشكر له على ما أعطاه والصرب على ما ابتلاه.
فلما رأى ذلك إبلس من أمره سأل الله أن يسلطه على ولده، فسلّطه عليهم ولم يجعل له سلطاناً على جسده ولا عقله وقلبه، فأهلك ولده كلهم، ثمّ جاء إليه متمثلاً بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحاً مشدوخاً يرقّقه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فسرّ بذلك إبليس.
ثمّ إنّ أيّوب ندم لذلك وجدّ واستغفر، فصعد حفظته من الملائكة بتوبته إلى الله قبل إبليس، فلما لم يرجع أيوب عن عبادة ربّه والصبر على ما ابتلاه به سأل الله تعالى أن يسلّطه على جسده، فسّلطه عليه خلا لسانه وقلبه وعقله فإنه لم يجعل له على ذلك سلطاناً، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار أمره إلى أن انتثر لحمه وامتلأ جسده دوداً، فإن كانت الدودة لتسقط من جسده فيردّها إليه ويقول: كُلي من رزق الله، وأصابه الجُذام، وكان أشدّ من ذلك عليه أنه كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقّأ، وأنتن حتى لم يطق أحد يشمّ ريحه، فأخرجه أهل القرية منها إلى الكُناسة خارج القرية لا يقربه أحد، إلا زوجته، وكانت تختلف إليه بما يصلحه، فبقي مطروحاً على الكناسة سبع سنين ما يسأل الله أن يكشف ما به، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه.
وقيل: كان سبب بلائه أن أرض الشام أجدبت فأرسل فرعون إلى أيّوب أن هلمّ إلينا فإنّ لك عندنا سعة، فأقبل بأهله وخيله وماشيته، فأقطعهم فرعون القطائع، ثم إنّ شعيباً النبيّ دخل إلى فرعون فقال: يافرعون أما تخاف أن يغضب الله غضبة فيغضب لغضبه أهل السماء وأهل الأرض والبحار والجبال؟ وأيوب ساكت لا يتكلم، فلمّا خرجا أوحى الله إلى أيوب: يا أيّوب سكتَّ عن فرعون لذهابك إلى أرضه، استعد للبلاء، فقال أيوب: أما كنت أكفل اليتيم وآوي الغريب وأشبع الجائع وأكفت الأرملة؟ فمرّت سحابة يسمع فيها عشرة آلاف صوت من الصواعق يقولون: من فعل ذلك يا أيوب؟ فأخذ تراباً فوضعه على رأسه وقال: أنت ياربّ، فأوحى الله إليه: استعدّ للبلاء، قال: فديني؟ قال: أسلّمه لك، قال: فما أبالي. وقيل: كان السبب غير ذلك، وهو نحو مما ذكرنا.
فلما ابتلاه الله واشتد عليه البلاء قالت له امرأته: إنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك، فقال: كنّا في النعماء سبعين سنة فلنصبر في البلاء سبعين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، وقيل: إنما أقسم ليجلدها لأن إبليس ظهر لها وقال: بم أصابكم ما أصابكم؟ قالت: بقدر الله، قال: وهذا أيضاً بقدر الله فاتبعيني، فاتبعته، فأراها جميع ما ذهب منهم في وادٍ وقال: اسجدي لي وأرده عليكم، فقالت: إنّ لي زوجاً أستأمره، فلم أخبرت أيوب قال: ألم تعلمي أن ذلك الشيطان؟ لئن شفيت لأجلدنك مائة جلدة، وأبعدها وقال لها: طعامك وشرابك علي حرام لا أذوق مما تأتيني به شيئاً فابعدي عني فلا أراك، فذهبت عنه، فلما رأى أيوب أن امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجداً وقال: ربّ (إني مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين) الأنبياء: 21 : 83 كرّر ذلك، فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك، (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ص: 38 : 42، ورد الله إليه جسده وصورته.
وأما امرأته فقالت: كيف أتركه، وليس عنده أحد، يموت جوعاً وتأكله السبّاع؟ فرجعت إليه فرأت أيوب وقد عوفي، فلم تعرفه، فعجبت حيث لم تره على حاله، فقالت له: يا عبد الله هل رأيت ذلك ارجل المبتلى الذي كان ههنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، قال: هو أنا، فعرفته.
وقيل: إنما قال: مسني الضرّ لما وصل الدود إلى لسانه وقلبه خاف أن يبطل عن ذكر الله تعالى والفكر، وردّ الله إليه أهله ومثلهم معهم، قيل هم بأعيانهم، وقيل: ردّ الله إليه امرأته وردّ إليها شبابها فولدت له ستّة وعشرين ذكراً، وأنزل الله إليه ملكاً فقال: يا أيّوب نّ الله يقرئك السلام لصبرك على البلاء، اخرج إلى أندرك، فخرج إليه، فبعث الله سحابةً فألقت عليه جراداً من ذهب، وكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردّها في أندره، فقال الملك: أما تشبع من الداخل حتى تتّبع الخارج؟ فقال: إن هذه البركة من بركات ربّي لست أشبع منها.
وعاش أيوب بعد أن رفع عنه البلاد سبعين سنة، ولما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجوناً من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ليبرّ من يمينه، ففعل ذلك.
وقول أيّوب: ربّ إنّي مسّني الضرّ، دعاء ليس بشكوى، ودليله قوله تعالى: (فاستجبنا له) الأنبياء: 21 : 84.
وكان من دعاء أيّوب: أعوذ بالله من جارٍ عينه تراني إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة ذكرها، وقيل: كان سبب دعائه أنّه كان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه اسم أحدهم يلدد والآخر اليفر والثالث صافر، فانطلقوا إليه وهو في البلاء فبكّتوه أشدّ تبكيت وقالوا له: لقد أذنبت ذنباً ما أذنبه أحد، فلهذا لم يكشف العذاب عنك، وطال الجدال بينهم وبينه، فقال فتى كان معهم لهم كلاماً يردّ عليهم، فقال: قد تركتم من القول أحسنه، ومن الرأي أصوبه، ومن الأمر أجمله، وقد كان لأيّوب عليكم من الحقّ والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون حقّ من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبيّ الله وخيرته من خلقه يومكم هذا؟ ثمّ لم تعلموا ولم يعلمكم الله أنه سخط شيئاً من أمره ولا أنه نزع شيئاً من الكرامة التي كرم الله بها عباده ولا أن أيوب فعل غير الحقّ في طول ما صحبتموه، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في نفوسكم، فقد علمتم أنّ الله يبتلي النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وليس بلاوه لأولئك دليلاً على سخطه عليهم ولا على هوانهم عليه ولكنها كرامة وخيرة لهم، وأطال في هذا النحو من الكلام.
ثمّ قال لهم: وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يكلّ ألسنتكم ويكسر قلوبكم ويقطع حجتكم، ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشيته عن الكلام من غير عيّ ولا بكم؟ وإنهم لهم الفصحاء الألبّاء العلامون بالله وآياته ولكنّهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم وطاشت أحلامهم وعقولهم فزعاً من الله وهيبة له، فإذا أفاقوا استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين وإنّهم لأبرار، ومع المقصرين وإنّهم لأكياس أتقياء، ولكنهم لا يستكثرون لله عزّ وجلّ الكثير ولا يرضون له القليل ولا يدلّون عليه بالأعمال فهم أينما لقيتهم خائفون مهيمون وجلون.
فلمّا سمع أيوب كلامه قال: إنّ الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى كانت في القلب ظهرت على اللسان ولا تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل اله تعالى عبداً حكيماً عند الصِّبا لم تسقط منزلته عند الحكّام، ثمّ أقبل على الثلاثة فقال: رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بكم لو قلت لكم تصدّقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبّل ويرضى عني؟ وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم فظننتم أنّكم عوفيتم بإحسانكم فبغيتم وتعزّزتم، لو صدّقتم ونظرتم بينكم وبين ربّكم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله بالعافية، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف من حقّي، مستنصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم أشدّ عليَّ من مصيبتي.
ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستغيثاً به متضرّعاً إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني ليتني إن كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيصةً ملقاةً، ويا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتّني فالموت أجمل لي ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قيِّماً؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء عرضاً فقد وقع عليّ البلاء لو سلّطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ذهب المال فصرتُ أسأل بكفّي فيطعمني من كنتُ أعوله اللّقمة الواحدة فيمنّها عليّ ويعيِّرني هلك أولادي، ولو بقي أحدهم أعانني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي فتنكّرت معارفي، ورغب عني صديقي، وجحدت حقوقي، ونسيت صنائعي، أصرخ فلا يصرخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، دعوتُ غلامي فلم يجبني، وتضرّعت إلى أمتي فلم ترحمني، وإنّ قضاءك هو الذي آذاني وأقمأني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني، فلو أنّ ربيّ نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلّم ملء فمي ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ مولاه عن نفسه، لرجوتُ أن تعافيني عند ذلك، ولكنّه ألقاني وعلا عني فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني فأتكلّم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلمّا قال أيّوب ذلك أظلّتهم غمامة ونودي منها: يا أيوب إنّ الله يقول قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً فقم فأدلِ بحجتك وتكلّم ببراءتك وقم مقام جبّار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار.
تجعل الزيار في فم الأسد واللّجام في فم التنين وتكيل مكيالاً من التنور وتزن مثقالاً من الريح وتصرّ صرّة من الشمس وتردّ أمس، لقد منتك نفسك أمراً لا تبلغه بمثل قوّتك، أردت أن تكابرني بضعفك أم تخاصمني بعيّك أم تحاجّني بخطلك أين أنت مني يوم خلقت الأرض؟ هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أين كنت معي يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا بعلائق ولا بدعائم تحملها؟ هل تبلغ حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ وذكر أشياء من مصنوعات الله.
فقال أيوب: قصرت عن هذا الأمر ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخطك إلهي اجتمع عليّ البلاء وأنا أعلم أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية، تعلم ما تخفي القلوب، وقد علمت في بلائي ما لم أكن أعلمه، كنت اسمع بسطوتك سمعاً فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلّمت بما تكلّمت به لتعذرني، وسكتّ لترحمني، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خديّ فدسستُ فيه وجهي فلا أعود لشيء تكرهه، ودعا.
فقال الله: يا أيوب نفذ فيك حكمي وسبقت رحمتي غضبي، قد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وعبرة لأهل البلاء وعزاءً للصابرين، ف (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) ص: 38 : 42 فيه شفاء، وقرّب عن اصحابك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، فركض برجله فانفجرت له عين ماء فاغتسل فهيا، فرفع الله عنه البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فسألته عنه فقال: هل تعرفينه؟ قالت: نعم، مالي لا أعرفه فتبسّم، فعرفته بضحكه، فاعتنقته فلم تفارقه من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد.
وإنما ذكرته قبل يوسف وقصّته لما ذكر بعضهم من أمره وأنه كان نبيّاً في عهد يعقوب.
وذكر أن عمر أيوب كان ثلاثاً وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته إلى ابنه حومل، وأن الله بعد بعده ابنه بشر بن أيوب نبيّاً وسمّا ذا الكفل، وكان مقيماً بالشام حتى مات، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، فأوصي إلى ابنه عيدان، وأنّ الله بعث بعده شعيب بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم، عليه السلام.
ذكر قصة يوسف عليه السلام
ذكروا أنّ اسحاق توفّي وعمره ستون ومائة سنة، وقبره عند أبيه ابراهيم، قبره ابناه يعقوب وعيص في مزرعة حبرون، وكان عمر يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قسم له ولأمّه شطر الحسن، وكان يعقوب قد دفعه إلى أخته ابنة اسحاق تحضنه، فأحبّته حبّاً شديداً وأحبّه يعقوب أيضاً حبّاً شديداً، فقال لأخته: يا أخيّه سلّمي إليّ يوسف فوالله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، فقالت: والله ما أنا بتاركته ساعة، فأصرّ يعقوب على أخذه منها، فقالت: أتركه عندي أيّاماً لعلّ ذلك يسليني، ثمّ عمدت إلى منطقة اسحاق، وكانت عندها، لأنها كانت أكبر ولده، فحزمتها على وسط يوسف ثمّ قالت: قد فقدت المنطقة فانظروا من أخذها، فالتمست، فقالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، وكان من مذهبهم أن صاحب السرقة يأخذ السارق له لا يعارضه فيه أحد، فأخذت يوسف فأمسكته عندها حتى ماتت وأخذه يعقوب بعد موتها، فهذا الذي تأوّل إخوة يوسف: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) يوسف: 12 : 77، وقيل في سرقته غير هذا، وقد تقدّم.
فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه وعظم عندهم.
ثمّ إنّ يوسف رأى في منامه كأنّ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر تسجد له، فقصها على أبيه، وكان عمره حينئذٍ اثنتي عشرة سنة، فقال له أبوه: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إنهَ الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين) يوسف: 12 : 5، ثمّ عبّر له رؤياه، فقال: (وكذلك يجتبيك ربّك ويعلمك من تأويل الأحاديث).
وسمعت امرأة يعقوب ما قال يوسف لأبيه فقال لها يعقوب: اكتمي ما قال يوسف ولا تخبرين أولادك، قالت: نعم، فلمّا أقبل أولاد يعقوب من الرعي أخبرتهم بالرّؤيا، فازدادوا حسداً وكراهةً له وقالوا: ما عني بالشمس غير أبينا، ولا بالقمر غيرك، ولا بالكواكب غيرنا، إنّ ابن راحيل يريد أن يتملك علينا ويقول أنا سيدّكم، وتآمروا بينهم أن يفرّقوا بينه وبني أبيه وقالوا: (ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة، إن أبانا لفي ضلال مبين) يوسف: 12 : 8 - في خطأ بين في إيثارهما علينا - (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين) يوسف: 12 : 9 أي تائبين.
فقال قائل منهم، وهو يهودا، وكان أفضلهم وأعقلهم: لا تقتلوا يوسف فإنّ القتل عظيم، وألقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيارة، وأخذ عليهم العهود أنّه لا يقتلونه، فأجمعوا عند ذلك أن يدخلوا على يعقوب ويكلّموه في إرسال يوسف معهم إلى البريّة، وأقبلوا إليه ووقفوا بين يديه، وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا منه حاجة، فلمّا رآهم قال: ما حاجتكم؟ قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنّا على يوسف وإنّا له لناصحون) يوسف: 12 : 11 نحفظه حتى نرده أرسله معنا إلى الصحراء (غداً يرتع ويلعب وإنّا له لحافظون)، فقال لهم يعقوب: (إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) يوسف: 12 : 13 لا تشعرون، وإنما قال لهم ذلك لأنه كان رأى في منامه كأنّ يوسف على رأس جبل وكأنّ عشرة من الذئاب قد شدّوا عليه ليقتلوه، وإذا ذئب منها يحمي عنه، وكأنّ الأرض انشقّت فذهب فيها فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيّام، فلذلك خاف عليه الذئب.
فقال له بنوه: (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون) يوسف: 12 : 14، فاطمأنّ إليهم، فقال يوسف: يا أبتِ أرسلني معهم، قال: أوتحبّ ذلك؟ قال: نعم، فأذن له، فلبس ثيابه وخرج معهم وهم يكرمونه، فلمّا برزوا إلى البريّة أظهروا له العداوة وجعله بعض إخوته يصربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيماً، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، وجعل يصيح: يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء.
فلمّا كادوا يقتلونه قال لهم يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجبّ فأوثقوه كتافاً ونزعوا قميصه وألقوه فيه، فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ فقالوا: ادعُ الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، قال: إنّي لم أرَ شيئاً، فدّلوه في الجبّ، فلما بلغ نصفه ألقوه وأرادوا أن يموت، وكان في البئر ماء، فسقط فيه ثمّ زوى إلى صخرة فأقام عليها، ثمّ نادوه فظنّ أنهم قد رحموه فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة فمنعهم يهوذا،ثم أوحى الله إليه: (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) يوسف: 12 : 15 بالوحي، وقيل لا يشعرون أنه يوسف. والجبّ بأرض بيت المقد س معروف.
ثم عادوا إلى أبيهم عشاءً يبكون فقالوا: (يا أانا إنا ذهنبا نستبق وتركنا يوسف عدن متاعنا فأكله الذئب) يوسف: 12 : 17، فقال لهم أبوهم: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل) يوسف: 12 : 18، ثم قال لهم: أروني قميصه، فزروه، فقال: تالله ما رأيتُ ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يشقّ قميصه ثم صاح وخرّ مغشيّاً عليه ساعة، فلمّا أفاق بكى بكاء طويلاً فأخذ القميص يقبّله ويشمّه.
وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، وأرسل الله ملكاً فحلّ كتافه، ثمّ (جاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم)، وهم الذي يتقدّم إلى الماء، (فأدلى دلوه) إلى البئر، فتعلّق به يوسف فأخرجه من الجبّ، و(قال: يا بشرى هذا غلام)، تباشروا وقيل يا بشر اسم غلام (وأسروه بضاعةً) يعني الوارد وأصحابه فخافوا أن يقولوا اشتريناه فيقول الرفقة اشركونا فيه فقالوا: إنّ أهل الماء استبضعونا هذا الغلام.
وجاء يهوذا بطعام ليوسف فلم يره في الجبّ فنظر فرآه عند مالك في المنزل فأخبر إخوته بذلك، فأتوا مالكاً وقالوا: هذا عبد ابق منّا، وخافهم يوسف فلم يذكر حاله واشتروه من إخوته بثمن بخس؛ قيل عشرون درهماً، وقي لأربعون درهماً، وذهبوا به إلى مصر، فكساه مالك وعرضه للبيع، فاشتراه قطفير، وقيل اطفير، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، والملك يومئذٍ الريّان بن الوليد رجل من العمالقة، قيل: إنّ هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف ومات ويوسف حيّ، وملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف فلم يؤمن.
فلمّا اشترى يوسف وأتى به إلى منزله قال لامرأته، واسمها راعيل: (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا) فيكفينا إذا هو بلغ و فهم الأمور بعض ما نحن بسبيله من أمورنا (أو نتخذه ولداً يوسف: 12 : 21، وكان لايأتي النساء، وكانت امرأته حسناء ناعمة في ملك ودنيا.
فلما خلا من عمر يوسف ثلاث وثلاثون سنة آتاه الله العلم والحكمة قبل النبوّة، وراودته راعيل عن نفسه وأغلقت الأبواب عليه وعليها ودعته إلى نفسها، فقال: (معاذ الله إنه ربي - يعني أن زوجك سيدي - أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون) يوسف: 12 : 23، يعني أنّ خيانته ظلم، وجعلت تذكر محاسنه وتشوّقه إلى نفسها، فقالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك قال: هو أوّل ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينيك قال: هما أول ما يسيل من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك قال: هو للتراب، فلم تزل به حتى همّت وهمّ بها وذهب ليحلّ سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها إنّما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوّ السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات وسقط إلى الأرض.
وقيل: جلس بين رجليها فرأى في الحائط: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الاسراء: 17 : 32، فقام حين رأى برهان ربّه هارباً يريد الباب، فأدركته قبل خروجه من الباب فجذبت قميصه من قبل ظهره فقدّته، (وألفيا سيدها لدى الباب) - وابن عمها معه، فقالت له - : (ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن) يوسف: 12 : 26، قال يوسف: بل (هي راودتني عن نفسي) فهربت منها فأدركتني فقدّت قميصي، قال لها ابن عمّها: تبيان هذا في القميص فإن كان قُدّ من قُبُلٍ فصدقتِ، وإن كان قُدّ من دُبُرٍ فكذبت، فأُتي بالقميص فوجده قُدّ من دبر فقال: (إنه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم) يوسف: 12 : 28.
وقيل: كان الشاهد صبيّاً في المهد، قال ابن عباس: تكلّم أربعة في المهد وهم صغار، ابن ماشطة امرأة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم.
وقال زوجها ليوسف: (أعرض عن هذا) أي ذكر ما كان منها فلا نذكره لأحد، ثم قال لزوجته، (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) يوسف: 12 : 29. وتحدّث النساء بأمر يوسف وامرأة العزيز، وبلغ ذلك امرأة العزيز، فأرسلت إليهنّ وأعتدت لهن متّكأً يتّكئن عليه من وسائد، وحضرن، وقدّمت لهنّ أترنجاً وأعطت كلّ واحدة منهنّ سكّيناً لقطع الأترنج، وقد أجلست يوسف في غير المجلس الذي هنّ فيه وقالت له: (اخرج عليهن - فخرج - فلما رأينه أكبرنه - وأعظمنه - وقطّعن أيديهن) بالسكاكين ولا يشعرن، وقلن: معاذ الله (ما هذا بشراً، إن هذا إلا ملك كريم) يوسف: 12 : 31.
فلمّا حلّ بهنّ ما حلّ من قطعهنّ أيديهن وذهاب عقولهن وعرفن خطأهنّ فيما قلن أقرّت على نفسها وقالت: (فذلكن الذي لمتنّني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) يوسف 12 : 32، فاختار يوسف السجن على معصية الله، فقال: (رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن) يوسف: 12 : 33، (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) يوسف: 12 : 34، ثمّ بدا للعزيز من بعد ما رأي الآيات من القميص وخمش الوجه وشهادة الطفل وتقطيع النسوة أيديهنّ في ترك يوسف مطلقاً.
وقيل: إنها شكت إلى زوجها وقالت: إنّ هذا العبد قد فضحني في الناس يخبرهم أنني راودته عن نفسه، فسجنه سبع سنين، فلما حُبس يوسف أُدخل معه السجن فتيان من أصحاب فرعون مصر، أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه، لأنهما نقل عنهما أنهما يريدان أن يسمّا الملك، فلمّا دخل يوسف السجن قال: إني أعبِّر الأحلام، فقال أحد الفتيين للآخر: هلمّ فلنجرّبه، فقال الخباز: (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه) وقال الآخر: (إني أراني أعصر خمراً) يوسف: 12 : 3، كره أن يعبر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير ذلك وقال: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟) يوسف: 12 : 39 وكان اسم الخبّاز مخلت، واسم الآخر نبو، فلم يدعاه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه، فقال: (أما أحدكما)، وهو الذي رأى أنه يعصر الخمر، (فيسقي ربّه خمراً)، يعنى سيده الملك (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه)، يوسف 12 : 41، فلما عبّر لهما قالا: ما رأينا شيئاً قال: (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان)، ثم قال لنبو، وهو الذي ظنّ أنه ناج منهما: (اذكرني عند ربك) يوسف: 12 : 42 الملك وأخبره أني محبوس ظلماً، (فأنساه الشيطان ذكر ربه)، غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، فأوحى الله إليه: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلنّ حبسك، فلبث في السجن سبع سنين.
ثم إنّ الملك، وهو الريّان بن الوليد بن الهروان بن اراشة بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى رؤيا هائلة، رأي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأي سبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فجمع السحرة والكهنة والحازة والعافة فقصّها عليهم، فقالوا: (أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة - أي حين - أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) يوسف: 12 : 44 - 45، فأرسلوه إلى يوسف، فقصّ عليه الرّؤيا، فقال: (تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد يأكلن ما قدمتم لهنّ إلاّ قليلاً مما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) يوسف: 12 : 47 - 49، فإن البقرة السّمان السنون المخاصيب، والبقرات العجاف السنون المحول، وكذلك السنبلات الخضر واليابسات، فعاد نبو إلى الملك فأخبره، فعلم أنّ قول يوسف حقّ، فقال: (ائتوني به)، فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك لم يخرج معه وقال: (ارجع إلى ربك فأسأله ما بال النسوة اللاّتي قطعن أيديهن؟) يوسف:12 : 50 فلما رجع الرسول من عند يوسف سأل الملك أولئك النسوة فقلن: (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) ولكنّ امرأة العزيز خبّرتنا أنها راودته عن نفسه، فقالت امرأة العزيز: (أنا راودته عن نفسه) يوسف: 12 : 51، فقال يوسف: إنّما رددت الرسل ليعلم سيدي (أني لم أخنه بالغيب) يوسف: 52 في زوجته، فلما قال ذلك، قال له جبرائيل: ولا حين هممت بها؟ فقال يوسف: (وما أبرئ نفسي، إنّ النفس لأمارة بالسوء) يوسف: 12 : 53.
فلما ظهر للملك براءة يوسف وأمانته قال: (ائتوني به أستخلصه لنفسي) يوسف: 12 : 54، فلمّا جاءه الرسول خرج معه ودعا لأهل السّجن وكتب على بابه: هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء، ثمّ اغتسل ولبس ثيابه وقصد الملك، فلما وصل إليه و(كلمه قال: إنّك اليوم لدينا مكينٌ أمين) يوسف: 12 : 54، فقال يوسف: (اجعلني على خزائن الأرض) يوسف:12 : 55، فاستعمله بعد سنة ولو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، فسلّم خزائنه كلّها إليه بعد سنة وجعل القضاء إليه وحكمه نافذاً، وردّ إليه عمل قُطفير سيّده بعد أن هلك، وكان هلاكه في تلك الليالي، وقيل: بل عزله فرعون وولّى يوسف عمله، والأوّل أصحّ لأنّ يوسف تزوّج امرأته، على ما نذكره.
ولما ولي يوسف عمل مصر دعا الملك الريّان إلى الإيمان، فآمن، ثمّ توفي، ثم ملك بعده مصر قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق، فدعاه يوسف إلى الإيمان، فلم يؤمن، وتوفي يوسف في ملكه.
ثم إنّ الملك الريّان زوّج يوسف راعيل امرأة سيّده، فلمّا دخل بها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء جميلة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك فغلبتني نفسي، ووجدها بكراً، فولدت له ولدين افرائيم ومنشا.
فلمّا ولي يوسف خزائن أرضه ومضت السنون السبع المخصبات وجمع فيها الطعام في سنبله ودخلت السّنون المجدبة وقحط النّاس وأصابهم الجوع وأصاب بلاد يعقوب التي هو بها بعث بنيه إلى مصر وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمّه، فلمّا دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، وإنّما أنكروه لعبد عهدهم منه ولتغير لبسته، فإنّه لبس ثياب الملوك، فلما نظر إليهم قال: أخبروني ما شأنكم، قالوا: نحن من الشام جئنا نمتار الطعام، قال: كذبتم، أنتم عيون، فأخبروني خبركم، قالوا: نحن عشرة أولاد رجل واحد صدّيق، كنّا اثني عشر، وإنّه كان لنا أخ فخرج معنا إلى البرية فهلك، وكان أحبّنا إلى أبينا، قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه، قال: فأتوني به أنظر إليه (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون، قالوا: سنراود عنه أباه) يوسف: 12 : 60 - 61، قال: فاجعلوا بعضكم عندي رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون، أصابته القرعة، وجهّزهم يوسف بجهازهم وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم، يعني ثمن الطعام، في رحالهم لعلّهم يرجعون، لما علم أنّ أمانتهم وديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة فيرجعون إليه لأجلها.
وقيل: ردّ مالهم لأنّه خشي أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرّةً أخرى، فإذا رأوا معهم بضاعة عادوا، وكان يوسف حين رأى ما بالنّاس من الجهد قد أسّى بينهم، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيراً.
فلما رجعوا إلى أبيهم بأحمالهم قالوا: يا أبانا إنّ عزيز مصر قد أكرمنا كرامة لو أنه بعض أولاد يعقوب مازاد على كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم، (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)، قال: (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا: يا أبانا ما نبغي، هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير) يوسف: 12 : 63 - 65، قال يعقوب: (ذلك كيلٌ يسير)، فقال يعقوب: (لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، فلمّا آتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل) يوسف: 12 : 66، ثم أوصاهم أبوهم بعد أن أذن لأخيهم في الرحيل معهم (وقال: يا بنيّ لاتدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) يوسف: 12 : 67، خاف عليهم العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، ففعلوا كما أمرهم أبوهم، (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) يوسف: 12 : 69 وعرفه وأنزلهم منزلاً وأجرى عليهم الوظائف وقدّم لهم الطعام وأجلس كلّ اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيّاً لأجلسني معه فقال يوسف: لقد بقي أخوكم هذا وحيداً، فأجلسه معه وقعد يؤاكله، فلما كان الليل جاءهم بالفرش وقال: لينم كلّ أخوين منكم على فراش، وبقي بنيامين وحده، فقال: هذا ينام معي، فبات معه على فراشه، فبقي يشمّه ويضمّه إليه حتى أصبح، وذكر له بنيامين حزنه على يوسف، فقال له: أتحبّ أن أكون أخاك عوض أخيك الذاهب؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه فعانقه وقال له: إنّي أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا، ولا تعلمهم بما علّمتك.
وقيل: لما دخلوا على يوسف نقر الصّواع وقال: إنه يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم بعتم أخاكم، فلمّا سمعه بنيامين سجد له وقال: سل صواعك هذا عن أخي أحيّ هو؟ فنقره ثم قال: هو حيّ وستراه، قال: فاصنع بي ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني؛ قال: فدخل يوسف فبكى ثمّ توضّأ وخرج إليهم، قال: فلمّا حمّل يوسف إبل إخوته من الميرة جعل الإناء الذي يكيل به الطعام، وهوالصواع، وكان من فضّة، في رحل أخيه، وقيل: كان إناء يشرب فيه، ولم يشعر أخوه بذلك.
وقيل: إنّ بنيامين لما علم أنّ يوسف أخوه قال: لا أفارقك، قال يوسف: أخاف غمّ أبوينا ولا يمكنني حبسك إلاّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، قال: افعل، قال: فإني أجعل الصواع في رحلك ثمّ أنادي عليك بالسرقة لآخذك منهم، قال: افعل، فلمّا ارتحلوا (أذّن مؤذّن: أيتها العير إنكم لسارقون) يوسف: 12 : 70، (قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) يوسف: 12 : 73 لأننا رددنا ثمن الطعام إلى يوسف، فلما قالوا ذلك (قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) يوسف: 12 : 74 - 75 تأخذونه لكم، فبدأ بأوعيتهم ففتشها قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاد أخيه، فقالوا: (إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل) يوسف: 12 : 75، يعنون يوسف، وكانت سرقته حين سرق صنماً لجدّه أبي أمّه فكسره فعيروه بذلك، وقيل ما تقدّم ذكره من المنطقة.
فلما استخرجت السرقة من رحل الغلام قال إخوته: يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء فقال بنيامين: بل بنو راحيل ما يزال لهم منكم بلاء وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم.
فأخذ يوسف أخاه بحكم إخوته، فلمّا رأوا أنهم لا سبيل لهم عليه سألوه أن يتركه لهم و(قالوا: يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه) يوسف: 12 : 78، فقال: (معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده) يوسف: 12 : 79، فلما يأسوا من خلاصه خلصوا نجيّاً لا يختلط بهم غيرهم، فقال كبيرهم، وهو شمعون: (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله) يوسف: 12 : 80 أن نأتيه بأخينا إلاّ أن يحاط بنا، ومن قبل هذه المرّة (ما فرطتم في يوسف، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) يوسف: 80 بالخروج، وقيل: بالحرب، فارجعوا إلى أبيكم فقصّوا عليه خبركم.
فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر بنيامين وتخلف شمعون (قال: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) يوسف: 12 : 83، بيوسف وأخيه وشمعون، ثم أعرض عنهم وقال: واحزناه على يوسف (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) يوسف: 12 : 84 مملوء من الحزن والغيظ، فقال له بنوه: (تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً - أي دنفاً - أو تكون من الهالكين)، يوسف: 12 : 85، فأجابهم يعقوب فقال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) من صدق رؤيا يوسف.
وقيل: بلغ من وجد يعقوب وجد سبعين مبتلىً، وأعطي على ذلك أجر مائة شهيد.
قيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنّ ما بلغ أبوك فقال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه: أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة فاغفرها، قال: قد غفرتها لك، فكان يعقوب إذا سئل بعد ذلك قال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله)، فأوحى الله إليه: لو كانا ميتين لأحييتهما لك، إنّما ابتليتك لأنك قد شويت وقترت على جارك ولم تطعمه.
وقيل: كان سبب ابتلائه أنه كان له بقرة لها عجول فذبح عجولها بين يديها وهي تخور فلم يرحمها يعقوب، فابتلي بفقد أعزّ ولده عنده؛ وقيل: ذبح شاة، فقام ببابه مسكين فلم يطعمه منها، فأوحى الله إليه في ذلك وأعلمه أنه سبب ابتلائه، فصنع طعاماً ونادى: من كان صائماً فليفطر عند يعقوب.
ثمّ إن يعقوب أمر بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع اليها وتجسّس الأخبار عن يوسف وأخيه، فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف وقالوا: (يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة - يعني قليلة - فأوف لنا الكيل) يوسف: 12 : 88 قيل: كانت بضاعتهم دراهم زيوفاً، وقيل: كانت سمناً وصوفاً، وقيل غير ذلك، (وتصدق علينا) بفضل ما بين الجيّد والرّديء، وقيل: بردّ أخينا علينا، فلما سمع كلامهم غلبته نفسه فارفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم، وقيل: إنما أظهر لهم ذلك لأن أباه كتب إليه، حين قيل له إنّه أخذ ابنه لأنه سرق، كتاباً:
من يعقوب إسرائيل الله ابن اسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر المظهر العدل، (أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية فعادوا ومعهم قميصه ملطخاً بدم وقالوا: أكله الذئب، وكان لي ابن آخر أخوه لأمّه فكنتُ أتسلّى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته، وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته عليّ ورلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك).
فلمّا قرأ الكتاب لم يتمالك أن بكى وأظهر لهم فقال: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: أإنك لأنت يوسف قال: أنا يوسف وهذا أخي، قد منّ الله علينا) يوسف: 12 : 89 - 90 بأن جمع بيننا، فاعتذروا و(قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين)، قال: (لا تثريب عليكم الوم) يوسف: 91 : 92، أي لا أذكر لكم ذنبكم، (يغفر الله لكم)، ثم سألهم عن أبيه، فقالوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن، فقال: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه عليوجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين) يوسف: 12 : 93، فقال يهودا: أنا أذهب به لأنّيذهبت إليه بالقميص ملطّخاً بالدم وزخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أخبره أنه حيّ فأفرحه كما أحزنته، وكان هو البشير، (ولما فصلت) العير عن مصر حملت الريح إلى يعقوب ريح يوسف، وبينهما ثمانون فرسخاً، يوسف بمصر ويعقوب بأرض كنعان، فقال يعقوب: (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) يوسف: 12 : 94؟ فقال له من حضره من أولاده: (تالله إنك) من ذكر يوسف (لفي ضلالك القديم، فلمّا أن جاء البشير) بقميص يوسف (ألقاه) على وجه يعقوب فعاد بصيراً و(قال: ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون)، يعني تصديق الله تأويل رؤيا يوسف؛ و(لما أن جاء البشير) يوسف: 12 : 95 - 96 قال له يعقوب: كيف تركت يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، قال: ما أصنع بالمللك علي أيّ دين تركته؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمّت النعمة، فلما رأى من عنده من أولاده قميص يوسف وخبره قالوا له: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا، قال: سوف أستغفر لكم) يوسف: 12 : 96 - 97 آخر الدّعاء إلى السّحر من ليلة الجمعة.
ثم ارتحل يعقوب وولده، فلمّا دنا من مصر خرج يوسف يتلقّاه ومعه أهل مصر، وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه نظر يعقوب إلى الناس والخيل، وكان يعقوب يمشي ويتوكّأ على ابنه يهودا، فقال له: يا بنيّ هذا فرعون مصر، قال: لا، هذا ابنك يوسف، فلما قرب منه أراد يوسف أن يبدأه بالسلام، فمنع من ذلك، فقال يعقوب: السلام عليك يا مُذهب الأحزان، لأنّه لم يفارقه الحزن والبكاء مدّة غيبة يوسف عنه.
قال: فلما دخلوا مصر رفع أبويه، يعني أمّه وأباه، وقيل: كانت خالته، وكانت أمه قد ماتت، وخّر له يعقوب وأمّه وإخوته سجداً، وكان السجود تحيّة الناس للملوك، ولم يرد بالسجود وضع الجبهة على الأرض، فإنّ ذلك لا يجوز إلا لله تعالى ، وإنما أراد الخضوع والتواضع والانحناء عند السلام، كما يفعل الآن بالملوك، والعرش: السرير، وقال: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً) يوسف: 12 :100.
وكان بين رؤيا يوسف ومجيء يعقوب أربعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، فإنه ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، ولقيه وهو ابن سبع وتسعين سنة، وعاش بعد جمع شمله ثلاثاً وعشرين سنة، وتوفي وله مائة وعشرون سنة، وأوصى إلي أخيه يهودا، وقيل: كانت غيبة يوسف عن يعقوب ثماني عشرة سنة، وقيل: إنّ يوسف دخل مصر وله سبع عشرة سنة، واستوزره فرعون بعد ثلاث عشرة سنة من قدومه إلى مصر، وكانت مدّة غيبته عن يعقوب اثنتين وعشرين سنة، وكان مُقام يعقوب بمصر وأهله معه سبع عشرة سنة، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
ولما مات يعقوب أوصي إلى يوسف أن يدفنه مع أبيه اسحاق، ففعل يوسف، فسار به إلى الشام فدفنه عند أبيه، ثمّ عاد إلى مصر وأوصى يوسف أن يحمل من مصر ويدفن عند آبائه، فحمله موسى لما خرج ببني إسرائيل.
وولد يوسف افرائيم ومنشى، فولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، وولد لمنشى موسى، قيل موسى بن عمران، وزعم أهل التوراة أنه موسى الخضر، وولد له رحمة امرأة أيّوب في قولك.
قصة شعيب عليه السلام
قيل: إن اسم شعيب يثرون بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن ابراهيم، وقيل: هو شعيب بن ميكيل من ولد مدين، وقيل: لم يكن شعيب من ولد ابراهيم، وإنما هو من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى الشام، ولكنه ابن بنت لوط، فجدّة شعيب ابنة لوط، وكان ضرير البصر، وهو معنى قوله تعالى: (وإنا لنراك فينا ضعيفاً) هود: 11 : 91؛ أي ضرير البصر.
وكان النبيّ، ﷺ، إذا ذكره قال: ذاك خطيب الأنبياء؛ بحسن مراجعته قومه؛ وإن الله أرسله إلى أهل مدين وهم أصحاب الأيكة، والأيكة: شجر ملتفّ، وكانوا أهل كفر بالله، وبخس للناس في المكاييل والموازين وإفساد أموالهم، وكان الله وسع عليهم في الرزق وبسط لهم في العيش استدراجاً لهم منه مع كفرهم بالله، فقال لهم شعيب: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) هود:11 : 84.
فلما طال تماديهم في غيّهم وضلالهم ولم يزدهم تذكير شعب إيّاهم وتحذيره عذاب الله إياهم إلا تمادياً، ولما أراد إهلاكهم سلّط عليهم عذاب يوم الظّلّة، وهو ما ذكره ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم) الشعراء: 26 : 189، فقال: بعث الله عليهم وقدة وحرّاً شديداً فأخذ بأنفسهم، فخرجوا من البيوت هراباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ولذّة فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها، فأرسل الله عليهم ناراً، قال عبد الله بن عبّاس: فذلك عذاب يوم الظلّة.
وقال قتادة: بعث الله شعيباً الي أمّتين: إلى قومه أهل مدين، والى أصحاب الأيكة، وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلما أراد الله أن يعذبهم بعث عليهم حرّاً شديداً ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها، فلمّا كانوا تحتها أمطرت عليهم ناراً، قال: فذلك قوله: (فأخذهم عذاب يوم الظلّة).
وأما أهل مدين فمنهم من ولد مدين بن إبراهيم الخليل، فعذّبهم الله بالرجفة، وهي الزلزلة، فأهلكوا.
قال بعض العلماء: كان قوم شعيب عطلوا حدّاً، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدّاً فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلّما عطلوا حدّاً وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد هلاكهم سلّط عليهم حرّاً لا يستطيعون أن يتقارّوا ولا ينفعهم ظلّ ولا ماد حتي ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظلّة فودج روحاً فنادى أصحابه: هلمّوا إلى الروح، فذهبوا اليه سراعاً حتى اذا اجتمعوا إليها ألهبها الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلّة.
وقد روى عامر عن ابن عباس أنه قال له: من حدثك ما عذاب يوم الظلّة فكذّبه، وقال مجاهد: عذاب يوم الظلّة هو إظلال العذاب على قوم شعيب، وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: (يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) هود: 11 : 87؛ قال: مما كان ينهاهم عنه قطع الدراهم.
قصة الخضر وخبره مع موسى
قال أهل الكتاب: إن موسى صاحب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف بن يعقوب، والحديث الصحيح عن النبيّ، ﷺ، أن موسى صاحب الخضر هو موسى بن عمران على ما نذكره، وكان الخضر ممّن كان في أيام أفريدون الملك ابن اثغيان في قول علماء أهل الكتاب الأول قبل موسى بن عمران، وقيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكب الذي كان في أيام إبراهيم الخليل، وإنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة فرشب من مائه ولا يعلم ذو القرنين ومن معه، فخلّد وهو حيّ عندهم إلى الآن، وزعم بعضهم: أنّه كان من ولد من آمن مع إبراهيم وهاجر معه، واسمه يليا بن ملكان بن فالغ بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكاً عظيماً، وقال آخرون: ذو القرنين الذي كان على عهد إبراهيم أفريدون بن اثغيان، وعلى مقدمته كان الخضر.
قال عبد الله بن شوذب: الخضر من ولد فارس، والياس من بني إسرائيل يلتقيان كلّ عام بالموسم، وقال ابن اسحاق: استخلف الله على بني إسرائيل رجلاً منهم يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله لهم الخضر معه نبيّاً، قال: واسم الخضر فيما يقول بنو إسرائيل إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وبين هذا الملك وبين أفرويدون أكثر من ألف عام.
وقول من قال إن الخضر كان في أيّام أفريدون وذي القرنين الأكبر قبل موسى بن عمران أشبه للحديث الصحيح أنّ موسى بن عمران أمره الله بطلب الخضر، ورسول الله، ﷺ، كان أعلم الخلق بالكائن من الأمور، فيحتمل أني كون الخضر على مقدمة ذي القرنين قبل موسى، وأنه شرب من ماء الحياة فطال عمره، ولم يرسل في أيّام ابراهيم، وبعث في أيام ناشية بن أموص، وكان ناشية هذا في أيّام بشتاسب بن لهراسب، والحديث ما رواه أبيّ بن كعب عن النبي، ﷺ.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إنّ نوفا يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران، قال : كذب عدوّ الله، حذّثني أبيّ بن كعب عن النبيّ، ﷺ، قال: إن موسى قام في بني إسرائيل خطيباً فقيل له: أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: يا ربّ هل هناك أعلم مني؟ قال: بلى، عبد لي بمجمع البحرين، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيث تفقده فهو هناك، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثمّ قال لفتاه: إذا فقدت هذا الحوت فأخبرني، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا الصخرة وذلك الماء، وهو ماء الحياة، فمن شرب منه خلد ولا يقاربه شيد ميت إلاّ حيي، فمسّ الحوت منه فحيي، وكان موسى راقداً، واضطرب الحوت في المكتل فخرج في البحر، فأمسك الله عنه جرية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت سرباً، وكان لهما عجباً، ثم انطلقا، فلما كان حين الغداء قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: ولم يجد موسى النصب حتى تجاوز حيث أمره الله، فقال: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً؛ قال ذلك ما كنا نبغ، فارتدا على آثارهما قصصاً) الكهف: 18 : 63 - 46، قال: يقصّان آثارهما حتى أتيا الصخرة، فإذا رجل نائم مسجّى بثوبه، فسلّم موسى عليه، فقال: وأنَّى بأرضنا السلام قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك علي أن تعلّمني مما علّمت رشداً، (قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً) الكهف: 18 : 70، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ثمّ ركبا سفينة، فجاء عصفور فقعد علي حرف السفينة فنقر في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ مقدار ما نقر هذا العصفور من البحر.
قال: فبينا هم في السفينة لم يفجأ موسي إلا وهو يوتد وتداً أو ينزع تختاً منها، فقال له موسى: حملنا بغير نول فتخرقها (لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً؛ قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت) الكهف: 18 : 71 - 73، قال: وكانت الأولي من موسى نسياناً، قال: فخرجا فانطلقا يمشيان فأبصرا غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى: (أقتلت نفساً زكيّةً بغير نفسٍ لقد جئت شيئاً نكراً؛ قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: إن سألتك عن شيءٍ بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدنّي عذراً، فانطلقا حتى رذا أتيا زهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) الكهف: 18 : 74 - 77 فلم يجدا أحداً يطعمهما ولا يسقيهما، (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)، فقال له موسى: لم يضيّفونا ولم ينزلونا، (لو شئت لاتّخذت عليه أجراً؛ قال: هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً؛ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فزردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) الكهف: 18 : 77 - 79 وفي قراءة أبيّ: سفينة صالحة - وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً؛ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً؛ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أوبهما صالحاً - إلى - ما لم تسطع عليه صبراً) الكهف: 18 : 79 - 82.
فكان ابن عبّاس يقول: ما كان الكنز إلا علماً، قيل لابن عبّاس: لم نسمع لفتى موسى بذكر؛ فقال: شرب الفتى من الماء فخلّد، فأخذه العالم فطابق به سفينته ثمّ أرسلها في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة.
الحديث يدلّ على أن الخضر كان قبل موسى وفي أيّامه، ويدلّ على خطأ من قال إنه إرميا، لأنّ إرميا كان أيّام بخت نصّر، وبين أيام موسى وبخت نصّر من المدة ما لا يشكل على عالم بأيام الناس، فإن موسى إنما نُبّئ في أيام منوجهر، وكان ملكه بعد جدّه أفريدون.
ذكر الخبر عن منوجهر والحوادث في أيامه
ثمّ ملك بعد أفريدون بن اثغيان بن كاو منوجهر، وهو من ولد إيرج بن أفريدون، وكان مولده بدُنباوند، وقيل الريّ، فلما ولد منوجهر أخفى أمره خوفاً من طوج وسلم عليه، ولما كبر منوجهر سار إلى جدّه أفريدون فتوسّم فيه الخير وجعل له ما كان جعله لجدّه إريج من المملكة وتوجه بتاجه. وقد زعم بعضهم أنّ منوجهر بن شجر بن افريقش بن اسحاق بن إبراهيم انتقل إليه الملك، واستشهد بقول جرير بن عطية:
وأبناء إسحاق اللـيوث إذا ارتـدوا.......حمائل موتٍ لابسين الـسـنـورا
إذا انتسبوا عدّوا الصّبهبذ مـنـهـم.......وكسرى وعدّوا الهرمزان وقيصرا
وكان كـتـاب فـيهـم ونـبـوّة.......وكانوا باصطخر الملوك وتستـرا
فيجمعنا والغـرّ أبـنـاء فـارس.......أب لا نبالي بعـده مـن تـأخـرا
أبونا خليل الـلـه والـلـه ربـنـا.......رضينا بما أعطى الإلـه وقـدّرا
وأما الفرس فتنكر هذا النسب ولا تعرف لها ملكاً إلا في أولاد أفريدون ولا تقرّ بالملك لغيرهم.
قلت: والحقّ ما قاله الفرس، فإن أسماء ملوكهم قبل الإسكندر معروفة وبعد أيامه ملوك الطوائف، وإذا كان منوجهر أيّام موسى وكل ما بين موسى واسحاق خمسة آباء معروفون ولم يزالوا بمصر ففي أيّ زمان كثروا وانتشروا وملكوا بلاد الفرس؟ ومن أين لجرير هذا العلم حتى يكون قوله حجّة لا سيّما وقد جعل الجميع أبناء إسحاق قال هشام بن الكلبي: ملك طوج وسلم الأرض بعد أخيهما إيرج ثلاثمائة سنة، ثمّ ملك منوجهر مائة وعشرين سنة، ثمّ وثب به ابن لطوج التركيّ على رأس ثمانين سنة فنفاه عن بلاد العراق اثنتي عشرة سنة، ثمّ أديل منه منوجهر، فنفاه عن بلاده وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانياً وعشرين سنة.
وكان منوجهر يوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خندق الخنادق وجمع آلة الحرب، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكلّ قرية دهقاناً وأمر أهلها بطاعته، ويقال: إنّ موسى ظهر في سنة ستين من ملكه.
وقال غير هشام؛ إنه لما ملك سار نحو بلاد الترك طالباً بدم جدّه إيرج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون وأخاه سلماً، ثم إنّ افراسياب بن فشنج بن رستم بن ترك، الذي ينسب إليه الأتراك من ولد طوج بن أفريدون، حرب منوجهر بعد قتله طوج بستين سنة وحاصره بطبرستان، ثمّ اصطلحا أن يجعلا حدّ ما بين ملكيهما منتى رمية سهم رجل من أصحاب منوجهر اسمه إيرشى، وكان رايماً شديد النزع، فرمى سهماً من طبرستان فوقع بنهر بلخ، وصار النهر حدّ ما بين الترك ولد طوج وعمل منوجهر.
قلت: وهذا من أعجب ما يتداوله الفرس في أكاذيبهم، أن رمية سهم تبلغ هذا كله.
وقد ذكر أن منوجهر اشتق من الفرات ودجلة ونهر بلخ أنهاراً عظاماً وأمر بعمارة الأرض، وقيل: إن الترك تناولت من أطراف رعيته بعد خمس وثلاثين سنة من ملكه، فوبّخ قومه وقال لهم: أيها الناس إنكم لم تلدوا الناس كلهم وإنما الناس ناس ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدوّ عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم وليس ذلك إلا بترككم جهاد عدوّكم ، وإن الله أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر أم نكفر فيعاقبنا، فإذا كان غد فاحضروا.
فحضر الناس والأشراف، فقام على قدميه، فقام له الناس، فقال: اقعدوا، إنما قمت لأسمعكم، فجلسوا، فقال: أيها الناس إنما الخلق للخالق والشكر للمنعم والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالباً كان أو مطلوباً، ولا أقوى من خالق ولا أقدر ممن طلبته في يده ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكّر نور والغفلة ظلمة، فالضلالة جهالة، وقد ورد الأوّل ولا بدّ للآخر من اللحاق بالزوّل، إن الله أعطانا هذا الملك فله الحمد ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإنه لا بدّ أن يكون للملك على أهل مملكته حقّ ولأهل مملكته عليه حقّ، فحقّ الملك عليهم أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في زوقاتها إذ لا معوّل لهم إلا عليها، وإنه خازنهم، وحق الرعية علي الملك أن ينظر إليهم ويرفق بهم ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم أن يسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقوّيهم على عمارتهم، ثمّ يأخذ منهم بعد ذلك قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أن ذلك قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أن يكون صدوقاً لا يكذب، وأن يكون سخيّاً لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب فإنه مسلط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فلا يستأثر عن جنده ورعيّته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو فإنه لا ملك أقوى ولا أبقى من ملك فيه العفو، فإن الملك إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.
ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا فإنّما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأي، وإنّما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم، ألا وإنما الملك ملك إذا أطيع، فإن خولف فهو مملوك وليس بملك، ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الزخذ بالصبر والراحة إلي اليقين، فمن قُتل في مجاهدة العدوّ ورجوت له بفوز رضوان الله، وإنما هذه الدنيا سفر لأهلها لا يحلّون عقد الرحال إلاّ في غيرها، وهي خطبة طويلة. ثم أمر بالطعام فزكلوا وشربوا وخرجوا وهم له شاكرون مطيعون.
وكان ملكه مائة وعشرين سنة.
وزعم ابن الكلبيّ أنّ الرايش، واسمه الحرث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يعرب بن قحطان، وكان قد ملك اليمن بعد يعرب بن قحطان، كان ملكه باليمن أيّام ملك منوجهر، وإنما سمّي الرايش لغنيمة غنمها فأدخلها اليمن فسمّي الرايش، ثمّ غزا الهند فتل بها وأسر وغنم ورجع إلى اليمن، ثمّ سار على جبلي طيّء، ثمّ على الأنبار، ثم على الموصل ووجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه يقال له شمر بن العطّاف، فدخل على الترك بزرض أذربيجان فقتل المقاتلة وسبهى الذرّية وكتب ما كان من مسيره على حجرين، وهما معروفان بأذربيجان.
ثمّ ملك بعده ابنه أبرهة، ولقبه ذو المنار، وإنما لقّب بذلك لأنه غزا بلاد المغرب وأوغل فيها برّاً وبحراً، وخاف على جيشه الضلال عند قفوله فبنى المنار ليهتدوا بها، وقد زعم أهل اليمن أنه وجه ابنه العبد بن أبرهة في غزواته إلى ناحية من أقاصي المغرب فغنم وقدم بسبي له وحشة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّي ذو الأذعار؛ فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغّلوا في البلاد.
وإنما ذكرت من ذكرت من ملوك اليمن ها هنا لقول من زعم أن الرايش كان أيام منوجهر وأن ملوك اليمن كانوا عمالاً لملوك فارس.
قصة موسى عليه السلام ونسبه وما كان في أيامه من الأحداث
قيل: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم، وولد لاوي ليعقوب وهو ابن تسع وثمانين سنة، وولد قاهث للاوي وهو ابن ست وأربعين سنة، وولد لقاهث يصهر، وولد عمران ليصهر وله ستون سنة، وكان عمره جميعه مائة وسبعاً وأربعين سنة وولد موسى ولعمران سبعون سنة وكان عمر عمران جميعه مائة وسبعاً وثلاثين سنة، وأم موسى يوخابد، واسم امرأته صفوراً بنت شعيب النبيّ.
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريّان بن الوليد فرعون يوسف الأول، وقيل: كانت من بني اسرائيل، فلمّا نودي موسى أعلم أنّ قابوس فرغون مصر مات وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان عمره طويلاً، وكان أعتى من قابوس وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وهارون بالرسالة، ويقال: إنّ الوليد تزوج آسية بعد أخيه، ثم سار موسى إلى فرعون رسولاً مع هارون، فكان من مولد موسى إلى أن أخرج بني إسرائيل من مصر ثمانون سنة، ثم سار إلى التيه بعد أن مضى عبر البحر، وكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته مائة وعشرين سنة.
قال ابن عبّاس وغيره، دخل حديث بعضهم في بعض: إنّ الله تعالى لما قبض يوسف وهلك الملك الذي كان معه وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني إسرائيل لم يزل بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب واسحاق وابراهيم شرعوا فيهم من الاسلام حتى كان فرعون موسى، وكان زعتاهم علي الله وأعظمهم قولاً وأطولهم عمراً، واسمه فيما ذكر الويد بن مصعب، وكان سيء الملكة على بني إسرائيل يعذبهم ويجعلهم خولاً ويسومهم سوء العذاب.
فلما أراد الله أن يستنفذهم بلغ موسى الأشدّ وأعطي الرسالة، وكان شأن فرعون قبل ولادة موسى أنه رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت علي بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والحزاة والكهنة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد، يعنون بيت المقدس، الذي جاء بنو إسرائيل منه، رجل يكون على وجهه هلاك مصر، فأمر أن لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح ويترك الجواري. وقيل: إنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا: اعلم أنّا نجد في علمنا أن مولوداً من بني إسرائيل قد أظلّك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ويبدل دينك، فأمر بقتل كلّ مولود يولد في بني اسرائيل.
