الرد على اليهود والنصارى
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية عن رجل قال:
إذا كان المسلمون مقلدين، والنصارى مقلدين، واليهود مقلدين، فكيف وجه الرد على النصارى واليهود، وإبطال مذهبهم والحالة هذه؟ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين، وإبطال باطل الكافرين؟
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله، هذا القائل كاذب ضال في هذا القول، وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة، كالذين ذكر الله عنهم أنهم: ﴿إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا﴾ وقال تعالى: ﴿أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون﴾[1] وقال: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾[2]، ونظائر هذا في القرآن كثير.
فمن اتبع دين آبائه وأسلافه لأجل العادة التي تعودها وترك اتباع الحق الذي يجب اتباعه، فهذا هو المقلد المذموم، وهذه حال اليهود والنصارى، بل أهل البدع والأهواء في هذه الأمة، الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق، كما قال تعالى ﴿ يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا. وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا﴾ [3]، وقال تعالى ﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا. يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا﴾ إلى قوله ﴿خذولا﴾[4]. وقال تعالى: ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب﴾ إلى قوله ﴿وما هم بخارجين من النار﴾ [5] وقال تعالى: ﴿وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار﴾ إلى قوله: ﴿إن الله قد حكم بين العباد﴾[6] وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوقا في معصية الله، كان له نصيب من هذا الذم والعقاب.
والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله، إما أن يتبع الظن، وإما أن يتبع ما يهواه، وكثير يتبعهما. وهذه حال كل من عصى رسول الله من المشركين وأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ومن أهل البدع والفجور من هذه الأمة، كما قال تعالى ﴿إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل لله بها من سلطان﴾ إلى قوله ﴿ولقد جاءهم من ربهم الهدى﴾[7] والسلطان هو الكتاب المنزل من عند الله وهو الهدى الذي جاءهم من عند الله كما قال تعالى ﴿أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون﴾[8] وقال: ﴿إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم﴾ إلى قوله تعالى ﴿ببالغيه﴾ [9]. وقال لبني آدم ﴿ فإما يأتينكم مني هدى﴾ إلى قوله تعالى ﴿ولعذاب الآخرة أشد وأبقى﴾ [10].
وبيان ذلك أن الشخص إما أن يبين له أن أن ما بعث الله به رسوله حق، ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه، أو يحسب أن ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق، فهذا متبع فهذا متبع للظن، والأول متبع لهواه....
اجتماع الأمرين: قال تعالى في صفة الأولين ﴿فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾ [11] وقال تعالى ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين﴾ [12] وقال تعالى ﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم﴾ إلى قوله ﴿ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ [13]. وقال تعالى في صفة الأخسرين: ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا﴾ الآية [14] وقال تعالى ﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ [15]. فالأول: حال المغضوب عليهم، الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه، كما هو موجود في اليهود. والثاني حال الذين يعملون بغير علم، قال تعالى ﴿وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم﴾[16] وقال تعالى ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله﴾[17]. وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن لا يجوز له اتباعه، وكذلك من اتبع الرسل بغير بصيرة ولا تبين، وهو الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل الإيمان إلى قلبه كالذي يقال له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟. فيقول: هاه، هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته – هو مقلد فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلاّ الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق، أي لمات. وقد قال تعالى: ﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ [18] فمن لم يدخل الإيمان في قلبه وكان مسلما في الظاهر، فهو من المقلدين المذمومين.
فإذا تبين أن المقلد مذموم – وهو من اتبع هوى من لا يجوز اتباعه – كالذي يترك طاعات رسل الله، ويتبع ساداته وكبراءه، أو يتبع الرسول ظاهرا من غير إيمان في قلبه، تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليدا مذموما، وكذلك المنافقون من هذه الأمة.
وأما أهل البدع، ففيهم بر وفجور وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، إنما يتبعونهم لأجل أنهم رسل الله، وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى عليهما السلام إلاّ ومحمد ﷺ أولى وأحرى.
مثال ذلك: إذا قال اليهود والنصارى: قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى – مع دعواه النبوة - ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه، وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجيء به مفتر كذاب – ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه – وإنما يجيء به مع دعوى النبوة نبي صادق. قيل له: كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة محمد ﷺ بطريق الأولى.
فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد ﷺ من الدين والشريعة ونقلوا ما جاء به من الآيات المعجزات، أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى، بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع، والعمل الصالح وما عند اليهود والنصارى، علم أن بينهما من الفرق أعظم مما بين العرم والعِرق.
فإن الذي عند المسلمين، من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، وملائكته وأنبيائه ورسله ومعرفة اليوم الآخر، وصفة الجنة والنار، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى، وهذا بين لكل من يبحث عن ذلك.
وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل الصلوات الخمس، غيرها من الصلوات، والأذكار والدعوات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب، وما عندهم من الشريعة في المعاملات، واالمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب.
فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع، وعمل صالح، وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعي.
والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم، فإنما حصل بنبيهم ﷺ، فكيف يمكن مع هذا أن يكون موسى وعيسى نبيين، ومحمد ﷺ ليس بنبي، وأن اليهود والنصارى على الحق؟
فما هم عليه من الهدى ودين الحق، أعظم مما عند اليهود والنصارى، وذلك إنما تلقوه من نبيهم.
وهذا القدر يعترف به كل عاقل – من اليهود والنصارى – يعترفون بأن دين المسلمين حق، وأن محمدا رسول الله ﷺ، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة، بل يعترفون بأن دين الإسلام خير من دينهم، كما أطبقت على ذلك الفلاسفة، كما قال ابن سينا وغيره: أجمع فلاسفة العالم على أنه لا يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس، لكن من لم بتبعه يعلل نفسه بأنه لا يجب عليه اتباعه، لأنه رسول إلى العرب الأميين دون أهل الكتاب، لأنه إن كان دينه حقا فديننا أيضا حق، والطريق إلى الله تعالى متنوعة، ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة، فإنه وإن كان أحد المذاهب يرجع على الآخر، فأهل المذاهب الأخرى ليسوا كفارا ولا من أهل الكتاب.
هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون من أهل الكتاب، والمتفلسفة ونحوهم، وبطلانها ظاهر، فإنه كما علم علما ضروريا متواترا أنه دعا المشركين إلى الإيمان فقد علم بمثل ذلك أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين، فجاهد بني قينقاع، وبني النضير، وقريظة، وأهل خيبر، وهؤلاء كلهم يهود، وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم، وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قُتل في محاربتهم زيد بن محمد مولاه الذي كان تبناه، وجعفر وغيرهما من أهله وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران.
وكذالك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون.
وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به، مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه، يكفر من لم يتبعه منهم، ويذمه ويلعنه، والوعيد له كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه، والوعيد كما قال تعالى ﴿يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم﴾ الآية [19] وفي القرآن من قوله: يا أهل الكتاب، يابني إسرائيل، ما لا يحصى إلا بكلفة. وقال تعالى ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين﴾ الآية إلى قوله ﴿خير البرية﴾ [20] ومثل هذا في القرآن كثير جدا وقد قال تعالى ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض﴾ [21] وقال تعالى ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس﴾ [22]. واستفاض عنه ﷺ (فضِّلت على الأنبياء بخمس ) ذكر فيها أنه قال (كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) بل تواتر عنه ﷺ أنه بعث إلى الجن والأنس فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر – الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته – أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم، فحاصر بني قينقاع، ثم أجلاهم أذرعات، وحاصر بني النضير، ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر.
ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد، وقتل رجالهم، وسبى حريمهم، وأخذ أموالهم وقد ذكره الله – تعالى – في سورة الأحزاب وقاتل أهل خيبر حتى فتحها، وقتل من قتل من رجالهم وسبى من سبى من حريمهم وقسم أرضهم بين المؤمنين وقد ذكرها الله – تعالى – في سورة الفتح وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وفي عامة السور المدنية، مثل البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغير ذلك من السور المدنية، من دعوة أهل الكتاب، وخطابهم، ما لا تتسع هذه الفتوى لعُشرِه.
ثم خلفاؤه بعد أبو بكر وعمر، ومن معهما من المهاجرين والأنصار، الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له، وأطوعهم لأمره، وأحفظهم لعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس، فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون. ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله ﷺ: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلاّ دخل النار). قال سعيد بن جبير تصديق ذلك في كتاب الله تعالى: ﴿ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده﴾[23] ومعنى الحديث متواتر عنه، معلوم بالاضطرار. فإذا كان الأمر كذلك لزم بأنه رسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم، وأموالهم، وديارهم بغير إذن الله. فمن قال: إن الله أمره بذلك وفعله، ولم يكن الله أمره بذلك، كان كاذبا مفتريا ظالما ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء﴾ [24] وكان مع كونه ظالما مفتريا، من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادا، وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم، لايقولون إنا رسل الله اليكم، ومن أطاعنا دخل الجنة، ومن عصانا دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلاّ نبي صادق، أو متنبئ كذاب، كمسيلمة والأسود وغيرهما. فإذا علم أنه نبي كيف ما كان، لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقا، وإذا كان رسول الله وجبت طاعته في كل ما يأمر به، كما قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله ﴾ [25] وإذا أخبر أنه رسول الله الى أهل الكتاب، وانهم تجب عليهم طاعته، كان ذلك حقا، ومن أقر بأنه رسول الله وأنكر أن يكون مرسلا الى أهل الكتاب بمنزلة إسرائيل من مصر وأن الله لم يأمره بذلك وأن الله لم يأمره بالسبت ولا أنزل عليه التوراة ولا كلمه على الطور ومن يقول إن عيسى كان رسول الله لم يبعث الى بني اسرائيل ولا كان يجب على بني اسرائيل طاعته وأنه ظلم اليهود وأمثال ذلك المقالات التي هي أكفر المقالات. ولهذا قال تعالى ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض﴾ الى قوله ﴿والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم﴾ الآية [26] وقال لبني اسرائيل ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾ الى قوله: ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ [27]. فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطقة يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق دون اليهود والنصارى فإنها مبنية على مقدمتين.
