☰ جدول المحتويات
- باب آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يختص بها في حياته
- باب في ترك الخاتم
- ذكر سيفه عليه السلام
- ذكر نعله التي كان يمشي فيها
- صفة قدح النبي صلى الله عليه وسلم
- المكحلة التي كان عليه السلام يكتحل منها
- البردة
- أفراسه ومراكيبه عليه الصلاة والسلام
- فصل إيراد ما بقي من متعلقات السيرة الشريفة
- كتاب شمائل رسول الله وصفاته الخلقية
- باب ما ورد في حسنه الباهر
- صفة لون رسول الله صلى الله عليه وسلم
- صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه
- ذكر شعره عليه السلام
- ما ورد في منكبيه وساعديه وإبطيه وقدميه وكعبيه صلى الله عليه وسلم
- قوامه عليه السلام وطيب رائحته
- صفة خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم
- باب أحاديث متفرقة وردت في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
- حديث أم معبد في ذلك
- حديث هند ابن أبي هالة في ذلك
- باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم
- كرمه عليه السلام
- مزاحه عليه السلام
- باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدار
- حديث بلال في ذلك
- ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام
- فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك
- فصل في شجاعته صلى الله عليه وسلم
- فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في الكتب المأثورة عن الأنبياء الأقدمين
- كتاب دلائل النبوة
- فصل وإنك لعلى خلق عظيم
- فصل دلائل نبوته من خلال سيرته وأخلاقه
- باب دلائل النبوة الحسية
- فصل إيراد هذا الحديث من طرق متفرقة
- فصل في المعجزات الأرضية
- باب ما ظهر في البئر التي كانت بقباء من بركته صلى الله عليه وسلم
- باب تكثيره عليه السلام الأطعمة
- تكثيره عليه السلام السمن لأم سليم
- قصة أخرى في تكثير الطعام في بيت فاطمة
- قصة أخرى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
- قصة قصعة بيت الصديق
- حديث آخر في تكثير الطعام في السفر
- قصة جابر ودين أبيه وتكثيره عليه السلام التمر
- قصة سلمان في تكثيره صلى الله عليه وسلم تلك القطعة من الذهب
- حديث الذراع
- باب انقياد الشجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم
- باب حنين الجزع شوقا إلى رسول الله وشغفا من فراقه
- باب تسبيح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام
- باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة
- حديث في سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم
- قصة الذئب وشهادته بالرسالة
- قصة الوحش الذي كان في بيت النبي وكان يحترمه عليه السلام ويوقره ويجله
- قصة الأسد
- حديث الغزالة
- حديث الضـب على ما فيه من النكارة والغرابة
- حديث الحمار
- حديث الحمرة وهو طائر مشهور
- باب في كلام الأموات وعجائبهم
- قصة الصبي الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ
- فصل آداب الطعام
- باب المسائل التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب عنها بما يطابق الحق الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء
- فصل المباهلة
- حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنه رسول الله
- فصل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم
- جوابه صلى الله عليه وسلم لمن ساءل عما سأل قبل أن يسأله عن شيء منه
- باب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده
- أما القرآن
- فصل الدلائل على إخباره صلى الله عليه وسلم بما وقع
- فصل في الإخبار بغيوب ماضية ومستقبلة
- فصل في ترتيب الإخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلى الله عليه وسلم
- ومن كتاب دلائل النبوة في باب إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلة
- ذكر إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة
- باب ما جاء في إخباره عن الحكمين اللذين بعثا في زمن علي
- إخباره صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم
- إخباره صلى الله عليه وسلم بمقتل علي ابن أبي طالب
- إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك مقتل الحسين
- إخباره صلى الله عليه وسلم عن غزاة البحر إلى قبرص
- باب ما قيل في قتال الروم
- الإخبار عن غزوة الهند
- فصل في الإخبار عن قتال الترك
- خبر آخر عن عبد الله بن سلام
- الإخبار عن بيت ميمونة بنت الحارث بسرف
- ما روي في إخباره عن مقتل حجر بن عدي
- إخباره صلى الله عليه وسلم لما وقع من الفتن من بني هاشم
- الإخبار بمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما
- الإخبار عن وقعة الحرة التي كانت في زمن يزيد
- فصل حديث إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا
- الإشارة النبوية إلى دولة عمر بن عبد العزيز تاج بني أمية
- الإشارة إلى محمد بن كعب القرظي وعلمه بتفسير القرآن وحفظه
- الإخبار بانخرام قرنة صلى الله عليه وسلم بعد مائة سنة من ليلة إخباره
- الإخبار عن الوليد بن يزيد بما فيه له من الوعيد الشديد
- ذكر الإخبار عن خلفاء بني أمية
- الإخبار عن دولة بني العباس
- الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش
- الإخبار عن أمور وقعت في دولة بني العباس
- حديث آخر فيه إشارة إلى مالك بن أنس الإمام
- حديث آخر فيه إشارة إلى محمد بن إدريس الشافعي
- باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم
- القول فيما أوتي نوح عليه السلام
- القول فيما أوتي هود عليه السلام
- القول فيما أوتي صالح عليه السلام
- القول فيما أوتي إبراهيم الخليل عليه السلام
- القول فيما أوتي موسى عليه السلام
- قصة أبي موسى الخولاني
- باب ما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعطي الأنبياء قبله
- قصة حبس الشمس
- القول فيما أعطي إدريس عليه السلام
- القول فيما أوتي داود عليه السلام
- القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام
- القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام
- قصة الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول
- كتاب تاريخ الإسلام الأول من الحوادث الواقعة في الزمان ووفيات المشاهير والأعيان سنة إحدى عشرة من الهجرة
- خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث
- فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد
- مقتل الأسود العنسي المتنبي الكذاب
- صفة خروجه وتمليكه ومقتله
- خروج الأسود العنسي
- فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة
- خروجه إلى ذي القصة حين عقد ألوية الأمراء الأحد عشر
- فصل في مسيرة الأمراء من ذي القصة على ما عوهدوا عليه
- قصة الفجاءة
- قصة سجاح وبني تميم
- فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي
- مقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله
- ذكر ردة أهل البحرين وعودهم إلى الإسلام
- ذكر ردة أهل عمان ومهرة اليمن
- ذكر من توفي في هذه السنة
- سنة اثنتي عشرة من الهجرة النبوية
- بعث خالد بن الوليد إلى العراق
- وقعة المذار أو الثني
- وقعة الولجة
- وقعة أليس
- فصل نزول خالد بن الوليد النجف
- فتح الأنبار معركة ذات العيون
- وقعة عين التمر
- خبر دومة الجندل
- خبر وقعتي الحصيد والمضيح
- وقعة الفراض
- فصل فيما كان من الحوادث في هذه السنة
- فصل فيمن توفي في هذه السنة
باب آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يختص بها في حياته
من ثياب وسلاح ومراكب
ذكر الخاتم الذي كان يلبسه عليه السلام:
وقد أفرد له أبو داود في كتابه السنن كتابا على حدة.
ولنذكر عيون ما ذكره في ذلك مع ما نضيفه إليه، والمعول في أصل ما نذكره عليه.
قال أبو داود: حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي، حدثنا عيسى عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: أراد رسول الله ﷺ أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقرؤن كتابا إلا بخاتم، فاتخذ خاتما من فضة، ونقش فيه: محمد رسول الله.
وهكذا رواه البخاري عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به.
ثم قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بمعنى حديث عيسى بن يونس، زاد: فكان في يده حتى قبض، وفي يد أبي بكر حتى قبض، وفي يد عمر حتى قبض، وفي يد عثمان فبينما هو عند بئر إذ سقط في البئر فأمر بها فنزحت، فلم يقدر عليه.
تفرد به أبو داود من هذا الوجه.
ثم قال أبو داود رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن صالح قالا: أنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني أنس قال: كان خاتم النبي ﷺ من ورق فصه حبشي.
وقد روى هذا الحديث البخاري من حديث الليث.
ومسلم من حديث ابن وهب، وطلحة عن يحيى الأنصاري، وسليمان بن بلال.
زاد النسائي وابن ماجه: وعثمان عن عمر خمستهم عن يونس بن يزيد الأيلي به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
ثم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: كان خاتم النبي ﷺ من فضة كله فصه منه.
وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث زهير بن معاوية الجعفي أبي خيثمة الكوفي به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقال البخاري: ثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: اصطنع رسول الله ﷺ خاتما فقال: « إنا اتخذنا خاتما ونقشنا فيه نقشا فلا ينقش عليه أحد ».
قال: فإني أرى بريقه في خنصره.
ثم قال أبو داود: حدثنا نصير بن الفرج، ثنا أبو أسامة عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر اتخذ رسول الله ﷺ خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلي بطن كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله، فاتخذ الناس خواتم الذهب، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: « لا ألبسه أبدا » ثم اتخذ خاتما من فضة نقش فيه: محمد رسول الله، ثم لبس الخاتم بعده أبو بكر، ثم لبسه بعد أبي بكر عمر، ثم لبسه بعده عثمان حتى وقع في بئر أريس.
وقد رواه البخاري عن يوسف بن موسى، عن أبي أسامة حماد بن أسامة به.
ثم قال أبو داود: حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الخبر عن النبي ﷺ فنقش فيه: محمد رسول الله وقال: « لا ينقش أحد على خاتمي هذا » وساق الحديث.
وقد رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث سفيان بن عيينة به نحوه.
ثم قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا أبو عاصم عن المغيرة بن زياد، عن نافع، عن ابن عمر في هذا الخبر عن النبي ﷺ قال: فالتمسوه فلم يجدوه، فاتخذ عثمان خاتما ونقش فيه: محمد رسول الله قال: فكان يختم به، أو يتختم به.
ورواه النسائي عن محمد بن معمر عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل به.
ثم قال أبو داود:
باب في ترك الخاتم
حدثنا محمد بن سليمان لوين عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك أنه رأى في يد النبي ﷺ خاتما من ورق يوما واحدا، فصنع الناس فلبسوا، وطرح النبي ﷺ فطرح الناس.
ثم قال: رواه عن الزهري زياد بن سعد وشعيب وابن مسافر، كلهم قال: من ورق.
قلت: وقد رواه البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني أنس بن مالك أنه رأى في يد النبي ﷺ خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله ﷺ خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم، ثم علقه البخاري عن إبراهيم بن سعد الزهري المدني، وشعيب ابن أبي حمزة، وزياد بن سعد الخراساني.
وأخرجه مسلم من حديثه.
وانفرد أبو داود بعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، كلهم عن الزهري كما قال أبو داود: خاتما من ورق.
والصحيح: أن الذي لبسه يوما واحدا ثم رمى به، إنما هو خاتم الذهب لا خاتم الورق، لما ثبت في الصحيحين عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كان رسول الله يلبس خاتما من ذهب فنبذه.
وقال: « لا ألبسه أبدا ».
فنبذ الناس خواتيمهم، وقد كان خاتم الفضة يلبسه كثيرا ولم يزل في يده حتى توفي - صلوات الله وسلامه عليه - وكان فصه منه - يعني: ليس فيه فص ينفصل عنه - ومن روى أنه كان فيه صورة شخص فقد أبعد وأخطأ، بل كان فضه كله وفصه منه، ونقشه محمد رسول الله ثلاثة أسطر: محمد سطر، رسول سطر، الله سطر، وكأنه والله أعلم كان منقوشا وكتابته مقلوبة ليطبع على الاستقامة كما جرت العادة بهذا.
وقد قيل: إن كتابته كانت مستقيمة، وتطبع كذلك، وفي صحة هذا نظر ولست أعرف لذلك إسنادا لا صحيحا ولا ضعيفا، وهذه الأحاديث التي أوردناها أنه عليه السلام كان له خاتم من فضة ترد الأحاديث التي قدمناها في سنن أبي داود والنسائي من طريق أبي عتاب سهل بن حماد الدلال عن أبي مكين نوح بن ربيعة، عن إياس بن الحارث بن معيقيب ابن أبي فاطمة، عن جده قال: كان خاتم النبي ﷺ من حديد ملوي عليه فضة.
ومما يزيده ضعفا الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود، والترمذي والنسائي من حديث أبي طيبة عبد الله بن مسلم السلمي المروزي عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ وعليه خاتم من شبه فقال: « مالي أجد منك ريح الأصنام؟ ».
فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال: « مالي أرى عليك حلية أهل النار؟ ».
فطرحه ثم قال: يا رسول الله من أي شيء اتخذه؟
قال: « اتخذه من ورق، ولا تنمه مثقالا ».
وقد كان عليه السلام يلبسه في يده اليمنى، كما رواه أبو داود والترمذي في الشمائل.
والنسائي من حديث شريك، وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن القاضي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسن، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه عن رسول الله قال شريك: وأخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن أن رسول الله كان يتختم في يمينه، وروي في اليسرى.
رواه أبو داود من حديث عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يتختم في يساره، وكان فصه في باطن كفه.
قال أبو داود: رواه أبو إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع في يمينه.
وحدثنا هناد عن عبدة، عن عبيد الله، عن نافع أن ابن عمر كان يلبس خاتمه في يده اليسرى.
ثم قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن سعيد، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتما في خنصره اليمنى فقلت: ما هذا؟
فقال: رأيت ابن عباس يلبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها.
قال: ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله ﷺ كان يلبس خاتمه كذلك.
وهكذا رواه الترمذي من حديث محمد بن إسحاق به.
ثم قال محمد بن إسماعيل - يعني: البخاري -: حديث ابن إسحاق عن الصلت حديث حسن.
وقد روى الترمذي في الشمائل عن أنس، وعن جابر، وعن عبد الله بن جعفر أن رسول الله ﷺ كان يتختم في اليمين.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي عن ثمامة، عن أنس بن مالك أن أبا بكر لما استخلف كتب له، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.
قال أبو عبد الله، وزاد أبو أحمد: ثنا الأنصاري، حدثني أبي، ثنا ثمامة عن أنس قال: كان خاتم النبي ﷺ في يده، وفي يد أبي بكر، وفي يد عمر بعد أبي بكر، قال: فلما كان عثمان جلس على بئر أريس فأخذ الخاتم فجعل يعبث به فسقط قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فنزح البئر فلم يجده.
فأما الحديث الذي رواه الترمذي في الشمائل: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة عن أبي يسر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ اتخذ خاتما من فضة، فكان يختم به ولا يلبسه.
فإنه حديث غريب جدا.
وفي السنن من حديث ابن جريج عن الزهري، عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ إذا دخل الخلاء نزع خاتمه.
ذكر سيفه عليه السلام
قال الإمام أحمد: ثنا شريح، ثنا ابن أبي الزناد عن أبيه، عن الأعمى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله ﷺ سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى الرؤيا يوم أحد.
قال: « رأيت في سيفي ذا الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقرا تذبح، فبقر والله خير فبقر والله خير ».
فكان الذي قال رسول الله ﷺ.
وقد رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه به.
وقد ذكر أهل السنن أنه سمع قائل يقول: « لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي ».
وروى الترمذي من حديث هود بن عبد الله بن سعيد عن جده مزيدة بن جابر العبدي العصري رضي الله عنه قال: دخل رسول الله ﷺ مكة وعلى سيفه ذهب وفضة الحديث.
ثم قال: هذا حديث غريب.
وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا محمد بن بشار، ثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي عن قتادة، عن سعيد ابن أبي الحسن قال: كانت قبيعة سيف رسول الله ﷺ من فضة.
وروي أيضا من حديث عثمان بن سعد عن ابن سيرين قال: صنعت سيفي على سيف سمرة، وزعم سمرة أنه صنع سيفه على سيف رسول الله ﷺ وكان حنفيا، وقد صار إلى آل علي سيف من سيوف رسول الله ﷺ، فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء عند الطف كان معه، فأخذه علي بن الحسين بن زين العابدين فقدم معه دمشق حين دخل على يزيد بن معاوية، ثم رجع معه إلى المدينة.
فثبت في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أنه تلقاه إلى الطريق فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟
قال: فقال: لا.
فقال: هل أنت معطي سيف رسول الله ﷺ فإني أخشى أن يغلبك عليه القوم، وأيم الله إن أعطيتنيه لا يخلص إليه أحد حتى يبلغ نفسي.
وقد ذكر للنبي ﷺ غير ذلك من السلاح من ذلك الدروع.
كما روى غير واحد منهم السائب بن يزيد، وعبد الله بن الزبير أن رسول الله ﷺ ظاهر يوم أحد بين درعين.
وفي الصحيحين من حديث مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله ﷺ دخل يوم الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه قيل له: هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة.
فقال: « اقتلوه ».
وعند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أن رسول الله ﷺ دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء.
وقال وكيع عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه قال: خطب رسول الله ﷺ الناس وعليه عمامة دسماء.
ذكرهما الترمذي في الشمائل وله من حديث الدراوردي عن عبد الله، عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله ﷺ إذا اعتم سدلها بين كتفيه.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن محمد، ثنا مخول بن إبراهيم، ثنا إسرائيل عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك أنه كانت عنده عصية لرسول الله ﷺ فمات فدفنت معه بين جنبه وبين قميصه.
ثم قال البزار: لا نعلم رواه إلا مخول بن راشد، وهو صدوق فيه شيعية.
واحتمل على ذلك.
وقال الحافظ البيهقي بعد روايته هذا الحديث من طريق مخول هذا قال: وهو من الشيعة يأتي بإفراد عن إسرائيل لا يأتي بها غيره، والضعف على رواياته بين ظاهر.
ذكر نعله التي كان يمشي فيها
ثبت في الصحيح عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يلبس النعال السبتية، وهي التي لا شعر عليها.
وقد قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد - هو ابن مقاتل -، حدثنا عبد الله - يعني: ابن المبارك - أنا عيسى بن طهمان قال: خرج إلينا أنس بن مالك بنعلين لهما قبالان.
فقال ثابت البناني: هذه نعل النبي ﷺ.
وقد رواه في كتاب الخمس عن عبد الله بن محمد، عن أبي أحمد الزبيري، عن عيسى بن طهمان، عن أنس قال: أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان.
فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي ﷺ.
وقد رواه الترمذي في الشمائل عن أحمد بن منيع، عن أبي أحمد الزبيري به.
وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا أبو كريب، ثنا وكيع عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: كان لنعل رسول الله ﷺ قبالان مثني شراكهما.
وقال أيضا: ثنا إسحاق بن منصور، أنا عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: كان لنعل رسول الله ﷺ قبالان.
وقال الترمذي: ثنا محمد بن مرزوق أبو عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن قيس أبو معاوية، ثنا هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: كان لنعل رسول الله ﷺ قبالان وأبي بكر، وعمر، وأول من عقد عقدا واحدا عثمان.
قال الجوهري: قبال النعل: بالكسر الزمام الذي يكون بين الإصبع الوسطى، والتي تليها.
قلت: واشتهر في حدود سنة ستمائة وما بعدها عند رجل من التجار يقال له: ابن أبي الحدرد، نعل مفردة ذكر أنها نعل النبي ﷺ فسامها الملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب منه بمال جزيل فأبى أن يبيعها، فاتفق موته بعد حين، فصارت إلى الملك الأشرف المذكور، فأخذها إليه وعظمها، ثم لما بنى دار الحديث الأشرفية إلى جانب القلعة، جعلها في خزانة منها، وجعل لها خادما، وقرر له من المعلوم كل شهر أربعون درهما، وهي موجودة إلى الآن في الدار المذكورة.
وقال الترمذي في الشمائل: ثنا محمد بن رافع وغير واحد قالوا: ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا شيبان عن عبد الله بن المختار، عن موسى بن أنس، عن أبيه قال: كانت لرسول الله - ﷺ سلة - يتطيب منها.
صفة قدح النبي صلى الله عليه وسلم
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن عاصم قال: رأيت عند أنس قدح النبي ﷺ فيه ضبة من فضة.
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله، أخبرني أحمد بن محمد النسوي، ثنا حماد بن شاكر، ثنا محمد بن إسماعيل - هو البخاري - ثنا الحسن بن مدرك، حدثني يحيى بن حماد، أنا أبو عوانة عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي ﷺ عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة.
قال: وهو قدح جيد عريض من نضار.
قال أنس: لقد سقيت رسول الله ﷺ في هذا القدح أكثر من كذا وكذا.
قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة.
فقال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئا صنعه رسول الله ﷺ، فتركه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة، ثنا حجاج بن حسان قال: كنا عند أنس فدعا بإناء فيه ثلاث ضبات حديد وحلقة من حديد، فأخرج من غلاف أسود، وهو دون الربع وفوق نصف الربع، وأمر أنس بن مالك فجعل لنا فيه ماء، فأتينا به فشربنا، وصببنا على رؤسنا ووجوهنا، وصلينا على النبي ﷺ.
انفرد به أحمد.
المكحلة التي كان عليه السلام يكتحل منها
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد، أنا عبد الله بن منصور عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله ﷺ مكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثا في كل عين.
وقد رواه الترمذي وابن ماجه من حديث يزيد بن هارون.
قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لعباد بن منصور: سمعت هذا الحديث من عكرمة.
فقال: أخبرنيه ابن أبي يحيى عن داود بن الحصين عنه.
قلت: وقد بلغني أن بالديار المصرية مزارا فيه أشياء كثيرة من آثار النبي ﷺ اعتنى بجمعها بعض الوزراء المتأخرين فمن ذلك:
مكحلة.
وقيل: ومشط، وغير ذلك، فالله أعلم.
البردة
قال الحافظ البيهقي: وأما البرد الذي عند الخلفاء، فقد روينا عن محمد بن إسحاق بن يسار في قصة تبوك أن رسول الله ﷺ أعطى أهل إيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أمانا لهم، فاشتراه أبو العباس عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار - يعني: بذلك أول خلفاء بني العباس وهو السفاح رحمه الله - وقد توارث بنو العباس هذه البردة خلفا عن سلف، كان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه - صلوات الله وسلامه عليه - في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب، ويبهر به الأبصار، ويلبسون السواد في أيام الجمع والأعياد، وذلك اقتداء منهم بسيد أهل البدو والحضر، ممن يسكن الوبر والمدر.
لما أخرجه البخاري ومسلم إماما أهل الأثر من حديث عن مالك الزهري، عن أنس أن رسول الله ﷺ دخل مكة وعلى رأسه المغفر.
وفي رواية: وعليه عمامة سوداء.
وفي رواية: قد أرخى طرفها بين كتفيه - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقد قال البخاري: ثنا مسدد، ثنا إسماعيل، ثنا أيوب عن محمد، عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا غليظا فقالت: قبض روح النبي - ﷺ في هذين -.
وللبخاري من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه.
فقال وهو كذلك: « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما صنعوا.
قلت: وهذه الأبواب الثلاثة لا يدري ما كان من أمرها بعد هذا، وقد تقدم أنه عليه السلام طرحت في تحته قبره الكريم قطيفة حمراء كان يصلي عليها، ولو تقصينا ما كان يلبسه في أيام حياته لطال الفصل، وموضعه كتاب اللباس من كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
أفراسه ومراكيبه عليه الصلاة والسلام
قال ابن إسحاق عن يزيد بن حبيب، عن مرثد بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رزين، عن علي قال: كان للنبي ﷺ فرس يقال له: المرتجز، وحمار يقال له: عفير، وبغلة يقال لها: دلدل، وسيفه: ذو الفقار، ودرعه: ذو الفضول.
ورواه البيهقي من حديث الحكم عن يحيى بن الجزار، عن علي نحوه.
قال البيهقي: وروينا في كتاب السنن أسماء أفراسه التي كانت عند الساعد بين لزاز واللحيف، وقيل: اللخيف، والظرب، والذي ركبه لأبي طلحة يقال له: المندوب، وناقته: القصواء، والعضباء، والجدعاء، وبغلته: الشهباء والبيضاء.
قال البيهقي: وليس في شيء من الروايات أنه مات عنهن، إلا ما روينا في بغلته البيضاء وسلاحه، وأرض جعلها صدقة، ومن ثيابه، وبلغته، وخاتمه، ما روينا في هذا الباب.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا زمعة بن صالح عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: توفي رسول الله ﷺ وله جبة صوف في الحياكة.
وهذا إسناد جيد.
وقد روى الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا مجاهد عن موسى، ثنا علي بن ثابت، ثنا غالب الجزري عن أنس قال: لقد قبض رسول الله ﷺ وإنه لينسج له كساء من صوف.
وهذا شاهد لما تقدم.
وقال أبو سعيد بن الأعرابي: حدثنا سعدان بن نصير، ثنا سفيان بن عيينة عن الوليد بن كثير، عن حسين، عن فاطمة بنت الحسين أن رسول الله ﷺ قبض وله بردان في الجف يعملان، وهذا مرسل.
وقال أبو القاسم الطبراني: ثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحرني، ثنا عثمان بن عبد الرحمن بن علي بن عروة عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء وعمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: كان لرسول الله ﷺ سيف قائمته من فضة وقبيعته، وكان يسميه: ذا الفقار، وكان له قوس تسمى: السداد، وكانت له كنانة تسمى: الجمع، وكانت له درع موشحة بالنحاس تسمى: ذات الفضول، وكانت له حربة تسمى: السغاء، وكان له مجن يسمى: الذقن، وكان له ترس أبيض يسمى: الموجز، وكان له فرس أدهم يسمى: السكب، وكان له سرج يسمى: الداج، وكان له بغلة شهباء يقال لها: دلدل، وكانت له ناقة تسمى: القصواء، وكان له حمار يقال له: يعفور، وكان له بساط يسمى: الكره، وكان له نمرة تسمى: النمر، وكانت له ركوة تسمى: الصادر، وكانت له مرآة تسمى: المرآة، وكان له مقراض يسمى: الجاح، وكان له قضيب شوحط يسمى: الممشوق.
قلت: قد تقدم عن غير واحد من الصحابة أن رسول الله ﷺ لم يترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، سوى بغلة وأرض جعلها صدقة.
وهذا يقتضي أنه عليه السلام نجز العتق في جميع ما ذكرناه من العبيد والإماء والصدقة في جميع ما ذكر من السلاح، والحيوانات، والأثاث، والمتاع مما أوردناه ومالم نورده.
وأما بغلته فهي: الشهباء، وهي: البيضاء أيضا: والله أعلم، وهي التي أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، واسمه: جريج بن ميناء فيما أهدي من التحف، وهي التي كان رسول الله ﷺ راكبها يوم حنين وهو في نحور العدو ينوه باسمه الكريم شجاعة وتوكلا على الله - عز وجل -، فقد قيل: إنها عمرت بعده حتى كانت عند علي ابن أبي طالب في أيام خلافته، وتأخرت أيامها حتى كانت بعد علي عند عبد الله بن جعفر فكان يجش لها الشعير حتى تأكله من ضعفها بعد ذلك.
وأما حماره: يعفور، ويصغر فيقال له: عفير، فقد كان عليه السلام يركبه في بعض الأحايين.
وقد روى أحمد من حديث محمد بن إسحاق عن يزيد ابن أبي حبيب، عن يزيد بن عبد الله العوفي، عن عبد الله بن رزين، عن علي قال: كان رسول الله ﷺ يركب حمارا يقال له: عفير.
ورواه أبو يعلى من حديث عون بن عبد الله عن ابن مسعود، وقد ورد في أحاديث عدة أنه عليه السلام ركب الحمار.
وفي الصحيحين: أنه عليه السلام مر وهو راكب حمارا بمجلس فيه عبد الله ابن أبي بن سلول، وأخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل - وذلك قبل وقعة بدر - وكان قد عزم على عيادة سعد بن عبادة.
فقال له عبد الله: لا أحسن مما تقول أيها المرء، فإن كان حقا فلا تغشنا به في مجالسنا، وذلك قبل أن يظهر الإسلام، ويقال: إنه خمر أنفه لما غشيتهم عجاجة الدابة.
وقال: لا تؤذنا بنتن حمارك.
فقال له عبد الله بن رواحة: والله لريح حمار رسول الله ﷺ أطيب من ريحك.
وقال عبد الله: بل يا رسول الله أغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك.
فتثاور الحيان وهموا أن يقتتلوا، فسكنهم رسول الله، ثم ذهب إلى سعد بن عبادة، فشكى إليه عبد الله ابن أبي.
فقال: ارفق به يا رسول الله فوالذي أكرمك بالحق لقد بعثك الله بالحق، وإنا لننظم له الخدر لنملكه علينا، فلما جاء الله بالحق شرق بريقه.
وقد قدمنا أنه ركب الحمار في بعض أيام خيبر، وجاء أنه أردف معاذا على حمار، ولو أوردناها بألفاظها وأسانيدها لطال الفصل، والله أعلم.
فأما ما ذكره القاضي عياض بن موسى السبتي في كتابه الشفا وذكره قبل إمام الحرمين في كتابه الكبير في أصول الدين وغيرهما أنه كان لرسول الله ﷺ حمار يسمى: زياد بن شهاب، وأن رسول الله ﷺ كان يبعثه ليطلب له بعض أصحابه، فيجيء إلى باب أحدهم فيقعقعه، فيعلم أن رسول الله ﷺ يطلبه، وأنه ذكر للنبي ﷺ أنه سلالة سبعين حمارا كل منها ركبه نبي، وأنه لما توفي رسول الله ﷺ ذهب فتردى في بئر فمات، فهو حديث لا يعرف له إسناد بالكلية، وقد أنكره غير واحد من الحفاظ منهم: عبد الرحمن ابن أبي حاتم، وأبوه - رحمهما الله -.
وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله ينكره غير مرة إنكارا شديدا.
وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة: ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى العنبري، ثنا أحمد بن محمد بن يوسف، ثنا إبراهيم بن سويد الجذوعي، حدثني عبد الله بن أذين الطائي عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل قال: أتى النبي ﷺ وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه فقال: « من أنت؟ »
قال: أنا عمرو بن فلان كنا، سبعة إخوة كلنا ركبنا الأنبياء، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكني رجل من اليهود فكنت إذا ذكرتك كبوت به فيوجعني ضربا.
فقال رسول الله ﷺ: « فأنت يعفور ».
هذا حديث غريب جدا.
فصل إيراد ما بقي من متعلقات السيرة الشريفة
وهذا أوان إيراد ما بقي علينا من متعلقات السيرة الشريفة، وذلك أربعة كتب:
الأول: في الشمائل.
الثاني: في الدلائل.
الثالث: في الفضائل.
الرابع: في الخصائص.
وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
كتاب شمائل رسول الله وصفاته الخلقية
قد صنف الناس في هذا قديما وحديثا كتبا كثيرة مفردة وغير مفردة، ومن أحسن من جمع في ذلك فأجاد وأفاد: الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله، أفرد في هذا المعنى كتابه المشهور بالشمائل ولنا به سماع متصل إليه، ونحن نورد عيون ما أورده فيه، ونزيد عليه أشياء مهمة لا يستغنى عنها المحدث والفقيه.
ولنذكر أولا: بيان حسنه الباهر الجميل، ثم نشرع بعد ذلك في إيراد الجمل والتفاصيل، فنقول - والله حسبنا ونعم الوكيل -:
باب ما ورد في حسنه الباهر
قال البخاري: ثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقول: كان النبي ﷺ أحسن الناس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير.
وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب، عن إسحاق بن منصور.
وقال البخاري: حدثنا جعفر بن عمر، ثنا شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان النبي ﷺ مربوعا بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه.
قال يوسف ابن أبي إسحاق عن أبيه: إلى منكبيه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء قال: ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله ﷺ له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير.
وقد رواه مسلم وأبو دواد والترمذي والنسائي من حديث وكيع به.
وقال الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، أنا أبو إسحاق.
ح وحدثنا يحيى ابن أبي بكير، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: ما رأيت أحدا من خلق الله أحسن في حلة حمراء من رسول الله ﷺ، وإن جمته لتضرب إلى منكبيه.
قال ابن أبي بكير: لتضرب قريبا من منكبيه.
قال - يعني: ابن إسحاق -: وقد سمعته يحدث به مرارا ما حدث به قط إلا ضحك.
وقد رواه البخاري في اللباس.
والترمذي في الشمائل.
والنسائي في الزينة من حديث إسرائيل به.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، ثنا زهير عن أبي إسحاق قال: سئل البراء بن عازب، أكان وجه رسول الله ﷺ مثل السيف؟
قال: لا، بل مثل القمر.
ورواه الترمذي من حديث زهير بن معاوية الجعفي الكوفي عن أبي إسحاق السبيعي، واسمه: عمرو بن عبد الله الكوفي عن البراء بن عازب به.
وقال: حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: أخبرنا أبو الحسن ابن الفضل القطان ببغداد، أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، ثنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان، ثنا أبو نعيم وعبد الله عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة قال له رجل: أكان رسول الله ﷺ وجهه مثل السيف؟
قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا.
وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن عبيد الله بن موسى به.
وقد رواه الإمام أحمد مطولا فقال: ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله ﷺ قد شمط مقدم رأسه ولحيته؛ فإذا ادهن ومشطهن لم ينبين؛ وإذا شعث رأسه تبين؛ وكان كثير الشعر واللحية.
فقال رجل: وجهه مثل السيف؟
قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا.
قال: ورأيت خاتمه عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده.
وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو حامد بن بلال، ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا المحاربي عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله ﷺ في ليلة أضحيان وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر.
هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن هناد بن اليسري، عن عيثر بن القاسم، عن أشعث بن سوار.
قال النسائي: وهو ضعيف؛ وقد أخطأ والصواب أبو إسحاق عن البراء.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث أشعث بن سوار، وسألت محمد بن إسماعيل - يعني: البخاري - قلت: حديث أبي إسحاق عن البراء أصح، أم حديثه عن جابر، فرأى كلا الحديثين صحيحا.
وثبت في صحيح البخاري عن كعب بن مالك في حديث التوبة قال: وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وقد تقدم الحديث بتمامه.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد، ثنا يونس ابن أبي يعفور العبدي عن ابن إسحاق الهمداني، عن امرأة من همدان سماها قالت: حججت مع رسول الله ﷺ فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن عليه بردان أحمران يكاد يمس منكبه، إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن، ثم يرفعه إليه فيقبله.
قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبهته؟
قالت: كالقمر ليلة البدر لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد الله بن موسى التيمي، ثنا أسامة بن زيد عن أبي عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوذ: صفي لي رسول الله ﷺ.
قالت: يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة.
ورواه البيهقي من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن عبد الله بن موسى التيمي بسنده فقالت: لو رأيته لقلت الشمس طالعة.
وثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله ﷺ مسرورا تبرق أسارير وجهه. الحديث.
صفة لون رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن خالد - هو ابن يزيد - عن سعيد - يعني: ابن هلال -، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن قال: سمعت أنس بن مالك يصف النبي ﷺ قال: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا بآدم، ليس بجعد قطط ولا سبط رجل، أنزل عليه وهو ابن أربعين فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
قال ربيعة: فرأيت شعرا من شعره فإذا هو أحمر، فسألت فقيل: أحمر من الطيب.
ثم قال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك بن أنس عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول: كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، فتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
ورواه أيضا عن قتيبة، ويحيى بن أيوب وعلي بن حجر، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر، وعن القاسم بن زكريا عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، ثلاثتهم عن ربيعة به.
ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن مالك به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
قال الحافظ البيهقي: ورواه ثابت عن أنس فقال: كان أزهر اللون.
قال: ورواه حميد كما أخبرنا، ثم ساق بإسناده عن يعقوب بن سفيان، حدثني عمرو بن عون وسعيد بن منصور قالا: حدثنا خالد بن عبد الله عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ أسمر اللون.
وهكذا روى هذا الحديث الحافظ أبو بكر البزار عن علي، عن خالد بن عبد الله، عن حميد، عن أنس، وحدثناه محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال: حدثنا حميد عن أنس قال: لم يكن رسول الله ﷺ بالطويل ولا بالقصير، وكان إذا مشى تكفأ، وكان أسمر اللون.
ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن حميد إلا خالد وعبد الوهاب.
ثم قال البيهقي رحمه الله: أخبرنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو جعفر البزار، ثنا يحيى بن جعفر، ثنا علي بن عاصم، ثنا حميد سمعت أنس بن مالك يقول، فذكر الحديث في صفة النبي ﷺ قال: كان أبيض بياضه إلى السمرة.
قلت: وهذا السياق أحسن من الذي قبله؛ وهو يقتضي أن السمرة التي كانت تعلو وجهه عليه السلام من كثرة أسفاره، وبروزه للشمس، والله أعلم.
فقد قال يعقوب بن سفيان الفسوي أيضا: حدثني عمرو بن عون وسعيد بن منصور قالا: ثنا خالد بن عبد الله بن الجريري عن أبي الطفيل قال: رأيت النبي ﷺ ولم يبق أحد رآه غيري.
فقلنا له: صف لنا رسول الله ﷺ.
فقال: كان أبيض مليح الوجه.
ورواه مسلم عن سعيد بن منصور به.
ورواه أيضا أبو داود من حديث سعيد بن أياس الجريري عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي قال: كان رسول الله ﷺ أبيض مليحا إذا مشى كأنما ينحط في صبوب.
لفظ أبي داود.
وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن هارون، حدثنا الجريري قال: كنت أطوف مع أبي الطفيل فقال: ما بقي أحد رأى رسول الله ﷺ غيري.
قلت: ورأيته؟
قال: نعم.
قال: قلت: كيف كانت صفته؟
قال: كان أبيض مليحا مقصدا.
وقد رواه الترمذي عن سفيان بن وكيع ومحمد بن بشار، كلاهما عن يزيد بن هارون به.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد الله بن جعفر أو أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا واصل بن عبد الأعلى الأسدي، ثنا محمد بن فضيل عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله ﷺ أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه.
ثم قال رواه مسلم عن واصل بن عبد الأعلى، ورواه البخاري عن عمرو بن علي، عن محمد بن فضيل، وأصل الحديث كما ذكر في الصحيحين، ولكن بلفظ آخر كما سيأتي.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه أن سراقة بن مالك قال: أتيت رسول الله ﷺ فلما دنوت منه وهو على ناقته جعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة.
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق: والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة.
قلت: - يعني: من شدة بياضها كأنها جمارة طلع النخل -.
وقال الإمام أحمد: ثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية، عن مولى لهم - مزاحم ابن أبي مزاحم -، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، عن رجل من خزاعة يقال له: محرش أو مخرش - لم يكن سفيان يقف على اسمه، وربما قال: محرش ولم أسمعه أنا -: أن النبي ﷺ خرج من الجعرانة ليلا فاعتمر ثم رجع فأصبح بها كبائت، فنظرت إلى ظهره كأنها سبيكة فضة.
تفرد به أحمد.
وهكذا رواه يعقوب بن سفيان عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء، حدثني عمرو بن الحارث، حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيري، أخبرني محمد بن مسلم عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله ﷺ فقال: كان شديد البياض.
وهذا إسناد حسن ولم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد: ثنا حسن، ثنا عبد الله بن لهيعة، ثنا أبو يونس سليم بن جبير - مولى أبي هريرة - أنه سمع أبا هريرة يقول: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله ﷺ كان كأن الشمس تجري في جبهته، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله ﷺ كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث.
ورواه الترمذي عن قتيبة، عن ابن لهيعة به.
وقال: كأن الشمس تجري في وجهه.
وقال: غريب.
ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد المصري، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة وقال: كأنما الشمس تجري في وجهه.
وكذلك رواه ابن عساكر من حديث حرملة عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة فذكره وقال: كأنما الشمس تجري في وجهه.
وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا حجاج، ثنا حماد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي - يعني: ابن الحنفية - عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ أزهر اللون.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، عن نافع بن جبير، عن علي ابن أبي طالب قال: كان رسول الله ﷺ مشربا وجهه حمرة.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا ابن الأصبهاني، ثنا شريك عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن جبير قال: وصف لنا علي النبي ﷺ فقال: كان أبيض مشرب الحمرة.
وقد رواه الترمذي بنحوه من حديث المسعودي عن عثمان بن مسلم، عن هرمز وقال: هذا حديث صحيح.
قال البيهقي: وقد روي هكذا عن علي من وجه آخر.
قلت: رواه ابن جريج عن صالح بن سعيد، عن نافع بن جبير، عن علي قال البيهقي: ويقال: إن المشرب فيه حمرة ماضحا للشمس والرياح، وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر.
صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه
فرقه وجبينه وحاجبيه وعينيه وأنفه
وقد تقدم قول أبي الطفيل: كان أبيض مليح الوجه.
وقول أنس: كان أزهر اللون.
وقول البراء وقد قيل له: أكان وجه رسول الله ﷺ مثل السيف - يعني: في صقاله -؟
فقال: لا، بل مثل القمر.
وقول جابر بن سمرة وقد قيل له: مثل ذلك.
فقال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا.
وقول الربيع بنت معوذ: لو رأيته لقلت الشمس طالعة.
وفي رواية: لرأيت الشمس طالعة.
وقال أبو إسحاق السبيعي عن امرأة من همدان حجت مع رسول الله ﷺ فسألها عنه.
فقالت: كان كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقال أبو هريرة: كأن الشمس تجري في وجهه.
وفي رواية: في جبهته.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان وحسن بن موسى قالا: ثنا حماد - وهو ابن سلمة - عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ ضخم الرأس، عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العينين بحمرة، كث اللحية، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعا.
تفرد به أحمد.
وقال أبو يعلى: حدثنا زكريا ويحيى الواسطي، ثنا عباد بن العوام، ثنا الحجاج عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، عن علي أنه سئل عن صفة النبي ﷺ فقال: كان لا قصيرا ولا طويلا، حسن الشعر رجله مشربا وجهه حمرة، ضخم الكراديس، شثن الكعبين والقدمين، عظيم الرأس، طويل المسربة، لم أر قبله ولا بعده مثله، إذا مشى تكفأ كأنما ينزل من صبب.
وقال محمد بن سعد عن الواقدي: حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب عن أبيه، عن جده، عن علي قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن فإني لأخطب يوما على الناس، وحبر من أحبار يهود واقف في يده سفر ينظر فيه، فلما رآني قال: صف لنا أبا القاسم.
فقال علي: رسول الله ليس بالقصير ولا بالطويل البائن، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، هو رجل الشعر أسوده، ضخم الرأس، مشربا لونه حمرة، عظيم الكراديس، شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة، وهو الشعر الذي يكون من النحر إلى السرة، أهدب الأشفار، مقرون الحاجبين، صلت الجبين، بعيد ما بين المنكبين إذا مشى تكفأ كأنما ينزل من صبب، لم أر قبله مثله ولا بعده مثله.
قال علي: ثم سكت.
فقال لي الحبر: وماذا؟
قال علي: هذا ما يحضرني.
قال الحبر: في عينيه حمرة، حسن اللحية، حسن الفم، تام الأذنين، يقبل جميعا ويدبر جميعا.
فقال علي: والله هذه صفته.
قال الحبر: وشيء آخر.
قال علي: وما هو؟
قال الحبر: وفيه جناء.
قال علي: هو الذي قلت لك كأنما ينزل من صبب.
قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر إياي ونجده يبعث في حرم الله وأمنه وموضع بيته، ثم يهاجر إلى حرم يحرمه هو ويكون له حرمة كحرمة الحرم الذي حرم الله، ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوما من ولد عمر بن عامر أهل نخل، وأهل الأرض قبلهم يهود.
قال علي: هو هو، وهو رسول الله ﷺ.
قال الحبر: فإني أشهد أنه نبي، وأنه رسول الله إلى الناس كافة، فعلى ذلك أحيا وعليه أموت، وعليه أبعث إن شاء الله.
قال: فكان يأتي عليا فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام، ثم خرج علي والحبر من هنالك حتى مات في خلافة أبي بكر، وهو مؤمن برسول الله ﷺ مصدق به.
وهذه الصفة قد وردت عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب من طرق متعددة سيأتي ذكرها.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده قال: سئل أو قيل لعلي: انعت لنا رسول الله.
فقال: كان أبيض مشربا بياضه حمرة، وكان أسود الحدقة أهدب الأشفار.
قال يعقوب: وحدثنا عبد الله بن سلمة وسعيد بن منصور قالا: ثنا عيسى بن يونس، ثنا عمر بن عبد الله - مولى عفرة - عن إبراهيم بن محمد عن ولد علي قال: كان علي إذا نعت رسول الله.
قال: كان في الوجه تدوير، أبيض، أدعج العينين، أهدب الأشفار.
قال الجوهري: الدعج شدة سواد العينين مع سعتها.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، أخبرني سماك سمعت جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله ﷺ أشهل العينين، منهوس العقب، ضليع الفم.
هكذا وقع في رواية أبي داود عن شعبة: أشهل العينين.
قال أبو عبيد: والشهلة حمرة في سواد العين، والشكلة حمرة في بياض العين.
قلت: وقد روى هذا الحديث مسلم في صحيحه عن أبي موسى وبندار، كلاهما عن أحمد بن منيع، عن أبي قطن، عن شعبة به.
وقال: أشكل العينين.
وقال: حسن صحيح.
ووقع في صحيح مسلم تفسير الشكلة بطول أشفار العينين، وهو من بعض الرواة، وقول أبي عبيد حمرة في بياض العين أشهر وأصح، وذلك يدل على القوة والشجاعة، والله تعالى أعلم.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني عمرو بن الحرث، حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي، حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله فقال: كان مفاض الجبين أهدب الأشفار.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو غسان، ثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، حدثني رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي، عن خاله قال: كان رسول الله واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان.
وقال يعقوب: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد العزيز ابن أبي ثابت الزهري، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: كان رسول الله أفلج الثنيتين، وكان إذا تكلم رئي كالنور بين ثناياه.
ورواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن إبراهيم بن المنذر به.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عباد بن حجاج عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كنت إذا نظرت المنذر به رسول الله ﷺ قلت: أكحل العينين وليس بأكحل، وكان في ساقي رسول الله حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسما.
وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، حدثني مجمع بن يحيى عن عبد الله بن عمران الأنصاري، عن علي والمسعودي، عن عثمان بن عبد الله، عن هرمز، عن نافع بن جبير، عن علي قال: كان رسول الله ليس بالقصير ولا بالطويل، ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، والكراديس مشربا وجهه حمرة، طويل المسربة، إذا مشى تكفأ كأنما يقلع من صخر لم أر قبله ولا بعده مثله.
قال ابن عساكر: وقد رواه عبد الله بن داود الخريبي عن مجمع، فأدخل بين ابن عمران وبين علي رجلا غير مسمى، ثم أسند من طريق عمرو بن علي الفلاس عن عبد الله بن داود، ثنا مجمع بن يحيى الأنصاري عن عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار قال: سألت علي ابن أبي طالب، وهو محتب بحمالة سيفه في مسجد الكوفة عن نعت رسول الله؟
فقال: كان أبيض اللون مشربا حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، دقيق المسربة، سهل الخد، كث اللحية، ذا وفرة كأن عنقه إبريق فضة، له شعر من لبته إلى سرته كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعا، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالعاجز ولا اللأم، كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سعيد بن منصور، ثنا نوح بن قيس الحرني، ثنا خالد بن خالد التميمي عن يوسف بن مازن المازني أن رجلا قال لعلي: يا أمير المؤمنين إنعت لنا رسول الله.
قال: كان أبيض مشربا حمرة، ضخم الهامة، أغر، أبلج، أهدب الأشفار.
وقال الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا شريك عن ابن عمير قال شريك: قلت له: عمن يا أبا عمير، عمن حدثه؟.
قال: عن نافع بن جبير، عن أبيه، عن علي قال: كان رسول الله ضخم الهامة، مشربا حمرة، شثن الكفين والقدمين، ضخم اللحية، طويل، لم أر قبله مثله ولا بعده.
وقد روي لهذا شواهد كثيرة عن علي، وروي عن عمر نحوه.
وقال الواقدي: ثنا بكير بن مسمار عن زياد بن سعد قال: سألت سعد ابن أبي وقاص هل خضب رسول الله؟
قال: لا، ولا هم به، كان شيبه في عنفقته وناصيته لو أشاء أن أعدها لعددتها.
قلت: فما صفته؟
قال: كان رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، ولا بالسبط ولا بالقطط، وكانت لحيته حسنة وجبينه صلتا مشربا بحمرة، شثن الأصابع، شديد سواد الرأس واللحية.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: ثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا يحيى بن حاتم العسكري، ثنا بسر بن مهران، ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول شيء علمته من رسول الله قدمت مكة في عمومة لي فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه، وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة له وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف، براق الثنايا، أدعج العينين، كث اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان كأنه القمر ليلة البدر.
وذكر تمام الحديث وطوافه عليه السلام بالبيت وصلاته عنده هو وخديجة وعلي ابن أبي طالب، وأنهم سألوا العباس عنه.
فقال: هذا هو ابن أخي: محمد بن عبد الله، وهو يزعم أن الله أرسله إلى الناس.
وقال الإمام أحمد: ثنا جعفر، ثنا عوف ابن أبي جميلة عن يزيد الفارسي قال: رأيت رسول الله في النوم في زمن ابن عباس قال: وكان يزيد يكتب المصاحف.
قال: فقلت لابن عباس: إني رأيت رسول الله في النوم.
قال ابن عباس: فإن رسول الله ﷺ كان يقول: « إن الشيطان لا يستطيع أمية يتشبه بي، فمن رآني فقد رآني » هل تستطيع أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟
قال: قلت: نعم رأيت رجلا بين الرجلين جسمه، ولحمه أسمر إلى البياض، حسن الضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحمتيه من هذه إلى هذه، حتى كادت تملأ نحره.
قال عوف: لا أدري ما كان مع هذا من النعت.
قال: فقال ابن عباس: لو رأيته في اليقظة، ما استطعت أن تنعته فوق هذا.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن الزهري قال: سئل أبو هريرة عن صفة رسول الله فقال: أحسن الصفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول، ما هو بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العين، أهدب الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس لها أخمص، إذا وضع رداءه على منكبيه فكأنه سبيكة فضة، وإذا ضحك كاد يتلألأ في الجدر، لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقد رواه محمد بن يحيى من وجه آخر متصل فقال: ثنا إسحاق بن إبراهيم - يعني: الزبيدي - حدثني عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة فذكر نحو ما تقدم.
ورواه الذهلي عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن صالح، عن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين، يطأ بقدمه جميعا، إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.
ورواه الواقدي: حدثني عبد الملك عن سعيد بن عبيد بن السباق، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ششن القدمين والكفين، ضخم الساقين، عظيم الساعدين، ضخم العضدين والمنكبين بعيد ما بينهما، رحب الصدر، رجل الرأس، أهدب العينين، حسن الفم، حسن اللحية، تام الأذنين، ربعة من القوم، لا طويل ولا قصير، أحسن الناس لونا، يقبل معا ويدبر معا، لم أر مثله ولم أسمع بمثله.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، ثنا أبو الحسن المحمودي المروزي، ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عثمان بن عمر، ثنا حرب بن سريج - صاحب الحلواني -، حدثني رجل بلعدر به، حدثني جدي قال: انطلقت إلى المدينة أذكر الحديث في رؤية رسول الله قال: فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجمة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود، شعره ورأسه من طمرين، فدنا مني وقال: السلام عليك.
ذكر شعره عليه السلام
قد ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل رسول الله ﷺ ثم فرق بعده.
وقال الإمام أحمد: ثنا حماد بن خالد، ثنا مالك، ثنا زياد بن سعد عن الزهري، عن أنس أن رسول الله ﷺ سدل ناصيته ما شاء أن يسدل، ثم فرق بعد.
تفرد به من هذا الوجه.
وقال محمد بن إسحاق بن جعفر بن الزبير عن عروة، عن عائشة قالت: أنا فرقت لرسول الله رأسه، صدعت فرقه عن يافوخه وأرسلت ناصيته بين عينيه.
قال ابن إسحاق: وقد قال محمد بن جعفر بن الزبير - وكان فقيها مسلما -: ما هي إلا سيما من سيما النصارى تمسكت بها النصارى من الناس.
وثبت في الصحيحين عن البراء أن رسول الله كان يضرب شعره إلى منكبيه.
وجاء في الصحيح عنه وعن غيره: إلى أنصاف أذنيه.
ولا منافاة بين الحالين، فإن الشعر تارة يطول، وتارة يقصر منه، فكل حكى بحسب ما رأى.
وقال أبو داود: ثنا ابن نفيل، ثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان شعر رسول الله ﷺ فوق الوفرة ودون الجمة.
وقد ثبت أنه عليه السلام حلق جميع رأسه في حجة الوداع، وقد مات بعد ذلك بأحد وثمانين يوما - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن مسلم ويحيى بن عبد الحميد قالا: ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم هانئ: قدم النبي ﷺ مكة قدمة وله أربع غدائر - تعني: ضفائر -.
وروى الترمذي من حديث سفيان بن عيينة، وثبت في الصحيحين من حديث ربيعة عن أنس قال بعد ذكره شعر رسول الله ﷺ أنه ليس بالسبط ولا بالقطط قال: وتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وفي صحيح البخاري من حديث أيوب عن ابن سيرين أنه قال: قلت لأنس: أخضب رسول الله؟
قال: إنه لم ير من الشيب إلا قليلا.
وكذا روى هو ومسلم من طريق حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت: قيل لأنس: هل كان شاب رسول الله؟
فقال: ما شانه الله بالشيب ما كان في رأسه إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة شعرة.
وعند مسلم من طريق المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس أن رسول الله لم يختضب إنما كان شمط عند العنفقة يسيرا، وفي الصدغين يسيرا، وفي الرأس يسيرا.
وقال البخاري: ثنا أبو نعيم، ثنا همام عن قتادة قال: سألت أنسا هل خضب رسول الله ﷺ؟
قال: لا، إنما كان شيء في صدغيه.
وروى البخاري عن عصام بن خالد، عن جرير بن عثمان قال: قلت لعبد الله بن بسر السلمي رأيت رسول الله أكان شيخا؟
قال: كان في عنفقته شعرات بيض.
وتقدم عن جابر بن سمرة مثله.
وفي الصحيحين من حديث أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله هذه منه بيضاء - يعني: عنفقته -.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة السكري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي قال: دخلنا على أم سلمة، فأخرجت إلينا من شعر رسول الله فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم.
رواه البخاري عن إسماعيل بن موسى، عن سلام ابن أبي مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن أم سلمة به.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا يحيى بن بكير، ثنا إسرائيل عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم فيه من شعر رسول الله، فكان إذا أصاب إنسانا الحمى بعث إليها فحضحضته فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه.
قال: فبعثني أهلي إليها، فأخرجته فإذا هو هكذا - وأشار إسرائيل بثلاث أصابع - وكان فيه خمس شعرات حمر.
رواه البخاري عن مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن إياد، حدثني إياد عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله ﷺ فلما رأيته قال: هل تدري من هذا؟
قلت: لا.
قال: إن هذا رسول الله، فاقشعررت حين قال ذلك، وكنت أظن أن رسول ﷺ شيء لا يشبه الناس، فإذا هو بشر ذو وفرة بها ردع من حناء، وعليه بردان أخضران.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه، عن أبي رمثة - واسمه: حبيب بن حيان - ويقال: رفاعة بن يثربي.
وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث إياد كذا قال.
وقد رواه النسائي أيضا من حديث سفيان الثوري وعبد الملك بن عمير، كلاهما عن إياد بن لقيط به ببعضه.
ورواه يعقوب بن سفيان أيضا عن محمد بن عبد الله المخرمي، عن أبي سفيان الحميري، عن الضحاك بن حمزة بن غيلان بن جامع، عن إياد بن لقيط بن أبي رمثة قال: كان رسول الله ﷺ يخضب بالحناء والكتم، وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه.
وقال أبو داود: ثنا عبد الرحيم بن مطرف بن سفيان، ثنا عمرو بن محمد، أنا ابن أبي داود عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك.
ورواه النسائي عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي، عن عمرو بن محمد المنقري به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا الحسن بن محمد بن زياد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا يحيى بن آدم.
ح وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أنا عبد الله بن جعفر، أنا يعقوب بن سفيان، حدثني أبو جعفر محمد بن عمر بن الوليد الكندي الكوفي، ثنا يحيى بن آدم، ثنا شريك عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان شيب رسول الله ﷺ نحوا من عشرين شعرة.
وفي رواية إسحاق: رأيت شيب رسول الله نحوا من عشرين شعرة بيضاء في مقدمه.
قال البيهقي: وحدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أحمد بن سلمان الفقيه، ثنا هلال بن العلاء الرقي، ثنا حسين بن عياش الرقي، ثنا جعفر بن برقان، ثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قدم أنس بن مالك المدينة، وعمر بن عبد العزيز وال عليها فبعث إليه عمر وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله ﷺ فإني رأيت شعرا من شعره قد لون.
فقال أنس: إن رسول الله ﷺ قد منع بالسواد، ولو عددت ما أقبل على من شيبه في رأسه ولحيته ما كنت أزيد على إحدى عشرة شيبة، وإنما هو الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله ﷺ هو الذي غير لونه.
قلت: ونفي أنس للخضاب معارض بما تقدم عن غيره من إثباته، والقاعدة المقررة أن الإثبات مقدم على النفي، لأن المثبت معه زيادة علم ليست عند النافي، وهكذا إثبات غيره لزيادة ما ذكر من السبب مقدم، لا سيما عن ابن عمر الذي المظنون أنه تلقى ذلك عن أخته أم المؤمنين حفصة، فإن اطلاعها أتم من إطلاع أنس، لأنها ربما أنها فلت رأسه الكريم عليه الصلاة والسلام.
ما ورد في منكبيه وساعديه وإبطيه وقدميه وكعبيه صلى الله عليه وسلم
قد تقدم ما أخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله ﷺ مربوعا بعيدا ما بين المنكبين.
وروى البخاري عن أبي النعمان، عن جرير، عن قتادة، عن أنس قال: كان النبي ﷺ ضخم الرأس والقدمين سبط الكفين.
وتقدم من غير وجه أنه عليه السلام كان شثن الكفين والقدمين.
وفي رواية: ضخم الكفين والقدمين.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا آدم وعاصم بن علي قالا: ثنا ابن أبي ذئب، ثنا صالح - مولى التوأمة - قال: كان أبو هريرة ينعت رسول الله ﷺ قال: كان شبح الذراعين بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين.
وفي حديث نافع بن جبير عن علي قال: كان رسول الله ﷺ شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، طويل المسربة.
وتقدم في حديث حجاج عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كان في ساقي رسول الله ﷺ حموشة.
أي: لم يكونا ضخمين.
وقال سراقة بن مالك بن جعشم: فنظرت إلى ساقيه.
وفي رواية: قدميه في الغرز - يعني: الركاب - كأنهما جمارة - أي: جمارة النخل من بياضهما -.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة: كان ضليع الفم - وفسره: بأنه عظيم الفم -، أشكل العينين - وفسره: بأنه طويل شق العينين -، منهوس العقب - وفسره: بأنه قليل لحم العقب - وهذا أنسب وأحسن في حق الرجال.
وقال الحارث ابن أبي أسامة: ثنا عبد الله بن بكر، ثنا حميد عن أنس قال: أخذت أم سليم بيدي مقدم رسول الله ﷺ المدينة فقالت: يا رسول الله هذا أنس غلام كاتب يخدمك.
قال: فخدمته تسع سنين، فما قال لشيء صنعت: « أسأت، ولا بئس ما صنعت » ولا مسست شيئا قط خزا ولا حريرا ألين من كف رسول الله، ولا شممت رائحة قط مسكا ولا عنبرا أطيب من رائحة رسول الله ﷺ.
وهكذا رواه معتمر بن سليمان، وعلي بن عاصم، ومروان بن معاوية الفزاري، وإبراهيم بن طهمان، كلهم عن حميد، عن أنس في لين كفه عليه السلام وطيب رائحته - صلاة الله وسلامه عليه -.
وفي حديث الزبيدي عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة أن رسول الله كان يطأ بقدمه كلها ليس لها أخمص، وقد جاء خلاف هذا كما سيأتي.
وقال يزيد بن هارون: حدثني عبد الله بن يزيد بن مقسم قال: حدثتني عمتي سارة بنت مقسم عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله بمكة وهو على ناقة، وأنا مع أبي، وبيد رسول الله درة كدرة الكتاب، فدنا منه أبي فأخذ يقدمه، فأقر له رسول الله ﷺ قالت: فما نسيت طول إصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون مطولا.
ورواه أبو داود من حديث يزيد بن هارون ببعضه، وعن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق، عن ابن جريح، عن إبراهيم بن ميسرة، عن خالته عنها.
ورواه ابن ماجه من وجه آخر عنها، والله أعلم.
وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبد الله بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا محمد بن إسحاق أبو بكر، ثنا سلمة بن حفص السعدي، ثنا يحيى بن اليمان، ثنا إسرائيل عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كانت إصبع لرسول الله خنصره من رجله متظاهرة.
وهذا حديث غريب.
قوامه عليه السلام وطيب رائحته
في صحيح البخاري من حديث ربيعة عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير.
وقال أبو إسحاق: عن البراء كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير.
أخرجاه في الصحيحين.
وقال نافع بن جبير عن علي: كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل ولا بالقصير، لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقال سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله، عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: كان رسول الله ﷺ ليس بالطويل ولا بالقصير، وهو إلى الطول أقرب، وكان عرقه كاللؤلؤ، الحديث.
وقال سعيد عن روح بن قيس، عن خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي، عن علي قال: كان رسول الله ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، وكان عرقه في وجهه كاللؤلؤ، الحديث.
وقال الزبيدي عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ربعة وهو إلى الطول أقرب، وكان يقبل جميعا ويدبر جميعا، لم أر قبله ولا بعده مثله.
وثبت في البخاري من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس قال: ما مسست بيدي ديباجا، ولا حريرا، ولا شيئا ألين من كف رسول الله، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله ﷺ.
ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة: عن ثابت، عن أنس به.
ورواه مسلم أيضا من حديث حماد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكا ولا عنبرا، أطيب من رائحة رسول الله ﷺ.
وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي، ثنا حميد عن أنس قال: ما مسست شيئا قط خزا ولا حريرا ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله ﷺ.
والإسناد ثلاثي على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
وقال يعقوب بن سفيان: أنا عمرو بن حماد بن طلحة الفناد.
وأخرجه البيهقي من حديث أحمد بن حازم ابن أبي عروة عنه قال: ثنا أسباط بن نصر عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله ﷺ صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا، واحدا قال: وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجها من جونة عطار.
ورواه مسلم عن عمرة بن حماد به نحوه.
وقال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة وحجاج، أخبرني شعبة عن الحكم سمعت أبا جحيفة قال: خرج رسول الله ﷺ بالهاجرة السلمي البطحاء، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين، وبين يديه عنزة.
زاد فيه عون عن أبيه: يمر من ورائها الحمار والمرأة.
قال حجاج في الحديث: ثم قام الناس فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم.
قال: فأخذت يده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك.
وهكذا رواه البخاري عن الحسن بن منصور، عن حجاج بن محمد الأعورعن شعبة فذكر مثله سواء، وأصل الحديث في الصحيحين أيضا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنا هشام بن حسان وشعبة وشريك عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد، عن أبيه - يعني: يزيد بن الأسود - قال: صلى رسول الله ﷺ بمنى فانحرف فرأى رجلين من وراء الناس، فدعا بهما فجيئا ترعد فرائصهما.
فقال: « ما منعكما أن تصليا مع الناس؟ ».
قالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في الرحال.
قال: « فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة ».
قال: فقال أحدهما: استغفر لي يا رسول الله فاستغفر له.
قال: ونهض الناس إلى رسول الله ﷺ ونهضت معهم وأنا يومئذ أشب الرجال وأجلده.
قال: فما زلت أزحم الناس حتى وصلت إلى رسول الله فأخذت بيده فوضعتها إما على وجهي أو صدري.
قال: فما وجدت شيئا أطيب ولا أبرد من يد رسول الله ﷺ.
قال: وهو يومئذ في مسجد الخيف.
ثم رواه أيضا عن أسود بن عامر وأبي النضر عن شعبة، عن يعلى بن عطاء سمعت جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع رسول الله ﷺ الصبح، فذكر الحديث.
قال: ثم ثار الناس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم.
قال: فأخذت بيده فمسحت بها وجهي، فوجدتها أبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك.
وقد رواه أبو داود من حديث شعبة والترمذي، والنسائي، من حديث هشيم عن يعلى به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا مسعر عن عبد الجبار بن وائل بن حجر قال: حدثني أهلي عن أبي قال: أتى رسول الله ﷺ بدلو من ماء فشرب منه، ثم مج في الدلو ثم صب في البئر، أو شرب من الدلو ثم مج في البئر، ففاح منها ريح المسك.
وهذا رواه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي النعيم - وهو الفضل بن دكين -.
وقال الإمام أحمد: ثنا هاشم، ثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيمس يده فيها.
ورواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى، ثنا عبد العزيز - يعني: ابن أبي سلمة الماجشون - عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه.
قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا رسول الله نائم في بيتك على فراشك.
قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عبيرتها، فجعلت تنشف ذلك العرق فتصره في قواريرها، ففزع النبي ﷺ فقال: « ما تصنعين يا أم سليم؟ ».
فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا.
قال: « أصبت ».
ورواه مسلم عن محمد بن رافع، عن حجين به.
وقال أحمد: ثنا هاشم بن القاسم، ثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال: دخل علينا رسول الله ﷺ، فقال عندنا فعرق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ رسول الله فقال: « يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ ».
قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب.
ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.
وقال أحمد: ثنا إسحاق بن منصور - يعني: السلولي - ثنا عمارة - يعني: ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله يقيل عند أم سليم، وكان من أكثر الناس عرقا، فاتخذت له نطعا وكان يقيل عليه، وحطت بين رجليه حطا وكانت تنشف العرق فتأخذه.
فقال: « ما هذا يا أم سليم؟ ».
قالت: عرقك يا رسول الله أجعله في طيبي.
قال: فدعا لها بدعاء حسن.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد: ثنا محمد بن عبد الله، ثنا حميد عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ إذا نام ذا عرق، فتأخذ عرقه بقطنة في قارورة فتجعله في مسكها.
وهذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولا أحد منهما.
وقال البيهقي: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمرو المغربي، أنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة.
وقال مسلم: ثنا أبو بكر ابن شيبة، ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا أيوب عن أبي قلابة، عن أنس، عن أم سليم أن رسول الله ﷺ كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعا فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطيب والقوارير.
فقال رسول الله ﷺ: « يا أم سليم ما هذا؟ ».
فقالت: عرقك أدوف به طيبي.
لفظ مسلم.
وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: ثنا بسر، ثنا حليس بن غالب، ثنا سفيان الثوري عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني زوجت ابنتي وأنا أحب أن تعينني بشيء قال: « ما عندي شيء ولكن إذا كان غد فأتني بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة وآية بيني وبينك أن تدق ناحية الباب ».
قال: فأتاه بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة.
قال: فجعل يسلت العرق من ذراعيه حتى امتلأت القارورة.
قال: « فخذها ومر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة وتطيب به ».
قال: فكانت إذا تطيبت به شم أهل المدينة رائحة الطيب، فسموا بيوت المطيبين.
هذا حديث غريب جدا.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن هشام، ثنا موسى بن عبد الله، ثنا عمر بن سعيد عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ إذا مر في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب.
وقالوا: مر رسول الله في هذا الطريق.
ثم قال: وهذا الحديث رواه أيضا معاذ بن هشام عن أبيه، عن قتادة، عن أنس أن رسول الله ﷺ كان يعرف بريح الطيب، كان رسول الله ﷺ طيبا وريحه طيب، وكان مع ذلك يحب الطيب أيضا.
قال الإمام أحمد: ثنا أبو عبيدة عن سلام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس أن النبي ﷺ قال: « حبب إلى النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ».
ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا سلام أبو المنذر القاري عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: « إنما حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ».
وهكذا رواه النسائي بهذا اللفظ عن الحسين بن عيسى القرشي، عن عفان بن مسلم، عن سلام بن سليمان أبي المنذر القاري البصري، عن ثابت، عن أنس فذكره.
وقد روى من وجه آخر بلفظ: « حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة ».
وليس بمحفوظ بهذا فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا، وإنما هي من أهم شؤون الآخرة، والله أعلم.
صفة خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم
قال البخاري: ثنا محمد بن عبيد الله، ثنا حاتم عن الجعد قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة.
وهكذا رواه مسلم عن قتيبة ومحمد بن عباد، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.
ثم قال البخاري: الحجلة من حجلة الفرس الذي بين عينيه.
وقال إبراهيم بن حمزة: رز الحجلة.
قال أبو عبد الله: الرز الراء قبل الزاي.
وقال مسلم: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عبيد الله عن إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله ﷺ قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية.
فقال رجل: وجهه مثل السيف؟
قال: لا! بل كان المثل الشمس والقمر وكان مستديرا، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده.
حدثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن حزم، ثنا شعبة عن سماك سمعت جابر بن سمرة قال: رأيت خاتما في ظهر رسول الله ﷺ كأنه بيضة حمام.
وحدثنا ابن نمير، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا حسن بن صالح عن سماك بهذا الإسناد مثله.
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن السرجس قال: ترون هذا الشيخ - يعني: نفسه - كلمت نبي الله ﷺ وأكلت معه، ورأيت العلامة التي بين كتفيه، وهي في طرف نغض كتفه اليسرى، كأنه جمع - بمعنى: الكف المجتمع وقال بيده: فقبضها - عليه خيلان كهيئة الثواليل.
وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم وأسود بن عامر قالا: ثنا شريك عن عاصم، عن عبد الله بن السرجس قال: رأيت رسول الله ﷺ وسلمت عليه، وأكلت معه، وشربت من شرابه، ورأيت خاتم النبوة.
قال هاشم: في نغض كتفه اليسرى كأنه جمع فيه خيلان سود كأنها الثآليل.
ورواه عن غندر، عن شعبة، عن عاصم، عن عبد الله بن السرجس، فذكر الحديث.
وشك شعبة في أنه هل هو في نغض الكتف اليمنى أو اليسرى.
وقد رواه مسلم من حديث حماد بن زيد وعلي بن مسهر وعبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن عاصم، عن عبد الله بن الرجس قال: أتيت رسول الله ﷺ وأكلت معه خبزا ولحما - أو قال: ثريدا -.
فقلت: يا رسول الله غفر الله لك.
قال: « ولك ».
فقلت: أستغفر لك يا رسول الله؟
قال: « نعم! ولكم » ثم تلا هذه الآية { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } . [1].
قال: ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا قرة بن خالد، ثنا معاوية بن قرة عن أبيه قال: أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله أرني خاتم الخاتم.
فقال: « أدخل يدك ».
فأدخلت يدي في جربانه، فجعلت ألمس أنظر إلى الخاتم الرجس، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي وإن يدي لفي جربانه.
ورواه النسائي عن أحمد بن سعيد، عن وهب بن جرير، عن قرة بن خالد به.
وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان عن إياد بن لقيط السدوسي، عن أبي رمثة التيمي قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله ﷺ فرأيت برأسه ردع حناء، ورأيت على كتفه مثل التفاحة.
فقال أبي: إني طبيب أفلا أطبها لك.
قال: « طبيبها الذي خلقها ».
قال: وقال لأبي: « هذا ابنك؟ »
قال: نعم!
قال: « أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ».
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن زياد، حدثني أبي عن أبي ربيعة أو رمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي ﷺ فنظر إلى مثل السلعة بين كتفيه فقال: يا رسول الله إني كأطب الرجال أفأعالجها لك.
قال: « لا طبيبها الذي خلقها ».