وقيل: بل تذاكر فرعون وجلساؤه معاً ما وعد الله عزّ وجل إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إ بني إسرائيل لينتظرون ذلك، وقد كانوا يظنونه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا وعد الله إبراهيم، فقال فرعون: كيف ترون؟ فأجمعوا على أن يبعث رجالاً يقتلون كل مولود في بني اسرائيل، وقال للقبط: انظروا مماليككم الذين يعملون خارجاً فأدخولهم واجعلوا بني إسرائيل يلون ذلك، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، فذلك حين يقول الله عز وجل: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم) القصص: 82 : 4؛ فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، وكان يأمر بتعذيب الحبالى حتى يضعن، فكان يشقق القصب ويوقف المرأة عليه فيقطع أقدامهن، وكانت المرأة تضع فتتقي بولدها القصب، وقذف الله الموت في مشيخة بني اسرائيل، وفدخل رؤوس القبط على فرعون وكلموه وقالوا: إنّ هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت فيوشك أن يقع العمل على غلماننا، تذبح الصغار وتفني الكبار، فلو أنك كتبت تبقي من أولادهم، فأمرهم أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فلما كان في تلك السنة التي تركوا فيها ولد هارون، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها، وهي السنة المقبلة، قلما أرادت أمه وضعه حزنت من شزنه ، فأوحى الله إليها، أي ألهمها: (أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم - وهو النيل - ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص: 28 : 7.
فلما وضعته أرضعته ثمّ دعت نجّاراً فجعل له تابوتاً وجعل مفتاح التابوت من داخل وجعلته فيه وألقته في اليم، فلما توارى عنها زتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما الذي صنعت بنفسي لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه، فلمّا ألقته (قالت لأخته) - واسمها مريم (قصيه) يعني قصّي أثره (فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) القصص: 28 : 11 انها أخته، فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى ادخله بين أشجار عند دور فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية، وظنن أن فيه مالاً، فلما فتح ونظرت إليه آسية وقعت عليها رحمته وأحبته، فلما أخبرت به فرعون وأتته قالت: (قرّة عين لي ولك لا تقتلوه) القصص: 28 : 9، فقال فرعون: يكون لكِ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه.
قال النبي، ﷺ، والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها.
وأراد أن يذبحه فلم تزل اسية تكلّمه حتى تركه لها وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، فذلك قوله عز وجل: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً) القصص: 28 : 8، وأرادوا له المرضعات فلم يزخذ من أحد من النساد، فذلك قوله: (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت - أخته مريم - هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟) القصص: 28 : 12، فزخذوها وقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك فقالت: نصحهم له شفقتهم عليه ورغبتهم في قضاء حاجة الملك ورجاء منفعته، فانطلقت إلى أمّه فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما أعطته ثديها أخذه منها، فكادت تقول: هذا ابني، فعصمها الله.
وإنما سمي موسى لأنه وجد في ماء وشجر، والماء بالقبطيّة مو، والشجر سا، فذلك قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن) القصص: 28 : 13.
وكان غيبته عنها ثلاثة أيام، وزخذته معها إلى بيتها، واتخذه فرعون ولداً فدعي ابن فرعون، فلما تحرك الغلام حملته أمه إلى آسية، فأخذته ترقصه وتلعب به وناولته فرعون، فلما أخذه إليه أخذ الغلام بلحيته فنتفها، قال فرعون: عليّ بالذبّاحين يذبحونه، هو هذا قالت آسية: (لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً) القصص: 28 : 9، إنما هو صبيّ لا يعقل وإنما فعل هذا من جهل، وقد علمت أنه ليس في مصر امرأة أكثر حليّاً مني، أنا أضع له حليّاً من ياقوت وجمراً فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه وإن أخذ الجمرة فإنما هو صبيّ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طشتاً من جمر فجاء جبرائيل فوضع يده في جمرة فأخذها فطرحها موسى في فمه، فأحرقت لسانه، فهو الذي يقول الله تعالى: (واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي) طه: 27 : 28، فدرأت عن موسى بتلك القتل.
وكبر موسى ، وكان يركب مركب فرعون ويلبس ما يلبس، وإنما يدعى موسى بن فرعون، وامتنع به بنو إسرائيل ولم يبق قبطيّ يظلم اسرائيلياً خوفاً منه.
ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: فرعون قد ركب، فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف، وهذه منف (بفتح الميم وسكون النون) مصر القديمة التي هي مصر يوسف الصديق، وهي الآن قرية كبيرة، فدخل نصف النهار، وقد أغلقت أسواقها، (على حين غفلة من أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته) القصص: 28 : 15 - 17 يقول هذا اسرائيلي قيل إنه السامريّ (وهذا من عدوّه)، فغضب موسى لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم، وكان قد حماهم من القبط، وكان الناس لايعلمون أنه منهم بل كانوا يظنون أن ذلك بسبب الرّضاع، فلما اشتدّ غضبه وكزه فقضى عليه، فقال: إن (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين؛ قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم) القصص: 28 : 16؛ فأوحى الله تعالى إلى موسى: وعزّتي لو أن النفس التي قتلت أقرّت لي ساعة واحدة أني خالق رازق لأذقتك العذاب، (قال: رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين) القصص: 28 : 17، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب أن يؤخذ، (فإذا الذي استنصره بالزمس يستصرخه - يقول يستعينه : قال له مسوى: إنك لغويّ مبين) القصص: 28 : 18، ثمّ أقبل لينصره، فلما نظر الي موسى وقد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الاسرائيلي خاف أن يقتله من أجل أنه أغلظ له في الكلام قال: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) القصص: 28 : 19، فترك القبطيّ، فذهب فأفشى عليه أنّ موسى هو الذي قتل الرجل، فطلبه فرعون وقال: خذوه فإنّه صاحبنا، فجاء رجل فأخبره وقال له: (إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) القصص: 28 : 20.
قيل: كان خربيل مؤمن آل فرعون، كان على بقيّة من دين إبراهيم، عليه السلام، وكان أول من آمن بموسى، فلما أخبره خرج من بينهم (خائفاً يترقب، قال: رب نجني من القوم الظالمين) القصص: 28 : 21، وأخذ في ثنيات الطريق، فجاءه ملك علي فرس وفي يده عنزة، وهي الحربة الصغيرة، فلمّا رآه موسى سجد له من الفَرَق، فقال له: لا تسجد لي ولكن ابتعني؛ فهداه نحو مدين، وقال موسى وهو متوجه إليها: (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) القصص: 28 : 22، فانطلق به الملك حتي انتهى به إلي مدين، فكان قد سار وليس معه طعام، وكان يزكل ورق الشجر، ولم يكن له قوة على الشمي، فما بلغ مدين حتى سقط خف قدمه، (ولما ورد ماء مدين - قصد الماء - وجد عليه أمّةً من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان) القصص: 28 : 23، أي تحبسان غنمهما، وهما ابنتا شعيب النبي، وقيل: ابنتا يثرون، وهو ابن أخي شعيب، فلما رآهما موسى سألهما: (ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) القصص: 28 : 23، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة عليها كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها فسقى لهما غنمهما، فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، وقصد موسى شجرة هناك ليستظل بها فقال: (رب إني لما أنزلت إليه من خير فقير) القصص: 28 : 24.
قال ابن عباس: لقد قال موسى ذلك ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدّة الجوع لفعل وما سأل إلا أكلة.
فلما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعاً سألهما فأخبرتاه، فأعاد إحداهما إلى موسى تستدعيه، فأتته وقالت له: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) القصص: 25، فقام معها، فمشت بين يديه، فضربت الريح ثوبها فحكى عجيزتها، فقال لها: امشي خلفي ودلّيني على الطريق فإنّا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء.
فلما أتاه (وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين)، قالت إحداهما، وهي التي أحضرته: (يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين) القصص: 26، قال لها أبوها: القوة قد رأيتها فما يدريك بأمانته؟ فذكرت له ما أمرها به من المشي خلفه، فقال له أبوها: (إني زريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني - نفسك - ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك) القصص: 27، فقال له موسى: (ذلك بيني وبينك أيما الزجلين قضيت فلا عدوان عليّ، والله على ما نقول وكيل) القصص: 28، فأقام عنده يومه، فلمّا أمسى أحضر شعيب العشاد، فامتنع موسى من الأكل، فقال: ولم ذلك؟ قال: إنها من أهل بيت لا نأخذ على اليسير من عمل الآخرة الدنيا بأسرها، فقال شعيب: ليس لذلك أطعمتك إنما هذه عادتي وعادة آبائي، فأكل، وازدادت رغبة شعيب في موسى فزوّجه ابنته التي أحضرته، واسمها صفورا، وأمرها أن تأتيه بعصاً، فأتته بعصاً، وكانت تلك العصا قد استودعها إيّاه ملك في صورة رجل، فدفعتها إليه، فلمّا رآها أبوها أمرها بردّها والإتيان بغيرها، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها، فلم تقع بيدها سواها، وجعل يرددّها، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها، فزخذها موسى ليرعى بها فندم أبوها حيث أخذها وخرج إليه ليأخذها منه حيث هي وديعة، فلمّا رآه مسوى يريد أخذها منه مانعه، فحكّما أوّل رجل يلقاهما، فزتاهما ملك في صورة آدميّ فقضى بينهما أن يضعها موسى في الأرض، فمن حملها فهي له، فألقاها موسى فلم يطق أبوها حملها وأخذها موسى بيده فتركها له، وكانت من عوسج لها شعبتان وفي رأسها محجن، وقيل: كانت من آس الجنة، حملها آدم معه، وقيل في أخذها غير ذلك.
وأقام موسى عند شعيب يرعى له غنمه عشر سنين، وسار بأهله في زمن شتاء وبرد، فلما كانت الليلة التي أراد الله عز وجل لموسى كرامته وابتداءه فيها بنبوّته وكلامه أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، وكانت امرأته حاملاً، فأخذها الطلق في ليلة شاتية ذات مطر ورعد وبرق، فأخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليصطلوا ويبيتوا حتى يصبح ويعلم وجه طريقه، فأصلد زنده فقدح حتى أعيا، فرفعت له نار، فلمّا رآها ظنّ أنها نار، وكانت من نور الله، ف (قال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) القصص: 29، فإن لم أجد خبراً (آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) النمل: 7، فحين قصدها رآها نوراً ممتداً من السماء إلى شجرة عظيمة من العوسج، وقيل: من العناب، فتحيّر موسى وخاف حين رأى ناراً عظيمة بغير دخان، وهي تلتهب في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا عظماً ولا تزداد الشجرة إلا خضرة، فلما دنا منها استأخرت عنه، ففزع ورجع، فنودي منها، فلما سمع الصوت استأنس فعاد، (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة) القصص: 30: أن بورك من في النار ومن حولها يا موسى، (إن أنا الله ربّ العالمين)، فلمّا سمع النداء ورأى تلك الهيبة علم أنه ربّه تعالى، فخفق قلبه وكلّ لسانه وضعفت قوته وصار حيّاً كميت إلاّ أن الروح يتردد فيه، فأرسل الله إليه ملكاً يشدّ قلبه، فلمّا ثاب إليه عقله نودي: (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوىً) طه: 12؛ وإنّما أمر بخلع نعله لأنهما كانتا من جلد حمار ميت، وقيل: لينال قدمه الأرض المباركة، ثمّ قال له تسكيناً لقلبه: (وما تلك بيمينك يا موسى؟ قال: هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) طه: 17 : 18؛ يقول: أضرب الشجر فيسقط ورقة للغنم؛ (ولي فيها مآرب أخرى) أحمل عليها المزود والسّقاء.
وكانت تضيء لموسى في الليلة المظلمة، وكانت إذا أعوزه الماء أدلاها في البئر فينال الماء ويصير في رأسها شبه الدلو، وكان إذا اشتهى فاكهة غرسها في الأرض فنبتت لها أغصان تحمل الفاكهة لوقتها.
قال له: ألقها يا موسى، فألقاها موسى، فإذا هي حيّة تسعى عظيمة الجثة في خفّة حركة الجانّ، فلمّا رآها موسى (وولى مدبراً ولم يعقب)، فنودي: (يا موسى لا تخف إني لا يخافُ لديّ المرسلون) النمل: 10، أقبل ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولي عصاً؛ وإنما أمره الله بإلقاء العصا حتى إذا ألقاها عند فرعون لا يخاف منها، فلمّا أقبل قال: خذها ولا تخف وأدخل يدك في فيها، وكان على موسي جبّة صوف، فلّ يده بكمّه وهو لها هائب، فنودي: ألقِ كمّك عن يدك، فألقاه، وأدخل يده بين لحييها، فلمّا أدخل يده عادت عصاً كما كانت لا ينكر منها شيئاً.
ثمّ قال له: (أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) النمل: 12، يعني برصاً، فأدخلها وأخرجها بيضاء من غير سوء مثل الثلج لها نور، ثمّ ردّها فعادت كما كانت، فقيل له: (فذانك برهانان من ربك إلي فرعون وملإه إنهم كانوا قوماً فاسقين؛ قال: ربّ إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يتقلون؛ وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً: يصدقني) القصص: 32 - 34، أي يبين لهم عني ما زكلّمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون، (قال: سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون رليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) القصص: 35.
فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلاً، فتضيّف على أمّه وهو لا يعرفهم ولا يعرفونه، فجاء هارون فسألها عنه، فأخبرته أنه ضيف، فدعاه فأكل معه، وسأله هارون: من أنت؟ قال: أنا موسى، فاعتنقا، وقيل: إنّ الله ترك موسى سبعة أيام ثم قال: أجب ربك فيما كلّمك، فقال: (رب اشرح لي صدري) طه: 25 الآيات، فزمره بالمسير إلى فرعون، ولم يزل أهله مكانهم لا يدرون ما فعل حتى مرّ راعٍ من أهل مدين فعرفهم فاحتملهم إلى مدين، فكانوا عند شعيب حتى بلغهم خبر موسى بعدما فلق البحر، فساروا إليه.
وأمّا مسوى فإنه سار إلى مصر، وأوحى اللّه إلى هارون يعلمه بقفول موسى ويأمره بتلقّيه، فخرج من مصر فالتقى به، قال موسى: يا هارون إنه الله تعالى قد أرسلنا إلى فرعون فانطلق معي إليه، قال: سمعاً وطاعة، فلمّا جاء إلى بيت هارون وزظهر أنهما ينطلقان إلى فرعون سمعت ذلك ابنة هارون فصاحت أمهما فقالت: أنشدكما الله أن لا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما جميعاً فأبيا فانطلقا إليه ليلاً، فضربا بابه، فقال فرعون لبوّابهك من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البّواب فكلّمهما، فقال له موسى: إنّا رسولا ربّ العالمين، فأخبر فرعون، فأدخلا إليه.
وقيل: إن موسى وهارون مكثا سنتين يغدوان إلى باب فرعون ويروحان يلتمسان الدخول إليه فلم يجسر أحد يخبره بأمرهما، حتى أخبره مسخرة كان يضحكه بقوله، فأمر حينئذٍ فرعون بإدخالهما، فلمّا دخلا قال له موسى: إنّي رسول من ربّ العالمين، فعرفه فرعون فقال له: (ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؛ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين؟ قال: فعلتها إذاً وأنا من الضالين، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً، يعني نبوّة، وجعلني من المرسلين) الشعراء: 18 - 21، فقال له فرعون: (إن كنت جئت بايةٍ فأت بها إن كنت من الصادقين، فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين) الاعراف: 106 - 107 قد فتح فاه فوضع اللحي الأسفل في الأرض والأعلى على القصر وتوجّه نحو فرعون ليأخذه، فخافه فرعون ووثب فزعاً فزحدث في ثيابه، ثمّ بقي بضعة وعشرين يوماً يجيء بطنه حتى كاد يهلك، وناشده فرعون بربّه تعالي أن يردّ الثعبان، فزخذه موسى فعاد عصاً، ثمّ أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء كالثلج لها نور يتلألأ ثمّ رّها فعادت إلى ما كانت عليه من لونها ثمّ زخرجها الثانية لها نور ساطع في السماء تكل منه الأبصار قد أضاءت ما حولها يدخل نورها البيوت ويرى من الكوى ومن وراءالحجب، فلم يستطع فرعون النظر إليها، ثم ردّها موسى في جيبه وأخرجها فإذا هي على لونها.
وأوحى الله تعالى إلي موسى وهارون أن (قولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى) طه: 44، فقال له موسى: هل لك في أن أعطيك شبابك فلا تهرم، وملكك فلا ينزع، وأردّ إليك لذّة المناكح والمشارب والركوب، فإذا مُتَّ دخلت الجنّة وتؤمن بي؟ فقال: لا حتى يأتي هامان، فلمّا حضر هامان عرض عليه قول موسى، فعجهزه وقال له: تصير تعبد بعد أن كنت تعبد ثم قال له: أنا أردّ عليك شبابك، فعمل له الوسمة فخصبه بها، فهو أول من خصب بالسواد، فلمّا رآه موسى هاله ذلك، فأوحى الله إليه: لا يهولنّك ما ترى فلن يلبث إلاّ قليلاً، فلمّا سمع فرعون ذلك خرج إلى قومه فقال: إن هذا لساحر عليم، وأراد قتله، فقال مؤمن آل فرعون، واسمه خربيل: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات؟) غافر: 28 وقال الملأ من قوم فرعون: (أرجه وزخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم) الشعراء: 36 - 37، ففعل وجمع السحرة، فكانوا سبعين ساحراً، وقيل: اثنين وسبعين، وقيل: خمسة عشر ألفاً، وقيل ثلاثين ألفاً، فوعدهم فرعون واتعدوا يوم عيد كان لفرعون، فصفّهم فرعون وجمع النّاس، وجاء موسى ومعه أخوه هارون وبيده عصاه حتى زتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف قومه، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب) طه: 61، فقال السحرة بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر ثم قالوا: لنأتينك بسحر لم تر مثله (وقالوا: بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون) الشعراء: 44، فقال له السحرة: يا (موسى إما أن تلقي وإما زن نكون نحن الملقين) الاعراف: 115، قال: بل ألقوا، (فألقوا حبالهم وعصيهم) فإذا هي في رأي العين حيّات أمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً، فأوجس موسى خوفاً، فأوحي الله إليه: أن (ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) طه: 69، فألقى عصاه من يده فصارت ثعباناً عظيماً فاستعرضت ما زلقوا من حبالهم وعصيّهم، وهي كالحيّات في أعين الناس، فجعلت تلقفها وتلقفها وتبتلعها حتى لم تبق منها شيئاً، ثم أخذ موسى عصاه فإذا هي في يده كما كانت.
وكان رئيس السحرة أعمى، فقال له أصحابه: إن عصا موسى صارت ثعباناً عظيماً وتلقف حبالنا وعصيّنا، فقال لهم: ولم يبقَ لها أثر ولا عادت إلى حالها الأول؟ فقالوا: لا، فقال: هذا ليس بسحر، فخرّ ساجداً وتبعه السحرة أجمعون و(قالوا: آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون) الشعراء: 47 - 48، قال فرعون: (آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل) طه: 71، فقطعهم وقتلهم وهم يقولون: (ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين) الأعراف: 126، فكانوا أول النهار كفّاراً وآخر النهار شهداء.
وكان خربيل مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل: كان من القبط، وقيل: هو النّجّار الذي صنع التابوت الذي جُعل فيه موسى وألقي في النيل، فلما رأى غلبة موسى السحرة أظهر إيمانه، وقيل: أظهر إيمانه قبل فقتل وصلب مع السحرة، وكان له امرأة مؤمنة تكتم إيمانها أيضاً، وكانت ماشطة ابنة فرعون، فبينما هي تمشطها إذ وقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا بل ربيّ وربّك وربّ أبيك، فأخبرت أباها بذلك، فدعا بها وبولدها وقال لها: من ربّك؟ قالت: ربي وربّك الله، فزمر بتنّور نحاس فأحمي ليعذّبها وأولادها، فقالت: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها، قال: ذلك لكِ، فأمر بأولادها فألقوا في التنور واحداً واحداً، وكان آخر أولادها صبياً صغيراً، فقال: اصبري يا أمّاه فإنّك على حق، فألقيت في التنور مع ولدها.
وكانت آسية امرأة فرعون من بني اسرائيل، وقيل: كانت من غيرهم، وكانت مؤمنة تكتم إيمانها، فلمّا قتلت الماشطة رأت آسية الملائكة تعرج بروحها، كشف الله عن بصيرتها، وكانت تنظر إليها وهي تعذب، فلمّا رأت الملائكة قوي إيمانها وازدادت يقيناً وتصديقاً لموسى، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون فأخبرها خبر الماشطة، قالت له آسية: الويل لك ما أجرأك على الله فقال لها: لعلّك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة؟ فقالت: ما بي جنون ولكنّي آمنت بالله تعالى ربي وربّك وربّ العالمين.
فدعا فرعون أمّها وقال لها: إنّ ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة فأقسم لتذوقنّ الموت أو لتكفرنّ بإله موسى، فخت بها أمّها وأرادتها على موافقة فرعون، فأبت وقالت: أمّا أنزكفر بالله فلا والله فأمر فرعون حتى مدّت بين يديه أربعة أوتاد وعذّبت حتى ماتت، فلما عاينت الموت قالت: (ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) التحريم: 11، فكشف الله عن بصيرتها فرأت الملائكة وما أعدّ لها من الكرامة، فضحكت، فقال فرعون: انظروا إلى الجنون الذي بها تضحك وهي في العذاب ثم ماتت.
ولما رأى فرعون قومه قد دخلهم الرعب من موسى خاف أن يؤمنوا به ويتركوا عبادته فاحتال لنفسه وقال لوزيره: يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي (أطلع إلى إله موسى وإني لأظنّه كاذباً) غافر: 37، فأمر هامان بعمل الآجرّ، وهو أوّل من عمله، وجمع الصّناع وعمله في سبع سنين، وارتفع البنيان ارتفاعاً لم يبلغه بنيان آخر، فشقّ ذلك على موسى واستعظمه، فأوحى الله إليه: أن دعه وما يريد فإنّي مستدرجه ومبطل ما عمله في ساعة واحدة، فلما تمّ بناؤه أمر الله جبرائيل فخرّبه وأهلك كلّ من عمل فيه من صانع ومستعمل، فلمّا رأى فرعون ذلك من صنع الله أمر أصحابه بالشدّة على بني إسرائيل وعلى موسى، ففعلوا ذلك، وصاروا يكلّفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقونه، وكان الرجال ولانساء في شدّة، وكانوا قبل ذلك يطعمون بني إسرائيل إذا استعملوهم، فصاروا لا يسعمونهم شيئاً، فيعودون بأسوأ حال يريدون يكسبون ما يقوتهم، فشكوا ذلك إلى موسى، فقال لهم: استعينوا بالله واصبروا، إن العاقبة للمتقين، (عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) الأعراف: 129.
فلمّا أبى فرعون وقومه إلا الثبات على الكفر، تابع الله عليه الآيات، فأرسل عليهم الطوفان، وهو المطر المتتابع، فغرق كلّ شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادعُ ربّك يكشف عنّا هذا ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فكشفه الله عنهم ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنّا لم نمطر، فبعث الله عليهم الجراد فأكل زروعهم، فسألوا موسى أن يكشف ما بهم ويؤمنوا به، فدعا الله فكشفه، فلم يؤمنوا وقالوا: قد بقي من زروعنا بقيّة، فأرسل الله عليهم الدبّا، وهو القمل، فأهلك الزروع والنبات أجمع، وكان يهلك أطعمتهم، ولم يقدروا أن يحترزوا منه، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم؛ ففعل، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، وكانت تسقط في قدورهم وأطعمتهم وملأت البيوت عليهم، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا به، ففعل، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدّم، فصارت مياه الفرعونيين دماً، وكان الفرعونيّ والاسرائيلي يستقيان من ماء واحد، فيأخذ الاسرائيلي ماء ويأخذ الفرعوني دماً، وكان الاسرائيلي يأخذ الماء في فمه فيمجّه في فم الفرعوني فيصير دماً، فبقي ذلك سبعة أيام، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا، ففعل، فلم يؤمنوا.
فلمّا يئس من إيمانهم ومن إيمان فرعون دعا موسى وأمّن هارون فقال: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا، ربّنا ليضلّوا عن سبيلك، ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) يونس: 88، فاستجاب الله لهما، فمسخ الله أموالهم، ما عدا خيلهم وجواهرهم وزينتهم، حجارةً، والنخل والأطعمة والدقيق وغير ذلك، فكانت إحدى الآيات التي جاء بها موسى.
فلما طال الأمر على موسى أوحى الله إليه يأمره بالمسير ببني إسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض المقدّسة، فسأل موسى عنه فلم يعرفه إلا امرزة عجوز فأرته مكانه في النيل، فاستخرجه موسى، وهو في صندوق مرمر، فزخذه معه فسار، وأمر بني إسرائيل أن يستعيروا من حلي القبط ما أمكنهم، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئاً كثيراً، وخرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون، وكان موسى على ساقة بني اسرائيل، وهارون على مقدّمتهم، وكان بنو إسرائيل لما ساروا من مصر ستمائة ألف وعشرين ألفاً وعشرين ألفاً، وتبعهم فرعون وعلى مقدمتهم هامان، (فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: إنا لمدركون) الشعراء: 61 يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، أمّا الأول فكانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، وأمّا الآن فيدركنا فرعون فيقتلنا، قال موسى: (كلا إنّ معي ربي سيهدين).
وبلغ بنو إسرائيل إلى البحر وبقي بين أيديهم وفرعون من ورائهم، فأيقنوا بالهلاك، فتقدّم موسى فضرب البحر بعصاه فانفلق، فكان كلّ فرق كالطود العظيم، وصار فيه اثنا عشر طريقاً لكلّ سبط طريق، فقال كل سبط: قد هلك أصحابنا، فأمر الله الماء فصار كالشباك، فكان كل سبط يرى من عن يمينه وعن شماله حتى خرجوا، ودنا فرعون وأصابه من البحر فرأى الماء علي هيئته والطرق فيه، فقال لأصحابه: ألا ترون البحر قد فرق مني وانفتح لي حتى أدرك أعدائي؟ فلمّا وقف فرعون على أفواه الطرق لم تقتحمه خيله، فنزل جبرائيل على فرس أنثى وديق، فشمّت الحصن ريحها فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم، وانفرد جبرائيل بفرعون يأخذ من حمأة البحر فيجعلها في فيه، وقال حين أدركه الغرق: آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وغرق، فبعث الله إليه ميكائيل يعيره، فقال له: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) يونس: 91، وقال جبرائيل للنبي، ﷺ: لو رزيتني وأنا أدسّ من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها).
فلما نجا بنو إسرائيل قالوا: إنّ فرعون لم يغرق، فدعا موسى فأخرج الله فرعون غريقاً، فأخذه بنو إسرائيل يتمثلون به، ثمّ ساروا فزتوا علي قوم يعبدون الأصنام فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون) الأعراف: 138، فتركوا ذلك، ثم بعث موسى جندين عظيمين كلّ جند اثنا عشر ألفاً إلى مدائن فرعون، وهي يومئذٍ خالية من زهلها قد زهلك الله عظماءهم ورؤساءهم ولم يبق غير النساء والصبيان والزمنى والمرضى والمشايخ والعاجزين، فدخلوا البلاد وغنموا الأموال وحملوا ما أطاقوا وباعوا ما عجزوا عن حمله من غيرهم، وكان على الجندين يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا.
وكان موسى قد وعده الله وهو بمصر أنّه إذا خرج مع بني إسرائيل منها وأهلك الله عدوّهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون، فلمّا أهلك الله فرعون وأنجى بني إسرائيل قالوا: يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا، فسأل موسى ربّه ذلك، فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً ويتطهّر ويطهّر ثيابه ويأتي إلى الجبل جبل طور سينا ليكلّمه ويعطيه الكتاب، فصام ثلاثين يوماً أوّلها أوّل ذي القعدة، وسار إلى الجبل واستخلف أخاه هارون على بني اسرائيل، فلمّا قصد الجبل أنكر ريح فمه فتسوّك بعود خرنوب، وقيل: تسوّك بلحاء شجرة، فأوحى الله رليه: أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ وأمره أن يصوم عشرة أيام أخرى، فصامها، وهي عشر ذي الحجة، (فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة) الاعراف: 142.
ففي تلك الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل لأنّ الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى، وكان السامريّ من زهل باجرمى، وقيل: من بني اسرائيل، فقال هارون: يا بني إسرائيل إن الغنائم لا تحل لكم والحلي الذي استعمرتموه من القبط غنيمة فاحفروا حفيرة وألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه، ففعلوا ذلك، وجاء السامري بقبضة من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبرائيل فألقاه فيه، فصار الحلي عجلاً جسداً له خوار، وقيل: إنّ الحلي أُلقي في النار فذاب فألقي السامري ذلك التراب فصار الحلي عجلاً جسداً له خوار، وقيل: كان يخور ويمشي، وقيل: ما خار رلاّ مرة واحدة ولم يعد، وقيل: إنّ الاسمريّ صاغ العجل من ذلك الحلي في ثلاثة أيام ثم قذف فيه التراب فقام له خوار.
فلما رأوه قال لهم السامري: (هذا إلهكم وإله موسى، فنسي) طه: 88 موسى وتركه ههنا وذهب يطلبه، فعكفوا عليه يعبدونه فقال لهم هارون: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربّكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري) طه: 90، فأطاعه بعضهم وعصاه بعضهم، فأقام بمن معه ولم يقاتلهم، ولما ناجى الله تعالى موسى قال له: (وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى، قال: فإنا قد فتنّا قومك من بعدك - يا موسى - وأضلهم السامري) طه: 83 - 85، فقال موسى: يا ربّي هذا السامريّ قد أمرهم، أن يتخذوا العجل، من نفخ فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت إذاً أضللتهم.
ثم إنّ موسي لما كلمه الله تعالي زحبّ أن ينظر إليه قال: (ربّ أرني أنظر إليك، قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف: 143، وأعطاه الألواح فيها الحلال والحرام والمواعظ، وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه، وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوماً، ثمّ يكشفها لما تغشّاه من النور، فلمّا وصل إلى قومه ورأى عبادتهم العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولحيته يجرّه إليه، (قال: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) طه: 94 - 97، فترك هارون وأقبل علي السامريّ وقال: (ما خطبك يا سامري؟ قال: بصرت بما لم يبصروا به، فقبضت قبضةً من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي، قال: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مِسَاسَ)، ثم أخذ العجل وبرده بالمبارد وأحرقه وأمر السامريّ فبال عليه وذراه في البحر.
فلمّا ألقى موسي الألواح ذهب ستّة أسباعها وبقي سبع، وطلب بنو إسرائيل التوبة فأبى الله أن يقبل توبتهم وقال لهم موسى: (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا أنفسكم) البقرة: 54، فاقتتل الذين عبدوه والذين لم يعبدوه، فكان من قتل من الفريقين شهيداً، فقتل منهم سبعون ألفاً، وقام موسى وهارون يدعوان الله، فعفا عنهم وأمرهم بالكفّ عن القتال وتاب عليهم، وأراد موسى قتل السامري فأمره الله بتركه وقال: إنه سخيٌّ، فلعنه موسى.
ثمّ إنّ موسى اختار من قومه سبعين رجلاً من زخيارهم وقال لهم: انطلقوا معي إلى الله فتوبوا مما صنعتم وصوموا وتطهروا، وخرج بم إلى طور سينا للميقات الذي وقّته الله له، فقالوا: اطلب أن نسمع كلام ربّنا، فقال: أفعل، فلمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتي تغشَّى الجبل كلّه ودخل فيه موسى وقال للقوم: ادنوا، فدنوا حتى دخلوا في الغمام، فوقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه، فلمّا فرغ انكشف من موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً) البقرة: 55 فأخذتهم الصّاعقة فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد الله تعالى ويدعوه ويقول: يا ربّ اخترت أخيار بني إسرائيل وأعود إليهم وليسوا معي فلا يصدّقونني، ولم يزل يتضرّع حتى ردّ الله إليهم أرواحهم فعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: ياموسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئاً إلا أعطاكه، فادعه يجعلنا أنبياء، فدعا الله فجعلهم أنبياء.
وقيل: أمرُ السبعين كان قبل أن يتوب الله على بني اسرائيل، فلمّا مضوا للميقات واعتذروا قَبِل توبتهم وأمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، والله أعلم.
ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبولها وبعملوا بما فيها للأثقال والشدّة التي جاء بها، وأمر الله جبرائيل فقلع جبلاً من فلسطين على قدر عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ، ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل مثل الظّلّة وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر من خلفهم، فقال لهم موسى: خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمعوا فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلا رضختم بهذا الجبل وغرقتم في هذا البحر وأحرقتكم بهذه النار، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا ذلك وسجدوا على شقّ وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنّة في اليهود يسجدون على جانب وجوههم وقالوا: سمعنا وأطعنا.
ولما رجع موسى من المناجاة بقي أربعين يوماً لا يراه أحد إلاّ مات، وقيل: ما رآه إلاّ عمي، فجعل على وجهه ورأسه برنساً لئلا يُرى وجهه.
ثم إنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل ابن عمّ له ولم يكن له وارث غيره ليرث ماله وحمله وألقاه بموضع آخر، ثمّ أصبح يطلب دمه عند موسى من بعض بني اسرائيل، فجحدوا، فسأل موسى ربّه، فأمرهم أن يذبحوا بقرة، فقالوا: (أتتخذنا هزواً؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) البقرة: 67 المستهزئين، فقالوا له: ما هي؟ ولو ذبحوا بقرة ما لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم، وإنما كان تشديدهم لأنّ رجلاً منهم كان براً بأمّه وكان له بقرة على النعت المذكور فنفعه برّه بأمّه، فلم يجدوا على الصفة المذكورة إلاّ بقرته، فباعها منهم بملء جلدها ذهباً، فلمّا سألوا موسى عنها قال: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) البقر: 68، يقول: لا كبيرة ولا صغيرة نصف بين السنين، (قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال: إنه يقول إنهابقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين، قالوا: ادع لنا ربك يبين لناما هي، إن البقر تشابه علينا- قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) يعني لا عيب فيها، وقيل لا بياض فيها - قالوا: الآن جئت بالحق) البقرة: 69 - 71، وطلبوها فلم يجدوا إلا بقرة ذلك الرجل البارّ بأمّه، فاشتروها، فغالى بها حتى أخذ ملء جلدها ذهباً، فذبحوها وضربوا القتيل بلسانها، وقيل: بغيره، فحيي وقام وقال: قتلني فلان، ثم مات.
ذكر أمر بني إسرائيل في التيه ووفاة هارون عليه السلام
ثم إنّ الله تعالى أمر موسى، عليه السلام، أن يسير ببني إسرائيل إلى أريحا بلد الجبّارين، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى كانوا قريباً منهم، فبعث موسى اثني عشر نقيباً من سائر أسباط بني اسرائيل، فساروا ليأتوا بخبر الجبّارين، فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: (عوج بن عناق) فأخذ الاثني عشر فحملهم وانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاءالقوم الذين يزعمون أنّهم يريدون أن يقاتلونا، وأراد أن يطأهم برجله؛ فمنعته امرأته وقالت: أطلقهم ليرجعوا ويخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر هؤلاء لا يقدموا عليهم، فاكتموا الأمر عنهم؛ وتعاهدوا على ذلك ورجعوا، فنكث عشرة منهم العهد وأخبروا بما رأوا، وكتم رجلان منهم، وهما: يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا ختن موسى، ولم يخبروا إلاّ موسى وهارون، فلمّا سمع بنو إسرائيل الخبر عن الجبّارين امتنعوا عن المسير إليهم، فقال لهم موسى: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا: ياموسي إنّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان) وهما يوشع وكالب (من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) المائدة: 21 - 23، (قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون) المائدة: 24.
فغضب موسي فدعا عليهم فقال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) المائدة: 25، وكانت علجة من موسى، فقال الله تعالى: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض) المائدة: 26، فندم موسي حينئذ، فقالوا له: فكيف لنا بالطعام؟ فأنزل الله المنّ والسلوى، فزمّا المنّ فقيل هو كالصمغ وطعمه كلاشهد يقع على الأشجار، وقيل: هو الترنجبين، وقيل: هو الخبز الرقاق، وقيل: هو عسل كان ينزل لكل إنسان صاع، وأمّا السلوى فهو طاذر يشبه السّماني، فقالوا: أين الشراب؟ فزمر موسي فضرب بعصاه الحجر (فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً) البقرة: 60، لكلّ سبط عين، فقالوا: أين الظلّ؟ فظلّل عليهم الغمام، فقالوا: أين اللبّاس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم ولا يتمزّق لهم ثوب، ثمّ قالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وففومها وعدسها وبصلها، قال: أتستبدولن الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) البقرة: 61، فلما خرجوا من التيه رفع عنهم المنّ والسلوى.
ثم إن موسي التقي هو وعوج بن عناق، فوثب موسي عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، وقيل: عاش عوج ثلاثة آلاف سنة.
ثمّ إنّ الله أوحى إلى موسى: إني متوفٍّ هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلقا نحوه فإذا هم فيه بشجرة لم يروا مثلها وفيه بيت مبني وسرير عليه فرش وريح طيّبة، فلما رآه هارون أعجبه، قال: يا موسى إني أريد أن أنام على هذا السرير، فقال له موسى: نم، قال: إني أخاف ربّ هذا البيت أن يأتي فيغضب عليّ، قال موسى: لا تخف أنا أكفيك ، قال: فنم معي، فلمّا ناما أخذ هارون الموت، فلمّا وجد حسّه قال: يا موسى خدعتني فتوفّي ورفع على السرير إلى السماء، ورجع موسى إلى بني اسرائيل، فقال له بنو اسرائيل: إنك قتلت هارون لحبّنا إيّاه، فقال: ويحكم أفترون أني أقتل أخي فلمّا أكثروا عليه صلى ودعا الله، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه ما بين السماء والأرض، فأخبرهم أنه مات وأن موسى لم يقتله، فصدّقوه، وكان موته في التيه.
ذكر وفاة موسى عليه السلام
قيل: بينما موسى، عليه السلام، يمشي ومعه يوشع بن نون فتاه إذ أقبلت ريح سوداء، فلمّا نظر إليها يوشع ظنّ أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: لاتقوم الساعة وأنا ملتزم نبيّ الله، فاستلّ موسي من تحت القميص وبقي القميص في يدي يوشع، فلمّا جاء يوشع بالقميص أخذه بنو إسرائيل وقالوا: قتلت نبيّ الله فقال: ما قتلته ولكنه استلّ مني، فلم يصدّقوه، قال: فإذا لم تصدّقوني فأخروني ثلاثة أيام، فوكّلوا به من يحفظه، فدعا الله، فأتي كلّ رجل كان يحرسه في المنام فأُخبر أنّ يوشع لم يقتل موسى، وأنّا قد رفعناه إلينا، فتركوه.
وقيل: إنّ موسى كره الموت فأراد الله أن يحبّب إليه الموت، فأوحى الله إلى يوشع بن نون، وكان يغدو عليه ويروح، ويقول له موسى: يا نبيّ الله ما أحدث الله إليك؟ فقال له يوشع بن نون: يا نبيّ الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله لك؟ ولا يذكر له شيئاً، فلمّا رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت، وقيل: إنه مرّ منفرداً برهط من المالذكة يحفرون قبراً، فعرفهم فوقف عليهم، فلم يرَ أحسن منه ولم يَر مثل ما فيه من الخضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه، فقال: إنّ هذا العبد له منزلٌ كريم ما رأيتُ مضجعاً ولا مدخلاً مثله، فقالوا: أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجّه إلى ربك وتنفّس أسهل تنفس تتنفسّه، فنزل فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس، فقبض الله روحه ثمّ سوت الملائكة عليه التراب.
وكان، ﷺ، زاهداً في الدنيا راغباً فيما عند الله، إنما كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب من نقير من حجر تواضعاً إلى الله تعالى.
وقال النبي، ﷺ: إنّ الله أرسل ملك الموت ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه، فعاد وقال: يا ربّ أرسلتني إلى عبد لا يحبّ الموت، قال الله: رجع له وقل له يضع يده على ظهر ثور وله بكلّ شعرة تحت يده سنة، وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن، فأتاه ملك الموت وخيّره، فقال له: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذن، فقبض روحه، وهذا القول صحيح قد صحّ النقل به عن النبيّ، ﷺ، فكان موته في التيه أيضاً. وقيل: بل هو الذي فتح مدينة الجبّارين على ما نذكره.
وكان جميع عمر موسى مائة وعشرين سنة، من ذلك في ملك أفريدون عشرون، وفي ملك منوجهر مائة سنة، وكان ابتداء أمره منذ بعثه الله إلي أن قبضه في ملك منوجهر.
ثمّ نبّئ بعده يوشع بن نون فكان في زمن منوجهر عشرين سنة، وفي زمن أفراسياب سبع سنين.
ذكر يوشع بن نون عليه السلام وفتح مدينة الجبارين
لما توفي موسى بعث الله يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم الخليل، عليه السلام، نبيّاً إلى بني إسرائيل وأمره بالمسير إلى أريحا مدينة الجبّارين، واختلف العلماء في فتحها على يد من كان، فقال ابن عبّاس: إنّ موسي وهارون توفيّا في التيه وتوفّي فيه كل من دخله، وقد جاوز العشرين سنة، غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله إلى يوشع بن نون فزمره بالمسير إليها وفتحها، ففتحها؛ ومثله قال قتادة والسّدّيّ وعكرمة.
وقال آخرون: إنّ موسى عاش حتى خرج من التيه وسار إلى مدينة الجبّارين وعلى مقدمته يوشع بن نون ففتحها؛ وهو قول ابن اسحاق، قال ابن اسحاق: سار موسى بن عمران إلى أرض كنعان لقتال الجبّارين، فقدّم يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا، وهو صهره على أخته مريم بنت عمران، فلمّا بلغوها اجتمع الجبّارون إلى بلعم بن باعور، وهو من ولد لوط، فقالوا له: رن موسي قد جاء ليقتلنا ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم، وكان بعلم يعرف اسم الله الأعظم، فقال لهم: كيف أدعو على نبيّ الله والمؤمنين ومعهم الملائكة فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم، فأتوا امرأته وأهدوا لها هديّة، فقبلتها، وطلبوا إليها أن تحسّن لزوجها أن يدعو على بني اسرائيل، فقالت له في ذلك، فامتنع، فلم تزل به حتى قال: أستخير الله، فاستخار الله تعالى، فنهاه في المنام، فأخبرها بذلك، فقالت: راجع ربّك، فعاود الاستخارة فلم يرد إليه جواب، فقالت: لو أراد ربّك لنهاك، ولم تزل تخدعه حتى أجابهم، فركب حماراً له متوجّهاً إلى جبل مشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم، فما سار عليه إلاّ قليلاً حتى ربض الحمار، فنزل عنه وضربه حتى قام فركبه فسار به قليلاً فبرك، فعل ذلك ثلاث مرّات، فلمّا اشتدّ ضربه في الثالثة أنطقه الله فقال له: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة ترى تردّني؟ فلم يرجع، فأطلق الله الحمار حينئذ، فسار عليه حتى أشرف على بني اسرائيل، فكان كلّما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه إلى الدعاء لهم، وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم، فقالوا له في ذلك، فقال: هذا شيء غلبنا الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال: الآن قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبقَ غير المكر والحيلة، وأمرهم أن يزيّنوا نساءهم ويعطوهنّ السلع للبيع ويرسلوهنّ إلى العسكر ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها، وقال: إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم، ففعلوا ذلك، ودخل النساء عسكر بني اسرائيل، فأخذ زمرى بن شلوم، وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب، امرأة وأتى بها موسى فقال له: أظنك تقول هذا حرام فوالله لا نطيعك، ثمّ أدخلها خيمته فوقع عليها، فأنزل الله عليهم الطاعون، وكان فنحاص بن العزار بن هارون صاحب أمر عمّه موسى غائباً، فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني اسرائيل، وأُخبر الخبر، وكان ذا قوّة وبطش، فقصد زمرى فرآه وهو مضاجع المرأة، فطعنهما بحربة في يده فانتظمهما، ورفع الطاعون، وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفاً، وقيل: سبعون ألفاً، فأنزل الله في بلعم: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).
ثم إن موسى قدّم يوشع الي أريحا في بني إسرائيل فدخلها وقتل بها الجبارين، وبقيت منهم بقيّة، وقد قاربت الشمس الغروب، فخشي أن يدركهم الليل فيعجزوه، فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس، ففعل وحبسها حتى استأصلهم، ودخلها موسى فأقام بها ما شاء الله أن يقيم، وقبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلق.
وأما من زعم أن موسى كان قد توفّي قبل ذلك فقال: إنّ الله أمر يوشع بالمسير إلى مدينة الجبارين، فسار ببني اسرائيل، ففارقه رجل يقال له بلعم بن باعور، وكان يعرف الاسم الأعظم، وساق من حديثه نحو ما تقدّم، فلمّا ظفر يوشع بالجبارين أدركه المساء ليلة السبت فدعا الله فردّ الشمس عليه وزاد في النهار ساعة فهزم الجبارين ودخل مدينتهم وجمع غنائمهم ليأخذها القربان، فلم تأتِ النّار، فقال يوشع: فيكم غلول فبايعوني، فبايعوه، فلصقت يده في يد من غلّ، فزتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت فجعله في القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلتهما.
وقيل: بل حصرها ستّة أشهر، فلما كان السابع تقدّموا إلى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور، فدخلوهاوهزموا الجبارين وقتلوا فيهم فأكثروا، ثمّ اجتمع جماعة من ملوك الشام وقصدوا يوشع فقاتلهم وهزمهم وهرب الملوك إلى غار، فأمر بهم يوشع بن نون فقتلوا وصلبوا، ثمّ ملك الشام جميعه فصار لبني إسرائيل وفرّق عمّاله فيه، ثمّ توفّاه الله فاستخلف على بني إسرائيل كالب بن يوفنّا، وكان عمر يوشع مائة وستّاً وعشرين سنة، وكان قيامه بالأمر بعد موسى سبعاً وعشرين سنة.
وأما من بقي من الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مإه بهم متوجهاً إلى افريقية فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم افريقية فافتتحها وقتل ملكها جرجير وأسكنهم إياها، فهم البرابرة، وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة، فهم فيهم إلى اليوم.
ذكر أمر قارون
وكان قارون بن يصهر بن قاهث، وهو ابن عمّ موسى بن عمران بن قاهث، وقيل: كان عمّ موسى؛ والأوّل أصحّ، وكان عظيم المال كثير الكنوز، قيل: إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلاً، فبغى على قومه بكثرة ماله، فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قصّ الله تعالى في كتابه: (لا تفرح إن الله لايحبّ الفرحين، وابتغ فيما آتالك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) القصص: 76 - 77؛ فأجابهم جواب مغترّ لحلم الله عنه فقال: إنما أوتيته، يعني المال والخزائن، على علم عندي، قيل على خبر ومعرفة مني، وقيل: لولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، فلم يرجع عن غيّه ولكنّه تمادى في طغيانه حتى (خرج على قومه في زينته) القصص: 79، وهي أنه ركب برذوناً أبيض بمراكب الأرجوان المذهبّة وعليه الثياب المعصفرة وقد حمل معه ثلاثمائة جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه، وبنى داره وضرب عليها صفائح الذهب وعمل لهاباباً من ذهب، فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ماله، فنهاهم أهل العلم بالله.
وأمره الله تعالى بالزكاة، فجاء إي موسى من كلّ ألف دينار دينار، وعلى هذا من كلّ ألف شيء شيء، فلمّا عاد إلى بيته وجده كثيراً، فجمع نفراً يثق بهم من بني إسرائيل فقال: إنّ موسى أمركم بكلّ شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيّدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تحضروا فلانة البغيّ فتجعلوا لها جُعلاً فتقذفه بنفسها، ففعلوا ذلك، فأجابتهم إليه.
ثمّ أتى موسى فقال: إنّ قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم فقال: من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كان له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ فقال: نعم، قال: فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت.
فلما جاءت قال لها موسى: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت: أنا فعلتُ بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا، ولكن جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك، فسجد ودعا عليهم، فأوحى الله إليه: مُرِ الأرض بما شئت تطعك، فقال: يا أرض خديهم.
وقيل: إنّ هذا الأمر بلغ موسى، فدعا الله تعالى عليه، فأوحى الله إليه: مُر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى إلى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجهه فقال له: يا موسى ارحمني، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسي ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، فلم يزل يستعطفه وهو يقول: يا أرض خذيهم، حتى خسف بهم، فأوحى الله إلى موسى: ما أفظّك أما وعزّتي لو إيّاي نادى لأجبته، ولا أعيد الأرض تُطيع أحداً أبداً بعدك، فهو يخسف به كلّ يوم، فلما أنزل الله نقمته حمد المؤمنون الله، وعرف الذين تمنّوا مكانه بالأمس خطأ أنفسهم واستغفروا وتابوا.
ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهر
لما هلك منوجهر ملك فارس سار أفراسياب بن فشنج بن رستم ملك الترك إلى مملكة الفرس واستولى عليهم وسار إلى أرض بابل وأكثر المقام بها وبمهرجا نقذق وأكثر الفساد في مملكة فارس، وعظم ظلمه، وأخرب ما كان عامراً، ودفن الأنهار والقنى، وقحط النّاس سنة خمس من ملكه، إلي زن خرج عن مملكة فارس، ولم يزل النّاس منه فيزعظم البليّة إلى أن ملك زوّ بن طهماسب، وكان منوجهر قد سخط على ولده طهماسب ونفاه عن بلاده، فأقام في بلاد الترك عن ملك لهم يقال له وامن وتزوّج ابنته، فولدت له زوّ بن طهماسب، وكان المنجّمون قد قالوا لأبيها: إن ابنته تلد ولداً يقتله، فسجنها، فلمّا تزوّجها طهماسب وولدت منه كتمت أمرها وولدها، ثمّ إنّ منوجهر رضي عن طهماسب وأحضره إليه، فاحتال في إخراج زوجته وابنه زوّ من محبسهما، فوصلت رليه، ثمّ إنّ زوّاً فيما ذكر قتل جدّه وأمّن في بعض الحروب الترك وطرد أفراسياب التركي عن مملكة فارس حتى ردّه إلى الترك بعد حروب جرت بينهما، فكانت غلبة أفراسياب على أقاليم بابل ومملكة الفرس اثنتي عشرة سنة من لدن توفّي منوجهر إلى أن أخرجه عنها زوّ، وكان إخراجه عنها في روزابن من شهر ابان ماه، فاتخذه لهم هذا اليوم عيداً وجعلوه الثالث لعيديهم النوروز والمهرجان.
وكان زوّ محموداً في ملكه محسناً إلى رعيّته فأمر بإصلاح ما كان أفراسياب أفسده من مملكتهم، وبعمارة الحصون، وإخراج المياه اليت غوّر طرقها، حتى عادت البلادُ إلى أحسن ما كانت، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، فعمرت البلاد في ملكه وكثرت المعايش، واستخرج بالسواد نهراً وسمّاه الزاب، وبنى عليه مدينة، وهي التي تسمّى العتيقة، وجعل لها طسّوج الزاب الأعلي وسسّوج الزاب الأوسط وطسوج الزاب الأسفل، وكان أوهل من اتخذ ألوان الطبيخ أمر بها وبأصناف الزطعمة، وأعطى جنوده ما غنم من الترك وغيرهم.
وكان جميع ملكه إلى أن انقضت مدّته ثلاث سنين، وكان كرشاسب بن أنوط وزيره في ملكه ومعينه فيه، وقيل: كان شريكه في الملك؛ والزوّل أصحّ، وكان عظيم الشأن في فارس إلا أنّه لم يملك.
ذكر ملك كيقباذ
ثمّ ملك بعد زوّ كيقباذ بن راع بن ميسرة بن نوذر بن منوجهر وقدّر مياه الأنهاروالعيون لشرب الأرض، وسمى البلاد بأسمائها وحدّها بحدودها، وكوّر الكور وبيّن حيّز كلّ كورة، وأخذ العشر من غلاّتها لأرزاق الجند، وكان - فيما ذكر كيقباذ حريصاً علي عمارة البلاد، ومنعها من العدوّ، كثير الكنوز؛ وقيل: إنّ الملوك الكيانيّة وأبناءهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة، فكان مقيماً بالقرب من نهر بلخ، وهو جيحون، لمنع الترك من تطرّق شيء من بلاده، وكان ملكه مائة سنة.
ذكر الأحداث في بني إسرائيل في عهد زوّ وكيقباذ ونبوة حزقيل
لما توفي يوشع بن نون قام بأمر بني إسرائيل بعده كالب بن يوفنّا، ثمّ حزقيل بن نورى، وهو الذي يقال له ابن العجوز، وإنما قيل له ذلك لأنّ أمّه سألت الله الولد وقد كبرت، فوهبه الله لها، وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله.
وكان سبب ذلك: أنّ قرية يقال لها راوردارة، وقع بها الطاعون، فهرب عامّة أهلها ونزلوا ناحية، فهلك أكثر من بقي بالقرية وسلم الآخرون، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا، فقال الذين بقوا: أصحابنا هولاء كانوا أحزم منّا ولو صنعنا كما صنعوا بقينا، فوقع الطاعون من قابل، فهرب عامّة أهلها، وهم بضعة وثلاثون ألفاً، وقيل: ثلاثة آلاف، وقيل: أربعة آلاف، وقيل غير ذلك، حتي نزلوا ذلك المكان، فصاح بهم ملك فماتوا ونخرت عظامهم، فمرّ بهم حزقيل فلمّا رآهم جعل يتفكر في بعثهم، فأوحى الله إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، فقيل: ناد، فنادى: يا أيتها العظام البالية إنّ الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام تطير بعضها إلى بعض حتى صارت أجساداً من عظام، ثم نادى: يا أيتها العظام إن الله أمرك أن تكتسي فألبست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها، ثم نادى: يا أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك فعادت،وقامت الأجساد أحياء؛ وقالوا: حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون انهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد كفنا دسما ثم ماتوا ثم مات حزقيل ولم تذكر مدته في بني اسرائيل، وقيل: كانوا قوم حزقيل فلما أن ماتوا بكى حزقيل وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيدا فقال الله أتحب أن أحييهم؟ قال: نعم قال: فإني قد جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: أحيوا بإذن الله تعالى فعاشوا.