إحداهما: أن نبوة محمد ﷺ ورسالته وهدي أمته أبين وأوضح تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وزيادة فلا يمكن القول بأنهما نبيان دونه لأجل ذلك وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة وما جاء به وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء بما عليه أمته وإن شاء بما بعث به من المعجزات فكل طريق من هذه الطرق اذا تبين بها نبوة موسى وعيسى كانت نبوة محمد ﷺ بها أبين وأكمل.
والمقدمة الثانية: أنه أخبر أن رسالته عامة الى أهل الأرض من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرسلا الى بعض الناس دون بعض وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر والدلائل القطعية. وأما اليهود والنصارى فأصل دينهم حق كما قال تعالى ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [28] لكن كل من الدينين مبدل منسوخ فإن اليهود بدلوا وحرفوا ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح ﷺ. ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى مثل نبوة الانبياء وهي اكثر من عشرين نبوة وغيرها تبين انهم بدلوا وأن شريعتهم تنسخ وتبين صحة رسالة محمد ﷺ فإن فيها من الاعلام والدلائل على نبوة خاتم المرسلين ما قد صنف فيه العلماء مصنفات وفيها أيضا من التناقض وااختلاف مايبين أيضا وقوع التبديل وفيها من الأخبار من نحو بعدها ما بين أنها منسوخة فعندهم مايدل على هذه المطالب وقد ناظرنا غير واحد من أهل الكتاب وبينا لهم ذلك وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف وصاروا يناظرون أهل دينهم ويبينون ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد ﷺ ولكن هذه الفتيا لا تحتمل غير ذلك. وهذا من الحكمة في ابقاء أهل الكتاب بالجزية إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد ﷺ وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الايمان بالله واليوم الآخر ما يمثل ما أخبرت به الانبياء قبله قال تعالى ﴿قل أرئيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله﴾[29] وقوله ﴿قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾[30] وقال تعالى ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك﴾[31]. والنبي ﷺ لم يشك ولم يسأل ولكن هذا حكم معلق بشرط والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه وفي ذلك سعة لمن شك أو أراد أن يحتج أو يزداد يقينا.
(فصل)
فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب وأما إن كان المخاطب لا يقر بنبوة نبي من الأنبياء لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما فللمخاطبة طرق.
منها: أن نسلك في الكلام بين أهل الملل وغيرهم من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم نظير الكلام بين المسلمين وأهل الكتاب.
فنقول: من المعلوم لكل عاقل له أدنى نظر وتأمل أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة والاعمال الصالحة ممن ليس من أهل الملل فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه وعند أهل الملل ما لايوجد عند غيرهم وذلك أن العلوم والأعمال نوعان.
نوع يحصل بالعقل: كعلم الحساب والطب وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونو ذلك فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل فإن علوم المتفلسفة من علوم المنطق والطبيعة والهيئة وغير ذلك من متفلسفة الهند واليونان وعلوم فارس والروم لما صارت الى المسلمين هذبوها ونقحوها لكمال عقولهم وحسن ألسنتهم وكان كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين وهذا يعرفة كل عاقل وفاضل وأما ما لا يعلم بمجرد العقل كالعلوم الإلهية وعلوم الديانات فهذه مختصة بأهل الملل وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية فالآيات الكتابية مستنبطة من الرسالة فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم الى دلالة العقول عليها فهي عقلية شرعية فليس لمخالف الرسول أن يقول: هذه لم تعلم إلاّ بخبرهم فإثبات خبرهم بها دور بل يقال بعدالتهم وإرشادهم وتبينهم للمعقول صارت معلومة بالعقل والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية.
وبهذه العلوم يعلم صحة ماجاء به الرسول ﷺ وبطلان قول من خالفهم.
النوع الثاني: ما لا يعلم إلا بخبر الرسل فهذا يعلم بوجوه:
منها: اتفاق الرسل علي الاخبار به من غير تواطؤ ولا اتفاق بينهم فإن المخبر إما أن يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا فإذا قدر عدم الخطأ والتعمد كان خبره صدقا لا محالة.
ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة لا يمكن في العادة خطؤهم وأخبر غيره قبل ذلك مع الجزم بأنهما لم يتواطآ ولا يمكن أن يقال أنه الكذب في مثل ذلك أفاد خبرهما العلم وإن لم يعلم حالهما فلو ناجى رجلا بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك الامور الاسرار ثم جاء آخر قد علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الاول فاخبر عن تلك المناجاة والاسرار مثلما اخبر به الاول جزمنا قطعا بصدقهما. ومعلوم أن موسى أخبر بما أخبر به قبل أن يبعث محمد ﷺ وقبل أن يبعث المسيح. ومعلوم أيضا لكل من كان عالما بحال محمد ﷺ انه نشأ بين قوم أميين لا يقرؤون كتابا ولا يعلمون علوم الانبياء وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والانجيل ونبوة الانبياء. وقد أخبر محمد ﷺ من توحيد الله وصفاته واسمائة وملائكته وعرشه وكرسيه وانبيائه ورسله واخبرهم واخبار مكذبيهم بنظير ما يوجد في كتب الانبياء من التوراة وغيرها. فمن تدبر التوراة والقرآن علم أنهما جميعا يخرجان من مشكاة واحدة كما ذكر ذلك النجاشي وكما قال ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى. ولهذا قرن الله – تعالى – بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله ﴿لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل﴾ الى قوله ﴿إن كنتم صادقين﴾ [32] وقالت الجن ﴿إنا سمعنا كتابا أنزل من بد موسى مصدقا لما بين يديه﴾ الاية [33] وقال ﴿أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة﴾[34] وقال ﴿وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس﴾ الى قوله: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾ [35].
ومن الطرق: الطرق الواضحة القاطعة المعلومة الى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع الانبياء وأحوال من كذبهم وكفر بهم حال نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه وحال ابراهيم وقومه وحال موسى وفرعون وحال محمد ﷺ وقومه. وهذا الطريق قد بينها الله في غير موضع من كتابه كقوله ﴿كذبت (قبلهم) قوم نوح والاحزاب من بعدهم﴾ الى قوله ﴿فكيف كان عقاب﴾[36] وقال ﴿وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط. وأصحاب مدين وكُذب موسى﴾ الى قوله ﴿فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة﴾ الى قوله ﴿أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها﴾ [37] وقوله: ﴿وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون﴾ [38] وقال: ﴿إن في ذلك لآيات للمتوسمين﴾ [39]. فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة ويستدل بذلك على عقوبة الله لهم، وقال تعالى: ﴿وكم أهلكنا من القرون﴾ الآيتان [40] فذكر طريقين يعلم بهما ذلك.
أحدهما: ما يعاين ويعقل بالقلوب.
والثاني: مايسمع، فإنه قد تواتر عند كل أحد حال الانبياء ومصدقهم ومكذبهم وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه سبحانه عاقب مكذبهم وانتقم منهم وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه وأن من كذبهم كان على الباطل الذي يغضب الله على أهله، وأن طاعة الرسل طاعة لله ومعصيتهم معصية لله.
ومن الطرق أيضا: أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة وآياتهم القاهرة وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد دعي النبوة وهو كذاب من غير تناقض ولا تعارض كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
ومن الطرق: أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة والاعمال الصالحة بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب ولا ينكره إلا جاهل غاو.
وهذه الفتيا لا تسع البسط الكثير فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به ووجب الحكم بكفر من آمن ببعض وكفر ببعض والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين.
هامش
- ↑ (البقرة: 170)
- ↑ (الصافات: 69،70)
- ↑ (الأحزاب:66-68)
- ↑ (الفرقان: 27-29)
- ↑ (البقرة: 166-167)
- ↑ (غافر: 47-48)
- ↑ (النجم: 23)
- ↑ (الروم: 35)
- ↑ (1) (غافر: 56)
- ↑ (طه: 123-127)
- ↑ (الأنعام: 33)
- ↑ (النمل: 14)
- ↑ (البقرة: 146)
- ↑ (الكهف: 103)
- ↑ (فاطر: 8)
- ↑ (الانعام: 119)
- ↑ (القصص: 50)
- ↑ (الحجرات: 14)
- ↑ (النساء 47)
- ↑ (البينة: 1-7)
- ↑ (الأعراف::158)
- ↑ (سبأ: 28)
- ↑ (هود: 17)
- ↑ (الأنعام: 93)
- ↑ ( النساء: 64)
- ↑ (النساء: 150-152)
- ↑ (البقرة:85)
- ↑ (البقرة: 62)
- ↑ (الأحقاف: 10)
- ↑ ( الرعد: 43)
- ↑ ( يونس: 94)
- ↑ (القصص: 48-49)
- ↑ (الاحقاف: 30)
- ↑ (هود: 17)
- ↑ (الأنعام: 91-92)
- ↑ (غافر: 5)
- ↑ (الحج: 42-46)
- ↑ (الصافات: 137-138)
- ↑ (الحجر: 75)
- ↑ (الإسراء: 17-18)