قال البيهقي، وقال الثوري عن إياد بن لقيط: في هذا الحديث فإذا خلف كتفيه مثل التفاحة.
وقال عاصم بن بهدلة عن أبي رمثة: فإذا في نغض كتفه مثل بعرة البعير أو بيضة الحمامة.
ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب عن سلامة العجلي، عن سلمان الفارسي قال: أتيت رسول الله فألقى إلي رداءه وقال: « يا سلمان انظر إلى ما أمرت به ».
قال: فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة.
وروى يعقوب بن سفيان عن الحميدي، عن يحيى بن سليم، عن أبي خيثم، عن سعيد ابن أبي راشد، عن التنوخي الذي بعثه هرقل إلى رسول الله ﷺ وهو بتبوك، فذكر الحديث كما قدمناه في غزوة تبوك إلى أن قال: فحل حبوته عن ظهره ثم قال: « ههنا امض لما أمرت به ».
قال: فجلت في ظهره الرجس أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف، مثل الحجمة الضخمة.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن ميسرة، ثنا عتاب سمعت أبا سعيد يقول: الخاتم الذي بين كتفي النبي ﷺ لحمة نابتة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح، ثنا أبو ليلى عبد الله بن ميسرة الخراساني عن غياث البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة فسألته عن خاتم رسول الله ﷺ الذي كان بين كتفيه.
فقال: بإصبعه السبابة هكذا لحم ناشز بين كتفيه ﷺ.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقد ذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية المصري في كتابه التنوير في مولد البشير النذير عن أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسين بن بشر - المعروف: بالحكيم الترمذي - أنه قال: كان الخاتم الذي بين كتفي رسول الله ﷺ كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: الله وحده، وفي ظاهرها: توجه حيث شئت فإنك منصور.
ثم قال: وهذا غريب واستنكره.
قال: وقيل: كان من نور ذكره الإمام أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ في كتابه تنقل الأنوار وحكى أقوالا غريبة غير ذلك.
ومن أحسن ما ذكره ابن دحية رحمه الله وغيره من العلماء قبله في الحكمة في كون الخاتم كان بين كتفي رسول الله ﷺ: إشارة إلى أنه لا نبي بعدك يأتي من ورائك.
قال: وقيل: كان على نغض كتفه لأنه يقال: هو الموضع الذي يدخل الشيطان منه إلى الإنسان، فكان هذا عصمة له عليه السلام من الشيطان.
قلت: وقد ذكرنا الأحاديث الدالة على أنه لا نبي بعده عليه السلام ولا رسول عند تفسير قوله تعالى: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما } [2].
باب أحاديث متفرقة وردت في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد تقدم في رواية نافع بن جبير عن علي ابن أبي طالب أنه قال: لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عبد الله بن مسلم القعنبي وسعيد بن منصور، ثنا عمر بن يونس، ثنا عمر بن عبد الله مولى عفرة، حدثني إبراهيم بن محمد - من ولد علي - قال: كان علي إذا نعت رسول الله ﷺ قال: لم يكن بالطويل الممغط، ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم، ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير أبيض مشربا، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد ذو مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا بين كتفيه خاتم النبوة، أجود الناس كفا، وأرحب الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وألزمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقد روى هذا الحديث الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الغريب، ثم روى عن الكسائي، والأصمعي، وأبي عمرو تفسير غريبه.
وحاصل ما ذكره مما فيه غرابة:
أن المطهم: هو الممتلئ الجسم.
والمكلثم: شديد تدوير الوجه - يعني: لم يكن بالسمين الناهض، ولم يكن ضعيفا - بل كان بين ذلك - ولم يكن وجهه في غاية التدوير بل فيه سهولة وهي أحل عند العرب ومن يعرف.
وكان أبيض مشربا حمرة: وهي أحسن اللون، ولهذا لم يكن أمهق اللون.
والأدعج هو شديد سواد الحدقة.
وجليل المشاش هو عظيم رءوس العظام مثل الركبتين، والمرفقين، والمنكبين، والكتد الكاهل وما يليه من الجسد.
وقوله: شثن الكفين، أي غليظهما.
وتقلع في مشيته أي شديد المشية.
وتقدم الكلام على الشكلة، والشهلة، والفرق بينهما.
والأهدب طويل أشفار العين.
وجاء في حديث أنه كان شبح الذراعين يعني غليظهما، والله تعالى أعلم.
حديث أم معبد في ذلك
قد تقدم الحديث بتمامه في الهجرة من مكة إلى المدينة حين ورد عليها رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر، ومولاه عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الديلي، فسألوها هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها؟
فلم يجدوا عندها شيئا، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى.
وكانوا ممحلين، فنظر إلى شاة في كسر خيمتها فقال: « ما هذه الشاة يا أم معبد؟ »
فقالت: خلفها الجهد.
فقال: « أتأذنين أن أحلبها؟ »
فقالت: إن كان بها حلب، فاحلبها، فدعا بالشاة فمسحها، وذكر اسم الله، فذكر الحديث في حلبه منها ما كفاهم أجمعين، ثم حلبها وترك عندها إناءها ملأى، وكان يربض الرهط، فلما جاء بعلها استنكر اللبن.
وقال: من أين لك هذا يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت، والشاء عازب؟
فقالت: لا والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.
فقال: صفيه لي، فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزربه صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزج، أقرن، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
فقال بعلها: هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجازى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكموا إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد
وقد قدمنا جواب حسان بن ثابت لهذا الشعر المبارك بمثله في الحسن.
والمقصود: أن الحافظ البيهقي روى هذا الحديث من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي قال: ثنا الحسن بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي - فذكر الحديث بطوله كما قدمناه بألفاظه -.
وقد رواه الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي، والحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة قال عبد الملك: فبلغني أن أبا معبد أسلم بعد ذلك، وأن أم معبد هاجرت وأسلمت، ثم إن الحافظ البيهقي أتبع هذا الحديث بذكر غريبه، وقد ذكرناه في الحواشي فيما سبق ونحن نذكر ههنا نكتا من ذلك.
فقولها: ظاهر الوضاءة: أي ظاهر الجمال.
أبلج الوجه: أي مشرق الوجه مضيئه.
لم تعبه ثجلة: قال أبو عبيد: هو كبر البطن، وقال غيره: كبر الرأس، ورد أبو عبيدة رواية من روى: لم تعبه نحلة - يعني: من النحول - وهو الضعف.
قلت: وهذا هو الذي فسر به البيهقي الحديث.
والصحيح: قول أبي عبيدة، ولو قيل: إنه كبر الرأس لكان قويا.
وذلك لقولها بعده: لو تزر به صعلة، وهو صغر الرأس بلا خلاف، ومنه يقال لولد النعامة: صعل لصغر رأسه، ويقال له: الظليم.
وأما البيهقي فرواه: لم تعبه نحلة - يعني: من الضعف - كما فسره.
ولم تزر به صعلة: وهو الحاصرة يريد أنه ضرب من الرجال، ليس بمشفح ولا ناحل.
قال: ويروى: لم تعبه ثجلة، وهو كبر البطن.
ولم تزر به صعلة: وهو صغر الرأس.
وأما الوسيم: فهو حسن الخلق، وكذلك القسيم أيضا.
والدعج: شدة سواد الحدقة.
والوطف: طول أشفار العينين.
ورواه القتيبي في أشفاره عطف، وتبعه البيهقي في ذلك.
قال ابن قتيبة: ولا أعرف ما هذا لأنه وقع في روايته غلط فحار في تفسيره، والصواب ما ذكرناه والله أعلم.
وفي صوته صحل: وهو بحة يسيرة، وهي أحلى في الصوت من أن يكون حادا.
قال أبو عبيد: وبالصحل يوصف الظباء، قال: ومن روى: في صوته صهل، فقد غلط فإن ذلك لا يكون إلا في الخيل، ولا يكون في الإنسان.
قلت: وهو الذي أورده البيهقي.
قال: ويروى: صحل.
والصواب قول أبي عبيد، والله أعلم.
وأما قولها: أحور فمستغرب في صفة النبي ﷺ وهو قبل في العين يزينها لا يشينها كالحول.
وقولها: أكحل قد تقدم له شاهد.
وقولها: أزج قال أبو عبيد: هو المتقوس الحاجبين.
قال: وأما قولها: أقرن: فهو التقاء الحاجبين بين العينين.
قال: ولا يعرف هذا في صفة النبي ﷺ إلا في هذا الحديث قال: والمعروف في صفته عليه السلام أنه أبلج الحاجبين.
في عنقه سطع: قال أبو عبيد: أي طول، وقال غيره: نور.
قلت: والجمع ممكن، بل متعين.
وقولها: إذا صمت فعليه الوقار: أي الهيبة عليه في حال صمته وسكوته.
وإذا تكلم سما: أي علا على الناس.
وعلاه البهاء: أي في حال كلامه.
حلو المنطق فصل: أي فصيح بليغ، يفصل الكلام ويبينه.
لا نزر ولا هذر: أي لا قليل ولا كثير.
كأن منطقه خرزات نظم: يعني: الذي من حسنه، وبلاغته، وفصاحته، وبيانه، وحلاوة لسانه.
أبهى الناس وأجمله من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب: أي هو مليح من بعيد ومن قريب.
وذكرت أنه لا طويل ولا قصير، بل هو أحسن من هذا ومن هذا.
وذكرت أن أصحابه يعظمونه ويخدمونه، ويبادرون إلى طاعته، وما ذلك إلا لجلالته عندهم، وعظمته في نفوسهم، ومحبتهم له.
وأنه ليس بعابس: أي ليس يعبس.
ولا يفند أحدا: أي يهجنه ويستقل عقله، بل جميل المعاشرة، حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه، وهو حبيب إليه - صلى الله عليه -.
حديث هند ابن أبي هالة في ذلك
وهند هذا هو ربيب رسول الله ﷺ أمه خديجة بنت خويلد، وأبوه أبو هالة، كما قدمنا بيانه.
قال يعقوب بن سفيان الفسوي الحافظ رحمه الله: حدثنا سعيد بن حماد الأنصاري المصري، وأبو غسان مالك بن إسماعيل الهندي قالا: ثنا جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي قال: حدثني رجل بمكة عن ابن لأبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي قال: سألت خالي هند ابن أبي هالة - وكان وصافا - عن حلية رسول الله ﷺ وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به -.
فقال: كان رسول الله ﷺ فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إذا تفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، ذا وفرة، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، أدعج سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب مفلج الأسنان، دقيق المسربة كأنه عنقه جيد دمية في صفاء - يعني: الفضة -، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط الغضب، شثن الكفين والقدمين، سابل الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا زال زال قلعا يخطو تكفيا ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره السماء، جل نظره الملاحظة يسوق أصحابه يبدأ من لقيه بالسلام.
قلت: صف لي منطقه.
قال: كان رسول الله ﷺ متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا ولا يمدحه، ولا يقوم لغضبه إذا تعرض للحق شيء حتى ينتصر له.
وفي رواية: لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعرض للحق لم يعرفه أحد، ولم يقيم لغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث يصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
قال الحسن: فكتمتها الحسين بن علي زمانا ثم حدثته، فوجدته قد سبقني إليه فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله، ومخرجه، ومجلسه، وشكله فلم يدع منه شيئا.
قال الحسن: سألت أبي عن دخول رسول الله ﷺ فقال: كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك، وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزأه بين الناس فرد ذلك على العامة والخاصة لا يدخر عنهم شيئا، وكان من سيرته في جزء الأمة: إيثار أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي ويقول: « ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من بلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه، ثبت الله قدميه يوم القيامة ».
لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون عليه زوارا، ولا يفترقون إلا عن ذواق.
وفي رواية: ولا يتفرقون إلا عن ذوق، ويخرجون أدلة - يعني: فقهاء -.
قال: وسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟
فقال: كان رسول الله - ﷺ - يخزن لسانه إلا بما يعينهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خاتمه، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
قال: فسألته عن مجلسه، كيف كان؟
فقال: كان رسول الله - ﷺ - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم منه عليه منه، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حكم، وحياء، وصبر، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنشى فلتاته متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.
قال: فسألته عن سيرته في جلسائه.
فقال: كان رسول الله ﷺ دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح، يتغافل عما لا يشتهى، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إذا كان أصحابه ليستجلبونهم في المنطق ويقول: « إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه » ولا، يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.
قال: فسألته كيف كان سكوته.
قال: كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر، فأما تقديره: ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تذكره - أو قال: تفكره -: ففيما يبقى ويفنى، وجمع له لله الحلم، والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى، والقيام لهم فيما جمع لهم الدنيا والآخرة ﷺ.
وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله في كتاب شمائل رسول الله ﷺ عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، حدثني رجل من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا عبد الله سماه غيره يزيد بن عمر، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي قال: سألت خالي فذكره، وفيه حديثه عن أخيه الحسين، عن أبيه علي ابن أبي طالب.
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل عن أبي عبد الله الحاكم النيسابوري لفظا وقراءة عليه، أنا أبو محمد الحسن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب القعنبي، صاحب كتاب النسب ببغداد: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب أبو محمد بالمدينة سنة ست وستين ومائتين، حدثني علي بن جعفر بن محمد، عن أخيه موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن علي بن الحسين قال: قال الحسن: سألت خالي هند ابن أبي هالة فذكره.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي -رحمه الله - في كتابه الأطراف بعد ذكره ما تقدم من هاتين الطريقين: وروى إسماعيل بن مسلم بن قعنب القعنبي عن إسحاق بن صالح المخزومي، عن يعقوب التيمي، عن عبد الله بن عباس أنه قال لهند ابن أبي هالة - وكان وصافا لرسول الله -: صف لنا رسول الله ﷺ، فذكر بعض هذا الحديث.
وقد روى الحافظ البيهقي من طريق صبيح بن عبد الله الفرغاني - وهو ضعيف - عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة حديثا مطولا في صفة النبي ﷺ قريبا من حديث هند بن أبي هالة.
وسرده البيهقي بتمامه، وفي أثنائه تفسير ما فيه من الغريب، وفيما ذكرناه غنية عنه، والله تعالى أعلم.
وروى البخاري عن أبي عاصم الضحاك، عن عمر بن سعيد بن أحمد بن حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث قال: صلى أبو بكر العصر بعد موت النبي ﷺ بليال، فخرج هو وعلي يمشيان فإذا الحسن بن علي يلعب مع الغلمان قال: فاحتمله أبو بكر على كاهله وجعل يقول: بأبي شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي، وعلي يضحك منهما رضي الله عنهما.
وقال البخاري: ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا إسماعيل عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله ﷺ وكان الحسن بن علي يشبهه.
وروى البيهقي عن أبي علي الروذباري، عن عبد الله بن جعفر بن شوذب الواسطي، عن شعيب بن أيوب الصريفيني، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانىء، عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه برسول الله ﷺ ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله ﷺ ما كان أسفل من ذلك.
باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم
قد قدمنا طيب أصله ومحتده، وطهارة نسبه ومولده، وقد قال الله تعالى: { الله أعلم حيث يجعل رسالته } . [3].
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « بعثت من خير قرون بني آدم قرنا بعد قرن، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه ».
وفي صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله ﷺ: « إن الله اصطفى قريشا من بني إسماعيل، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم ».
وقال الله تعالى: « ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم ». [4].
قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم }: يعني: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام.
وهكذا قال مجاهد، وابن مالك، والسدي، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال عطية: لعلى أدب عظيم.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث قتادة عن زرارة ابن أبي أوفى، عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله ﷺ.
فقالت: أما تقرأ القرآن؟
قلت: بلى!
فقالت: كان خلقه القرآن.
وقد روى الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري قال: وسئلت عائشة عن خلق رسول الله ﷺ.
فقالت: كان خلقه القرآن.
وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن ابن مهدي، والنسائي من حديثه، وابن جرير من حديث ابن وهب، كلاهما عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فسألتها عن خلق رسول الله ﷺ.
فقالت: كان خلقه القرآن.
ومعنى هذا: أنه عليه السلام مهما أمره به القرآن العظيم امتثله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الأخلاق الجبلية الأصلية العظيمة التي لم يكن أحد من البشر ولا يكون على أجمل منها، وشرع له الدين العظيم الذي لم يشرعه لأحد قبله، وهو مع ذلك خاتم النبيين فلا رسول بعده ولا نبي ﷺ فكان فيه من الحياء، والكرم، والشجاعة، والحلم، والصفح، والرحمة، وسائر الأخلاق الكاملة ما لا يحد، ولا يمكن وصفه.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا سليمان، ثنا عبد الرحمن، ثنا الحسن بن يحيى، ثنا زيد بن واقد عن بشر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله ﷺ.
فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، أنا قيس بن أنيف، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران، عن زيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: يا أم المؤمنين، كيف كان خلق رسول الله - ﷺ -؟
قالت: كان خلق رسول الله - ﷺ - القرآن.
ثم قالت: أتقرأ سورة المؤمنون؟ إقرأ قد « أفلح المؤمنون » إلى العشر.
قالت: هكذا كان خلق رسول الله - ﷺ -.
وهكذا رواه النسائي عن قتيبة.
وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } . [5].
قال: أمر رسول الله ﷺ أن يأخذ العفو من أخلاق الناس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور، ثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق » تفرد به أحمد.
ورواه الحافظ أبو بكر الخرائطي في كتابه فقال: « وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ».
وتقدم ما رواه البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجها، وأحسن الناس خلقا.
وقال مالك عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما مالم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها.
ورواه البخاري ومسلم من حديث مالك.
وروى مسلم عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده شيئا قط لا عبدا، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله - عز وجل -.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادما له قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه، حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله - عز وجل -.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: سمعت عائشة وسألتها عن خلق رسول الله ﷺ.
فقالت: لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح - أو قال: يعفو ويغفر - شك أبو داود.
ورواه الترمذي من حديث شعبة وقال: حسن صحيح.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا آدم وعاصم بن علي قالا: ثنا ابن أبي ذئب، ثنا صالح مولى التوأمة قال: كان أبو هريرة ينعت رسول الله قال: كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا، بأبي وأمي لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق.
زاد آدم: ولم أر مثله قبله، ولم أر مثله بعده.
وقال البخاري: ثنا عبدان عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو قال: لم يكن النبي ﷺ فاحشا، ولا متفحشا وكان يقول: « إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ».
ورواه مسلم من حديث الأعمش به.
وقد روى البخاري من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمر أنه قال: إن رسول الله موصوف في التوراة بما هو موصوف في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، ومبشرا، ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
وقد روي عن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار.
وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا يحيى عن شعبة، عن قتادة، عن عبد الله ابن أبي عتبة، عن أبي سعيد قال: كان النبي ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها.
حدثنا ابن بشار قال: ثنا يحيى، وعبد الرحمن قالا: ثنا شعبة مثله: وإذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
هلي عن محمد بن عبيد عن.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو عامر، ثنا فليح عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك قال: لم يكن رسول الله - ﷺ- سبابا، ولا لعانا ولا فاحشا، كان يقول لأحدنا عند المعاتبة: « ماله تربت جبينه ».
ورواه البخاري عن محمد بن سنان، عن فليح.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله راجعا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: « لم تراعوا، لم تراعوا ».
قال: وجدناه بحرا، أو إنه لبحر.
قال: وكان فرسا يبطأ.
ثم قال مسلم: ثنا بكر ابن أبي شيبة، ثنا وكيع عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كان فزع بالمدينة، فاستعار رسول الله ﷺ فرسا لأبي طلحة يقال له: مندوب، فركبه.
فقال: « ما رأينا من فزع، وإن وجدناه لبحرا ».
قال: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله ﷺ.
وقال أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب، عن علي ابن أبي طالب قال: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله ﷺ، وكان أشد الناس بأسا.
رواه أحمد والبيهقي، وتقدم في غزوة هوازن أنه عليه السلام لما فر جمهور أصحابه يومئذ ثبت وهو راكب بغلته، وهو ينوه باسمه الشريف يقول: « أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب » وهو مع ذلك يركضها إلى نحور الأعداء، وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة العظيمة، والتوكل التام - صلوات الله عليه -.
وفي صحيح مسلم من حديث إسماعيل بن علية عن عبد العزيز، عن أنس قال: لما قدم رسول الله المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بنا إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك.
قال: فخدمته في السفر والحضر، والله ما قال لي لشيء صنعته: « لم صنعت هذا هكذا » ولا لشيء لم أصنعه: « لم لم تصنع هذا هكذا ».
وله من حديث سعيد ابن أبي بردة عن أنس قال: خدمت رسول الله تسع سنين فما أعلمه قال لي قط: « لم فعلت كذا وكذا » ولا عاب علي شيئا قط.
وله من حديث عكرمة بن عمار عن إسحاق قال أنس: كان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خلقا فأرسلني يوما لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله ﷺ فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله ﷺ قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال: « يا أنيس ذهبت حيث أمرتك؟ »
فقلت: نعم! أنا أذهب يا رسول الله.
قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: « لم صنعت كذا وكذا »، أو لشيء تركته « هلا فعلت كذا وكذا ».
وقال الإمام أحمد: ثنا كثير، ثنا هشام، ثنا جعفر، ثنا عمران القصير عن أنس بن مالك قال: خدمت النبي ﷺ عشر سنين، فما أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيعته فلامني، وإن لامني أحد من أهله إلا قال: « دعوه فلو قدر - أو قال: قضي - أن يكون كان ».
ثم رواه أحمد عن علي بن ثابت، عن جعفر هو ابن برقان، عن عمران البصري - وهو القصير - عن أنس فذكره، تفرد به الإمام أحمد.
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أبو التياح، ثنا أنس قال: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير قال: أحسبه قال: فطيما، قال: فكان إذا جاء رسول الله ﷺ فرآه قال: « أبا عمير ما فعل النغير؟ ».
قال: نغر كان يلعب به.
قال: فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يقوم رسول الله ﷺ ونقوم خلفه يصلي بنا.
قال: وكان بساطهم من جريد النخل.
وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس بنحوه.
وثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، ثنا حماد بن زيد، ثنا سلم العلوي سمعت أنس بن مالك أن النبي ﷺ رأى على رجل صفرة فكرهها قال: فلما قام قال: « لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة ».
قال: وكان لا يكاد يواجه أحدا بشيء يكرهه.
وقد رواه أبو داود والترمذي في الشمائل، والنسائي في اليوم والليلة من حديث حماد بن زيد عن سلم بن قيس العلوي البصري.
قال أبو داود: وليس من ولد علي ابن أبي طالب، وكان يبصر في النجوم، وقد شهد عند عدي بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته.
وقال أبو داود: ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا الأعمش عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي ﷺ إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: « ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا ».
وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: « لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ».
وقال مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع النبي ﷺ وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - ﷺ - فإذا قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته.
ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك.
قال: فالتفت إليه رسول الله ﷺ فضحك ثم أمر له بعطاء.
أخرجاه من حديث مالك.
وقال الإمام أحمد: ثنا زيد بن الحباب، أخبرني محمد بن هلال القرشي عن أبيه أنه سمع أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله ﷺ في المسجد فلما قام قمنا معه، فجاء أعرابي فقال: أعطني يا محمد.
فقال: « لا! وأستغفر الله ».
فجذبه بحجزته فخدشه.
قال: فهموا به.
فقال: « دعوه ».
قال: ثم أعطاه قال: فكانت يمينه: « لا! وأستغفر الله ».
وقد روى أصل هذا الحديث أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق عن محمد بن هلال ابن أبي هلال مولى بني كعب، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن ثمامة بن عتبة، عن زيد بن أرقم قال: كان رجل من الأنصار يدخل على رسول الله ﷺ ويأتمنه، وأنه عقد له عقدا وألقاه في بئر، فصرع ذلك رسول الله ﷺ فأتاه ملكان يعودانه، فأخبراه أن فلانا عقد له عقدا وهي في بئر فلان ولقد اصفر الماء من شدة عقده، فأرسل النبي ﷺ فاستخرج العقد فوجد الماء قد اصفر فحل العقد، ونام النبي ﷺ فلقد رأيت الرجل بعد ذلك يدخل على النبي ﷺ، فما رأيته في وجه النبي ﷺ حتى مات.
قلت: والمشهور في الصحيح: أن لبيد بن الأعصم اليهودي هو الذي سحر النبي ﷺ في مشط، ومثاقة في جف طلعة ذكر تحت بئر ذروان، وأن الحال استمر نحو ستة أشهر حتى أنزل الله سورتي المعوذتين، ويقال: إن آياتهما إحدى عشرة آية، وأن عقد ذلك الذي سحر فيه كان إحدى عشرة عقدة، وقد بسطنا ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية، والله أعلم.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا عمران بن زيد أبو يحيى الملائي، ثنا زيد العمي عن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله ﷺ إذا صافح أو صافحه الرجل لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، وإن استقبله بوجه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه، ولا يرى مقدما ركبتيه بين يدي جليس له.
ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زيد الثعلبي أبي يحيى الطويل الكوفي عن زيد بن الحواري العمي، عن أنس به.
وقال أبو داود: ثنا أحمد بن منيع، ثنا أبو قطن، ثنا مبارك بن فضالة عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: ما رأيت رجلا قط التقم أذن النبي ﷺ فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت رسول الله آخذا بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده.
تفرد به أبو داود.
وقال الإمام أحمد: وحدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: ثنا شعبة قال ابن جعفر في حديثه: قال: سمعت علي بن يزيد قال: قال أنس بن مالك: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله ﷺ فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.
ورواه ابن ماجه من حديث شعبة.
وقد رواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه معلقا فقال: وقال محمد بن عيسى - هو ابن الطباع -: ثنا هشيم فذكره.
وقال الطبراني: ثنا أبو شعيب الحراني، ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، ثنا أيوب بن نهيك سمعت عطاء ابن أبي رباح، سمعت ابن عمر، سمعت رسول الله ﷺ رأى صاحب بز فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، فخرج وهو عليه، فإذا رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إكسني قميصا، كساك الله من ثياب الجنة، فنزع القميصص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصا بأربعة دراهم، وبقي معه درهمان، فإذا هو بجارية في الطريق تبكي.
فقال: « ما يبكيك؟ »
فقالت: يا رسول الله دفع إلي أهلي درهمين اشتري بهما دقيقا فهلكا، فدفع إليها رسول الله الدرهمين الباقيين، ثم انقلب وهي تبكي فدعاها.
فقال: « ما يبكيك وقد أخذت الدرهمين؟ »
فقالت: أخاف أن يضربوني، فمشى معها إلى أهلها فسلم فعرفوا صوته، ثم عاد فسلم، ثم عاد فسلم ثم عاد فثلث فردوا فقال: « أسمعتم أول السلام؟ »
قالوا: نعم! ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام، فما أشخصك بأبينا وأمنا.
فقال: « أشفقت هذه الجارية أن تضربوها ».
فقال صاحبها: هي حرة لوجه الله لممشاك معها، فبشرهم رسول الله بالخير والجنة.
ثم قال: « لقد بارك في العشرة، كسا الله نبيه قميصا، ورجلا من الأنصار قميصا، وأعتق الله منها رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته ».
هكذا رواه الطبراني، وفي إسناده: أيوب بن نهيك الحلبي، وقد ضعفه أبو حاتم.
وقال أبو زرعة: منكر الحديث.
وقال الأزدي: متروك.
وثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: ما عاب رسول الله ﷺ طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه.
وقال الثوري عن الأسود بن قيس، عن شيخ العوفي، عن جابر قال: أتانا رسول الله في منزلنا فذبحنا له شاة.
فقال: « كأنهم علموا أنا نحب اللحم، الحديث ».
وقال محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، عن عمر بن عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ إذا جلس يتحدث كثيرا ما يرفع طرفه إلى السماء.
وهكذا رواه أبو داود: في كتاب الأدب من سننه من حديث محمد بن إسحاق به.
وقال أبو داود: حدثنا سلمة بن شعيب، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن محمد الأنصاري عن ربيح بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ كان إذا جلس احتبى بيده.
ورواه البزار في مسنده ولفظه: كان إذا جلس نصب ركبتيه، واحتبى بيديه.
ثم قال أبو داود: ثنا حفص بن عمر، وموسى بن إسماعيل قالا: ثنا عبد الرحمن بن حسان العنبري، حدثني جدتاي صفية ودحيبة ابنتا عليبة قال: موسى ابنة حرملة، وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة، وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما أنها رأت رسول الله ﷺ وهو قاعد القرفصاء، قالت: فلما رأيت رسول الله المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق.
ورواه الترمذي في الشمائل وفي الجامع عن عبد بن حميد، عن عفان بن مسلم بن عبد الله بن حسان به، وهو قطعة من حديث طويل قد ساقه الطبراني بتمامه في معجمه الكبير.
وقال البخاري: ثنا الحسن بن الصباح البزار، ثنا سفيان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه.
قال البخاري: وقال الليث: حدثني يونس عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت: ألا أعجبك أبو فلان، جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله ﷺ يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله ﷺ لم يكن يسرد الحديث كسردكم.
وقد رواه أحمد عن علي بن إسحاق، ومسلم عن حرملة، وأبو داود عن سليمان بن داود، كلهم عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد به، وفي روايتهم: ألا أعجبك من أبي هريرة فذكرت نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان، عن أسامة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان كلام النبي ﷺ فصلا يفهمه كل أحد لم يكن يسرد سردا.
وقد رواه أبو داود عن ابن أبي شيبة، عن وكيع.
وقال أبو يعلى: ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، ثنا عبد الله بن مسعر، حدثني شيخ أنه سمع جابر بن عبد الله - أو ابن عمر - يقول: كان في كلام النبي ﷺ ترتيل، أو ترسيل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس أن رسول الله ﷺ كان إذا تكلم بكلمة رددها ثلاثا، وإذا أتى قوما يسلم عليهم سلم ثلاثا.
ورواه البخاري من حديث عبد الصمد.
وقال أحمد: ثنا أبو سعيد ابن أبي مريم، ثنا عبد الله بن المثنى سمعت ثمامة بن أنس يذكر أن أنسا كان إذا تكلم تكلم ثلاثا، ويذكر أن النبي ﷺ كان إذا تكلم تكلم ثلاثا، وكان يستأذن ثلاثا.
وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي: عن عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس أن رسول الله ﷺ كان إذا تكلم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه.
ثم قال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وفي الصحيح أنه قال: « أوتيت جوامع الكلم، وأختصر الحكم اختصارا ».
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ».
وهكذا رواه البخاري من حديث الليث.
وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، ثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ».
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي ».
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم.
وثبت في الصحيحين من حديث ابن وهب عن عمرو بن الحرث، حدثني أبو النضر عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم.
وقال الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - ﷺ -
ثم رواه من حديث الليث عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحرث بن جزء قال: ما كان ضحك رسول الله ﷺ إلا تبسما، ثم قال: صحيح.
وقال مسلم: ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة عن سماك بن حرب قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله - ﷺ -؟
قال: نعم كثيرا كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون، ويتبسم رسول الله ﷺ.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شريك وقيس بن سعد عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي - ﷺ -؟
قال: نعم، كان قليل الصمت، قليل الضحك، فكان أصحابه ربما يتناشدون الشعر عنده، وربما قال الشيء من أمورهم فيضحكون، وربما يتبسم.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد ابن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق، أنا أبو عبد الرحمن المقري، ثنا الليث بن سعد عن الوليد ابن أبي الوليد أن سليمان بن خارجة أخبره عن خارجة بن زيد - يعني: ابن ثابت - أن نفرا دخلوا على أبيه فقالوا: حدثنا عن بعض أخلاق رسول الله ﷺ.
فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل الوحي بعث إلي فآتيه فأكتب الوحي، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا نحدثكم عنه.
ورواه الترمذي في الشمائل عن عباس الدوري، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد المقري به نحوه.
كرمه عليه السلام
تقدم ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة.
وهذا التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة في تشبيهه الكرم بالريح المرسلة، في عمومها وتواترها وعدم انقطاعها.
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن سعيد الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: ما سئل رسول الله ﷺ شيئا قط فقال: « لا ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد، عن موسى بن أنيس، عن أنس أن رسول الله ﷺ لم يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه قال: فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة.
قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فان محمدا يعطي عطاء ما يخشى الفاقة.
ورواه مسلم عن عاصم بن النضر، عن خالد بن الحارث، عن حميد.
وقال أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد، ثنا ثابت عن أنس أن رجلا سأل النبي ﷺ فأعطاه غنما بين جبلين، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمد يعطي عطاء ما يخلف الفاقة.
فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وهذا العطاء ليؤلف به قلوب ضعيفي القلوب في الإسلام، ويتألف آخرين ليدخلوا في الإسلام كما فعل يوم حنين حين قسم تلك الأموال الجزيلة من الإبل، والشاء، والذهب، والفضة في المؤلفة، ومع هذا لم يعط الأنصار وجمهور المهاجرين شيئا، بل أنفق فيمن كان يحب أن يتألفه على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، وقال مسليا لمن سأل عن وجه الحكمة في هذه القسمة، لمن عتب من جماعة الأنصار: « أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء، والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم؟ »
قالوا: رضينا يا رسول الله.
وهكذا أعطى عمه العباس بعد ما أسلم حين جاءه ذلك المال من البحرين فوضع بين يديه في المسجد وجاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني فقد فاديت نفسي يوم بدر، وفاديت عقيلا.
فقال: « خذ » فنزع ثوبه عنه، وجعل يضع فيه من ذلك المال ثم قام ليقله فلم يقدر.
فقال لرسول الله: ارفعه علي.
قال: « لا أفعل ».
فقال: مر بعضهم ليرفعه علي.
فقال: « لا ».
فوضع منه شيئا، ثم عاد فلم يقدر، فسأله أن يرفعه، أو أن يأمر بعضهم برفعه، فلم يفعل، فوضع منه، ثم احتمل الباقي وخرج به من المسجد ورسول الله ﷺ يتبعه بصره عجبا من حرصه.
قلت: وقد كان العباس رضي الله عنه رجلا شديدا، طويلا، نبيلا، فأقل ما احتمل شيء يقارب أربعين ألفا، والله أعلم.
وقد ذكره البخاري في صحيحه في مواضع معلقا بصيغة الجزم، وهذا يورد في مناقب العباس لقوله تعالى: { ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } . [6].
وقد تقدم عن أنس بن مالك خادمه عليه السلام أنه قال: كان رسول الله ﷺ أجود الناس وأشجع الناس، الحديث.
وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله ﷺ المجبول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله - عز وجل - الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز: { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } [7] الآية وقال تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } . [8].
وهو عليه السلام القائل لمؤذنه بلال وهو الصادق المصدوق في الوعد والمقال: « أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ».
وهو القائل عليه السلام: « ما من يوم تصبح العباد فيه إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ».
وفي الحديث الآخر أنه قال لعائشة: « لا توعي فيوعى الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك ».
وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: « يقول الله تعالى: ابن آدم أنفق أنفق عليك ».
فكيف لا يكون أكرم الناس وأشجع الناس وهو المتوكل الذي لا أعظم منه في توكله، الواثق برزق الله ونصره المستعين بربه في جميع أمره، ثم قد كان قبل بعثته وبعدها، وقبل هجرته ملجأ الفقراء، والأرامل، والأيتام، والضعفاء، والمساكين، كما قال عمه أبو طالب فيما قدمناه من القصيدة المشهورة:
وما ترك قوم لا أبالك سيدا * يحوط الذمار غير ذرب موكل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
ومن تواضعه ما روى الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، زاد النسائي وحميد عن أنس أن رجلا قال لرسول الله ﷺ: يا سيدنا وابن سيدنا.
فقال رسول الله ﷺ: « يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله ».
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن شعبة، حدثني الحكم عن إبراهيم، عن الأسود قال: قلت لعائشة: ما كان رسول الله ﷺ يصنع في أهله؟
قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
وحدثنا وكيع ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود قال: قلت لعائشة: ما كان النبي ﷺ يصنع إذا دخل بيته؟
قالت: كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى.