ذكر الياس عليه السلام
لما توفي حزقيل كثرت الأحداث في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله وعبدوا الأوثان فبعث اللهم اليهم الياس بن ياسين بن فنحاص بن العزار بن هرون بن عمران نبياً، وكان الأنبياء في بني إسرائيل بعر موسى بن عمران يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة، وكان الياس مع ملك من ملوكهم يقال له أخاب وكان يسمع منه ويصدقه وكان الياس يقيم له أمره، وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنماً يعبدونه يقال له: بعل، فجعل الياس يدعوهم إلى الله وهم لا يسمعون إلا من ذلك الملك، وكان ملوك بني إسرائيل متفرقة كل ملك قد تغلب على ناحية يأكلها، فقال ذلك الملك الؤي كان الياس معه والله ما أرى الذي تدعو إليه إلا باطلاً لأني فلانا وفلانا يعد ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان، فلم يضرهم ذلك شيئاً يأكلون ويشربون ويتمتعون ما ينقص ذلك من ديارهم وما نري لنا عليهم من فضل؟ ففارقه الياس وهو يسترجع، فعبد ذلك الملك الأوثان أيضاً.
وكان للملك جار صالح مؤمن يكتم إيمانه، وله بستان إلى جانب دار الملك، والملك يحسن جواره، وللمك زوجة عظيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها عئيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها إذا سار عن بلده وتظهر للناس، فغاب مرة فوضعت إمرأته على صاحب البستان من شهد عليه أنه سب الملك، فقتلته، وأخذت بستانه، فلما عاد الملك غضب من ذلك واستعظمه وأنكره، فقالت: فات أمره فأوحى الله إلى الياس يأمره أن يقول للملك وامرأته أن يرد البستان على ورثة صاحبه فإن لم يفعلا غضب عليهما وأهلكهما في البستان ولم يتمتعا به إلا قليلا، فأخبرهما الياس بذلك فلم يراجعا الحق.
فلما رأى الياس أن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر والظلم دعا عليهم، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، فهلكت الماشية والطيور والهوامّ والشجر وجهد الناس جهداً شديداً واستخفى الياس خوفاً من بني إسرائيل، فكان يأتيه رزقه، ثم أنه أوى ليلة إلى أمرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب - به ضر شديد فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع الياس، وكان معه وصحبه وصدقه، وكان الياس قد كبر، فأوحى الله إليه إنك قد أهلكت كثيراً من الخلق من البهائم والدواب والطير وغيرها، ولم يعص سوى بني إسرائيل، فقال الياس: أي رب: دعني أكن أنا الذي أدعو لهم وأبتهج بالفرج لعلهم يرجعون، فجاء الياس إليهم، وقال لهم: انكم قد هلكتم وهلكت الدواب بخطاياكم، فإن أحببتم أن تعلموا أن الله ساخط عليكم بفعلكم، وأن الذي أدعوكم إليه هو الحق، فاخرجوا باصنامكم وادعوها، فان استجابت لكم فذلك الحق كما تقولون، وان هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرّج عنكم، قالوا أنصفت فخرجوا بأصنامهم فدعوها فلم يستجب لهم ولم يفرح عنهم، فقالوا: لالياس انا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم بالفرج وان يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس وعظمت وهم ينظرون، ثم أرسل الله منها المطر فحييت بلادهم، وفرج الله عنهم ما كانوا فيه من البلاء فلم ينزعوا ولم يراجعوا الحق، فلما رأى ذلك الياس سأل الله أن يقبضه فيريحه منهم، فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المعطعم والمشرب، فصار ملكياً إنسياً سماوياً أرضياً، وسلط الله على الملك وقومه عدواً فظفر بهم وقتل الملك وزوجته بذلك البستان وألقاهما فيه حتى بليت لحومهما.
ذكر نبوّة اليسوع عليه السلام وأخذ التابوت من بني إسرائيل
فلمّا انقطع إلياس عن بني إسرائيل بعث الله أليسع، فكان فيهم ما شاء اللّه، ثمّ قبضه الله وعظمت فيهم الزحداث وعندهم التابوت يتوارثونه فيه السكينة وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلاّ هزم الله العدوّ، وكانت السكينة شبه رأس هر، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح، ثمّ خلف فيها ملك يقال له إيلاف، وكان الله يمنعهم ويحميهم، فلمّا عظمت أحداثهم نزل بهم عدوّ فخرجوا إليه وأحرجوا التابوت، فاقتتلوا فغلبهم عدوّهم على التابوت وزخذه منهم وانهزموا، فلمّا علم ملكهم أن التابوت أخذ مات كَمَداً، ودخل العدوّ أرضهم ونهب وسبى وعاد، فمكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف، وكانوا يتمادون أحياناً في غيّهم فيسلّط الله عليهم من ينتقم منهم، فإذا راجعوا التوبة كفّ الله عنهم شرّ عدوهم، فكان هذا حالهم من لَدُن توفي يوشع بن نون إلى أن بعث الله اشمويل وملكهم طالوت وردّ عليهم التابوت.
وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع، الذي كان يلي أمر بني إسرائيل بعضها القضاة وبعضها الملوك وبعضها المتغلّبون إلى أن ثبت الملك فيهم ورجعت النبوّة إلى اشمويل، أربعمائة سنة وستّين سنة. فكان أوّل من سُلّط عليهم رجل من نسل لوط يقال له كوشان فقهرهم وأذلّهم ثماني سنين، ثمّ أنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل، فقال بأمرهم أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم ملك يقال له عجلون فملكهم ثماني عشرة سنة، ثم استنقذهم منه رجل من سبط بنيامين يقال له أهوذ، وقام بزمرهم ثمانين سنة. ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيّين يقال له يابين، فملكهم عشرين سنة، واستنقذهم منه امرأة من بين أنبيائهم يقال لها دبورا، ودبّر الأمر رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم قوم من نسل لوط فملكوهم سبع سنين، واستنقذهم رجل يقال له جدعون ابن يواش من ولد نفتالي بن يعقوب، فدبّر أمرهم أربعين سنة وتوفيّ، ودبّر أمرهم بعده ابنه ابيمالخ ثلاث سنين، ثمّ دبّرهم بعده فولع بن فوّا ابن خال ابيمالخ، ويقال إنّه ابن عمّه، ثلاثاً وعشرين سنة، ثمّ دبّر أمرهم بعده رجل يقال له يائير اثنتين وعشرين سنة.
ثمّ ملكهم قوم من أهل فلسطين بني عمون ثماني عشرة سنة، ثمّ قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبّرهم بعده يبحسون سبع سنين، ثمّ بعده آلون عشر سنين، ثم بعده لترون، ويسميه بعضهم عكرون، ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملكوهم أربعين سنة، ثمّ وليهم شمسون عشرين سنة، ثمّ بقوا بعده عشر سنين بغير مدبّر ولا رئيس، ثمّ قام بأمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل فلسطين على التابوت في قول، فلمّا مضى من وقت قيامه أربعون سنة بعث اشمويل نبياً فدبرهم عشر سنين، ثمّ سألوا اشمويل أن يبعث لهم ملكاً يقاتل بهم أعداءهم.
ذكر حال اشمويل وطالوت
كان من خبر اشمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وطمع فيهم الأعداء، وأخذ التابوت منهم، فصاروا بعده لا يلقون ملكاً إلا خائفين، فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين، وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين، فظفر بهم، فضرب عليهم الجزية، وأخذ منهم التوراة، فدعوا الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم غير امرأة حبلى، فحبسوها في بيت خيفة أن تلد جارية فتبدّلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فولدت غلاماً سمّته اشمويل، ومعناه: سمع الله دعائي.
وسبب هذه التسمية أنها كانت عاقراً، وكان لزوجها امرأة أخرى قد ولدت له عشرة أولاد فبغت عليها بكثرة الزولاد، فانكسرت العجوز ودعت الله أن يرزقها ولداً، فرحم الله انكسارها وحاضت لوقتها وقرب منها زوجها، فحملت، فلما انقضت مدة الحمل ولدت غلاماً فسمّته اشمويل، فلما كبر أسلمته في بيت المقدس يتعلم التوراة، وكفله شيخ ن علمائهم وتبناه.
فلمّا بلغ أن يبعثه الله نبياً أتاه جبرائيل وهو يصلي فناداه بصوت يشبه صوت الشيخ، فجاء إليه، فقال: ما تريد؟ فكره أن يقول لم أدعك فيفزع، فقال: ارجع فنم، فرجع، فعاد جبرائيل لمثلها، فجاء إلى الشيخ، فقال له: يا بنيّ عُدْ فإذا دعوتك فلا تجبني، فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل وأمره بإنذار قومه وأعلمه أن الله بعثه رسولاً، فدعاهم، فكذبوه، ثم أطاعوه، وأقام يدبّر زمرهم عشر سنين، وقيل: أربعين سنة.
وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني إسرائيل حتى كادوا يُهلكونهم، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا: (ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) البقرة:246.
فدعا الله فأرسل إليه عصاً وقرناً فيه دهن، وقيل له: إنّ صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، وإذا دخل عليك رجل فنشّ الدّهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملّكه عليهم، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها، وكان طالوت دبّاغاً، وقيل: كان سقّاء يسقي الماء ويبيعه، فضلّ حماره فانطلق يطلبه، فلمّا اجتاز بالمكان الذي فيه اشمويل دخل يسأله أن يدعو له ليردّ الله حماره، فلما دخل نشّ الدهن، فقاسوه بالعصا فكان مثلها، ف (قال لهم نبيهم إن الله قد بعثه لكم طالوت ملكاً) البقرة:247، وهو بالسريانية شاول بن قيس بن أنمار بن ضرار بن يحرف ابن يفتح بن ايش بن بنيامين بن يعقوب بن اسحاق، فقالوا له: ما كنت قط أكذب منك الساعة ونحن من سبط المملكة ولم يؤت طالوت سعة من المال فنتبعه.
فقال اشمويل: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) البقرة:247، فقالوا: إن كنت صادقاً فأتِ بآية، فقال: (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة) البقرة:248، والسكينة رأس هرّ، وقيل طشت من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء، وقيل غير ذلك، وفيه الألواح وهي من درّ وياقوت وزبرجد، وأما البقية فهي عصا موسى ورضاضة الألواح، فحملته الملائكة وأتت به إلى طالوت نهاراً بين السماء والأرض والناس ينظرون، فزخرجه طالوت إليهم، فأقروا بملكه ساخطين وخرجوا معه كارهين، وهم ثمانون ألفاً، فلمّا خرجوا قال لهم طالوت: (إن الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني) البقرة:249، وهو نهر فلسطين، وقيل: الأردن، فشربوا منه إلا قليلاً، وهم أربعة آلاف، فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي، (فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه) لقيهم جالوت، وكان ذا بأس شديد، فلما رأوه رجع أكثرهم و(قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)، ولم يبق معه غير ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر، فلمّا رجع من رجع قالوا: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين) البقرة:249.
وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابناً، وكان داود أصغر بنيه، وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام، وكان قد قال لأبيه ذات يوم: يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلاّ صرعته، ثم قال له: لقد دخلتُ بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبتُ عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه، ثمّ أتاه يوماً آخر فقال: إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبّح معي، قال له: أبشر فإنّ هذا خير أعطاكه الله.
فأرسل الله إلى النبيّ الذي مع طالوت قرناً فيه دهن وتنّور من حديد، فبعث به إلى طالوت وقال له: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الذهن على رأسه فيغلي حتى يسيل من القرن، ولا يجاوز رأسه إلى وجهه ويبقي على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنّور فيملأه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم، فلم يوافقه منهم أحد، فأحضر داود من رعيه، فمرّ في طريقه بثلاثة أحجار، فكلّمته وقلن: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، فأخذهن فجعلهنّ في مخلاته، وكان طالوت قد قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي.
فلمّا جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادّهن منه ولبس التنّور فملأه، وكان داود مسقاماً أزرق مصفاراً، فلمّا دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه، وفرح اشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدّموا إلى جالوت وتصافّوا للقتال، وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت، فوقع الحجر بين عينيه فنقب رأسه فقتله، ولم يزل الحجر يقتل كلّ من أصابه ينفذ منه إلى غيره، فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ورجع طالوت فأنكح ابنته داود وأجرى خاتمه في ملكه، فمال النّاس إلى داود وأحبّوه.
فحسده طالوت وأراد قتله غِيلةً، فعلم ذلك داود ففارقه وجعل في مضجعه زقّ خمر وسجّاه، ودخل طالوت إلى منام داود، وقد هرب داود، فضرب الزقّ ضربة خرقه، فوقعت قطرة من الخمر في فيه، فقال: يرحم الله داود ما كان أكثر شربه الخمر فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئاً، فخاف داود أن يغتاله فشدّد حجابه وحرّاسه.
ثمّ إنّ داود أتاه من المقابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه، فما استيقظ طالوت بصر بالسهام فقال: يرحم الله داود هو خير مني، ظفرتُ به وأردتُ قتله وظفر بي فكف عني، وأذكى عليه العيون فلم يظفروا به.
وركب طالوت يوماً فرأى داود فركض في أثره، فهرب داود منه واختفى في غار في الجبل، فعمّى الله أثره على طالوت، ثمّ إن طالوت قتل العلماء حتى لم يبق أحد إلا امرأة كانت تعرف اسم الله الأعظم فسلمها إلى رجل يقتلها، فرحمها وتركها وأخفى أمرها.
ثم إنّ طالوت ندم وأراد التوبة وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، فكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور فيبكي ويقول: أنشد الله عبداً علم لي توبة إلا أخبرني بها، فلما أكثر ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما رضيت قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتاً فازداد بكاء وحزناً، فرحمه الرجل الذي أمره بقتل تلك المرأة فقال له: إن دللتك علي عالم لعلك تقتله قال: لا، فزخذ عليه العهود والمواثيق ثمّ أخبره بتلك المرأة فقال: سلها هل لي من توبة؟ فحضر عندها وسألها هل به من توبة؟ فقالت: ما أعلم له من توبة، ولكن هل تعلمون قبر نبيّ؟ قالوا: نعم، قبر يوشع بن نون، فانطلقت وهم معها فدعت، فخرج يوشع، فلمّا رآهم قال: مالكم؟ قالوا: جئنا نسألك هل لطالوت من توبة؟ قال: ما أعلم له توبة إلا أن يتخلى من ملكه ويخرج هو وولده فيقاتلوا في سبيل الله حتى تقتل أولاده ثمّ يقاتل هو حتي يقتل، فعسى أن يكون له توبة، ثم سقط ميتاً، ورجع طالوت أحزن مما كان يخاف أن لا يتابعه ولده، فبكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه، فسأله بنوه عن حاله، فأخبرهم، فتجهزوا للغزو فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا، ثم قاتل هو بعدهم حتى قتل.
وقيل: إن النبيّ الذي بعث لطالوت حتى أخبره بتوبته أليسع، وقيل: اشمويل، والله أعلم.
وكانت مدّة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة.
ذكر ملك داود
هو داود بن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمّي نوذب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن اسحاق، وكان قصيراً أزرق قليل الشعر، فلما قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه عليهم، وقيل: إن داود ملك قبل أن يُقتل جالوت؛ وسبب ملكه حينئذٍ أن الله أوصى إلى اشمويل ليأمر طالوت بغزو مدين وقتل من بها، فسار إليها وقتل من بها رلا ملكهم، فإنه أخذه أسيراً، فأوحى الله إلى اشمويل: قل لطالوت آمرك بأمر فتركته لأنزعن الملك منك ومن بنيك ثمّ لا يعود فيكم إلى يوم القيامة، وأمر اشمويل بتمليك داود، فملّكه وسار إلى جالوت فقتله، والله أعلم.
فلما ملك بني إسرائيل جعله الله نبيّاً وملكاً وأنزل عليه الزبور وعلمه صنعة الدروع، وهو أول من عملها، وألان له الحديد، وأمر الجبال والطير يسبحون معه إذا سبح، ولم يعط الله أحداً مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وإنها لمصيخة تسمع صوته.
وكان شديد الاجتهاد كثير العبادة والبكاء، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر، وكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف، وكان يزكل من كسب يده.
وفي ملكه مسخ أهل أيلة قردة؛ وسبب ذلك أنهم كانوا تزتيهم يوم السبت حيتان البحر كثيراً، فإذا كان غير يوم السبت لا يجيء إليهم منها شيء، فعملوا على جانب البحر حياضاً كبيرة وأجروا إليها الماء، فإذا كان آخر نهار يوم الجمعة فتحوا الماء إلى الحياض فتدخلها الحيتان ولا تقدر على الخروج عنها، فيأخذونها يوم الأحد، فنهاهم بعض أهلها فلم ينتهوا، فمسخهم الله قردة وبقوا ثلاثة أيام وهلكوا.
ذكر فتنته بزوجة أوريا
ثم إن الله ابتلاه بزوجة أوريا، وكان سبب ذلك أنه قد قسم زمانه ثلاثة أيام، يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً يخلوا فيه للعبادة، ويوماً يخلو فيه مع نسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان يحسد فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب: أي ربيّ أرى الخير قد ذهب به آبائي فأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتلوا ببلاء فصبروا، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي اسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، فقال: ربّ ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله إليه: إنك مبتلىً فاحترس.
وقيل: كان سبب البليّة أنه حدّث نفسه أنه يطيق أن يقطع يوماً بغير مقارفة سوء، فلما كان اليوم الذي يخلو فيه للعبادة عزم على أن يقطع ذلك اليوم بغير سوء وأغلق بابه وأقبل على العبادة، فإذا هو بحمامة من ذهب فيها كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى ليأخذها، فطارت غير بعيد من غير أن ييأس من أخذها، فما زال يتبعها وهي تفرّ منه حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها، فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها فاستترت به، فزاده ذلك رغبةً، فسأل عنها فأخبر أن زوجها بثغر كذا، فبعث إلى صاحب الثغر بأن يقدّم أوريا بين يدي التابوت في الحرب، وكان كل من يتقدّم بين يدي التابوت لا ينهزم، إمّا أن يظفر أو يقتل، ففعل ذلك به فقُتل.
وقيل: إنّ داود لما نظر إلى المرأة فزعجبته فسأل عن زوجها، فقيل: إنّه في جيش كذا، فكتب إلى صاحب الجيش أن يبعثه في سريّة إلى عدوّ كذا ففعل ذلك، ففتح الله عليه، فكتب إلى داود فأمر داود أن يرسل أيضاً إلى عدوّ كذا أشدّ منه، ففعل، فظفر، فأمر داود أن يرسل إلى عدوّ ثالث، ففعل، فقتل أوريا في المرّة الثالثة، فلمّا قتل تزوج داود امرأته، وهي أم سليمان في قول قتادة.
وقيل: إن خطيئة داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا تمنّى أن تكون له حلالاً، فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره، فبينما داود في المحراب يوم عبادته وقد أغلق الباب إذ دخل عليه ملكان أرسلهما الله إليه من غير الباب، فراعه ذلك فقالا: (لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: أكفلنيها وعزَّني في الخطاب) ص:22 : 32، أي قهرني، وأخذ نعجتي، فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق، إني أردت أن أُكمل نعاجي مائة فزخذت نعجته، فقال داود: إذاً لا ندعك وذاك، فقال الملك: ما أنت بقادر عليه، قال داود: فإن لم تردّ عليه ماله ضربنا منك هذا وهذا، وأومأ إلى أنفه وجبهته، قال: يا داود أنت أحقّ أن يُضرب منك هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة فلم تزل به حتى قتل وتزوجت امرأته، ثمّ غابا عنه.
فعرف ما ابتلي به وما وقع فيه، فخرّ ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بدَّ منها، وأدام البكاء حتى نبت من دموعه عشب غطى رأسه، ثمّ نادى: ياربّ قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته بشيء، فودي: أجائع فتطعم أم مريض فتشفى أم مظلوم فتنصر؟ قال: فنحب نحبةً هاج ما كان نبت، فعند ذلك قبل الله توبته وأوحى إليه: ارفع رأسك فقد غفرتُ لك، قال: يا ربّ كيف أعلم أنك قد غفرت لي؟ وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذاً رأسه بيمينه تشخب أوداجه دماً قبل عرشك يقول: يا ربّ سلْ هذا فيم قتلني، فأوحى الله إليه: إذا كان ذلك دعوته وأستوهبك منه فيهبك لي فأهبه بذلك الجنة، قال: يا ربّ الآن علمت أنك قد غفرت لي.
قال: فما استطاع داود بعدها أن يملأ عينه من السماء حياء من ربه حتى قبض، ونقش خطيئته في يده، فكان إذا رأها اضطربت يده، وكان يؤتى بالشراب في الإناء ليشربه فكان يشرب نصفه أو ثلثيه فيذكر خطيئته فينتحب حتى تكاد مفاصله يزول بعضها من بعض ثمّ يملأ الإناء من دموعه، وكان يقال: إنّ دمعة داود تعدل دموع الخلائق، وهو يجيء يوم القيامة وخطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: يا ربّ ذنبي ذنبي قدِّمني، فيقدَّم، فلا يأمن فيقول: يا ربّ أخرني، فلا يأمن.
وأزالت الخطيئة طاعة داود عن بني إسرائيل واستخفّوا بأمره، ووثب عليه ابن له يقال له إيشي وأمّه ابنة طالوت فدعا إلى نفسه، فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلمّا تاب الله على داود اجتمع إليه طائفة من الناس فحارب ابنه حتى هزمه ووجّه إليه بعض قوّاده وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله، وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله، فحزن عليه داود حزناً شديداً وتنكّر لذلك القائد.
ذكر بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه السلام
قيل: أصاب النّاس في زمان داود طاعون جارف، فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس، وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء، فلهذا قصده ليدعو فيه، فلمّا وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم، فاستجاب له ورفع الطاعون، فاتخذوا ذلك الموضع مسجداً، وكان الشروع في بنائه لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه، وتوفي قبل أن يستتمّ بناءه، وأوصى إلى سليمان بإتمامه وقتل القائد الذي قتل أخاه إيشي بن داود.
فلّما توفي داود ودفنه سليمان تقدّم بإنفاذ أمره فقتل القائد واستتم بناء المسجد، بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر، وقوي على ذلك جميعه بالجنّ والشياطين، فلمّا فرغ اتخذ ذلك اليوم عيداً عظيماً وقرّب قرباناً، فتقبّله الله منه، وكان ابتداؤه أوّلاً ببناء المدينة، فلمّا فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد، وقد أكثر الناس في صفة البناء مما يستبعد ولا حاجة إلى ذكره.
وقيل: إنّ سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد، وكان داود أراد أن يبنيه فأوحى الله إليه: إن هذا بيت مقدّس وإنك قد صبغت يدك في الدماء فلست ببانيه، ولكن ابنك سليمان يبنيه لسلامته من الدماء، فلمّا ملك سليمان بناه.
ثمّ إنّ داود توفي وكان له جارية تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم إلى عبادته، فأغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلاً فقالت: من أدخلك الدار؟ فقال: أنا الذي أدخل على الملوك بغير إذن، فسمع داود قوله فقال: أنت ملك الموت؟ قال: نعم، قال: فهلاّ أرسلت إليّ لأستعدّ للموت؟ قال: قد أرسلتُ إليك كثيراً، قال: من كان رسولك؟ قال: أين أبوك وأخوك وجارك ومعارفك؟ قال: ماتوا، قال: فهم كانوا رسلي إليك لأنك تموت كما ماتوا ثمّ قبضه، فلمّا مات ورث سليمان ملكه وعلمه ونبوّته.
وكان له تسعة عشر ولداً، فورثه سليمان دونهم، وكان عمر داود لما توفي مائة سنة، صحّ ذلك عن النبي، ﷺ، وكانت مدّة ملكه أربعين سنة.
ذكر ملك سليمان بن داود عليه السلام
لما توفي داود ملك بعده ابنه سليمان على بني إسرائيل، وكان ابن ثلاث عشرة سنة، وآتاه مع الملك النبوّة، وسأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب له وسخّر له الإنس والجنّ والشياطين والطير والريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس.
وقيل: إنهما سخّر له الريح والجنّ والشياطين والطير وغير ذلك بعد أن زال ملكه وأعاده الله سبحانه إليه على ما نذكره.
وكان أبيض جسيماً كثير الشعر يلبس البياض، وكان أبوه يستشيره في حياته ويرجع إلى قوله، فمن ذلك ما قصّه الله في كتابه في قوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) الأنبياء: 21 : 78؛ الآية، وكان خبره: أنّ غنماً دخلت كرماً فزكلت عناقيده وأفسدته، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: أو غير ذلك، أن تسلّم الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها إلى أن يعود كرمه إلى حاله ثمّ يأخذ كرمه ويدفع الغنم إلى صاحبها، فأمضى داود قوله، وقال الله تعالى: (ففهّمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلما) الأنبياء:79.
قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنّ كلّ مجتهد في الأحكام الفرعيّة مصيب، فإن داود أخطأ الحكم الصحيح عند الله تعالى وأصابه سليمان، فقال الله تعالى: (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً).
وكان سليمان يأكل من كسب يده، وكان كثير الغزو، وكان إذا أراد الغزو أمر بعمل بساط من خشب يسع عسكره ويركبون عليه هم ودوابهم وما يحتاجون إليه، ثمّ زمر الريح فحملته فسارت في غدوته مسيرة شهر وفي روحته كذلك، وكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرّيّة، وأعطاه الله أجراً أنّه لا يتكلّم أحد بشيء إلاّ حملته الريح إليه فيعلم ما يقول.
ذكر ما جرى له مع بلقيس
نذكر أولاً ما قيل في نسبها وملكها، ثمّ ما جرى له معها، فنقول: قد اختلف العلماء في اسم آبائها، فقيل: إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: هي بلقمة ابنة هادد واسمه ليشرح بن تبّع ذي الأذعار بن تبّع ذي المنار بن تبّع الرايش، وقيل في نسبها غير ذلك لا حاجة إلى ذكره.
وقد اختلف النّاس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض وزيادة في عددهم ونقصان، اختلافاً لا يحصل الناظر فيه على طائل، وكذا أيضاً اختلفوا في نسبها اختلافاً كثيراً، وقال كثير من الرواة: إنّ أمّها جنّيّة ابنة ملك الجنّ واسمها رواحة بنت السكر، وقيل: اسم أمّها يلقمة بنت عمرو بن عمير الجنّيّ، وإنّما نكح أبوها إلى الجنّ لأنّه قال: ليس في الإنس لي كفوة، فخطب إلى الجنّ فزوّجوه.
واختلفوا في سبب وصوله إلى الجنّ حتى خطب إليهم فقيل: إنّه كان لهجاً بالصيد، فربّما اصطاد الجنّ على صور الظباء فيخلّي عنهنّ، فظهر له ملك الجنّ وشكره علي ذلك واتخذه صديقاً، فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن؛ وقيل: إنّ أباها خرج يوماً متصيّداً فرأي حديتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء علي البيضاء فزمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصبّ عليها ماء، فأفاقت، فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفرداً، وإذا معه شابّ جميل، فذعر منه، فقال له: لا تخف أنا الحيّة التي أنجيتني، والأسود الذي قتلته غلامٌ لنا تمرّد علينا وقتل عدّة من أهل بيتي؛ وعرض عليه المال وعلم الطبّ، فقال: أمّا المال فلا حاجة لي به، وأمّا الطبّ فهو قبيح بالملك، ولكن إن كان لك بنت فزوّجنيها، فزوّجه على شرط أن لا يغيّر عليها شيئاً تعمله ومتى غيّر عليها فارقته، فأجابه إلى ذلك، فحملت منه فولدت له غلاماً فألقته في النّار، فجزع لذلك وسكت للشرط، ثمّ حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها، فعظم ذلك عليه وصبر للشرط، ثمّ إنّه عصي عليه بعضُ أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه، فانتهى إلي مفازة، فلمّا توسّطها رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب، وإذا الماء يُصبّ من القرب والمزاود، فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنّه من فعال الجنّ عن أمر زوجته، فضاق ذرعاً عن حمل ذلك، فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض صبرتُ لكِ على إحراق ابني وإطعام الكلبة إبنتي ثمّ أنتِ الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك فقالت المرأة: لو صبرت لكان خيراً لك، وسأخبرك: إنّ عدوّك خدع وزيرك فجعل السمّ في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك، فمر وزيرك ليشرب ما بقي من الماء ويأكل من الزاد، فأمره فامتنع، فقتله، ودلّتهم على الماء والميرة من قريب وقالت: أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيّه وقد مات، وأمّا ابنتك فهي باقية، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض، وهي بلقيس، وفارقته امرأته وسار إلى عدوّ فظفر به.
وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك، والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة.
وأمّا ملكها اليمن فقيل: إنّ أباها فوّض إليها الملك فملكت بعده، وقيل: بل مات عن غير وصيّة بالملك لأحد، فأقام النّاس ابن أخ له، وكان فاحشاً خبيثاً فاسقاً لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلاّ أحضرها وفضحها، حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمّه، فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها إلى قصرها وأعدّت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل إليها وانفرد بها، فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه، فلما قتل أحضرت وزراءه فقرّعتهم فقالت: أما كان فيكم من يزنف لكريمته وكرائم عشيرته ثمّ أرتهم إيّاه قتيلاً وقالت: اختاروا رجلاً تملّكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك؛ فملكوها.
وقيل: إنّ أباها لم يكن ملكاً وإنما كان وزير الملك، وكان الملك خبيثاً، قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال والأعيان والأشراف، وإنها قتلته، فملّكها الناس عليهم.
وكذلك أيضاً عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك، كلّ ملك منهم على كورة، مع كلّ ملك منهم أربعة آلاف مقاتل، وكان لها ثلاثمائة وزير يدبّرون ملكها، وكان لا اثنا عشر قائداً يقود كلّ قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل.
وبالغ آخرون مبالغة تدلّ على سخف عقولهم وجهلهم، قالوا: كان لها اثنا عشر ألف قَيْل، تحت يد كلّ قيل مائة ألف مقاتل، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش، في كل جيش سبعون ألف مبارز، ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة، وما أظنّ الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله، ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف، فإن أهل الزرض لا يبلغون جميعهم شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد، فيكف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة فيا ليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم، وكم تكون الرعيّة وأرباب الحرف والفلاحة وغير ذلك، وإنما الجند بعض أهل البلاد، وإن كان الحاصل من اليمن قد قلّ في زماننا فإنّ رقعة أرضه لم تصغر، وهي لا تسع هذا العدد قياماً كلّ واحد إلى جانب الآخر.
ثمّ إنهم قالوا: أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب، وقالوا غير ذلك، وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها، فلا نطول بذكره، وقد تواطأوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهّال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم، وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف بعض من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحقّ.
وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره، وإنما طلبه لأنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا، وهل هو قريب أم بعيد، فبينما سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده، فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره، وقيل: بل نزلت الشمس إلى سليمان، فنظر ليرى من أين نزلت لأنّ الطير كانت تظلّه، فرأى موضع الهدهد فارغاً، فقال: (لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) النمل: 21.
وكان الهدهد قد مرّ على قصر بلقيس فرأى بستاناً لها خلف قصرها، فمال إلى الخضرة، فرأى فيه هدهداً فقال له: أين أنت عن سليمان وما تصنع ها هنا؟ فقال له: ومن سليمان؟ فذكر له حاله وما سخّر له من الطير وغيره، فعجب من ذلك، فقال له هدهد سليمان: وأعجب من ذلك أنّ كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة (وأوتيت من كلّ شيء ولها عرش عظيم) النمل: 23، وجعلوا الشكر لله أن سجدوا للشمس من دونه، وكان عرشها سريراً من ذهب مكلّل بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ.
ثمّ إنّ الهدهد عاد إلى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره، فقال له: اذهب بكتابي هذا فألقه إليها، فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها، فأخذته وقرأته وأحضرت قومها وقالت: (إني ألقي إليّ كتاب كريم، إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين يا أيها الملأ : ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون) النمل: 29 - 32.
(قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) النمل: 33، قالت: (إني مرسلة إليهم بهدية) النمل: 35 فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعزّ منه وأقوى، وإن لم يقبلها فهو نبيّ من الله.
فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل: (أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم) إلى قوله: (وهم صاغرون) النمل: 36 - 37، فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وزخذت معها الأقيال من قومها، وهم القوّاد، وقدمت عليه، فلمّا قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه: (أيهكم يزتين بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجنّ: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) النمل: 38 - 39، يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للغداء، قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، ف (قال الذي عنده علم من الكتاب) وهو آصف بن برخيّا، وكان يعرف اسم الله الأعظم: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) النمل: 40، وقال له: انظر إلى السماء وأدم النظر فلا تردّ طرفك حتى أحضره عندك، وسجد ودعا، فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سيريره، فقال: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر) إذ أتاني به قبل أن يرتدّ إليّ طرفي (أم أكفر) إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره.
فلما جاءت قيل: (أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو) النمل: 42 ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء إلى ها هنا؟.
فقال سليمان للشياطين: ابنوا لي صرحاً تدخل عليّ فيه بلقيس، فقال بعضهم: إنّ سليمان قد سخّر له من سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد غلاماً فلا ننفك من العبودية أبداً، وكانت امرزة شعراء الساقين، فقال الشياطين: ابنوا له بنياناً يرى ذلك منها فلا يتزوجها، فبنوا له صرحاً من قوارير خضر وجعلوا له طوابيق من قوارير بيض، فبقي كأنّه الماء، وجعلوا تحت الوطابيق صور دوابّ البحر من السمك وغيره، وقعد سليمان على كرسيّ ثمّ أمر فأدخلت بلقيس عليه، فلمّا أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها لتدخل، فلمّا رآها سليمان صرف نظره عنها و(قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) النمل: 44.
فاستشار سليمان في شيء يزيل الشعر ولا يضرّ الجسد، فعمل له الشياطين النّورة، فهي أول ما عملت النّورة، ونكحها سليمان وأحبها حبّاً شديداً وردّها إلى ملكها باليمن، فكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام.
وقيل: إنّه أمرها أن تنكح رجلاً من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك، فقال: لا يكون في الإسلام إلاّ ذلك، فقالت: إن كان لا بدّ من ذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبّع على الملك، وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته، فاستعملهم ذو تبّع، فعملوا له عدّة حصون باليمن، منها سلحين ومراوح وفليون وهنيدة وغيرها، فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبّع وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان. وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنّه دفنها بتدمر وأخفى قبرها.
ذكر غزوته أبا زوجته جرادة ونكاحها وعبادة الصنم في داره وأخذ خاتمه وعوده إليه
قيل: سمع سليمان بملك في جزيرة من جزائر البحر وشدّة ملكه وعظم شأنه، ولم يكن للنّاس إليه سبيل، فخرج سليمان إلى تلك الجزيرة وحملته الريح حتى نزل بجنوده بها فقتل ملكها وغنم ما فيها غنم بنتاً للملك لم ير الناس مثلها حسناً وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على قلّة رغبة فيه، وأحبها حباً شديداً، وكانت لا يذهب حزنها ولا تزال تبكي، فقال لها: ويحك ما هذا الحزن والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إنّي أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك، قال: فقد أبدلك الله ملكاً خيراً من ملكه وهداك إلى الاسلام، قالت: إنه كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى، فلو أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري أراها بُكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني.
فزمر الشياطين فعملوا لها مثل صورته لا ينكر منها شيئاً، وألبستها ثياباً مثل ثياب أبيها، وكانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عله في جواريها فتسجد له ويسجدن معها، وتروح عشيّة ويرحن، فتفعل مثل ذلك، ولا يعلم سليمان بشيء من أمرها أربعين صباحاً.
وبلغ الخبر آصف بن برخيّا، وكان صدّيقاً، وكان لا يُردّ من منازل سليمان أيّ وقت أراد من ليل أو نهار سواء كان سليمان حاضراً أو غائباً، فزتاه فقال: يا نبيّ الله قد كبر سني ودقّ عظمي وقد حان منّي ذهاب عمري وقد أحببت أن أقوم مقاماً أذكر فيه أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما يجهلون، قال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام آصف خطيباً فيهم فذكر من مضي من الأنبياء وأثنى عليهم حتى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأبعدك من كلّ ما يكره في صغرك، ثم انصرف.
فملئ سليمان غضباً، فأرسل إليه وقال له: يا آصف لمّا ذكرتني جعلت تثني عليّ في صغري وسكتّ عمّا سوى ذلك، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قال: إن غير الله ليعبد في دارك أربعين يوماً في هوى امرأة، قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) البقرة: 156، لقد علمت أنك ما قلت إلاّ عن شيء بلغك، ودخل داره وكسر الصنم وعاقب تلك المرأة وجواريها، ثمّ أمر بثياب الطهارة فأتى بها، وهي ثياب تغزلها الأبكار اللائي لم يحضن ولم تمسّها امرأة ذات دمٍ، فلبسها وخرج إلى الصحراء وفرش الرماد ثمّ أقبل تائباً إلى الله وتمعك في الرماد بثيابه تذلّلاً لله تعالى وتضرعاً، وبكى واستغفر يومه ذلك ثم عاد إلى داره.
وكانت أمّ ولد له لا يثق إلا بها يسلّم خاتمه إليها، وكان لا ينزعه إلا عند دخول الخلاء، وإذا أراد أن يصيب امرأة فيسلمه إليها حتى يتطهّر، وكان ملكه في خاتمه، فدخل في بعض تلك الأيام الخلاء وسلم خاتمه إليها، فأتاها شيطان اسمه صخر الجّنّي في صورة سليمان فأخذ الخاتم وخرج إلى كرسي سليمان، وهو في صورة سليمان، فجلس عليه، وعكفت عليه الإنس والجن والطير، وخرج سليمان وقد تغيّرت حاله وهيذته، فقال: خاتمي فقالت؛ ومن أنت؟ قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست بسليمان قد جاء سليمان وأخذ خاتمه مني وهو جالس على سريره فعرف سليمان خطيئته فخرج وجعل يقول لبني اسرائيل: أنا سليمان، فيحثون عليه التراب، فلمّا رأى ذلك قصد البحر وجعل ينقل سمك الصيادين ويعطونه كل يوم سمكتين يبيع إحداهما بخبز ويأكل الأخرى، فبقي كذلك أربعين يوماً.
ثمّ إنّ آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم الشيطان المتشبّه بسليمان، فقال آصف: يا بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ما رأيت؟ قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه وأسألهنّ هل أنكرن ما أنكرنا منه، فدخل عليهنّ وسألهنّ، فذكرن أشدّ مما عنده، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، (إن هذا لهو البلاء المبين) الصافات: 106.
ثمّ خرج إلى بني إسرائيل فأخبرهم، فلما رأى الشيطان أنهم قد علموا به طار من مجلسه فمرّ بالبحر فألقى الخاتم فيه، فبلعته سمكة واصطادها صيّاد وحمل له سليمان يومه ذلك فأعطاه سمكتين، تلك السمكة إحداهما، فأخذها فشقّها ليصلحها ويأكلها فرأى خاتمه في جوفها، فأخذه وجعله في إصبعه وخرّ لله ساجداً، وعكفت عليه الإنس والجنّ والطير وأقبل عليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وبث الشياطين في إحضار صخر الذي أخذ الخاتم، فأحضروه، فنقب له صخرة وجعله فيها وسدّ النقب بالحديد والرصاص وألقاه في البحر.
وكان مقامه في الملك أربعين يوماً، بمقدار عبادة الصنم في دار سليمان.
وقيل: كان السبب في ذهاب ملكه أنّ امرأة له كانت أبرّ نسائه عنده تسمّى جرادة ولا يأتمن على خاتمه سواها، فقالت له: إنّ أخي بينه وبين فلان حكومة وأنا أحبّ أن تقضي له، فقال: أفعل، ولم يفعل، فابتُلي، وأعطاها خاتمه ودخل الخلاء، فخرج الشيطان في صورته فأخذه، وخرج سليمان بعده فطلب الخاتم فقالت: ألم تأخذه؟ قال: لا، وخرج من مكانه تائهاً وبقي الشيطان أربعين يوماً يحكم بين النّاس، ففطنوا له وأحدقوا به ونشروا التوراة فقرأوها، فطار من بين أيديهم وألقى الخاتم في البحر، فابتعله حوت، ثمّ إن سليمان قصد صياداً وهو جائع فاستطعمه وقال: أنا سليمان، فكذبه وضربه فشجّه، فجعل يغسل الدّم، فلام الصيادون صاحبهم وأعطوه سمكتين إحداهما التي ابتلعت الخاتم، فشقّ بطنها وأخذ الخاتم، فردّ الله إليه ملكه، فاعتذروا إليه، فقال: لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم.
وسخر الله له الجن والشياطين والريح، ولم يكن سخّرها له قبل ذلك، وهو أشبه بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والشياطين كلّ بناءٍ وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد) ص:37. وقيل في سب زوال ملكه غير ذلك، والله أعلم.
ذكر وفاة سليمان
لما ردّ الله إلى سليمان الملك لبث فيه مطاعاً والجنّ تعمل له (ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) سبأ: 13 وغير ذلك ويعذّب من الشياطين من شاء ويطلب من شاء، حتى إذا دنا أجله وكان عادته إذا صلى كل يوم رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأيّ شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة، فقال لها: لأيّ شيء أنتِ؟ قالت: لخراب هذا البيت، يعني بيت المقدس، فقال سليمان: ما كان الله ليخرّبه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب البيت وقلعها، ثم قال: اللهم عم على الجنّ موتي حتى يعلم النّاس أن الجنّ لا يعلمون الغيب.
وكان سليمان يتجرّد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهروالشهرين وأقلّ وأكثر، يدخل معه طعامه وشرابه، فأدخله في المرّة التي توفي فيها، فبينما هو قائم يصلي متوكئاً على عصاه أدركه أجله فمات ولا تعلم به الشياطين ولا الجن، وهم في ذلك يعملون خوفاً منه، فأكلت الأرضة عصاه فانكسرت فسقط، فعلموا أنه قد مات، وعلم الناس أنّ الجن لا يعلمون الغيب ولو علموا (الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) سبأ: 14 ومقاساة الأعمال الشاقة.
ولما سقط أراد بنو إسرائيل أن يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا يوماً وليلة فأكلت منها، فحسبوا بنسبته فكان أكل تلك العصا في سنة، ثمّ إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب لأتيناك بأطيب الشراب، ولكنّا سننقل لك الماء والطين، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، ألم تر إلى الطين يكون في وسط الخشبة؟ فهو ما ينقلونه لها.
قيل: إن الجن والشياطين شكوا ما يحلقهم من التعب والنصب إلى بعض أولي التجربة منهم، وقيل: كان إبليس، فقال لهم: ألستم تنصرفون بأحمال وتعودون بغير أحمال؟ قالوا: بلى، قال: فلكم في كلّ ذلك راحة، فحملت الريح الكلام فألقته في أذن سليمان، فأمر الموكّلين بهم أنهم إذا جاءوا بالأحمال والآلات التي يبنى بها إلى موضع البناءوالعمل يحملهم من هناك في عودهم ما يلقونه من المواضع التي فيها الأعمال ليكون أشقّ عليهم وأسرع في العمل، فاجتازوا بذلك الذي شكوا إليه حالهم فأعلموه حالهم، فقال لهم: انتظروا الفرج فإنّ الأمور إذا تناهت تغيّرت، فلم تطل مدّة سليمان بعد ذلك حتى مات؛ وكان مدّة عمره ثلاثاً وخسمين سنة، وملكه أربعين سنة.
ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذ
لما توفي كيقباذ ملك بعده ابنه كيكاووس بن كينية بن كيقباذ، فلما ملك حمى بلاده وقتل جماعة من عظماء البلاد المجاورة له، وكان يسكن بنواحي بلخ، وولد له ولد سماه سياروخش وضمّه إلى رستم الشديد بن داستان بن نريمان بن جوذنك بن كرشاسب، وكان أصبهبذ سجستان وما يليها، وجعله عنده ليربّيه، فأحسن تربيته وعلّمه العلوم ولفروسيّة والآداب وما يحتاج الملوك إليه، فلمّا كمل ما أراد حمله إلى أبيه، فلمّا رآه سرّ به صورةً ومعنى.
وكان أبوه كيكاووس قد تزوج ابنة أفراسياب ملك الترك، وقيل: إنها ابنة ملك اليمن، فهويت سياوخش ودعته إلى نفسها، فامتنع، فسعت به إلى أبيه حتى أفسدته عليه، فسأل سياوخش رستم الشديد ليتوصل مع أبيه لينفذه إلى محاربة أفراسياب بسبب منعه بعض ما كان قد استقرّ بينهما، وأراد البعد عن أبيه ليأمن كيد امرأته، ففعل ذلك رستم، فسيّره أبوه وضمّ إليه جيشاً كثيفاً، فسار إلى بلاده الترك للقاء أفراسياب، فلمّا سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جري بينه وبين أفراسياب، فلمّا سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جرى بينه وبين أفرسياب من الصلح، فكتب إليه والده يأمره بمناهضة أفراسياب ومحاربته وفسخ الصلح، فاستقبح سياوخش الغدر وأنف منه، فلم ينفذ ما أمره به، ورأى أن ذلك من فعل زوجة والده ليقبّح فعله، فراسل أفراسياب في الأمان لنفسه لينتقل إليه، فأجابه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش إلى بلاد الترك، فزكرمه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش إلى بلاد الترك، فزكرمه أفراسياب وأنزله وأجرى عليه وزوّجه بنتاً له يقال لها وسفافريد، وهي أمّ كيخسرو، فظهر له من أدب سياوخش ومعرفته بالملك وشجاعته ما خاف على ملكه منه، وزاد الفساد بينهما بسعي ابني أفراسياب وأخيه كيدر حسداً منهم لسياوخش، فزمرهم أفراسياب بقتله، فقتلوه ومثلوا به، وكانت زوجته ابنة أفراسياب حاملة منه بابنه كيخسرو، فطلبوا الحيلة في إسقاط ما في بطنها، فلم يسقط، فأنكر قيران الذي كان أمان سياوخش إليه لتضع ما في بطنها ويقتله، فلمّا وضعت رقّ قيران لها وللمولود ولم يقتله وستر أمره حتى بلغ، فسيّر كيكاووس إلى بلاد الترك من كشف أمره وأخذه إليه.
وحين بلغ خبر قتله إلى فارس لبس شادوس بن جودرز السواد حزناً، وهو أوّل من لبسه، ودخل على كيكاووس فقال له: ما هذا؟ فقال: إنّ هذا اليوم يوم ظلام وسواد.
ثم إنّ كيكاووس لما علم بقتل ابنه سيّر الجيوش مع رستم الشديد وطو أصبهبذ أصبهان لمحاربة أفراسياب، فدخلا بلاد الترك فقتلا وأسرا وأثخنا فيها، وجرى لهما مع أفراسياب حروب شديدة قُتل فيها ابنا أفراسياب وأخوه الذين أشاروا بقتل سياوخش.
وزعمت الفرس أن الشياطين كانت مسخرّة له، وأنها بنت له مدينة طولها في زعمهم ثلاثمائة فرسخ وبنوا عليها سوراً من صرف وسوراً من شبه وسوراً من فضة، وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض وما بينهما، وأن كيكاووس لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ثمّ إنّ الله أرسل إلى المدينة من يخرّبها فعجزت الشياطين عن المنع عنها، فقتل كيكاووس جماعة من رؤوسائهم.
وقال بعض العلماء بأخبار المتقدّمين: إنّما سخّر له فعل الشياطين بأمر سليمان بن داود، وكان مظفّراً لا يناوئه أحدٌ من الملوك إلا ظهر عليه، فلم يزل كذلك حتى حدّثته نفسه بالصعود إلى السماء، فسار من خراسان إلى بابل، وأعطاه الله تعالى قوّة ارتفع بها هو ومن معه حتى بلغوا السحاب، ثم سلبهم الله تلك القوة، فسقطوا وهلكوا وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ.
وهذا جميعه من أكاذيب الفرس الباردة.
ثمّ إنّ كيكاووس بعد هذه الحادثة تمزّق ملكه وكثرت الخوارج عليه وصاروا يغزونه، فيظفر مرّة ويظفرون أخرى، ثمّ غزا بلاد اليمن وملكها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش، فلما ورد اليمن خرج إليه ذو الأذعار، وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو، فلمّا وطئ كيكاووس بلاده خرج إليه بنفسه وعساكره وظفر بكيكاووس فأسره واستباح عسكره وحبسه في بئر وأطبق عليه، فسار رستم من سجستان إلى اليمن وأخرج كيكاووس وأخذه، وأراد ذو الأذعار منعه فجمع العساكر وأراد القتال ثمّ خاف البوار فاصطلحا علي أخذ كيكاووس والعود إلى بلاد الفرس، فأخذ وزعاده إلى ملكه، فأقطعه كيكاووس سجستان وزابلستان، وهي من أعمال غزنة، وأزال عنه اسم العبودية، ثم توفي كيكاووس، وكان ملكه مائة وخمسين سنة.
ذكر ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس
لما مات كيكاووس ملك بعده ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيكاوس، وأمه وسفافريد ابنة أفراسياب ملك الترك، فلما ملك كتب إلى الأصبهذين جميعهم أن يزتوا بعساكرهم جميعها، فلما اجتمعوا جهّز ثلاثين ألفاً مع طوس وأمره بدخول بلاد الترك، وأن لا يمرّ بقرية ولا مدينة لهم إلا قتل كل من فيها إلا مدينة من مدنهم كان بها أخ له اسمه فيروزد بن سياوخش، كان أبوه قد تزوج أمه في بعض مدائن الترك، فاجتاز طوس بها فجرى بينه وبين فيروزد حرب قتل فيها فيروزد، فبلغ خبره كيخسرو فعظم عليه وكتب إلى عمّ له كان مع طوس يأمره بالقبض على طوس وإرساله مقيّداً والقيام بأمر الجيش، ففعل ذلك وسار بالعسكر نحو أفراسياب، فسيّر أفراسياب العساكر إليه فاقتتلوا قتالاً شديداً كثرت فيه القتلى وانحازت الفرس إلى رؤوس الجبال وعادوا إلى كيخسرو، فوبّخ عمّه ولامه واهتمّ بغزو الترك، فأمر بجمع العساكر جميعها وأن لا يتخلّف أحدٌ، فلما اجتمعوا أعلمهم أنه يريد قصد بلاد الترك من أربعة وجوه، فسير جودرز في أعظم العساكر وزمره بالخدول إلى بلاد الترك مما يلي بلخ وأعطاه درفش كابيان، وهو العلم الزكبر الذي لهم، وكانوا لا يرسلونه إلا مع بعض أولاد الملوك لزمر عظيم، وسيّر عسكراً آخر من ناحية الصين، وسيّر عسكراً آخر مما يلي الخزر، وعسكراً آخر بين هذين العسكرين، فدخلت العساكر بلاد الترك من كل جهاتها وأخربتها، لا سيما جودرز، فإنّه قتل وأخرب وسبى، وتبعه كيخسرو بنفسه في طريقه، فوصل إليه وقد قتل جماعة كثيرة من زهل أفراسياب وأثخن فيهم، ورآه قد قتل خمسمائة ألف ونيّفاً وستين ألفاً وأسر ثلاثين ألفاً وغنم ما لا يعدّ ولا يحصى، وعرض عليه من قتل من أهل أفراسياب طراحنته، فعظم جودرز عنده وشكره وأقطعه أصبهان وجرجان، ووردت عليه الكتب من عساكره الداخلة من تلك الوجوه إلى الترك بما قتلوا وغنموا وأخربوا وأنهم هزموا لأفراسياب عسكراً بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدّوا في محاربتهم ويوافوه بموضع سمّاه لهم.
فلما بلغ أفراسياب قتل من قتل من طراخنته وأهله وعساكره عظم ذلك عليه فسقط في يديه ولم يكن بقي عنده من أولاده غير ولده شيده، فوجّهه في جيش نحو كيخسرو، فسار إليه واقتتلوا قتالاً شديداً أربعة أيام، ثم انهزمت الترك وتبعهم الفرس يقتلونهم ويأسرون، وأدركوا ابن أفراسياب فقتلوه، وسمع أفراسياب بالحادثة وقتل ابنه فأقبل فيمن عنده من العساكر فلقي كيخسرو فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، واشتدّ الأمر، فانهزم أفراسياب وكثر القتل في الترك فقتل منهم مائة ألف، وجدّ كيخسرو في طلب أفراسياب، ولم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى بلغ أذربيجان فاستتر، وظفر به وأتى به إلى كيخسرو، فلما حضر عنده سأله عن غدره بأبيه، فلم يكن له حجّة ولا عذر، فأمر بقتله، فذبح كما ذبح سياوخش، ثم انصرف من أذربيجان مظفّراً منصوراً فرحاً.
فلما قتل أفراسياب ملك الترك بعده أخوه كي سواسف، فلما توفي ملك بعده ابنه جرازسف، وكان جبّاراً عاتياً.
فلما فرغ كيخسرو من الأخذ بثأر أبيه واستقرّ في ملكه زهد في الدنيا وترك الملك وتنسّك، واجتهد أهله وأصحابه به ليلازم الملك فلم يفعل، فقالوا له: فاعهد إلى من يقوم بالملك بعدك، فعهد إلى لهراسب، وفارقهم كيخسرو وغاب عنهم، فلا يدري ما كان منه ولا أين مات، وبعض يقول غير ذلك.
وكان ملكه ستين سنة، وملك بعده لهراسب.
ذكر أمر بني إسرائيل بعد سليمان
قيل: ثم ملك بعد سليمان على بني إسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثمّ افترقت ممالك بني إسرائيل بعد رحبعم، فملك أبيا بن رحبعم سبط يهوذا وبنيامين دون سائر الأسباط، وذلك أنّ سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن بايعا عبد سليمان بسبب القربان الذي كانت جرادة زوجة سليمان فيما زعموا قرّبته في دره للصنم، فتوعّده الله تعالي أن ينزع بعض الملك عن ولده، فكان ملك أبيا بن رحبعم ثلاث سنين، ثمّ ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملكهما إحدى وأربعين سنة؛ وكان رجلاً صالحاً، وكان أعرج.
ذكر محاربة آسا بن أفيا ورزح الهندي
قيل: كان أسا بن أبيا رجلاً صالحاً، وكان أبوه قد عبد الأصنام ودعا الناس إلى عبادتها، فلما ملك ابنه أسا أمر منادياً فنادى: ألا إنّ الكفر قد مات وأهله وعاش الإيمان وأهله، فليس كافر في بني إسرائيل يطلع رأسه بكفر إلا قتلته، فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها ولم يخسف بالقرى ولم تطمر الحجارة والنار من السماء إلى الأرض إلا بترك طاعة الله والعمل بمعصيته وشدد في ذلك. فأتى بعضهم ممن كان يعبد الأصنام ويعمل بالمعاصي إلى أم أسا الملك، وكانت تعبد الأصنام، فشكوا إليها، فجاءت إليه ونهته عما كان يفعله وبالغت في زجره، فلم يصغ إلى قولها بل تهددها على عبادة الأصنام وأظهر البراءة منها، فحينئذٍ أيس الناس منه وانتزح من كان يخافه وساروا إلى الهند.
وكان بالهند ملك يقال له رزح، وكان جبّاراً عاتياً عظيم السلطان قد أطاعه أكثر البلاد، وكان يدعو الناس إلى عبادته، فوصل اليه أولذك النفر من بني إسرائيل وشكوا إليه ملكهم ووصفوا له البلاد وكثرتها وقلّة عسكرها وضعف ملكها وأطمعوه فيها. فأرسل الجواسيس فأتوه بأخبارها، فلما تيقن الخبر جمع العساكر وسار إلى الشام في البحر، وقال له بنو اسرائيل: إن لأسا صديقاً ينصره ويعينه، قال: فأين أسا وصديقه من كثرة عساكري وجنودي وبلغ خبرُه إلى أسا، فتضرّع إلى الله تعالي وأظهر الضعف والعجز عن الهنديّ وسأل الله النصرة عليه، فاستجاب الله له وأراه في المنام: إنّي سأظهر من قدرتي في رزح الهنديّ وعساكره ما أكفيك شرهم وأغنمكم أموالهم حتى يعلم أعداؤك أن صديقك لا يُطاق وليّه ولا ينهزم جنده.
ثمّ سار رزح حتى أرسى بالساحل، وسار إلى بيت المقدس، فلما صار على مرحلتين منه فرق عساكره، فامتلأت منهم تلك الأرض وملئت قلوب بني إسرائيل رعباً، وبعث أسا العيون فعادوا وأخبروه من كثرتهم بما لم يُسمع بمثله، وسمع الخبر بنو إسرائيل فصاحوا وبكوا وودّع بعضهم بعضاً وعزموا على أن يخرجوا إلى رزح ويستسلموا إليه وينقادوا له، فقال لهم ملكهم: إنّ ربي قد وعدني بالظفر ولا خلف لوعده، فعاودوا الدعاء والتضرّع، ففعلوا ودعوا جميعهم وتضرّعوا، فزعموا أن الله أوحى إليه: يا أسا إنّ الحبيب لا يُسلم حبيبه، وأنا الذي أكفيك عدوّك فإنّه لا يهون من توكل عليّ، ولا يضعف من تقوى بي، وقد كنت تذكرني في الرخاء فلا أسلمك في الشدّة، وسأرسل بعض الزبانية يقتلون أعدائي، فاستبشر وأخبر بني اسرائيل، فأما المؤمنون فاستبشروا وأما المنافقون فكذبوه. وزمره الله بالخروج إلى رزح في عساكره، فخرج في نفر يسير، فوقفوا على رابية من الأرض ينظرون إلى عساكره، فلمّا رآهم رزح احتقرهم واستصغرهم وقال: إنما خرجت من بلادي وجمعت عساكري وأنفقت أموالي لهذه الطائفة ودعا النفر من بني إسرائيل الذين قصدوه والجواسيس الذين أرسلهم ليختبروا له وقال: كذبتموني وأخبرتموني بكثرة بني إسرائيل حتى جمعت العساكر وفرقت أموالي ثم أمر بهم فقتلوا، وأرسل إلى أسا يقول له: أين صديقك الذي ينصرك ويخلّصك من سطوتي؟ فأجابه أسا: يا شقيّ إنّك لا تعلم ما تقول أتريد أن تغالب الله بقوتك أم تكاثره بقلتك؟ وهو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه، وستعلم ما يحل بك فغضب رزح من قوله وصفّ عساكره وخرج إلى قتال أسا وأمر الرّماة فرموهم بالسهام، وبعث الله من الملائكة مدداً لبني اسرائيل، فأخذوا السهام ورموا بها الهنود، فقتلت كل إنسان منهم نشّابته، فقتل جميع الرماة، فضج بنو إسرائيل بالتسبيح والدّعاء، وتراءت الملائكة للهنود، فلمّا رآهم رزح ألقي الله الرعب في قلبه وسقط في يده ونادى في عساكره يأمرهم بالحملة عليهم، ففعلوا، فقتلتهم الملائكة ولم يبق منهم غير رزح وعبيده ونسائه، فلما رأى ذلك ولّى هارباً وهو يقول: قتلني صديق أسا.
فلما رآه أسا مدبراً قال: اللهم إنك إن لم تهلكه استنفر علينا نائبه، وبلغ رزح ومن معه إلى البحر فركبوا السفن، فلما سارت بهم أرسل الله عليهم الرياح فعرّقتهم أجمعين. ثم ملك بعد أسا ابنه سافاط إلى أن هلك خمساً وعشرين سنة، ثم ملكت عزليا بنت عمرم أخت أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل ولم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، وهو ابن ابنها، فإنه ستر عنها، ثم قتلها بواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين؛ ثم ملك يواش أربعين سنة، ثم قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدّته؛ ثم ملك عوزيا بن امصيا بن يواش، ويقال له غوزيا، إلى أن توفي اثنتين وخمسين سنة؛ ثم ملك يوثام بن عوزيا إلى أن توفّي ستّ عشرة سنة؛ ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي، فيقال: إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرّع إلى ربّه فزاده، وأمر شعيا بإعلامه ذلك، وقيل: إن صاحب شعيا في هذه القصة اسمه صدقيا، على ما يرد ذكره.
ذكر شعيا والملك الذي معه من بني إسرائيل ومسير سنحاريب إلى بني إسرائيل
قيل: كان الله تعالى قد أوحى إلى موسى ما ذكر في القرآن: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولادهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجلعناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علوا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً).
فكثر في بني اسرائي لالزحداث والذنوب، وكان الله يتجاوز عنهم متعطفاً عليهم، وكان من أول ما أنزل الله عليهم عقوبة لذنوبهم أنّ ملكاً منهم يقال له صدقية، وكانت عادتهم إذا ملك عليهم رجل بعث الله إليه نبياً يرشده ويوحي إليه ما يريد، ولم يكن لهم غير شريعة التوراة، فلما ملك صدقية بعث الله تعالى إليه شعيا، وهو الذي بشر بعيسى وبمحمد، عليهما السلام، فلما قارب أن ينقضي ملكه عظمت الأحداث في بني اسرائيل، فأرسل الله عليهم سنحاريب ملك بابل في عساكر يغصّ بها الفضاء، فسار حتى نزل بيت المقدس وزحاط به وملك بني إسرائيل مريض في ساقه قرحة، فأتاه النبيّ شعيا وقال له: إنّ الله يأمرك أن توصي وتعهد فإنك ميت، فأقبل الملك على الدعاء والتضرّع، فاستجاب الله له، فأوحى الله إلى شعيا أنه قد زاد في عمر الملك صدقية خمس عشرة سنة وأنجاه من عدّوه سنحاريب، فلما قال له ذلك زال عنه الألم وجاءته الصحة.
ثم إن الله أرسل على عساكر سنحاريب ملكاً صاح بهم فماتوا غير ستة نفر منهم: سنحاريب وخمسة من كتّابه، أحدهم بخت نصّر في قول بعضهم، فخرج صدقية وبنو إسرائيل إلى معسكرهم فغنموا ما فيه والتمسوا سنحاريب فلم يجدوه، فأرسل الطلب في أثره فوجدوه ومعه أصحابه، فأخذوهم وقيدوهم وحملوهم إليه فقال لسنحاريب: كيف رأيت صنع ربّنا بك؟ فقال: قد أتاني خبر ربّكم ونصره إياكم فلم أسمع ذلك، فطاف بهم حول بيت المقدس ثم سجنهم.
فأوحى الله إلى شعيا يأمر الملك بإطلاق سنحاريب ومن معه، فأطلقهم، فعادوا إلى بابل وأخبروا قومهم بما فعل الله بهم وبعساكرهم، وبقي بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
وقد زعم بعض أهل الكتاب أن بني إسرائيل سار إليهم قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل يقال له كفرو، وكان بخت نصّر ابن عمّه وكاتبه، وأنّ الله أرسل عليهم ريحاً فأهلكت جيشه وأفلت هو وكاتبه، وأن هذا البابليّ قتله ابن له، وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتله، وأن سنحاريب سار بعد ذلك وكان ملكه بنينوي وغزا مع ملك أذربيجان يومئذٍ بني إسرائيل فأوقع بهم، ثم اختلف سنحاريب وملك أذربيجان وتحاربا حتى تفانى عسكراهما، فخرج بنو إسرائيل وغنموا ما معهم.
وقيل: كان ملك سنحاريب إلى أن توفّي تسعاً وعشرين سنة، وكان ملك بني إسرائيل الذي حصره سنحاريب حزقياً، فلمّا توفّي حزقيا ملك بعده ابنه منشى خسماً وخمسين سنة، ثم ملك بعده آمون إلى أن قتله أصحابه ثنتي عشرة سنة، ثم ملك ابنه يوشيا الي أن قتله فرعون مصر الزجدع إحدى وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه ياهو أحاز بن يوشيا، فعزله فرعون الأجدع واستعمل بعده يوياقيم بن ياهو أحاز ووظف عليه خراجاً يحمله إليه، وكان ملكه اثنتي عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه يوياحين، فغزاه بخت نصّر وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه، وملك بعده يقونيا ابن عمه، وسماه صدقية، وخالفه فغزاه وظفر به وحمله إلى بابل وذبح ولده بين يديه وسمل عينيه وخرّب بيت المقدس والهيكل وسبى بني إسرائيل وحملهم إلى بابل، فمكثوا إلى أن عادوا إليه، على ما نذكره إن شاء الله؛ وكان جميع ملك صدقية إحدى عشرة سنة.
وقيل: إن شعيا أوحى الله إليه ليقوم في بني إسرائيل يذكرهم بما يوحي الله على لسانه لما كثرت فيهم الأحداث، ففعل، فعدوا عليه ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة فانفلقت له، فدخلها، وأخذ الشيطان بهدب ثوبه وأراه بني اسرائيل، فوضعوا المنشار على الشجرة فنشروها حتي قطعوه في وسطها.
وقيل في أسماء ملوكهم غير ذلك، ركناه كراهة التطويل ولعدم الثقة بصحة النقل به.
ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب وظهور زرادشت
قد ذكرنا أن كيخسرو لما حضرته الوفاة عهد إلى ابن عمّه لهراسب بن كيوخى بن كيكاووس، فهو ابن ابن كيكاووس، فلمّا ملك اتخذ سريراً من ذهب وكلّله بأنواع الجواهر وبنيت له بزرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها الحسناء، ودوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخابه الجنود، وعمر الأرض، وجبى الخراج لأرزاق الجند. واشتدّت شوكة الترك في زمانه فنزل بلخ لقتالهم، وكان محموداً عند زهل مملكته شديد القمع لزعدائه المجاورين له، شديد التفقد لأصحابه، وبعيد الهمة، عظيم البنيان، وشقّ عدّة أنهار، وعمر البلاد، وحمل إليه ملوك الهند الروم والمغرب الخراج، وكاتبوه بالتمليك هيبةً له وحذراً منه.
ثم إنه تنسّك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بشتاسب، وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادّعى النبوّة وتبعه المجوس، وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة إرميا النبيّ خاصّاً به، فخانه وكذب عليه، وفدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس.
وقيل: إنّه من العجم، وصنّف كتاباً وطاف به الأرض، فما عرف أحد معناه، وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها، وسمّاه: اشتا، فسار من أذربيجان إلى فارس، فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه، فسار إلى الهند وعرضه على ملوكهم، ثمّ أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم، وقصد فرغانة، فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب، فأمر بحبسه، فحبس مدّة، وشرح زرادشت كتابه وسمّاه: زند، ومعناه: التفسير، ثم شرح الزند بكتاب سمّاه: بازند، يعني: تفسير التفسير، وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطبّ وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء، وفي كتابه: تمسّكوا بما جئتكم به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر، يعني محمّداً، ﷺ، وذلك على رأس ألف سنة وستّ مائة سنة، وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب، ثم يذكر عند أخبار سابور ذي الأكتاف أنّ من جملة الأسباب الموجبة لغزوة العرب هذا القول؛ والله أعلم.
ثمّ إنّ بشتاسب زحضر زرادشت، وهو ببلخ، فلمّا قدم عليه شرع له دينه، فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى قبلوه ودانوا به.
وأمّا المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان، وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبّة من نار يلعب بها ولا تحرقه، وكلّ من أخذها من يده لم تحرقه، وأنه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النيران، فيزعمون أن النيران التي في بيوت عباداتهم من تلك إلى الآن.
وكذبوا فإنّ النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله محمداً، ﷺ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان هظور زرادشت بعد مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسب، وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى، وكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفراً ونقشاً بالذهب، فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة.
وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون بدين الصابئة، وسيرد باقي أخباره.
ذكر مسير بختنصّر إلى بني إسرائيل
قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بخت نصّر على بني اسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبيّ ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقيل: إنما أرسله الله على بني إسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكرياء، والأول أكثر.
وكان ابتداء أمر بخت نصّر ما ذكره سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ الكتب، فلما بلغ إلى قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) الاسراء:5، قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يده، فزري في المنام مسكيناً يقال له بخت نصر ببابل، فسار على سبيل التجارة إلى بابل وجعل يدعو المساكين ويسأل عنهم حتى دلّوه على بخت نصّر، فأرسل من يحضره، قرآه صعلوكاً مريضاً، فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ، فلمّا برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر، فقال له بخت نصّر وهو يبكي: فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك قال الإسرائيلي: بلى تقدر عليه، تكتب لي كتاباً إن ملكت أطلقتني، فقال: أتستهزئ بي؟ فقال: إنما هذا أمر لا محالة كائن.
ثمّ إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام، فأرسل إنساناً يثق به ليتعرّف له أخباره وحال من فيه، فسار إليه ومعه بخت نصّر فقير لم يخرج إلا للخدمة، فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلاً ورجالاً وسلاحاً، ففتّ ذلك في ذرعه، فلم يسأل عن شيء، وجعل بخت نصّر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت ما لها شيء فكلّهم يقول له: لا نحسن القتال ولا نراه، فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل، وأرسل بخت نصّر إلى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جليّة الحال، فأحضره، فأخبره بما كان جميعه، ثمّ إنّ الملك أراد أن يبعث عسكراً إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة، واستشار فيمن يكون عليهم، فأشاروا ببعض أصحابه، فقال: لا بل بخت نصّر، فجعله عليهم، فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين.
ثم إنّ لهراسب استعلمه أصبهبذ على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة؛ وكان السبب في مسيره إلى بني إسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار إلى الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس، فعاد عنهم وأخذ رهائنهم، فلمّا عاد من القدس إلى طبرية وثب بنو إسرائيل على ملكهم الذي صالح بخت نصّر فقتلوه وقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا، فلمّا سمع بخت نصّر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد إلى القدس فأخبره.
وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب، وكان بخت نصّر قد خدم جدّه وأباه وخدمه وعمّر عمراً طويلاً، فأرسل بهمن رسلاً إلى ملك بني إسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيليّ، فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصّر على أقاليم بابل وسيّره في الجنود الكثيرة، فعمل بهم ما نذكره.
هذه الأسباب الظاهرة وإنما السبب الكلّيّ الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني إسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أواره، وكانت سنة الله تعالى في بني إسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكاً أرسل معه نبيّاً يرشده ويهديه إلى أحكام التوراة، فلما كان قبل مسير بخت نصّر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي، وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم، فبعث الله إليه إرميا، قيل: هو الخضر، عليه السلام، فأقام فيهم يعدوهم إلى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب، فلم يرعووا، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلّط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريّهم ويخرب مدينتهم ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة، فلم يراجعوها فأرسل الله إليه: لأقيضنّ لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم، ولأسلطن عليهم جبّاراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، وعساكر مثل قطع السحاب، يهلك بني إسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس.
فلمّا سمع إرميا ذلك صاح وبكى وشقّ ثيابه، وجعل الرماد على رأسه وتضرّع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيّامه.
فأوحى الله إليه: وعزّتي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك، ففرح إرميا، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر بهلاك بني إسرائيل أبداً.
وأتى ملك بني إسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه، فاستبشر وفرح، ثمّ لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصيةً وتمادياً في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكّرون، فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا، فألقى الله في قلب بخت نصّر أن يسير إلى بني إسرائيل ببيت المقدس، فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء.
وبلغ ملك بني إسرائيل الخبر، فاستدعى إرميا النبيّ، فلمّا حضر عنده قال له: يا إرميا أين ما زعمت أنّ ربّك أوحي إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك؟ فقال إرميا: إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكاً في صورة آدمي إلى إرميا وقال له: استفته، فأتاه وقال له: يا إرميا أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسناً وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلا سخطاً لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله، فانصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام ف يتلك الصورة، فقال له إرميا: أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى ذوي رحمه إلا وقد زتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة، فقال: ارجع إلى أهلك وأحسن إليهم، فقام الملك من عنده فلبث أياماً، ونزل بخت نصّر على بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا: أين ما وعدك ربك؟ فقال: إني بربي واثق.
ثمّ إن الملك الذي أرسله الله يستفتي إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له: يا نبيّ الله كلّ شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأنّ ذلك كان فيه سخطي، وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى، فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا، فقال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن انوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فلمّا خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، يا أرحم الراحمين أين ميعادك، أيا ربّ، الذي وعدتني به؟ فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا، فاستيقن أنها فتياه وأنّ السائل كان من عند الله، وخرج إرميا حتى خالط الوحش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس وأمر جنوده، فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثمّ انصرف راجعاً إلى بابل وأخذ معه سبايا بني اسرائيل، وأمرهم، فجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم، فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبيّ فقسمهم على الملوك والقوّاد الذين كانوا معه، وكان من أولئك الغلمان دانيال النبيّ وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقسّم بني إسرائيل ثلاث فرق، فقتل ثلثاً، وأقرّ بالشام ثلثاً، وسبى ثلثاً، ثمّ عمر الله بعد ذلك إرميا، فه الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إنّ بخت نصّر عاد إلى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثمّ رأى رؤيا، فبينما هو قد أعبجه ما رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها، ولذن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعنّ أكتافكم فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرّعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إيّاها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوا إلى بخت نصّر فقالوا: رأيت تمثالاً، قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضّة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد، فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته، وهي التي أنستك الرؤيا قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: أريت ملك الملوك، وبعضهم كان ألين ملكاً من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكاً من بعض، وبعضهم أشدّ، وكان أوّل الملك الفخّار، وهو أضعفه وألينه، ثمّ كان فوقه النحاس، وهو أفضل منه وأشدّ، ثمّ كان فوق النحاس الفضّة، وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثمّ كان فوقها الذهب، وهو أحسن من الفضّة وأفضل، ثمّ كان الحديد، وهو ملكك، فهو أشد الملوك وأعزّ، وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقّت ذلك جميعه نبيّاً يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه.
فلما عبّر دانيال ومن معه رؤيا بخت نصّر قرّبهم وأدناهم واستشارهم في أمره، فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم، فأمر، فحفر لهم أخدود وألقاهم فيه، وهم ستّة رجال، وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم، ثم قال أصحاب بخت نصّر: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً، ووجدوا معهم رجلاً سابعاً، فخرج إليهم السابع، وكان ملكاً من الملائكة، فلطم بخت نصّر لطمةً فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد، وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان، ثم رده الله إلى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه، فلما عاد الي ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فعاد الفرس وسعوا بهم إلى بخت نصّر وقالوا له في سعايتهم: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول، وكان ذلك عندهم عاراً؛ فصنع لهم بخت نصّر طعاماً وأحضره عنده وقال للبواب: انظر أوّل من يخرج ليبول فاقتله، وإن قال لك: أنا بخت نصّر، فقل له: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك واقتله.
فحبس الله عن دانيال البول، وكان أول من قام من الجمع بخت نصّر فقام مدلاً أنه الملك، وكان ذلك ليلاً، فلما رآه البواب شد عليه ليقتله، فقال له: أنا بخت نصّر فقال: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك، وقتله.
وقيل في سبب قتله: إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت إلى رأسه، فكان لا يقرّ ولا يسكن حتى يدقّ رأسه، فلما حصره الموت قال لأهله: شقّوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة بزمّ رأسه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بخت نصّر، لما تجبّر قتله بأضعف مخلوقاته، تبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان.
ولما أراد الله تعالى أن يردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس كان بخت نصّر قد مات، فإنه عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة، في قول بعض أهل العلم، وملك بعده ابن له يقال له أولمردج، فملك الناحية ثلاثاً وعشرين سنة، ثم هلك وملك ابن له بلتاصر سنة، فلما ملك تخلط في أمره، فعزله ملك الفرس حينئذٍ؛ وهو مختلف فيه علي ما ذكرناه؛ واستعمل بعده داريوش على بابل الشام، وبقي ثلاثين سنة، ثمّ عزله واستعمل مكانه أخشويرش، فبقي أربع عشرة سنة، ثمّ ملك ابنه كيرش العلميّ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان قد تعلّم التوراة ودان باليهودية، وفهم عندانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما، فسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس، فقال: لو كان بقي منكم منكم ألف نبيّ ما فارقتكم، وولّى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره، وأره أن يقسم ما غنمه بخت نصّر من بني إسرائيل عليهم، وأمره بعمارة بيت المقدس، فعمّر في أيّامه، وعاد إليه بنو اسرائيل.
وهذه المدّة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة إلى بخت نصر، وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة.
وقيل: إنّ الذي أمر بعود بني إسرائيل إلى الشام بشتاسب بن لهراسب، وكان قد بلغه خراب بلاد الشام، وزنها لم يبق بها من بني إسرائيل أحد، فنادى في أرض بابل: من شاء من بني إسرائيل أن يرجع إلى الشام فليرجع، وملك عليهم رجلاً من ال داود وأمره أن يعمر بيت المقدس، فرجعوا وعمروه.
وكان إرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران، فلمّا وطئ بخت نصّر الشام وخرّب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل وسباهم، فارق البلاد واختلط بالوحش، فلما عاد بخت نصّر إلى بابل أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلّة تين فرأى بيت المقدس خراباً فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) البقرة: 259 ثم أمات حماره وأعمى عنه العيون، فلما انعمر بيت المقدس أحيا الله من إرميا عينيه، ثمّ أحيا جسده، وهو ينظر إليه، وقيل له: (كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم)، قيل: (بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه - يتغيّر - وانظر إلى حمارك) فنظر إلى عظام حماره وهي تجتمع بعضها إلى بعض، ثم كسي لحماً، ثم قام حيّاً بإذن الله، ونظر إلى المدينة وهي تبنى، وقد كثر فيها بنو إرسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد، وكان عهدها خراباً، وأهلها ما بين قتيل وأسير، فلما رآها عامرة (قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة: 259.
وقيل: إنّ الذي أماته الله مائة عام ثمّ أحياه كان عزيزاً، فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزاً عمياء زمنه كانت جارية له، ولها من العمر مائة وعشرون سنة، فقال لها: هذا منزل عزيز؟ قالت: نعم، وبكت وقالت: ما أرى أحداً يذكر عزيزاً غيرك فقال: أنا عزيز، فقالت: إنّ عزيزاً كان مجاب الدعوة، فادع الله لي بالعافية، فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت، فلما رأته عرفته، وكان لعزيز ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، وله أولاد شيوخ، فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به، فجاؤوا، فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره.
وقيل: إنّ عزيزاً كان مع بني إسرائيل بالعراق، فعاد إلى بيت المقدس فجدّد لبني إسرائيل التوراة لأنهم عادوا إلى بيت المقدس، ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أُخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت، وكان عزيز قد أخذ مع السبي، فلما عاد عزيز إلى بيت المقدس مع بني إسرائيل جعل يبكي ليلاً ونهاراً وانفرد عن الناس، فبينما هو كلذكل في حزنه إذ أقبل إليه رجل، وهو جالس، فقال: يا عزيز ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأنّ كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم، قال: فتريد أن يردّه الله عليكم؟ قال: نعم، قال: فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غداً هذا المكان، ففعل عزيز ذلك وأتي المكان فانتظره، وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء، وكان ملكاً بعثه الله في صورة رجل، فسقاه من ذلك الإناء، فتمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها، فزحبّوه حبّاً شديداً لم يحبّوا شيئاً قطّ مثله، وأصلح أمرهم، وأقام عزيز بينهم، ثمّ قبضه الله إليه على ذلك، وحدثت فيهم الأحداث، حتى قال بعضهم: عزيز ابن الله ولم يزل بنو إسرائيل ببيت المقدس، وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
وقد اختلف العلماء في أمر بخت نصّر وعمارة بيت المقدس اختلافاً كثيراً تركنا ذكره اختصاراً.
ذكر غزو بختنصّر العرب
قيل: أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم، فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به، فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم، وانتشر الخبر في العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين، فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد، فابتنوا الزنبار، وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً حياة بخت نصّر.
فلمّا مات انضمّوا إلى أهل الأنبار، وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار، وسار إلى العرب بنجد والحجاز، فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير إلى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه إلى حرّان، وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد، ﷺ، الذي يختم به الأنبياء؛ فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر إلى معد، فحملاه إلى حرّان في ساعتهما، ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة، وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وسار إلى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق قاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر إلى حصون هناك، واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، فكمّن بخت نصّر كميناً، وهو أول كمين عمل، وأخذتهم السيوف، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بخت نصّر، وبخت نصّر عن عدنان، فافترقا، فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء، وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي منولد الحرث بن مضاض الجرهميّ، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معدّ.
ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب
لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته، ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك، واسمه خرزاسف، وهو أخو أفراسياب، وصالحه، واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك، فلما جاء زرادشت إلى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك، وقال: أنا أعيّن لك طالعاً تسير فيه إلى الحرب فتظفر؛ وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم؛ وكان زرادشت عالماً بالنجوم جيّد المعرفة بها، فأجابه بشتاسب إلى ذلك، فأرسل إلى الدابّة التي بباب ملك الترك والى الموكّل بها فصرفهما، فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته.
فكتب إليه بشتاسب كتاباً غليظاً يؤذنه فيه بالحرب، وسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالاً شديداً، فكانت الهزيمة على الترك، وقتلوا قتلاً ذريعاً، ومرّوا منهزمين، وعاد بشتاسب إلى بلخ، وعظم أمر زرادشت عند الفرس، وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله.
وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب، فلما انجلت الحرب سعى الناس بي بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا: ويريد الملك لنفسه، فندبه لحرب بعد حرب، ثمّ أخذه وحبسه مقيّداً.
ثم إنّ بشتاسب سار إلى ناحية كرمان وسجستان وسار إلى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك، وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخاً قد أبطله الكبر، وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه، فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف، فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار إلى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته، ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد، فقتلوا وسبوا وأخربوا، وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والاخرى باذافره، وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان، وسار متبعاً لبشتاسب، وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس، وضاق ذرعاً بما نزل به.
فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل إلى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب، فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده، فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولاً بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم، والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس، وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه، وتابع الحملات، وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان.
فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم، فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلهم عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى إلى آخر حدود بلاد الترك والى التّبّت، وأقطع بلاد الترك، وجعل كلّ ناحية إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجاً يحملونه كلّ سنة إلى أبيه بشتاسب، ثم عاد إلى بلخ.
فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك، وأسرّ ذلك في نفسه، وأمره بالتجهّز والمسير إلى قتال رستم الشديد بسجستان، وقال له: هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس وأعتقه فأقطعه إيّاها؛ وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاوو؛ وكان عغرض بشتاسب أن يقتله رستمُ أو يقتل هو رستم، فإنه كان أيضاً شديد الكراهة لرستم، فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فقتل إسفنديار، قتله رستم.
ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وخمسين سنة.
وقيل: إنه جاءه رجل من بني إسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ، فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه، وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضاً عن الاسرائيلي، وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت.
ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس إلى أيام بهمن بن اسفنديار
قد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود، وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح، وصار الملك بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة، قال أهل اليمن: إنّه سار غازياً نحو المغرب حتى بلغ وادياً يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازاً لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلاً يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا، فلم يرجعوا، فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس، فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ، ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب.
وقيل: إنّ وراء ذلك الرمل قوماً من أمّه موسى، وهم الذين عنى الله بقوله: (ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون) الاعراف: 951؛ والله أعلم. ثمّ ملك بعده تُبّع، وهو تُبّان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، وكان يقال له الزايد، وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وإنه شخص متوجّهاً من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء، ثمّ سار يريد الأنبار، فلمّا انتهى إلى موضع الحيرة تحيّر، وكان ليلاً، فأقام بمكانه، فسمّي ذلك المكان بالحيرة، وخلّف به قوماً من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجّه إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة، ثم عاد إلى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، وقدمت عليه هديّة ملك الهند، وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند، فرأى ما لم يرَ مثله، فقال للرسول: كلّ هذا في بلدكم؟ فقال: أكثره من بلد الصين، ووصف له بلد الصين، فحلف ليغزونها، فسار بحمير حتى أتى إلى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجّه رجلاً من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم، فأصيب، فسار تبّع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها، وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين. ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التّبّت، ويزعمون أنهم عرب، وألوانهم ألوان العرب وخلقهم.
وهكذا ذكر، وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ، وكل واحد منهم خالف الآخر، وقدّم بعضهم من أخره الآخر، فلم يحصل منهم كثير فائدة، ولكن ننقل ما وجدنا مختصراً.
ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني
ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار، وكان مظفراً في مغازيه، وملك أكثر من أبيه، وقيل: إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير، وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة الأبلّة، وسار إلى سجستان طالباً بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز. وبهمن هو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده، وأمّ دارا خمانى ابنة بهمن، فهي أخته وأمّه. وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل، وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة، وكان أعظم ملوك الفرس شأناً وأفضلهم تدبيراً. وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب، وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود، وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة، وقيل: صمانين سنة، وكان متواضعاً مرضيّاً فيهم، وكانت كتبه تخرج: من عبد الله خادم الله السائس لأموركم.
ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى، ملكوها حبّاً لأبيها ولعقلها وفروسيتها، وكانت تلقّب بشهرزاد، وقيل: إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملاً في بطنها، وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك، فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنماً، وكان يتولاها بنفسه، فاستبشعت العامّة ذلك منه.
وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه، فملكوها، ووضعته بعد أشهر من ملكها، فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر، وقيل: بنهر بلخ، وسار التابوت إلى طحّان من أهل اصطخر، ففرح لما فيه من الجوهر، فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شبّ، فأقرّت خمانى بإساءتها، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك، فحوّلت التاج إليه وسارت إلى فارس وبنت مدينة اصطخر، وكانت قد أوتيت ظفراً وزغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها، وخفّفت عن رعيّتها الخراج؛ وكان ملكها ثلاثين سنة.
وقيل: إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها، فضبط الملك بشجاعة وحزم.
ونرجع إلى ذكر بني إسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس.
قد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم، وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش، وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى، وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة، كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم ذكر الاختلاف.
وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب، وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفرداً قطّ.
ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير، وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني اسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل داراً بن دارا، وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانياً وثمانين سنة.
ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين
وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار، وكان يلقّب جهرازاد، يعني كريم الطبع، فنزل ببابل، وكان ضابطاً لملكه قاهراً لمن حوله من الملوك، يؤدّون إليه الخراج، وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد، وحذّف دوابّ البرد ورتّبها، وكان معجباً بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا، وهي مشهورة إلى الآن، واستوزر إنساناً لا يصلح لها، فأفسد قلبه على أصحابه، فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة، وكان شابّاً غرّاً جميلاً حقوداً سيّء السيرة في رعيّته.
وكان ملكه أربع عشرة سنة.
ذكر الإسكندر ذي القرنين
كان فيلفوس أبو الاسكندر اليونانيّ من أهل بلدة يقال لها مقدونية، كان ملكاً عليها وعلى بلاد أخرى، فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كلّ سنة، فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الاسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع، فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئاً، وكان الخراج الذي يحمله بيضاً من ذهب، فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج، وبعث إليه بصولجان والرة ويترك الملك، وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وإنّ عدّة جنوده كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الاسكندر: إنه قد فهم ما كتب به، وقد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقي الكرة إلى الصولجان واحترازه إيّاها؛ وشبّه الأرض بالكرة، وأنّه يجرّ ملك دارا إلى ملكه، وتيمّنه بالسمسم الذي بعث كتيمّنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة، وبعث إليه بصرّة فيها خردل، وزعلمه في ذلك أنّ ما بعث به إليه قليل ولكنّه مرّ حرّيف، وأنّ جنوده مثله، فلمّا وصل كتباه إلى دارا تأهّب لمحاربته.
وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأوّلين أنّ الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حربه، وأنّ أباه دارا الأكبر كان تزّوج أمّ الإسكندر، وهي ابنة ملك الروم، فلمّا حُملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها، فأمر أن يحتال لذلك منها؛ فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسيّة سندر، فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيراً من نتنها ولم يذهب كلّه، وانتهت نفسه عنها، فردّها إلى أهلها، وقد علقت منه فولدت في أهلها غلاماً فسمّته باسم الشجرة التي غُسلت بمائها مضافاً إلى اسمها، وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده، فمنع الخراج الذي كان يؤديه جدّه، إلى دارا، فأرسل يطلبه، وكان بيضاً من ذهب، فأجابه: إنّي قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها، فإن زحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك.
ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح، فاستشار دارا أصحابه، فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه، فعند ذلك ناجزه دارا القتال، فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكّمهما على الفتك بدارا، فاحتكما شيئاً، ولم يشترطا أنفسهما، فلمّا التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة، وكان الحرب بينهما سنة، فانهزم أصحاب دارا ولحقه الاسكندر وهو بآخر رمق.
وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبّاً للراحة من ظلمه، وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه، ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر، وكان قد أمر الإسكندر منادياً ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يُقتل، فأخبر بقتله، فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له: إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهمّ بقتلك قطّ، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحُرّ الأحرار عن هذا المصرع، فأوص بما أحببت، فأوصاه دارا أن يتزوّج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظّم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثزره ممّن قتله، ففعل الاسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا، وقال لهما: إنكما لم تشترطا نفوسكما، فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما، وقال: ليس ينبغي أن يُستبقى قاتل الملوك إلا بذمّة لا تخفر، وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر، وقيل: ببلاد الجزيرة عند دارا.
وكان ملك الرّوم قبل الإسكندر متفرّقاً فاجتمع، وملك فارس مجتمعاً فتفرّق، حمل الإسكندر كتباً وعلوماً لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة ونقله إلى الرومية.
وقذ ذكرنا قول من قال إنّ الإسكندر أخو دارا لأبيه، وأمّا الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنّه الإسكندر بن فيلفوس، وقيل فيلبوس بن مطريوس، وقيل: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن اسحاق بن ابراهيم.
فجمع بعد هلك دارا مُلك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة، وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعماذة ألف رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل، ومن جند دارا ستّمائة ألف رجل، وتقدّم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، واستعمل على مملكة فارس رجالاً، وسار قدماً إلى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم، ثم سار منها إلى الصين، فلمّا وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال: هذا رسول ملك الصين، فزحضره فسلّم وطلب الخلوة، ففّتّشوه فلم يروا معه شيئاً، فخرج من كان عند الإسكندر، فقال: أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده، فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب، فقال له الاسكندر: ما الذي آمنك مني؟ قال: علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سبباً لتسليم أهل الصين مُلكي إليك، ثم إنّك تنسب إلى الغدر.
فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً ونصف الارتفاع لكل سنة، قال: قد أجبتك ولكن أسألني كيف حالي، قال: قل كيف حالك؟ قال: أكون أوّل قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين؟ قال: يكون حالي أصلح قليلاً، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة؟ قال: يبقى ملكي وتذهب لذّاتي، قال: وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكلّ سنة فكيف يكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد، والسدس لي، والثلث للعسكر، والثالث لك، قال: قد قنعتُ منك بذلك، فشكره وعاد، وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح.
فلمّا كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر، فركب الإسكندر والناس، فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج، فقال له الإسكندر: أغدرت؟ قال: لا ولكنّي أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلويّ مقبلاً عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك، فقال له الإسكندر: لايسأم مثلك الجزية، فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك، وقد زعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك، فقال له ملك الصين: فلست تخسر، وبعث إليه بضعف ما كان قرّره معه، وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامّة الأرضين في الشرق والغرب وملك التّبّت وغيرها.
فلمّا فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال، وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتّصل بديار يأجوج ومأجوج، وقد اختلفت الأقوال فيهم، والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شرّ، وهم كثيرون، وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم، فلمّا رأى أهلُ تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرّهم، كما أخبر اللّه عنهم في قوله: (ثمَّ زتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين) الكهف: 93 وهما جبلان متقابلان لا يرتقى فيهما وليس لهما مخرج إلا من الفرجة التي بينهما فلما بلغ إلى تلك وقارب السدين- (وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً؛ قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً؟ قال ما مكّنّي فيه ربيّ خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) الكهف: 93 - 95، يقول: ما مكّنّي فيه ربيّ خير من خرجكم، ولكن أعينوني بالقوّة، والقوّة الفعلة والصُّناع والآلة التي يبنى بها، فقال: (آتوني زبر الحديد) الكهف: 96، أي قطع الحديد، فأتوه بها، فحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الحديد والحطب صفوفاً بعضها فوق بعض (حتى إذا ساوى بين الصّدفين)، وهما جبلان، أشعل النار في الحطب فحمي الحديد وأفرغ عليه القطر، وهو النحاس المذاب، فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد، فبقي كأنّه برد محبّر من حمرة النحاس وسواد الحديد، وجعل أعلاه شرفاً من الحديد، فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج إلى البلاد المجاورة لهم، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف: 97.
فلمّا فرغ من أمر السدّ دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبداً، فلمّا دخل الظلمات أخذ معه زربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوماً، ثم خرج ولم يظفر بها، وكان الخضر على مقدّمته، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها، والله أعلم.
ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهر زور بعلّة الخوانيق، وكان عمره ستّاً وثلاثين سنة في قول، ودفن في تابوت من ذهب مرصّع بالجوهر وطلي بالصبر لئلا يتغيّر وحمل إلى أمه بالاسكندرية.
وكان ملكه أربع عشرة سنة، وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه، وبنى اثني عشرة مدينة، منها: أصبهان، وهي التي يقال لها جَبّي، ومدينة هراة، ومرو، وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا، وبأرض اليونان مدينة، وبمصر الاسكندرية.
فلمّا مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم، فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فوقفوا عليه، فقال كبيرهم: ليتكلم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّياً وللعامّة واعظاً، ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، وقال آخر: هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبأه، وقال آخر: ما أزهد النّاس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت، وقال آخر: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لا هون مغترّون، وقال آخر: هذا الذي جعل أجله ضماراً وجعل أمله عياناً، هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، بل هلاّ حقّقت من أملك بالامتناع من وفور أجلك، وقال آخر: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليه أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك وإثمه عليك، وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر، وقال آخر: رُبّ هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك، وقال آخر: رُبّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم، وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلاّ تموت وقد ماتت، وقال آخر، وكان صاحب كتب الحكمة: قد كنت تزمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنّو منك، وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شرّه ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على مَنْ زال ملكه فليبك، وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب، وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر: اعجبوا مّمن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد، وقال آخر: أيّها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد، وقال آخر: يا من كان غضبُه الموت هلاّ غضبت على الموت وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي، وقال آخر: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلّم الآن كلّ ساكت، وقال آخر: سيلحق بك مَنْ سرّه موتك كما لحقت بمن سرّك موته، وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقلّ بملك الأرض بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد وقال آخر: إنّ دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها.
وقال صاحب مائدته: قد فرشتُ النمارق ونضدت النضائد ولا أرى عميد القوم، وقال صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالادّخار فإلى من أدفع ذخائرك؟. وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب.
وقالت زوجته روشنك: ما كنتُ أحسب أنّ غلاب دارا يُغلب، فإنّ الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة، فقد خلف الكأس الذي شرب به ليشربه الجماعة، وقالت أمّه حين بلغها موته: لئن فقدت من ابني أمرَه لم يُفقد من قلبي ذكره.
فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتّها.
ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج إلى بين الصفّين وأمر منادياً فنادى: يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنّه يرى منّا الوفاء، فاتّهمت الفرس بعضها بعضاً واضطربوا.
ومن حيله أنّه تلقّاه ملك الهند بالفيلة، فنفرت خيلُ أصحابه عنها، فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها، ثمّ عاد إلى الهند، فخرج إليهم ملك الهند، فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت وجرّت على العجل إلى وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه، فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النار في تلك الفيلة، فلمّا حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند، فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولّت هاربة راجعة على الهند، فانهزموا بين يديها.
ومن حيله أنّه نزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء، فعاد عنها فأرسل إليها قوماً على هيئة التجّار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالاة في ثمنها، فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا، ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرّة بعد أخرى، فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به، فسار الإسكندر إليهم، فلم يمتنعوا عليه.
وكتب إلى أرسطاطاليس يذكر له أنّ من خاصّة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة، وأنّه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنّة، فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمتُ كتابك، فإنّ ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة وكبر النفس، والغدر من دناءة النفس وخسّتها، وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفّهه في معيشتته واخصصه بحسان النساء، فإنّ رفاهية العيش تميت الشجاعة وتحبّب السلامة، وإيّاك والقتل فإنّه زلّة لا تستقال وذنب لا يغفر، وعاقب بدون القتل تكن قادراً على العفو، فما أحسن العفو من القادر، وليحسن خلقك تخلص لك النيّات بالمحبة، ولا تؤثر نفسك على أصحابك، فليس مع الاستئثار محبّة، ولا مع المؤاساة بغضة.
وكتب إلى أرسطاطاليس أيضاً لما ملك بلاد فارس يذكر له أنّه رأى بإيران شهر رجلاً ذوي رأي وصرامة وشجاعة وجمال وأنساب رفيعة، وأنّه إنّما ملكهم بالحظّ والإنفاق، وأنّه لا يأمن، إ سافر عنهم فأفرغهم، وثوبهم، وأنّه لا يُكفى شرّهم إلاّ ببوارهم، فكتب إليه: قد فهمت كتابك في رجال فارس، فأمّا قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته، ولو قتلتهم لأثبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لزنّك تكون قد وترتهم في غير حرب، وأمّا إخراجك إيّاهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكنّي أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل، وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلّدهم البلدان وتجعل كلّ واحد منهم ملكاً برأسه فتتفرّق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبّة لك ويرون أنفسهم صنيعتك، ففعل الإسكندر ذلك، فهم ملوك الطوائف، وقيل في ملوك الطوائف غير هذا السبب، ونحن نذكره إن شاء الله.
ذكر من ملك من قومه بعد الاسكندر
لما مات الاسكندر عُرض الملك على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار العبادة، فملكت اليونان فيما قيل بطلميوس بن لاغوس، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلوذفوس، وكان ملكه أربعين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس أوراغاطس أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوش افيفانس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الاخشندر إحدى عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين، ثمّ ملكت بعده قالو بطرى سبع عشرة سنة، وكانت من الحكماء؛ وهؤلاء كلّهم من اليونان، وكلّ من كان بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس كما كانت تدعى ملوك الفرس أكاسرة وملوك الروم قياصرة.
وقد ذكر بعض العلماء أنّ بطلميوس صاحب المجسطي وغيره من الكتب لم يكن من هؤلاء الملوك، وإنّما كان أيّام ملوك الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثمّ ملك الشام فيما بعد قالوبطرى ملوك الروم، فكان أوّل من ملك منهم جايوس يولوس خمس سنين، ثمّ ملك بعده أغسطوس ستّاً وخسمين سنة، فلمّا مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة وُلد عيسى بن مريم، عليه السلام، وقيل: كان بين مولده وقيام الإسكندر ثلاثمائة وثلاث سنين.
ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر وهم ملوك الطوائف
لما مات الإسكندر ملك بلاد الفرس بعده ملوك الطوائف، وقد تقدّم ذكر السبب في تمليكهم، وقيل: كان السبب في ذلك أنّ الإسكندر لما ملك بلاد الفرس ووصل إلى ما أراد كتب إلى أرسطاطاليس الحكيم: إنّي قد وترت جميع من في بلاد المشرق وقد خشيت أن يتّفقوا بعدي على قصد بلادنا وإيذاء قومنا، وقد هممتُ أن أقتل أولاد من قتلت من الملوك وألحقهم بآبائهم، فما ترى؟.
فكتب إليه: إنّك إن قتلت أبناء الملوك أفضى الملك إلى السفل والأنذال، والسّفل إذا ملكوا قذروا وإذا قدروا طغوا وبغوا وظلموا، وما يخشى من معرّتهم أكثر، والرأي أن تجمع أبناء الملوك فتملّك كلّ واحد منهم بلداً واحداً وكورة واحدة، فإنّ كلّ واحد منهم يقوم في وجه الآخر يمنعه عن بلوغ غرضه خوفاً على ما بيده فتتولّد العداوة بينهم فيشتغل بعضهم ببعض فلا يتفرّغون إلى من بعد عنهم.
فعندها قسّم الإسكندر بلاد المشرق على ملوك الطوائف ونقل عن بلدانهم النجوم والحكمة، وكان من حالهم بعد الإسكندر ما ذكره أرسطاطاليس، واشتغلوا عن قصد اليونان.
وكان أرسطاطاليس من أفضل الحكماء وأعلمهم، وكان الإسكندر يصدر عن رأيه، وأخذ الحكمة عن أفلاطون تلميذ سقراط، وسقراط تلميذ أوسيلاوس في الطبيعيات دون غيرها، ومعناه رأس السباع، وكان أوسيلاوس تلميذ انكساغورس، إلاّ أن أرسطاطاليس خالف أستاذه في عدّة مسائل، فلمّا قيل له في ذلك قال: أفلاطون صديق والحقّ صديق، إلاّ أنّ الحقّ أولى بالصداقة منه.
وقد اختلف العلماء في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الاسكندر وعدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، فقال هشام بن الكلبيّ وغيره: ملك بعد الاسكندر بلاقس سلبقس، ثمّ أنطيخس، وهو الذي بنى مدينة أنطاكية، وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة أربعاً وخمسين سنة، وكانوا يتطرّقون الجبال وناحية الأهواز وفارس.
ذكر ملك أشك بن أشكان
ثمّ خرج رجل يقال له أشك، وهو من ولد دارا الأكبر، وكان مولده ومنشأه بالريّ، فجمع جمعاً كبيراً وسار يريد أنطيخس، وزحف رليه أنطيخس والتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس وملك أشك السواد وصار بيده من الموصل إلى الريّ أصبهان، وعظّمته سائر ملوك الطوائف لسنّه وشرفه وفعله، وبدأوا به كتبهم، وسمّوه ملكاً من غير أن يعزل أحداً منهم، ثمّ ملك بعده ابنه سابور بن أشك.
ذكر ملك جوذرز
ثم ملك بعد سابور جودرز بن أشكان، وهو الذي غزا بني إسرائيل في المرّة الثانية.
وسبب تسليط اللّه إيّاه عليهم قتلهم يحيى بن زكريّاء، فأكثر القتل فيهم، فلم يعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله منهم النبوة ونزل بهم الذّلّ، وقيل: إنّ الذي غزا بني إسرائيل طيطوس بن اسفيانوس ملك الروم، فقتلهم وسباهم وخرّب بيت المقدس، وقد كانت الروم غزت بلاد فارس يطلبون ثأر أنطيخس، وملك بابل حينئذٍ بلاش أبو أردوان الذي قتله أردشير بن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما أجمعت عليه الروم من غزو بلادهم وما حشدوا وجمعوا وأنّه إن عجز عنهم ظفروا بهم جميعاً.
فوجّه كلّ ملك من ملوك الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوّته، فاجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولّى عليهم صاحب الحضر، وكان له ما بين السواد والجزيرة، فلقي الروم وقتل ملكهم واستباح عسكرهم، وذلك الذي هيّج الروم على بناء القسطنطينيّة ونقل الملك من رومية إليها، وكان الذي أنشأها قسطنطين الملك، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الرّوم وأجلى من بقي من بني إسرائيل عن فلسطين والشام لقتلهم عيسى بزعمهم، وأخذ الخشبة التي يزعمون أنّهم صلبوا المسيح عليها، فظّمها الروم وأدخلوها خزائنهم وهي عندهم إلى اليوم، ولم يزل مُلك فارس متفرّقاً حتى ملك أردشير بن بابك، ولم يبيّن هشام مدّة ملكهم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بلادهم بعد الإسكندر ملوك من غير الفرس كانوا يطيعون كلّ من ملك بلاد الجبل، وهم الأشغانيّون الذين يُدعون ملوك الطوائف، وكان ملكهم مائتي سنة، وقيل: كان ملكهم ثلاثمائة وأربعين سنة، ملك من هذه السنين أشك بن أشكان عشرين سنة، ثمّ ابنه سابور ستين سنة، وفي إحدى وأربعين سنة من ملكه ظهر المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، وإنّ تيطوس بن اسفيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع المسيح بنحو من أربعين سنة فملك المدينة وقتل وسبى وأخرب المدينة، ثمّ ملك جودرز بن أشغانان الأكبر عشر سنين، ثمّ ملك بيرن الأشغانيّ اربعين سنة ثم ملك هرمز الأشغاني سبع عشرة سنة، ثمّ ملك أردوان الأشغانيّ اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك كسرى الأشغانيّ أربعين سنة ثمّ ملك بلاش الأشغاني أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك أردوان الأصغر ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك أردشير بن بابك.
وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرّق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرّد بكلّ ناحية من ملك عليها من حين ملّكه عليها ما خلا السواد، فإنّّ كان أربعاً وخسمين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم، وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك قد ملك الجبال وأصبهان، ثمّ غلب ولده بعد ذلك على السواد، وكانوا ملوكاً عليها، وعلى الماهات والجبال، وأصبهان كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأنّ العادة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قُصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصرنا على ذكرهم دون غيرهم، فكانت مدة ملوك الطوائف مائتّي سنة وستين سنة، وقيل: ثلاثمائة وأربعاً وأربعين سنة، وقيل: خمسمائة وثلاثاً وعشرين سنة، والله أعلم.
فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت بعد أولادهم الغلبة على السواد أشك بن جزه، وهو من ولد إسفنديار بن بشتاسب في قول، وبعض الفرس زعم أنّ أشك بن دارا، قال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، هو من ولد كيكاووس، وكان ملكه عشرين سنة، ثمّ ملك بعده أشك ابنه إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك ابنه سابور ثلاثين سنة، ثمّ ملك ابنه جودرز عشر سنين، ثمّ ملك ابنه بيرن إحدى وعشرين سنة، ثم ملك ابنه جودرز الأصغر تسع عشرة سنة، ثم ابنه نرسي أربعين سنة، ثم هرمز بن بلاش بن أشكان سبع عشرة سنة، ثمّ أردوان الأكبر بن أشكان اثنتي عشرة سنة، ثمّ كسرى ابن أشكان أربعين سنة، ثم أردوان الأصغر بن بلاش ثلاث عشرة سنة، وكان أعظم ملوك الأشكانيّة وأظهرهم وأعزّهم قهراً للملوك، ثمّ ملك أردشير بن بابك وجمع مملكة الفرس على ما نذكره إن شاء الله.
وقد عدّ بعضهم في أسماء الملوك غير ما ذكرنا لا حاجة إلى إلى الإطالة بذكره، وقد ذكرنا بعض ما قيل عند ملك أردشير بن بابك.
ذكر الأحداث أيام ملوك الطوائف فمن ذلك ذكر المسيح عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام
إنّما جمعنا هذين الأمرين العظيمين في هذه الترجمة لتعلّق أحدهما بالآخر، فنقول: كان عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وكان آل ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم، وكان متزوجاً بحنة بنت فاقوراء، وكان زكريّاء بن برخيا متزوّجاً بأختها إيشاع، وقيل: كانت إيشاع أخت مريم بنت عمران، وكانت حنّة قد كبرت وعجزت ولم تلد ولداً، فبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت طائراً يزقّ فرخاً له فاشتهت الولد فدعت الله أن يهب لها ولداً، ونذرت إن يرزقها ولداً أن تجعله من سدنة بيت المقدس وخدمه، فحرّرت ما في بطنها، ولم تعلم ما هو، وكان النذر المحرّر عندهم أن يجعل للكنيسة يقوم بخدمتها ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم، فإذا بلغ خُيّر، فإن أحبّ أن يقيم فيها أقام، وإن أحبّ أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن يحرر إلاّ الغلمان، لأن الإناث لا يصلحن لذلك لما يصيبهنّ من الحيض والأذى.
ثمّ هلك عمران وحنّة حامل بمريم، فلمّا وضعتها إذا هي أنثى فقالت عند ذلك: (ربّ إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى) آل عمران: 36 في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، (وإني سميّتها مريم)، وهي بلغتهم العبادة، ثمّ لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم يلون من بيت المقدس ما يلي بنو شيبة من الكعبة، فقالت: دونكم هذه المنذورة، فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال زكريّاء: أنا أحقّ بها لأنّ خالتها عندي، فقالوا: لكنّا نقترع عليها، فألقوا أقلامهم في نهر جار، قيل هو نهر الأدن، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة، فارتفع قلمُ زكريّاء فوق الماء ورسبت أقلامهم، فأخذها وكفلها وضمّها إلى خالتها أمّ يحيى واسترضع لها حتى كبرت، فبنى لها غرفة في المسجد لا يُرقى إليها إلا بسلّم ولا يصعد إليها غيره، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فيقول: أنّيى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله، فلمّا رأى زكريّاء ذلك منها دعا الله تعالى ورجا الولد حيث رأى فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، فقال: إنّ الذي فعل هذا بمريم قادر على أن يصلح زوجتي حتى تلد، ف (قال: ربّ هب لي من لدنك ذرّيّةً طيبةً إنّك سميع الدعاء) آل عمران: 38.
فبينما هو يصلّي في المذبح الذي لهم إذا هو برجل شابّ، هو جبرائيل، ففزغ زكريّاء منه، فقال له: (إن الله يبشرك بيحيى مصدّقاً بكملة من الله) آل عمران: 39، يعني عيسى بن مريم، عليه السلام، ويحيى أوهل من آمن بعيسى وصدّقه، وذلك أنّ زمّه كانت حاملاً به فاستقبلت مريم وهي حامل بعيسى فقالت لها: يا مريم أحامل أنتِ؟ فقالت: لماذا تسأليني؟ قالت: إنّي أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك تصديقه.