ورواه البخاري عن آدم، عن شعبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدة، ثنا هشام بن عروة، عن رجل قال: سئلت عائشة: ما كان رسول الله ﷺ يصنع في بيته؟
قالت: كان يرقع الثوب، ويخصف النعل، ونحو هذا، وهذا منقطع من هذا الوجه.
وقد قال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، عن عروة، وهشام بن عروة، عن أبيه قال: سأل رجل عائشة: هل كان رسول الله ﷺ يعمل في بيته؟
قالت: نعم، كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه كما يعمل أحدكم في بيته، رواه البيهقي فاتصل الإسناد.
وقال البيهقي: أنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن البحتري إملاء، حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا ابن صالح، حدثني معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت: قلت لعائشة: ما كان يعمل رسول الله ﷺ في بيته؟
قالت: كان رسول الله - ﷺ - بشرا من البشر يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.
ورواه الترمذي في الشمائل عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة قالت: قيل لعائشة: ما كان يعمل رسول الله ﷺ في بيته، الحديث.
وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن حارثة بن محمد الأنصاري، عن عمرة قالت: قلت لعائشة: كيف كان رسول الله ﷺ في أهله؟
قالت: كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان ضحاكا بساما.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، حدثني مسلم أبو عبد الله الأعور، سمع أنسا يقول: كان رسول الله ﷺ يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويركب الحمار، ويلبس الصوف، ويجيب دعوة المملوك، ولو رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف.
وفي الترمذي، وابن ماجه من حديث مسلم بن كيسان الملائي، عن أنس بعض ذلك.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، ثنا أبو بكر محمد بن جعفر الآدمي القاري ببغداد، ثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدروري، ثنا أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه قال: سمعت يحيى بن عقيل يقول: سمعت عبد الله ابن أبي أوفى يقول: كان رسول الله ﷺ يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يستنكف أن يمشي مع العبد، ولا مع الأرملة حتى يفرغ لهم من حاجاتهم.
رواه النسائي عن محمد بن عبد العزيز، عن أبي زرعة، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن يحيى بن عقيل الخزاعي البصري، عن ابن أبي أوفى بنحوه.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالري، ثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان أبو معاوية عن أشعث ابن أبي الشعثاء، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: كان رسول الله ﷺ يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعتقل الشاة، ويأتي مراعاة الضيف، وهذا غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه، وإسناده جيد.
وروى محمد بن سعد عن إسماعيل ابن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب الربعي، عن سهل مولى عتبة أنه كان نصرانيا من أهل مريس، وأنه كان في حجر عمه وأنه قال: قرأت يوما في مصحف لعمي فإذا فيه ورقة بغير الخط، وإذا فيها نعت محمد ﷺ لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد.
قال: فلما جاء عمي ورآني قد قرأتها ضربني وقال: مالك وفتح هذه؟
فقلت: إن فيها نعت أحمد.
فقال: إنه لم يأت بعد.
وقال الإمام أحمد: ثنا إسماعيل، ثنا أيوب عن عمرو، عن سعيد، عن أنس قال: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ، وذكر الحديث.
ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية به.
وقال الترمذي في الشمائل: ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود عن شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عمها قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: « إرفع إزارك، فإنه أنقى وأبقى » فنظرت فإذا هو رسول الله.
فقلت: يا رسول الله، إنما هي بردة ملحاء.
قال: « أمالك في أسوة؟ » فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
ثم قال: ثنا سويد بن نصر، ثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن عبيدة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه قال: كان عثمان بن عفان متزرا إلى أنصاف ساقيه.
قال: هكذا كانت أزره صاحبي ﷺ.
وقال أيضا: ثنا يوسف بن عيسى، ثنا وكيع، ثنا الربيع بن صبيح، ثنا يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ يكثر القناع، كأن ثوبه ثوب زيات، وهذا فيه غرابة ونكارة، والله أعلم.
وروى البخاري عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن سيار بن الحكم، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله ﷺ مر على صبيان يلعبون، فسلم عليهم.
ورواه مسلم من وجه آخر عن شعبة.
مزاحه عليه السلام
وقال ابن لهيعة: حدثني عمارة بن غزية عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ من أفكه الناس مع صبي، وقد تقدم حديثه في ملاعبته أخاه أبا عمير وقوله: « أبا عمير ما فعل النغير » يذكره بموت نغر كان يلعب به ليخرجه بذلك كما جرت به عادة الناس من المداعبة مع الأطفال الصغار.
وقال الإمام أحمد: ثنا خلف بن الوليد، ثنا خالد بن عبد الله عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي ﷺ فاستحمله.
فقال رسول الله ﷺ: « إنا حاملوك على ولد ناقة ».
فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة؟
فقال رسول الله - ﷺ -: « وهل تلد الإبل إلا النوق؟ »
ورواه أبو داود عن وهب بن بقية، والترمذي عن قتيبه، كلاهما عن خالد بن عبد الله الواسطي الطحان به.
وقال الترمذي: صحيح غريب.
وقال أبو داود في هذا الباب: ثنا يحيى بن معين، ثنا حجاج بن محمد، ثنا يونس ابن أبي إسحاق عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حرب، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي ﷺ، فسمع صوت عائشة عاليا على رسول الله، فلما دخل تناولها ليلطمها.
وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله!.
فجعل النبي ﷺ يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا.
فقال رسول الله حين خرج أبو بكر: « كيف رأيتني أنقذتك من الرجل »
فمكث أبو بكر أياما، ثم استأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا.
فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما.
فقال رسول الله ﷺ: « قد فعلنا، قد فعلنا ».
وقال أبو داود: ثنا مؤمل بن الفضل، ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء، عن بشر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فسلمت فرد، وقال: « أدخل ».
فقلت: أكلي يا رسول الله؟
فقال: « كلك » فدخلت.
وحدثنا صفوان بن صالح، ثنا الوليد بن عثمان ابن أبي العاتكة إنما قال: أدخل كلي من صغر القبة.
ثم قال أبو داود: ثنا إبراهيم بن مهدي، ثنا شريك عن عاصم، عن أنس قال: قال لي رسول الله ﷺ: « ياذا الأذنين ».
قلت: ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن ثابت، عن أنس أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، يهدي النبي ﷺ الهدية من البادية، فيجهزه النبي ﷺ إذا أراد أن يخرج.
فقال رسول الله: « إن زاهرا باديتنا، ونحن حاضروه ».
وكان رسول الله -ﷺ - يحبه، وكان رجلا دميما، فأتاه رسول الله ﷺ وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره.
فقال: أرسلني من هذا؟.
فالتفت فعرف النبي ﷺ، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي ﷺ حين عرفه، وجعل رسول الله ﷺ يقول: « من يشتري العبد ».
فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسدا.
فقال رسول الله ﷺ: « لكن عند الله لست بكاسد ».
أو قال: « لكن عند الله أنت غال ».
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات على شرط الصحيحين، ولم يروه إلا الترمذي في الشمائل عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق.
ومن هذا ما قال الإمام أحمد: ثنا حجاج، حدثني شعبة عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ كان في مسير، وكان حاد يحدو بنسائه أو سائق قال: فكان نساؤه يتقدمن بين يديه.
فقال: « يا أنجشة ويحك إرفق بالقوارير ».
وهذا الحديث في الصحيحين عن أنس قال: وكان للنبي ﷺ حاد يحدو بنسائه يقال له: أنجشة، فحدا فأعنقت الإبل.
فقال رسول الله ﷺ: « ويحك يا أنجشة، إرفق بالقوارير ».
ومعنى القوارير: النساء، وهي كلمة دعابة - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين.
ومن مكارم أخلاقه ودعابته، وحسن خلقه، استماعه عليه السلام حديث أم زرع من عائشة بطوله، ووقع في بعض الروايات أنه عليه السلام هو الذي قصه على عائشة.
ومن هذا ما رواه الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا أبو عقيل - يعني: عبد الله بن عقيل الثقفي - به.
حدثنا مجالد بن سعيد عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: حدث رسول الله ﷺ نساءه ذات ليلة حديثا.
فقالت امرأة منهن: « يا رسول الله كان الحديث حديث خرافة ».
فقال رسول الله ﷺ: « أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلا من عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهرا طويلا، ثم ردوه إلى الأنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة ».
وقد رواه الترمذي في الشمائل عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.
قلت: وهو من غرائب الأحاديث وفيه نكارة، ومجالد بن سعيد يتكلمون فيه، فالله أعلم.
وقال الترمذي في باب خراج النبي ﷺ من كتابه الشمائل ثنا عبد بن حميد، ثنا مصعب بن المقدام، ثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أتت عجوز النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله أدع لي أن يدخلني الله الجنة.
قال: « يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز ».
فولت العجوز تبكي.
فقال: « أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز فإن الله تعالى يقول: { إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا } [9].
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقال الترمذي: ثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا؟
قال: « إني لا أقول إلا حقا ».
تداعبنا - يعني تمازحنا -.
وهكذا رواه الترمذي في جامعه في باب البر بهذا الإسناد، ثم قال: وهذا حديث مرسل حسن.
باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدار
قال الله تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } [10].
وقال تعالى: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [11].
وقال تعالى: { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم } . [12].
وقال: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين } [13].
والآيات في هذا كثيرة.
وأما الأحاديث: فقال يعقوب بن سفيان: حدثني أبو العباس حيوة بن شريح، أنا بقية عن الزبيدي، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن عباس قال: كان ابن عباس يحدث: أن الله أرسل إلى نبيه ملكا من الملائكة معه جبريل.
فقال الملك لرسوله: إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا، فالتفت رسول الله إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله أن تواضع.
فقال رسول الله ﷺ: « بل أكون عبدا نبيا ».
قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي الله - عز وجل.
وهكذا رواه البخاري فيالتاريخ: عن حيوة بن شريح.
وأخرجه النسائي عن عمرو بن عثمان، كلاهما عن بقية بن الوليد به.
وأصل هذا الحديث في الصحيح بنحو من هذا اللفظ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة، عن أبي زرعة - ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة - قال: جلس جبريل إلى رسول الله ﷺ فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل.
فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة.
فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك أفملكا نبيا يجعلك، أو عبدا رسولا؟.
هكذا وجدته بالنسخة التي عندي بالمسند مقتصرا، وهو من أفراده من هذا الوجه.
وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب في حديث إيلاء رسول الله ﷺ من أزواجه، أن لا يدخل عليهن شهرا، واعتزل عنهن في علية، فلما دخل عليه عمر في تلك العلية فإذا ليس فيها سوى صبرة من قرظ، وأهبة معلقة، وصبرة من شعير، وإذا هو مضطجع على رمال حصير، قد أثر في جنبه، فهملت عينا عمر فقال: « مالك؟ ».
فقلت: يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه.
فجلس محمرا وجهه فقال: « أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ »
ثم قال: « أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ».
وفي رواية لمسلم: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ».
فقلت: بلى يا رسول الله.
قال: « فأحمد الله عز وجل ».
ثم لما انقضى الشهر أمره الله - عز وجل - أن يخير أزواجه، وأنزل عليه قوله: { ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } . [14].
وقد ذكرنا هذا مبسوطا في كتابنا التفسير وأنه بدأ بعائشة فقال لها: « إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك » وتلا عليها هذه الآية.
قالت: فقلت: أفي هذا أستأمر أبواي؟ فإني أختار الله ورسوله، والدار الآخرة، وكذلك قال سائر أزواجه - عليه السلام -، ورضي عنهن.
وقال مبارك بن فضالة عن الحسن، عن أنس قال: دخلت على رسول الله وهو على سرير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من الصحابة فانحرف رسول الله إنحرافة فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى.
فقال له: « ما يبكيك يا عمر؟ »
قال: ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى؟
فقال: « يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ »
قال: بلى.
قال: « هو كذلك ».
هكذا رواه البيهقي.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا مبارك عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله وهو على سرير مضطجع مزمل بشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه، ودخل عمر فانحرف رسول الله إنحرافة، فلم ير عمر بين جنبه وبين الشريط ثوبا وقد أثر الشريط بجنب رسول الله، فبكى عمر.
فقال له رسول الله ﷺ: « ما يبكيك يا عمر؟ »
قال: والله ما أبكي ألا أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر، وهما يعيشان في الدنيا فيما يعيشان فيه؟ وأنت يا رسول الله في المكان الذي أرى.
فقال رسول الله: « أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟ »
قال: بلى.
قال: فإنه كذلك.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا المسعودي عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن علقمة بن مسعود قال: اضطجع رسول الله على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه وأقول: بأبي أنت وأمي، ألا آذنتنا فنبسط لك شيئا يقيك منه تنام عليه.
فقال: « مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا، إنما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها ».
ورواه ابن ماجه عن يحيى بن حكيم، عن أبي داود الطيالسي به.
وأخرجه الترمذي عن موسى بن عبد الرحمن الكندي، عن زيد بن الحباب، كلاهما عن المسعودي به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس فقال: حدثنا عبد الصمد، وأبو سعيد وعفان قالوا: ثنا ثابت، ثنا هلال عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه.
فقال: يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟
فقال: « مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها ».
تفرد به أحمد.
وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « لو أن لي مثل أحد ذهبا ما سرني أن تأتي علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين ».
وفي الصحيحين من حديث عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ».
فأما الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث يزيد بن سنان عن ابن المبارك، عن عطاء، عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: « اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين ».
فإنه حديث ضعيف، لا يثبت من جهة إسناده، لأن فيه يزيد بن سنان أبا فروة الرهاوي وهو ضعيف جدا، والله أعلم.
وقد رواه الترمذي من وجه آخر فقال: حدثنا عبد الأعلى بن واصل الكوفي، ثنا ثابت بن محمد العابد الكوفي، حدثنا الحارث بن النعمان الليثي عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: « اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة ».
فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟
قال: « إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة حبي المساكين وقربيهم، فإن الله يقربك يوم القيامة ».
ثم قال: هذا حديث غريب.
قلت: وفي إسناده ضعف، وفي متنه نكارة، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن - يعني: عبد الله بن دينار - عن أبي حازم، عن سعيد بن سعد أنه قيل له: هل رأى النبي بعينه - يعني: الحوارى-؟
فقال له: ما رأى رسول الله النقى بعينه حتى لقي الله - عز وجل -.
فقيل له: هل لكم مناخل على عهد رسول الله؟
فقال: ما كانت لنا مناخل.
فقيل له: فكيف كنتم تصنعون بالشعير؟
قال: ننفخه فيطير منه ما طار.
وهكذا رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار به، وزاد: ثم نذريه ونعجنه، ثم قال: حسن صحيح.
وقد رواه مالك عن أبي حازم.
قلت: وقد رواه البخاري عن سعيد ابن أبي مريم، عن محمد بن مطرف بن غسان المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به.
ورواه البخاري أيضا والنسائي عن شيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبي حازم، عن سهل به.
وقال الترمذي: حدثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا يحيى ابن أبي بكير، ثنا جرير بن عثمان، عن سليم بن عامر سمعت أبا أمامة يقول: ما كان يفضل عن أهل بيت رسول الله ﷺ خبز الشعير.
ثم قال: حسن صحيح غريب.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم قال: رأيت أبا هريرة يشير بإصبعه مرارا، والذي نفس أبي هريرة بيده ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا.
ورواه مسلم والترمذي، وابن ماجه من حديث يزيد بن كيسان.
وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الحميد عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد ﷺ منذ قدموا المدينة ثلاثة أيام تباعا من خبز بر، حتى مضى لسبيله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا محمد بن طلحة عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد ثلاثا من خبز بر، حتى قبض وما رفع من مائدته كسرة قط حتى قبض.
وقال أحمد: ثنا محمد بن عبيد، ثنا مطيع الغزال عن كردوس، عن عائشة قالت: قد مضى رسول الله لسبيله وما شبع أهله ثلاثة أيام من طعام بر.
وقال الإمام أحمد: ثنا حسن، ثنا زويد عن أبي سهل، عن سليمان بن رومان مولى عروة عن عروة، عن عائشة أنها قالت: والذي بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله - عز وجل - إلى أن قبض.
قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير؟
قالت: كنا نقول: أف.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وروى البخاري عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، عن أبيه، عن عائشة قالت: إن كنا لنخرج الكراع بعد خمسة عشر يوما فنأكله.
قلت: ولم تفعلون ذلك؟
فضحكت وقالت: ما شبع آل محمد - ﷺ - من خبز مأدوم حتى لحق بالله - عز وجل -.
وقال أحمد: ثنا يحيى، ثنا هشام، أخبرني أبي عن عائشة قالت: كان يأتي على آل محمد الشهر ما يوقدون فيه نارا، ليس إلا التمر والماء، إلا أن يؤتى باللحم.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إن كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارا، إنما هو الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم فيشرب، ويسقينا من ذلك اللبن.
ورواه أحمد عن بريدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنها بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا حسين، ثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم، عن عروة بن الزبير أنه سمع عائشة تقول: كان يمر بنا هلال وهلال، ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله ﷺ نارا.
قال: قلت: يا خالة على أي شيء كنتم تعيشون؟
قالت: على الأسودين التمر والماء.
تفرد به أحمد.
وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع رسول الله ﷺ من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض.
وقد رواه مسلم من حديث شعبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا بهز، ثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: قالت عائشة: أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلا فأمسكت، وقطع رسول الله ﷺ أو قالت: أمسك رسول الله ﷺ وقطعت - قالت: تقول للذي تحدثه: - هذا على غير مصباح.
وفي رواية: لو كان عندنا مصباح لأتدمنا به.
قال: قالت عائشة: إنه ليأتي على آل محمد الشهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون قدرا.
وقد رواه أيضا عن بهز بن أسد، عن سليمان بن المغيرة.
وفي رواية: شهرين، تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: ثنا خلف، ثنا أبو معشر عن سعيد - هو ابن أبي سعيد -، عن أبي هريرة قال: كان يمر بآل رسول الله هلال ثم هلال لا يوقدون في بيوتهم النار لا بخبز، ولا بطبخ.
قالوا: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟
قال: الأسودان التمر والماء، وكان لهم جيران من الأنصار جزاهم الله خيرا لهم منائح يرسلون إليهم شيئا من لبن.
تفرد به أحمد.
وفي صحيح مسلم من حديث منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه، عن عائشة قالت: توفي رسول الله وقد شبع الناس من الأسودين التمر والماء.
وقال ابن ماجه: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا علي بن مسهر عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله ﷺ يوما بطعام سخن فأكل، فلما فرغ قال: « الحمد لله ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا ».
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا عمار أبو هاشم صاحب الزعفراني عن أنس بن مالك أن فاطمة ناولت رسول الله ﷺ كسرة من خبز الشعير فقال: « هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام ».
وروى الإمام أحمد عن عفان، والترمذي، وابن ماجه، جميعا عن عبد الله بن معاوية، كلاهما عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب العبدي الكوفي، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير، وهذا لفظ أحمد.
وقال الترمذي في الشمائل: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن محمد ابن أبي يحيى الأسلمي، عن يزيد ابن أبي أمية الأعور، عن أبي يوسف ابن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله أخذ كسرة من خبز الشعير فوضع عليها تمرة وقال: « هذا إدام هذه، وأكل ».
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله الحلو البارد.
وروى البخاري من حديث قتادة عن أنس قال: ما أعلم رسول الله ﷺ رأى رغيفا مرققا حتى لحق بالله، ولا شاة سميطا بعينه قط.
وفي رواية له عنه أيضا: ما أكل رسول الله ﷺ على خوان، ولا في سكرجة، ولا خبز له مرقق.
فقلت لأنس: فعلى ما كانوا يأكلون؟
قال: على هذه السفر.
وله من حديث قتادة أيضا عن أنس أنه مشى إلى رسول ﷺ بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد رهن درعه من يهودي، فأخذ لأهله شعيرا، ولقد سمعته ذات يوم يقول: « ما أمسى عند آل محمد صاع تمر، ولا صاع حب ».
وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا أبان بن يزيد، ثنا قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ لم يجتمع له غداء، ولا عشاء من خبز ولحم، إلا على ضفف.
ورواه الترمذي في الشمائل عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عفان، وهذا الإسناد على شرط الشيخين.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب، سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب يخطب، فذكر ما فتح الله على الناس، فقال: لقد رأيت رسول الله ﷺ يلتوي من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.
وأخرجه مسلم من حديث شعبة.
وفي الصحيح أن أبا طلحة قال: يا أم سليم لقد سمعت صوت رسول الله ﷺ أعرف فيه الجوع، وسيأتي الحديث في دلائل النبوة.
وفي قصة أبي الهيثم ابن التيهان أن أبا بكر وعمر خرجا من الجوع، فبينما هما كذلك إذ خرج رسول الله فقال: « ما أخرجكما؟ »
فقالا: الجوع.
فقال: « والذي نفسي بيده لقد أخرجني الذي أخرجكما » فذهبوا إلى حديقة الهيثم بن التيهان فأطعمهم رطبا، وذبح لهم شاة، فأكلوا وشربوا الماء البارد.
وقال رسول الله ﷺ: « هذا من النعيم الذي تسألون عنه ».
وقال الترمذي: ثنا عبد الله ابن أبي زياد، ثنا سيار، ثنا يزيد بن أسلم عن يزيد ابن أبي منصور، عن أنس، عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله ﷺ عن بطنه عن حجرين.
ثم قال: غريب.
وثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها سئلت عن فراش رسول الله ﷺ.
فقالت: كان من أدم، حشوه ليف.
وقال الحسن بن عرفة: ثنا عباد بن عباد المهلبي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل علي رسول الله فقال: « ما هذا يا عائشة؟ »
قالت: قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك فذهبت، فبعثت إلي بهذا.
فقال: رديه.
قالت: فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات.
قالت: فقال: « رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة ».
وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى البصري، ثنا عبد الله بن مهدي، ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سئلت عائشة ما كان فراش رسول الله ﷺ في بيتك؟
قالت: من أدم حشوه ليف.
وسئلت حفصة: ما كان فراش رسول الله ﷺ قالت: مسحا نثنيه ثنيتين فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيته بأربع ثنيات كان أوطأ له فثنيناه له بأربع ثنيات، فلما أصبح قال: « ما فرشتم لي الليلة؟ »
قالت: قلنا: هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات قلنا هو أوطأ لك.
قال: « ردوه لحالته الأولى، فإنه منعتني وطأته صلاتي الليلة ».
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن أبان الأصبهاني، حدثنا محمد بن عبادة الواسطي، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، عن حكيم بن حزام قال: خرجت إلى اليمن، فابتعت حلة ذي يزن فأهديتها إلى النبي ﷺ فردها، فبعتها فاشتراها فلبسها، ثم خرج على أصحابه وهي عليه، فما رأيت شيئا أحسن منه فيها، فما ملكت نفسي أن قلت:
ما ينظر الحكام بالفضل بعدما * بدا واضح من غرة وحجول
إذا قايسوه الجد أربى عليهم * بمستفرع ماض الذباب سجيل
فسمعها النبي ﷺ فالتفت إلي يتبسم، ثم دخل فكساها أسامة بن زيد.
وقال الإمام أحمد: حدثني حسين بن علي عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير قال: حدثني ربعي بن خراش عن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله ﷺ وهو ساهم الوجه قالت: فحسبت ذلك من وجع.
فقلت: يا رسول الله أراك ساهم الوجه أفمن وجع؟
فقال: « لا، ولكن الدنانير السبعة التي أتينا بها أمس أمسينا ولم ننفقها، نسيتها في خضم الفراش » تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة قال: أنا بكر بن مضر، ثنا موسى بن جبير عن أبي أمامة ابن سهل قال: دخلت أنا وعروة ابن الزبير يوما على عائشة فقالت: لو رأيتما نبي الله ﷺ ذات يوم في مرض مرضه؟
قالت: وكان له عندي ستة دنانير - قال موسى: أو سبعة - قالت: فأمرني رسول الله - ﷺ - أن أفرقها.
قالت: فشغلني وجع نبي الله ﷺ حتى عافاه الله عز وجل.
قالت: ثم سألني عنها فقال: ما فعلت الستة - قال: أو السبعة -؟
قلت: لا والله لقد شغلني عنها وجعك.
قالت: فدعا بها ثم صفها في كفه.
فقال: « ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده » تفرد به أحمد.
وقال قتيبة: ثنا جعفر بن سليمان عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ لا يدخر شيئا لغد.
وهذا الحديث في الصحيحين، والمراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها، لما ثبت في الصحيحين عن عمر أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فكان يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله - عز وجل -.
ومما يؤيد ما ذكرناه: ما رواه الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية قال: أخبرني هلال بن سويد أبو معلى قال: سمعت أنس بن مالك وهو يقول: أهديت لرسول الله ﷺ ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به.
فقال لها رسول الله ﷺ: « ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن الله عز وجل يأتي برزق كل غد ».
حديث بلال في ذلك
قال البيهقي: ثنا أبو الحسين ابن بشران، أنا أبو محمد بن جعفر بن نصير، ثنا إبراهيم بن عبد الله البصري، ثنا بكار بن محمد، أنا عبد الله بن عون عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله دخل على بلال فوجد عنده صبرا من تمر قال: « ما هذا يا بلال؟ »
قال: تمر أدخره.
قال: « ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن تكون له بحار في النار! أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ».
قال البيهقي بسنده عن أبي داود السجستاني، وأبي حاتم الرازي، كلاهما عن أبي ثوبة الربيع بن نافع، حدثني معاوية بن سلام عن زيد بن سلام، حدثني عبد الله الهوريني قال: لقيت بلالا مؤذن رسول الله ﷺ بحلب.
فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله -ﷺ -؟
فقال: ما كان له شيء إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان المسلم فرآه عائلا يأمرني، فأنطلق فأستقرض فأشتري البردة والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي.
قال: قلت: يا لبيه، فتجهمني وقال قولا عظيما أو غليظا.
وقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟
قلت: قريب.
قال: إنما بينك وبينه أربع ليال فآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لي عبدا، فأذرك ترعى في الغنم كما كنت قبل ذلك.
قال: فأخذني في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت فناديت بالصلاة حتى إذا صليت العتمة، ورجع رسول الله ﷺ إلى أهله فاستأذنت عليه، فأذن لي.
فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي ذكرت لك أني كنت أتدين منه قد قال: كذا وكذا، وليس عندك ما يقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آتي إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله ﷺ ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فجعلت سيفي وحرابي، ورمحي، ونعلي عند رأسي، فاستقبلت بوجهي الأفق فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت علي ليلا نمت، حتى انشق عمود الصبح الأول فأردت أن أنطلق فإذا إنسان يدعو يا بلال أجب رسول الله ﷺ، فانطلقت حتى آتيه فإذا أربع ركائب عليهم أحمالهن، فأتيت رسول الله فاستأذنت.
فقال لي رسول الله: « أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك ».
فحمدت الله.
وقال: « ألم تمر على الركائب المناخات الأربع؟ »
قال: قلت: بلى.
قال: « فإن لك رقابهن وما عليهن - فإذا عليهن كسوة، وطعام، أهداهن له عظيم فدك - فاقبضهن إليك، ثم إقض دينك ».
قال: ففعلت، فحططت عنهن أحمالهن، ثم علفتهن ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله ﷺ خرجت إلى البقيع، فجعلت إصبعي في أذني فقلت: من كان يطلب من رسول الله ﷺ دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي وأعرض حتى لم يبق على رسول الله ﷺ دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار فإذا رسول الله ﷺ قاعد في المسجد وحده فسلمت عليه.
فقال لي: « ما فعل ما قبلك؟ »
قلت: قد قضى الله كل شيء كان على رسول الله - ﷺ - فلم يبق شيء.
قال: « فضل شيء؟ »
قلت: نعم ديناران.
قال: « أنظر أن تريحني منهما، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما »
فلم يأتينا أحد، فبات في المسجد حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر النهار، جاء راكبان فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني.
فقال: « ما فعل الذي قبلك؟ »
قلت: قد أراحك الله منه، فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة، حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني عنه.
وقال الترمذي في الشمائل: حدثنا هارون بن موسى ابن أبي علقمة المديني، حدثني أبي عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فسأله أن يعطيه.
فقال: « ما عندي ما أعطيك ». ولكن ابتع علي شيئا فإذا جاءني شيء قضيته.
فقال عمر: يا رسول الله قد أعطيته فما كلفك الله ما لا تقدر عليه.
فكره النبي ﷺ قول عمر.
فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا.
فتبسم رسول الله ﷺ وعرف التبسم في وجهه لقول الأنصاري.
وقال: « بهذا أمرت ».
وفي الحديث: « ألا إنهم ليسألوني ويأبى الله على البخل ».
وقال يوم حنين حين سألوه قسم الغنائم: « والله لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمتها فيكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا ضانا، ولا كذابا » ﷺ.
وقال الترمذي: ثنا علي بن حجر، ثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عمر قالت: أتيت رسول الله بقناع من رطب، وأجرز عنب، فأعطاني ملء كفيه حليا أو ذهبا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن مطرف، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال: « كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر ».
قال المسلمون: يا رسول الله فما نقول؟
قال: قولوا: { حسبنا الله ونعم الوكيل } [15]، { على الله توكلنا } [16].
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن مطرف ومن حديث خالد بن طهمان، كلاهما عن عطية، وأبي سعيد العوفي البجلي، وأبو الحسن الكوفي عن أبي سعيد الخدري.
وقال الترمذي: حسن.
قلت: وقد روي من وجه آخر عنه، ومن حديث ابن عباس كما سيأتي في موضعه.
ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام
قال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، ثنا عمرو بن محمد، ثنا أسباط بن نصر عن السدي، عن أبي سعد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود، عن خباب في قوله تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } إلى قوله: { فتكون من الظالمين } . [17].
قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله ﷺ مع صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول رسول الله حقروهم فأتوا، فخلوا به.
فقالوا: نريد أن يجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت.
قال: « نعم ».
قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا.
قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب، ونحن قعود في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } . [18].
ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال: { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين. [19].
ثم قال: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } . [20].
قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله ﷺ يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم } ولا تجالس الأشراف، ولا تطع من أغفلنا قبله عن ذكرنا - يعني: عيينة والأقرع - { واتبع هواه وكان أمره فرطا } قال: هلاكا [21].
قال: أمر عيينة والأقرع، ثم ضرب لهم مثل الرجلين، ومثل الحياة الدنيا.
قال خباب: فكنا نقعد مع رسول الله ﷺ فإذا بلغنا الساعة التي يقوم قمنا، وتركناه حتى يقوم.
ثم قال ابن ماجه: حدثنا يحيى بن حكيم، ثنا أبو داود، ثنا قيس بن الربيع عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستة: في، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال.
قال: قالت قريش: يا رسول الله إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهم، فاطردهم عنك.
قال: فدخل قلب رسول الله ﷺ من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [22]
وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، أنا أبو سعيد ابن الأعرابي، ثنا أبو الحسن خلف بن محمد الواسطي الدوسي، ثنا يزيد بن هارون، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي، ثنا المعلى بن زياد - يعني: عن العلاء بن بشير المازني -، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في عصابة من المهاجرين جالسا معهم، وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله.
فقال رسول الله: « الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم نفسي ».
قال: ثم جلس رسول الله ﷺ وسطنا ليعدل نفسه فينا، ثم قال بيده هكذا فاستدارت الحلقة وبرزت وجوههم، قال: فما عرف رسول الله أحدا منهم غيري.
فقال رسول الله: « أبشروا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمسمائة عام ».
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث حماد بن سلمة: عن حميد، عن أنس قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ.
قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك.
فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك
قالت عائشة: كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكان لا تشاء تراه من الليل قائما إلا رأيته، ولا تشاء أن تراه نائما إلا رأيته.
قالت: وما زاد على رسول الله ﷺ في رمضان، وفي غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.
قالت: وكان رسول الله ﷺ يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.
قالت: ولقد كان يقوم حتى أرثي له من شدة قيامه.
وذكر ابن مسعود أنه صلى معه ليلة فقرأ في الركعة الأولى بالبقرة، والنساء، وآل عمران، ثم ركع قريبا من ذلك، ورفع نحوه، وسجد نحوه.
وعن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قام ليلة حتى أصبح، يقرأ هذه الآية: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » رواه أحمد.
وكل هذا في الصحيحين، وغيرهما من الصحاح، وموضع بسط هذه الأشياء في كتاب الأحكام الكبير.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ قام حتى تفطرت قدماه.
فقيل له: أليس قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
قال: « أفلا أكون عبدا شكورا ».
وتقدم في حديث سلام بن سليمان عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: « حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة ».
رواه أحمد والنسائي.
وقال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أخبرني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس أن جبريل قال لرسول الله ﷺ: قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت.
وثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ وعبد الله بن رواحة.
وفي الصحيحين من حديث منصور عن إبراهيم، عن علقمة قال: سألت عائشة هل كان رسول الله ﷺ يخص شيئا من الأيام؟
قالت: لا، كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله - ﷺ - يستطيع.
وثبت في الصحيحين من حديث أنس، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وعائشة أن رسول الله ﷺ كان يواصل، ونهى أصحابه عن الوصال وقال: « إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ».
والصحيح أن هذا الإطعام والسقيا معنويان، كما ورد في الحديث الذي رواه ابن عاصم عنه أن رسول الله -ﷺ - قال: « لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم ».
وما أحسن ما قال بعضهم:
لها أحاديث من ذكراك يشغلها * عن الشراب ويلهيها عن الزاد
وقال النضر بن شميل عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ».
وروى البخاري عن الفريابي، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « إقرأ علي ».
فقلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟.
فقال: « إني أحب أن أسمعه من غيري ».
قال: فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } . [23].
قال: « حسبك ».
فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
وثبت في الصحيح أنه عليه السلام كان يجد التمرة على فراشه فيقول: « لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله ﷺ وجد تحت جنبه تمرة من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة.
فقال بعض نسائه: يا رسول الله أرقت الليلة؟
قال: « إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه »
تفرد به أحمد، وأسامة بن زيد - هو الليثي من رجال مسلم - والذي نعتقد أن هذه التمرة لم تكن من تمر الصدقة لعصمته عليه السلام، ولكن من كمال ورعه عليه السلام أرق تلك الليلة.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: « والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بما أتقي ».
وفي الحديث الآخر أنه قال: « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ».
وقال حماد بن سلمة عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
وفي رواية: وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء.
وروى البيهقي من طريق أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني: ثنا معاوية بن هشام عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أراك شبت؟
فقال: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ».
وفي رواية له عن أبي كريب، عن معاوية، عن هشام، عن شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أسرع إليك الشيب.
فقال: « شيبتني هود، وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ».
فصل في شجاعته صلى الله عليه وسلم
ذكرت في التفسير عن بعض من السلف أنه استنبط من قوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } [24]: أن رسول الله ﷺ كان مأمورا أن لا يفر من المشركين إذا واجهوه، ولو كان وحده من قوله: { لا تكلف إلا نفسك } .
وقد كان ﷺ من أشجع الناس، وأصبر الناس، وأجلدهم، ما فر قط من مصاف، ولو تولى عنه أصحابه.
قال بعض أصحابه: كنا إذا اشتد الحرب، وحمى الناس نتقي برسول الله ﷺ، ففي يوم بدر رمى ألف مشرك بقبضة من حصا فنالتهم أجمعين حين قال: « شاهت الوجوه ».
وكذلك يوم حنين كما تقدم، وفر أكثر أصحابه في ثاني الحال يوم أحد وهو ثابت في مقامه لم يبرح منه، ولم يبق معه إلا اثنا عشر قتل منهم سبعة وبقي الخمسة، وفي هذا الوقت قتل أبي بن خلف - لعنه الله -، فعجله الله إلى النار.