وقيل: صدّق المسيح، عليه السلام، وله ثلاث سنين، وسمّاه الله تعالى يحيى ولم يكن قبله من تسمّى هذا الاسم، قال الله تعالى: (لم نجعل له من قبل سميّاً) مريم: 7، وقال تعالى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويمو يبعث حيّاً) مريم: 15، قيل: أوحش ما يكون ابن آدم في هذه الأيام الثلاثة، فسلّمه الله تعالى من وحشتها، وإنّما ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين، وقيل بستّة أشهر، وكان لا يأتي النساء، ولا يلعب مع الصبيان.
(قال: ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) آل عمران: 40 وكان عمره اثنتين وتسعين سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة، فقيل له: (كذلك الله يفعل ما يشاء)، وإنما قال ذلك استخباراً هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم غيرها، لا إنكاراً لقدرة الله تعالى، (قال: ربّ اجعل لي آيةً، قال: آيتك ألا تكلّم الناس ثلاثة أيّامٍ إلاّ رمزاً) آل عمران: 41، قال: أمسك الله لسانه عقوبة لسؤاله الآية، والرمز الإشارة.
فلمّا ولد رآه أبوه حسن الصورة، قليل الشعر، قصير الأصابع، مقرون الحاجبين، دقيق الصوت، قويّاً في طاعة الله مذ كان صبيّاً، قال الله تعالى: (وآتيناه الحكم صبيّاً)، قيل: إنه قال له يوماً الصبيان أمثاله: يا يحيى اذهب بنا نلعب، فقال لهم: ما للعب خُلقت، وكان يأكل العشب وأوراق الشجر، وقيل: كان يأكل خبز الشعير، ومرّ به إبليس ومعه رغيف شعير فقال: أنت تزعم أنك زاهد وقد ادخرت رغيف شعير؟ فقال يحيى: يا ملعون هو القوت، فقال إبليس: إنّ الأقلّ من القوت يكفي لمن يموت، فأوحى الله الله إليه: اعقل ما يقول لك.
ونبّئ صغيراً فكان يدعو الناس إلى عبادة الله، ولبس الشعر، فلم يكن له دينار ولا درهم ولا مسكن يسكن إليه، أينما جنّه الليل أقام، ولم يكن له عبد ولا أمَة، واجتهد في العبادة، فنظر يوماً إلى بدنه وقد نحل فبكى، فأوحى الله إليه: يا يحيى أتبكي لما نحل من جسمك؟ وعزّتي وجلالي لو اطلعت في النار اطلاعة لتدرّعت الحديد عوض الشعر فبكى حتى أكلت الدموع لحم خدّيه وبدت أضراسه للناظرين، فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل زكرياء ومعه الأحبار فقال: يا بنيّ ما يدعوك إلى هذا؟ قال: أنت أمرتني بذلك حيث قلت: إنّ بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا الباكون من خشية الله، فقال: فابكِ واجتهد إذن، فصنعت له أمه قطعتي لبد على خدّيه تواريان أضراسه، فكان يبكي حتى يبلّهما، وكان زكريّاء إذا أراد يعظ أن الناس نظر فإن كان يحيى حاضراً لم يذكر جنّة ولاناراً.
وبعث الله عيسى رسولاً نسخ بعض أحكام التوراة، فكان ممّا نسخ أنه حرّم نكاح بنت الأخ، وكان لملكهم، واسمه هيرودس، بنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها، فنهاه يحيّى عنها، وكان لها كلّ يوم حاجة يقضيها لها، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا سألك الملك ما حاجتك فقولي أن تذبح يحيى بن زكرياء، فلمّا دخلت عليه وسألها ما حاجتك قالت: أريد أن تذبح يحيى بن زكرياء، فقال: اسألي غير هذا، قالت: ما أسألك غيره، فلمّا أبت دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه، فلما رأت الرأس قالت: اليوم قرّت عيني فصعدت إلى سطح قصرها فسقطت منه إلى الأرض ولها كلاب ضارية تحته، فوثبت الكلاب عليها فأكلتها وهي تنظر، وكان آخر ما أُكل منها عيناها لتعتبر، فلمّا قتل بذرت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بخت نصّر عليهم، فجاءته امرأة فدلته على ذلك الدم، فألقى الله في قلبه أن يقتل منهم على ذلك الدم حتى يسكن، فقتل منهم سبعين ألفاً حتى سكن الدّم.
وقال السّدّيّ نحو هذا، غير أنّّ قال: أراد الملك أن يتزوّج بنت امرأة له، فنهاه يحيى عن ذلك، فطلبت المرأة من الملك قتل يحيى، فأرسل إليه فقتله وأحضر رأسه في طست وهو يقول له: لا تحلّ لك، فبقي دمه يغلي، فطرح عليه تراب حتى بلغ سور المدينة، فلم يسكن الدم، فسلّط الله عليهم بخت نصّر في جمع عظيم فحصرهم فلم يظفر بهم، فأراد الرجوع فأتته امرأة من بني إسرائيل فقالت: بلغني أنك تريد العود قال: نعم، قد طال المقام وجاع الناس وقلّت الميرة بهم وضاف عليهم، فقالت: إن فتحتُ لك المدينة أتقتل من آمرك بقتله وتكف إذا أمرتك؟ قال: نعم، قالت: اقسم جندك أربعة أقسام على نواحي المدينة، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء وقولوا: اللهمّ إنّا نستفتحك على دم يحيى بن زكرياء، ففعلوا، فخرب سور المدينة، فدخلوها، فأمرتهم العجوز أن يقتلوا علي دم يحيى بن زكرياء حتى يسكن، فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين ألفاً وسكن الدم، فأمرته بالكفّ، وكفّ.
وخرّب بيت المقدس، وزمر أن تُلقى فيه الجيف، وعاد ومعه دانيال وغيره من وجوه بني اسرائيل، منهم عزريا وميشائيل ورأس الجالوت، فكان دانيال أكرم النّاس عليه، فحسدهم المجوس وسعوا بهم إلى بخت نصّر، وذكر نحو ما تقدّم من إلقائهم إلى السبع ونزول الملك عليهم ومسخ بخت نصّر ومقامه في الوحش سبع سنين.
وهذا القول وما لم نذكره من الروايات من أنّ بخت نصّر هو الذي خرّب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل عدن قتلهم يحيى بن زكرياء باطل عند أهل السّير والتاريخ وأهل العلم بأمور الماضين، وذلك أنهم أجمعين مجمعون على أنّ بخت نصّر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيّهم شعيا في عهد إرميا بن حلقيا، وبين عهد إرميا وقتل يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستّون سنة عند اليهود والنصارى، ويذكرون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم مبين، وتوافقهم المجوس في مدّة غزو بخت نصّر بني إسرائيل إلى موت الإسكندر، وتخالفهم في مدّة ما بين موت الاسكندر ومولد يحيى، فيزعمون أنّ مدّة ذلك كانت إحدى وخمسين سنة.
وأما ابن اسحاق فإنّه قال: الحقّ أن بني إسرائيل عمروا بيت المقدس بعد مرجعهم من بابل وكثروا ثمّ عادوا يحدثون الأحداث ويعود الله سبحانه عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقاً يكذبّون وفريقاً يقتلون، حتى كان آخر من بعث الله فيهم زكرياء وابنه يحيى وعيسى بن مريم، عليهم السلام، فتلوا يحيى وزكرياء، فابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له جودرس، فسار إليهم حتى دخل عليهم الشام، فلمّا دخل عليهم بيت المقدس قال لقائد عظيم من عسكره اسمه نبوزاذان، وهو صاحب الفيل: إني كنت حلفت لئن أنا ظفرت ببني إسرائيل لأقتلنّهم حتى يسيل دماؤهم في وسط عسكري إلى أن لا أجد من أقتله؛ وأمره أن يدخل المدينة ويقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل نبوزاذان المدينة فأقام في المدينة التي يقربون فيها فربانهم، فوجد فيها دماً يغلي، فقال: يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ فقالوا: هذا دم قربان لنا لم يُقبل فلذلك هو يغلي.
فقال: ما صدقتموني الخبر فقالوا: إنه قد انقطع منّا الملك والنبوة فلذلك لم يقبل منا، فذبح منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلاً من رؤوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبعمائة من علمائهم فذُبحوا على الدم، فلم يهدأ، فلمّا رأى الدّم لا يبرد قال لهم: يا بني إسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربّكم، فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم، قبل أن لا أدع منكم نافخ نار أنثى ولا ذكراً إلا قتلته.
فلمّا رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر وقالوا: هذا دم نبي كان ينهانا عن كثير مما يسخط الله ويخبرنا بخبركم، فلم نصدّقه وقتلناه فهذا دمه، فقال: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكرياء، قال: الآن صدقتموني، لمثل هذا انتقم ربّكم منكم، وخرّ ساجداً وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من ها هنا من جيش جودرس، ففعلوا، وخلا في بني إسرائيل ثمّ قال للدّم: يا يحيى قد علم ربيّ وربّك ما قد أصاب قومك من زجلك وما قُتل منهم، فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى من قومك أحد، فسكن الدمُ، ورفع نبوزاذان القتل، وقال: آمنتُ بما آمنت به بنو إسرائيل وصدّقت به وأيقنت أنّه لا ربّ غيره، ثمّ قال لبني اسرائيل: إنّ جودرس أمرني أن أقتل فيكم حتى تسيل دماؤكم في عسكره، ولست أستطيع أن أعصيه، قالوا: افعل، فأمرهم أن يحفروا حفيرة، وأمر بالخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها حتى كثر الدّم وأجرى عليه ماء، فسال الدّم في العسكر، فأمر الدم بالقتلى الذين كان قتلهم، فألقوا فوق المواشي، فلمّا نظر جودرس إلى الدم قد بغل عسكره أرسل إلى نبوزاذان: أن ارفع القتل عنهم فقد انتقمت منهم بما فعلوا.
وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني اسرائيل، يقول الله تعالى لنبيّه محمد، ﷺ: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً، ثمَّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ وليتبروا ما علوا تتبيراً، عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً) الاسراء: 4 - 8، و: (عسى) وعدٌ من الله حقّ.
وكانت الوقعة الأولى بخت نصّر وجنوده، ثم ردّ الله سبحانه لهم الكرّة، ثم كانت الوقعة الأخيرة جودرس وجنوده، وكانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبْي ذراريهم ونسائهم، يقول الله تعالى: (وليتبِّروا ما علوا تتبيراً).
وزعم بعضُ أهل العلم أنّ قتل يحيى كان أيّام أردشير بن بابك، وقيل: كان قتله قبل رفع المسيح، عليه السلام، بسنة ونصف؛ والله أعلم.
ذكر قتل زكريا
لما قُتل يحيى وسمع أبوه بقتله فرّ هارباً فدخل بستاناً عند بيت المقدس فيه أشجار، فأرسل الملك في طلبه، فمرّ زكرياء بالشجرة، فنادته: هلمّ إليّ يا نبيّ الله فلمّا أتاها انشقّت فدخلها، فانطبقت عليه وبقي في وسطها، فأتى عدوّا الله إبليس فأخذ هدب ردائه فأخرجه من الشجرة ليصدّقوه إذا أخبرهم، ثمّ لقي الطلب فأخبرهم، فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: نلتمس زكرياء، فقال: إنّه سحر هذه الشجرة فانشقت له فدخلها، قالوا: لا نصدّقك قال: فإنّ لي علامة تصدّقوني بها؛ فأراهم طرف ردائه، فزخذوا الفؤوس وقطعوا الشجرة باثنتين وشقّوها بالمنشار، فمات زكرياء فيها، فسلّط الله عليهم أخبث أهل الأرض فانتقم به منهم.
وقيل: إنّ السبب في قتله أنّ إبليس جاء إلى مجالس بني إسرائيل فقذف زكريّاء بمريم وقال لهم: ما أحبلها غيره، وهو الذي كان يدخل عليها، فطلبوه فهرب، وذكر من دخوله الشجرة نحو ما تقدّم.
ذكر ولادة المسيح عليه السلام ونبوته إلى آخر أمره
كانت ولادة المسيح أيّام ملوك الطوائف، قالت المجوس: كان ذلك بعد خمس وستّين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيّين، وقالت النصارى: إنّ ولادته كانت لمضيّ ثلاثمائة وثلاث وستّين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل، وزعموا أنّ مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستّة أشهر، وأنّ مريم، عليها السلام، حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: عشرون، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياماً، وأن مريم عشات بعده ستّ سنين، فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة، وأن يحيى قُتل قبل أن يرفع المسيح، وأتت المسيح النبوّة والرسالة وعمره ثلاثون سنة.
وقد ذكرنا حال مريم في خدمة الكنيسة، وكانت هي وابن عمّها يوسف بن يعقوب بن ماثان النجّار يليان خدمة الكنيسة، وكان يوسف حكيماً نجّاراً يعمل بيديه ويتصدّق بذلك، وقالت النصارى: إنّ مريم كان قد تزوّجها يوسف ابن عمّها إلا أنّه لم يقربها إلاّ بعد رفع المسيح، والله أعلم.
وكانت مريم إذا نفد ماؤها وماء يوسف ابن عمّها أخذ كلّ واحد منهما قُلّته وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثمّ يرجعان إلى الكنيسة، فلمّا كان اليوم الذي لقيها فيه جبرائيل نفد ماؤها فقالت ليوسف ليذهب معها إلى الماء، فقال: عندي من الماء ما يكفيني إلى غد، فأخذت قلّتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت جبرائيل قد مثله الله (لها بشراً سويّاً) مريم: 17، فقال لها: يا مريم إنّ الله قد بعثني إليك (لأهب لك غُلاماً زكيّاً) مريم: 19، (قالت: إني أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّاً) مريم: 18 أي مطيعاً لله، وقيل: هو اسم رجل بعينه، وتحسبه رجلاً، (قال: إنما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً، قالت: أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أك بغيّاً - أي زانية - قال: كذلك قال ربّك)، إلى قوله: (أمراً مقضياً) مريم: 19 - 21.
فلمّا قال ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيب درعها ثمّ انصرف عنها وقد حملت بالمسيح، وملأت قلّتها وعادت، وكان لا يُعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمّها يوسف النجّار، وكان معها، وهو أوّل من أنكر حملها، فلمّا رأى الذي بها استعظمه ولم يدرِ على ماذا يضع ذلك منها، فإذا أراد يتّهمها ذكر صلاحها وأنّها لم تغبْ عنه ساعة قطّ، وإذا أراد يبرئها رأى الذي بها، فلمّا اشتدّ ذلك عليه كلّمها فكان أوّل كلامه لها أن قال لها: إنّه قد وقع من أمرك شيء قد حرصتُ على أن أميته وأكتمه فغلبني، فقالت: قلْ قولاً جميلاً، فقال: حدّثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم، قال: فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه؟ قالت: نعم، قال: فهل يكون ولد بغير ذكر؟ قالت له: نعم، ألم تعلم أنّ الله أنبت الزّرع يوم خلقه بغير بذر ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر وأنّّه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعدما خلق كلّ واحد منهما وحده أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر قال يوسف: لا أقول هكذا ولكنّي أقول إنّ الله يقدر على ما يشاء، إنّما يقول لذلك كن فيكون، قالت له: ألم تعلم أنّ الله خلق آدم وحوّاء من غير ذكر ولا أنثى قال: بلى، فلمّا قالت له ذلك وقع في نفسه أنّ الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له.
وقيل: إنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجاباً من الجدران، فلمّا طهرت إذا برجل معها، وذكر الآيات، فلمّا حملت أتتها خالتُها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلمّا فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكرياء: إني حبلى، فقالت لها مريم: وأنا أيضاً حبلى، قالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك.
وولدت امرأة زكرياء يحيى، وقد اختلف في مدّة حملها، فقيل: تسعة أشهر، وهو قول النصارى، وقيل: ثمانية أشهر، فكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره، وقيل: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة، وهو أشبه بظاهر القرآن العزيز لقوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً) مريم: 22؛ عقبه بالفاء.
فلمّا أحست مريم خرجت الي جانب المحراب الشرقيّ فأتت أقصاه (فاجاءها المخاض إلى جذع النخلة، قالت) وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس - (يا ليتني متّ قبل هذا، وكنت نسياً منسياً)، مريم: 23 يعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين، قالت مريم: كنت إذا خلوت حدّثني عيسى وحدّثته، فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني، (فناداها) جبرائيل (من تحتها) - أي من أسفل الجبل - (ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً) مريم: 24، وهو النهر الصغير، أجراه تحتها، فمن قرأ: من تحتها، بكسر الميم، جعل المنادي جبرائيل، ومن فتحها قال إنّه عيسى، أنطقه الله، (وهزّي إليك بجذع النخلة) مريم: 25، كان جذعاً مقطوعاً فهزّته فإذا هو نخلة، وقيل: كان مقطوعاً فلمّا أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضرّ وأرطب، فقيل لها: (وهزي إليك بجذع النخلة)، فهزّته فتساقط الرطب فقال لها: (فكلي واشربي وقرّي عيناً، فإمّا ترينّ من البشر أحداً فقولي: إني نذرت للرّحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً) مريم: 26، وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي.
فلمّا ولدته ذهب إبليس فأخبر بني إسرائيل أنّ مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون بدعوتها، (فأتت به قومها تحمله) مريم: 27.
وقيل: إنّ يوسف النجّار تركها في مغارة أربعين يوماً ثمّ جاء بها إلى أهلها، فلمّا رأوها قالوا لها: (يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّاً) مريم: 27 - 28 فما بالك أنت؟ وكانت من نسل هارون أخي موسى، كذا قيل.
قلت: إنها ليست من نسل هارون إنما هي من سبط يهوذا بن يعقوب من نسل سليمان بن داود، وإنما كانوا يدعون بالصالحين، وهارون من ولد لاوي بن يعقوب.
قالت لهم ما زمرها الله به، فلمّا أرادوها بعد ذلك على الكلام (أشارت إليه)، فغضبوا وقالوا: لسخريّتها بنا أشدّ علينا من زنائها، (قالوا: كيف نكلّم من كان في المهد صبياً) مريم: 29، فتكلّم عيسى فقال: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصاة والزكاة ما دمت حيّاً) مريم: 30 - 31، فكان أول ما تكلّم به العبودية ليكون أبلغ في الحجة على من يعتقد أنه إله.
وكان قومها قد أخذوا الحجارة ليرجموها، فلما تكلّم ابنها تركوها، ثمّ لم يتكلّم بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان، وقال بنو اسرائيل: ما زحبلها غير زكريّاء فإنّه هو الذي كان يدخل عليها ويخرج من عندها، فطلبوه ليقتلوه، ففرّ منه، ثمّ أدركوه فقتلوه.
وقيل في سبب قتله غير ذلك، وقد تقدّم ذكره.
وقيل: إنّه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها: أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إن ظفروا بك عيّروك وقتلوك وولدك، فاحتملها يوسف النجّار وسار بها إلى أرض مصر، فلمّا وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض، فلمّا وعضت وهي محزونة قيل لها: (لا تحزني)، الآية إلى (إنسيّاً) فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في الشتاء، وأصبحت الأصنام منكوسة على رؤوسها، فوزعت الشياطين فجاؤوا إلى إبليس، فلمّا رأى جماعتهم سألهم فأخبروه، فقال: قد حدث في الأرض حادث، فطار عند ذلك وغاب عنهم فمرّ بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين به، فعلم أنّ الحدث فيه، ولم تمكنه الملائكة من الدنّو من عيسى، فعاد إلى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم: ما ولدت امرأة إلاّ وأنا حاضر، وإنّي لأرجو أن أُضلّ به أكثر ممّن يهتدي.
واحتملته مريم الي أرض مصر فمكثت اثنتي عشرة سنة تكتمه من النّاس، فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها.
قلتُ: والقول الأوّل في ولادته بأرض قومها للقرآن أصحّ لقول الله تعالى: (فأتت به قومها تحمله) مريم: 27، وقوله: (كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً) مريم: 29.
وقيل إن مريم حملت المسيح إلى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجّار، وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى، وقيل: الربوة دمشق، وقيل: بيت المقدس، وقيل غير ذلك، فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني اسرائيل، وكان من الروم، واسمه هيرودس، فإنّ اليهود أغروه بقتله، فساروا إلى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات ذلك الملك، وعادوا إلى الشام، وقيل: إنّ هيرودس لم يرد قتله ولم يسمع به إلاّ بعد رفعه، وإنما خافوا اليهود عليه، والله أعمل.
ذكر نبوّة المسيح وبعض معجزاته
لما كانت مريم بمصر نزلت على دهقان، وكانت داره يزوي إليها الفقراء والمساكين، فسرق له مال، فلم يتهم المساكين، فحزنت مريم، فلمّا رأى عيسى حزن أمّه قال: أتريدين أن أدلّه على ماله؟ قالت: نعم، قال: إنّه أخذه الأعمى والمقعد، اشتركا فيه، حمل الأعمى المقعد فأخذه، فقيل للأعمى ليحمل المقعد، فأظهر العجز، فقال له المسيح: كيف قويت على حمله البارحة لما أخذتما المال؟ فاعترفا وأعاداه.
ونزل بالدهقان أضياف ولم يكن عندهم شراب، فاهتمّ لذلك، فلمّا رآه عيسى دخل بيتاً للدهقان فيه صفّان من جرار فأمرّ عيسى يده على أفواهها وهو يمشي، فامتلأت شراباً، وعمره حينئذٍ اثنتا عشرة سنة.
وكان في الكتّاب يحدّث الصبيان بما يصنع أهلوهم وبما كانوا يأكلون.
قال وهب: بينما عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبّي فضربه برجله فقتله فألقاه بين رجلي المسيح متلطّخاً بالدم، فانطلقوا به إلى الحاكم في ذلك البلد فقالوا: قتل صبيّاً، فسأله الحاكم، فقال: ما قتلته، فأرادوا أن يبطشوا به، فقال: إيتوني بالصبيّ حتى أسأله من قتله، فتعجبوا من قوله وأحضروا عنده القتيل، فدعا الله فأحياه، فقال: من قتلك؟ فقال: قتلني فلان، يعني الذي قتله، فقال بنو إسرائيل للقتيل: من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثمّ مات الغلام من ساعته.
وقال عطاء: سلّمت مريم إلى صبّاغ يتعلّم عنده، فاجتمع عند الصبّاغ ثياب وعرض له حاجة، فقال المسيح: هذه ثياب مختلفة الألوان وقد جعلتُ في كلّ ثوب منها خيطاً على اللّون الذي يُصبغ به فاصبغها حتى أعود من حاجتي هذه، فأخذها المسيحُ وألقاها في حُبّ واحد، فلمّا عاد الصبّاغ سأله عن الثياب فقال: صبغتها، فقال: أين هي؟ قال: في هذا الحُبّ، قال: كلّها؟ قال: نعم، قال: لقد أفسدتها على أصحابها وتغيّظ عليه، فقال له المسيح: لا تعجل وانظر إليها، وقام وأخرجها كلّ ثوب منها على اللّون الذي أراد صاحبه فتعجّب الصبّاغُ منه وعلم أن ذلك من الله تعالى.
ولما عاد عيسى وأمّه إلى الشام نزلا بقرية يقال لها ناصرة، وبها سميت النصارى، فأقام إلى أن بلغ ثلاثين سنة، فأوحى الله إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلى الله تعالى ويداوي المرضى والزمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى، ففعل ما أمر به، وأحبّه الناس، وكثر أتباعه، وعلا ذكره.
وحضر يوماً طعام بعض الملوك كان دعا الناس إليه، فقعد على قصعة يزكل منها ولا تنقص، فقال الملك: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، فنزل الملك عن ملكه وابتعه في نفر من أصحابه فكانوا الحواريّين.
وقيل: إنّ الحواريّين هم الصبّآغ الذي تقدّم ذكره وأصحابٌ له، وقيل: كانوا صيّادين، وقيل: قصّارين، وقيل: ملاّحين، والله أعلم، وكانت عدّتهم اثني عشر رجلاً، وكانوا إذا جاعوا أو عطشوا قالوا: يا روح الله قد جعنا وعطشنا، فيضرب يده إلى الأرض فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين وما يشربون، فقالوا: من أفضل منّا، إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا فقال: أفضل منكم من يأكل من كسب يده، فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة.
ولما أرسله الله أظهر من المعجزات أنهّه صوّر من الطين صورة طائر ثمّ نفخ فيه فيصير طائراً بإذن الله، قيل هو الخفّاش.
وكان غالباً على زمانه الطبّ فأتاهم بما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى تعجيزاً لهم، فممّن أحياه عازر، وكان صديقاً لعيسى، فمرض، فأرسلت أختُه إلى عيسى أنّ عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيّام، فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام، فأتى قبره فدعا له فعاش، وبقي حتى ولد له، وأحيا امرأةً وعاشت وولد لها، وأحيا سام بن نوح، كان يوماً مع الحواريّين يذكر نوحاً والغرق والسفينة فقالوا: لوبعثت لنا من شهد ذلك فأتى تلاً وقال: هذا قبر سام بن نوح، ثمّ دعا الله فعاش، وقال: قد قامت القيامة؟ فقال المسيح: لا ولكن دعوت الله فأحياك، فسألوه فأخبرهم، ثمّ عاد ميتاً، وأحيا عزيراً النبيّ، قال له بنو اسرائيل، احي لنا عزيراً وإلاّ أحرقناك، فدعا الله فعاش، فقالوا: ما تشهد لهذا الرجل؟ قال: أشهد أنه عبد الله ورسوله، وأحيا يحيى بن زكرياء.
ذكر نزول المائدة
وكان من المعجزات العظيمة نزول المائدة. وسبب ذلك: أنّ الحواريين قالوا له: يا عيسى (هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدةً من السماء؟) المائدة: 112 فدعا عيسى فقال: (اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا) المائدة: 114، فأنزل الله المائدة عليها خبز ولحم يأكلون منها ولا تنفد، فقال لهم: إنّها مقيمة ما لم تذخروا منها، فما مضي يومهم حتى اذّخروا، وقيل: أقبلت الملائكة تحمل المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم؛ وقيل: كان عليها منثمار الجنّة، وقيل: كانت تمدّ بكلّ طعام إلاّ اللّحم، وقيل: كانت سمكة فيها طعم كلّ شيء، فلمّا زكلوا منها، وهم خمسة آلاف، وزادت حتى بلغ الطعام ركبهم، قالوا: نشهد أنك رسول الله، ثمّ تفرّقوا فتحدّثوا بذلك، فكذَّب به من لم يشهده، وقالوا: سحر أعينكم، فافتتن بعضهم وكفر، فمسخوا خنازير ليس فيهم امرأة ولا صبيّ، فبقوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا.
وقيل: كانت المائدة سفرة حمراء تحتها غمامة وفوقها غمامة وهم ينظرون إليها تنزل حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمةً ولا تجعلها مُثلة ولا عقوبة واليهود ينطرون إلى شيء لم يروا مثله ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحها، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنّة؟ فقال المسيح: لا من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، إنّما هو شيء خلقه الله بقدرته، فقال لهم: كُلوا مما سألتم، فقالوا له: كل أنت يا روح الله، فقال: معاذ الله أن آكل منها فلم يأكل ولم يأكلوا منها، فدعا المرضى والزمنى والفقراء، فأكلوا منها، وهم ألف وثلاثمائة، فشبعوا، وهي بحالها لم تنقص، فصحّ المرضى والزمنى، واستغنى الفقراء، ثمّ صعدت وهم ينظرون إليها حتى توارت، وندم الحواريّون حيث يأكلوا منها.
وقيل: إنّها نزلت أربعين يوماً، كانت تنزل يوماً وتنقطع يوماً، وأمر الله عيسى أن يعدو إليها الفقراء دون الأغنياء، ففعل ذلك، فاشتدّ على الأغنياء وجحدوا نزولها وشكّوا في ذلك وشكّكوا غيرهم فيها، فأوحى الله إلى عيسى: إنّي شرطت أن أعذّب المكذّبين عذاباً لا أعذّب به أحداً من العالمين، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين رجلاً فأصبحوا خنازير، فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا وبكى عيسى على الممسوخين، فلما أبصرت الخنازير عيسى بكوا وطافوا به وهو يعدوهم بأسمائهم ويشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.
ذكر رفع المسيح إلى السماء ونزوله إلى أمّه وعوده إلى السماء
قيل: إنّ عيسى استقبله ناسٌ من اليهود، فلمّا رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساح الفاعل ابن الفاعلة وقذفوه وأمّه، فسمع ذلك ودعا عليهم، فاستجاب الله دعاءه ومسخهم خنازير، فلمّا رأى ذلك رأى بني إسرائيل فزع وخاف وجمع كلمة اليهود على قتله، فاجتمعوا عليه، فسألوه، فقال: يا معشر اليهود إنّ الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته وثاروا إليه ليقتلوه، فبعث إليه جبرائيل فأدخله في خوخة إلى بيت فيها روزنة في سقفها فرعه إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر رأس اليهود رجلاً من أصحابه اسمه قطيبانوس أن يدخل إليه فيقتله، فدخل فلم ير أحداً، وألقى الله عليه شبه المسيح، فخرج إليم فظنّوه عيسى، فقتلوه وصلبوه.
وقيل: إن عيسى قال لأصحابه: أيّكم يحبّ أن يُلقى عليه شبهي وهو مقتول؟ فقال رجل منهم: زنا يا روح الله، فألقي عليه شبهه، فقتل وصلب. وقيل: إنّ الذي شبّه بعيسى وصلب رجل اسرائيلي اسمه يوشع أيضاً.
وقيل لما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا جزع منالموت فدعا الحواريّين فصنع لم طعاماً فقال: احضروني اللّيلة فإنّ لي إليكم حاجة، فلمّا اجتمعوا عشّاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا أخذ يغسل أيديهم بيده ويمسحها بثيابه، فتعاظموا ذلك وكرهوه، فقال: من يردّ عليّ الليّلة شيئاً مما أصنع فليس مني، فأقرّوه حتى فرغ من ذلك، ثمّ قال: أمّا ما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وأمّا حاجتي التي أستغيثكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخّر أجلي، فلمّا نصبوا أنفسهم للدّعاء أخذهم النومُ حتى ما يستطيعون الدعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة قالوا: والله ما ندري ما لنا، لقد كنّا نسمر فنكثر السمر ومانقدر عليه اللّيلة، وكلّما أردنا الدعاء حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي ويتفرّق الغنم؛ وجعل ينعى نفسه، ثمّ قال: ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديكُ ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلنّ ثمني.
فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه، فزخذوا شمعون، أحد الحواريين، وقالوا: هذا صاحبه.
واختلف العلماء في موته قبل رفعه إلى السماء، فقيل: رُفع ولم يمت، وقيل: توفّاه الله ثلاث ساعات وقيل سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ولما رُفع إلى السماء قال الله له: انزل: فلمّا قالوا لشمعون عن المسيح جحد وقال: ما أنا صاحبه فتركوه، فعلوا ذلك ثلاثاً، فلما سمع صياح الديك بكى وأحزنه ذلك، وأتى أحد الحواريين إلى اليهود فدّلّهم على المسيح وأعطوه ثلاثين درهماً فأتى معهم إلى البيت الذي فيه المسيح، فدخله، فرفع الله المسيح وألقى شبهه على الذي دلهم عليه، فأخذوه وأوثقوه وقادوه وهم يقولون له: أنت كنت تحيي الموتى وتفعل كذا وكذا فهلاّ تنجي نفسك؟ وهو يقول: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يصغوا إلى قوله ووصلوا به إلى الخشبة وصلبوه عليها.
وقيل: إنّ اليهود لما دلّهم عليه الحواريّ اتّبعوه وأخذوه من البيت الذي كان فيه ليصلبوه، فأظلمت الأرض، وأرسل الله ملائكة فحالوا بينهم وبينه، وألقى شبه المسيح على الذي دلّهم عليه، فأخذوه ليصلبوه، فقال: أنا الذي دلّكم عليه، فلم يلفتوا إليه فقتلوه وصلبوه عليها، ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفّاه ثلاث ساعات، وقيل: سبع ساعات، ثمّ أحياه ورفعه، ثمّ قال له: انزل إلى مريم، فإنّه لم يبكِ عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها، فنزل عليها بعد سبعة أيام، فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون، فقال: ما شأنكما تبكيان؟ قالتا: عليك قال: إني رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير، وإنّ هذا شيء شُبّه لهم، وأمرها فجمعت له الحواريّين، فبثّهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به، ثمّ رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النّور وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب، وطار مع الملائكة، فهو معهم، فصار إنسيّاً ملكيّاً أرضيّاً، فتفرّق الحواريّون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبطه الله فيها هي التي تدخن فيها النصارى، وتعدّى اليهود على بقيّة الحواريّين يعذّبونهم ويشتمونهم، فسمع بذلك ملك الروم، واسمه هيرودس، وكانوا تحت يده، وكان صاحب وثن، فقيل: له: إنّ رجلاً كان في بني إسرائيل وكان يفعل الآيات من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين والإخبار عن الغيوب فعدوا عليه فقتلوه، وكان يخبرهم أنّه رسول الله، فقال الملك: ويحكم ما منعكم أن تذكروا هذا من زمره، فوالله لو علمتُ ما خلّيتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيدي اليهود وسألهم عن دين عيسى، فزخبروه، وتابعهم على دينهم واستنزل المصلوب الذي شُبّه لهم فغيّبه، وأخذ الخشبة التي صُلب عليها فأكرمها وصانها، وعدا على بني إسرائيل فقتل منهم قتلى كثيرة، فمن هناك كان أصل النصرانيّة في الروم.
وقيل: كان هذا الملك هيرودس ينوب عن ملك الروم الأعظم الملقّب قيصر، واسمه طيباريوس، وكان هذا أيضاً يسمّى ملكاً، وكان ملك طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، منها إلى ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام.
ذكر من ملك من الروم بعد رفع المسيح إلى عهد نبيّنا محمد ﷺ
زعموا أن ملك الشام جميعه صار بعد طيباريوس إلى ولده جايوس، وكان ملكه أربع سنين، ثمّ ملك بعده ابن له آخر اسمه قلوديوس أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده نيرون الذي قتل بطرس وبولس فصلبهما منكّسين أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بوطلايس أربعة أشهر، ثمّ ملك اسفسيانوس، وهذا الذي وجّه ابنه طيطوس إلى البيت المقدس فهدمه وقتل من بني إسرائيل غضباً للمسيح، ثم ملك ابنه طيطوس، ثمّ ملك أخوه دومطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك بعده نارواس ستّ سنين، ثم ملك من بعده طرايانوس تسع عشرة سنة، ثم ملك بعده هدريانوس إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك من بعده أنطونينوس بن بطيانوس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك مرقوس وأولاده تسع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده قومودوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك من بعده فرطيناجوس ستّة أشهر، ثمّ ملك بعده سيواروش أربع عشرة سنة، ثمّ ملك بعده انطينانوس سبع سنين، ثم ملك من بعده مرقيانوس ستّ سنين، ثمّ ملك من بعده انطينانوس أربع سنين، وفي ملكه مات جالينوس الطبيب، ثمّ ملك الخسندروس ثلاث عشرة سنة، ثم ملك مكسيمانوس ثلاث سنين، ثمّ ملك جورديانوس ستّ سنين، ثمّ فيلفوس سبع سنين، ثم ملك داقيوس ستّ سنين، ثمّ ملك قالوس ستّ سنين، ثمّ ملك والرييانوس وقالينوس خمس عشرة سنة، ثمّ ملك قلوديوس سنة، ثمّ ملك قريطاليوس شهرين، ثمّ ملك أورليانوس خمس سنين، ثمّ ملك طيقطوس ستة أشهر، ثمّ ملك فولورنوس خمسة وعشرين يوماً، ثمّ ملك فروبوس ستّ سنين ثم قوروس وابناه سنتين، ثم ملك دقلطيانوس ستّ سنين، ثم ملك مخسيميانوس عشرين سنة، ثمّ قسطنطين ثلاثين سنة، ثمّ ملك يليانوس سنتين، ثم ملك يويانوس سنة، ثم ملك والنطيانوس وغرطيانوس عشر سنين، ثمّ ملك خرطيانوس ووالنطيانوس الصغير سنة، ثمّ ملك تيداسيس الأكبر سبع عشرة سنة، ثمّ ارقاديوس وانورويوس عشرين سنة، ثمّ ملك تياداسيس الأصغر ووالنطيانوس ستّ عشرة سنة، ثم ملك مرقيانوس سبع سنين، ثم لاو ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك زانون ثماني عشرة سنة، ثمّ ملك انسطاس سبعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينانوس تسع سنين، ثم ملك يوسطينانوس الشيخ عشرين سنة، ثمّ ملك يوسطينس اثنتي عشرة سنة، ثمّ ملك طيباريوس ستّ سنين، ثمّ مريقيش وتاداسيس ابنه عشرين سنة، ثمّ ملك فوقا الذي قتل سبع سنين وستّة أشهر، ثمّ هرقل الذي كتب إليه النبيّ، ﷺ، ثلاث سنين.
فمن لدن عُمر البيت المقدس بعد زن أخربه بخت نصّر إلى الهجرة، علي قولهم، ألف سنة ونيف، ومن ملك الإسكندر رليها تسعمائة ونيف وعشرون سنة، فمن ذلك من وقت ظهوره إلى مولد عيسى، عليه السلام، ثلاثمائة سنة وثلاث سنين، ومن مولده إلى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة، ومن وقت ارتفاعه إلى الهجرة خمسمائة وخسم وثمانون سنة وأشهر.
هذا الذي ذكره أبو جعفر من عدد ملوك الروم، وقد زخلى ذكرهم عن شيء من الحوادث التي كانت في أيّامهم، وقد سطرها غيره من العلماء بالتاريخ وخالفه في كثير منها ووافقه في الباقي مع مخالفة الاسم وضاف إلى أسمائهم ذكر شيء من الحوادث في أيّامهم، وأنا أذكره مختصراً، إن شاء الله.
ذكر ملوك الروم وهم ثلاث طبقات فالطبقة الأولى الصابئون
ذكر غير واحد من علماء التاريخ أن الروم غلبت الوينان، وهم ولد صوفير، والاسرائيليون يدعون أن صوفير، هو الأصفر بن نفر بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم، وكانوا ينزلون رومية قبل غلبتهم على اليونان، وكانوا يدينون قبل النصرانيّة بمذهب الصابئين، ولهم أصنام يعبدونها على عادة الصابئين، فكان أول ملوكهم برومية غاليوس، وكان ملكه ثماني عشرة سنة، وقيل: كان ملك قبله روملس وارمانوس، وهما بنياها، وإليهما نُسبت، وأضيف الروم إليها، وإنما غاليوس أوّل من يعدّ في التاريخ لشهرته، ثمّ ملك بعده يوليوس أربع سنين وأربعة أشهر، ثم ملك أوغسطس، ومعناه الصباء، وهو أوّل من سمي قيصر، وتفسير ذلك أنّه شُقّ عنه بطن أمّه لأنّها ماتت وهي حامل به، فزخرج من بطنها، ثم صار ذلك لقباً لملوكهم، وكان ملكه ستّاً وخمسين سنة وخمسة أشهر، وأكثر المؤرخين يبتدئون باسمه لأنه أول من خرج من رومية وسيّر الجنود براً وبحراً، وغزا اليونانيين، واستولى على ملكهم، وقتل قلوبطرة آخر ملوكهم، واستولى على الاسكندرية ونقل ما فيها إلى رومية، وملك الشام، واضمحلّ ملك اليونانيين، ودخلوا في الروم، واستخلف على البيت المقدس هيرودس بن أنطيقوس؛ ولاثنتين وأربعين سنة من ملكه كانت والدة المسيح، وهو الذي بنى قيصارية.
ثمّ ملك بعده طيباريوس ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي بنى مدينة طبرية، فأضيفت إليه، وعرّبها العرب؛ وفي ملكه رفع المسيح، عليه السلام، وملك بعد رفعه ثلاث سنين.
ثم ملك بعده ابنه غايوس أبرع سنين، وهو الذي قتل اصطفنوس رئيس الشمامسة عند النصارى ويعقوب أخا يوحنّا بن زبدي، وهما من الحواريّين، وقتل خلقاً من النصارى، وهو أوّل الملوك من عبّاد الأصنام قتل النصارى.
ثم ملك قلوديوس بن طيباريوس أربع عشرة سنة، وفي ملكه حبس شمعون الصفا، ثم خلص شمعون من الحبس وسار إلى انطاكية، فدعا إلى النصرانية، ثم سار إلى رومية فدعا أهلها أيضاً، فأجابته زوجة الملك وسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها، وكانت في أيدي اليهود، فأخذتها وردتها إلى النصارى.
ثمّ ملك نيرون ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وفي آخر ملكه قتل بطرس وبولس بمدينة رومية وصلبهما منكّسين، وفي أيّامه ظفرت اليهود بيعقوب بن يوسف، وهو أول الاساقفة بالبيت المقدس، فقتلوه وأخذوا خشبة الصليب فدفنوها، وفي أيّامه كان مارينوس الحكيم صاحب كتاب الجغرافيا في صورة الأرض.
ثمّ ملك بعده غلباس سبعة أشهر؛ ثم ملك أوثون ثلاثة أشهر؛ ثم ملك بيطاليس أحد عشر شهراً، ثمّ ملك اسباسيانوس سبع سنين وسبعة أشهر، وفي أيامه خالف أهل البيت المقدس قيصر فحصرهم وافتتح المدينة عنوةً وقتل كثيراً من زهلها من اليهود والنصارى وعمّهم الأذى في أيّامه. ثمّ ملك بانه طيطوس سنتين وثلاثة أشهر، وفي أيّامه أظهر مرقيون مقالته بالاثنين، وهما: الخير والشرّ، وبعد ثالث بينهما، وإليه تنسب المرقونية؛ وهو من أهل حرّان.
ثمّ ملك ذومطيانش بن اسباسيانوس خمس عشرة سنة وعشرة أشهر، ولتسع سنين من ملكه بمدينة أفسيس، ثمّ ملك إيليا اندريانوس عشرين سنة، وقتل من اليهود والنصارى خلقاً كثيراً لخلاف كان منهم عليه، وأخرب البيت المقدس، وهو آخر خرابه، فلمّا مضى من ملكه ثماني سنين عمره أيضاً وسمّاه إيليا، فبقي الاسم عليه، فكان قبل ذلك يسمّى أورشلم، وأسكن المدينة جماعةً من الروم واليونان، وبنى هيكلاً عظيماً للزّهرة، وكان علاي البنيان، فهدم من أعلاه كثير، وهو باق إلى يومنا هذا، وهو سنة ثلاث وستّمائة، وقد رأيته، وهو محكم البناء، ولا أدري كيف نُسب إلى داود وقد بني بعده بدهر طويل، على أنني سمعت بالبيت المقدّس من جماعة يذكرون أنّ داود بناه وكان يتفرّغ فيه لعبادته.
وفي أيّام هذا الملك كان ساقيدس الفيلسوف الصامت.
ثمّ ملك أنطنينس بيوس اثنتين وعشرين سنة، وفي أيّامه كان بطلميوس صاحب المجسطي والجغرفايا وغيرهما؛ وقيل: إنّه من ولد قلوديوس، ولهذا قيل له القلوديّ نسبة إليه، وهو السادس من ملوك الروم، ودليل كونه في هذا الزمان وليس من ملوك اليونان أنّه ذكر في كتاب المجسطي أنه رصد الشمس بالإسكندرية سنة ثمانمائة وثمانين لبخت نصّر، وكان من ملك بخت نصّر إلى قتل دارا أربعمائة وتسع وعشرون سنة وثلاثمائة وستّة عشر يوماً، ومن قتل دارا إلى زوال ملك قلوبطرة لملكة آخر ملوك اليونان على يد أوغسطس مائتا سنة وستّ وثمانون سنة، ومذ غلبة أوغسطس إلى انطنينوس مائة وسبع وستّون سنة، فمذ ملك بخت نصّر إلى أدريانوس ثمانمائة وثلاث وثمانون سنة تقريباً، وهذا موافق لما حكاه بطلميوس.
قال: ومن زعم أنّ ابن قلوبطرة آخر ملوك اليونانيهين فقد أبطل ذكر هذا بعض العلماء بالتاريخ وعدّ موك اليونان وذكر مدّة ملكهم على ما قال، وأمّا أبو جعفر الطبريّ فإنّه ذكر في مدّة مُلكهم ماذتي سنة وسبعاً وعشرين سنة، على ما تقدّم ذكره.
ثمّ ملك بعده مرقس، ويسمّي أورليوس، تسع عشرة سنة، وفي ملكه أظهر ابنُ ديصان مقالته، وكان أسقفاً بالرّهاء، وهو من القائلين بالاثنين، ونسب إلى نهر على باب الرّهاء يسمى ديصان وجد عليه منبوذاً، وبنى على هذا النهر كنيسة.
ثم ملك فومودوس اثنتي عشرة سنة، وفي أيّامه كان جالينوس قد أردك بطلميوس القلودي، وكان دين النصرانيّة قد ظهر في أيّامه وذكرهم في كتابه في : جوامع كتاب أفلاطون في السياسة.
ثمّ ملك برطينقش ثلاثة أشهر؛ ثمّ ملك يوليانوس شهرين، ثمّ ملك سيوارس سبع شعرة سنة، وشمل اليهود في أيّامه القتل والتشريد، وبنى بالاسكندرية هيكلاً عظيماً سمّاه هيكل الآلهة.
ثمّ ملك انطونيوس ستّ سنين، ثمّ ملك مقرونيوس سنة وشهرين، ثمّ ملك أنطونيوس الثاني زربع سنين، ثمّ ملك الاكصندروس، ويلقّب مامياس، ثلاث عشرة سنة، ثم مل مقسميانوس ثلاث سنين، ثم ملك مقسموس ثلاثة أشهر، ثم ملك غرديانوس ستّ سنين، ثم ملك فيلبوس ستّ سنين، وتنصّر وترك دين الصابئين وتبعه كثيرٌ من زهل مملكته واختلفوا لذلك، وكان فيمن خالفه بطريق يقال له داقيوس، قتل فيلبوس واستولى على الملك، ثم ملك بعد فيلبوس داقيوس ينتين وتتبّع النصارى، فهرب منه أصحاب الكهف إلى غار في جبل شرقيّ مدينة أفسيس، وقد خربت المدينة، وكان لبثهم فيه مائة وخمسين سنة.
وهذا باطل لأنّه علي هذا السياق من حين رفع المسيح إلى الآن نحو مائتي سنة وخمس عشرة سنة، وكان لبث أصحاب الكهف علي ما نطق به القرآن المجيد (ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً) الكهف: 25 فذلك خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة، فعلى هذا يكون ظهورهم قبل الإسلام بنحو ستّين سنة، وقد ذكرنا من لدن ظهورهم إلى الهجرة زيادة على مائتي سنة، فهذه الجملة أكثر من الفترة بين المسيح والنبيّ، عليهما الصلاة والسلام، إلا أنّ هذا الناقل قد ذكر أن غيبتهم كانت ماذة وخمسين سنة على ما نراه مذكوراً، وفيه مخالفة للقرآن، ولولا نصّ القرآن لكان استقام له ما يريد.
ثمّ ملك بعده غاليوس سنتين، وكان شريكه في الملك يوليانوس، ملك خمس عشرة سنة، ثم ملك قلوديوس، ثم ملك ابنه اورليانوس ستّ سنين، ثم ملك طافسطوس وأخوه فورس تسعة أشهر، ثمّ بروبس تسع سنين، ثمّ ملك قاروس سنتين وخمسة أشهر، ثمّ ملك دقلطيانوس سبع عشرة سنة، ثمّ ملك مقسيمانوس وشاركه مقسنطيوس، ثمّ اقتتلا فاقتسما الملك، فملك الأب علي الاشم وبلاد الجزيرة وبعض الروم، وملك الابن رومية وما اتصل بها من أرض الفرنج، وملكا تسع سنين، وتملك معهما قسطنس أبو قسطنطين بلاد بورنطيا وما يليها، وهي نواحي القسطنطينيّة، ولم تكن بنيت حينئذٍ، ثمّ مات قسطنس وملك بعده ابنه قسطنطين المعروف بزمّه هيلاني، وهو الذي تنصّر.
قال: ومن أول ملوك الروم إلى ها هنا كانوا شبيهاً بملوك الطوائُ لا ينضبط عددهم، وقد اختلف الناس فيهم كاختلافهم في ملوك الطوائف، وإنّما الذي يعوَّل عليه من قسطنطين إلى هرقل الذي بعث محمد، ﷺ، في أيامه، ولقد صدق قائل هذا فإنّ فيه من الاختلاف والتناقض ما ذكرنا بعضه عند ذكر دقيوس وأصحاب الكهف، ولهذه العلّة لم يذكر الطبريّ أصحاب الكهف في زمان أيّ الملوك كانوا، وإنّما ذكرناه نحن لما في أيّام الملوك من الحوادث.
الطبقة الثانية من ملوك الروم المتنصّرة
ثم ملك قسطنطين المعروف بزمّه هيلانى في جميع بلاد الروم، وجرى بينهوبين مقسيمانوس وابنه حروب كثيرة، فلمّا ماتا استولى على الملك وتفرّد به، وكان ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، وهو الذي تنصّر من مولك الروم وقاتل عليها حتى قبلها النّاس ودانوا بها إلى هذا الوقت.
وقد اختلفوا في سبب تنصّره، فقيل: إنّه كان به برص وأرادوا نزعه فأشار عليه بعض وزرائه ممن كان يكتم النصرانيّة بإحداث دين يقاتل عليه ثمّ حسن له النصرانيّة ليساعده من دان به، ففعل ذلك، فتبعه النصارى من الروم مع أصحابه وخاصّته، فقوي بهم وقفهر من خالفه، وقيل: إنّه سيّر عساكر على أسماء أصنامهم، فانهزمت العساكر، وكان لهم سبعة أصنام على أسماء الكواكب السبعة، على عادة الصابئين، فقال له وزير له يكتم النصرانيّة في هذا وأزرى بالأصنام وأشار عليه بالنصرانيّة، فأجابه، فظفر، ودام ملكه؛ وقيل غير ذلك.
ولعشرين سنة مضت من ملكه كان السنهودس الأول بمدينة نيقية من بلاد الروم، ومعناه الاجتماع، فيه ألفان وثمانية وأربعون أسقفاً فاختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً متّفقين غير مختلفين، فحرموا آريوس الإسكندراني الذي يضاف إليه الآريوسيّة من النصارى، ووضع شرائع النصرانيّة عبد أن لم تكن، وكان رئيس هذا المجمع بطرق الإسكندرية.
وفي السنة السابعة من ملكه سارت أمّه هيلانى الرُّهاوية، كان أبوه سباها من الرُّهاء، فأولدها هذا الملك، فسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أنّ المسيح صلب عليها؛ وجعلت ذلك اليوم عيداً، فهو عيد الصليب، وبنت الكنيسة المعروفة بقمامة، وتسمّى القيامة، وهي الي وقتنا هذا يحجّها أنواع النصارى، وقيل: كان مسيرها بعد ذلك لأن ابنها دان بالنصرانية في قول بعضهم بعد عشرين سنة من ملكه، وفي النسة الحادية والعشرين من ملكه طبق جميع ممالكه بالبيع هو وأمّه، منها: كنيسة حمص، وكنيسة الرّهاء، وهي من العجائب.
ثم ملك بعده قسطنطين أنطاكية أربعاً وعشرين سنة بعهد من أبيه إليه وسلّم إليه القسطنطينيّة، والى أخيه قسطنس أنطاكية والشام ومصر والجزيرة، والى أخيه قسطوس رومية وما يليها من بلاد الفرنج والصقالبة، وأخذ عليهما المواثيق بالانقياد لأخيهما قسطنطين.
ثمّ ملك بعده يوليانوس ابن أخيه سنتين، وكان يدين بمذهب الصابئين ويخفي ذلك، فلمّا ملك أظهرها وخرهب البيع وقتل النصارى، وهو الذي سار إلى العراق أيّام سابور بن أردشير فقتل بسهم غرب؛ وقد ذكر أبو جعفر خبر هذا الملك مع سابور ذي الأكتاف وهو بعد سابور بن أردشير.
ثمّ ملك بعده يونيانوس سنة فأظهر دين النصرانيّة ودان بها وعاد عن العراق.
ثمّ ملك بعده ولنطيوش اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر، ثم ملك والنس ثلاث سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك والنطيانوس ثلاث سنين، ثمّ ملك تدوس الكبير، ومعناه عطيّة الله، تسع عشرة سنة، وفي ملكه كان السنهودس الثاني بمدينة القسطنطينيّة، اجتمع فيه مائة وخمسون أسقفاً لعنوا مقدونس وأشياعه، وكان فيه بطرق الإسكندرية وبطرق انطاكية وبطرق البيت المقدس، والمدن التي يكون فيها كراسي البطرق أربع: إحداها رومية، وهي لبطرس الحواريّ، والثانية الإسكندريّة، وهي لمرقس أحد أصحاب الأناجيل الأربعة، والثالثة القسطنطينية، والرابعة انطاكية، وهي لبطرس أيضاً، ولثماني سنين من ملكه ظهر أصحاب الكهف.
ثمّ ملك بعده أرقاديوس بن تدوس ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك تدوس الصغير بن تدوس الكبير اثنتين وأربعين سنة، ولإحدي وعشرين سنة من ملكه كان السنهودس الثالث بمدينة أفسس، وحضر هذا المجمع مائتا أسقف، وكان سببه ما ظهر من نسطورس بطرق القسطنطينيّة، وهو رأس النسطورية من النصارى، من مخالفة مذهبهم، فلعنوه ونفوه، فسار إلى صعيد مصر فأقام ببلاد إخميم ومات بقرية يقال لها سيصلح، وكثر أتباعه، وصار بسبب ذلك بينهم وبين مخالفيهم حرب وقتال، ثمّ دثرت مقالته إلى أن أحياها برصوما مطران نصيبين قديماً.
ومن العجائب أن الشهرستاني مصنّف كتاب: نهاية الاقدام في الأصول، ومصنّف كتاب: الملل والنحل، في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة، ذكر فيه أنّ نسطور كان أيّام المأمون، وهذا تفرّد به، ولا أعلم له في ذلك موافقاً.
ثمّ ملك بعده مرقيان ستّ سنين، وفي أوّل سنة من ملكه كان السنهودس الرابع على قسقرس برطق القسطنطينية، اجتمع فيه ثلاثمائة وثلاثون أسقفاً، وفي هذا المجمع خالفت اليعقوبية سائر النصارى.
ثمّ ملك ليون الكبير ستّ عشرة سنة، ثمّ ملك ليون الصغير سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، ثمّ ملك زينون سبع سنين، وكان يعقوبياً، فزهد في الملك فاستخلف ابناً له، فهلك، فعاد إلى الملك، ثمّ ملك نسطاس سبعاً وعشرين سنة، وكان يعقوبيّ المذهب، وهو الذي بنى عمّورية، فلمّا حفر أساسها أصاب فيه مالاً وفي بالنفقة على بنائها وفضل منه شيء بنى به بيعاً وأديرة.
ثم ملك يوسطين سبع سنين، واكثر القتل في اليعقوبية.
ثمّ ملك يوسطانوس تسعاً وعشرين سنة، وبنى بالرّهاء كنيسة عجيبة، وفي أيّامه كان السنهودس الخامس بالقسطنطينية، فحرموا أدريحا أسقف منبج لقوله بتناسخ الأرواح في أجساد الحيوان، وإنّ الله يفعل ذلك جزاء لما ارتكبوه، وفي أيّامه كان بين اليعاقبة والملكيّة ببلاد مصر فتن؛ وفي أيّامه ثار اليهود بالبيت المقدس وجبل الخليل على النصارى فقتلوا منهم خلقاً كثيراً؛ وبنى الملك من البيع والأديرة شيئاً كثيراً؛ ثم ملك يوسطينوس ثلاث عشرة سنة وفي أيامه كان كسرى أنوشروان؛ ثمّ ملك طباريوس ثلاث سنين وثمانية أشهر، وكان بينه وبين أنوشروان مراسلات ومهاداة، وكان مغرىً بالبناء وتحسينه وتزويقه.
ثمّ ملك موريق عشرين سنة وأربعة أشهر، وفي أيّامه ظهر رجل من زهل مدينة حماه يُعرف بمارون إليه تنسب المارونيّة من النصارى، وأحدث رأياً يخالف من تقدّمه، وتبعه خلقٌ كثير بالشام، ثمّ إنهم انقرضوا ولم يعرف الآن منهم أحد.
وهذا موريق هو الذي قصده كسرى أبرويز حين انهزم من بهرام جوبين فزوّجه ابنته وأمدّه بعساكره وأعاده إلى ملكه، على ما نذكره إن شاء الله. ثمّ ملك بعده فوقاس، وكان من بطارقة موريق، فوثب به فاغتاله فقتله وملك الروم بعده، وكان ملكه ثماني سنين وأربعة أشهر، ولما ملك تتبّع ولد موريق وحاشيته بالقتل، فلمّا بلغ ذلك أبرويز غضب وسيّر الجنود إلى الشام ومصر فاحتوى عليهما وقتلوا من النصارى خلقاً كثيراً، وسيرد ذلك عند ذكر أبرويز.
ثمّ ملك هرقل، وكان سبب ملكه أن عساكر الفرس لما فتكت في الروم ساروا حتى نزلوا على خليج القسطنطينية وحصروها، وكان هرقل يحمل الميرة في البحر إلى أهلها، فحسن موقع ذكل من الروم وبانت شهامته وشجاعته وأحبّ الروم فحملهم على الفتك بفوقاس وذكرهم سوء آثاره، ففعلوا ذلك وقتلوه وملّكوا عليهم هرقل.
ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرة
فأولهم هرقل، قد ذكر سبب ملكه، وكان مدّة ملكه خمساً وعشرين سنة، وقيل: إحدي وثلاثين سنة؛ وفي أيّامه كان النبيّ، ﷺ، ومنه ملك المسلمون الشام.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين، وقيل: هو ابن أخيه قسطنطين، وكان ملكه تسع سنين وستّة أشهر، وسيرد خبره عند ذكر غزاة الصواري، إن شاء الله. وفي أيّامه كان السنهودس السادس على لعن رجل يقال له قورس الإسكندري خالف الملكية ووافق المارونية.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطا خمس عشرة سنة في خلافة عليّ، عليه السلام، ومعاوية، ثمّ ملك هرقل الأصغر بن قسطنطين أربع سنين وثلاثة أشهر، ثمّ ملك قسطنطين بن قسطا ثلاث عشرة سنة بعض أيّام معاوية وأيّام يزيد وبانه معاوية ومروان بن الحكم وصدراً من أيّام عبد الملك، ثمّ ملك أسطنان، المعروف بالأخرم، تسع سنين أيّام عبد الملك، ثمّ خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر، فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده، فانتقل إلى ملك برجان؛ ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيّام عبد الملك، ثمّ ترك الملك وترّهب؛ ثم ملك ابسمير، المعروف بالطرسوسي، سبع سنين، فقصده أسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به أسطنان وخلعه وعاد إلى ملكه، فكان ذلك أيّام الوليد بن عبد الملك، واستقرّ أسطينان، وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجاً كل سنة، فعسف الروم وقتل بها خلقاً كثيراً، فاجتمعوا عليه وقتلوه، فكان ملكه الثاني سنتين ونصفاً، وكان قتله أول دولة سليمان بن عبد الملك؛ ثم ملك نسطاس بن فيلفوس، وكان في أيّامه اختلاف بين الروم فخلعوه ونفوه.
ثمّ ملك تيدوس المعروف بالأرمنيّ في أيّام سليمان بن عبد الملك أيضاً، وهو الذي حصره مسلمة بن عبد الملك؛ ثمّ ملك بعده اليون بن قسطنطين لضعفه عن الملك، وضمن أليون للروم ردّ المسلمين عن القسطنطينية، فملّكوه، فكان ملكه ستاً وعشرين سنة، ومات في السنة التي بويع فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ثمّ ملك بعده ابنه قسطنطين إحدى وعشرين سنة، وفي أيّامه انقرضت الدولة الزموية، وتوفي لعشر سنين مضت من أيام المنصور، ثم ملك بعده ابنه اليون تسع عشرة سنة وأربعة أشهر بقيّة أيّام المنصور، وتوفي في خلافة المهدي، ثمّ ملك بعده ريني امرأة اليون بن قسطنطين، ومعها ابنها قسطنطين بن اليون، وهي تدبّر الزمر بقية أيام المهديّ والهادي وصدراً من خلافة الرشيد، فلما كبر ابنها أفسد ما بينه وبين الرشيد، وكانت أمّه مهادنة له، فقصده الرشيد وجرى له معه وقعة، فانهزم وكاد يؤخذ، فكحلته أمّه وانفردت بالملك بعده خمس سنين وهادنت الرشيد.
ثمّ ملك بعدها نقفور، أخذ الملك منها، وكان ملكه سبع سنين وثلاثة أشهر، وهو نقفور أبو استبراق، وكنت قد رأيته مضبوطاً بكثير من الكتب بسكون القاف، حتى رأيت رجلاً زعم أن اسمه نقفور، بفتح القاف.
وعهد نقفور إلى ابنه استبراق بالملك بعده، وهو أول من فعل ذلك في الروم، ولم يكن يعرف قبله، وكانت ملوك الروم قبل نقفور تحلق لحاها، وكذلك ملوك الفرس، فلم يفعله نقفور، وكانت ملوك الروم قبله تكتب: من فلان ملك النصرانيّة، فكتب نقفور: من فلان ملك الروم، وقال: لست ملك النصرانيّة كلها، وكانت الروم تسمّي العرب سارقيوس، يعني: عبيد سارة، بسبب هاجر أم اسماعيل، فنهاهم عن ذلك وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة ثالث وتسعين ومائة فقتل فيها.
ثمّ ملك بعده ابنه استبراق بعهد من أبيه إليه، وكان ملكه شهرين، ثمّ ملك بعده ميخائيل بن جرجس، وهو ابن عمّ نقفور، وقيل: ابن استبراق، وكان ملكه سنتين في أيّام الأمين، وقيل أكثر من ذلك، فوثب به اليون المعروف بالبطريق وغلب على الأمر وحبسه، ثم ملك بعده اليون البطريق سبع سنين وثلاثة أشهر، فوثب به أصحابُ ميخائيل في خلاص صاحبهم وقتل اليون ثم فتح لم ذلك وعاد ميخائيل إلى الملك، وقيل: إنه كان قد ترهب أيام اليون، وكان لمكه هذه الدفعة الثانية تسع سنين، وقيل أكثر من ذلك.
ثمّ ملك بعده ابنه توفيل بن ميخائيل أربع عشرة سنة، وهو الذي فتح زبطرة، وسار المعتصم بسبب ذلك وفتح عمّورية، وكان موته أيّام الواثق. ثمّ ملك بعده ابنه ميخائيل ثمانياً وعشرين سنة، وكانت أمّه تدبر الملك معه، وزراد قتلها فترهبت، وخرج عليه رجل من أهل عمّورية من أبناء الملوك السالفة يعرف بابن بقراط، فلقيه ميخائيل فيمن عنده من أسارى المسلمين، فظفر به ميخائيل فمثل به، ثمّ خرج عليه بسيل الصقلبي فاستولى على الملك وقتل ميخائيل سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
ثمّ ملك بعده بسيل الصقلبيّ عشرين سنة أيّام المعتزّ والمهتدي وصدراً من أيام المعتمد، وكانت أمّه صقلبية فنسب إليها.
وقد غلط حمزة الأصفهاني فيه فقال عند ذكر ميخائيل: ثم انتقل الملك عن الروم وصار في الصقلب فقتله بسيل الصقلبيّ ظناً منه أنّ أباه كان صقلبياً. ثمّ ملك بعده ابنه اليون بن بسيل ستاً وعشرين سنة أيّام المعتمد والمعتضد والمكتفي وصدراً من أيّام المقتدر، وقيل: إنّ وفاته كانت سنة سبع وتسعين ومائتين.
ثمّ ملك أخوه الأسكندروس سنة وشهرين ومات بالدبيلة، وقيل: إنه اغتيل لسوء سيرته، ثم ملك بعده قسطنطين بن اليون، وهو صبيّ، وتولى الأمر له بطريق البحر، واسمه ارمانوس، وشرط على نفسه شروطاً، منها أنه لا يطلب الملك ولا يلبس التاج لا هو ولا زحد من أولاده، فلم يمض غير سنتين حتى خوطب هو وأولاده بالملوك وجلس مع قسطنطين على السرير، وكان له ثلاثة من الولد، فخصى أحدهم وجعله بطرقاً ليأمن من المنازعة، فإنّ البطرق يحكم على الملك، فبقي على حاله إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة، فاتفق ابناه مع قسطنطين الملك على إزالة أبيهما، فدخلا عليه وقبضاه وسيّراه إلى دير له في جزيرة بالقرب من القسطنطينية، وأقام ولداه مع قسطنطين نحو أربعين يوماً وأرادا الفتك به، فسبقهما إلى ذلك وقبض عليهما وسيرهما إلى جزيرتين في البحر، فوثب أحدهما بالموكّل به فقتله، وأخذه أهل تلك الجزيرة فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى قسطنطين الملك، فجزع لقتله.
وأمّا ارمانوس فإنه مات بعد أربع سنين من ترهبّه، ودام ملك قسطنطين بقيّة أيّام المقتدر والقاهر والراضي والمستكفي وبعض أيّام المطيع، ثمّ خرج على قسطنطين هذا قسطنطين بن أندرونقس، وكان أبوه قد توجّه إلى المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين وأسلم على يده وتوفّي، فهرب ابنه هذا علي طريق أرمينية وأذربيجان إلى بلاد الروم، فاجمع عليه خلق كثير وكثر أبتاعه، فسار إلى القسطنطينية ونازع الملك قسطنطين في ملكه، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، فظفر به الملك فقتله.
وخرج عن طاعته أيضاً صاحب رومية، وهي كرسيّ ملك الإفرنج، وتسمى بالملك، ولبس ثياب الملوك، وكانوا قبل ذلك يطيعون ملوك الروم أصحاب القسطنطينية ويصدرون عن أمرهم، فلمّا كان سنة أربعين وثلاثمائة قوي ملك رومية، فخرج عن طاعته، فأرسل إليه قسنطين العساكر يقاتلونه ومن معه من الفرنج، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الروم وعادت إلى القسطنطينية منكوبة، فكفّ حينئذٍ قسطنطين عن معارضته ورضي بالمسالمة وجرى بينهما مصاهرة، فزوّج قسنطين ابنه أرمانوس بابنة ملك رومية، ولم يزل أمر الإفرنج بعد هذا يقوى ويزداد ويتسع ملكهم كالاستيلاء على بعض بلاد الأندلس، على ما نذكره، وكأخذهم جزيرة صقلية وبلاد ساحل الشام والبيت المقدس، وعلى ما نذكره، وفي آخر الأمر ملكوا القسطنطينيّة سنة إحدي وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله.
ومما ينبغي أن يلحق بهاذ أنّ الطوائف من الترك اجتمعت، منهم: البجناك والبختي وغيرهما، وقصدوا مدينة للروم قديمة تسمى وليدر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحصروها، فبلغ خبرهم إلى أرمانوس، فسيّر إليهم عسكراً كثيفاً فيهم من المتنصّرة اثنا عشر ألفاً، فاتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم، واستولى الترك على المدينة وخرّبوها بعد أن أكثروا القتل فيها والسبي والنهب، ثمّ ساروا إلى القسطنطينية وحصروها أربعين يوماً وأغاروا على بلاد الروم واتّصلت غاراتهم إلى بلاد الإفرنج، ثمّ عادوا راجعين.
ذكر وصول قبائل العرب إلى العراق ونزولهم الحيرة
قال ابن الكلبيّ: لما مات بخت نصّرانضمّ الذين أسكنهم الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار وبقيت الحيرة خراباً دهراً طويلاً وأهلها بالأنبار لا يطلع عليهم قادم من العرب، فلمّا كثر أولد معدّ بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب ومزّقتهم الحروب خرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من اليمن ومشارف الشام، وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد، وكان الذين أقبلوا من تهامة مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة، ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم، والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيص بن معدّ بن عدنان في قبيص كلّها، ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى بن دُعمي بن إياد بن نزار بن معدّ بن عدنان وغيره من إياد، فاجتمع بالبحرين قبائل من العرب وتحالفوا على التنُّوخ، وهو المقام، وتعاقدوا علي التناصر والتساعد، فصاروا يداً واحدةً وضمّهم اسم تنوخ، وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم، ودعا مالك بن زهير جديمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي إلى التنوخ معه وزوجه أخته لميس، فتنخ جديمة، وكان اجتماعهم أيام ملوك الطوائف، وإنما سمّوا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه على طائفة قليلة من الأرض.
قال: ثم تطلّعت أنفس من كان بالبحرين إلى ريف العراق فطمعوا في أن يغلبوا الأعاجم في ما يلي بلاد العرب منه أو مشاركتهم فيه لاختلاف بين ملوك الطوائف، فأجمعوا علي المسير إلى العراق، فكان أول من يطلع منهم الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين، وهم الذين ملكوا أرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل، يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، وهو ما بين نفر، وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلّة، فدفعوهم عن بلادهم، والأرمانيّون من بقايا إرم فلهذا سمّوا الأرمانيين، وهم نبط السواد.
ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهما من تنوخ إلى الأنبار على ملك الأرمانيين، وطلع نمارة ومن معه إلى نفّر على ملك الأردوانيين، وكانوا لاي دينون للأعاجم حتى قدمها تُبّع وهو أسعد أبو كرب بن ملكيكرب في جيوشه، فخلف بها من لم يكن فيه قوّة من عسكره، وسار تُبّع ثم رجع إليهم فأقرّهم على حالهم، ورجع إلى اليمن وفيهم من كلّ القبائل، ونزلت تنوخ من الأنبار إلى الحيرة في الأخبية لا يسكنون بيوت المدر، وكان أول من ملك منهم مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن غانم بن دوس الأزديّ، ثمّ مات فملك بعده جديمة الأبرش بن مالك بن فهم، وقيل: إنّ جذيمة من العاربة الأولى من بني دمار بن أميم بن لوذ بن سام بن نوح، عليه السلام؛ والله أعلم.
ذكر جذيمة الأبرش
قال: وان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدّهم نكاية، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضمّ إليه العرب، وغزا بالجيوش، وكان به برص فكنت العرب عنه، فقيل: الوضّاح، والأبرش، إعظاماً له، وكانت منازله ما بين الحيرة والأنبار وبقّة وهيت وعين التّمر وأطراف البّر إلى العمير وخفية، تجبى إليه الأموال، وتفد إليه الوفود، وكان غزا طسماً وجديساً في منازلهم من اليمامة، فأصاب حسّان بن تبّع أسعد أبي كرب قد زغار عليهم فعاد بمن معه، وأصاب حسّان سريّة لجذيمة فاجتاحها، وكان له صنمان يقال لهما الضيزنان، وكانت إياد بعين أباغ، فذكر لجذيمة غلام من لخم في أخواله من إياد يقال له عديّ بن نصر بن ربيعة له جمال وظرف، فغزاهم جذيمة، فبعثت إياد من سرق صنميه وحملها إلى إياد، فأرسلت إليه: إن صنميك أصبحا فينا زهداً فيك ورغبة فينا، فإن أوثقت لنا أن لا تغزونا دفعناهما رليك، قال: وتدفعون معهما عديّ بن نصر، فزجابوه إلى ذلك وأرسلوه مع الصنمين، فضمه إلى نفسه وولاه شرابه.
فأبصرته رقاض أخت جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها إلى جذيمة، فقال: لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه، قالت: إذا جلس على شرابه فاسقه صرفاً واسق القوم ممزوجاً، فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردّك، فإذا زوّجك فأشهد القوم.
ففعل عديّ ما أمرته، فزجابه جذيمة وأملكه إيّاها، فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق، فقال له جذيمة، وأنكر ما رأى به: ما هذه الآثار يا عديّ؟ قال: اثار العرس، قال: أيّ عسر؟ قال: عرس رقاش، قال: من زوّجكها ويحك قال: الملك، فندم جذيمة وأكبّ على الأرض متفكّراً، وهرب عدّي، فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر، فأرسل إليها جذيمة:
خبّريني وأنت لا تكذبيني.......أبحرّ زنيت أن بهجـين
أم بعبد فأنت أهل لعبـد.......أم بدون فأنت أهل لدون
فقالت: لا بل أنت زوّجتني أمرأً عربياً حسيباً ولم تستأمرني في نفسي، فكفّ عنها وعذرها، ورجع عديّ إلى إياد فكان فيهم، فخرج يوماً مع فتية متصيدين، فرمى به فتى منهم في ما بن جبلين، فتنكس فمات.
فحملت رقاش فولدت غلاماً فسمته عمراً، فلمّا ترعرع وشبّ ألبسته وعطّرته وأزارته خاله، فلمّا رآه أحبّه وجلعه مع ولده، وخرج جذيمة متبديّاً بأهله وولده في سنة خصيبة، فأقام في روضة ذات زهر وغدر، فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة، فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون، وعمرو يقول:
هذا جناي وخياره فـيه.......إذ كل جان يده في فيه
فضمّه جذيمة إليه والتزمه وسرّ بقوله وفعله، وأمر فجعل له حلى من فضّة وطوق، فكان أوهل عربيّ ألبس طوقاً.
فبينا هو على أحسن حالة إذ استطارته الجنّ، فطلبه جذيمة في الآفاق زماناً فلم يقدر عليه، ثمّ أقبل رجلان من بلقين قضاعة يقال لهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك من الشام يريدان جذيمة، وأهديا له طرفاً، فنزلا منزلاً ومعهما قينة لهما تسمى أم عمرو، فقدّمت طعاماً، فبينما هما يزكلان إذا أقبل فتى عريان قد تلبّد شعره وطالت أظفاره وساءت حاله فجلس ناحيةً عنهما ومدّ يده يطلب الطعام، فناولته القينة كراعاً، فزكلها، ثمّ مدّ يده ثانية، فقالت: لا تعط العبد كراعاً فيطمع في الذراع فذهبت مثلاً، ثمّ سقتهما من شراب معها وأوكت زقّها، فقال عمرو بن عدي:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو.......وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شرّ الثلاثة أمَّ عمـرو.......بصاحبك الذي لا تصبحينـا
فسألاه عن نفه، قال: إن تنكراني أو تنكرا نسبي، فإنني أنا عمرو بن عدي، بن تنوخيّة، اللخمي، وغداً ما ترياني في نمارة غير معصي. فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثياباً وقالا: ما كنّا لنهدي لجذيمة أنفس من ابن أخته فخرجا به إلى جذيمة، فسُرّ به سروراً شديداً وقال: لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق، فما ذهب من عيني وقلبي إلى الساعة، وأعادوا عليه الطوق، فنظر إليه وقال: شبّ عمرو عن الطوق، وأرسلها مثلاً، وقال لمالك وعقيل: حكمكما، قالا: حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت؛ فهما ندمانا جذيمة اللذان يضربان مثلاً.
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسّان بن أذينة العمليقيّ من عاملة العمالقة، فتحارب هو وجذيمة، فقتل عمرو وانهزمت عساكره، وعاد جذيمة سالماً، وملكت بعد عمرو ابنته الزّبّاء، واسمها نائلة، وكان جنود الزبّاء بقايا العماليق وغيرهم، وكان لها من الفرات إلى تدمر، فلمّا استجمع لها أمرها واستحكم ملكها اجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها، فقالت لها زختها ربيبة، وكانت عاقلة: إن غزوت جذيمة فإنّما هو يوم له ما بعده والحرب سجال، وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة، فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلاّ قبحاً في السماع وضعفاً في السلطان، وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفواً غيره.
فلمّا انتهى كتاب الزبّاء إليه استخفّ ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته، وهو ببقّة من شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم؛ فأجمع رأيهم علي أن يسير إليها ويستولي على ملكها.
وكان فيهم رجلٌ يقال له قصير بن سعد من لخم، وكان سعد تزوّج أمة لجذيمة فولدت له قصيراً، وكان أديباً حازماً ناصحاً لجذيمة قريباً منه، فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر؛ فذهبت مثلاً؛ وقال لجذيمة: اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها.
فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير وقال له: لا ولكنّك امرؤ رأيك في الكِنّ لا في الضحّ؛ فذهبت مثلاً.
ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عديّ فاستشاره، فشجعه على المسير وقال: إنّ نمارة قومي مع الزبّاء فلو رأوك صاروا معك، فأطاعه.
فقال قصير: لا يُطاع لقصير أمر، وقالت العرب: ببقّة أُبرم الأمر؛ فذهبتا مثلاً.
واستخلف جذيمة عمرو بن عديّ على ملكه، وعمرو بن عبد الجنّ على خيوله معه، وسار في وجوه أصحابه، فلمّا نزل الفرضة قال لقصير: ما الرأي؟ قال: ببقّة تركت الرأي؛ فذهبت مثلاً.
واستقبله رسل الزبّاء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطرٌ يسير، وخطب كبير؛ فذهبت مثلاً؛ وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فإنهّ المرأة صادقة، وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإنّ القوم غادرون، فاركب العصا، وكانت فرساً لجذيمة لا تُجارى، فإني راكبها ومساريك عليها. فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر اليه جذيمة مولياً على متنها، فقال: ويل أمّه حزماً على متن العصا فذهبت مثلاً، وقال: ما ضلّ من تجري به العصا؛ فذهبت مثلاً؛ وجرت به إلى غروب الشمس، ثمّ نفقت وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له برج العصا، وقالت العرب: خيرٌ ما جاءت به العصا؛ مثل تضربه.
وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزبّاء، فلمّا رأته تكشّفت، فإذا هي مضفورة الاسب بالباء الموحدة هو شعر الاست، وقالت له: يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلاً، فقال: بلغ المدى، وجفّ الثرى، وأمر غدر أرى؛ فذهبت مثلاً، فقالت له: أما وإلهي ما بنا من عدم مواس، ولا قلّة أواس، ولكنها شيمة من أناس؛ فذهبت مثلاً، وقالت له: أنبئت أنّ دماء الملوك شفاء من الكلب، ثمّ أجلسته على نطع وأمرت بطست من ذهب، فزعدّ له، وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها ثمّ زمرت براهشيه فقطعا، وقدّمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلاّ في قتال تكرمةً للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة: دعوا دماً ضيّعه أهله فذهبت مثلاً.
فهلك جذيمة وخرج قصير من الحيّ الذين هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عديّ ، وهو بالحيرة، فوجده قد اختلف هو وعمرو بن عبد الجنّ فأصلح بينهما، وأطاع الناس عمرو بن عديّ، وقال له قصير: تهيّأ واستعدّ ولا تطلَّ دم خالك، فقال: كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلاً. وكانت الزبّاء سألت كهنةً عن أمرها وهلاكها، فقالوا لها: نرى هلاكك بسبب عمرو بن عديّ، ولكنّ حتفك بيدك، فحذرت عمراً واتخذت نفقاً من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها، ثمّ قالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني، ودعت رجلاً مصوّراً حاذقاً فأرسلته إلي عمرو بن عديّ متنكرّاً وقالت له: صوّره جالساً وقائماً ومتفضّلاً متنكرّاً ومتسلحاً بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إليّ، ففعل المصوّر ما أوصته الزباء وعاد إليها، وأرادت أن تعرف عمروبن عديّ فلا تراه على حال إلاّ عرفته وحذرته.
وقال قصير لعمرو: اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، فقال قصير: خلّ عني إذاً وخلاك ذمّ؛ فذهبت مثلاً، فقال عمرو: فأنت أبصرُ، فجدع قصيرٌ زنفه ودقّ بظهره وخرج كزنه هارب وأظهر أنّ عمراً فعل ذلك به، وسار حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إنّ قصيراً بالباب؛ فأمرت به أفدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب، فقالت: لأمر ما جدع قصير أنفه؛ فذهبت مثلاً، قالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني غدرت خاله وزيّنت له المسير إليك ومالأتكِ عليه ففعل بي ما ترين فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك، فأكرمته، وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك.
فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به، قال لها: إنّ لي بالعراق أموالاً كثيرة، ولي بها طرائف وعطر، فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليكِ من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحاً وبعض ما لا غناء للملوك عنه، فسرّحته ودفعت إليه أموالاً وجهّزت معه عيراً، فسار حتى قدم العراق وأتى عمرو بن عديّ متخفياً وأخبره الخبر وقال: جهزني بالبزّ والطّرف وغير ذلك لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك كله إلي الزباء فعرضه عليها، فأعجبها وسرها وازدادات به ثقة، ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مماجهزته به في المرة الزولى، فسار حتى قدم العراق وحمل من عند عمرو حاجته ولم يدع طرفةً ولا متاعاً قدر عليه، ثم عاد الثالثة فأخبر عمراً الخبر وقال: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيّد لهم الغرائز، وهو أوّل من عملها، واحمل كلّ رجلين على بعير في غرارتين واجعل معقد رؤوسهما من باطنهما، وقال له: إذا دخلت مدينة الزبّاء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائز فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قاتلوه، وإن أقبلت الزبّاء تريد نفقها قتلتها.
ففعل عمرو ذلك وساروا، فلمّا كانوا قريباً من الزباء تقدّم قصير إليها فبشّرها وأعلمها كثرة ماحمل من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها، وكان قصير يكمن النهار ويسري الليل، وهو أول من فعل ذلك، فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض، فقالت: يا قصير.
ما للجمال مشيها وثيدا.......أندلاً يحملن أم حديدا
أم صرفاناً بارداً شديدا.......أم الرجال جثّماً قعودا
ودخلت الإبلُ المدينة، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر، ودلّ قصير عمراً على باب النفق وصاحوا بزهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو علي باب النفق، وأقبلت الزبّاء تريد الخروج من النفق، فلمّا أبصرت عمراً قائماً على باب النفق عرفته بالصورة التي عملها المصور، فمصّت سمّاً كان في خاتمها، فقالت: بيدي لا بيد عمرو فذهبت مثلاً، وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد إلى العراق.
وصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث ابن سعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب، فلم يزل ملكاً حتى مات، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وصماني عشرة سنة، منها أيّام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة، وأيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وأشهر، وأيّام ابنه سابور بن زردشير ثماني سنين وشهران، وكان منفرداً بملكه يغزو المغازي ولا يدين لملوك الطوائف إلى أن ملك أردشير بن بابك أهل فارس، ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر، إلى أيام ملوك كندة، على ما نذكره إن شاء الله.
وقيل في سبب مسير ولد نصر بن ربيعة إلى العراق غير ما تقدّم، وهو رؤيا رآها ربيعة، وسيرد ذكرها عند أمر الحبشة، إن شاء الله تعالى.
ذكر طسم وجديس وكانوا أيّام ملوك الطوائف
كان طسم بن لوذ بن أذهر بن سام بن نوح، وجديس بن عامر بن أزهر بن سام ابني عمّ، وكانت مساكنهم موضع اليمامة، وكان اسمها حينئذٍ جوّاً، وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيراً، وكان ملكهم أيّام ملوك الطوائف عمليق، وكان ظالماً قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة الكثيرة القبح، وإنّ امرأة من جديس يقال لها هزيلة طلّقها زوجها وأراد أخذ ولدها منها، فخاصمته إلى عمليق وقالت: أيّها الملك حملته تسعاً، ووضعته دفعاً، وأرضعته شفعاً؛ حتى إذا تمت أوصاله، ودنا فصاله، أراد أن يأخذه مني كرهاً، ويتركين بعده ورها، فقال زوجها: أيها الملك إنها أعطيت مهرها كاملاً، ولم أصب منها طالاً، إلاّ وليداً خاملاً، فافعل ما كنت فاعلاً، فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه وأن تُباع المرأة وزوجها فيعطى زوجها خمس ثمنها وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها، فقالت هزيلة:
أتينا أخا طسم ليحكـم بـينـنـا.......فأنفذ حكماً في هزيلة ظالمـا
لعمري لقد حكمت لا متورعـاً.......ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما
ندمت ولم أندم وأنى بعتـرتـي.......وأصبح بعلي في الحكومة نادما
فلمّا سمع عمليق قولها أمر أن لا تزوّج بكرٌ من جديس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها، فلقوا من ذلك بلاء وجهداً وذلاًّ، ولم يزل يفعل ذلك حتى زوّجت الشموس، وهي عفيرة بنت عباد زخت الأسود، فلمّا أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله، ومعها الفتيان، فلمّا دخلت عليه افترعها وخلّى سبيلها، فخرجت إلى قومها في دمائها وقد شقّت درعها من قبل ودبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول:
لا أحـد أذلّ مـن جـــديس.......أهكذا يفعـل بـالـعـروس
يرضى بذا يا قوم بعـل حـرّ.......أهدى وقد أعطى وسيق المهر
وقالت أيضاً لتحرض قومها:
أيجمل ما يؤتى إلى فـتـياتـكـم،.......وأنتم رجال فيكم عدد الـنـمـل
وتصبح تمشي في الدماء عفـيرة.......جهاراً وزفّت في النساء إلى بعل
ولو أننا كنّـا رجـالاً وكـنـتـم.......نساءً لكنا لا نقرُّ بـذا الـفـعـل
فموتوا كراماً أو أميتوا عـدوّكـم.......ودبّوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلاّ فخلّوا بطنهـا وتـحـمـلـوا.......إلى بلد قفر وموتوا من الـهـزل
فللبين خير من مقام عـلـى الأذى.......وللموت خير من مقام على الـذل
وإن أنتم لم تغضبوا بـعـد هـذه.......فكونوا نساء لا تعاب من الكحـل
ودونكم طيب النـسـاء فـإنـمـا.......خلقتم لأثواب العروس وللنـسـل
فبعداً وسحقاً للذي لـيس دافـعـاً.......ويختال يمشي بيننا مشية الفحـل
فلما سمع أخوها الأسود قولها، وكان سيداً مطاعاً، قال لقومه: يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعزّ منكم في داركم إلاّ بملك صاحبهم علينا وعليهم، ولوا عجزنا لما كان له فضل علينا، ولو امتنعنا لانتصفنا منه، فأطيعوني فيما آمركم فإنّه عز الدّهر.
وقد حمي جديس لما سمعوا من قولهم فقالوا: نطيعك ولكنّ القوم أكثر منا قال: فإني أصنع الملك طعاماً وأدعوه وأهله إليه، فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم، فقالوا: افعل، فصنع طعاماً فأكثر وجعله بظاهر البلد ودفن هو وقومه سيوفهم ف يالرمل ودعا الملك وقومه، فجاؤوا يرفلون في حللهم، فلمّا أخذوا مجالسهم ومدّوا أيديهم يأكلون، أخذت جديس سيوفهم من الرمل وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة.
ثم إنّ بقيّة طسم قصدوا حسّان بن تُبّع ملك اليمن فاستنصروه، فسار إلى اليمامة، فلما كان منها على مسيرة ثلاث قال له بعضهم: إنّ لي أختاً متزوجة في جديس يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه.
فأمرهم حسان بذلك، فنظرت اليمامة فأبصرتهم فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حمير، قالوا: وما ترين؟ قالت: أرى رجلاً في شجرة معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها؛ وكان كذلك، فكذبوها، فصبحهم حسّان فأبادهم، وأتي حسان باليمامة ففقأ عينها، فإذا فيها عروق سود، فقال: ما هذا؟ قالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد، وكانت زوّل من اكتحل به، وبهذه اليمامة سميت الميامة، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.
ولما هلكت جديس هرب الأسود قاتل عمليق إلى جبل طيّء فأقام بهما، ذلك قبل أن تنزلهما طيّء، وكانت طيّء تنزل الجرف من اليمن، وهو الآن لمراد وهمدان، وكان يأتي إلى طيّء بعير أزمان الخيف عظيم السمن ويعود عنهم، ولم يعلموا من أين يأتي، ثمّ إنّهم اتّبعوه يسيرون بسيره حتي هبط بهم على أجأ وسلمى جبلي طيّء، وهما بقرب فيد، فرأوا فيهما النخل والمراعي الكثيرة ورأوا الأسود بن عفار، فقتلوه، وأقامت طيّء بالجبلين بعده، فهم هناك إلى الآن، وهذا أول مخرجهم إليهما.
ذكر أصحاب الكهف وكانوا أيام ملوك الطوائف
كان أصحاب الكهف أيّام ملك اسمه دقيوس، ويقال دقيانوس، وكانوا بمدينة للروم اسمها أفسوس، وملكهم يعبد الأصنام، وكانوا فتية آمنوا بربّهم كما ذكر الله تعالى، فقال: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) الكهف: 9؛ والرّقيم خبرهم كتب في لوح وجع على باب الكهف اذي أووا رليه، وقيل: كتبه بعض أهل زمانهم وجعله في البناءوفيه أسماؤهم وفي أيّام من كانوا وسبب وصولهم إلى الكهف.
وكانت عدّتهم، فما ذكر ابن عبّاس، سبعة وثامنهم كلبهم، وقال: إنّا من القليل الذين تعلمونهم، وقال ابن اسحاق: كانوا ثمانية، فعلى قوله يكون تاسعهم كلبهم، وكانوا من الروم، وكانوا يعبدون الأوثان، فهداهم الله، وكانت شريعتهم شريعة عيسى، عليه السلام.
وزعم بعضهم أنهم كانوا قبل المسيح، وأنّ المسيح أعلم قومه بهم، وأن الله بعثهم من رقدتهم بعد رفع المسيح، والأول أصح.
وكان سبب إيمانهم أنه جاء حواريّ من أصحاب عيسى إلى مدينتهم فأراد أن يدخلها، فقيل له: إنّ على بابها صنماً لا يدخلها أحد حتى يسجد له، فلم يدخلها وأتى حمّاماً قريباً من المدينة، فكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمّام البركة وعلقه الفتية، فجعل يخبرهم خبر السماءوالأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمّام، فعيّره الحواريّ، فاستحيا، ثمّ رجع مرّة أخرى فعيّره فسبّه وانتهره ودخل الحمّام ومعه المرأة، فماتا في الحمّام، فقيل للملك: إنّ الذي بالحمّام قتلهما، فطلب فلم يوجد، فقيل: من كان يصحبه؟ فذكر الفتية، فطلبوا فهربوا فمرّوا بصاحب لهم على حالهم في زرع له فذكروا له أمرهم، فسار معهم وتبعهم الكلب الذي له حتى آواهم الليل إلى الكهف، فقالوا: نبيت ههنا حتى نصبح ثمّ نرى رأينا، فدخلوه فرأوا عنده عين ماء وثماراً، فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء، فلمّا جنّهم اللّيلُ ضرب الله على آذانهم ووكّل بهم ملائكة يقلّبّونهم ذات اليمن وذات الشمال لئلاّ تأكل الأرض أجسادهم، وكانت الشمس تطلع عليهم.
وسمع الملك دقيانوس خبرهم فخرج في أصحابه يتبعون أثرهم حتى وجدهم قد دخلوا الكهف، وأمر أصحابه بالدخول إليهم وإخراجهم، فكلّما أراد رجل أن يدخل أرعب فعاد، فقال بعضهم: أليس لو كنت ظفرت بهم قتلتهم؟ قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً، ففعل، فبقوا زماناً بعد زمان.
ثمّ إنّ راعياً أدركه المطر فقال: لو فتحت باب هذا الكهف فأدخلت غنمي فيه، ففتحه، فردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق ليشتري لهم طعاماً، واسمه تلميخا، فلّما أتى باب المدينة رأى ما زنكره حتى دخل علي رجل فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً، فقال: فمن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس ثمّ أصبحوا فأرسلوني، فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك الفلانيّ، فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً، فسأله عنها، فأعاد عليه حالهم، فقال الملك: وأين أصحابك؟ قال: انطلقوا معي، فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم لئلا يسمعوا أصواتكم فيخافوا ظنّاً منهم أنّ دقيانوس قد علم بهم، فدخل عليهم وأخبرهم الخبر، فسجدوا شكراً لله وسألوه أن يتوفّاهم، فاستجاب لهم، فضرب على أذنه وآذانهم، وأراد الملك الدخول عليهم فكانوا كلما دخل عليهم رجل أرعب، فلم يقدروا أن يدخلوا عليهم، فعاد عنهم، فبنوا عليهم كنيسة يصلّون فيها.
قال عكرمة: لما بعثهم الله كان الملك حينئذٍ مؤمناً، وكان قد اختلف أهل مملكته في الروح والجسد وبعثهما، فقال قائل: يبعث الله الروح دون الجسد، وقال قائل: يبعثان جميعاً؛ فشقّ ذلك على الملك فلبس المسوح وسأل الله أن يبين له الحقّ، فبعث لله أصحاب الكهف بكرةً، فلمّا بزغت الشمس قال بعضهم لبعض: قد غفلنا هذه الليّلة عن العبادة، فقاموا إلى الماء، وكان عند الكهف عين وشجرة، فإذا العين قد غارت والأشجار قد يبست، فقال بعضهم لبعض: إنّ أمرنا لعبج هذه العين غارت وهذه الأشجار يبست في ليلة واحدة وألقى الله عليهم الجوع، فقالوا: أيّكم يذهب (إلى المدينة فلينظر أيّها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) الكهف: 19.
فدخل أحدهم يشتري الطعام، فلما رأى السوق عرف وأنكر الوجوه ورأى الإيمان ظاهراً بها، فأتى رجلاً يشتري منه، فأنكر الدراهم، فرفعه إلى الملك، فقال الفتى: أليس ملككم فلان؟ فقال الرجل: لا بل فلان فعجب لذلك، فلمّا أحضر عند الملك أخبره بخبر أصحابه، فجمع الملك الناس وقال لهم: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية هذا الرجل من قوم فلان، يعني الملك الذي مضى، فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي، فركب الملك والناس معه، فلما انتهى إلى الكهف قال الفتى للملك: ذروني أسبقكم إلى أصحابي أعرفهم خبركم لئلا يخافوا إذا سمعوا وقع حوافر دوابّكم وأصواتكم فيظنّوكم دقيانوس، فقال: افعل، فسبقهم إلى أصحابه ودخل على أصحابه فأخبرهم الخبر، فعلموا حينئذٍ مقدار لبثهم في الكهف وبكوا فرحاً ودعوا الله أن يميتهم ولا يراهم أحد ممّن جاءهم، فماتوا لساعتهم، فضرب الله على أذنه وآذانهم معه، فلما استبطأوه دخلوا إلي الفتية فإذا أجسادهم لا ينركون منها شيئاً غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية لكم، ورأى الملك تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم، ففتحه، فرأى فيه لوحاً من رصاص مكتوباً فيه أسماء الفتية وأنهم هربوا من دقيانوس الملك مخافة على نفوسهم ودينهم فدخلوا هذا الكهف، فلمّا علم دقيانوس بمكانهم بالكهف سدّه عليهم، فليعلم من قرأ كتابنا هذا شأنهم. فلمّا قرأوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم هذه الآية للبعث ورفعوا أصواتهم بالتحميد والتسبيح.
وقيل: إنّ الملك ومن معه دخلوا على الفتية فرأوهم أحياء مشرقة وجوههم وألوانهم لم تبل ثيابهم، وأخبرهم الفتية بما لقوا من ملكهم دقيانوس، واعتنقهم الملك، وقعدوا معه يسبّحون الله ويذكرونه، ثم قالوا: له: نستودعك الله، ورجعوا إلى مضاجعهم كما كانوا، فعمل الملك لكل رجل منهم تابوتاً من الذهب، فلمّا نام رآهم في منامه وقالوا: إننا لم نخلق من الذهب إنّما خلقنا من التراب وإليه نصير، فعمل لهم حينئذٍ توابيت من خشب، فحجبهم الله بالرعب، وبنى الملك على باب الكهف مسجداً وجعل لهم عيداً عظيماً.
وأسماء الفتية: مكسلمينيا ويمليخا ومرطوس ونيرويس وكسطومس ودينموس وريطوفس وقالوس ومخسيلمينيا، وهذه تسعة أسماء، ويه أتمّ الروايات، والله أعلم، وكلبهم قطمير.
ذكر يونس بن متى
وكان أمره من الأحداث أيام ملوك الطوائف. قيل: لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه إلا عيسى بن مريم ويونس بن متى، وهي أمه، وكان من قرية من قرى الموصل يقال لها نينوى، وكان قومه يعبدون الأصنام، فبعثه الله إليهم بالنهي عن عبادتها والأمر بالتوحيد، فأقام فيهم ثلاثاً وثلاثين سنة يدعوهم، فلم يؤمن غير رجلين، فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم، فقيل له: ما أسرع ما دعوت على عبادي ! ارجع إليهم فادعهم أربعين يوماً، فدعاهم سبعة وثلاثين يوماً، فلم يجيبوه، فقال لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام، وآية ذلك أن ألوانكم تتغير، فلما أصبحوا تغيرت ألوانهم، فقالوا: قد نزل بكم ما قال يونس ولم نجرب عليه كذباً فانظروا فإن بات فيكم فأمنوا من العذاب، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب يصبحكم.
فلما كانت ليلة الأربعين أيقن يونس بنزول العذاب، فخرج من بين أظهرهم. فلما كان الغد تغشاهم العذاب فوق رؤوسهم، خرج عليهم غيم أسود هائل يدخن دخاناً شديداً، ثم نزل إلى المدينة فاسودت منه سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس فلم يجدوه، فألهمهم الله التوبة، فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخاً وقالوا له: قد نزل بنا ما ترى فما نفعل ؟ فقال: آمنوا بالله وتوبوا وقولوا: يا حي يا قيوم، يا حي حين لا حي، يا حي محيي الموتى، يا حي لا إله إلا أنت. فخرجوا من القرية إلى مكان رفيع في براز من الأرض وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله واستقالوه وردوا المظالم جميعاً حتى إن كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه.
فكشف الله عنهم العذاب، وكان يوم عاشوراء يوم الأربعاء، وقيل: للنصف من شوال يوم الأربعاء، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال: ما فعل أهل القرية ؟ فقال: تابوا إلى الله فقبل منهم وأخر عنهم العذاب. فغضب يونس عند ذلك فقال: والله لا أرجع كذاباً ! ولم تكن قرية رد الله عنهم العذاب بعدما غشيهم إلا قوم يونس، ومضى مغاضباً لربه. وكان فيه حدة وعجلة وقلة صبر، ولذلك نهى النبي، ﷺ، أن يكون مثله، فقال تعالى: (وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ) القلم: 48.
ولما مضى ظن أن الله لا يقدر عليه، أي يقضي عليه العقوبة، وقيل: يضيق عليه الحبس، فسار حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف من الريح، وقيل: بل وقفت فلم تسر، فقال من فيها: هذه بخطيئة أحدكم ! فقال يونس: هذه بخطيئتي فألقوني في البحر، فأبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ) الصافات: 141، فلم يلقوه، وفعلوا ذلك ثلاثاً ولم يلقوه، فألقى نفسه في البحر، وذلك تحت الليل، فالتقمه الحوت، فأوحى الله إلى الحوت أن يأخذه ولا يخدش له لحماً ولا يكسر له عظماً، فأخذه وعاد إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى إليه سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا ؟ فأوحى الله إليه في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر، فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. فقال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد له كل يوم عمل صالح ؟ فشفعوا له عند ذلك، (فَنَادَى في الظُّلُمَات) - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل - (أنْ لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ) الأنبياء: 87 ! وكان قد سبق له من العمل الصالح، فأنزل الله فيه: (فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الصافات: 143، وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، (فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) الصافات: 145؛ ألقي على ساحل البحر وهو كالصبي المنفوس، ومكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقيل: عشرين يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، والله أعلم.
وأنبت (الله) عليه شجرة من يقطين، وهو القرع، يتقطر إليه منه اللبن، وقيل: هيأ الله له أروية وحشية، فكانت ترضعه بكرة وعشية حتى رجعت إليه قوته وصار يمشي، فرجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست، فحزن وبكى عليها، فعاتبه الله، وقيل له: أتبكي وتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف وزيادة أردت أن تهلكهم ! ثم إن الله أمره أن يأتي قومه فيخبرهم أن الله قد تاب عليهم، فعمد إليهم، فلقي راعياً، فسأله عن قوم يونس، فأخبره أنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم، قال: فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال: لا أستطيع إلا بشاهد، فسمى له عنزاً من غنمه والبقعة التي كانا فيها وشجرة هناك، وقال: كل هذه تشهد لك. فرجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه رأى يونس، فهموا به، فقال: لا تعجلوا حتى أصبح. فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس فاستنطقها، فشهدت له، وكذلك الشاة والشجرة، وكان يونس قد اختفى هناك. فلما شهدت الشاة قالت لهم: إن أردتم نبي الله فهو بمكان كذا وكذا، فأتوه، فلما رأوه قبلوا يديه ورجليه وأدخلوه المدينة بعد امتناع، فمكث مع أهله وولده أربعين يوماً وخرج سائحاً، وخرج الملك معه يصحبه وسلم الملك إلى الراعي، فأقام يدبر أمرهم أربعين سنة بعد ذلك. ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك.
وقال ابن عباس وشهر بن حوشب: كانت رسالة يونس بعدما نبذه الحوت، وقالا: كذلك أخبر الله تعالى في سورة الصافات فإنه قال: (فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مَائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) الصافات: 145 - 147. وقال شهر: إن جبرائيل أتى يونس فقال له: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم العذاب فإنه قد حضرهم. قال: ألتمس دابة. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: ألتمس حذاء. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: فغضب وانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب احتبست، قال: فساهموا، فسهم، فجاءت الحوت، فنودي الحوت: إنا لم نجعل يونس من رزقك إنما جعلناك له حرزاً، فالتقمه الحوت وانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على الابلة، ثم انطلق به على دجلة حتى ألقاه بنينوى.
ومما كان من الاحداث أيام ملوك الطوائف
إرسال الله تعالى الرسل الثلاثة إلى مدينة إنطاكية. وكانوا من الحواريين أصحاب المسيح، أرسل أولاً اثنين، وقد اختلف في أسمائهما، فقدما إنطاكية فرأيا عندها شيخاً يرعى غنماً، وهو حبيب النجار، فسلما عليه، فقال: من أنتما ؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم إلى عبادة الله تعالى. قال: معكما آية ؟ قالا: نعم، نحن نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. قال حبيب: إن لي ابناً مريضاً مذ سنين، وأتى بهما منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرض. وكان لهم ملك اسمه أنطيخس يعبد الأصنام، فبلغ إليه خبرهما، فدعاهما، فقال: من أنتما ؟ قالا: رسل عيسى ندعوك إلى الله تعالى. قال: فما آيتكما ؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله. فقال: قوما حتى ننظر في أمركما، فقاما، فضربهما العامة.
وقيل: إنهما قدما المدينة فبقيا مدة لا يصلان إلى الملك، فخرج الملك يوماً، فكبرا وذكرا الله، فغضب وحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، فلما كذبا وضربا بعث المسيح شمعون رأس الحواريين لينصرهما، فدخل البلد متنكراً وعاشر حاشية الملك، فرفعوا خبره إلى الملك، فأحضره ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، فقال له يوماً: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى دينهما فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك أن يحضرهما حتى نسمع كلامهما، فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون: من أرسلكما ؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء ولا شريك له. قال: فثفاه وأوجزا. قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال شمعون: فما آيتكما ؟ قالا: ما تتمناه.
فأمر الملك، فجيء بغلام مطموس العينين موضعهما كاللحمة، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، وأخذ بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما. فعجب الملك لذلك فقال: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا: إن إلهنا قادر على كل شيء. فقال الملك: إن ها هنا ميتاً منذ سبعة أيام فلم ندفنه حتى يرجع أبوه وهو غائب، فأحضر الميت وقد تغيرت ريحه، فدعوا الله تعالى علانياً وشمعون يدعو سراً، فقام الميت فقال لقومه: إني مت مشركاً وأدخلت في أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه. ثم قال: فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. فقال الملك: ومن هم ؟ فقال: هذا، وأومأ إلى شمعون، وهذان، وأشار إليهما، فعجب الملك، فحينئذٍ دعا شمعون الملك إلى دينه، فآمن قومه، وكان الملك فيمن آمن وكفر آخرون. وقيل: بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيباً النجار، وهو على باب المدينة، فجاء يسعى إليهم فيذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الله وطاعة المرسلين، فذلك قوله تعالى: (إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَينِ فَكّذَبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بثَالِثٍ) يس: 14، وهو شمعون، فأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه، وإنما أرسلهم المسيح لأنه أرسلهم بإذن الله تعالى.
فلما كذبهم أهل المدينة، حبس الله عنهم المطر، فقال أهلها للرسل: (إنّا تَطَيّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنّكُمْ) - بالحجارة، وقيل: لنقتلنكم - وَلْيَمَسّنّكُمْ مِنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) يس: 18، فلما حضر حبيب، وكان مؤمناً يكتم إيمانه، وكان يجمع كسبه كل يوم وينفق على عياله نصفه ويتصدق بنصفه، فقال: (يَا قَوْمِ اتّبِعُوا المُرْسَلِينَ) يس: 20. فقال قومه: وأنت مخال لربنا ومؤمن بإله هؤلاء ؟ فقال: (وَمَا ليَ لا أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَني وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ ؟) يس: 22، فلما قال ذلك قتلوه، فأوجب الله له الجنة، فذلك قوله تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الجَنّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ رَبيّ وَجَعَلَني مِنَ المُكْرَمِينَ) يس: 27؛ وأرسل الله عليهم صيحة فماتوا.
ومما كان من الأحداث شمسون
وكان من قرية من قرى الروم قد آمن، وكانوا يعبدون الأصنام، وكان على أميال من المدينة، وكان يغزوهم وحده ويقاتلهم بلحي جمل. فكان إذا عطش انفجر له من الحجر الذي فيه ماء عذب فيشرب منه، وكان قد أعطي قوة لا يوثقه حديد ولا غيره، وكان على ذلك يجاهدهم ويصيب منهم ولا يقدرون منه على شيء، فجعلوا لامرأته جعلاً لتوثقه لهم، فأجابتهم إلى ذلك، فاعطوها حبلاً وثيقاً، فتركته حتى نام وشدت يديه، فاستيقظ وجذبه، فسقط الحبل من يديه، فأرسلت إليهم فأعلمتهم، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، فتركتها في يديه وعنقه وهو نائم، فاستيقظ وجذبها فسقطت من عنقه ويديه، فقال لها في المرتين: ما حملك على ما صنعت ؟ فقالت: أريد أجرب قوتك وما رأيت مثلك في الدنيا فهل في الأرض شيء يغلبك ؟ قال: نعم بشعر رأسه، وكان كثيراً، فأرسلت إليهم، فجاؤوا فأخذوه فجدعوا أنفه وأذنيه وفقأوا عينيه وأقاموه للناس. وجاء الملك لينظر إليه، وكانت المدينة على أساطين، فدعا الله شمسون أن يسلطه عيهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة فيجذبهما، ورد إليه بصره وما أصابوه من جسده، وجذب العمودين فوقعت المدينة بالملك والناس وهلك من فيها هدماً. وكان شمسون أيام ملوك الطوائف.
ومما كان من الأحداث أيضاً جرجيس
قيل: كان بالموصل ملك يقال له دازانه، وكان جباراً عاتياً، وكان جرجيس رجلاً صالحاً من أهل فلسطين يكتم إيمانه مع أصحاب له صالحين، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فأخذوا عنهم، وكان جرجيس كثير التجارة عظيم الصدقة، وربما نفد ماله في الصدقة ثم يعود يكتسب مثله، ولولا الصدقة لكان الفقر أحب إليه من الغنى، وكان يخاف بالشام أن يفتتن عن دينه، فقصد الموصل ومعه هدية لملكها لئلا يجعل لأحد عليه سبيلاً، فجاءه حين جاءه وقد أحضر عظماء قومه وأوقد ناراً وأعد أصنافاً من العذاب وأمر بصنم له يقال له افلون فنصب، فمن لم يسجد له عذبه وألقي في النار.
فلما رأى جرجيس ما يصنع استعظمه وحدث نفسه بجهاده، فعمد إلى المال الذي معه فقسمه في أهل ملته وأقبل عليه وهو شديد الغضب فقال له: اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئاً ولا لغيرك شيئاً، وأن فوقك رباً هو الذي خلقك ورزقك، فأخذ في ذكر عظمة الله تعالى وعيب صنمه. فأجابه الملك بأن سأله من هو ومن أين هو. فقال جرجيس: أنا عبد الله وابن أمته من التراب خلقت وإليه أعود. فدعاه الملك إلى عبادة صنمه وقال له: لو كان ربك ملك الملكوت لرؤي عليك أثره كما ترى على من حولي من ملوك قومي. فأجابه جرجيس بتعظيم أمر الله وتمجيده وقال له: تعبد افلون الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني من رب العالمين، أم تعبد الذي قامت بأمره السموات والأرض، أم تعبد طرقلينا عظيم قومك من الناس، عليه السلام، فإنه كان آدمياً يأكل ويشرب فأكرمه الله بأن جعله إنسياً ملكياً، أم تعبد عظيم قومك مخليطيس أيضاً وما نال بولايتك من عيسى، عليه السلام ! وذكر من معجزاته وما خصه الله من الكرامة.
فقال له الملك: إنك أتيتنا بأشياء لا نعلمها، ثم خيره بين العذاب والسجود للصنم. فقال جرجيس: إن كان صنمك هو الذي رفع السماء، وعدد أشياء من قدرة الله، عز وجل، فقد أصبت ونصحت، وإلا فاخسأ أيها الملعون.
فلما سمع الملك أمر بحبسه ومشط جسده بأمشاط الحديد حتى تقطع لحمه وعروقه، وينضح بالخل والخردل، فلم يمت. فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى صارت ناراً ثم سمر بها رأسه، فسال دماغه، فحفظه الله تعالى. فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس فأوقد عليه حتى جعله ناراً ثم أدخله فيه وأطبق عليه حتى برد. فلما رأى ذلك لم يقتله دعاه وقال له: ألم تجد ألم هذا العذاب ؟ قال: إن إلهي حمل عني عذابك وصبرني ليحتج عليك.