ويوم حنين ولى الناس كلهم، وكانوا يومئذ اثنا عشر ألفا، وثبت هو في نحو من مائة من الصحابة وهو راكب يومئذ بغلته، وهو يركض بها إلى نحو العدو، وهو ينوه باسمه ويعلن بذلك قائلا: « أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب » حتى جعل العباس، وعلي، وأبو سفيان يتعلقون في تلك البغلة ليبطئوا سيرها خوفا عليه من أن يصل أحد من الأعداء إليه، وما زال كذلك حتى نصره الله وأيده في مقامه ذلك، وما تراجع الناس إلا والأشلاء مجندلة بين يديه ﷺ.
وقال أبو زرعة: حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدثنا مروان - يعني: ابن محمد -، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: « فضلت على الناس بشدة البطش ».
فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في الكتب المأثورة عن الأنبياء الأقدمين
قد أسلفنا طرفا صالحا من ذلك في البشارات قبل مولده، ونحن نذكر هنا غررا من ذلك.
فقد روى البخاري والبيهقي واللفظ له من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة؟
فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في الفرقان: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا، ومبشرا، ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
قال عطاء بن يسار: ثم لقيت كعبا الحبر فسألته فما اختلف في حرف، إلا أن كعبا قال: أعينا عمويا، وآذانا صمومي، وقلوبا غلوفا.
ورواه البخاري أيضا عن عبد الله غير منسوب، قيل: هو ابن رجاء، وقيل: عبد الله بن صالح، وهو الأرجح، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، عن هلال بن علي به.
قال البخاري: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام: كذا علقه البخاري.
وقد روى البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح - هو عبد الله بن صالح كاتب الليث - حدثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال، عن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله ﷺ: « إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا » أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر ويتجاوز، وليس أقبضه حتى يقيم الملة العوجاء، بأن تشهد « أن لا إله إلا الله » يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.
قال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
وقد روي عن عبد الله بن سلام من وجه آخر: فقال الترمذي: حدثنا زيد بن أخرم الطائي البصري، ثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدني، ثنا عثمان الضحاك عن محمد بن يوسف، عن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التوراة: محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه.
فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن، هكذا قال الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان المدني، وهكذا حكى شيخنا الحافظ المزي في كتابه الأطراف، عن ابن عساكر أنه قال مثل قول الترمذي ثم قال: وهو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان، فقد روى هذا عن عبد الله بن سلام - وهو من أئمة أهل الكتاب ممن آمن -، وعبد الله بن عمرو بن العاص وقد كان له اطلاع على ذلك من جهة زاملتين كان أصابهما يوم اليرموك، فكان يحدث منهما عن أهل الكتاب وعن كعب الأحبار، وكان بصيرا بأقوال المتقدمين على ما فيها من خلط وغلط وتحريف وتبديل، فكان يقولها بما فيها من غير نقد.
وربما أحسن بعض السلف بها الظن فنقلها عنه مسلمة، وفي ذلك من المخالفة لبعض ما بأيدينا من الحق جملة كثيرة، لكن لا يتفطن لها كثير من الناس.
ثم ليعلم أن كثيرا من السلف يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصا ويراد به غيره، كما في الصحيح خفف على داود القرآن فكان يأمر بداوبه فتسرح فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله ﷺ في التوراة؟
قال: نجده محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عميا، ويسمع به آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة، حتى تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.
وبه عن يونس بن بكير، عن يونس ابن عمرو، عن العيزار بن حريث، عن عائشة أن رسول الله ﷺ مكتوب في الإنجيل: لا فظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفح.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا قيس البجلي، حدثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: « جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا ابن الطاهر البتول، إني خلقتك من غير فحل، وجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فبين لأهل سوران أني أنا الحق القائم الذي لا أزول، صدقوا بالنبي العربي، صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة، والنعلين، والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريحه المسك ينفخ منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا بطنه شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من الصخر، وينحدر في صبب، ذو النسل القليل.
وروى الحافظ البيهقي بسنده عن وهب بن منبه اليمامي قال: إن الله - عز وجل - لما قرب موسى نجيا.
قال: رب إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي؟
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم خير الأمم الآخرون من الأمم، السابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: يا رب إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءون كتبهم نظرا ولا يحفظونها، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقاتلون رؤوس الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم، وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها نارا فأكلتها، فإن لم تقبل لا تقربها النار، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها بها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: رب إني أجد في التوراة أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، فاجعلهم أمتي.
قال: « تلك أمة أحمد ».
قال: وذكر وهب بن منبه في قصة داود عليه السلام وما أوحي إليه في الزبور: « يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، صادقا سيدا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أمته مرحومة أعطيهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم، يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا آخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إن استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم جعلته لهم أضعاف مضاعفة، ولهم في المدخر عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم، فإما أن يروه عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدخره لهم في الآخرة.
يا داود! من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا، أو كذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار ».
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا الشريف أبو الفتح العمري، ثنا عبد الرحمن ابن أبي شريح الهروي، ثنا يحيى بن محمد بن صاعد، ثنا عبد الله بن شبيب أبو سعيد الربعي، حدثني محمد بن عمر بن سعيد - يعني: ابن محمد بن جبير بن مطعم - قال: حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيها، عن أبيه قال: سمعت أبي جبير ابن مطعم يقول: لما بعث الله نبيه ﷺ وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام فلما كنت ببصرى أتتنى جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرام أنت؟
قلت: نعم!
قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟
قلت: نعم.
قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور.
فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم؟
فنظرت، فلم أر صورته.
قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدير.
فقالوا لي: انظر هل ترى صورته.
فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله ﷺ وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله ﷺ.
فقالوا لي: هل ترى صفته؟
قلت: نعم!
قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله ﷺ.
قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.
قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟
قلت: نعم!
قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده.
ورواه البخاري في التاريخ: عن محمد - غير منسوب -، عن محمد بن عمر هذا، بإسناده فذكره مختصرا، وعنده فقالوا: إنه لم يكن نبي إلا بعده نبي، إلا هذا النبي.
وقد ذكرنا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى في سورة الأعراف: « الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر » الآية.
ذكرنا ما أورده البيهقي وغيره من طريق أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر اجتماعهم به، وأن عرفته تنغصت حين ذكروا الله - عز وجل - فأنزلهم في دار ضيافته، ثم استدعاهم بعد ثلاث، فدعا بشيء نحو الربعة العظيمة فيها بيوت صغار عليها أبواب وإذا فيها صور الأنبياء ممثلة في قطع من حرير من آدم إلى محمد - صلوات الله عليهم أجمعين -، فجعل يخرج لهم واحدا واحدا، ويخبرهم عنه، وأخرج لهم صورة آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم تعجل إخراج صورة رسول الله ﷺ.
قال: ثم فتح بابا آخر فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله ﷺ.
قال: أتعرفون هذا؟
قلنا: نعم، محمد رسول الله.
قال: وبكينا.
قال: والله يعلم أنه قام قائما، ثم جلس وقال: والله إنه لهو؟
قلنا: نعم إنه لهو كما تنظر إليه.
فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم، ثم ذكر تمام الحديث في إخراجه بقية صور الأنبياء، وتعريفه إياهما بهم.
وقال في آخره: قلنا له: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها ما على صورت عليه الأنبياء - عليهم السلام -، لأنا رأينا صورة نبينا - عليه السلام - مثله.
فقال: إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.
ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبدا لأشركم ملكة حتى أموت.
قال: ثم أجازنا، فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثناه بما رأينا، وما قال لنا، وما أجازنا.
قال: فبكى أبو بكر فقال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال: أخبرنا رسول الله ﷺ أنهم واليهود يجدون نعت محمد ﷺ عندهم.
وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكيمي عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه، وأشهد برسالته، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.
قلت: هلم.
قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قوم منها ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من سأل من اليهود، والنصارى، والمجوس يقولون: هذا الدين وذاك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت النبي ﷺ قول زيد بن عمرو بن نفيل، وإقرائه منه السلام، فرد عليه السلام، وترحم عليه وقال: « قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا ».
كتاب دلائل النبوة
وهو معنوية وحسية فمن المعنوية: إنزال القرآن عليه، وهو أعظم المعجزات وأبهر الآيات، وأبين الحجج الواضحات لما اشتمل عليه من التركيب المعجز الذي تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعي أعدائه على معارضته وفصاحتهم وبلاغتهم، ثم تحداهم بعشر سور منه فعجزوا، ثم تنازل إلى التحدي بسورة من مثله فعجزوا عنه وهم يعلمون عجزهم، وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبدا.
قال الله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } . [25] وهذه الآية مكية.
وقال في سورة الطور وهي مكية: { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } [26].
أي: إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده فهو بشر مثلكم، فأتوا بمثل ما جاء به فإنكم مثله.
وقال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية - معيدا للتحدي -: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } [27].
وقال تعالى: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم } [28].
وقال تعالى: { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } [29].
فبين تعالى أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن، بل عن عشر سور مثله، بل عن سورة منه وأنهم لا يستطيعون ذلك أبدا.
كما قال تعالى: { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } أي: فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل وهذا تحد ثان، وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا التحدي إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضته ولا الإتيان بمثله، ولو كان متقول من عند نفسه لخاف أن يعارض فيفنضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة الناس له، ومعلوم لكل ذي لب أن محمدا ﷺ من أعقل خلق الله، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في نفس الأمر، فما كان ليقدم هذا الأمر إلا وهو عالم بأنه لا يمكن معارضته، وهكذا وقع فإنه من لدن رسول الله -ﷺ -.
وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره، ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدا فإنه كلام رب العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟
وقول كفار قريش الذي حكاه تعالى عنهم في قوله: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين. [30] كذب منهم ودعوى باطلة بلا دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولو كانوا صادقين لأتوا بما يعارضه، بل هم يعلمون كذب أنفسهم كما يعلمون كذب أنفسهم في قولهم: { وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } [31].
قال الله تعالى: { قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } [32].
أي: أنزله عالم الخفيات، رب الأرض والسموات، الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فإنه تعالى أوحى إلى عبده ورسوله النبي الأمي الذي كان لا يحسن الكتابة، ولا يدريها بالكلية، ولا يعلم شيئا من علم الأوائل، وأخبار الماضين، فقص الله عليه خبر ما كان وما هو كائن على الوجه الواقع سواء بسواء، وهو في ذلك يفصل بين الحق والباطل الذي اختلفت في إيراده جملة الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [33].
وقال تعالى: { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا } [34].
وقال تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } [35].
وقال تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون * وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون * قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون } [36].
فبين تعالى أن نفس إنزال هذا الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون وحكم ما هو كائن بين الناس على مثل هذا النبي الأمي وحده كان من الدلالة على صدقه.
وقال تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون } [37].
يقول لهم: إني لا أطيق تبديل هذا من تلقاء نفسي، وإنما الله - عز وجل - هو الذي يمحو ما يشاء ويثبت، وأنا مبلغ عنه، وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به، لأني نشأت بين أظهركم وأنتم تعلمون نسبي، وصدقي، وأمانتي، وأني لم أكذب على أحد منكم يوما من الدهر، فكيف يسعني أن أكذب على الله - عز وجل - مالك الضر والنفع الذي هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأي ذنب عنده أعظم من الكذب عليه، ونسبة ما ليس منه إليه كما قال تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين } [38].
أي: لو كذب علينا لانتقمنا منه أشد الانتقام، وما استطاع أحد من أهل الأرض أن يحجزنا عنه ويمنعنا منه.
وقال تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } [39].
وقال تعالى: { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } . [40].
وهذا الكلام فيه الإخبار بأن الله شهيد على كل شيء، وأنه تعالى أعظم الشهداء، وهو مطلع علي وعليكم فيما جئتكم به عنه، وتتضمن قوة الكلام قسما به أنه قد أرسلني إلى الخلق لأنذرهم بهذا القرآن، فمن بلغه منهم فهو نذير له كما قال تعالى: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [41].
ففي هذا القرآن من الأخبار الصادقة عن الله وملائكته، وعرشه، ومخلوقاته العلوية والسفلية كالسموات والأرضين وما بينهما، وما فيهن أمور عظيمة كثيرة مبرهنة بالأدلة القطعية المرشدة إلى العلم بذلك من جهة العقل الصحيح كما قال تعالى: { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا } [42].
وقال تعالى: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [43].
وقال تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون } [44].
وفي القرآن العظيم الإخبار عما مضى على الوجه الحق، وبرهانه ما في كتب أهل الكتاب من ذلك شاهدا له مع كونه نزل على رجل أمي لا يعرف الكتابة، ولم يعان يوما من الدهر شيئا من علوم الأوائل ولا أخبار الماضين، فلم يفجأ الناس إلا بوحي إليه عما كان من الأخبار النافعة التي ينبغي أن تذكر للاعتبار بها من أخبار الأمم مع الأنبياء، وما كان منهم من أمورهم معهم، وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، بعبارة لا يستطيع بشر أن يأتي بمثلها أبد الآبدين، ودهر الداهرين، ففي مكان تقص القصة موجزة في غاية البيان والفصاحة، وتارة تبسط فلا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السياق، حتى كأن التالي أو السامع مشاهد لما كان حاضر له، معاين للخبر بنفسه كما قال تعالى: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون } [45].
وقال تعالى: { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } [46].
وقال تعالى في سورة يوسف: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون * وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين } إلى أن قال في آخرها: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [47].
وقال تعالى: { وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } [48].
وقال تعالى: { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد * سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [49].
وعد تعالى أنه سيظهر الآيات القرآن وصدقه، وصدق من جاء به بما يخلقه في الآفاق من الآيات الدالة على صدق هذا الكتاب، وفي نفس المنكرين له المكذبين ما فيه حجة عليهم وبرهان قاطع لشبههم حتى يستيقنوا أنه منزل من عند الله على لسان الصادق، ثم أرشد إلى دليل مستقل بقوله: { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [50].
أي: في العلم بأن الله يطلع على هذا الأمر كفاية في صدق هذا المخبر عنه، إذ لو كان مفتريا عليه لعاجله بالعقوبة البليغة كما تقدم بيان ذلك.
وفي هذا القرآن إخبار عما وقع في المستقبل طبق ما وقع سواء بسواء، وكذلك في الأحاديث حسب ما قررناه في كتابنا التفسير، وما سنذكره من الملاحم والفتن كقوله تعالى: { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } [51] وهذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.
وكذلك قوله تعالى في سورة اقتربت وهي مكية بلا خلاف: { سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } [52].
وقع مصداق هذه الهزيمة يوم بدر بعد ذلك، إلى أمثال هذا من الأمور البينة الواضحة، وسيأتي فصل فيما أخبر به من الأمور التي وقعت بعده عليه السلام طبق ما أخبر به، وفي القرآن الأحكام العادلة أمرا ونهيا، المشتملة على الحكم البالغة التي إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيات، الرحيم بعباده الذي يعاملهم بلطفه ورحمته وإحسانه.
قال تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [53].
أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي.
وقال تعالى: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } . [54].
أي: أحكمت ألفاظه، وفصلت معانيه.
وقال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [55].
أي: العلم النافع، والعمل الصالح، وهكذا روي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لكميل بن زياد: هو كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، وحكم ما بينكم، ونبأ ما بعدكم.
وقد بسطنا هذا كله في كتابنا التفسير، بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.
فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: من فصاحته، وبلاغته، ونظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية، والتحدي ببلاغة ألفاظه يخص فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصحيحة الكاملة - وهي أعظم في التحدي عند كثير من العلماء - يعم جميع أهل الأرض من الملتين، أهل الكتاب، وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط، وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار.
وأما من زعم من المتكلمين أن الإعجاز إنما هو من صرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلب قدرتهم على ذلك، فقول باطل، وهو مفرع على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلقه الله في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق، وقولهم هذا كفر وباطل، وليس مطابقا لما في نفس الأمر، بل القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلم به كما شاء تعالى، وتقدس وتنزه عما يقولون علوا كبيرا، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله، وتنزه عما يقولون علوا كبيرا، فالخلق كلهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرسل الذين هم أفصح الخلق، وأعظم الخلق وأكملهم أن يتكلموا بمثل كلام الله، وهذا القرآن الذي يبلغه الرسول ﷺ عن الله، أسلوب كلامه لا يشبه أساليب كلام رسول الله ﷺ، وأساليب كلامه عليه السلام المحفوظة عنه بالسند الصحيح إليه لا يقدر أحد من الصحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته، فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشريفة، بل وأسلوب كلام الصحابة أعلى من أساليب كلام التابعين، وهلم جرا إلى زماننا، و علماء السلف أفصح وأعلم وأقل تكلفا فيما يرونه من المعاني بألفاظهم من علماء الخلف، وهذا يشهده من له ذوق بكلام الناس كما يدرك تفاوت ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية، وبين أشعار المولدين الذين كانوا بعد ذلك.
ولهذا جاء الحديث الثابت في هذا المعنى، وهو فيما رواه الإمام أحمد قائلا: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ».
وقد أخرجه البخاري، ومسلم من حديث الليث بن سعد به.
ومعنى هذا أن الأنبياء - عليهم السلام - كل منهم قد أوتي من الحجج والدلائل على صدقه، وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية، وحجة لقومه الذين بعث إليهم سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم، أو جحدوا فاستحقوا العقوبة.
وقوله: « وإنما كان الذي أوتيت » أي: جله، وأعظمه الوحي الذي أوحاه إليه وهو القرآن الحجة المستمرة الدائمة القائمة في زمانه وبعده، فإن البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجة قائمة كأنما يسمعه السامع من في رسول الله ﷺ، فحجة الله قائمة به في حياته عليه السلام وبعد وفاته ولهذا قال: « فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » أي: لاستمرار ما آتاني الله من الحجة البالغة، والبراهين الدامغة، فلهذا يكون يوم القيامة أكثر الأنبياء تبعا.
فصل وإنك لعلى خلق عظيم
ومن الدلائل المعنوية: أخلاقه عليه السلام الطاهرة، وخلقه الكامل، وشجاعته، وحلمه، وكرمه، وزهده، وقناعته، وإيثاره، وجميل صحبته، وصدقه، وأمانته، وتقواه، وعبادته، وكرم أصله، وطيب مولده، ومنشئه، ومرباه، كما قدمناه مبسوطا في مواضعه، وما أحسن ما ذكره شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه الذي رد فيه على فرق النصارى واليهود، وما أشبههم من أهل الكتاب وغيرهم، فإنه ذكر في آخره دلائل النبوة، وسلك فيها مسالك حسنة صحيحة، منتجة بكلام بليغ، يخضع له كل من تأمله وفهمه.
فصل دلائل نبوته من خلال سيرته وأخلاقه
وسيرة الرسول ﷺ وأخلاقه، وأقواله، وأفعاله من آياته أي: من دلائل نبوته.
قال: وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته من آياته، ودينهم من آياته، وكرامات صالحي أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد إلى أن بعث، ومن حين بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من ذريته، وجعل الله له ابنين إسماعيل وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن من ولد إسماعيل من ظهر فيه ما بشرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم.
ثم الرسول ﷺ من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم ودعا للناس إلى حجه، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف، وكان ﷺ من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفا بالصدق، والبر، ومكارم الأخلاق، والعدل، وترك الفواحش والظلم، وكل وصف مذموم، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة، ولا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وقد كان ﷺ خلقه وصورته من أحسن الصور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئا من علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدع النبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبر بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله، ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعادوه وسعوا في هلاكه، وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم.
والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه، وقد آذوا أتباعه أنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان، والمعرفة، وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فيجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليها يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود وقد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي يخبرهم به اليهود، وكانوا سمعوا من أخباره أيضا ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغنى وفقر، وقدرة وعجز، وتمكن وضعف، وقلة وكثرة، وظهور على العدو تارة، وظهور العدو تارة، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم.
حتى أن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: ما كان الذين صحبوا المسيح أفضل من هؤلاء.
وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم تعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين، وهو ﷺ مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلف درهما، ولا دينارا، ولا شاة، ولا بعيرا، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك، وهو في كل وقت يظهر من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء، حتى أكمل الله دينه الذي بعثه به، وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه، وأحل لهم الطيبات لم يحرم منها شيئا، كما حرم في شريعة غيره، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحل غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن الملائكة وعن اليوم الآخر، إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب، وليس في الكتب إيجاب لعدل، وقضاء بفضل وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه، وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها وعبادات غيره من الأمم ظهر له فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشرائع.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، وإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم.
وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله، وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا.
وإذا قيس سخاؤهم وبرهم وسماحة أنفسهم بغيرهم ظهر أنهم أسخى وأكرم من غيرهم.
وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلموها، وهو الذي أمرهم بها لم يكونوا قبل متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة، فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة، وبعضها من الزبور، وبعضها من النبوات، وبعضها من المسيح، وبعضها ممن بعده من الحواريين، ومن بعض الحواريين، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم، حتى أدخلوا - لما غيروا من دين المسيح - في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح.
وأما أمة محمد ﷺ فلم يكونوا قبله يقرؤن كتابا، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود، والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، وهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم عن أن يفرقوا بين أحد من الرسل فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به: { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [56].
وقال تعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } [57].
وأمته عليه السلام لا يستحلون أن يوجدوا شيئا من الدين غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله، لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به، وما حدثهم أهل الكتاب موافقا لما عندهم صدقوه، ومالم يعلم صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا بأنه باطل كذبوه، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند والفرس واليونان، أو غيرهم كان عندهم من أهل الإلحاد والابتداع، وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ، والتابعون، وهو الذي عليه أئمة الدين الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم، ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة.
وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرين إلى قيام الساعة الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ».
وقد يتنازع بعض المسلمين مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما ودين محمد ﷺ خصوصا، ومن خالف في هذا الأصل كان عندهم ملحدا مذموما، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا ما قام به أكابر علمائهم وعبادهم، وقاتل عليه ملوكهم ودان به جمهورهم، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح، ولا دين غيره من الأنبياء، والله سبحانه أرسل رسله بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن اتبع الرسل له سعادة الدنيا والآخرة، وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا، ولما بعث الله محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون من أمته، فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد أخذوه عن نبيهم، كما ظهر لكل عاقل أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو في الأصل المعلم، وهذا يقتضي أنه عليه السلام كان أكمل الناس علما ودينا، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله: « إني رسول الله إليكم جميعا » لم يكن كاذبا مفتريا، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا، أو من هو من أشر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا، وما ذكر من كمال علمه ودينة يناقض الشر والخبث والجهل.
فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم، والدين، وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله: « إني رسول الله إليكم جمعيا » لأن الذي لم يكن صادقا إما أن يكون متعمدا للكذب، أو مخطئا.
والأول يوجب أنه كان ظالما غاويا.
والثاني يقتضي أنه كان جاهلا ضالا.
ومحمد ﷺ كان علمه ينافي جهله، وكمال دينه ينافي تعمد الكذب، فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن يتعمد الكذب، ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك، تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق، ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى: { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } [58].
وقال تعالى عن الملك الذي جاء به: { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } [59].
ثم قال عنه: { وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم * فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين } [60].
وقال تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين }، إلى قوله: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } [61].
بين سبحانه أن الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه، فإن الشيطان يقصد الشر وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب إما عمدا وإما خطأ وفجورا أيضا، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا.
كما قال ابن مسعود لما سئل عن مسألة: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.
فإن رسول الله بريء من تنزل الشياطين عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرسول فإنه قد يخطئ ويكون خطؤه من الشيطان، وإن كان خطؤه مغفورا له، فإذا لم يعرف له خبرا أخبر به كان فيه مخطئا، ولا أمرا أمر به كان فيه فاجرا، علم أن الشيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه ملك كريم، ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي: { إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } [62].
انتهى ما ذكره، وهذا عين ما أورده بحروفه.
باب دلائل النبوة الحسية
ومن أعظم ذلك كله انشقاق القمر المنير فرقتين قال الله تعالى: { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر * وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر * ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر } [63].
وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد رسول الله -ﷺ -، وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة.
رواية أنس بن مالك: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن قتادة، عن أنس قال: سأل أهل مكة النبي ﷺ آية، فانشق القمر بمكة فرقتين فقال: « اقتربت الساعة وانشق القمر ».
ورواه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق.
وقال البخاري: حدثني عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا بشر بن المفضل، ثنا سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث شيبان عن قتادة.
ومسلم من حديث شعبة عن قتادة.
رواية جبير بن مطعم:
قال أحمد: حدثنا محمد بن كثير، ثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل.
فقالوا: سحرنا محمد.
فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس، تفرد به أحمد.
ورواية ابن جرير، والبيهقي من طرق عن حصين بن عبد الرحمن به.
رواية حذيفة بن اليمان:
قال أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثني ابن علية، أنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة فحضر أبي، وحضرت معه، فخطبنا حذيفة فقال: إن الله تعالى يقول: « اقتربت الساعة وانشق القمر » ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.
فقلت لأبي: أتستبق الناس غدا؟
فقال: يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال.
ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرها، فخطب حذيفة فقال: ألا إن الله يقول: « اقتربت الساعة وانشق القمر » ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق.
ورواه أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة من غير وجه عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن حذيفة، فذكر نحوه وقال: ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله ﷺ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة.
رواية عبد الله بن عباس:
قال البخاري: ثنا يحيى بن بكير، ثنا بكر عن جعفر، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: انشق القمر في زمان النبي ﷺ.
ورواه البخاري أيضا، ومسلم من حديث بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة به.
طريق أخرى عنه: قال ابن جرير: ثنا ابن مثنى، ثنا عبد الأعلى، ثنا داود ابن أبي هند، عن علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: « اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر »
قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وروى العوفي عن ابن عباس نحوا من هذا، وقد روى من وجه آخر عن ابن عباس فقال أبو القاسم الطبراني: ثنا أحمد بن عمرو البزار، ثنا محمد بن يحيى القطيعي، ثنا محمد بن بكير، ثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله ﷺ.
فقالوا: سحر القمر فنزلت: « اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ».
وهذا سياق غريب، وقد يكون حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، فيدل على أن انشقاقه إنما كان في ليالي إبداره، والله أعلم.
رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب:
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا وهب بن جرير عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب في قوله: « اقتربت الساعة وانشق القمر » قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله ﷺ انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اشهد ».
وهكذا رواه مسلم، والترمذي من طرق عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، قال مسلم: كرواية مجاهد عن أبي معمر، عن ابن مسعود.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
رواية عبد الله بن مسعود:
قال الإمام أحمد: ثنا سفيان عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ شقتين حتى نظروا إليه.
فقال رسول الله ﷺ: « اشهدوا ».
ورواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة.
وأخرجاه من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة، عن ابن مسعود به.
قال البخاري: وقال أبو الضحى: عن مسروق، عن عبد الله بمكة.
وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده أبو داود الطيالسي في مسنده فقال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق بن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ.
فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة.
قال: فقالوا: انظروا ما يأتينا به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
قال: فجاء السفار فقالوا ذلك.
وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن ابن عباس الدوري، عن سعيد بن سليمان، عن هشيم، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين.
فقالت كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا المسافرين فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا ما رأيتم فهو سحر سحركم به.
قال: فسئل السفار - وقدموا من كل وجه -.
فقالوا: رأيناه.
ورواه ابن جرير من حديث المغيرة، وزاد فأنزل الله: « اقتربت الساعة وانشق القمر ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل عن إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ حتى رأيت الجبل بين فرقتي القمر.
وروى ابن جرير عن يعقوب الدوري، عن ابن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن ابن مسعود كان يقول: لقد انشق القمر.
ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه كان يقول: خمس قد مضين: الروم، واللزام، والبطشة، والدخان، والقمر، في حديث طويل عنه مذكور في تفسير سورة الدخان.
وقال أبو زرعة في الدلائل: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا الوليد عن الأوزاعي، عن ابن بكير قال: انشق القمر بمكة والنبي ﷺ قبل الهجرة فخر شقتين.
فقال المشركون: سحره ابن أبي كبشة.
وهذا مرسل من هذا الوجه، فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده مع وروده في الكتاب العزيز، وما يذكره بعض القصاص من أن القمر دخل في جيب النبي ﷺ وخرج من كمه، ونحو هذا الكلام فليس له أصل يعتمد عليه، والقمر في حال انشقاقه لم يزايل السماء، بل انفرق باثنتين وسارت إحداهما حتى صارت وراء جبل حراء، والأخرى من الناحية الأخرى وصار الجبل بينهما، وكلتا الفرقتين في السماء، وأهل مكة ينظرون إلى ذلك، وظن كثير من جهلتهم أن هذا شيء سحرت به أبصارهم، فسألوا من قدم عليهم من المسافرين، فأخبروهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صحة ذلك وتيقنوه.
فإن قيل: فلم لم يعرف هذا في جميع أقطار الأرض؟
فالجواب: ومن ينفي ذلك، ولكن تطاول العهد والكفرة يجحدون بآيات الله، ولعلهم لما أخبروا أن هذا كان آية لهذا النبي المبعوث تداعت آراؤهم الفاسدة على كتمانه وتناسيه على أنه قد ذكر غير واحد من المسافرين أنهم شاهدوا هيكلا بالهند مكتوبا عليه: أنه بني في الليلة التي انشق القمر فيها، ثم لما كان انشقاق القمر ليلا قد يخفى أمره على كثير من الناس لأمور مانعة من مشاهدته في تلك الساعة من غيوم متراكمة كانت تلك الليلة في بلدانهم، ولنوم كثير منهم، أو لعله كان في أثناء الليل حيث ينام كثير من الناس، وغير ذلك من الأمور، والله أعلم.
وقد حررنا هذا فيما تقدم في كتابنا التفسير.
فأما حديث رد الشمس بعد مغيبها، فقد أنبأني شيخنا المسند الرحلة بهاء الدين القاسم بن المظفر بن تاج الأمناء بن عساكر إذنا و قال: أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عساكر المشهور بالنسابة قال: أخبرنا أبو المظفر ابن القشيري، وأبو القاسم المستملي قالا: ثنا أبو عثمان المحبر، أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن الدبابعاني بها، أنا محمد بن أحمد بن محبوب.
وفي حديث ابن القشيري: ثنا أبو العباس المحبوبي، ثنا سعيد بن مسعود.
ح قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: وأنا أبو الفتح الماهاني، أنا شجاع بن علي، أنا أبو عبد الله ابن منده، أنا عثمان بن أحمد الننسي، أنا أبو أمية محمد بن إبراهيم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، ثنا فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن، زاد أبو أمية بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله ﷺ يوحى إليه ورأسه في حجر علي، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس.
فقال رسول الله ﷺ: صليت العصر؟
وقال أبو أمية: صليت يا علي؟
قال: لا.
قال رسول الله ﷺ وقال أبو أمية: فقال النبي ﷺ: « اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة نبيك ».
وقال أبو أمية: رسولك، فاردد عليه الشمس.
قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.
وقد رواه الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات، من طريق أبي عبد الله بن منده، كما تقدم.
ومن طريق أبي جعفر العقيلي: ثنا أحمد بن داود، ثنا عمار بن مطر، ثنا فضيل بن مرزوق فذكره ثم قال: وهذا حديث موضوع، وقد اضطرب الرواة فيه، فرواه سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن علي بن الحسن، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء، وهذا تخليط في الرواية.
قال: وأحمد بن داود ليس بشيء.
قال الدارقطني: متروك كذاب.
وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
وعمار بن مطر قال فيه العقيلي: كان يحدث عن الثقات بالمناكير.
وقال ابن عدي: متروك الحديث.
قال: وفضيل بن مرزوق قد ضعفه يحيى.
قال ابن حبان: يروي الموضوعات، ويخطئ عن الثقات، وبه قال الحافظ ابن عساكر.
قال: وأخبرنا أبو محمد عن طاوس، أنا عاصم بن الحسن، أنا أبو عمرو ابن مهدي، أنا أبو العباس ابن عقدة، ثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا عبد الرحمن بن شريك، حدثني أبي عن عروة بن عبد الله بن قشير قال: دخلت على فاطمة بنت علي فرأيت في عنقها خرزة، ورأيت في يديها مسكيتن غليظتين، - وهي عجوز كبيرة -.
فقلت لها: ما هذا؟
فقالت: إنه يكره للمرأة أن تتشبه بالرجال، ثم حدثتني أن أسماء بنت عميس حدثتها أن علي ابن أبي طالب دفع إلى النبي ﷺ وقد أوحي إليه، فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس - يقول: غابت، أو كادت أن تغيب - ثم إن نبي الله ﷺ سري عنه فقال: أصليت يا علي؟
قال: لا.
فقال النبي ﷺ: « اللهم رد على علي الشمس » فرجعت حتى بلغت نصف المسجد.
قال عبد الرحمن: وقال أبي: حدثني موسى الجهني نحوه.
ثم قال الحافظ ابن عساكر: هذا حديث منكر، وفيه غير واحد من المجاهيل.
وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: في الموضوعات.
وقد روى ابن شاهين هذا الحديث عن ابن عقدة فذكره ثم قال: وهذا باطل، والمتهم به ابن عقدة، فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة.
قال الخطيب: ثنا علي بن محمد بن نصر سمعت حمزة بن يوسف يقول: كان ابن عقدة بجامع براثا يملي مثالب الصحابة، أو قال: الشيخين فتركته.
وقال الدارقطني: كان ابن عقدة رجل سوء.
وقال ابن عدي: سمعت أبا بكر ابن أبي غالب يقول: ابن عقدة لا يتدين بالحديث لأنه كان يحمل شيوخا بالكوفة على الكذب، فيسوي لهم نسخا ويأمرهم أن يرووها، وقد بينا كذبه من عند شيخ بالكوفة.
وقال الحافظ أبو بشر الدولابي في كتابه الذرية الطاهرة: حدثنا إسحاق بن يونس، ثنا سويد بن سعيد، ثنا المطلب بن زياد عن إبراهيم بن حبان، عن عبد الله بن حسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن الحسين قال: كان رأس رسول الله ﷺ في حجر علي وهو يوحى إليه، فذكر الحديث بنحو ما تقدم.
إبراهيم ابن حبان هذا تركه الدارقطني وغيره.
وقال محمد بن ناصر البغدادي الحافظ: هذا الحديث موضوع.
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: وصدق ابن ناصر.
وقال ابن الجوزي: وقد رواه ابن مردويه من طريق حديث داود بن واهج عن أبي هريرة قال: نام رسول الله ﷺ ورأسه في حجر علي ولم يكن صلى العصر حتى غربت الشمس، فلما قام رسول الله دعا له فردت عليه الشمس حتى صلى، ثم غابت ثانية.
ثم قال: وداود ضعفه شعبة.
ثم قال ابن الجوزي: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضله ولم يتلمح عدم الفائدة، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء، فرجوع الشمس لا يعيدها أداء.
وفي الصحيح عن رسول الله ﷺ: « أن الشمس لم تحبس على أحد إلا ليوشع ».
قلت: هذا الحديث ضعيف ومنكر من جميع طرقه، فلا تخلو واحدة منها عن شيعي ومجهول الحال، وشيعي ومتروك، ومثل هذا الحديث لا يقبل فيه خبر واحد إذا اتصل سنده، لأنه من باب ما تتوفر الدواعي على نقله، فلا بد من نقله بالتواتر والاستفاضة لا أقل من ذلك، ونحن لا ننكر هذا في قدرة الله تعالى، وبالنسبة إلى جناب رسول الله ﷺ فقد ثبت في الصحيح أنها ردت ليوشع بن نون، وذلك يوم حاصر بيت المقدس، واتفق ذلك في آخر يوم الجمعة، وكانوا لا يقاتلون يوم السبت فنظر إلى الشمس وقد تنصفت للغروب فقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي، فحبسها الله عليه، حتى فتحوها، ورسول الله ﷺ أعظم جاها وأجل منصبا، وأعلى قدرا من يوشع بن نون، بل من سائر الأنبياء على الأجرام، ولكن لا نقول إلا ما صح عندنا عنه، ولا نسند إليه ما ليس بصحيح، ولو صح لكنا من أول القائلين به والمعتقدين له، وبالله المستعان.