فأيقن الملك بالشر وخافه على نفسه وملكه فأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك إن تركته في السجن طليقاً يكلم الناس ويميل بهم عليك، ولكن يعذب بعذاب يمنعه من الكلام. فأمر به فبطح في السجن على وجهه ثم أوتد في يديه ورجليه أوتاداً من حديد، ثم أمر بأسطوان من رخام حمله ثمانية عشر رجلاً فوضع على ظهره، فظل يومه ذلك تحت الحجر، فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكاً، وذلك أول ما أيد بالملائكة، فأول ما جاءه الوحي قلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وسقاه وبره وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن فقال له: الحق بعدوك فجاهده، فإني قد ابتليتك به سبع سنين يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرات في كل ذلك أرد إليك روحك، فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك.
فلم يشعر الملك إلا وقد وقف جرجيس على رأسه يدعوه إلى الله، فقال له: أجرجيس ؟ قال: نعم. من أخرجك من السجن ؟ قال: أخرجني من سلطانه فوق سلطانك ! فمليء غيظاً ودعا بأصناف العذاب ومدوه بين خشبتين ووضعوا على رأسه سيفاً ثم وشروه حتى سقط بين رجلييه وصار جزلتين، ثم قطعوهما قطعاً، وكان له سبعة أسد ضارية في جب فألقوا جسده إليها، فلما رأته خضعت برؤوسها وقامت على براثنها لا تألوا أن تقيه الأذى الذي تحتها، فظل يومه تحتها ميتاً، فكانت أول ميتة ذاقها. فلما أدركه الليل جمع الله جسده وسواه ورد فيه روحه وأخرجه من قعر الجب. فلما أصبحوا أقبل جرجيس، وهم في عيد لهم صنعوه فرحاً بموت جرجيس، فلما نظروا إليه مقبلاً قالوا: ما أشبه هذا بجرجيس ! قال الملك: هو هو! قال جرجيس: أنا هو حقاً، بئس القوم أنتم ! قتلتم ومثلتم فرد الله روحي إلي ! هلموا إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم قدرته. فقالوا: ساحر سحر أعينكم وأيديكم عنه، فجمعوا من ببلادهم من السحرة، فلما جاؤوا قال الملك لكبيرهم: اعرض علي من سحرك ما يسرى به عني. فدعا بثور فنفخ في أذنيه فإذا هو ثوران، ودعا ببذر فحرث وزرع وحصد ودق وذرى وطحن وخبز وأكل في وطحن وخبز وأكل في ساعته. فقال له الملك: هل تقدر أن تمسخه كلباً ؟ قال: ادع لي بقدح من ماء، فأتي به، فنفث فيه الساحر ثم قال الملك لجرجيس: اشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره. فقال له الساحر: ماذا تجد ؟ قال: ما أجد إلا خيراً ! كنت عطشان فلطف الله بي فسقاني. وأقبل الساحر على الملك وقال: لو كنت تقاسي جباراً مثلك لغلته إنما تقاسي جبار السماء والأرض.
وكانت أتت جرجيس امرأةٌ من الشام، وهو في أشد العذاب، فقالت له: إنه لم يكن لي مال إلا ثوراً أعيش به من حرثه فمات، وجئتك لترحمني وتسأل الله أن يحيي ثوري. فأعطاها عصاً وقال: اذهبي إلى ثورك فاضربيه بهذه العصا وقولي له: احي بإذن الله. فأخذت العصا وأتت مصرع الثور فرأت روقيه وشعر وذنبه فجمعتها ثم قرعتها بالعصا وقالت ما أمرها به جرجيس، فعاش ثورها، وجاء الخبر بذلك.
فلما قال الساحر ما قال: قال رجل من أصحاب الملك، وكان أعظمهم بعد الملك: اسمعوا مني. قالوا: نعم. قال: إنكم قد وضعتم أمره على السحر، وإنه لم يعذب ولم يقتل، فهل رأيتم ساحراً قط قدر أن يدفع عن نفسه الموت أو أحيا ميتاً ؟ وذكر الثور وإحياءه. فقالوا له: إن كلامك كلام رجل قد أصغى إليه. فقال: قد آمنت به وأشهد الله أني بريء مما تعبدون ! فقام إليه الملك وأصحابه بالخناجر فقطعوا لسانه بالخناجر، فلم يلبث أن مات. وقيل: أصابه الطاعون فأعجله قبل أن يتكلم، وكتموا شأنه، فكشفه جرجيس للناس، فاتبعه أربعة آلاف وهو ميت، فقتلهم الملك بأنواع العذاب حتى أفناهم، وقال له رجل من عظماء أصحاب الملك: يا جرجيس إنك زعمت أن إلهك يبدأ الخلق ثم يعيده، وإني سائلك أمراً إن فعله إلهك آمنت به وصدقتك وكفيتك قومي. هذا تحتنا أربعة عشر منبراً ومائدة وأقداح وصحاف من خشب يابس وهو من أشجار شتى فادع ربك أن يعيدها خضراً كما بدأها يعرف كل عود بلونه وورقه وزهره وثمره. قال جرجيس: قد سألت أمراً عزيزاً علي وعليك، وإنه على الله يسير، ودعا الله فما برحوا حتى اخضرت وساخت عروقها وتشعبت ونبت ورقها وزهرها حتى عرفوا كل عود باسمه.
فقال الذي سأله هذا: أنا أتولى عذابه. فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور مجوف ثم حشاها نفطاً ورصاصاً وكبريتاً وزرنيخاً وأدخل جرجيس في وسطها ثم أوقد تحت الصورة النار حتى التهبت وذاب كل شيء فيها واختلط ومات جرجيس في جوفها. فلما مات أرسل الله ريحاً عاصفاً ورعداً وبرقاً وسحاباً مظلماً وأظلم ما بين السماء والأرض وبقوا أياماً متحيرين، فأرسل الله ميكائيل، فاحتمل تلك الصورة، فلما أقلها ضرب بها الأرض، ففزع من روعتها كل من سمعها وانكسرت وخرج منها جرجيس حياً، فلما وقف وكلمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض.
قال له عظيم من عظمائهم: ادع الله بأن يحيي موتانا من هذه القبور. فأمر جرجيس بالقبور فنبشت وهي عظام رفات، ثم دعا فلم يبرحوا حتى نظروا إلى سبعة عشر إنساناً، تسعة رجال وخمسة نسوة وثلاثة صبية وفيهم شيخ كبير. فقال له جرجيس: متى مت ؟ فقال: في زمان كذا وكذا، فإذا هو أربع مائة عام.
فلما رأى ذلك الملك قال: لم يبق من عذابكم شيء إلا وقد عذبتموه وأصحابه به إلا الجوع والعطش، فعذبوه به. فعمدوا إلى بيت عجوز فقيرة، وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد، فحصروه فيه، فلا يصل إليه طعام ولا شراب. فلما جاع قال للعجوز: هل عندك طعام أو شراب ؟ قالت: لا والذي يحلف به ما لنا عهد بالطعام من كذا وكذا وسأخرج فألتمس لك شيئاً. فقال لها: هل تعبدين الله ؟ قالت: لا. فدعاها فآمنت، وانطلقت تطلب له شيئاً، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فدعا الله فاخضرت تلك الدعامة وأنبتت كل فاكهة تؤكل وتعرف، فظهر للدعامة فروع من فوق البيت تظله وما حوله، وعادت العجوز وهو يأكل رغداً. فلما رأت الذي حدث في بيتها قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم أن يشفي ابني. قال: أدنيه مني، فأدنته، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع. قالت له: أطلق لسانه ورجليه. قال لها: أخريه فإن له يوماً عظيماً.
ورأى الملك الشجرة فقال: أرى شجرة ما كنت أعهدها ! قالوا: تلك الشجرة الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع وقد شبع منها وأشبعت العجوز، وشفى لها ابنها.
فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة أن تقطع، فملا هموا بقطعها أيبسها الله وتركوها. وأمر بجرجيس فبطح على وجهه، وأمر بعجل فأوقر أسطواناً وجعل في أسفل العجل خناجر وشفاراً ثم دعا بأربعين ثوراً فنهضت بالعجلٍ نهضة واحدة وجرجيس تحتها، فانقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعه فأحرقت حتى صارت رمادا، وبعث بالمراد مع رجال فذروه في البحر، فلم يبرحوا حتى سمعوا صوتاً من السماء: يا بحر إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب فإني أريد أن أعيده. فأرسل الرياح فجمعته كما كان قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم يبرحوا، وخرج جرجيس حياً مغبراً، فرجعوا ورجع معهم وأخبروا الملك خبر الصوت والرياح. فقال له الملك: هل لك فيما هو خير لي ولك ؟ ولولا أن يقال إنك غلبتني لآمنت بك، ولكن اسجد لصنمي سجدة واحدة أو اذبح له شاة واحدة وأنا أفعل ما يسرك. فطمع جرجيس في إهلاك الصنم حين يراه وإيمان الملك عند ذلك، فقال له: أفعل - خديعة منه - وأدخلني على صنمك أسجد له وأذبح.
ففرح الملك بذلك وقبل يديه ورجليه وطلب منه أن يكون يومه وليلته عنده، ففعل، فأخلى له الملك بيتاً ودخله جرجيس، فلما جاء الليل قام يصلي ويقرأ الزبور، وكان حسن الصوت، فلما سمعته امرأة الملك استجابت له وآمنت به وكتمت إيمانها، فلما اصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها.
وقيل للعجوز: إن جرجيس قد افتتن وطمع في الملك بعد الملك. فخرجت تحمل ابنها على عاتقها في أعراضهم توبخ جرجيس، فلما دخل بيت الأصنام نظر فإذا العجوز وابنها أقرب الناس إليه، فدعا ابنها، فأجابه وما تكلم قبل ذلك قط، ثم نزل عن عاتق أمه يمشي على قدميه سويتين وما وطئ الأرض قط، فلما وقف بين يدي جرجيس قال له: ادع لي هذه الأصنام، وهي على منابر من ذهب واحد وسبعون صنماً، وهم يعبدون الشمس والقمر معها، فدعاها، فأقبلت تتدحرج إليه. فلما انتهت إليه ركض برجله الأرض فخسف بها وبمنابرها، فقال له الملك: يا جرجيس خدعتني وأهلكت أصنامي ! فقال له: فعلت ذلك عمداً لتعتبر وتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت مني. فلما قال هذا قالت امرأة الملك وأظهرت إسلامها وعدت عليهم أفعال جرجيس وقالت: ما تنتظرون من هذا الرجل إلا دعوة فتهلكون كما هلكت أصنامكم. فقال الملك: ما أسرع ما أضلك هذا الساحر ! ثم أمر بها فعلقت على خشبة، ثم مشط لحمها بمشاط الحديد، فلما آلمها العذاب قالت لجرجيس: ادع الله أن يخفف عني الألم. فقال: انظري فوقك. فنظرت فضحكت. فقال لها الملك: ما يضحكك ؟ قالت: أرى على رأسي ملكين معهما تاج من حلي الجنة ينتظران خروج روحي ليزيناني به ويصعدا بها إلى الجنة. فلما مات أقبل جرجيس على الدعاء وقال: اللهم أكرمتني بهذا البلاء لتعطيني أفضل منازل الشهداء، وهذا آخر أيامي فأسألك أن تنزل بهؤلاء المنكرين من سطواتك وعقوبتك ما لا بل لهم به، فأمطر الله عليهم النار فأحرقتهم. فلما احترقوا بحرها عمدوا إليه فضربوه بالسيوف فقتلوه، وهي القتلة الرابعة. فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها رفعت من الأرض وجعل عاليها سافلها، فلبثت زماناً يخرج من تحتها دخان منتن.
وكان جميع من آمن به وقتل معه أربعة وثلاثين ألفاً وامرأة الملك.
ذكر خالد بن سنان العبسي
وممن كان في الفترة خالد بن سنان العبسي، قيل: كان نبياً، وكان من معجزاته أن ناراً ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يتمجسون، فأخذ خالد عصاه ودخلها حتى توسطها ففرقها، وهو يقول: بداً بداً، كل هدى مؤدى، لأدخلنها وهي تلظى ولأخرجن منها وثيابي تندى. ثم إنها طفئت وهو في وسطها. فلما حضرته الوفاة قال لأهله: إذا دفنت فإنه ستجيء عانة من حمير يقدمها عير أبتر فيضرب قبري بحافره، فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخبركم بجميع ما هو كائن. فلما مات ودفنوه رأوا ما قال، فأرادوا نبشه، فكره ذلك بعضهم قالوا: نخاف إن نبشناه أن تسبنا العرب بأنا نبشنا ميتاً لنا. فتركوه. فقيل إن النبي، ﷺ، قال فيه: ذلك نبي ضيعه قومه، وأتت ابنته النبي، ﷺ، فآمنت به.
كذا قيل إنه آخر الحوادث أقام ملوك الطوائف، ولا وجه له، فإن من أدركت ابنته النبي، ﷺ، يكون بعد اجتماع الملك لأردشير بن بابك بدهر طويل.
ونرجع إلى أخبار ملوك الفرس لسياق التاريخ، ونقدم قبل ذكرهم عدد الملوك الأشغانية من ملوك الطوائف وطبقات ملوك الفرس، إن شاء الله تعالى.
ذكر طبقات ملوك الفرس
الطبقة الأولى الفيشداذية
ملوك الأرض بعد جيومرث أوشهنج؛ وملك فيشداذ أربعين سنة، ومعنى فيشداذ أول حاكم. ملك بعده طهمورث بن يوجهان ثلاثية سنة. ثم ملك أخوه جمشيد سبعمائة وست عشرة سنة. ثم ملك بيوراسف بن أرونداسف ألف سنة. ثم ملك أفريدون بن أثفيان خمسمائة سنة. ثم ملك منوجهر مائة وعشرين سنة. ثم ملك أفراسياب التركي اثنتي عشرة سنة. ثم ملك زوبن تهماسف ثلاث سنين. ثم ملك كرشاسب تسع سنين.
الطبقة الثانية الكيانية
ثم ملك كيقباذ مائة وستاً وعشرين سنة. ثم ملك كيكاووس مائة وخمسين سنة. ثم ملك كيخسرو ثمانين سنة. ثم ملك كي لهراسب مائة وعشرين سنة. ثم ملك كي بشتاسب مائة وعشرين سنة. ثم ملك كي بهمن مائة واثنتي عشرة سنة. ثم ملك خمانى جهرازاد ثلاثين سنة. ثم ملك أخوها دارا بن بهمن اثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه دارا بن دارا أربع عشرة سنة، وهو الذي أخذ الإسكندر الملك منه. وكان ملك الإسكندر بعده أربع عشرة سنة.
الطبقة الثالثة الأشغانية
وهم الذين استولوا على العراق والجبال، وكان سائر ملوك الطوائف يعظمونهم. فأول ملوك الأشغانيين أقام ملوك الطوائف أشك، ملك اثنتين وخمسين سنة. ثم ملك ابنه شابور بن أشك أربعاً وعشرين سنة. ثم ملك ابنه جوذرز بن شابور، وهو الذي غزا بني إسرائيل بعد قتل يحيى بن زكرياء، خمسين سنة. ثم ملك ابنه أخيه وبحن بن بلاش إحدى وعشرين سنة. ثم ملك جوذرز بن وبحن تسع عشرة سنة. ثم ملك أخوه نرسي ثلاثين سنة. ثم ملك عمه هرمزان بن بلاش بن شابور تسع عشرة سنة. ثم ملك ابنه فيروز بن هرمزان اثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه خسرو أربعين سنة. ثم ملك أخوه بلاش بن فيروز أربعاً وعشرين سنة. ثم ملك ابنه أردوان بن بلاش خمساً وخمسين سنة. وقد ذكر بعضهم أنه ملك بعد هرمزان بن بلاش أردوان الأكبر اثنتي عشرة سنة.
وقيل في عدد ملوك الطوائف غير ذلك، والفرس تعترف باضطراب التاريخ عليهم في أيام ملوك الطوائف وملك بيوراسف وملك أفراسياب التركي لأنهم زال الملك عنهم ولم يمكن ضبطه.
الطبقة الرابعة الساسانية
فأولهم أردشير بن بابك.
ذكر أخبار أردشير بن بابك وملوك الفرس
قيل: لما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل، في قول النصرى وأهل الكتب الأول، خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة، وفي قول المجوس: مائتان وست وستون، وثب أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر بن بابك بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك ابن إسفنديار بن بشتاسب، وقيل في نسبته غير ذلك، يريد الأخذ بثأر الملك دارا بن دارا ورد الملك إلى أهله وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف وجمعه لرئيس واحد.
وذكر أن ولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها طيزودة من رستاق إصطخر، وكان جده ساسان شجاعاً مغرىً بالصيد، وتزوج امرأة من نسل ملوك فارس يعرفون بالبادرنجبين، وكان قيما على بيت نار بإصطخر يقال له بيت نار هيد، فولدت له بابك، فلما كبر قام بأمر الناس بعد أبيه، ثم ولد له ابنه أردشير، وكان ملك إصطخر يومئذ رجل من البادرنجيين يقال له جوزهر، وكان له خصي اسمه تيري قد صيره ارجيداً بدارابجرد. فلما أتى لأردشير سبع سنين قدمه أبوه إلى جوزهر وسأله أن يضمه إلى تيرى ليكون ربيباً له وارجيداً بعده في موضعه، فأجابه وأرسله إلى تيري، فقبله وتبناه. فلما هلك تيري تقلد أردشير الأمر وحسن قيماه به، وأعلمه قوم من المنجمين صلاح مولده وأنه يملك البلاد، فازداد في الخير، ورأى في منامه ملكاً جلس عند رأسه فقال له: إن الله يملكك البلاد؛ فقويت نفسه قوةً لم يعهدها؛ وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دارابجرد يسمى خوبابان فقتل ملكها، واسمه فاسين، ثم سار إلى موضع يقال له كوسن فقتل ملكها، واسمه منوجهر، ثم إلى موضع يقال له لزويز فقتل ملكها، واسمها دارا، وجعل في هذه المواضع قوماً من قبله، وكتب إلى أبيه بما كان منه، وأمره بالوثوب يجوزهر، وهو بالبيضاء، ففعل ذلك وقتل جوزهر وأخذ تاجه، وكتب إلى أردوان ملك الجبال وما يتصل بها يتضرع إليه ويسأله في تتويج ابنه سابور بتاج جوزهر، فمنعه من ذلك وهدده، فلم يحفل بابك بذلك وهلك في ثلاثة أيام، فتوج سابور بن بابك بالتاج وملك مكان أبيه، وكتب إلى أردشير يستدعيه، فامتنع، فغضب سابور وجمع جموعاً وسار بهم نحوه ليحاربه،وخرج من إصطخر وبها عدة من أصحابه وإخوانه وأقاربه وفيهم من هو أكبر سناً منه، فأخذوا التاج والسرير وسلموهما إلى أردشير، فتتوج وافتتح أمره بجد وقوة وجعل له وزيراً ورتب موبذان موبذ، وأحس من إخوته وقوم كانوا معه بالفتك به، فقتل جماعةً منهم، وعصى عليه أهل دارابجرد فعاد إليه فافتتحها وقتل جماعةً من أهلها، ثم سار إلى كرمان وبها ملك يقال له بلاش فاقتتلا قتالاً شديداً، وقاتل أردشير بنفسه وأسر بلاش، فاستولى على المدينة وجعل فيها ابناً له اسمه أردشير أيضاً.
وكان في سواحل بحر فارس ملك اسمه أسيون يعظم فسار إليه أردشير فقتله وقتل من معه واستخرج له أموالاً عظيمة.
وكتب إلى جماعة من الملوك، منهم: مهرك صاحب ابرساس من أردشير خره، يدعوهم إلى الطاعة، فلم يفعلوا، فسار إليهم فقتل مهرك ثم سار إلى جور فأسسها وبنى الجوسق المعروف بالطربال وبيت نار هناك.
فبينا هو كذلك إذ ورد عليه رسول أردوان بكتاب، فجمع الناس فقرأه عليهم، فإذا فيه: إنك عدوت قدرك واجتلبت حتفك أيها الكردي ! من أذن لك في التاج والبلاد ؟ ومن أمرك ببناء المدينة ؟ وأعلمه أنه قد وجه إليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق.
فكتب إليه: إن الله حباني بالتاج وملكني البلاد، وأنا أرجو أن يمكنني منك فأبعث برأسك إلى بيت النار الذي أسسته.
وسار أردشير نحو إصطخر وخلف وزيره أبرسام بأردشير خره، فلم يلبث إلا قليلاً حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز وعوده منكوباً، ثم سار إلى أصبهان فملكها وقتل ملكها، وعاد إلى فارس وتوجه إلى محاربة نيروفر صاحب الأهواز، وسار إلى أرجان وإلى ميسان وطاسار، ثم إلى سرق، فوقف على شاطئ دجيل فظفر بالمدينة وابتنى مدينة سوق الأهواز وعاد إلى فارس بالغنائم، ثم عاد من فارس إلى الأهواز على طريق خرة وكازرون، وقتل ملك ميسان وبنى هناك كرخ ميسان وعاد إلى فارس.
فأرسل إلى أردوان يؤذنه بالحرب ويقول له ليعين موضعاً للقتال. فكتب إليه أردوان: إني أوافيك في صحراء هرمزجان لانسلاخ مهرماه. فوافاه أردشير قبل الوقت وخندق على نفسه واحتوى على الماء، ووافاه أردوان وملك الأرمانيين، وكانا يتحاربان على الملك فاصطلحا على أردشير وحارباه، وهما متساندان يقاتله هذا يوماً وهذا يوماً، فإذا كان يوم بابا ملك الأرمانيين لم يقم له أردشير، وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير، فصالح أردشير بابا ملك الأرمانيين على أن يكف ويفرغ أردشير لأردوان، فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان له، وأطاعه بابا وسمي أردشير: شاهنشاه.
ثم سار إلى همذان فافتتحها، وإلى الجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ففتحها عنوةً، وسار إلى السواد من الموصل فملكه وبنى على شاطئ دجلة قبالة طيسفون، وهي المدينة التي في شرق المدائن مدينة غربية، وسماها به أردشير، وعاد من السواد إلى إصطخر، وسار منها إلى سجستان، ثم إلى جرجان، ثم إلى نيسابور ومرو وبرخ وخوارزم، وعاد إلى فارس ونزل جور. فجاءه رسل ملك كوسان وملك طوران وملك مركان بالطاعة.
ثم سار من جور إلى البحرين، فاضطر ملكها إلى أن رمى نفسه من حصنه فهلك. وعاد إلى المدائن فتوج ابنه سابور بتاجه في حياته وبنى ثماني مدن، منها: مدينة الخط بالبحرين، ومدينة بهرسير مقابل المدائن. وكان اسمه به أردشير فعربت به سير، وأردشير خره، هي مدينة فيروزاباذ، سماها عضد الدولة بن بويه كذلك، وبنى بكرمان مدينة أردشير أيضاً فعربت بردشير، وبنى بهمن أردشير على دجلة عند البصرة، والبصريون يسمونها بهمن شير، وفرات ميسان أيضاً، وبنى رامهرمز بخوزستان، وبنى سوق الأهواز، وبالموصل بودر أردشير، وهي حزة.
ولم يزل محمود السيرة مظفراً منصوراً لا ترد له راية، ومدن المدن، وكور الكور، ورتب المراتب وعمر البلاد.
وكان ملكه من قتله أردوان إلى أن هلك أربع عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، ولما استولى أردشير على العراق كره كثير من تنوخ المقام في مملكته فخرج من كان منهم من قضاعة إلى الشام، ودان له أهل الحيرة والأنبار، وقد كانت الحيرة والأنبار بنيتا زمن بخت نصر، فخربت الحيرة لتحول أهلها إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة زمن عمرو بن عدي، فعمرت خمسمائة وبضعاً وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها أهل الإسلام.
ذكر ملك سابور بن أردشير بن بابك
ولما هلك أردشير بن بابك قام بالملك بعده ابنه سابور، وكان أردشير قد أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم بسبب ألية آلاها جده ساسان بن أردشير بن بهمن، فإنه أقسم أنه إن ملك يوماً من الدهر لم يستبق من نسل أشك بن جزه أحداً، وأوجب ذلك على عقبه، فكان أول من ملك من عقبه أردشير، فقتلهم جميعاً نساءهم ورجالهم، غير أن جارية وجدها في دار المملكة فأعجبته، وكانت ابنة للملك المقتول، فسألها عن نسبها، فذكرت أنها خادم لبعض نساء الملك. فسألها أبكر أم ثيب، فأخبرته أنها بكر، فاتخذها لنفسه وواقعها، فعلقت منه، فلما أمنت منه بحبلها أخبرته أنها من ولد أشك، فنفر منها ودعا هرجد بن اسام، وكان شيخاً مسناً، فأخبره الخبر، وقال له ليقتلها ليبر قسم جده. فأخذها الشيخ ليقتلها، فأخبرته أنها حبلى، فأتى بالقوابل فشهدن بحبلها، فأودعها سرباً في الأرض ثم قطع مذاكيره ووضعها في حق وختم عليه، وحضر عند الملك فقال: ما فعلت ؟ فقال: استودعتها بطن الأرض، ودفع الحقف إليه، وسأله أن يختمه بخاتمه ويودعه بعض خزائنه، ففعل.
ثم وضعت الجارية غلاماً، فكره الشيخ أن يسمى ابن الملك دونه، وخاف يعلمه به وهو صغير، فأخذ له الطالع وسماه شابور، ومعناه: ابن الملك، فيكون اسماً وصفة، وهو أول من سمي بهذا الاسم.
وبقي أردشير لا يولد له، فدخل عليه الشيخ الذي عنده الصبي يوماً فوجده محزوناً، فقال له: ما يحزن الملك ؟ فقال: ضربت بسيفي ما بين المشرق والمغرب حتى ظفرت وصفا لي ملك آبائي ثم أهلك وليس لي عقب فيه. فقال له الشيخ: سرك الله أيها الملك وعمرك ! لك عندي ولد طيب نفيس، فادع لي بالحق الذي استودعتك أرك برهان ذلك. فدعا أردشير بالحق وفتحه، فوجد فيه مذاكير الشيخ وكتاباً فيه: لما أخبرتني ابنة أشك التي علقت من ملك الملوك حين أمر بقتلها لم أستحل إتلاف زرع الملك الطيب فأودعتها بطن الأرض كما أمر وتبرأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عاضهٌ إلى عضهها سبيلاً.
فأمره أردشير أن يجعل مع سابور مائة غلام، وقيل: ألف غلام من أشباهه في الهيئة والقامة، ثم يدخلهم عليه جميعاً لا يفرق بينهم زي، ففعل الشيخ. فلما نظر إليهم أردشير قبلت نفسه ابنه من بينهم، ثم أعطوا صوالجة وكرة، فلعبوا بالكرة وهو في الإيوان، فدخلت الكرة الإيوان، فهاب الغلمان أن يدخلوه، وأقدم سابور من بينهم ودخل، فاستدل بإقدامه مع ما كان من قبوله له حين رآه أنه ابنه، فقال له أردشير: ما اسمك ؟ قال: شاه بور.
فلما ثبت عنده أنه ابنه شهر أمره وعقد له التاج من بعده، وكان عاقلاً بليغاً فاضلاً، فلما ملك ووضع التاج على رأسه فرق الأموال على الناس من قرب ومن بعد، وأحسن إليهم، فبان فضل سيرته وفاق جميع الملوك، وبنى مدينة نيسابور، ومدينة سابور بفارس، وبنى فيروز سابور، وهي الأنبار، وبنى جنديسابور. وقيل: إنه حاصر الروم بنصيبين وفيها جمع من الروم مدة ثم أتاه من ناحية خراسان من احتاج إلى مشاهدته، فسار إليها وأحكم أمرها، ثم عاد إلى نصيبين، فزعموا أن سورها تصدع وانفرجت منه فرجة دخل منها وقتل وسبى وغنم وتجاوزها إلى بلاد الشام فافتتح من مدائنها مدناً كثيرة، منها فالوقية وقدوقية، وحاصر ملكاً للروم بإنطاكية فأسره وحمله وجماعةً كثيرة معه فأسكنهم مدينة جنديسابور.
ذكر خبر مدينة الحضر
كانت بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر، وكان بها ملك يقال له الساطرون، وكان من الجرامقة، والعرب تسميه الضيزن، وهو من قضاعة، وكان قد ملك الجزيرة وكثر جنده، وإنه تطرق بعض السواد إذ كان سابور بخراسان، فلما عاد سابور أخبر بما كان منه، فسار إليه وحاصره أربع سنين، وقيل: سنتين، لا يقدر على هدم حصنه ولا الوصول إليه.
وكان للضيزن بنت تسمى النضيرة، فحاضت، فأخرجت إلى ربض المدينة، وكذلك كان يفعل بالنساء، وكانت من أجمل النساء، وكان سابور من أجمل النساء، فرأى كل واحد منهما صاحبه فتعاشقا، فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور المدينة ؟ فقال: أحكمك وأرفعك على نسائي. فقالت: عليك بحمامة ورقاء مطوقة فاكتب على رجلها بحيض جارية بكر زرقاء ثم أرسلها فإنها تقع على سور المدينة فيخرب، وكان ذلك طلسم ذلك البلد. ففعل وتداعت المدينة، فدخلها عنوةً وقتل الضيزن وأصحابه، فلم يبق منهم أحد يعرف اليوم، وأخرب المدينة واحتمل النضيرة فأعرس بها بعين التمر فلم تزل ليلتها تتضور، فالتمس ما يؤذيها فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكن بطنها، فقال لها: ما كان يغذوك به أبوك ؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر. فقال: وأبيك لأنا أحدث عهداً بك وآثر لك من أبيك ! فأمر رجلاً فرساً جموحاً ثم عصب غدائرها بذنبه ثم استركضها فقطعها قطعاً، وقد أكثر الشعراء ذكر الضيزن في أشعارهم.
وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق وادعى النبوة، وتبعه خلقٌ كثير، وهم الذين يسمون المانوية.
وكان ملكه ثلاثين سنة وخمسة عشر يوماًن وقيل: إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وتسعة أيام.
ذكر ملك ابنه هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك
وكان يشبه في خلقه بأردشير غير لاحق به في تدبيره، وكان في البطش والجرأة على أمر عظيم، وكانت أمه من بنات مهرك الملك الذي قتله أردشير وتتبع نسله فقتلهم، لأن المنجمين أخبروه أنه يكون من نسله من يملك، فهربت أمه إلى البادية وأقامت عند بعض الرعاء، وخرج سابور متصيداً، فاشتد به العطش وارتفعت له الأخبية التي فيها أمر هرمز، فقصدها وطلب الماء، فناولته المرأة، فرأى منها جمالاً فائقاً، فلم يلبث أن حضر الرعاء فسألهم سابور عنها، فقال بعضهم: إنها ابنته، فتزوجها وسار بها إلى منزله، وكسيت ونظفت، فأرادها فامتنعت عليه مدة، فلما طال عليه سألها عن سبب ذلك فأخبرته أنها ابنة مهرك وأنها تفعل ذلك إبقاء عليه من أردشير، فعاهدها على ستر أمرها، ووطئها فولدت له هرمز، فستر أمره حتى صار له سنون.
فركب أردشير يوماً إلى منزل ابنه سابور لشيء أراد ذكره له، فدخل منزله مفاجأة، فلما استقر خرج هرمز وبيده صولجان وهو يصيح في أثر الكرة، فلما رآه أردشير أنكره ووقف على المشابه التي فيه من حسن الوجه وعبالة الخلق وأمور غيرها، فاستدناه أردشير وسأل عنه سابور، فخرج مفكراً على سبيل الإقرار بالخطاء، وأخبر أباه أردشير الخبر، فسر، وأخبره أنه قد تحقق الذي ذكره المنجمون في ولد مهرك، وأن ذلك قد سلى ما كان في نفسه وأذهبه.
فلما ملك سابور ولى هرمز خراسان وسيره إليها، فقهر الأعداء واستقل بالأمر، فوشى به الوشاة إلى سابور أنه على عزم أن يأخذ الملك منه، وسمع هرمز بذلك فقيل إنه قطع يده وأرسلها إلى أبيه، فكتب إليه بما بلغه وأنه فعل ذلك إزالة للتهمة لأن رسمهم أنهم كانوا لا يملكون ذا عاهة، فلما وصلت يده إلى سابور تقطع أسفاً وأرسل إلى هرمز يعلمه ما ناله لذلك وعقد له على الملك وملكه، ولما ملك عدل في رعيته، وكان صادقاً، وسلك سبيل آبائه وكور كورة رامهرمز. وكان ملكه سنة وعشرة أيام. ذكر ملك ابنه بهرام بن هرمز بن سابور وكان حليماً متأنياً حسن السيرة، وقتل ماني الزنديق وسلخه وحشا جلده تبناً وعلق على باب من أبواب جنديسابور يسمى باب ماني. وكان ملكه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وكان عامل سابور بن أردشير وابنه هرمز وبهرام بن هرمز - بعد ملك عمرو بن عدي على ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة يومئذٍ - ابن لعمرو بن عدي، يقال له امرؤ القيس البدء، وهو أول من تنصر من آل نصر بن ربيعة وعمال الفرس، وعاش مملكاً فيعمله مائة سنة وأربع عشرة سنة، منها في زمن سابور بن أردشير ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، وفي زمن بهرام ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز ثماني عشرة سنة. ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير وكان ملكه حسناً، وكان عالماً بالأمور، فلما عقد له التاج وعدهم بحسن السية، واختلف في سني ملكه، فقيل ثماني عشرة سنة، وقيل سبع عشرة سنة، والله أعلم.
ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور
فلما عقد التاج على رأسه دعا له العظماء فأحسن الرد، وكان قبل أن يفضي إليه الأمر مملكاً على سجستان. وكان ملكه أربع سنين.
ذكر ملك نرسي بن بهرام
وهو أخو بهرام الثالث، فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه الأشراف والعظماء فدعوا له، فوعدهم خيراً وسار فيهم بأعدل السيرة، وقال: لن نضيع شكر ما أنعم الله به علينا. وكان ملكه تسع سنين.
ذكر ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز
وكان الناس قد وجلوا منه لفظاظته، فأعلمهم أنه قد علم بما كانوا يخافون من شدة ولايته، وأن الله قد أبدل ما كان فيه من الفظاظة رقةً ورأفةً، وساسهم أرفق سياسة، وكان حريصاً على انتعاش الضعفاء وعمارة البلاد والعدل، ثم هلك ولا ولد له، فشق ذلك على الناس، فسألوا عن نسائه، فذكر لهم أن بعضهن حبلى، وقيل: عن هرمز كان أوصى بالملك لذلك الحمل.
وولدت المرأة سابور ذا الأكتاف.
وكان ملك هرمز ست سنين وخمسة أشهر، وقيل سبع سنين وخمسة أشهر.
وأسماء الملوك من سابور بن أردشير إلى هنا لم يحذف منها شيء.
ذكر ملك ابنه سابور ذي الأكتاف
وهو سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ابن بابك، قيل: ملك بوصية أبيه له، فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق، وتقلدوا الوزراء والكتاب ما كانوا يعملونه في ملك أبيه.
وسمع الملوك أن ملك الفرس صغير في المهد، فطمعت في مملكتهم الترك والعرب والروم، وكانت العرب أقرب إلى بلاد فارس، فسار جمعٌ منهم في البحر من عبد القيس والبحرين إلى بلاد فارس وسواحل أردشير خره وغلبوا أهلها على مواشيهم ومعايشهم وأكثروا الفساد، وغلبت إياد على سواد العراق وأكثروا الفساد فيهم، فمكثوا حيناً لا يغزوهم أحد من الفرس لصغر ملكهم.
فلما ترعرع سابور وكبر كان أول ما عرف من حسن فهمه أنه سمع في البحر ضوضاء وأصواتاً فسأل عن ذلك فقيل: إن الناس يزدحمون في الجسر الذي على دجلة مقبلين ومدبرين، فأمر بعمل جسر آخر يكون أحدهما للمقبلين والآخمر للمدبرين، فاستبشر الناس بذلك. فلما بلغ ست عشرة سنة وقوي على حمل السلاح جمع رؤساء أصحابه فذكر لهم ما اختل من أمرهم وأنه يريد الذب عنهم ويشخص إلى بعض الأعداء. فدعا له الناس وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما يريد، فأبى واختار من عسكره ألف رجل، فسألوه الازدياد، فلم يفعل، وسار بهم ونهاه عن الإبقاء على أحد من العرب، وقصد بلاد فارس فأوقع بالعرب وهم غارون فقتل وأسر وأكثر. ثم قطع البحر إلى الخط فقتل من بالبحرين لم يلتفت إلى غنيمة، وسار إلى هجر وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فقتل منهم حتى سالت دماؤهم على الأرض، وأباد عبد القيس، وقصد اليمامة وأكثر في أهلها القتل، وغور مياه العرب، وقصد بكراً وتغلب فيما بين مناظر الشام والعراق فقتل وسبى وغور مياههم وسار إلى قرب المدينة ففعل كذلك، وكان ينزع أكتاف رؤسائهم ويقتلهم إلى أن هلك فسموه سابور ذا الأكتاف لهذا، وانتقلت إياد حينئذٍ إلى الجزيرة وصارت تغير على السواد، فجهز سابور إليهم الجيوش، وكان لقيط الإيادي معهم، فكتب إلى إياد:
?سلامٌ في الصحيفة من لقيطٍ.......إلى من بالجزيرة مـن إياد
بأنّ اللّيث كسرى قد أتـاكـم.......فلا يشغلكم سوق الـنّـقـاد
أتاكم منهم سبـعـون ألـفـاً.......يزجّون لكتائب كالـجـراد
فلم يقبلوا منه وداموا على الغارة، فكتب إليهم أيضاً:
أبلغ إياداً وطـوّل فـي سـراتـهـم.......أنّي أرى الرّأي إن لم أعص قد نصعا
وهي قصيدة مشهورة من أجود ما قيل في صفة الحرب. فلم يحذروا، وأوقع بهم سابور وأبادهم قتلاً إلا من لحق بأرض الروم. فهذا فعله بالعرب. وأما الروم فإن سابور كان هادن ملكهم، وهو قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، ونحن نذكر سبب تنصره عند الفراغ من ذكر سابور إن شاء الله. ومات قسطنطين وفرق ملكه بين ثلاثة بنين كانوا له، فملكوا، وملكت الروم عليهم رجلاً من أهل بيت قسطنطين يقال له اليانوس، وكان على ملة الروم الأولى ويكتم ذلك، فلما ملك أظهر دينه وأعاد ملة الروم وأخرب البيع وقتل الأساقفة ثم جمع جموعاً من الروم والخزر وسار نحو سابور. واجتمعت العرب للانتقام من سابور، فاجتمع في عسكر اليانوس منهم خلق كثير. وعادت عيون سابور إليه فاختلفوا في الأخبار، فسار سابور بنفسه مع جماعة من ثقاته نحو الروم، فلما قرب من يوسانوس، وهو على مقدمة اليانوس، اختفى وأرسل بعض من معه إلى الروم، فأخذوا، وأقر بعضهم على سابور، فأرسل يوسانوس إليه سراً ينذره فارتحل سابور إلى عسكره وتحارب هو والعرب والروم، فانهزم عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة، وملكت الروم مدينة طيسفون، وهي المدائن الشرقية، وملكوا أيضاً أموال سابور وخزائنه.
وكتب سابور إلى جنوده وقواده يعلمهم ما لقي من الروم والعرب ويستحثهم على المسير إليه، فاجتمعوا إليه، وعاد واستنقذ مدينة طيسفون، ونزل اليانوس مدينة بهرسير، واختلف الرسل بينهما، فبينما اليانوس جالس أصابه سهم لا يعرف راميه فقتله، فسقط في أيدي الروم، ويئسوا من الخلاص من بلاد الفرس، فطلبوا من يوسانوس أن يملك عليهم، فلم يفعل وأبى إلا أن يعودوا إلى النصرانية، فأخبروه أنهم على ملته، وإنما كتموا ذلك خوفاً من اليانوس. فملك عليهم، وأرسل سابور إلى الروم يتهددهم ويطلب الذي ملك عليهم ليجتمع به. فسار إليه يوسانوس في ثمانين رجلاً، فتلقاه سابور وتساجدا وطعما، وقوى سابور أمر يوسانوس بجهده وقال للروم: إنكم أخربتم بلادنا وأفسدتم فيها، فإما أن تعطونا قيما ما أهلكتم وإما أن تعوضونا نصيبين، وكانت قديماً للفرس، فغلبت الروم عليها، فدفعوها إليهم، وتحول أهلها عنها، فحول إليها سابور اثني عشر ألف بيت من أهل إصطخر وأصبهان وغيرهما، وعادت الروم إلى بلادهم، وهلك ملكهم بعد ذلك بيسير.
وقيل: إن سابور سار إلى حد الروم وأعلم أصحابه أنه على قصد الروم مختفياً لمعرفة أحوالهم وأخبار مدنهم، وسار إليهم، فجال فيهم حيناً، وبلغه أن قيصر أولم وجمع الناس فحضر بزي سائل لينظر إلى قيصر على الطعام، ففطن به وأخذ وأدرج في جلد ثور، وسار قيصر بجنوده إلى أرض فارس ومعه سابور على تلك الحال، فقتل وأخرب حتى بلغ جند يسابور، فتحصن أهلها وحاصرها، فبينما هو يحاصرها إذ غفل الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي عليه زيتاً كان بقربهم، ففعلوا، ولان الجلد وانسل منه وسار إلى المدينة وأخبر حراسها فأدخلوه، فارتفعت أصوات أهلها، فاستيقظ الروم، وجمع سابور من بها وعباهم وخرج إلى الروم سحر لتك الليلة فقتلهم وأسر قيصر وغنم أمواله ونساءه واثقله بالحديد وأمره بعمارة ما أخرب وألزمه بنقل التراب من بلد الروم ليبني به ما هدم المنجنيق من جنديسابور وأن يغرس الزيتون مكان النخل، ثم قطع عقبه وبعث به إلى الروم على حمار وقال: هذا جزاؤك يبغيك علينا؛ فأقام مدة ثم غزا فقتل وسبى سبايا أسكنهم مدينة بناها بناحية السو سماها إيران شهر سابور، وبنى مدينة نيسابور بخراسان في قول، وبالعراق بزرج سابور.
وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة. وهلك في أيامه امرؤ القيس بن عمرو ابن عدي عامله على العرب، فاستعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس، فبقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز وبعض أيام سابور بن سابور.
وكانت ولايته ثلاثين سنة.
سبب تنصر قسطنطين
وأما سبب تنصر قسطنطين فإنه كان قد كبر سنه وساء خلقه وظهر به وضح كبير، فأرادت الروم خلعه وترك ماله عليه، فشاور نصحاءه، فقالوا له: لا طاقة لك بهم فقد أجمعوا على خلعك وإنما تحتال عليهم بالدين. وكانت النصرانية قد ظهرت، وهي خفية، وقالوا له: استمهلهم حتى تزور البيت المقدس، فإذا زرته دخلت في دين النصرانية وحملت الناس عليه، فإنهم يعترفون، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك، وما قاتل قوم على دين إلا نصروا. ففعل ذلك، فأطاعه عالم عظيم وخالفه خلق كثير وأقاموا على دين اليونانية، فقاتلهم وظفر بهم، فقتلهم فأحرق كتبهم وحكمتهم وبنى القسطنطينية ونقل الناس إليها، وكانت رومية دار ملكهم، وبقي ملكه عليه، وغلب على الشام، وكان الأكاسرة قبل سابور ذي الأكتاف ينزلون طيسفون، وهي المدينة الغربية من المدائن، فلما نشأ سابور بنى الإيوان بالمدائن الشرقية وانتقل إيه وصار هو دار الملك، وهو باقٍ إلى الآن، ونحن في سنة خمس وعشرين وستمائة.
ذكر ملك أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن سابور بن أردشير بن بابك أخي سابور
فلما ملك واستقر له الملك عطف على العظماء وذوي الرئاسة فقتل منهم خلقاً كثيراً، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه.
ذكر ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف
فلما ملك بعد خلع عمه استبشر الناس بعود ملك أبيه إليه، وكتب إلى العمال بالعدل والرفق بالرعية وأمر بذلك وزراءه وحاشيته، وأطاعه عمه المخلوع وأحبته رعيته، ثم إن العظماء وأهل الشرف قطعوا أطناب خيمة كان فيها فسقطت عليه فقتلته. وكان ملكه خمس سنين.
ذكر ملك أخيه بهرام بن سابور ذي الأكتاف
وكان يلقب كرمان شاه، لأن أباه ملكه كرمان في حياته، فكتب إلى القواد كتاباً يحثهم على الطاعة، وكان محموداً في أموره، وبنى بكرمان مدينة. وثار به ناس من الفتاك فقتله أحدهم بنشابة.
وكان ملكه إحدى عشرة سنة.
ذكر ملك يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف
ومن أهل العلم من يقول إن يزدجرد هذا هو أخو بهرام كرمان شاه بن سابور لا ابنه، وكان فظاً غليظاً ذا عيوب كثيرة يضع الشيء في غير مواضعه، كثير الرؤية في الصغائر، واستعمال كل ما عنده في المواربة والدهاء والمخاتلة مع فطنة بجهات الشر وعجب به، وكان غلقاً سيئ الخلق لا يغفر الصغيرة من الزلات ولا يقبل شفاعة أحد من الناس وإن كان قريباً منه، كثير التهمة، ولا يأتمن أحداً على شيء، ولم يكن يكافئ أحداً على حسن البلاء وإن هو أولى الخسيس من العرف استعظمه، وإذا بلغه أن أحداً من أصحابه صافى أحداً من أهل صناعته نحاه عن خدمته. وكان فيه مع ذلك ذكاء ذهن وحسن أدب، وقد مهر في صنوف من العلم، واستوزر نرسي حكيم زمانه، وكان فاضلاً قد كمل أدبه ولقبه هزار بيده، فأمل الناس أن يصلح نرسي منه، فكان ما أملوه بعيداً. فلما استوى له الملك واشتدت شوكته هابته الأشراف والعظماء، وحمل على الضعفاء فأكثر من سفك الدماء.
فلما ابتليت الرعية به شكوا ما نزل بهم منه إلى الله تعالى وسألوه تعجيل إنقاذهم منه، فزعموا أنه كان بجرجان فرأى ذات يوم في صره فرساً عائراً لم ير مثله، فأخبر به، فأمر أن يسرج ويلجم ويدخل عليه، فلم يقدر أحد على ذلك، فأعلم بذلك، فخرج إليه بنفسه وألجمه بيده وأسرجه، فلما رفع ذنبه ليثفره رمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه وملأ الفرس فروجه جرياً ولم يعلم له خبر، وكان ذلك من صنع الله ورأفته بهم.
وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوماً.
وأما العرب فقيل إنه لما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء بن عمرو ابن عدي في عهد سابور استخلف سابور على عمله أوس بن قلام، وهو من العماليق، فملك خمس سنين وقتل في عهد بهرام بن سابور، ساستخلف بعده في عمله امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس البدء، فبقي خمساً وعشرين سنة، وهلك أيام يزدجرد الأثيم، فاستخلف بعده في عمله ابنه النعمان وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو صاحب الخورنق. وسبب بنائه له أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح، فدل على ظاهرة الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا وأمره ببناء الخورنق مسكناً له وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب، وكان الذي بنى الخورنق رجلاً اسمه سنمار. فلما فرغ من بنائه تعجبوا منه، فقال: لو علمت أنكم توفونني أجري لعملته يدور مع الشمس. فقال: وإنك لتقدر على ما هو أفضل منه ! ثم أمر به فألقي من رأس الخورنق فهلك، فضربت العرب بجزائه المثل، وهو مذكور في أشعارها.
وغزا النعمان هذا الشام مراراً وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم وجعل معه ملك فارس كتيبتين يقال لإحداهما دوس وهي لتنوخ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس، فكان يغزو بهما الشام ومن لم يطعه من العرب.
ثم إنه جلس يوماً في مجلسه من الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والأنهار في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ذلك، فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر قط ؟ قال: لا لو كان يدوم. قال: فما الذي يدوم ؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فبم ينال ذلك ؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله. فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح وخرج هارباً لا يعلم به، فأصبح الناس فلم يروه.
وكان ملكه إلى أن تركه وساح تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، من ذلك في أيام يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة.
وأما علماء الفرس فإنهم يقولون غير هذا، وسيرد ذكره.
ذكر ملك بهرام بن يزدجرد الأثيم
لما ولد يزدجرد بهرام جور اختار لحضانته العرب، فدعا بالمنذر بن النعمان واستحضنه بهرام وشرفه وكرمه وملكه على العرب، فسار به المنذر واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة من بنات الأشراف، منهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين. فلما بلغ خمس سنين أحضر له مؤدبين فعلموه الكتابة والرمي والفقه بطلب من بهرام بذلك، وأحضر حكيماً من حماء الفرس بتعلم ووعى كل ما علمه بأدنى تعليم. فلما بلغ اثنتي عشرة سنة تعلم كل ما أفيد وفاق معلميه، فأمرهم المنذر بالانصراف، وأحضر معلمي الفروسية فأخذ عنهم كل ما ينبغي له، ثم صرفهم. ثم أمر فأحضرت خيل العرب للسباق فسبقها فرس أشقر للمنذر، وأقبل باقي الخيل بداد بداد فقرب المنذر الفرس بيده إليه، فقبله وركبه يوماً للصيد، فبصر بعانة حمرٍ وحش، فرمى عليها وقصدها وإذا هو بأسد قد أخذ عيراً منها فتناول ظهره بفيه، فرماه بهرام بسهم فنفذ في الأسد والعير، ووصل إلى الأرض فساخ السهم إلى ثلثه، فرآه من معه فعجبوا منه، ثم أقبل على الصيد واللهو والتلذذ.
فمات أبوه وهو عند المنذر، فتعاهد العظماء وأهل الشرف على أن لا يملكوا أحداً من ذرية يزدجرد لسوء سيرته، فاجتمعت الكلمة على صرف الملك عن بهرام لنشوئه في العرب وتخلقه بأخلاقهم ولأنه من ولد يزدجرد، وملكوا رجلاً من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى. فانتهى هلاك يزدجرد وتمليك كسرى إلى بهرام، فدعا بالمنذر وابنه النعمان وناس من أشراف العرب وعرفهم إحسان والده إليهم وشدته على الفرس، وأخبرهم الخبر. فقال المنذر: لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه، وجهز عشرة آلاف فارس ووجههم مع ابنه النعمان إلى طيسفون وبهرسير مدينتي الملك، وأمره أن يعسكر قرباً منهما ويرسل طلائعه إليهما وأن يقاتل من قاتله ويغير على البلاد، ففعل ذلك، وأرسل عظماء فارس حوابى صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر يعلمه أمر النعمان، فلما ورد حوابى قال له: الق الملك بهرام. فدخل عليه، فراعه ما رأى منه، فأغفل السجود دهشا، فعرف بهرام ذلك فكلمه ووعده أحسن الوعد ورده إلى المنذر وقال له: أجبه. فقال له: إ إن الملك بهرام أرسل النعمان إلى ناحيتكم حيث ملكه الله بعد أبيه. فلما سمع حوابى مقالة المنذر وتذكر ما رأى من بهرام علم أن جميع من تشاور في صرف الملك عن بهرام محجوج، فقال للمنذر: سر إلى مدينة الملوك فيجتمع إليك الأشراف والعظماء، وتشاوروا في ذلك فلن يخالفوا ما تشير به.
وسار المنذر بعد عود حوابي من عنده بيوم في ثلاثين ألفاً من فرسان العرب إلى مدينتي الملك بهرام، فجمع الناس، وصعد بهرام على منبر من ذهب مكلل بالجوهر وتكلم عظماء الفرس فذكروا فظاظة يزدجرد أبي بهرام وسوء سيرته وكثرة قتله وإخراب البلاد وأنهم لهذا السبب صرفوا الملك عن ولده.
فقال بهرام: لست أكذبكم وما زلت زارياً عليه ذلك ولم أزل أسأل الله أن يملكني لأصلح ما أفسد ومع هذا فإذا أتى على ملكي سنة ولم اف بما أعد تبرأت من الملك طائعاً وأنا راضٍ بأن تجعلوا التاج وزينة الملك بين أسدين ضاريين فمن تناولهما كان الملك له. فأجابوه إلى ذلك ووضعوا التاج والزينة بين أسدين، وحضر موبذان موبذ، فقال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى لأنك تطلب الملك بوراثة وأنا فيه مغتصب. فحمل بهرام جرزاً وتوجه نحو التاج، فبدر إليه أحد الأسدين فوثب بهرام فعلاً ظهره وعصر جنبي الأسد بفخذيه وجعل يضرب رأسه بالجزر الذي معه، ثم وثب الأسد الآخر عليه، فقبض أذنيه بيده ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الآخر الذي تحته حتى دمغهما ثم قتلهما بالجزر الذي معه وتناول بعد ذلك التاج والزينة. فكان أول من أطاعه كسرى، وقال جميع من حضر: قد أذعنا لك ورضينا بك ملكاً، وإن العظماء والوزراء والأشراف سألوا المنذر ليكلم بهرام في العفو عنهم. فسأل المنذر الملك بهرام ذلك فأجابه.
وملك بهرام وهو ابن عشرين سنة وأمر أن يلزم رعيته راحة ودعة، وجلس للناس يعدهم بالخير ويأمرهم بتقوى الله، ولم يزل مدة ملكه يؤثر اللهو على ما سواه حتى طمع فيه من حوله من الملوك في بلاده، وكان أول من سبق إلى قصده خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتي ألف وخمسين ألفاً من الترك، فعظم ذلك على الفرس، ودخل العظماء على بهرام وحذروه، فتمادى في لهوه ثم تجز وسار إلى أذربيجان ليتنسك في بيت نارها، ويتصيد بأمنيته في سبعة رهط من العظماء وثلاثمائة من ذوي البأس والنجدة، واستخلف أخاه نرسي، فما شك الناس في أنه هرب من عدوه، فاتفق رأي جمهورهم على الانقياد إلى خاقان، وبذل الخراج له خوفاً على نفوسهم وبلادهم.
فبلغ ذلك خاقان فأمن ناحيتهم وسار بهرام من أذربيجان إلى خاقان في تلك العدة، فثبت للقتال وقتل خاقان بيده وقتل جنده وانهزم من سلم من القتل، وأمعن بهرام في طلبهم يقتل ويأسر ويغنم ويسبي، وعاد وجنده سالمين وظفر بتاج خاقان وإكليله وغلب على طرف من بلاده واستعمل عليها مرزباناً، وأتاه رسل الترك خاضعين مطيعين وجعلوا بينهم حداً لا يعدونه، وأرسل إلى ما وراء النهر قائداً من قواده فقتل وسبى وغنم، وعاد بهرام إلى العراق، وولى أخاه نرسي خراسان وأمره أن ينزل مدينة بلخ.