وقال الحافظ أبو بكر محمد بن حاتم بن زنجويه البخاري في كتابه إثبات إمامة أبي بكر الصديق: فإن قال قائل من الروافض: إن أفضل فضيلة لأبي الحسن وأدل دليل على إمامته ما روي عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله ﷺ يوحى إليه ورأسه في حجر علي ابن أبي طالب، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس.
فقال رسول الله ﷺ لعلي: « صليت؟ »
قال: لا.
فقال رسول الله: « اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس ».
قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.
قيل له: كيف لنا لو صح هذا الحديث فنحتج على مخالفينا من اليهود والنصارى، ولكن الحديث ضعيف جدا لا أصل له، وهذا مما كسبت أيدي الروافض، ولو ردت الشمس بعد ما غربت لرآها المؤمن والكافر، ونقلوا إلينا أن في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا ردت الشمس بعد ما غربت.
ثم يقال للروافض: أيجوز أن ترد الشمس لأبي الحسن حين فاتته صلاة العصر، ولا ترد لرسول الله ولجميع المهاجرين والأنصار وعلي فيهم حين فاتتهم صلاة الظهر، والعصر، والمغرب يوم الخندق؟
قال: وأيضا مرة أخرى عرس رسول الله - ﷺ - بالمهاجرين والأنصار حين قفل من غزوة خيبر فذكر نومهم عن صلاة الصبح، وصلاتهم لها بعد طلوع الشمس قال: فلم يرد الليل على رسول الله وعلى أصحابه قال: ولو كان هذا فضلا أعطيه رسول الله وما كان الله ليمنع رسوله شرفا وفضلا - يعني: أعطيه علي ابن أبي طالب -.
ثم قال: وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: قلت لمحمد بن عبيد الطنافسي: ما تقول فيمن يقول: رجعت الشمس على علي ابن أبي طالب حتى صلى العصر؟
فقال: من قال هذا فقد كذب.
وقال إبراهيم ابن يعقوب: سألت يعلى بن عبيد الطنافسي قلت: إن ناسا عندنا يقولون إن عليا وصي رسول الله ﷺ، ورجعت الشمس.
فقال: كذب هذا كله.
فصل إيراد هذا الحديث من طرق متفرقة
أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد الحسكاني يصنف فيه تصحيح رد الشمس وترغيم النواصب الشمس وقال: قد روي ذلك من طريق أسماء بنت عميس، وعلي ابن أبي طالب، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، ثم رواه من طريق أحمد بن صالح المصري، وأحمد بن الوليد الأنطاكي، والحسن بن داود، ثلاثتهم عن محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك، وهو ثقة، أخبرني محمد بن موسى الفطري المدني وهو ثقة أيضا عن عون بن محمد قال - وهو ابن محمد بن الحنفية - عن أمه أم جعفر بنت محمد بن جعفر ابن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بالصهباء من أرض خيبر، ثم أرسل عليا في حاجة، فجاء وقد صلى رسول الله العصر، فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غابت غربت الشمس.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيه فرد عليه شرقها ».
قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى رفعت على الجبال، فقام علي فتوضأ، وصلى العصر، ثم غابت الشمس.
وهذا الإسناد فيه من يجهل حاله، فإن عونا هذا وأمه لا يعرف أمرهما بعدالة وضبط يقبل بسببهما خبرهما، فيما دون هذا المقام، فكيف يثبت بخبرهما هذا الأمر العظيم الذي لم يروه أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن ولا المسانيد المشهورة، فالله أعلم، ولا ندري أسمعت أم هذا من جدتها أسماء بنت عميس أو لا.
ثم أورده هذا النص من طريق الحسين بن الحسن الأشقر، وهو شيعي جلد وضعفه غير واحد عن الفضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين الشهيد، عن أسماء بنت عميس، فذكر الحديث.
قال: وقد رواه عن فضيل بن مرزوق جماعة منهم: عبيد الله بن موسى، ثم أورده من طريق أبي جعفر الطحاوي من طريق عبد الله، وقد قدمنا روايتنا له من حديث سعيد بن مسعود، وأبي أمية الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى العبسي وهو من الشيعة، ثم أورده هذا النص من طريق أبي جعفر العقيلي عن أحمد بن داود، عن عمار بن مطر، عن فضيل بن مرزوق والأغر الرقاشي.
ويقال: الرواسي أبو عبد الرحمن الكوفي مولى بني عنزة.
وثقه الثوري وابن عيينة.
وقال أحمد: لا أعلم إلا خيرا.
وقال ابن معين: ثقة.
وقال مرة: صالح، ولكنه شديد التشيع.
وقال مرة: لا بأس به.
وقال أبو حاتم: صدوق، صالح الحديث، يهم كثيرا، يكتب حديثه، ولا يحتج به.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: يقال: إنه ضعيف.
وقال النسائي: ضعيف.
وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به.
وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات، وقد روى له مسلم وأهل السنن الأربعة.
فمن هذه ترجمته لا يتهم بتعمد الكذب، ولكنه قد يتساهل، ولا سيما فيما يوافق مذهبه فيروي عمن لا يعرفه، أو يحسن به الظن فيدلس حديثه ويسقطه، ويذكر شيخه، ولهذا قال في هذا الحديث الذي يجب الاحتراز فيه، وتوقي الكذب فيه: عن بصيغة التدليس، ولم يأت بصيغة التحديث، فلعل بينهما من يجهل أمره على أن شيخه هذا - إبراهيم بن الحسن بن علي ابن أبي طالب - ليس بذلك المشهور في حاله، ولم يرو له أحد من أصحاب الكتب المعتمدة، ولا روى عنه غير الفضيل بن مرزوق هذا، ويحيى بن المتوكل، قاله أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان، ولم يتعرضا لجرح ولا تعديل.
وأما فاطمة بنت الحسين ابن علي ابن أبي طالب - وهي أخت زين العابدين - فحديثها مشهور، روى لها أهل السنن الأربعة، وكانت فيمن قدم بها مع أهل البيت بعد مقتل أبيها إلى دمشق، وهي من الثقات، ولكن لا يدري أسمعت هذا الحديث من أسماء أم لا، فالله أعلم.
ثم رواه هذا المصنف من حديث أبي حفص الكناني: ثنا محمد بن عمر القاضي هو الجعابي، حدثني محمد بن القاسم بن جعفر العسكري من أصل كتابه، ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم، ثنا خلف بن سالم، ثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان الثوري عن أشعث أبي الشعثاء، عن أمه، عن فاطمة - يعني: بنت الحسين -، عن أسماء أن رسول الله ﷺ دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس.
وهذا إسناد غريب جدا، وحديث عبد الرزاق وشيخه الثوري محفوظ عند الأئمة لا يكاد يترك منه شيء من المهمات، فكيف لم يرو عن عبد الرزاق مثل هذا الحديث العظيم، إلا خلف بن سالم بما قبله من الرجال الذين لا يعرف حالهم في الضبط والعدالة كغيرهم، ثم إن أم أشعث مجهولة، فالله أعلم.
ثم ساقه هذا النص من طريق محمد بن مرزوق، ثنا حسين الأشقر - وهو شيعي وضعيف كما تقدم - عن علي بن هاشم بن الثريد - وقد قال فيه ابن حبان: كان غاليا في التشيع يروي المناكير عن المشاهير - عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن علي بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس فذكره، وهذا إسناد لا يثبت.
ثم أسنده من طريق عبد الرحمن بن شريك عن أبيه، عن عروة بن عبد الله، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس فذكر الحديث كما قدمنا إيراده من طريق ابن عقدة عن أحمد بن يحيى الصوفي، عن عبد الرحمن بن شريك، عن عبد الله النخعي.
وقد روى عنه البخاري في كتاب الأدب وحدث عنه جماعة من الأئمة.
وقال فيه أبو حاتم الرازي: كان واهي الحديث.
وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: ربما أخطأ، وأرخ ابن عقدة وفاته سنة سبع وعشرين ومائتين.
وقد قدمنا أن الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي قال: إنما أتهم بوضعه أبا العباس ابن عقدة، ثم أورد كلام الأئمة فيه بالطعن والجرح، وأنه كان يسوي النسخ للمشايخ فيرويهم إياها، والله أعلم.
قلت: في سياق هذا الإسناد عن أسماء أن الشمس رجعت حتى بلغت نصف المسجد، وهذا يناقض ما تقدم من أن ذلك كان بالصهباء من أرض خيبر، ومثل هذا يوجب توهين الحديث وضعفه والقدح فيه، ثم سرده من حديث محمد بن عمر القاضي الجعابي، ثنا علي بن العباس بن الوليد، ثنا عبادة بن يعقوب الرواجي، ثنا علي بن هاشم عن صباح، عن عبد الله بن الحسن - أبي جعفر -، عن حسين المقتول، عن فاطمة، عن أسماء بنت عميس قالت: لما كان يوم شغل علي لمكانه من قسم المغنم حتى غربت الشمس، أو كادت.
فقال رسول الله ﷺ: « أما صليت؟ »
قال: لا، فدعا الله فارتفعت الشمس حتى توسطت السماء، فصلى علي فلما غربت الشمس سمعت لها صريرا كصرير الميشار في الحديد.
وهذا أيضا سياق مخالف لما تقدم من وجوه كثيرة، مع أن إسناده مظلم جدا، فإن صباحا هذا لا يعرف، وكيف يروي الحسين بن علي المقتول شهيدا عن واحد عن واحد، عن أسماء بنت عميس؟ هذا تخبيط إسنادا ومتنا، ففي هذا أن عليا شغل بمجرد قسم الغنيمة، وهذا لم يقله أحد، ولا ذهب إلى جواز ترك الصلاة لذلك ذاهب، وإن كان قد جوز بعض العلماء تأخير الصلاة عن وقتها لعذر القتال كما حكاه البخاري عن مكحول، والأوزاعي، وأنس بن مالك في جماعة من أصحابه، واحتج لهم البخاري بقصة تأخير الصلاة يوم الخندق، وأمره - عليه السلام أن لا يصلي أحد منهم العصر إلا في بني قريظة، وذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا نسخ بصلاة الخوف.
والمقصود: أنه لم يقل أحد من العلماء إنه يجوز تأخير الصلاة بعذر قسم الغنيمة، حتى يسند هذا إلى صنيع علي رضي الله عنه وهو الراوي عن رسول الله ﷺ أن الوسطى هي العصر، فإن كان هذا ثابتا على ما رواه هؤلاء الجماعة، وكان علي متعمدا لتأخير الصلاة لعذر قسم الغنيمة وأقره عليه الشارع صار هذا وحده دليلا على جواز ذلك، ويكون أقطع في الحجة مما ذكره البخاري، لأن هذا بعد مشروعية صلاة الخوف قطعا، لأنه كان بخيبر سنة سبع، وصلاة الخوف شرعت قبل ذلك، وإن كان علي ناسيا حتى ترك الصلاة إلى الغروب فهو معذور، فلا يحتاج إلى رد الشمس بل وقتها بعد الغروب، والحالة هذه إذن كما ورد به الحديث، والله أعلم.
وهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث، ثم إن جعلناه قضية أخرى وواقعة غير ما تقدم، فقد تعدد رد الشمس غير مرة، ومع هذا لم ينقله أحد من أئمة العلماء، ولا رواه أهل الكتب المشهورة، وتفرد بهذه الفائدة هؤلاء الرواة الذين لا يخلو إسناد منها عن مجهول ومتروك ومتهم، والله أعلم.
ثم أورد هذا النص من طريق أبي العباس بن عقدة، حدثنا يحيى بن زكريا، ثنا يعقوب بن سعيد، ثنا عمرو بن ثابت قال: سألت عبد الله بن حسن بن حسين بن علي ابن أبي طالب عن حديث رد الشمس على علي ابن أبي طالب هل يثبت عندكم؟
فقال لي: ما أنزل الله في كتابه أعظم من رد الشمس.
قلت: صدقت جعلني الله فداك، ولكني أحب أن أسمعه منك.
فقال: حدثني أبي الحسن، عن أسماء بنت عميس أنها قالت: أقبل علي ابن أبي طالب ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله ﷺ، فوافق رسول الله ﷺ قد انصرف، ونزل عليه الوحي فأسنده إلى صدره، فلم يزل مسنده إلى صدره حتى أفاق رسول الله -ﷺ - فقال: « أصليت العصر يا علي؟ »
قال: جئت والوحي ينزل عليك فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة.
فاستقبل رسول الله ﷺ القبلة - وقد غربت الشمس - وقال: « اللهم إن عليا كان في طاعتك، فارددها عليه ».
قالت أسماء: فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الرحى حتى كانت في موضعها وقت العصر، فقام علي متمكنا فصلى، فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى، اختلط الظلام وبدت النجوم.
وهذا منكر أيضا إسنادا ومتنا، وهو مناقض لما قبله من السياقات، وعمرو بن ثابت هذا هو المتهم بوضع هذا الحديث أو سرقته من غيره، وهو عمرو بن ثابت بن هرمز البكري، الكوفي مولى بكر بن وائل، ويعرف بعمرو بن المقدام الحداد، روى عن غير واحد من التابعين، وحدث عنه جماعة منهم سعيد بن منصور، وأبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان.
قال: تركه عبد الله بن المبارك وقال: لا تحدثوا عنه فإنه كان يسب السلف، ولما مرت به جنازته توارى عنها.
وكذلك تركه عبد الرحمن بن مهدي.
وقال أبو معين والنسائي: ليس بثقة، ولا مأمون، ولا يكتب حديثه.
وقال مرة أخرى هو، وأبو زرعة، وأبو حاتم: كان ضعيفا.
زاد أبو حاتم: وكان رديء الرأي، شديد التشيع، لا يكتب حديثه.
وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم.
وقال أبو داود: كان من شرار الناس، كان رافضيا - قال هنا: - ولما مات لم أصل عليه، لأنه قال لما مات رسول الله ﷺ: كفر الناس إلا خمسة، وجعل أبو داود يذمه.
وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات.
وقال ابن عدي: والضعف على حديثه بين، وأرخوا وفاته في سنة سبع وعشرين ومائة.
ولهذا قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: وكان عبد الله بن حسن وأبوه أجل قدرا من أن يحدثا بهذا الحديث.
قال: هذا المصنف المنصف.
وأما حديث أبي هريرة فأخبرنا عقيل بن الحسن العسكري، أنا أبو محمد صالح بن الفتح النسائي، ثنا أحمد بن عمير بن حوصاء، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبيه، ثنا داود بن فراهيج، وعن عمارة بن برد، وعن أبي هريرة فذكره وقال: اختصرته من حديث طويل، وهذا إسناد مظلم، ويحيى ابن يزيد وأبوه وشيخه داود بن فراهيج كلهم مضعفون، وهذا هو الذي أشار ابن الجوزي إلى أن ابن مردويه رواه من طريق داود ابن فراهيج عن أبي هريرة، وضعف داود هذا شعبة والنسائي وغيرهما، والذي يظهر أن هذا مفتعل من بعض الرواة، أو قد دخل على أحدهم وهو لا يشعر، والله أعلم.
قال: وأما حديث أبي سعيد فأخبرنا محمد بن إسماعيل الجرجاني كتابة أن أبا طاهر محمد بن علي الواعظ أخبرهم، أنا محمد بن أحمد بن متيم، أنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، حدثني أبي عن أبيه محمد، عن أبيه عبد الله، عن أبيه عمر قال: قال الحسين بن علي: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: دخلت على رسول الله - ﷺ - فإذا رأسه في حجر علي، وقد غابت الشمس فانتبه النبي ﷺ وقال: « يا علي أصليت العصر؟ »
قال: لا يا رسول الله ما صليت، كرهت أن أضع رأسك من حجري وأنت وجع.
فقال رسول الله: « يا علي! ادع يا علي أن ترد عليك الشمس ».
فقال علي: يا رسول الله ادع أنت، وأنا أؤمن.
فقال: « يا رب إن عليا في طاعتك، وطاعة نبيك، فاردد عليه الشمس ».
قال أبو سعيد: فوالله لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتى رجعت بيضاء نقية، وهذا إسناد مظلم أيضا ومتنه منكر، ومخالف لما تقدمه من السياقات، وكل هذا يدل على أنه موضوع مصنوع مفتعل يسرقه هؤلاء الرافضة بعضهم من بعض، ولو كان له أصل من رواية أبي سعيد لتلقاه عنه كبار أصحابه، كما أخرجا في الصحيحين من طريقه حديث قتال الخوارج، وقصة المخدج، وغير ذلك من فضائل علي.
قال: وأما حديث أمير المؤمنين علي: فأخبرنا أبو العباس الفرغاني، أنا أبو الفضل الشيباني، ثنا رجاء بن يحيى الساماني، ثنا هارون بن سعدان بسامرا سنة أربعين ومائتين، ثنا عبد الله بن عمرو بن الأشعث عن داود بن الكميت، عن عمه المستهل بن زيد، عن أبيه زيد بن سلهب، عن جويرية بنت شهر قالت: خرجت مع علي ابن أبي طالب.
فقال: يا جويرية إن رسول الله ﷺ كان يوحى إليه، ورأسه في حجري، فذكر الحديث.
وهذا الإسناد مظلم، وأكثر رجاله لا يعرفون، والذي يظهر والله أعلم أنه مركب مصنوع مما عملته أيدي الروافض، ولعن من كذب على رسول الله ﷺ وعجل له ما توعده الشارع من العذاب والنكال حيث قال وهو الصادق في المقال: « من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ».
وكيف يدخل في عقل أحد من أهل العلم أن يكون هذا الحديث يرويه علي ابن أبي طالب وفيه منقبة عظيمة له دلالة معجزة باهرة لرسول الله ﷺ ثم لا يروى عنه إلا بهذا الإسناد المظلم، المركب على رجال لا يعرفون، وهل لهم وجود في الخارج أم لا، الظاهر والله أعلم لا، ثم هو عن امرأة مجهولة العين والحال، فأين أصحاب علي الثقات، كعبيدة السلماني، وشريح القاضي، وعامر الشعبي، وأضرابهم، ثم في ترك الأئمة كمالك، وأصحاب الكتب الستة، وأصحاب المسانيد، والسنن، والصحاح، والحسان، رواية هذا الحديث وإيداعه في كتبهم أكبر دليل على أنه لا أصل له عندهم، وهو مفتعل مأفوك بعدهم.
وهذا أبو عبد الرحمن النسائي قد جمع كتابا في خصائص علي ابن أبي طالب ولم يذكره، وكذلك لم يروه الحاكم في مستدركه، وكلاهما ينسب إلى شيء من التشيع، ولا رواه من رواه من الناس المعتبرين إلا على سبيل الاستغراب والتعجب، وكيف يقع مثل هذا نهارا جهرة وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، ثم لا يروى إلا من طرق ضعيفة منكرة وأكثرها مركبة موضوعة، وأجود ما فيها ما قدمناه من طريق أحمد بن صالح المصري عن ابن أبي فديك، عن محمد بن موسى الفطري، عن عون بن محمد، عن أمه أم جعفر، عن أسماء على ما فيها من التعليل الذي أشرنا إليه فيما سلف، وقد اغتر بذلك أحمد بن صالح رحمه الله ومال إلى صحته، ورجح ثبوته.
قال الطحاوي في كتابه مشكل الحديث عن علي بن عبد الرحمن، عن أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول: لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء في رد الشمس لأنه من علامات النبوة.
وهكذا مال إليه أبو جعفر الطحاوي أيضا فيما قيل.
ونقل أبو القاسم الحسكاني هذا عن أبي عبد الله البصري المتكلم المعتزلي أنه قال: عود الشمس بعد مغيبها آكد حالا فيما يقتضي نقله، لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين فإنه من أعلام النبوة، وهو مقارن لغيره في فضائله في كثير من أعلام النبوة.
وحاصل هذا الكلام يقتضي أنه كان ينبغي أن ينقل هذا نقلا متواترا، وهذا حق لو كان الحديث صحيحا، ولكنه لم ينقل كذلك، فدل على أنه ليس بصحيح في نفس الأمر، والله أعلم.
قلت: والأئمة في كل عصر ينكرون صحة هذا الحديث ويردونه، ويبالغون في التشنيع على رواته، كما قدمنا عن غير واحد من الحفاظ: كمحمد، ويعلى بن عبيد الطنافسيين، وكإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه، وكالحافظ أبي القاسم بن عساكر، والشيخ أبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، وممن صرح بأنه موضوع شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي، والعلامة أبو العباس ابن تيمية.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، ثنا عبد الله بن الحسين بن موسى، ثنا عبد الله بن علي بن المديني قال: سمعت أبي يقول: خمسة أحاديث يروونها ولا أصل لها عن رسول الله ﷺ: حديث لو صدق السائل ما أفلح من رده، وحديث لا وجع إلا وجع العين، ولا غم إلا غم الدين، وحديث أن الشمس ردت على علي ابن أبي طالب، وحديث أنا أكرم على الله من أن يدعني تحت الأرض مائتي عام، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم إنهما كانا يغتابان.
والطحاوي رحمه الله وإن كان قد اشتبه عليه أمره، فقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله إنكاره، والتهكم بمن رواه.
قال أبو العباس بن عقدة: ثنا جعفر بن محمد بن عمير، ثنا سليمان بن عباد سمعت بشار بن دراع قال: لقي أبو حنيفة محمد بن النعمان فقال: عمن رويت حديث رد الشمس؟
فقال: عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل.
فهذا أبو حنيفة رحمه الله وهو من الأئمة المعتبرين، وهو كوفي لا يتهم على حب علي ابن أبي طالب، وتفضيله بما فضله الله به ورسوله، وهو مع هذا منكر على راويه، وقول محمد بن النعمان له ليس بجواب بل مجرد معارضة بما لا يجدي، أي: أنا رويت في فضل علي هذا الحديث، وهو وإن كان مستغربا فهو في الغرابة نظير ما رويته أنت في فضل عمر بن الخطاب في قوله: يا سارية الجبل، وهذا ليس بصحيح، من محمد ابن النعمان فإن هذا ليس كهذا، إسنادا ولا متنا، وأين مكاشفة إمام قد شهد الشارع له بأنه محدث بأمر خبر من رد الشمس طالعة بعد مغيبها الذي هو أكثر علامات الساعة؟ والذي وقع ليوشع بن نون ليس ردا للشمس عليه، بل حبست ساعة قبل غروبها بمعنى تباطأت في سيرها حتى أمكنهم الفتح، والله تعالى أعلم.
وتقدم ما أورده هذا النص من طرق هذا الحديث عن علي، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأسماء بنت عميس، وقد وقع في كتاب أبي بشر الدولابي في الذرية الطاهرة من حديث الحسين بن علي، والظاهر أنه عنه عن أبي سعيد الخدري كما تقدم، والله أعلم.
وقد قال شيخ الرافضة جمال الدين يوسف بن الحسن الملقب بابن المطهر الحلي في كتابه في الإمامة الذي رد عليه فيه شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية.
قال ابن المطهر: التاسع من رجوع الشمس مرتين: إحداهما في زمن النبي ﷺ، والثانية بعده.
أما الأولى: فروى جابر، وأبو سعيد أن رسول الله ﷺ نزل عليه جبريل يوما يناجيه من عنده الله، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المؤمنين، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، فصلى علي العصر بالإيماء، فلما استيقظ رسول الله ﷺ قال له: سل الله أن يرد عليك الشمس فتصلي قائما، فدعا فردت الشمس، فصلى العصر قائما.
وأما الثانية: فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل، اشتغل كثير من الصحابة بدوابهم، وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفات كثير منهم فتكلموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت.
قال: وقد نظمه الحميري فقال:
ردت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هوي الكوكب
وعليه قد ردت ببابل مرة * أخرى وما ردت لخلق مقرب
قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: فضل علي وولايته وعلو منزلته عند الله معلوم، ولله الحمد بطرق ثابتة، أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى ما لا يعلم صدقه، أو يعلم أنه كذب، وحديث رد الشمس قد ذكره طائفة كأبي جعفر الطحاوي، والقاضي عياض وغيرهما، وعدوا ذلك من معجزات رسول الله ﷺ، لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع.
ثم أورد طرقه واحدة واحدة كما قدمنا، وناقش أبا القاسم الحسكاني فيما تقدم، وقد أوردنا كل ذلك وزدنا عليه ونقصنا منه، والله الموفق، واعتذر عن أحمد بن صالح المصري في تصحيحه هذا الحديث بأنه اغتر بسنده، وعن الطحاوي بأنه لم يكن عنده نقل جيد للأسانيد كجهابذة الحفاظ وقال في عيون كلامه: والذي يقطع به أنه كذب مفتعل.
قلت: وإيراد ابن المطهر لهذا الحديث من طريق جابر غريب، ولكن لم يسنده، وفي سياقه ما يقتضي أن عليا هو الذي دعا برد الشمس في الأولى، والثانية، وأما إيراده لقصة بابل فليس لها إسناد، وأظنه والله أعلم من وضع الشيعة ونحوهم، فإن رسول الله ﷺ وأصحابه يوم الخندق قد غربت عليهم الشمس ولم يكونوا صلوا العصر، بل قاموا إلى بطحان وهو واد هناك فتوضئوا، وصلوا العصر بعد ما غربت الشمس، وكان علي أيضا فيهم ولم ترد لهم، وكذلك كثير من الصحابة الذين ساروا إلى بني قريظة فاتتهم العصر يومئذ حتى غربت الشمس ولم ترد لهم، وكذلك لما نام رسول الله ﷺ وأصحابه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس صلوها بعد ارتفاع النهار ولم يرد لهم الليل، فما كان الله عز وجل ليعطي عليا وأصحابه شيئا من الفضائل لم يعطها رسول الله ﷺ وأصحابه.
وأما نظم الحميري فليس فيه حجة، بل هو كهذيان ابن المطهر، هذا لا يعلم ما يقول من النثر، وهذا لا يدري صحة ما ينظم، بل كلاهما كما قال الشاعر:
إن كنت أدري فعلى بدنه * من كثرة التخليط أني من أنه
والمشهور عن علي في أرض بابل ما رواه أبو داود رحمه الله في سننه عن علي أنه مر بأرض بابل وقد حانت صلاة العصر، فلم يصل حتى جاوزها وقال: نهاني خليلي ﷺ أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة.
وقد قال أبو محمد بن حزم في كتابه الملل والنحل - مبطلا لرد الشمس على علي، بعد كلام ذكره رادا على من ادعى باطلا من الأمر - فقال: ولا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل، وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي ابن أبي طالب مرتين، حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال:
فردت علينا الشمس والليل راغم * بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى * لبهجتها نور السماء المرجع
فوالله ما أدري علي بدا لنا فردت * له أم كان في القوم يوشع
هكذا أورده ابن حزم في كتابه، وهذا الشعر تظهر عليه الركة والتركيب، وأنه مصنوع، والله أعلم.
ومما يتعلق بالآيات السماوية في باب دلائل النبوة استسقاؤه - عليه السلام ربه - عز وجل - لأمته حين تأخر المطر، فأجابه إلى سؤاله سريعا بحيث لم ينزل عن منبره إلا والمطر يتحادر على لحيته -عليه السلام -، وكذلك استصحاؤه.
قال البخاري: ثنا عمرو بن علي، ثنا أبو قتيبة، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال البخاري: وقال أبو عقيل الثقفي عن عمرو بن حمزة، ثنا سالم عن أبيه: ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه رسول الله ﷺ يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب تفرد به البخاري، وهذا الذي علقه قد أسنده ابن ماجه في سننه فرواه عن أحمد بن الأزهر، عن أبي النضر، عن أبي عقيل، عن عمر بن حمزة، عن سالم، عن أبيه.
وقال البخاري: ثنا محمد - هو ابن سلام - ثنا أبو ضمرة، ثنا شريك بن عبد الله ابن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يذكر أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله ﷺ قائم يخطب، فاستقبل رسول الله ﷺ قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله لنا يغيثنا.
قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه فقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».
قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار.
قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت.
قال: والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله ﷺ قائم يخطب، فاستقبله قائما وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، ادع الله يمسكها.
قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال، والظراب، ومنابت الشجر ».
قال: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس.
قال شريك: فسألت أنسا أهو الرجل الذي سأل أولا؟
قال: لا أدري.
وهكذا رواه البخاري أيضا، ومسلم من حديث إسماعيل بن جعفر عن شريك به.
وقال البخاري: ثنا مسدد، ثنا أبو عوانة عن قتادة، عن أنس قال: بينما رسول الله ﷺ يخطب يوم جمعة إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله قحط المطر، فادع الله أن يسقينا، فدعا، فمطرنا فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة.
قال: فقام ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله ادع الله أن يصرفه عنا.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
قال: فلقد رأيت السحاب ينقطع يمينا، وشمالا، يمطرون ولا يمطر أهل المدينة.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: هلكت المواشي، وتقطعت السبل فادع الله، فدعا فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة.
ثم جاء فقال: تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فادع الله أن يمسكها.
فقال: « اللهم على الآكام والظراب، والأودية ومنابت الشجر »
فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.
وقال البخاري: ثنا محمد بن مقاتل، ثنا عبد الله، ثنا الأوزاعي، ثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة الأنصاري، حدثني أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله ﷺ فبينا رسول الله ﷺ يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا.
قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه، وما في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته.
قال: فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد، ومن بعد الغد، والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره - فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا.
فرفع رسول الله ﷺ يديه فقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
قال: فما جعل رسول الله ﷺ يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوية، وسال الوادي - قناة - شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ورواه البخاري: أيضا في الجمعة، ومسلم من حديث الوليد عن الأوزاعي.
وقال البخاري: وقال أيوب بن سليمان: حدثني أبو بكر ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال قال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس بن مالك قال: أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله ﷺ يوم الجمعة فقال: يا رسول الله هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس.
فرفع رسول الله ﷺ يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم مع رسول الله ﷺ يدعون.
قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى.
فأتى الرجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله بشق المسافر، ومنع الطريق.
قال البخاري: وقال الأويسي - يعني: عبد الله -: حدثني محمد بن جعفر - هو ابن كثير - عن يحيى بن سعيد وشريك سمعا أنسا عن النبي ﷺ رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.
هكذا علق هذين الحديثين، ولم يسندهما أحد من أصحاب الكتب الستة بالكلية.
وقال البخاري: ثنا محمد ابن أبي بكر قال: حدثنا معتمر عن عبيد الله، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا: يا رسول الله قحط المطر، واحمرت الشجر، وهلكت البهائم، فادع الله أن يسقينا.
فقال: « اللهم اسقنا » مرتين، وأيم الله ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة وأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها.
فلما قام النبي ﷺ يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله يحبسها عنا.
قال: فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا » فتكشطت المدينة فجعلت تمطر حولها، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وأنها لفي مثل الإكليل.
وقد رواه مسلم من حديث معتمر بن سليمان عن عبيد الله - وهو ابن عمر العمري - به وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد قال: سئل أنس هل كان رسول الله ﷺ يرفع يديه؟
فقال: قيل له يوم الجمعة: يا رسول الله قحط المطر، وأجدبت الأرض، وهلك المال.
قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه فاستسقى، ولقد رفع يديه فاستسقى، ولقد رفع يديه وما نرى في السماء سحابة، فما قضينا الصلاة حتى أن الشاب قريب الدار ليهمه الرجوع إلى أهله.
قال: فلما كانت الجمعة التي تليها قالوا: يا رسول الله تهدمت البيوت، واحتبست الركبان.
فتبسم رسول الله - ﷺ - من سرعة ملالة ابن آدم وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
قال: فتكشطت عن المدينة، وهذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجوه.
وقال البخاري، وأبو داود واللفظ له: ثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، وعن يونس بن عبيد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله ﷺ، فبينا هو يخطب يوم جمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلكت الكراع، هلكت الشاء، فادع الله يسقينا.
فمد يده ودعا قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت الريح أنشأت سحابا ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عزاليها، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم تزل تمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل - أو غيره - فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت، فادع الله يحبسه، فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: « حوالينا ولا علينا » فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة، كأنه إكليل.
فهذه طرق متواترة، عن أنس بن مالك، لأنها تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن.
وقال البيهقي بإسناده من غير وجه إلى أبي معمر سعيد ابن أبي خيثم الهلالي عن مسلم الملائي، عن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله والله لقد أتيناك وما لنا بعير يبسط ولا صبي يصطبح، وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمي لبانها * وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى لاستكانة * من الجوع ضعفا قائما وهو لا يخلي
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
قال: فقام رسول الله ﷺ وهو يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم رفع يديه نحو السماء وقال: « اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا سريعا، غدقا طبقا، عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون ».
قال: فوالله ما رد يده إلى نحره حتى ألقت السماء بأوراقها، وجاء أهل البطانة يصيحون: يا رسول الله الغرق الغرق، فرفع يديه إلى السماء وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا ».
فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل، فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه ثم قال: « لله در أبي طالب لو كان حيا قرت عيناه، من ينشد قوله؟ »
فقام علي ابن أبي طالب فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله:
وأبيض يستقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله يبزى محمد * ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
قال: وقام رجل من بني كنانة فقال:
لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة * إليه وأشخص منه البصر
فلم يك إلا كلف الرداء * وأسرع حتى رأينا الدرر
رقاق العوالي عم البقاع * أغاث به الله عينا مضر
وكان كما قاله عمه * أبو طالب أبيض ذو غرر
به الله يسقي بصوب الغمام * وهذا العيان كذاك الخبر
فمن يشكر الله يلقى المزيد * ومن يكفر الله يلقى الغير
قال: فقال رسول الله ﷺ: « إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت ».
وهذا السياق فيه غرابة، ولا يشبه ما قدمنا من الروايات الصحيحة المتواترة عن أنس فإن كان هذا هكذا محفوظا فهو قصة أخرى غير ما تقدم، والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: أنا أبو بكر ابن الحارث الأصبهاني، ثنا أبو محمد ابن حبان، ثنا عبد الله بن مصعب، ثنا عبد الجبار، ثنا مروان بن معاوية، ثنا محمد ابن أبي ذئب المدني عن عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب الجمحي، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السلمي قال: لما قفل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك، أتاه وفد بني فزارة فيهم بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن الحصين، والحر بن قيس - وهو أصغرهم - ابن أخي عيينة بن حصن، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل ضعاف عجاف وهم مسنتون، فأتوا رسول الله ﷺ مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله ﷺ عن بلادهم.
قالوا: يا رسول الله أسنتت بلادنا وأجدبت أحياؤنا، وعريت عيالنا، وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك.
فقال رسول الله ﷺ: « سبحان الله، ويلك هذا ما شفعت إلى ربي فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا الله وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرجل الجديد ».
قال رسول الله ﷺ « إن الله يضحك من شفقتكم وأزلكم وقرب غياثكم ».
فقال الأعرابي: ويضحك ربنا يا رسول الله؟
قال: نعم!
فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرا.
فضحك رسول الله ﷺ من قوله، فقام رسول الله ﷺ فصعد المنبر، وتكلم بكلام ورفع يديه - وكان رسول الله ﷺ لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء - ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: « اللهم اسق بلدك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريئا مريعا، طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، ولا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء ».
فقام أبو لبابة ابن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا ».
فقال أبو لبابة: التمر في المرابد ثلاث مرات.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا فيسد ثعلب مربده بإزاره ».
قال: فلا والله ما في السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت وهم ينظرون ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس ستا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.
فقال رجل: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل.
فصعد النبي ﷺ المنبر فدعا ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال: « اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر ».
فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب، وهذا السياق يشبه سياق مسلم الملائي عن أنس.
ولبعضه شاهد في سنن أبي داود، وفي حديث أبي رزين العقيلي شاهد لبعضه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل: أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن علي بن المؤمل، أنا أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ، أنا عبد الرحمن ابن أبي حاتم، ثنا محمد بن حماد الظهراني، أنا سهل بن عبد الرحمن المعروف بالسدي بن عبدويه عن عبد الله بن عبد الله ابن أبي أويس المدني، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي لبابة، عن عبد المنذر الأنصاري قال: استسقى رسول الله ﷺ يوم الجمعة وقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».
فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد وما في السماء من سحاب نراه.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا ».
فقام أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة يسد ثعلب مربدة بإزاره ».
فاستهلت السماء أمطرت، وصلى بنا رسول الله ﷺ فأتى القوم أبا لبابة يقولون له: يا أبا لبابة إن السماء والله لن تقلع حتى تقوم عريانا فتسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله ﷺ.
قال: فقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره فأقلعت السماء.
وهذا إسناد حسن، ولم يروه أحمد، ولا أهل الكتب، والله أعلم.
وقد وقع مثل هذا الاستسقاء في غزوة تبوك في أثناء الطريق، كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد ابن أبي هلال، عن عتبة ابن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة.
فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يجده حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده.
فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا.
فقال: « أوتحب ذلك؟ ».
قال: نعم!
قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وهذا إسناد جيد قوي، ولم يخرجوه.
وقد قال الواقدي: كان مع المسلمين في هذه الغزوة إثنا عشر ألف بعير، ومثلها من الخيل، وكانوا ثلاثين ألفا من المقاتلة قال: ونزل من المطر ماء أغدق الأرض حتى صارت الغدران تسكب بعضها في بعض، وذلك في حمأة القيظ - أي شدة الحر البليغ - فصلوات الله وسلامه عليه، وكم له عليه السلام من مثل هذا في غير ما حديث صحيح ولله الحمد، وقد تقدم أنه لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعا كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز، ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم.
وقد قال البخاري: ثنا الحسن بن محمد، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أبي عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.
قال: فيسقون.
تفرد به البخاري.
فصل في المعجزات الأرضية
فمنها ما هو متعلق بالجمادات، ومنها ما هو متعلق بالحيوانات.
فمن المتعلق بالجمادات: تكثيره الماء في غير ما موطن على صفات متنوعة سنوردها بأسانيدها إن شاء الله، وبدأنا بذلك لأنه أنسب باتباع ما أسلفنا ذكره من استسقائه، وإجابة الله له.
قال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله ﷺ وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول الله ﷺ بوضوء، فوضع رسول الله ﷺ يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم.
وقد رواه مسلم والترمذي، والنسائي من طرق عن مالك به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق أخرى عن أنس:
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، ثنا حزم سمعت الحسن يقول: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ خرج ذات يوم لبعض مخارجه معه ناس من أصحابه فانطلقوا يسيرون فحضرت الصلاة فلم يجد القوم ما يتوضؤون به.
فقالوا: يا رسول الله ما نجد ما نتوضأ به، ورأى في وجوه أصحابه كراهية ذلك، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير، فأخذ نبي الله فتوضأ منه، ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: « هلموا فتوضؤوا » فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء.
قال الحسن: سئل أنس كم بلغوا؟
قال: سبعين، أو ثمانين.
وهكذا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن المبارك العنسي، عن حزم بن مهران القطيعي به.
طريق أخرى عن أنس:
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد ويزيد قال: أنا حميد المعني عن أنس بن مالك قال: نودي بالصلاة فقام كل قريب الدار من المسجد، وبقي من كان أهله نائي الدار، فأتى رسول الله ﷺ بمخضب من حجارة فصغر أن يبسط كفه فيه قال: فضم أصابعه.
قال: فتوضأ بقيتهم.
قال حميد: وسئل أنس كم كانوا؟
قال: ثمانين أو زيادة.
وقد روى البخاري عن عبد الله بن منير، عن يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس بن مالك قال: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار من المسجد يتوضأ وبقي قوم، فأتى رسول الله ﷺ بمخضب فيه ماء، فوضع كفه فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فضم أصابعه فوضعها في المخضب فتوضأ القوم كلهم جميعا.
قلت: كم كانوا؟
قال: كانوا ثمانين رجلا.
طريق أخرى عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد إملاء عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ كان بالزوراء فأتى بإناء فيه ماء لا يغمر أصابعه، فأمر أصحابه أن يتوضؤوا فوضع كفه في الماء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم.
قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟
قال: كنا ثلاثمائة.
وهكذا رواه البخاري عن بندار بن أبي عدي، ومسلم عن أبي موسى، عن غندر، كلاهما عن سعيد ابن أبي عروبة، وبعضهم يقول عن شعبة، والصحيح سعيد عن قتادة، عن أنس قال: أتي رسول الله ﷺ بإناء وهو في الزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم.
قال قتادة: فقلت لأنس: كم كنتم؟
قال: ثلاثمائة، أو زهاء ثلاثمائة.
لفظ البخاري.
حديث البراء بن عازب في ذلك:
قال البخاري: ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس رسول الله ﷺ على شفير البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر، فمكثنا غير بعيد، ثم استقينا حتى روينا وروت أو صدرت ركابنا.
تفرد به البخاري إسنادا ومتنا.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان وهاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا يونس - هو ابن عبيدة مولى محمد بن القاسم - عن البراء قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فأتينا على ركى ذمة - يعني: قليلة الماء - قال: فنزل فيها ستة أناس أنا سادسهم ماحة فأدليت إلينا دلو.
قال: ورسول الله ﷺ على شفتي الركي، فجعلنا فيها نصفها، أو قراب ثلثيها، فرفعت إلى رسول الله ﷺ.
قال البراء: فكدت بإنائي هل أجد شيئا أجعله في حلقي؟ فما وجدت فرفعت الدلو إلى رسول الله - ﷺ -، فغمس يده فيها فقال ما شاء الله أن يقول، وأعيدت إلينا الدلو بما فيها.
قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق.
قال: ثم ساحت - يعني: جرت نهرا -.
تفرد به الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي، والظاهر قصة أخرى غير يوم الحديبية، والله أعلم.
حديث آخر عن جابر في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا سنان بن حاتم، ثنا جعفر - يعني: ابن سليمان -، ثنا الجعد أبو عثمان، ثنا أنس بن مالك عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: اشتكى أصحاب رسول الله -، ﷺ - إليه العطش.
قال: فدعا بعس فصب فيه شيء من الماء، ووضع رسول الله ﷺ يده فيه وقال: « استقوا ».
فاستقى الناس قال: فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابع رسول الله ﷺ.
تفرد به أحمد من هذا الوجه، وفي أفراد مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن جابر بن عبد الله في حديث طويل قال فيه: سرنا مع رسول الله ﷺ حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول الله ﷺ يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله فلم ير شيئا يستتر به، وإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله ﷺ إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: « انقادي علي بإذن الله ».
فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: « انقادي علي بإذن الله »
فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنتصف مما بينهما لأم بينهما - يعني جمعهما - فقال: « التئما علي بإذن الله » فالتأمتا.
قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله بقربي فيبتعد، فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله وإذا بالشجرتين قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله وقف وقفة فقال برأسه هكذا يمينا وشمالا، ثم أقبل فلما انتهى إلي قال: « يا جابر هل رأيت مقامي؟ »
قلت: نعم يا رسول الله.
قال: « فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا، فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك، وغصنا عن شمالك ».
قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحددته فاندلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت حتى قمت مقام رسول الله ﷺ أرسلت غصنا عن يميني، وغصنا عن يساري، ثم لحقت فقلت: قد فعلت يا رسول الله.
قال: فقلت: فلم ذاك؟
قال: « إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام الغصنان رطبين ».
قال: فأتينا العسكر فقال رسول الله ﷺ « يا جابر ناد الوضوء ».
فقلت: ألا وضوء، ألا وضوء، ألا وضوء ».
قال: قلت: يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله في أشجاب له على حمارة من جريد.
قال: فقال لي: « انطلق إلى فلان الأنصاري فانظر هل ترى في أشجابه من شيء؟ »
قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغته لشربه يابسه.
قال: « إذهب فأتني » فأتيته فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو وغمزني بيده، ثم أعطانيه فقال: « يا جابر ناد بجفنة ».
فقلت: يا جفنة الركب، فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه.
فقال رسول الله بيده في الجفنة هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة وقال: « خذ يا جابر فصب علي وقل: بسم الله »
فصببت عليه وقلت: بسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله - ﷺ، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت.
فقال يا جابر: « ناد من كانت له حاجة بماء ».
قال: فأتى الناس فاستقوا حتى رووا.
فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟
فرفع رسول الله ﷺ يده من الجفنة وهي ملأى.
قال: وشكى الناس إلى رسول الله ﷺ الجوع.
فقال: « عسى الله أن يطعمكم ».
فأتينا سيف البحر فزجر زجرة فألقى دابة، فأورينا على شقها النار فطبخنا واشتوينا، وأكلنا وشبعنا.
قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان وفلان حتى عد خمسة في محاجر عينها ما يرانا أحد حتى خرجنا، وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوسناه، ثم دعونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم حمل في الركب، وأعظم كفل في الركب، فدخل تحتها ما يطأطئ رأسه.
وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن مسلم، ثنا حصين عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي ﷺ بين يديه ركوة بيضاء، فجهش الناس نحوه.
قال: « مالكم »؟
قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ، ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا.
قلت: كم كنتم؟
قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
وهكذا رواه مسلم من حديث حصين، وأخرجاه من حديث الأعمش، زاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن جابر بن سالم، عن جابر.
وفي رواية الأعمش: كنا أربع عشرة مائة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حماد، ثنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس، عن شقيق العبدي أن جابر بن عبد الله قال: غزونا أو سافرنا مع رسول الله ﷺ ونحن يومئذ بضع عشر ومائتان، فحضرت الصلاة فقال رسول الله ﷺ: « هل في القوم من ماء؟ »
فجاءه رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء.
قال: فصبه رسول الله ﷺ في قدح.
قال: فتوضأ رسول الله ﷺ فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، فركب الناس القدح تمسحوا وتمسحوا.
فقال رسول الله ﷺ: « على رسلكم » حين سمعهم يقولون ذلك.
قال: فوضع رسول الله ﷺ كفه في الماء، ثم قال رسول الله ﷺ: « بسم الله » ثم قال: « أسبغوا الوضوء ».
قال جابر: فوالذي هو ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابع رسول الله ﷺ، فما رفعها حتى توضؤوا أجمعون.
وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد، وظاهره كأنه قصة أخرى غير ما تقدم.
وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله ﷺ ونحن أربع عشرة مائة، أو أكثر من ذلك، وعليها خمسون رأسا لا يرويها، فقعد رسول الله على شفا الركية فإما دعا وإما بصق فيها.
قال: فجاشت فسقينا واستقينا.
وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة، عن المسور ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل: فعدل عنهم رسول الله ﷺ حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله ﷺ العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
وقد تقدم الحديث بتمامه في صلح الحديبية، فأغنى عن إعادته.
وروى ابن إسحاق عن بعضهم أن الذي نزل بالسهم ناجية بن جندب سائق البدن قال: وقيل: البراء بن عازب، ثم رجح ابن إسحاق الأول.
حديث آخر عن ابن عباس في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا حسين الأشقر، ثنا أبو كدينة عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن عباس أصبح رسول الله ﷺ ذات يوم وليس في العسكر ماء، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ليس في العسكر ماء قال: « هل عندك شيء؟ »
قال: نعم.
قال: « فأتني ».
قال: فأتاه بإناء فيه شيء من ماء قليل.
قال: فجعل رسول الله ﷺ أصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه.
قال: فانفجرت من بين أصابعه عيون، وأمر بلالا فقال: « ناد في الناس الوضوء المبارك ».
تفرد به أحمد.
ورواه الطبراني من حديث عامر الشعبي عن ابن عباس بنحوه.
حديث عن عبد الله بن مسعود في ذلك
قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا إسرائيل عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فقل الماء.
فقال: « اطلبوا فضلة من ماء ».
فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: « حي على الطهور المبارك، والبركة من الله عز وجل ».
قال: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ﷺ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
ورواه الترمذي عن بندار، عن ابن أحمد وقال: حسن صحيح.
حديث عن عمران بن حصين في ذلك:
قال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا مسلم بن زيد سمعت أبا رجاء قال: حدثنا عمران بن حصين أنهم كانوا مع رسول الله ﷺ في مسير فأدلجوا ليلتهم، حتى إذا كان وجه الصبح عرسوا فغلبتهم أعينهم حتى ارتفعت الشمس، فكان أول من استيقظ من منامه أبو بكر، وكان لا يوقظ رسول الله ﷺ من منامه حتى يستيقظ، فاستيقظ عمر، فقعد أبو بكر عند رأسه فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ النبي ﷺ فنزل وصلى بنا الغداة، فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا، فلما انصرف قال: « يا فلان ما يمنعك أن تصلي معنا؟ ».
قال: أصابتني جنابة، فأمره أن يتيمم بالصعيد ثم صلى، وجعلني رسول الله ﷺ في ركوب بين يديه، وقد عطشنا عطشا شديدا، فبينما نحن نسير مع رسول الله ﷺ إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين.
فقلنا لها: أين الماء؟
قالت: إنه لا ماء.
فقلنا: كم بين أهلك وبين الماء؟
قالت: يوم وليلة.
فقلنا: انطلقي إلى رسول الله ﷺ.
قالت: وما رسول الله؟
فلم نملكها من أمرها حتى استقبلنا بها النبي - ﷺ - فحدثته بمثل الذي حدثتنا غير أنها حدثته أنها موتمة، فأمر بمزادتها فمسح في العزلاوين فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا، وملأنا كل قربة معنا وإداوة غير أنه لم نسق بعيرا، وهي تكاد تفضي من الملء.
ثم قال: « هاتوا ما عندكم » فجمع لها من الكسر والتمر حتى أتت أهلها.
قالت: أتيت أسحر الناس أو هو نبي كما زعموا.
فهدى الله ذاك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا.
وكذلك رواه مسلم من حديث سلم بن رزين، وأخرجاه من حديث عوف الأعرابي، كلاهما عن رجاء العطاردي - واسمه عمران بن تيم - عن عمران بن حصين به.
وفي رواية لهما قال لها: « اذهبي بهذا معك لعيالك، واعلمي أنا لم نرزأك من مائك شيئا غير أن الله سقانا ».
وفيه أنه لما فتح العزلاوين سمى الله - عز وجل -.
حديث عن أبي قتادة في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، ثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فقال: « إنكم إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا ».
وانطلق سرعان الناس يريدون الماء، ولزمت رسول الله ﷺ، فمالت برسول الله ﷺ راحلته فنعس رسول الله ﷺ فدعمته فادعم، ثم مال فدعمته فادعم، ثم مال حتى كاد أن ينجفل عن راحلته فدعمته فانتبه فقال: « من الرجل؟ »
فقلت: أبو قتادة.
قال: « منذ كم كان مسيرك؟ »
قلت: منذ الليلة.
قال: « حفظك الله كما حفظت رسوله ».
ثم قال: « لو عرسنا » فمال إلى شجرة فنزل فقال: « أنظر هل ترى أحدا؟ ».
قلت: هذا راكب، هذان راكبان، حتى بلغ سبعة.
فقال: « احفظوا علينا صلاتنا ».
فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فانتبهنا، فركب رسول الله ﷺ فسار وسرنا هنيهة، ثم نزل فقال: « أمعكم ماء؟ »
قال: قلت: نعم معي ميضأة فيها شيء من ماء.
قال: « إئت بها ».
قال: فأتيته بها.
فقال: « مسوا منها، مسوا منها ».
فتوضأ القوم وبقيت جرعة فقال: « ازدهر بها يا أبا قتادة فإنه سيكون لها نبأ ».
ثم أذن بلال وصلوا الركعتين قبل الفجر، ثم صلوا الفجر، ثم ركب وركبنا فقال: بعضهم لبعض فرطنا في صلاتنا.
فقال رسول الله ﷺ: « ما تقولون إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإلي ».
قلنا: يا رسول الله فرطنا في صلاتنا.
فقال: « لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإن كان ذلك فصلوها ومن الغد وقتها ».
ثم قال: « ظنوا بالقوم ».
قالوا: إنك قلت بالأمس: « إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا » فالناس بالماء.
قال: فلما أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم.
فقال بعضهم لبعض: إن رسول الله ﷺ بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر فقالا: أيها الناس إن رسول الله ﷺ لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا قالها ثلاثا، فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول الله ﷺ.
فقالوا: يا رسول الله هلكنا عطشا، تقطعت الأعناق.
فقال: « لا هلك عليكم ».
ثم قال: « يا أبا قتادة إئت بالميضأة »
فأتيته بها فقال: « إحلل لي غمري » - يعني: قدحه - فحللته، فأتيته به فجعل يصب فيه ويسقي الناس، فازدحم الناس عليه.
فقال رسول الله ﷺ: « يا أيها الناس أحسنوا الملأ، فكلكم سيصدر عن ري »
فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله ﷺ، فصب لي فقال: « إشرب يا أبا قتادة ».
قال: قلت: إشرب أنت يا رسول الله.
قال: « إن ساقي القوم آخرهم ».
فشربت وشرب بعدي، وبقي في الميضأة نحو ما كان فيها، وهم يومئذ ثلاثمائة.
قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال: من الرجل؟
قلت: أنا عبد الله بن رباح الأنصاري.
قال: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدث فإني أحد السبعة تلك الليلة.
فلما فرغت قال: ما كنت أحسب أحدا يحفظ هذا الحديث غيري.
قال حماد بن سلمة: وحدثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الموصلي، عن النبي ﷺ بمثله.
وزاد قال: كان رسول الله ﷺ إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، وإذا عرس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى، وأقام ساعده.
وقد رواه مسلم عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الحرث بن ربعي الأنصاري بطوله، وأخرج من حديث حماد بن سلمة بسنده الأخير أيضا.
حديث آخر عن أنس يشبه هذا:
روى البيهقي من حديث الحافظ أبي يعلى الموصلي: ثنا شيبان، ثنا سعيد بن سليمان الضبعي، ثنا أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ جهز جيشا إلى المشركين فيهم أبو بكر فقال لهم: « جدوا السير فإن بينكم وبين المشركين ماء، إن يسبق المشركون إلى ذلك الماء شق على الناس وعطشتم عطشا شديدا أنتم ودوابكم ».
قال: وتخلف رسول الله ﷺ في ثمانية أنا تاسعهم وقال لأصحابه: « هل لكم أن نعرس قليلا، ثم نلحق بالناس ».
قالوا: نعم يا رسول الله، فعرسوا فما أيقظهم إلا حر الشمس، فاستيقظ رسول الله ﷺ واستيقظ أصحابه فقال لهم: « تقدموا واقضوا حاجاتكم » ففعلوا، ثم رجعوا إلى رسول الله ﷺ.
فقال لهم: « هل مع أحد منكم ماء؟ »
قال رجل منهم: يا رسول الله معي ميضأة فيها شيء من ماء.
قال: « فجئ بها ».
فجاء بها، فأخذها نبي الله ﷺ فمسحها بكفيه ودعا بالبركة فيها وقال لأصحابه: « تعالوا فتوضؤوا » فجاءوا وجعل يصب عليهم رسول الله ﷺ حتى توضؤوا كلهم، فأذن رجل منهم وأقام، فصلى رسول الله ﷺ لهم وقال لصاحب الميضأة: « ازدهر بميضأتك فسيكون لها شأن ».
وركب رسول الله ﷺ قبل الناس وقال لأصحابه: « ما ترون الناس فعلوا؟ »
فقالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال لهم: « فيهم أبو بكر، وعمر وسيرشد الناس ».
فقدم الناس وقد سبق المشركون إلى ذلك الماء، فشق ذلك على الناس وعطشوا عطشا شديدا ركابهم ودوابهم.
فقال رسول الله ﷺ: « أين صاحب الميضأة؟ »
قالوا: هو هذا يا رسول الله.
قال: « جئني بميضأتك ».
فجاء بها وفيها شيء من ماء فقال لهم: « تعالوا فاشربوا » فجعل يصب لهم رسول الله ﷺ، حتى شرب الناس كلهم، وسقوا دوابهم وركابهم، وملأوا ما كان معهم من إداوة وقربة ومزادة، ثم نهض رسول الله ﷺ وأصحابه إلى المشركين، فبعث الله ريحا فضرب وجوه المشركين، وأنزل الله نصره وأمكن من ديارهم، فقتلوا مقتلة عظيمة، وأسروا أسارى كثيرة، واستاقوا غنائم كثيرة، ورجع رسول الله ﷺ والناس وافرين صالحين.
وقد تقدم قريبا عن جابر ما يشبه هذا، وهو في صحيح مسلم.
وقدمنا في غزوة تبوك ما رواه مسلم من طريق مالك عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل، فذكر حديث جمع الصلاة في غزوة تبوك إلى أن قال: وقال: - يعني رسول الله ﷺ: « إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى ضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي ».
قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء، فسألهما رسول الله ﷺ: « هل مسستما من مائها شيئا؟ »
قالا: نعم، فسبهما، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله - ﷺ - وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال رسول الله - ﷺ -: « يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا ».
وذكرنا في باب الوفود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن الحارث الصدائي في قصة وفادته، فذكر حديثا طويلا فيه.
ثم قلنا: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وقد أسلمنا وكل من حولنا عدو، فادع الله لنا في بئرنا فيسعنا ماؤها، فنجتمع عليه ولا نتفرق، فدعا بسبع حصيات ففركهن بيده ودعا فيهن ثم قال: « اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيتم البئر فألقوا واحدة، واحدة، واذكروا الله عز وجل ».
قال الصدائي: ففعلنا ما قال لنا فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها - يعني: البئر -.
وأصل هذا الحديث في المسند، وسنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه.
وأما الحديث بطوله ففي دلائل النبوة للبيهقي رحمه الله.
وقال البيهقي:
باب ما ظهر في البئر التي كانت بقباء من بركته صلى الله عليه وسلم
أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي، ثنا أبو حامد بن الشرقي، أنا أحمد بن حفص بن عبد الله، نا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك أتاهم بقباء فسأله عن بئر هناك.
قال: فدللته عليها.
فقال: لقد كانت هذه وإن الرجل لينضح على حماره فينزح، فجاء رسول الله ﷺ وأمر بذنوب فسقي، فإذا أن يكون توضأ منه، وإما أن يكون تفل فيه ثم أمر به فأعيد في البئر.
قال: فما نزحت بعد.
قال: فرأيته بال، ثم جاء فتوضأ ومسح على جنبه ثم صلى.
وقال أبو بكر البزار: ثنا الوليد بن عمرو بن مسكين، ثنا محمد بن عبد الله بن مثنى عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس قال: أتى رسول الله ﷺ فنزلنا فسقيناه من بئر لنا في دارنا كانت تسمى النزور في الجاهلية، فتفل فيها، فكانت لا تنزح بعد.
ثم قال: لا نعلم هذا يروى إلا من هذا الوجه.
باب تكثيره عليه السلام الأطعمة
تكثيره اللبن في مواطن أيضا:
قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا عمر بن ذر عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله - عز وجل - وما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر عمر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر أبو القاسم ﷺ فعرف ما في وجهي، وما في نفسي فقال أبا هريرة: قلت له: لبيك يا رسول الله.
فقال: « إلحق » واستأذنت فأذن لي، فوجدت لبنا في قدح قال: « من أين لكم هذا اللبن؟ »
فقالوا: أهداه لنا فلان، أو آل فلان.
قال: « أبا هر ».
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: « انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي ».
قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، إذا جاءت رسول الله ﷺ هدية، أصاب منها وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها.
قال: وأحزنني ذلك، وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها بقية يومي وليلتي.
وقلت: أنا الرسول، فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم.
وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فانطلقت فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت ثم قال: « أبا هر خذ فأعطهم ».
فأخذت القدح فجعلت أعطيهم، فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد القدح، حتى أتيت على آخرهم، ودفعت إلى رسول الله ﷺ فأخذ القدح فوضعه في يده، وبقي فيه فضلة، ثم رفع رأسه ونظر إلي وتبسم وقال: « أبا هر ».
فقلت: لبيك رسول الله.
قال: « بقيت أنا وأنت ».
فقلت: صدقت يا رسول الله.
قال: « فاقعد فاشرب ».
قال: فقعدت فشربت.
ثم قال لي: « إشرب » فشربت.
فما زال يقول لي: « إشرب » فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له في مسلكا.
قال: « ناولني القدح » فرددت إليه القدح فشرب من الفضلة.
ورواه البخاري عن أبي نعيم، وعن محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، وأخرجه الترمذي عن عباد بن يونس بن بكير، ثلاثتهم عن عمر بن ذر.
وقال الترمذي: صحيح.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبوبكر ابن عياش، حدثني عن زر، عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنما لعقبة ابن أبي معيط فمر بي رسول الله ﷺ وأبو بكر فقال: « يا غلام هل من لبن؟ »
قال: فقلت: نعم، ولكني مؤتمن.
قال: « فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ »
فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.
قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول.
قال: فمسح رأسي وقال: « يا غلام يرحمك الله، فإنك عليم معلم ».
ورواه البيهقي من حديث أبي عوانة عن عاصم، عن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود وقال فيه: فأتيته بعناق جذعة فاعتقلها، ثم جعل يمسح ضرعها ويدعو، وأتاه أبو بكر بجفنة فحلب فيها وسقى أبا بكر، ثم شرب ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.
فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، فمسح رأسي وقال: « إنك غلام معلم » فأخذت عنه سبعين سورة ما نازعنيها بشر.
وتقدم في الهجرة حديث أم معبد وحلبه عليه السلام شاتها وكانت عجفاء لا لبن لها، فشرب هو وأصحابه، وغادر عندها إناء كبيرا من لبن، حتى جاء زوجها.
وتقدم في ذكر من كان يخدمه من غير مواليه عليه السلام المقداد بن الأسود حين شرب اللبن الذي كان قد جاء لرسول الله ﷺ، ثم قام في الليل ليذبح له شاة، فوجد لبنا كثيرا، فحلب ما ملأ منه إناء كبيرا جدا، الحديث.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا زهير عن أبي إسحاق، عن ابنة حباب أنها أتت رسول الله ﷺ بشاة فاعتقلها وحلبها فقال: « إئتني بأعظم إناء لكم » فأتيناه بجفنة العجين، فحلب فيها حتى ملأها ثم قال: « اشربوا أنتم وجيرانكم ».
وقال البيهقي: أنا أبو الحسين بن بشران ببغداد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا محمد بن الفرج الأزرق، ثنا عصمة بن سليمان الخزار، ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني، عن نافع - وكانت له صحبة - قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر وكنا زهاء أربعمائة، فنزلنا في موضع ليس فيه ماء فشق ذلك على أصحابه وقالوا: رسول الله ﷺ أعلم.
قال: فجاءت شويهة لها قرنان فقامت بين يدي رسول الله -ﷺ -، فحلبها فشرب حتى روي، وسقى أصحابه حتى رووا ثم قال: « يا نافع املكها الليلة وما أراك تملكها ».
قال: فأخذتها فوتدت لها وتدا، ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا، فجئت رسول الله فأخبرته من قبل أن يسألني وقال: « يا نافع ذهب بها الذي جاء بها ».
قال البيهقي: ورواه محمد بن سعد عن خلف بن الوليد أبي الوليد الأزدي، عن خلف بن خليفة، عن أبان وهذا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا.
ثم قال البيهقي: أنا أبو سعيد الماليني، أنا أبو أحمد بن عدي، أنا ابن العباس بن محمد بن العباس، ثنا أحمد بن سعيد ابن أبي مريم، ثنا أبو حفص الرياحي، ثنا عامر ابن أبي عامر الخزاز عن أبيه، عن الحسن، عن سعد - يعني: مولى أبي بكر - قال: قال رسول الله ﷺ: « احلب لي العنز ».
قال: وعهدي بذلك الموضع لا عنز فيه.
قال: فأتيت فإذا العنز حافل.
قال: فاحتلبتها واحتفظت بالعنز، وأوصيت بها قال: فاشتغلنا بالرحلة ففقدت العنز.
فقلت: يا رسول الله قد فقدت العنز.
فقال: « إن لها ربا ».
وهذا أيضا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا، وفي إسناده من لا يعرف حاله، وسيأتي حديث الغزالة في قسم ما يتعلق من المعجزات بالحيوانات.
تكثيره عليه السلام السمن لأم سليم
قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا شيبان، ثنا محمد بن زيادة البرجمي عن أبي طلال، عن أنس، عن أمه قال: كانت لها شاة فجمعت من سمنها في عكة فملأت العكة ثم بعثت بها مع ربيبة فقالت: يا ربيبة أبلغي هذه العكة رسول الله ﷺ يأتدم بها.
فانطلقت بها ربيبة حتى أتت رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله هذه عكة سمن بعثت بها إليك أم سليم، قال: « أفرغوا لها عكتها » ففرغت العكة فدفعت إليها، فانطلقت بها وجاءت وأم سليم ليست في البيت، فعلقت العكة على وتد، فجاءت أم سليم فرأت العكة ممتلئة تقطر فقالت أم سليم: يا ربيبة أليس أمرتك أن تنطلقي بها إلى رسول الله؟
فقالت: قد فعلت فإن لم تصدقيني فانطلقي فسلي رسول الله - ﷺ -، فانطلقت ومعها ربيبة فقالت: يا رسول الله إني بعثت معها إليك بعكة فيها سمن.
قال: « قد فعلت، قد جاءت ».
قالت: والذي بعثك بالحق، ودين الحق، إنها لممتلئة تقطر سمنا.
قال: فقال لها رسول الله ﷺ: « يا أم سليم أتعجبين إن كان الله أطعمك كما أطعمت نبيه؟ كلي وأطعمي ».
قالت: فجئت إلى البيت فقسمت في قعب لنا وكذا وكذا، تركت فيها ما ائتدمنا به شهرا أو شهرين.
حديث آخر في ذلك:
قال البيهقي: أنا الحاكم، أنا الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا علي بن بحر القطان، ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني، عن يوسف بن خالد، عن أوس بن خالد، عن أم أوس البهزية قالت: سليت سمنا لي فجعلته في عكة فأهديته لرسول الله فقبله، وترك في العكة قليلا ونفخ فيها، ودعا بالبركة ثم قال: « ردوا عليها عكتها » فردوها عليها وهي مملوءة سمنا.
قالت: فظننت أن رسول الله لم يقبلها، فجاءت ولها صراخ فقالت: يا رسول الله إنما سليته لك لتأكله، فعلم أنه قد استجيب له.
فقال: « إذهبوا فقولوا لها: فلتأكل سمنها، وتدعو بالبركة ».
فأكلت بقية عمر النبي ﷺ وولاية أبي بكر وولاية عمر، وولاية عثمان حتى كان من أمر علي ومعاوية ما كان.
حديث آخر:
روى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الأعلى بن المسور القرشي، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة قال: كانت امرأة من دوس يقال لها: أم شريك أسلمت في رمضان، فذكر الحديث في هجرتها وصحبة ذلك اليهودي لها، وأنها عطشت فأبى أن يسقيها حتى تهود، فنامت فرأت في النوم من يسقيها فاستيقظت وهي ريانة، فلما جاءت رسول الله قصت عليه القصة، فخطبها إلى نفسها فرأت نفسها أقل من ذلك وقالت: بل زوجني من شئت.
فزوجها زيدا وأمر لها بثلاثين صاعا وقال: « كلوا ولا تكيلوا » وكانت معها عكة سمن هدية لرسول الله فأمرت جاريتها أن تحملها إلى رسول الله ففرغت، وأمرها رسول الله إذا ردتها أن تعلقها ولا توكئها، فدخلت أم شريك فوجدتها ملآى فقالت للجارية: ألم آمرك أن تذهبي بها إلى رسول الله؟
فقالت: قد فعلت، فذكروا ذلك لرسول الله فأمرهم أن لا يوكئوها، فلم تزل حتى أوكتها أم شريك، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعا لم ينقص منه شيء.
حديث آخر في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الزبير عن جابر أن أم مالك البهزية كانت تهدي في عكة لها سمنا للنبي ﷺ، فبينما بنوها يسألونها الإدام وليس عندها شيء، فعمدت إلى عكتها التي كانت تهدي فيها إلى النبي ﷺ فقال: « أعصرتيه؟ »
فقلت: نعم.
قال: « لو تركتيه ما زال ذلك مقيما ».
ثم روى الإمام أحمد بهذا الإسناد عن جابر، عن النبي ﷺ أنه أتاه رجل يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه هو وامرأته وضيف لهم حتى كالوه فقال رسول الله ﷺ: « لو لم تكيلوه لأكلتم فيه، ولقام لكم ».
وقد روى هذين الحديثين مسلم من وجه آخر عن أبي الزبير، عن جابر.
ذكر ضيافة أبي طلحة الأنصاري رسول الله ﷺ
قال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟
قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله ﷺ.
قال: فذهبت به فوجدت رسول الله ﷺ في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم.
فقال لي رسول الله ﷺ: « أرسلك أبو طلحة؟ »
فقلت: نعم.
قال: « بطعام؟ »
قلت: نعم.
فقال رسول الله ﷺ لمن معه: « قوموا » فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته.
فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله ﷺ والناس، وليس عندنا ما نطعمهم.
فقلت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ﷺ، فأقبل رسول الله ﷺ وأبو طلحة معه فقال رسول الله: « هلم يا أم سليم ما عندك؟ » فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله - ﷺ - ففت، وعصرت أم سليم عكة فآدمته، ثم قال رسول الله فيه ما شاء الله أن يقول ثم قال: « إئذن لعشرة » فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا.
ثم قال: « إئذن لعشرة » فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا.
ثم قال: « إئذن لعشرة » فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا.
ثم قال: « إئذن لعشرة » فأكل القوم كلهم، والقوم سبعون، أو ثمانون رجلا.
وقد رواه البخاري في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من غير وجه عن مالك.
طريق آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه:
قال أبو يعلى: ثنا هدبة بن خالد، ثنا مبارك بن فضالة، ثنا بكير وثابت البناني عن أنس أن أبا طلحة رأى رسول الله ﷺ طاويا، فجاء إلى أم سليم فقال: إني رأيت رسول الله ﷺ طاويا فهل عندك من شيء؟
قالت: ما عندنا إلا نحو من دقيق شعير.
قال: فاعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعو رسول الله ﷺ فيأكل عندنا.
قال: فعجنته وخبزته فجاء قرصا فقال: يا أنس أدع رسول الله، فأتيت رسول الله ومعه أناس.
قال مبارك: أحسبه قال: بضعة وثمانون.
قال: فقلت: يا رسول الله أبو طلحة يدعوك.
فقال لأصحابه: « أجيبوا أبا طلحة ».
فجئت جزعا حتى أخبرته أنه قد جاء بأصحابه.
قال بكر: فعدى قدمه، وقال ثابت: قال أبو طلحة: رسول الله أعلم بما في بيتي مني.
وقالا جميعا عن أنس: فاستقبله أبو طلحة فقال: يا رسول الله ما عندنا شيء إلا قرص، رأيتك طاويا فأمرت أم سليم فجعلت لك قرصا.
قال: فدعا بالقرص، ودعا بجفنة فوضعه فيها وقال: « هل من سمن؟ »
قال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء.
قال: فجاء بها قال: فجعل رسول الله وأبو طلحة يعصرانها، حتى خرج شيء مسح رسول الله به سبابته، ثم مسح القرص فانتفخ وقال: « بسم الله » فانتفخ القرص، فلم يزل يصنع كذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يميع فقال: « أدع عشرة من أصحابي » فدعوت له عشرة.
قال: فوضع رسول الله ﷺ يده وسط القرص وقال: « كلوا باسم الله » فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا.