واتصل به أن بعض رؤساء الديلم جمع جمعاً كثيراً وأغار على الري وأعمالها فغنم وسبى وخرب البلاد وقد عجز أصحابه في الثغر عن دفعه، وقد قرروا عليهم إتاوة يدفعونها إليه، فعظم ذلك عليه وسير مرزباناً إلى الري في عسكر كثيف وأمره أن يضع على الديلمي من يطمعه في البلاد ويغريه بقصدها، ففعل ذلك، فجمع الديلمي جموعه وسار إلى الري، فأرسل المرزبان إلى بهرام جور يعلمه خبره، فكتب إليه يأمره بالمسير نحو الديلمي والمقام بموضع سماه له، ثم سار جريدة في نفر من خواصه فأدرك عسكره بذلك المكان والديلمي لا يعلم بوصوله، وهو قد قوي طمعه لذلك، فعبى بهرام أصحابه وسار نحو الديلم، فلقيهم وباشر القتال بنفسه، فأخذ رئيسهم أسيراً، وانهزم عسكره، فأمر بهرام بالنداء فيهم بالأمان لمن عاد إليه، فعاد الديلم جميعهم، فآمنهم ولم يقتل منهم أحداً وأحسن إليهم وعادوا إلى أحسن طاعة، وأبقى على رئيسهم وصار من خواصه.
وقيل: كانت هذه الحادثة قبل حرب الترك، والله أعلم.
ولما ظفر بالديلم أمر ببناء مدينة سماها فيروز بهرام، فبنيت له هي ورستاقها. واستوزر نرسي، فأعلمه أنه ماضٍ إلى الهند متخفياً، فسار إلى الهند وهو لا يعرفه أحد، غير أن الهند يرون شجاعته وقتله السباع. ثم إن فيلاً ظهر وقطع السبيل وقتل خلقاً كثيراً، فاستدل عليه، فسمع الملك خبره فأرسل معه من يأتيه بخبره. فانتهى بهرام والهندي معه إلا الأجمة، فصعد الهندي شجرة ومضى بهرام فاستخرج الفيل وخرج وله صوت شديد، فلما قرب منه رماه بسهم بين عينيه كاد يغيب، ووقذه بالنشاب وأخذ مشفره، ولم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه فاحتز رأسه وأخرجه.
وأعلم الهندي ملكهم بما رأى، فأكرمه وأحسن إليه وسأله عن حاله، فذكر أن ملك فارس سخط عليه فهرب إلى جواره، وكان لهذا الملك عدو فقصده، فاستسلم الملك وأراد أن يطيع ويبذل الخراج، فنهاه بهرام وأشار بمحاربته، فلما التقوا قال لأساورة الهندي: احفظوا لي ظهري، ثم حمل عليهم فجعل يضرب في أعراضهم ويرميهم بالنشاب حتى انهزموا، وغنم أصحاب بهرام ما كان في عسكر عدوه، فأعطى بهرام الدبيل ومكران وأنحكه ابنته، فأمر بتلك البلاد فضمت إلى مملكة الفرس.
وعاد بهرام مسروراً وأغزى نرسي بلاد الروم في أربعين ألفاً وأمره أن يطالب ملك الروم بالإتاوة، فسار إلى القسطنطينية، فهادنه ملك الروم، فانصرف بكل ما أراد إلى بهرام. وقيل: إنه لما فرغ من خاقان والروم سار بنفسه إلى بلاد اليمن ودخل بلاد(السودان فقتل مقاتلتهم وسبى لهم خلقاً كثيراً وعاد إلى مملكته.
ثم إنه في آخر ملكه خرج إلى الصيد فشد على عنز فأمعن في طلبه، فارتطم في جب فغرق، فبلغ والدته ذلك، فسارت إلى ذلك الموضع وأمرت بإخراجه، فنقلوا من الجب طيناً كثيراً حتى صار إكاماً عظاماً ولم يقدروا عليه.
وكان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً، وقيل: ثلاثاً وعشرين سنة.
هكذا ذكر أبو جعفر في اسم بهرام جور أن أباه أسلمه إلى المنذر بن النعمان، كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم ابنه بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس، ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذلك، إلا أنه لم ينسب كل قول إلى قائله.
ذكر ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور
لما لبس التاج جلس للناس ووعدهم وذكر أباه ومناقبه وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه طول جلوسه لهم فإن خلوته في مصالحهم وكيد أعدائهم، وأنه قد استوزر نرسي صاحب أبيه. وعدل في رعيته وقمع أعداءه وأحسن إلى جنده، وكان له ابنان يقال لأحدهما هرمز وللآخر فيروز، وكان لهرمز سجستان، فغلب على الملك بعد هلاك أبيه يزدجرد، فهرب فيروز ولحق ببلاد الهياطلة واستنجد ملكهم، فأمده بعد أن دفع إليه الطالقان، فأقبل بهم فقتل أخاه بالري، وكانا من أم واحدة، وقيل لم يقتله وإنما أسره وأخذ الملك منه.
وكان الروم منعوا الخراج عن يزدجرد، فوجه إليهم نرسي في العدة التي أنفذه أبوه فيها فبلغ إرادته. وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر، وقيل تسع عشرة سنة.
ذكر ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام بعد أن قتل أخاه هرمز وثلاثة من أهل بيته
ولما ظفر فيروز بأخيه وملك أظهر العدل وأحسن السيرة، وكان يتدين، إلا أنه كان محدوداً مشؤوماً على رعيته، وقحطت البلاد في زمانه سبع سنين متوالية، وغارت الأنهار والقنى، وقل ماء دجلة، ومحلت الأشجار، وهاجت عام الزروع في السهل والجبل من بلاده، وماتت الطيور والوحوش، وعم أهل البلاد الجوع والجهد الشديد، فكتب إلى جميع رعيته يعلمهم أنه لا خراج عليهم ولا جزية ولا مؤونة، وتقدم إليهم بأن كل من عنده طعام مذخور يواسي به الناس وأن يكون حال الغني والفقير واحداً، وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنساناً مات جوعاً بمدينة أو قرية عاقبهم ونكل بهم، وساس الناس سياسةً لم يعطب أحد جوعاً ما خلا رجلاً واحداً من رستاق أردشير خره، وابتهل فيروز إلى الله بالدعاء فأزال ذلك القحط وعادت بلاده إلى ما كانت عليه.
فلما حيي الناس والبلاد وأثخن في أعدائه سار مريداً حرب الهياطلة، فلما سمع إخشنوار ملكهم خافه، فقال له بعض أصحابه: اقطع يدي ورجلي وألقني على الطريق وأحسن إلى عيالي لأحتال على فيروز. ففعل ذلك، واجتاز به فيروز فسأله عن حاله فقال له: إني قلت لإخشنوار لا طاقة لك بفيروز ففعل بي هذا، وإني أدلك على طريق لم يسلكها ملك وهي أقرب. فاغتر فيروز بذلك وتبعه، فسار به وبجنده حتى قطع بهم مفازة بعد مفازة حتى إذا علم أنهم لا يقدرون على الخلاص وأعلمهم حاله. فقال أصحاب فيروز لفيروز: حذرناك فلم تحذر، فليس إلا التقدم على كل حال، فتقدموا أمامهم فوصلوا إلى عدوهم وهم هلكى عطشى وقتل العطش منهم كثيراً. فلما أشرفوا على تلك الحال صالحوا إخشنوار على أن يخلي سبيلهم إلى بلادهم على أن يحلف له فيروز أنه لا يغزو بلاده، فاصطلحا، وكتب فيروز كتاباً بالصلح وعاد.
فلما استقر في مملكته حملته الأنفة على معاودة إخشنوار، فنهاه وزراؤه عن نقض العهد، فلم يقبل وسار نحوه، فلما تقاربا أمر إخشنوار فحفر خلف عسكره خندقاً عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعاً وغطاه بخشب ضعيف وتراب، ثم عاد وراءه، فلما سمع فيروز بذلك اعتقده هزيمة فتبعه ولا يعلم عسكر فيروز بالخندق فسقط هو وأصحابه فيه فهلكوا، وعاد إخشنوار إلى عسكر فيروز وأخذ كل ما فيه وأسر نساءه وموبذان موبذ ثم استخرج جثة فيروز وجثة كل من سقط معه فجعلها في النواويس.
وقيل: إن فيروز لما انتهى إلى الخندق الذي حفره إخشنوار ولم يكن مغطى عقد عليه قناطر وجعل عليها أعلاماً له ولأصحابه يقصدونها في عودهم وجاء إلى القوم. فلما التقى العسكران احتج عليه إخشنوار بالعهود التي بينهما وحذره عاقبة الغدر، فلم يرجع، فنهاه أصحابه فلم ينته، فضعفت نياتهم في القتال. فلما أبى إلا القتال رفع إخشنوار نسخة العهد على رمح وقال: اللهم خذ بما في هذا الكتاب وقلده بغيه. فقاتله فانهزم فيروز وعسكره فضلوا عن مواضع القناطر فسقطوا في الخندق، فهلك فيروز وأكثر عسكره، وغنم إخشنوار أموالهم ودوابهم وجميع ما معهم، وغلب إخشنوار على عامة خراسان.
فسار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا، وكان فيهم عظيماً، وخرج كالمحتسب، وقيل: بل كان فيروز استخلفه على ملكه لما سار، وكان له سجستان، فلقي صاحب الهياطلة فأخرجه من خراسان واستعاد منه كل ما أخذ من عسكر فيروز مما هو في عسكره من السبي وغيره وعاد إلى بلاده، فعظمته الفرس إلى غاية لم يكن فوقه إلا الملك، وكانت مملكة الهياطلة طخارستان، فكان فيروز قد أعطى ملكهم لما ساعده على حرب أخيه الطالقان.
وكان ملك فيروز ستاً وعشرين سنة، وقيل: إحدى وعشرين سنة.
ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروز
كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم، وكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي سيد كندة، فلما قتل عمرة ابن تبع أخاه حسان بن تبع اصطنع عمرة بن حجر وزوجه ابنة أخيه حسان، ولم يطمع في التزوج إلى ذلك البيت أحد من العرب، فولدت الحارث بن عمرو. وملك بعد عمرة بن تبع عبد كلال بن مثوب، وإنما مملكوه لأن أولاد عمرو كانوا صغاراً، وكان الجن قبل ذلك قد استهامت تبع بن حسان، وكان عبد كلال على دين النصرانية الأولى ويكتم ذلك. ورجع تبع بن حسان من استهامته وهو أعلم الناس بما كان قبله، فملك اليمن، وهابته حمير، فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر في جيش إلى الحيرة، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس، وهو ابن الشقيقة، فقاتله فقتل النعمان وعدةً من أهل بيته، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من النمر ابن قاسط، فذهب ملك آل النعمان وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون؛ قاله بعضهم.
وقال ابن الكلبي: ملك بعد النعمان المنذر بن النعمان بن المنذر بن النعمان أربعاً وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين، وفي زمن يزدجرد ابن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة، ثم ملك بعده الأسود بن المنذر عشرين سنة، منها في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين.
وهكذا ذكر أبو جعفر ها هنا أن الحارث بن عمرو قتل النعمان بن امرئ القيس وأخذ بلاده وانقرض ملك أهل بيته، وذكر فيما تقدم أن المنذر بن النعمان أو النعمان، على الاختلاف المذكور، هو الذي جمع العساكر وملك بهرام جور على الفرس، ثم ساق فيما بعد ملوك الحيرة من أولاد النعمان هذا إلى آخرهم ولم يقطع ملكهم بالحارث بن عمرو، وسبب هذا أن أخبار العرب لم تكن مضبوطة على الحقيقة، فقال كل واحد ما نقل إليه من غير تحقيق. وقيل غير ذلك، وسنذكره في مقتل حجر بن عمرو والد امرئ القيس في أيام العرب إن شاء الله.
والصحيح أن ملوك كندة عمرو والحارث كانوا بنجد على العرب، وأما اللخميون ملوك الحيرة المناذرة فلم يزالوا عليها إلى أن ملك قباذ الفرس وأزالهم واستعمل الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة. ثم أعاد أنوشروان الحيرة إلى اللخميين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك بلاش بن فيروز بن يزدجرد
ثم ملك بعد فيروز ابنه بلاش وجرى بينه وبين أخيه قباذ منازعة استظهر فيها قباذ وملك، فلما ملك بلاش أكرم سوخرا وأحسن إليه لما كان منه، ولم يزل حسن السيرة حريصاً على العمارة، وكان لا يبلغه أن بيتاً خرب وجلا أهله إلا عاقب صاحب تلك القرية على تركه سد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى مفارقة أوطانهم، وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن، وكان ملكه أربع سنين.
ذكر ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد !
وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصراً به على أخيه بلاش، فمر في طريقه بحدود نيسابور ومعه جماعة من أصحابه متنكرين وفيهم زرمهر بن سوخرا، فتاقت نفسه إلى النكاح، فشكا ذلك إلى زرمهر وطلب منه امرأة، فسار إلى امرأة صاحب المنزل، وكان من الأساورة، وكان لها بنت حسناء، فخطبها منها وأطمعها وزوجها، فزوجا فدخل بها من ليلته، فحملت بأنوشروان، وأمر لها بجائزةٍ سنية وردها، وسألتها أمها عن قباذ وحاله. فذكرت أنها لا تعرف من حاله شيئاً غير أن سراويله منسوجة بالذهب، فعلمت أنه من أبناء الملوك. ومضى قباذ إلى خاقان واستنصره على أخيه، فأقام عنده أربع سنين وهو يعده، ثم أرسل معه جيشاً. فلما صار بالقرب من الناحية التي بها زوجته سأل عنها فأحضرت ومعها أنوشروان وأعلمته أنه ابنه. وورد الخبر إليه بذلك المكان أن أخاه بلاش قد هلك، فتيمن بالمولود وحمله وأمه على مراكب نساء الملوك واستوثق له الملك وخص سوخرا وشكر لولده خدمته. وتولى سوخرا الأمر، فمال الناس إليه وتهاونوا بقباذ، فلم يحتمل ذلك. فكتب إلى سابور الرازي، وهو أصبهبذ ديار الجبل، ويقال للبيت الذي هو منه مهران، فاستقدمه ومعه جنده، فتقدم إليه فأعلمه عزمه على قتل سوخرا وأمره بكتمان ذلك، فأتاه يوماً سابور وسوخرا عند قباذ فألقى في عنقه وهقاً وأخذه وحبسه ثم خنقه قباذ وأرسله إلى أهله وقدم عوضه سابور الرازي.
وفي أيامه ظهر مزدك وابتدع ووافق زرادشت في بعض ما جاء به وزاد ونقص، وزعم أنه يدعو إلى شريعة إبراهيم الخليل حسب ما دعا إليه زرادشت، واستحل المحارم والمنكرات، وسوى بين الناس في الأموال والأملاك والنساء والعبيد والإماء حتى لا يكون لأحد على أحد فضل في شيء البتة، فكثر أتباعه من السفلة والأغتام فصاروا عشرات ألوف، فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر، وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار، فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ. فقال يوماً لقباذ: اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان. فأجابه إلى ذلك، فقام أنوشروان إليه ونزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه وله حكمه في سائر ملكه، فتركها.
وحرم ذباحة الحيوان وقال: يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن، فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أباه.
فلما مضى عشر سنين من ملك قباذ اجتمع موبذان موبذ والعظماء وخلعوه وملكوا عليهم أخاه جامسب وقالوا له: إنك قد أثمت باتباعك مزدك وبما عمل أصحابه بالناس وليس ينجيك إلا إباحة نفسك ونسائك، وأرادوه على أن يسلم نفسه إليهم ليذبحوه ويقربوه إلى النار، فامتنع من ذلك، فحبسوه وتركوه لا يصل إليه أحد. فخرج زرمهر بن سوخرا فقتل من المزدكية خلقاً، وأعاد قباذ إلى ملكه وأزال أخاه جامسب. ثم إن قباذ قتل بعد ذلك زرمهر.
وقيل: لما حبس قباذ وتولى أخوه دخلت أختٌ لقباذ عليه كأنها تزوره ثم لفته في بساط وحمله غلام، فلما خرج من السجن سأله السجان عما معه، فقالت: هو مرحل كنت أحيض فيه، فلم يمس البساط، فمضى الغلام بقباذ، وهرب قباذ فلحق بملك الهياطلة يستجيشه. فلما صار بإيران شهر، وهي نيسابور، نزل برجل من أهلها له ابنة بكر حسنة جميلة فنحكها، وهي أم كسرى أنوشروان، فكان نكاحه إياها في هذه السفرة لا في تلك، في قول بعضهم، وعاد ومعه أنوشروان، فغلب أخاه جامسب على الملك؛ وكان ملك جامسب ست سنين. وغزا قباذ بعد ذلك الروم ففتح مدينة آمد وبنى مدينة أرجان ومدينة حلوان ومات، فملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، فكان ملك قباذ مع سني أخيه جامسب ثلاثاً وأربعين سنة، فتولى أنوشروان ما كان أبوه أمر له به.
وفي أيامه خربت الخزر فأغاربت على بلاده فبلغت الدينور، فوجه قباذ قائداً من عظماء قواده في اثني عشر ألفاً، فوطئ بلاد أران وفتح ما بين النهر المعروف بالرس إلى شروان، ثم إن قباذ لحق به فبنى بأران مدينة البيلقان ومدينة برذعة، وهي مدينة الثغر كله، وغيرهما، وبقي الخزر، ثم بنى سداً للآن فيما بين أرض شروان وباب اللان، وبنى على السد مدناً كثيرة خربت بعد بناء الباب والأبواب.
ذكر حوادث العرب أيام قباذ
لما ملك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي العرب وقتل النعمان بن المنذر ابن امرئ القيس، كما ذكرناه، بعث إليه قباذ: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد، وأحب لقاءك. وكان قباذ زنديقاً يظهر الخير ويكره الدماء ويداري أعداءه. فخرج إليه الحارث والتقيا واصطلحا على أن لا يجوز الفرات أحدٌ من العرب، فطمع الحارث الكندي فأمر أصحابه أن يقطعوا الفرات ويغيروا على السواد، فسمع قباذ فعلم أنه من تحت يد الحارث، فاستدعاه، فحضر، فقال له: إن لصوصاً من العرب صنعت كذا وكذا، فقال: ما علمت ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود. وطلب منه شيئاً من السواد، فأعطاه ستة طساسيج، وأرسل الحارث بن عمرو إلى تبع، وهو باليمن، يطمعه في بلاد العجم، فسار تبع حتى نزل الحيرة، وأرسل ابن أخيه شمراً ذا الجناح إلى قباذ، فحاربه فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، ثم وجه تبع شمراً إلى خراسان، ووجه ابنه حسان إلى السغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليه، وكان كل واحد منهما في جيش عظيم، يقال: كانا في ستمائة ألف وأربعين ألفاً؛ وأرسل ابن أخيه يعفر إلى الروم، فنزل على القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ومضى إلى رومية فحاصرها فأصاب من معه طاعون، فوثب الروم عليهم فقتلوهم ولم يفلت منهم أحد.
وسار شمر ذو الجناح إلى سمرقند فحاصرها، فلم يظفر بها، وسمع أن ملكها أحمق وأن له ابنةً، وهي التي تقضي الأمور، فأرسل إليها هديةً عظيمةً، وقال لها: إنني إنما قدمت لأتزوج بك ومعي أربعة آلاف تابوت مملوءة ذهباً وفضة أنا أدفعها إليك وأمضي إلى الصين، فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت كان المال لك.
فلما بلغتها الرسالة قالت: قد أجبته فليبعث المال؛ فأرسل أربعة آلاف تابوت في كل تابوت رجلان. ولسمرقند أربعة أبواب، ولكل باب ألفا رجل، وجعل العلامة بينهم أن يضرب بالجرس. فلما دخلوا البلد صاح شمر في الناس وضرب بالجرس، فخرجوا وملكوا الأبواب ودخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها وسار إلى الصين فهزم الترك ودخل بلادهم ولقي حسان بن تبع قد سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها حتى ماتا؛ وكان مقامهما فيما قيل إحدى وعشرين سنة، وقيل: عادا في طرقهما حتى قدما على تبع بالغنائم والسبي والجواهر، ثم انصرفوا جميعاً إلى بلادهم، ومات تبع باليمن فلم يخرج أحد من اليمن غازياً بعده.
وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة؛ وقيل تهودٌ.
قال ابن إسحاق: كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها وخلف عندهم ابناً له فقتل غيلةً فقدمها عازماً على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك ورئيسهم عمرو ابن الطلة أحد بني عمرو بن مبذول من بني النجار وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه نهاراً ويقرونه ليلاً. فبينما هو على ذلك إذ جاءه حبران من بني قريظة عالمان، فقالا له: قد سمعنا ما تريد أن تفعل، وإنك إن أبيت إلا ذلك حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال: ولم ذلك ؟ فقالا: إنها مهاجر نبي من قريش تكون داره. فانتهى عما كان يريد وأعجبه ما سمع منهما فاتبعهما على دينهما، واسمهما كعب وأسد، وكان تبع وقومه أصحاب أوثان. وسار من المدينة إلى مكة، وهي طريقه، فكسا الكعبة الوصائل والملاء، وكان أول من كساها، وجعل لها باباً ومفتاحاً، وخرج متوجهاً إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه حتى حاكموه إلى النار، وكانت لهم نار تحكم بينهم فيما يزعمون تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فقال لقومه: أنصفتم. فخرج قومه بأوثانهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا عند مخرج النار، فخرجت النار فغشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران تعرق جباههما لم تضرهما، فأصفقت حمير على ديته.
وكان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهناً، فقال له تبع: هل تجد لقومٍ ملكاً يوازي ملكي ؟ قال: لا إلا لملك غسان. قال: فهل تجد ملكاً يزيد عليه ؟ قال: أجد لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قصي ! فنظر تبع في الزبور فإذا هو يجد صفة النبي، ﷺ.
ثم ملك بعد تبع هذا، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب، ربيعة بن نصر اللخمي، فلما هلك ربيعة رجع الملك باليمن إلى حسان بن تبان أسعد. فلما ملك ربيعة رأى رؤيا هالته فلم يدع كاهناً ولا ساحراً ولا عائفاً إلا أحضره وقال لهم: رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها. فقالوا: اقصصها علينا. فقال: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، فلما قال ذلك قال له رجلٌ منهم: إن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح وشق فهما يخبرانك عما سألت.
واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن غسان، وكان يقال له الذئبي نسبةً إلى ذئب بن عدي، وشق بن مصعب بن يشكر بن أنمار.
فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فلما قدم عليه سطيح سأله عن رؤياه وتأويلها. فقال: رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض بهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة ؟ قال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً، فما عندك في تأويلها ؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لغائظ موجع، فمتى يكون أفي زماني أم بعده ؟ قال: بل بعده بحين ستين سنة أو سبعين يمضين من السنين. قال: هل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن الذي يلي ذلك ؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن. قال: فيدوم ذلك من سلطانهن أو ينقطع ؟ قال: بل ينقطع، يقطعه نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي، وهو رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر ؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح ؟ قال: نعم والشفق، والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق فقال: يا شق إني رأيت رؤيا هالتني فأخبرني عنها وعن تأويلها ! وكتمه ما قال سطيح لينظر هل يتفقان أم يختلفان. قال: نعم، رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت شيئاً، فما تأويلها ؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. قال الملك: وأبيك يا شق ! إن هذا لغائظ، فمتى هو كائن ؟ قال: بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان، وهو غلام ليس بدنيً ولا مزن، يخرج من بيت ذي يزن. فلا يترك أحداً منهم باليمن قال: فهل يدوم سلطانه أم ينقطع ؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال: وما يوم الفصل ؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، ويدعى من السماء بدعوات، ويسمع منها الأحياء والأموات، ويجتمع فيه الناس للميقات.
فلما فرغ من مسألتهما جهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك.
فلما هلك ربيعة بن نصر واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان بن أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هيج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير أن حسان سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم، كما كانت التبابعة تفعل. فلما كان بالعراق كرهت قبائل العرب من اليمن المسير معه فكلموا أخاه عمراً في قتل حسان وتمليكه، فأجابهم إلى ذلك إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، فلم يقبل منه، فعمد ذو رعين إلى صحيفة فكتب فيها.
ألا من يشتري سهراً بنومٍ ؟.......سعيدٌ من يبيت قرير عينٍ
فإمّا حميرٌ غدرت وخانت.......فمعذرة الإله لذي رعين
ثم ختمها وأتى بها عمراً فقال: ضع هذه عندك، ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو:
يا عمرو لا تعجل عليّ منيتي.......فالملك تأخذه بغير حشـود
فأبى إلا قتله، فقتله بموضع رحبة مالك، فكانت تسمى فرضة نعم فيما قيل، ثم عاد إلى اليمن فمنع النوم منه، فسأل الأطباء وغيرهم عما به وشكا إليهم السهر، فقال له قائل منهم: ما قتل أحدٌ أخاه أو ذا رحم بغياً إلا منع منه النوم. فلما سمع ذلك قتل كل من أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قال: إن لي عندك براءة. قال: وما هي ؟ قال: أخرج الكتاب الذي استودعتك. فأخرجه فإذا فيه البيتان، فكف عن قتله، ولم يلبث عمرو أن هلك، فتفرقت حمير عند ذلك.
قلت: هذا الذي ذكره أبو جعفر من قتل قباذ بالري وملك تبع البلاد من بعد قتله من النقل القبيح والغلط الفاحش، وفساده أشهر من أن يذكر، فلولا أننا شرطنا أن لا نترك ترجمة من تاريخه إلا ونأتي بمعناها من غير إخلال بشيء لكان الإعراض عنه أولى. ووجه الغلط فيه أنه ذكر أن قباذ قتل بالري، ولا خلاف بين أهل النقل من الفرس وغيرهم أن قباذ مات حتف أنفه في زمان معلوم، وكان ملكه مدة معلومة، كما ذكرناه قبل، ولم ينقل أحد أنه قتل إلا في هذه الرواية. ولما مات ملك ابنه كسرى أنوشروان بعده، وهذا أشهر من: قفا نبك، ولو كان ملك الفرس انتقل بعد قباذ إلى حمير، كيف كان ملك ابنه بعده وتمكن في الملك حتى أطاعه ملوك الأمم وحملت الروم إليه الخراج ! ثم ذكر أيضاً أن تبعاً وجه ابنه حسان إلى الصين وشمراً إلى سمرقند وابن أخيه إلى الروم وأنه ملك القسطنطينية وسار إلى رومية فحاصرها، فيا ليت شعري ! ما هو اليمن وحضرموت حتى يكون بهما من الجنود ما يكون بعضهم في بلادهم لحفظها، وجيش مع تبع، وجيش مع حسان يسر بهم إلى مثل الصين في كثرة عساكره ومقاتلته، وجيش مع ابن أخيه تبع يلقى به مثل كسرى ويهزمه ويملك بلاده ويحاصر به مثل سمرقند في كبرها وعظمها وكثرة أهلها، وجيش مع يعفر يسير بهم إلى ملك الروم ويملك القسطنطينية ! والمسلمون مع كثرة ممالكهم واتساعها وكثرة عددهم قد اجتهدوا ليأخذوا القسطنطينية أو ما يجاورها واليمن من أقل بلادهم عدداً وجنوداً فلم يقدروا على ذلك، فكيف يقدر عليه بعض عساكر اليمن مع تبع ؟ هذا مما تأباه العقول، وتمجه الأسماع.
ثم إنه قال: إن ملك تبع بلاد الفرس والروم والصين وغيرها كان بعد قتل قباذ، يعني أيام ابنه أنوشروان، ولا خلاف أن مولد النبي، ﷺ، كان في زمن أنوشروان، وكان ملكه سبعاً وأربعين سنة، ولا خلاف أيضاً أن الحبشة لما ملكت اليمن انقرض ملك حمير منه، وكان آخر ملوكهم ذا نواس. وكان ملك حمير قد اختل قبل ذي نواس، وانقطع نظامهم حتى طمعت الحبشة فيه وملكته، وكان ملكهم اليمن أيام قباذ، وكيف يمكن أن يكون ملك الحبشة الذي هو مقطوع به أيام قباذ ويكون تبع هو الذي ملك اليمن قد قتل قباذ وملك بلاده قبل أن تملك الحبشة اليمن ؟ هذا مردود محال وقوعه، وكان ملك الحبشة اليمن سبعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وكان انقراض ملكهم في آخر ملك أنوشروان، والخبر في ذلك مشهور، وحديث سيف ذي يزن في ذلك ظاهر، ولم يزل اليمن بعد الحبشة في يد الفرس إلى أن ملكه المسلمون، فكيف يستقيم أن ينقضي ملك تبع الذي هو ملك بلاد فارس ومن بعده من ملوك حمير وملك الحبشة وهو سبعون سنة في ملك أنوشروان وكان ملكه نيفاً وأربعين سنة ؟ وهذا أعجب أن مدة بعضها سبعون سنة تنقضي قبل مضي نيف وأربعين سنة، ولو فكر أبو جعفر في ذلك لاستحيا من نقله.
وأعجب من هذا أنه قال: ثم ملك بعد تبع هذا ربيعة بن نصر اللخمي، وهذا ربيعة هو جد عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة، وكان ملك عمرو والحيرة بعد خاله جذيمة أيام ملوك الطوائف قبل ملك أردشير بن بابك بخمس وتسعين سنة، وبين أردشير وقباذ ما يقارب عشرين ملكاً، وكيف يكون جد عمرو وقد ملك بعد قباذ وهو قبله بهذا الدهر الطويل ؟ ولو لم يترجم أبو جعفر على هذه الحادثة بقوله: ذكر الحوادث أيام قباذ، لكان يحتمل تأويلاً فيه، ثم ما قنع بذلك حتى قال، بعد أن قص مسير تبع: وقتل قباذ وملك البلاد.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة هو تبع الأخير، ويعني بقوله تبع الأخير أنه آخر من سار إلى المشرق وملك البلاد، فإن ابن إسحاق وغيره يقولون إن الذي ملك البلاد المشرقية لما توفي ملك بعده عدة تبابعة ثم اختل أمرهم زماناً طويلاً حتى طمعت الحبشة فيهم وخرجت إلى اليمن. فليت شعري إذا كان هذا تبع في أيام قباذ فلا شك أن تبعاً الأخير الذي أخذ منه اليمن يكون في زمن بني أمية ويكون ملك الحبشة اليمن بعد مدة من ملك بني العباس، ويكون أول الإسلام من ثلاثمائة سنة من ملكهم أيضاً مما بعدها حتى يستقيم هذا القول.
ثم إنه قال: إن عمر بن طلحة الأنصاري خرج إلى تبع، وعمر هذا قيل إنه أدرك النبي، ﷺ، شيخاً كبيراً ومات عند مرجعه من غزوة بدر. ومن الدليل على بطلانه أيضاً أن المسلمين لما قصدوا بلاد الفرس ما زالت الفرس تقول لهم عند مراسلاتهم ومحاوراتهم في حروبهم: كنتم أقل الأمم وأذلها وأحقرها والعرب تقر لهم بذلك، فلو كان ملك تبع قريب العهد لقالت العرب: إننا بالأمس قتلنا ملككم وملكنا بلادكم واستبحنا حريمكم وأموالكم، فسكوت العرب عن ذلك وإقرارها للفرس دليل على بعد عهده أو عدمه، على أن الفرس لا تقر بذلك لا في قديم الزمان ولا في حديثه، فإنهم يزعمون أن ملكهم لم ينقطع من عهد جيومرث، الذي هو آدم في قول بعضهم، إلى أن جاء الإسلام، إلا أيام ملوك الطوائف، وكان لملوك الفرس طرف من البلاد في ذلك الزمان لم ينقطع انقطاعاً كلياً، على أن أصحاب السير قد اختلفوا في تبع الذي سار وملك البلاد اختلافاً كثيراً، شمر بن غش، وقيل: تبع أسعد، وإنه بعث إلى سمرقند شمراً ذا الجناح، إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا طائل فيها. وهذا القدر كافٍ في كشف الخطأ فيه.
ذكر ملك لختيعة
فلما هلك عمرو وتفرقت حمير وثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لختيعة تنوف ذو شناتر فملكهم، في قول ابن إسحاق، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، وكان امرأ فاسقاً يزعمون أنه كان يعمل عمل قوط لوط، فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك، ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكاً في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه، ثم يخلي سبيله فيفضحه.
ذكر ملك ذي نواس وقصة أصحاب الأخدود
كان من أبناء الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب، وكان صغيراً حين أصيب أخوه حسان، فشب غلاماً جميلاً ذا هيئة، فبعث إليه لختيعة ليفعل به ما كان يفعل بغيره، فأخذ سكيناً لطيفاً فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في المشربة قتله ذو نواس بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها، ثم أخذ سواكه فجعله في فيه، ثم خرج، فقالوا: ذو نواس أرطب أم يباس؟ فقال: سل يحماس، استرطبان ذو نواس لا بأس.
فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال، فإذا رأس لختيعة مقطوع، فخرجت حمير والحرس في أثر ذي نواس حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من لختيعة، واجتمعوا عليه، وكان يهودياً، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على استقامة لهم رئيس يقال له عبد الله بن الثامر، وكان أصل النصرانية بنجران.
قال وهب بن منبه: إن رجلاً من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحاً لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يعمل الطين ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئاً ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره، فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفياً، ففطن به رجل اسمه صالح فأحبه حباً شديداً، وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به فيميون، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه صالح وفيميمون لا يعلم. فجلس صالح منه منظر العين مستخفياً، وقام فيميون يصلي، فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين، فلما رآه فيميون دعا عليه فمات، ورآه صالح ولم يدر ما أصاهب فخاف على فيميون، فصاح: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك ! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى، وعرف أن صالحاً عرفه، فكلمه صالح وقال له: يعلم الله أنني ما أحببت شيئاً حبك قط وقد أردت صحبتك حيثما كنت. قال: افعل. فلزمه صالح، وكان إذا ما جاءه العبد به ضرٌ شفي إذا دعا له، وإذا دعي إلس أحد به ضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوباً ثم قال لفيميون: قد أردت أن تعمل في بيتي عملاً، فانطلق إليه لأشارطك عليه؛ فانطلق معه، فلما دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه وطلب إليه أن يدعو له، فدعا له فأبصر.
وعرف فيميون أنه قد عرف بالقرية فخرج هو وصالح ومر بشجرة عظيمة بالشام. فناداه رجل وقال: ما زلت أنتظرك، لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت، قال: فمات، فواراه فيميمون وانصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب، وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران، وأهل نجران على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لها عيد كل سنة؛ إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحلي جميل، فعكفوا عليها يوماً، فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحاً، فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيته استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح. فلما رأى سيده ذلك أعجبه، فسأله عن دينه فأخبره، وعاب دين سيده. وقال له: لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة. فقال: افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه. فصلى فيميون ودعا الله تعالى، فأرسل الله عليها ريحاً فجففتها وألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على شريعة من دين عيسى ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران.
وقال محمد بن كعب القرظي: كان أهل نجران يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها ساحر كان أهل نجران يرسلون أولادهم إليه يعلمهم السحر. فلما نزلها فيميون وهو رجل كان يعبد الله على دين عيسى بن مريم، عليه السلام، فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها، وكان مجاب الدعوة يبرئ المرضى، وله كرامات، فوصل نجران فسكن خيمة بين نجران وبين الساحر، فأرسل الثامر ابنه عبد الله مع الغلمان إلى الساحر، فاجتاز بفيميون فرأى ما أعجبه من صلاته، فجعل يجلس إليه ويستمع منه، فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده، وجعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال: لن تحتمله، والثامر يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان. فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ثم ألقاها في النار واحداً واحداً حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئاً، فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال له: امسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فكان عبد الله لا يلقى أحداً إذا أتى نجران به ضر إلا قال: يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له عبد الله فيشفى، حتى لم يبق أحد من أهل نجران ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي.
فرفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني، لأمثلن بك ! فقال: لا تقدر على ذلك. فجعل يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض ليس به بأسٌ، فأرسله إلى مياه نجران، وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأسٌ. فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر: إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت، فإنك إذا فعلت قتلتني. فوحد الله الملك ثم ضربه بعصاً بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، فهلك الملك مكانه، واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريباً من عشرين ألفاً. وهم الذين أنزل الله فيهم: (قتل أصحاب الاخدود) البروج: 4.
وقال ابن عباس: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل، وكان قبل مولد النبي، ﷺ، بسبعين سنة، وكان له ساحر حاذق. فلما كبر قال للملك: إني كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً اسمه عبد الله بن الثامر ليعلمه، فجعل يختلف إلى الساحر، وكان في طريقه راهب حسن القراءة، فقعد إليه الغلام، فأعجبه أمره، فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده، فإذا جاء من عنده إلى المعلم ضربه وقال له: ما الذي حبسك ؟ وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول: ما الذي أبطأ بك ؟ فشكا الغلام ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي، وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم. وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس، فمر بها الغلام فرماها بحجر فقتلها، وأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: إن لك لشأناً، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلن علي. وصار الغلام يبرئ الأكمة والأبرص ويشفي الناس. وكان للملك ابن عم أعمى، فسمع بالغلام وقتل الحية فقال: ادع الله أن يرد علي بصري. فقال الغلام: إن رد الله عليك بصرك تؤمن به ؟ قال: نعم. قال: اللهم إن كان صادقاً فأردد عليه بصره، فعاد بصره، ثم دخل على الملك، فلما رآه تعجب منه وسأله، فلم يخبره، وألح عليه فدله على الغلام، فجيء به، فقال له: لقد بلغ من سحرك ما أرى. فقال: أنا لا أشفي أحداً إنما يشفي الله من يشاء، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب، فجيء به، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى، فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق بنصفين، ثم جيء بابن عم الملك، فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فشقه قطعتين، ثم قال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا فان رجع وإلا فاطرحوه من رأسه، فذهبوا به إلى الجبل فقال اللهم اكفنيهم ! فرجف بهم الجبل وهلكوا، ورجع الغلام إلى الملك، فسأله عن أصحابه، فقال: كفانيهم الله. فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم ! فغرقوا ونجا، وجاء إلى الملك فقال: اقتلوه بالسيف، فضربوه فنبا عنه. وفشا خبره في اليمن، فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق، فقال الغلام للملك: إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول: بسم الله رب الغلام. ففعل ذلك فقتله. فقال الناس: آمنا برب الغلام ! فقيل للملك: قد نزل بك ما تحذر. فأغلق أبواب المدينة وخد أخدوداً وملأه ناراً وعرض الناس، فمن رجع عن دينه تركه، ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه.
وكانت امرأة مؤمنة، وكان لها ثلاثة بنين، أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك، فأبت، فألقى ابنيها الكبيرين، فأبت، ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع. قال لها الصغير: يا أماه لا ترجعي عن دينك، لا بأس عليك ! فألقاه وألقاها في أثره، وهذا الطفل أحد من تكلم صغيراً.
قيل: حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر بن الخطاب، فرأى عبد الله ابن الثامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، فإذا رفعت عنها يده جرت دماً، وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد، فكتب فيه إلى عمر، فأمر بتركه على حاله.
ذكر ملك الحبشة اليمن
قيل: لما قتل ذو نواس من قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العود عن النصرانية أفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان حتى أعجز القوم، فقدم على قيصر فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم. فقال له قيصر: بعدت بلادك عنا، ولكن سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم. فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فأرسل معه ملك الحبشة سبعين ألفاً وأمر عليهم رجلاً يقال له أرياط، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، وجمع ذو نواس جنوده فاجتمعوا، ولم يكن له حرب غير أنه ناوش شيئاً من قتال ثم انهزموا، وخلها أرياط. فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه اقتحم البحر بفرسه فغرق، ووطئ أرياط اليمن فقتل ثلث رجالهم، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياهم، ثم أقام بها وأذل أهلها.
وقيل: إن الحبشة لما خرجوا إلى المندب من أرض اليمن كتب ذو نواس إلى أقيال اليمن يدعوهم إلى الاجتماع على عدوهم، فلم يجيبوه وقالوا: يقاتل كل رجل عن بلاده. فصنع مفاتيح وحملها على عدة من الإبل ولقي الحبشة وقال: هذه مفاتيح خزائن الأموال باليمن، فهي لكم ولا تقتلوا الرجال والذرية، فأجابوه إلى ذلك وساروا معه إلى صنعاء، فقال لكبيرهم: وجه أصحابك لقبض الخزائن. فتفرق أصحابه ودفع إليهم المفاتيح، وكتب إلى الأقيال بقتل كل ثور أسود، فقتلت الحبشة ولم ينج منهم إلا الشريد.
فلما سمع النجاشي جهز إليهم سبعين ألفاً مع أرياط والأشرم، فملك البلاد وأقام بها سنين، ونازعه أبرهة الأشرم، وكان في جنده، فمال إليه طائفة منهم، وبقي أرياط في طائفة، وسار أحدهما إلى الآخر، وأرسل أبرهة: إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها على بعض شيئاً، فيهلكوا، ولكن ابرز إلي فأينا قهر صاحبه استولى على جنده. فتبارزا، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة، فوقعت على رأسه فشرمت أنفه وعينه، فسمي الأشرم. وحمل غلام لأبرهة يقال له عتودة، كان قد تركه كميناً من خلف أرياط، على أرياط فقتله، واستولى أبرهة على الجند والبلاد وقال لعتودة: احتكم. فقال: لا تدخل عروس على زوجها من اليمن حتى أصيبها قبله، فأجابه إلى ذلك، فبقي يفعل بهم هذا الفعل حيناً، ثم عدا عليه إنسان من اليمن فقتله، فسر أبرهة بقتله وقال: لو علمت أنه يحتكم هكذا لم أحكمه. ولما بلغ النجاشي قتل أرياط غضب غضباً شديداً وحلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته، فبلغ ذلك أبرهة، فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته فبلغ ذلك أبرهة، فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته وأرسلها أيضاً، وكتب إليه بالطاعة وإرسال شعره وترابه ليبر قسمه بوضع التراب تحت قدميه، فرضي عنه وأقره على عمله. فلما استقر باليمن بعث إلى أبي مرة ذي يزن، فأخذ زوجته ريحانة بنت ذي جدن ونكحها، فولدت له مسروقاً، وكانت قد ولدت لذي يزن ولداً اسمه معدي كرب، وهو سيف، فخرج ذو يزن من اليمن فقدم الحيرة على عمرو بن هند وسأله أن يكتب له إلى كسرى كتاباً يعلمه محله وشرفه وحاجته، فقال: إني أفد إلى الملك كل سنة وهذا وقتها، فأقام عنده حتى وفد معه ودخل إلى كسرى معه، فأكرمه وعظمه وذكر حاجته وشكا ما يلقون من الحبشة، واستنصره عليهم، وأطمعه في اليمن وكثرة مالها، فقال له كسر أنوشروان: إني لأحب أن أسعفك بحاجتك ولكن المسالك إليها صعبة وسأنظر، وأمر بإنزاله، فأقام عنده حتى هلك. ونشأ ابنه معدي كرب بن ذي يزن في حجرة أبرهة، وهو يحسب أنه أبوه، فسبه انب لأبرهة وسب أباه، فسأل أمه عن أبيه، فصدقته، وأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم وسار عن اليمن، ففعل ما نذكره إن شاء الله.
ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذ
ابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام بن يزدجرد الأثيم لما لبس التاج خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم، وأعلمهم أنه يصلح ذلك، ثم أمر برؤوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة.
وكان سبب قتلهم أن قباذ كان، كما ذكرنا، قد اتبع مزدك على دينه وما دعاه إليه وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها مما ذكرنا أيام قباذ، وكان المنذر بن ماء السماء يومئذٍ عاملاً على الحيرة ونواحيها، فدعاه قباذ إلى ذلك، فأبى، فدعا الحارث بن عمرو الكندي، فأجابه، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته، وكانت أم أنوشروان يوماً بين يدي قباذ، فدخل عليه مزدك. فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ: ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها. فقال: دونكها. فوثب إليه أنوشروان، ولم يزل يسأله ويتضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله، فتركها، فحاك ذلك في نفسه.
فهلك قباذ على تلك الحال وملك أنوشروان، فجلس للملك، ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك، فإن أنوشروان كان منكراً لهذا المذهب كارهاً له، ثم إن أنوشروان أذن للناس إذناً عاماً، ودخل عليه مزدك، ثم دخل عليه المنذر، فقال أنوشروان: إني كنت تمنيت أمنيتين، أرجو أن يكون الله عز وجل قد جمعهما إلي. فقال مزدك: وما هما أيها الملك ؟ قال: تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف، يعني المنذر، وأن أقتل هذه الزنادقة. فقال مزدك: أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم ؟ فقال: وإنك ها هنا يا ابن الزانية ?! والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا. وأمر به فقتل وصلب. وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم، وسمي يومئذٍ أنوشروان.
وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار، فخرج هارباً في صحابته وماله وولده، فمر بالثوية، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء، فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفساً من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم بحفر الأميال في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة، فذلك قول عمرو بن كلثوم:
فآبوا بالنّهاب وبالسبّايا.......وأبنا بالملوك مصفّدينا
وفيهم يقول امرؤ القيس:
ملوكٌ من بني حجر بن عمرو.......يساقون العشيّة يقـتـلـونـا
فلو في يوم معركةٍ أصيبـوا.......ولكن في ديار بني مـرينـا
ولم تغسل جماجمهم بغـسـلٍ.......ولكن في الدماء ومرمّلـينـا
تظلّ الطّير عاطفةً علـيهـم.......وتنتزع الحواجب والعـيونـا
ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطى نصيباً من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها من الغالب، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين فراقه إلا أن يكون لها زوج فترد إليه.
وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء، وجهزهن من بيت المال، وأنكح نساءهم من الأشراف، واستعان بأبنائهم في أعماله، وعمر الجسور والقناطر، وأصلح الخراب، وتفقد الأساورة وأعطاهم، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخير الولاة والعمال والحكام، واقتدى بسيرة أردشير، وارتجع بلاداً كانت مملكة الفرس، منها: السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان، وأعظم القتل في النازور وأجلى بقيتهم عن بلاده.
واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده، فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها، وكان الطريق سهلاً، فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنوداً، فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فأسكنوا أذربيجان.
وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنوشزاد، فبلغه عنه أنه زنديق، فسيره إلى جنديسابور وجعله معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه. فبينما هم عنده غذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم، فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعاً من الأشرار، فأرسل إليهم نائب أبيه بالمدائن عسكراً، فحصروه بجنديسابور، وأرسل الخبر إلى كسرى، فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيراً، فاشتد الحصار حينئذٍ عليه ودخل العساكر المدينة عنوةً فقتلوا بها خلقاً كثيراً وأسروا أنوشزاد، فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي، فوثب بعامل سجستان وقاتله، فهزمه العامل، فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها، ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد، ففعل وآمنه.
وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده، وبنى عليه ابنه قباذ زيادة فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيراً وحصوناً حصن بها بلاده جميعها.
وإن سيجيور خاقان قصد بلاده، وكان أعظم الترك، واستمال الخزر وأبخز وبلنجر، فأطاعوه، فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده إن لم يفعل، فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصينه بلاده، وإن ثغر أرمينية قد حصنه، فصار يكتفي بالعدد اليسير، فقصده خاقان فلم يقدر على شيء منه، وعاد خائباً، وهذا خاقان هو الذي قتل ورد ملك الهياطلة وأخذ كثيراً من بلادهم.
ذكر ملك كسرى بلاد الروم
كان بين كسرى أنوشروان وبين غطيانوس ملك الروم هدنة، فوقع بين رجل من العرب، كان ملكه غطيانوس على عرب الشام يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز يقال له المنذر بن النعمان، فتنةٌ، فأغار خالد على ابن النعمان فقتل من أصحابه مقتلةً عظيمةً وغنم أمواله، فكتب كسرى إلى غطيانوس يذكره ما بينهما من العهد والصلح ويعلمه ما لقي المنذر من خالد، وسأله أن يأمر خالد برد ما غنم إلى المنذر ويدفع له دية من قتل من أصحابه وينصفه من خالد، وإنه إن لم يفعل ينقض الصلح. ووالى الكتب إلى غطيانوس في إنصاف المنذر، فلم يحفل به.
فاستعد كسرى وغزا بلاد غطيانوس في بضعة وسبعين ألفاً، وكان طريقه على الجزيرة، فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء وعبر إلى الشام فملك منبج وحلب وإنطاكية، وكانت أفضل مدائن الشام، وفامية وحميص ومدناً كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوةً واحتوى على ما فيها من الموال والعروض، وسبى أهل مدينة إنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد، وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جانب مدينة طيسفون على بناء مدينة إنطاكية وأسكنهم إياها، وهي التي تسمى الرومية، وكور لها خمسة طساسيج: طسوج النهروان الأعلى، وطسوج النهروان الأوسط، وطسوج النهروان الأسفل، وطسوج بادرايا، وطسوج باكسايا، وأجرى على السبي الذين نقلهم إليها من إنطاكية الأرزاق، وولى القيام بأمرهم رجلاً من نصارى الأهواز ليستأنسوا به لموافقته في الدين؛ وأما سائر مدن الشام ومضر فإن غطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه وضمن له فدية يحملها إليه كل سنة على أن لا يغزو بلاده، فكانوا يحملونها كل عام.
وسار أنوشروان من الروم إلى الخزر فقتل منهم وغنم وأخذ منهم بثأر رعيته. ثم قصد اليمن فقتل فيها وغنم وعاد إلى المدائن وقد ملك ما دون هرقلة وما بينه وبين البحرين وعمان. وملك النعمان بن المنذر على الحيرة وأكرمه، وسار نحو الهياطلة ليأخذ بثأر جده فيروز، وكان أنوشروان قد صاهر خاقان قبل ذلك، ودخل كسرى بلادهم فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراء النهر وأنزل جنوده فرغانة، ثم عاد إلى المدائن. وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنده إلى اليمن، فقتلوا الحبشة وملكوا البلاد. وكان ملكه ثمانياً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وأربعين سنة.
وكان مولد رسول الله، ﷺ، في آخر ملكه، وقيل: ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله، ﷺ، لأربع وعشرين سنة مضت من ملك أنوشروان، وولد رسول الله، ﷺ، سنة اثنتين وأربعين من ملكه.
قال هشام بن الكلبي: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان سبع سنين، ثم ملك بعده النعمان بن الأسود أربع سنين، ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي اللخمي ثلاث سنين، ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء ولقب ذو القرنين لضفيرتين كانتا له، وأمه ماء السماء، وهي ماوية ابنة عمرو بن جشم ابن النمر بن قاسط، تسعاً وأربعين سنة، ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر ست عشرة سنة. قال: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ولايته ولد النبي، ﷺ، وذلك أيام أنوشروان عام الفيل.
فلما دانت لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند، وهي أرض الجوهر، قائداً من قواده في جند كثيف، فقاتل ملكها، فقتله واستولى عليها، وحمل إلى كسرى منها أموالاً عظيمة وجواهر كثيرة. ولم يكن ببلاد الفرس بنات اوى، فجاءت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان، فشق عليه ذلك وأحضر موبذان موبذ وقال له: قد بلغنا تساقط هذه السباح إلى بلادنا وقد تعاظمنا ذلك، فأخبرنا برأيك فيها. فقال: سمعت فقهاءنا يقولون: متى لم يغلب العدل الجور في البلاد بل جار أهلها غزاهم أعداؤهم وأتاهم ما يكرهون. فلم يلبث كسرى أن أتاه أن فتياناً من الترك قد غزوا أقصى بلاده، فأمر وزراءه وعماله أن لا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل ولا يعملوا في شيء منها إلا به، ففعلوا ما أمرهم، فصرف الله ذلك العدو عنهم من غير حرب.
ذكر ما فعله أنوشروان بأرمينية وأذربيجان
كانت أرمينية وأذربيجان بعضها للروح وبعضها للخزر، فبنى قباذ سوراً مما يلي بعض تلك الناحية، فلما توفي وملك ابنه أنوشروان وقوي أمره وغزا فرغانة والبرجان وعاد بنى مدينة الشابران ومدينة مسقط ومدينة الباب والأبواب، وإنما سميت أبواباً لأنها بنيت على طريق في الجبل، وأسكن المدن قوماً سماهم السياسجين، وبنى غير هذه المدن، وبنى لكل باب قصراً من حجارة، وبنى بأرض جرزان مدينة سغدبيل وأنزلها السغد وأبناء فارس، وبنى باب اللان، وفتح جميع ما كان بأيدي الروم من أرمينية، وعمر مدينة أردبيل وعدة حصون، وكتب إلى ملك الترك يسأله الموادعة والاتفاق ويخطب إليه ابنته، ورغب في صهره، وتزوج كل واحد بابنة الآخر.
فأما كسرى فإنه أرسل إلى خاقان ملك الترك بنتاً كانت قد تبنتها بعض نسائه وذكر أنها ابنته، وأرسل ملك الترك ابنته، واجتمعا، فأمر أنوشروان جماعةً من ثقاته أن يكبسوا طرفاً من عسكر الترك ويحرقوا فيه، ففعلوا، فلما أصبحوا شكا ملك الترك ذلك، فأنكر أن يكون له علم به، ثم أمر بمثل ذلك بعد ليال، فضج التركي، فرفق به أنوشروان، فاعتذر إليه، ثم أمر أنوشروان أن تلقى النار في ناحية من عسكره فيها أكواخ من حشيش، فلما اصبح شكا إلى التركي، قال: كافأتني بالتهمة ! فحلف التركي أنه لم يعلم بشيء من ذلك، فقال أنوشروان له: إن جندنا قد كرهوا صلحنا لانقطاع العطاء والغارات، ولا أمن أن يحدثوا حدثاً يفسد قلوبنا فنعود إلى العدواة، والرأي أن تأذن لي في بناء سور يكون بيني وبينك نجعل عليه أبواباً فلا يدخل إليك إلا من تريده ولا يدخل إلينا إلا من نريده. فأجابه إلى ذلك.
وبنى أنوشروان السور من البحر وألحقه برؤوس الجبال، وعمل عليه أبواب الحديد ووكل به من يحرسه. فقيل لملك الترك: إنه خدعك وزوجك غير ابنته وتحصن منك فلم تقدر له على حيلة.
وملك أنوشروان ملوكاً رتبهم على النواحي، فمنهم صاحب السرير وفيلان شاه واللكز ومسقط وغيرها، ولم تزل أرمينية بأيدي الفرس حتى ظهر الإسلام، فرفض كثير من السياسجين حصونهم ومدائنهم حتى خربت واستولى عليها الخزر والروم، وجاء الإسلام وهي كذلك.
ذكر أمر الفيل
لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب.
فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة من بني فقيم، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط، ثم لحق بأهله، فأخبر بذلك أبرهة، وقيل له: إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا.
تمت ص150