ثم قال: « أدع لي عشرة أخرى » فدعوت له عشرة أخرى فقال: « كلوا بسم الله » فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا، فلم يزل يدعو عشرة عشرة يأكلون من ذلك القرص حتى أكل منه بضعة وثمانون من حوالي القرص حتى شبعوا، وإن وسط القرص حيث وضع رسول الله ﷺ يده كم هو.
وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ولم يخرجوه، فالله أعلم.
طريق أخرى عن أنس بن مالك:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نمير، ثنا سعد - يعني: ابن سعيد بن قيس -، أخبرني أنس ابن مالك قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله ﷺ لأدعوه وقد جعل له طعاما، فأقبلت ورسول الله ﷺ مع الناس.
قال: فنظر إلي فاستحييت فقلت: أجب أبا طلحة فقال للناس: « قوموا ».
فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما صنعت شيئا لك.
قال: فمسها رسول الله ودعا فيها بالبركة ثم قال: « أدخل نفرا من أصحابي عشرة ».
فقال: « كلوا » فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا وقال: « أدخل عشرة » فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة، حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل، فأكل حتى شبع، ثم هيأها فأخذه هي مثلها حين أكلوا منها.
وقد رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن عبد الله بن نمير، وعن سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، كلاهما عن سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري.
طريق أخرى:
رواه مسلم في الأطعمة عن عبد الله بن حميد، عن خالد بن مخلد، عن محمد بن موسى، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس فذكر نحو ما تقدم.
وقد رواه أبو يعلى الموصلي عن محمد بن عباد المكي، عن حاتم، عن معاوية ابن أبي مردد، عن عبد الله بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أبيه، عن أبي طلحة فذكره، والله أعلم.
طريق أخرى عن أنس:
قال الإمام أحمد: ثنا علي بن عاصم، ثنا حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن أنس بن مالك قال: أتى أبو طلحة بمدين من شعير فأمر به فصنع به طعاما ثم قال لي: يا أنس انطلق إئت رسول الله ﷺ فادعه، وقد تعلم ما عندنا.
قال: فأتيت رسول الله ﷺ وأصحابه عنده فقلت: إن أبا طلحة يدعوك إلى طعامه.
فقام وقال للناس: « قوموا » فقاموا فجئت أمشي بين يديه حتى دخلت على أبي طلحة فأخبرته.
قال: فضحتنا.
قلت: إني لم أستطع أن أرد على رسول الله ﷺ أمره، فلما انتهى رسول الله ﷺ قال لهم: « اقعدوا » ودخل عاشر عشرة، فلما دخل أتى بالطعام، تناول فأكل وأكل معه القوم حتى شبعوا.
ثم قال لهم: « قوموا وليدخل عشرة مكانكم » حتى دخل القوم كلهم وأكلوا.
قال: قلت: كم كانوا؟
قال: كانوا نيفا وثمانين.
قال: وفضل لأهل البيت ما أشبعهم.
وقد رواه مسلم في الأطعمة عن عمرو الناقد، عن عبد الله بن جعفر الرقي، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن أنس قال: أمر أبو طلحة أم سليم قال: اصنعي للنبي ﷺ لنفسه خاصة طعاما يأكل منه، فذكر نحو ما تقدم.
طريق أخرى عن أنس:
قال أبو يعلى: ثنا شجاع بن مخلد، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي سمعت جرير بن يزيد يحدث عن عمرو بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: رأى أبو طلحة رسول الله في المسجد مضطجعا يتقلب ظهرا لبطن، فأتى أم سليم فقال: رأيت رسول الله مضطجعا في المسجد يتقلب ظهرا لبطن فخبزت أم سليم قرصا ثم قال لي أبو طلحة: اذهب فادع رسول الله.
فأتيته وعنده أصحابه فقلت: يا رسول الله يدعوك أبو طلحة.
فقام وقال: « قوموا ».
قال: فجئت أسعى إلى أبي طلحة فأخبرته أن رسول الله قد تبعه أصحابه، فتلقاه أبو طلحة فقال: يا رسول الله إنما هو قرص.
فقال: « إن الله سيبارك فيه » فدخل رسول الله، وجيء بالقرص في قصعة، فقال: « هل من سمن؟ »
فجيء بشيء من سمن، فغور القرص بإصبعه هكذا ورفعها ثم صب وقال: « كلوا من بين أصابعي » فأكل القوم حتى شبعوا.
ثم قال: « أدخل علي عشرة » فأكلوا حتى شبعوا، حتى أكل القوم فشبعوا، وأكل رسول الله ﷺ وأبو طلحة وأم سليم وأنا حتى شبعنا، وفضلت فضلة أهديت لجيران لنا.
ورواه مسلم في الأطعمة من صحيحه: عن حسن الحلواني، وعن وهب بن جرير بن حازم، عن عمه جرير بن يزيد، عن عمرو بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك فذكر نحو ما تقدم.
طريق أخرى عن أنس:
قال الإمام أحمد: ثنا يونس بن محمد، ثنا حماد - يعني ابن زيد - عن هشام، عن محمد - يعني ابن سيرين -، عن أنس قال حماد: والجعد قد ذكره قال: عمدت أم سليم إلى نصف مد شعير فطحنته، ثم عمدت إلى عكة كان فيها شيء من سمن فاتخذت منه خطيفة.
قال: ثم أرسلتني إلى رسول الله ﷺ قال: فأتيته وهو في أصحابه فقلت: إن أم سليم أرسلتني إليك تدعوك.
فقال: أنا ومن معي؟
قال: فجاء هو ومن معه قال: فدخلت.
فقلت لأبي طلحة: قد جاء رسول الله ﷺ ومن معه، فخرج أبو طلحة فمشى إلى جنب النبي ﷺ قال: يا رسول الله إنما هي خطيفة اتخذتها أم سليم من نصف مد شعير.
قال: فدخل فأتي به قال: فوضع يده فيها ثم قال: « أدخل عشرة ».
قال: فدخل عشرة فأكلوا حتى شبعوا، ثم دخل عشرة فأكلوا، ثم عشرة فأكلوا، حتى أكل منها أربعون كلهم أكلوا حتى شبعوا.
قال: وبقيت كما هي قال: فأكلنا.
وقد رواه البخاري في الأطعمة عن الصلت بن محمد، عن حماد بن زيد، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس وعن هشام بن محمد، عن أنس، وعن سنان بن ربيعة، عن أبي ربيعة، عن أنس أن أم سليم عمدت إلى مد من شعير جشته وجعلت منه خطيفة، وعمدت إلى عكة فيها شيء من سمن فعصرته، ثم بعثتني إلى رسول الله وهو في أصحابه، الحديث بطوله.
ورواه أبو يعلى الموصلي: ثنا عمرو عن الضحاك، ثنا أبي سمعت أشعث الحراني قال: قال محمد بن سيرين: حدثني أنس بن مالك أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله ﷺ طعام، فذهب فأجر نفسه بصاع من شعير، فعمل يومه ذلك فجاء به، وأمر أم سليم أن تعمله خطيفة، وذكر الحديث.
طريق آخر عن أنس:
قال الإمام أحمد: ثنا يونس بن محمد، ثنا حرب بن ميمون عن النصر بن أنس، عن أنس بن مالك قال: قالت أم سليم: إذهب إلى نبي الله ﷺ فقل: إن رأيت أن تغدي عندنا فافعل، فجئته فبلغته فقال: « ومن عندي؟ »
قلت: نعم.
قال: « انهضوا ».
قال: فجئته فدخلت على أم سليم وأنا لدهش لمن أقبل مع رسول الله ﷺ.
قال: فقالت أم سليم: ما صنعت يا أنس؟
فدخل رسول الله ﷺ على إثر ذلك فقال: « هل عندك سمن؟ »
قالت: نعم، قد كان منه عندي عكة فيها شيء من سمن.
قال: « فأت بها »
قالت: فجئت بها، ففتح رباطها ثم قال: « بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة ».
قال: فقال: « اقلبيها » فقلبتها فعصرها نبي الله ﷺ وهو يسمي، فأخذت نقع قدر فأكل منها بضع وثمانون رجلا، وفضل فضلة فدفعها إلى أم سليم فقال: « كلي وأطعمي جيرانك ».
وقد رواه مسلم في الأطعمة عن حجاج بن الشاعر، عن يونس بن محمد المؤدب به.
طريق أخرى:
قال أبو القاسم البغوي: ثنا علي بن المديني، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى بن عمارة المازني، عن أبيه، عن أنس بن مالك أن أمه أم سليم صنعت خزيرا فقال أبو طلحة: إذهب يا بني فادع رسول الله ﷺ.
قال: فجئته - وهو بين ظهراني الناس - فقلت: إن أبي يدعوك.
قال: فقام وقال للناس: « انطلقوا ».
قال: فلما رأيته قام بالناس تقدمت بين أيديهم، فجئت أبا طلحة فقلت: يا أبت قد جاءك رسول الله ﷺ بالناس.
قال: فقام أبو طلحة على الباب وقال: يا رسول الله إنما كان شيئا يسيرا.
فقال: « هلمه فإن الله سيجعل فيه البركة » فجاء به فجعل رسول الله يده فيه، ودعا الله بما شاء أن يدعو ثم قال: « أدخل عشرة عشرة » فجاءه منهم ثمانون فأكلوا وشبعوا.
ورواه مسلم في الأطعمة عن عبد بن حميد، عن القعنبي، عن الدراوردي، عن يحيى بن عمارة ابن أبي حسن الأنصاري المازني، عن أبيه، عن أنس بن مالك بنحو ما تقدم.
طريق أخرى:
ورواه مسلم في الأطعمة أيضا عن حرملة، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، عن يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس كنحو ما تقدم.
قال البيهقي: وفي بعض حديث هؤلاء ثم أكل رسول الله ﷺ وأكل أهل البيت وأفضلوا ما بلغ جيرانهم.
فهذه طرق متواترة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه شاهد ذلك على ما فيه من اختلاف عنه في بعض حروفه، ولكن أصل القصة متواتر لا محالة كما ترى، ولله الحمد والمنة.
فقد رواه عن أنس بن مالك: إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، وبكر بن عبد الله المزني، وثابت بن أسلم البناني، والجعد بن عثمان، وسعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وسنان بن ربيعة، وعبد الله بن عبد الله ابن أبي طلحة، وعبد الرحمن ابن أبي ليلى، وعمرو بن عبد الله ابن أبي طلحة، ومحمد بن سيرين، والنضر بن أنس، ويحيى بن عمارة ابن أبي حسن، ويعقوب بن عبد الله ابن أبي طلحة.
وقد تقدم في غزوة الخندق: حديث جابر في إضافته ﷺ على صاع من شعير وعناق، فعزم عليه السلام على أهل الخندق بكمالهم فكانوا ألفا أو قريبا من ألف، فأكلوا كلهم من تلك العناق وذلك الصاع حتى شبعوا وتركوه كما كان، وقد أسلفناه بسنده ومتنه وطرقه، ولله الحمد والمنة.
ومن العجب الغريب ما ذكره الحافظ أبو عبد الرحمن بن محمد بن المنذر الهروي - المعروف بشكر - في كتاب العجائب الغريبة في هذا الحديث فإنه أسنده وساقه بطوله، وذكر في آخره شيئا غريبا فقال: ثنا محمد بن علي بن طرخان، ثنا محمد بن مسرور، أنا هاشم بن هاشم، ويكنى: بأبي برزة بمكة في المسجد الحرام، ثنا أبو كعب البداح بن سهل الأنصاري من أهل المدينة من الناقلة الذين نقلهم هارون إلى بغداد سمعت منه بالمصيصة عن أبيه سهل بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك قال: أتى جابر بن عبد الله إلى رسول الله ﷺ فعرف في وجهه الجوع، فذكر أنه رجع إلى منزله فذبح داجنا كانت عندهم وطبخها، وثرد تحتها في جفنة وحملها إلى رسول الله ﷺ، فأمره أن يدعو له الأنصار فأدخلهم عليه أرسالا فأكلوا كلهم، وبقي مثل ما كان، وكان رسول الله ﷺ يأمرهم أن يأكلوا ولا يكسروا عظما، ثم إنه جمع العظام في وسط الجفنة فوضع عليها يده، ثم تكلم بكلام لا أسمعه، إلا أني أرى شفتيه تتحرك، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها.
فقال: « خذ شاتك يا جابر، بارك الله لك فيها ».
قال: فأخذتها ومضيت وإنها لتنازعني أذنها، حتى أتيت بها البيت فقالت لي المرأة: ما هذا يا جابر؟
فقلت: هذه والله شاتنا التي ذبحناها لرسول الله، دعا الله فأحياها لنا.
فقالت: أنا أشهد أنه رسول الله، أشهد أنه رسول الله، أشهد أنه رسول الله.
حديث آخر عن أنس في معنى ما تقدم:
قال أبو يعلى الموصلي والباغندي: ثنا شيبان، ثنا محمد بن عيسى بصري - وهو صاحب الطعام -، ثنا ثابت البناني قلت لأنس بن مالك: يا أنس أخبرني بأعجب شيء رأيته؟
قال: نعم يا ثابت، خدمت رسول الله - ﷺ - عشر سنين، فلم يعب علي شيئا أسأت فيه، وإن نبي الله - ﷺ - لما تزوج زينب بنت جحش.
قالت لي أمي: يا أنس إن رسول الله - ﷺ - أصبح عروسا، ولا أدري أصبح له غداء فهلم تلك العكة، فأتيتها بالعكة وبتمر فجعلت له حيسا فقالت: يا أنس إذهب بهذا إلى نبي الله وامرأته، فلما أتيت رسول الله -ﷺ - بتور من حجارة فيه ذلك الحيس.
قال: « دعه ناحية البيت، وادع لي أبا بكر، وعمر، وعليا، وعثمان، ونفرا من أصحابه، ثم أدع لي أهل المسجد، ومن رأيت في الطريق ».
قال: فجعلت أتعجب من قلة الطعام، ومن كثرة ما يأمرني أن أدعو الناس، وكرهت أن أعصيه حتى امتلأ البيت والحجرة.
فقال: « يا أنس هل ترى من أحد؟ »
فقلت: لا يا رسول الله.
قال: « هات ذلك التور ».
فجئت بذلك التور فوضعته قدامه، فغمس ثلاث أصابع في التور، فجعل التمر يربو فجعلوا يتغدون ويخرجون، حتى إذا فرغوا أجمعون وبقي في التور نحو ما جئت به فقال: « ضعه قدام زينب » فخرجت، وأسقفت عليهم بابا من جريد.
قال ثابت: قلنا يا أبا حمزة: كم ترى كان الذين أكلوا من ذلك التور؟
فقال: أحسب واحدا وسبعين، أو اثنين وسبعين.
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه.
حديث آخر عن أبي هريرة في ذلك:
قال جعفر بن محمد الفرياني: ثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا حاتم بن إسماعيل عن أنيس ابن أبي يحيى، عن إسحاق بن سالم، عن أبي هريرة قال: خرج علي رسول الله ﷺ فقال: « أدع لي أصحابك من أصحاب الصفة » فجعلت أنبههم رجلا رجلا فجمعتهم، فجئنا باب رسول الله ﷺ فاستأذنا فأذن لنا.
قال أبو هريرة: فوضعت بين أيدينا صحفة أظن أن فيها قدر مد من شعير، قال: فوضع رسول الله ﷺ عليها يده وقال: « كلوا بسم الله ».
قال: فأكلنا ما شئنا، ثم رفعنا أيدينا فقال رسول الله ﷺ حين وضعت الصحفة: « والذي نفسي بيده، ما أمسى في آل محمد طعام ليس ترونه ».
قيل لأبي هريرة: قدر كم كانت حين فرغتم منها؟
قال: مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع.
وهذه قصة غير قصة أهل الصفة المتقدمة في شربهم اللبن كما قدمنا.
حديث آخر عن أبي أيوب في ذلك:
قال جعفر الفريابي: ثنا أبو سلمة يحيى بن خلف، ثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري، عن أبي الورد، عن أبي محمد الحضرمي، عن أبي أيوب الأنصاري قال: صنعت لرسول الله ﷺ ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به.
فقال رسول الله ﷺ: « إذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار ».
قال: فشق ذلك علي ما عندي شيء أزيده.
قال: فكأني تثاقلت.
فقال: « إذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار » فدعوتهم فجاءوا فقال: « أطعموا » فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله ثم بايعوه قبل أن يخرجوا.
ثم قال: « إذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار ».
قال أبو أيوب: فوالله لأنا بالستين أجود مني بالثلاثين.
قال: فدعوتهم.
فقال رسول الله ﷺ: « تربعوا » فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله، وبايعوه قبل أن يخرجوا.
قال: « فاذهب فادع لي تسعين من الأنصار ».
قال: فلأنا أجود بالتسعين والستين مني بالثلاثين.
قال: فدعوتهم، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله، وبايعوه قبل أن يخرجوا.
قال: فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار.
وهذا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا.
وقد رواه البيهقي من حديث محمد بن أبي بكر المقدمي عن عبد الأعلى به.
قصة أخرى في تكثير الطعام في بيت فاطمة
قال الحافظ أبو يعلى: ثنا سهل بن الحنظلية، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة عن محمد بن المنكدر، عن جابر أن رسول الله ﷺ أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: « يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع ».
فقالت: لا والله بأبي أنت وأمي، فلما خرج من عندها رسول الله ﷺ بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وغطت عليها وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله ﷺ على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شعبة طعام، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله ﷺ فرجع إليها.
فقالت له: بأبي أنت وأمي، قد أتى الله بشيء فخبأته لك.
قال: « هلمي يا بنية » فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلما نظرت إليها بهتت، وعرفت أنها بركة من الله فحمدت الله، وصلت على نبيه ﷺ وقدمته إلى رسول الله.
فلما رآه حمد الله وقال: « من أين لك هذا يا بنية؟ »
قالت: يا أبت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فحمد الله وقال: « الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا، فسئلت عنه قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب » فبعث رسول الله ﷺ إلى علي، ثم أكل رسول الله ﷺ وعلي وفاطمة، وحسن وحسين، وجميع أزواج رسول الله ﷺ وأهل بيته جميعا حتى شبعوا.
قالت: وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت بقيتها على جميع جيرانها، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا.
وهذا حديث غريب أيضا إسنادا ومتنا.
وقد قدمنا في أول البعثة حين نزل قوله تعالى: « وأنذر عشيرتك والأقربين » حديث ربيعة بن ماجد عن علي في دعوته عليه السلام بني هاشم -وكانوا نحوا من أربعين - فقدم إليهم طعاما من مد فأكلوا حتى شبعوا وتركوه كما هو، وسقاهم من عس شرابا حتى رووا وتركوه كما هو ثلاثة أيام متتابعة، ثم دعاهم إلى الله كما تقدم.
قصة أخرى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الإمام أحمد: ثنا علي بن عاصم، ثنا سليمان التيمي عن أبي العلاء بن الشخير، عن سمرة بن جندب قال: بينما نحن عند النبي ﷺ إذ أتى بقصعة فيها ثريد.
قال: فأكل وأكل القوم، فلم يزالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر، يأكل قوم ثم يقومون، ويجيء قوم فيتعاقبونه.
قال: فقال له رجل: هل كانت تمد بطعام؟
قال: أما من الأرض فلا إلا أن تكون كانت تمد من السماء.
ثم رواه أحمد عن يزيد بن هارون، عن سليمان، عن أبي العلاء، عن سمرة أن رسول الله أتى بقصعة فيها ثريد، فتعاقبوها إلى الظهر من غدوة يقوم ناس ويقعد آخرون.
قال له رجل: هل كانت تمد؟
فقال: له فمن أين تعجب، ما كانت تمد إلا من ههنا، وأشار إلى السماء.
وقد رواه الترمذي والنسائي أيضا من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي العلاء - واسمه يزيد بن عبد الله بن الشخير -، عن سمرة بن جندب به.
قصة قصعة بيت الصديق
ولعلها هي القصة المذكورة في حديث سمرة، والله أعلم.
قال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا معتمر عن أبيه، ثنا عثمان أنه حدثه عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وأن النبي ﷺ قال مرة: « من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس - أو كما قال - » وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي ﷺ بعشرة وأبو بكر بثلاثة.
قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: امرأتي وخادمي من بيتنا وبيت أبي بكر، وإن أبا بكر تعشى عند النبي ﷺ، ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول الله ﷺ، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله.
قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك أو ضيفك؟
قال: أو ما عشيتهم؟
قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم.
فذهبت فاختبأت فقال: يا غنثر - فجدع وسب - وقال: كلوا.
وقال: لا أطعمه أبدا، والله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل، فنظر أبو بكر فأخذه هي شيء أو أكثر، فقال لامرأته: ما هذا يا أخت بني فراس؟
قالت: لا وقرة عيني هي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرار.
فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان الشيطان - يعني: يمينه -، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي ﷺ فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل فعرفنا اثني عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل غير أنه بعث معهم.
قال: فأكلوا منها أجمعون، أو كما قال: وغيرهم يقول: فتفرقنا.
هذا لفظه، وقد رواه في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من غير وجه عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر.
حديث آخر عن عبد الرحمن ابن أبي بكر في هذا المعنى:
قال الإمام أحمد: ثنا حازم، ثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر أنه قال: كنا مع رسول الله ﷺ ثلاثين ومائة.
فقال النبي ﷺ: « هل مع أحد منكم طعام؟ »
فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها.
فقال النبي ﷺ: « أبيعا أم عطية؟ - أو قال: - أم هدية؟ »
قال: لا بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت.
وأمر النبي ﷺ بسواد البطن أن يشوى.
قال: وأيم الله ما من الثلاثين والمائة، إلا قد حز له رسول الله ﷺ حزة من سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاه إياه، وإن كان غائبا خبأ له.
قال: وجعل منها قصعتين قال: فأكلنا منهما أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين فجعلناه على البعير، أو كما قال.
وقد أخرجه البخاري، ومسلم من حديث معتمر بن سليمان.
حديث آخر في تكثير الطعام في السفر
قال الإمام أحمد: حدثنا فزارة بن عمر، أنا فليح عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله ﷺ في غزوة غزاها، فأرمل فيها المسلمون واحتاجوا إلى الطعام، فاستأذنوا رسول الله ﷺ في نحر الإبل فأذن لهم، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال: فجاء فقال: يا رسول الله إبلهم تحملهم وتبلغهم عدوهم ينحرونها؟ أدع يا رسول الله بغبرات الزاد، فادع الله عز وجل فيها بالبركة.
قال: « أجل » فدعا بغبرات الزاد، فجاء الناس بما بقي معهم فجمعه، ثم دعا الله عز وجل فيه بالبركة، ودعاهم بأوعيتهم فملأها وفضل فضل كثير.
فقال رسول الله ﷺ عند ذلك: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أني عبد الله ورسوله، ومن لقي الله عز وجل بهما غير شاك دخل الجنة ».
وكذلك رواه جعفر الفريابي عن أبي مصعب الزهري، عن عبد العزيز ابن أبي حازم، عن أبيه سهيل به.
ورواه مسلم، والنسائي جميعا عن أبي بكر ابن أبي النضر، عن أبيه، عن عبيد الله الأشجعي، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا زهير، ثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح سعيد، أو عن أبي هريرة - شك الأعمش - قال: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا، وادهنا؟
فقال: « إفعلوا ».
فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلوا قل الظهر، ولكن أدعهم بفضل أزوادهم، ثم أدع لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة.
فأمر رسول الله بنطع فبسط، ودعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف التمر، والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع شيء من ذلك يسير، فدعا عليهم بالبركة ثم قال: « خذوا في أوعيتكم » فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأه، وأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة.
فقال رسول الله - ﷺ: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فتحتجب عنه الجنة ».
وهكذا رواه مسلم أيضا عن سهل ابن عثمان وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، وأبي هريرة فذكر مثله.
حديث آخر في هذه القصة:
قال الإمام أحمد: ثنا علي بن إسحاق، ثنا عبد الله - هو ابن المبارك -، أنا الأوزاعي، أنا المطلب بن حنطب المخزومي، حدثني عبد الرحمن ابن أبي عمرة الأنصاري، حدثني أبي قال: كنا مع رسول الله ﷺ في غزاة، فأصاب الناس مخمصة، فاستأذن الناس رسول الله ﷺ في نحر بعض ظهورهم وقالوا: يبلغنا الله به.
فلما رأى عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قد هم أن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم.
قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غدا جياعا رجالا؟ ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم وتجمعها، ثم تدعو الله فيها بالبركة فإن الله سيبلغنا بدعوتك، أو سيبارك لنا في دعوتك، فدعا النبي ﷺ ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يجيئون بالحبة من الطعام وفوق ذلك، فكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله ﷺ ثم قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم وأمرهم أن يحتثوا، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملأوه وبقي مثله، فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه وقال: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أني رسول الله، لا يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجبت عنه النار يوم القيامة ».
وقد رواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك بإسناده نحو ما تقدم.
حديث آخر في هذه القصة:
قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا أحمد بن المعلى الآدمي، ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا سعيد بن سلمة، حدثني أبو بكر - أظنه من ولد عمر بن الخطاب -عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن أبي ربيعة أنه سمع أبا خنيس الغفاري أنه كان مع رسول الله ﷺ في غزوة تهامة حتى إذا كنا بعسفان جاءه أصحابه فقالوا: يا رسول الله جهدنا الجوع، فأذن لنا في الظهر أن نأكله.
قال: « نعم ».
فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فجاء رسول الله فقال: يا نبي الله ما صنعت؟ أمرت الناس أن ينحروا الظهر فعلى ما يركبون؟
قال: « فما ترى يا ابن الخطاب؟ »
قال: أرى أن تأمرهم أن يأتوا بفضل أزوادهم فتجمعه في ثوب ثم تدعو لهم، فأمرهم، فجمعوا فضل أزوادهم في ثوب ثم دعا لهم ثم قال: « إئتوا بأوعيتكم » فملأ كل إنسان وعاءه، ثم أذن بالرحيل، فلما جاوز مطروا فنزل ونزلوا معه وشربوا من ماء السماء، فجاء ثلاثة نفر فجلس إثنان مع رسول الله، وذهب الآخر معرضا.
فقال رسول الله: « ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما واحد فاستحى من الله فاستحى الله منه، وأما الآخر فأقبل تائبا فتاب الله عليه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه »
ثم قال البزار: لا نعلم روى أبو خنيس إلا هذا الحديث بهذا الإسناد.
وقد رواه البيهقي عن الحسين بن بشران، عن أبي بكر الشافعي، ثنا إسحاق بن الحسن الخرزي، أنا أبو رجاء، ثنا سعيد بن سلمة، حدثني أبو بكر بن عمرو بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي ربيعة أنه سمع أبا خنيس الغفاري فذكره.
حديث آخر عن عمر بن الخطاب في هذه القصة:
قال الحافظ أبو يعلى: ثنا ابن هشام - محمد بن يزيد الرفاعي - ثنا ابن فضل، ثنا يزيد - وهو ابن أبي زياد - عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم، عن أبيه، عن جده عمر قال: كنا مع رسول الله ﷺ في غزاة.
فقلنا: يا رسول الله إن العدو قد حضر وهم شباع، والناس جياع.
فقالت الأنصار: ألا ننحر نواضحنا فنطعمها الناس؟
فقال رسول الله - ﷺ -: « من كان معه فضل طعام فليجيء به » فجعل الرجل يجيء بالمد والصاع وأقل وأكثر، فكان جميع ما في الجيش بضعا وعشرين صاعا، فجلس النبي ﷺ إلى جنبه فدعا بالبركة.
فقال النبي ﷺ: « خذوا ولا تنتهبوا » فجعل الرجل يأخذ في جرابه، وفي غرارته، وأخذوا في أوعيتهم حتى أن الرجل ليربط كم قميصه فيملؤه، ففرغوا والطعام كما هو.
ثم قال النبي ﷺ: « أشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله، لا يأتي بها عبد محق إلا وقاه الله حر النار »
ورواه أبو يعلى أيضا عن إسحاق بن إسمعيل الطالقاني، عن جرير، عن يزيد ابن أبي زياد فذكره، وما قبلة شاهد له بالصحة، كما أنه متابع لما قبله، والله أعلم.
حديث آخر عن سلمة بن الأكوع في ذلك:
قال الحافظ أبو يعلى: ثنا محمد بن بشار، ثنا يعقوب بن إسجاق الحضرمي القاري، ثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة خيبر، فأمرنا أن نجمع ما في أزوادنا - يعني من التمر - فبسط نطعا نشرنا عليه أزوادنا.
قال: فتمطيت فتطاولت فنظرت فحزرته كربضة شاة، ونحن أربع عشرة مائة.
قال: فأكلنا، ثم تطاولت فنظرت فحزرته كربضة شاة.
وقال رسول الله ﷺ: « هل من وضوء؟ »
قال: فجاء رجل بنقطة في إداوته.
قال: فقبضها فجعلها في قدح.
قال: فتوضأنا كلنا ندغفقها دغفقة، ونحن أربع عشرة مائة.
قال: فجاء أناس فقالوا: يا رسول الله ألا وضوء؟
فقال: « قد فرغ الوضوء ».
وقد رواه مسلم عن أحمد بن يوسف السلمي، عن النضر بن محمد، عن عكرمة بن عمار، عن إياس، عن أبيه سلمة وقال: فأكلنا حتى شبعنا، ثم حشونا جربنا.
وتقدم ما ذكره ابن إسحاق في حفر الخندق حيث قال: حدثني سعيد بن ميناء أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد - أخت النعمان بن بشير - قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني جفنة من تمر في ثوبي ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بغدائهما.
قالت: فأخذتها فانطلقت بها فمررت برسول الله ﷺ وأنا ألتمس أبي وخالي.
فقال: « تعالي يا بنية ما هذا معك؟ »
قالت: قلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه.
فقال: « هاتيه ».
قالت: فصببته في كفي رسول الله ﷺ فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دعا بالتمر فنبذ فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: « إصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء » فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
قصة جابر ودين أبيه وتكثيره عليه السلام التمر
قال البخاري في دلائل النبوة: حدثنا أبو نعيم، ثنا زكريا، حدثني عامر، حدثني جابر أن أباه توفي وعليه دين، فأتيت النبي ﷺ فقلت: إن أبي ترك عليه دينا وليس عندي إلا ما يخرج نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكيلا يفحش علي الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر فدعا ثم آخر، ثم جلس عليه فقال: « إنزعوه » فأوفاهم الذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم.
هكذا رواه هنا مختصرا، وقد أسنده من طرق عن عامر بن شراحيل الشعبي عن جابر به.
وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة عن جابر بألفاظ كثيرة، وحاصلها أنه ببركة رسول الله ﷺ ودعائه له، ومشيه في حائطه، وجلوسه على تمره، وفى الله دين أبيه وكان قد قتل بأحد، وجابر كان لا يرجوه وفاءه في ذلك العام ولا ما بعده، ومع هذا فضل له من التمر أكثر فوق ما كان يؤمله ويرجوه، ولله الحمد والمنة.
قصة سلمان في تكثيره صلى الله عليه وسلم تلك القطعة من الذهب
لوفاء دينه في مكاتبته:
قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس عن سلمان قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله؟
أخذها رسول الله ﷺ فقلبها على لسانه ثم قال: « خذها فأوفهم منها ».
فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم أربعين أوقية.
ذكر مزود أبي هريرة وتمرة:
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا حماد - يعني ابن زيد - عن المهاجر، عن أبي العالية، عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله ﷺ يوما بتمرات.
فقال: قلت: أدع الله لي فيهن بالبركة.
قال: فصفهن بين يديه، ثم دعا فقال لي: « إجعلهن في مزود، وأدخل يدك ولا تنثره ».
قال: فحملت منه كذا كذا وسقا في سبيل الله ونأكل ونطعم، وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان رضي الله عنه انقطع عن حقوي فسقط.
ورواه الترمذي عن عمران بن موسى القزاز البصري، عن حماد بن زيد، عن المهاجر، عن أبي مخلد، عن رفيع أبي العالية عنه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.
طريق أخرى عنه:
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الحفار، أنا الحسين بن يحيى بن عباس القطان، ثنا حفص بن عمر، ثنا سهل بن زياد، ثنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ في غزاة فأصابهم عوز من الطعام.
فقال: « يا أبا هريرة عندك شيء؟ »
قال: قلت: شيء من تمر في مزود لي.
قال: « جيء به ».
قال: فجئت بالمزود.
قال: « هات نطعا » فجئت بالنطع فبسطته، فأدخل يده فقبض على التمر فأخذه هو واحد وعشرون ثم قال: « بسم الله » فجعل يضع كل تمرة ويسمي حتى أتى على التمر فقال به هكذا فجمعه.
فقال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا.
ثم قال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا حتى شبعوا، وخرجوا.
ثم قال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا، وشبعوا، وخرجوا.
ثم قال: « أدع فلانا وأصحابه » فأكلوا وشبعوا وخرجوا وفضل.
ثم قال لي: « أقعد » فقعدت فأكل وأكلت.
قال: وفضل تمر فأدخلته في المزود.
وقال لي: « يا أبا هريرة إذا أردت شيئا فأدخل يدك وخذه، ولا تكفي فيكفى عليك ».
قال: فما كنت أريد تمرا إلا أدخلت يدي فأخذت منه، خمسين وسقا في سبيل الله.
قال: وكان معلقا خلف رحلي، فوقع في زمن عثمان فذهب.
طريق أخرى عن أبي هريرة في ذلك:
روى البيهقي من طريقين عن سهل بن أسلم العدوي، عن يزيد ابن أبي منصور، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أصبت بثلاث مصيبات في الإسلام لم أصب بمثلهن: موت رسول الله ﷺ وكنت صويحبه، وقتل عثمان والمزود.
قالوا: وما المزود يا أبا هريرة؟
قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فقال: « يا أبا هريرة أمعك شيء؟ »
قال: قلت: تمر في مزود.
قال: « جيء به »
فأخرجت تمرا فأتيته به قال: فمسه ودعا فيه.
قال: « أدع عشرة » فدعوت عشرة فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل الجيش كله، وبقي من التمر معي في المزود.
فقال: « يا أبا هريرة إذا أردت أن تأخذ منه شيئا فأدخل يدك فيه، ولا تكفه ».
قال: فأكلت منه حياة النبي ﷺ، وأكلت منه حياة أبي بكر كلها، وأكلت منه حياة عمر كلها، وأكلت منه حياة عثمان كلها، فلما قتل عثمان انتهب ما في يدي وانتهب المزود، ألا أخبركم كم أكلت منه؟ أكلت منه أكثر من مائتي وسق.
طريق أخرى:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، ثنا إسمعيل - يعني ابن مسلم - عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة قال: أعطاني رسول الله ﷺ شيئا من تمر، فجعلته في مكتل فعلقناه في سقف البيت، فلم نزل نأكل منه حتى كان آخره إصابة أهل الشام حيث أغاروا بالمدينة.
تفرد به أحمد.
حديث عن العرباض بن سارية في ذلك:
رواه الحافظ بن عساكر في ترجمته من طريق محمد بن عمر الوافدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعد، عن العرباض قال: كنت ألزم باب رسول الله ﷺ في الحضر والسفر، فرأينا ليلة ونحن بتبوك أو ذهبنا لحاجة فرجعنا إلى رسول الله ﷺ وقد تعشى ومن عنده فقال: « أين كنت منذ الليلة؟ »
فأخبرته، وطلع جعال بن سراقة، وعبد الله بن معقل المزني فكنا ثلاثة كلنا جائع فدخل رسول الله - ﷺ - بيت أم سلمة فطلب شيئا نأكله فلم يجده، فنادى بلالا: « هل من شيء؟ »
فأخذ الجرب ينقفها، فاجتمع سبع تمرات فوضعها في صحفة ووضع عليهن يده وسمى الله وقال: « كلوا باسم الله ».
فأكلنا، فأحصيت أربعا وخمسين تمرة، كلها أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، فأكل كل منهما خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هن فقال: « يا بلال ارفعهن في جرابك ».
فلما كان الغد وضعهن في الصحفة وقال: « كلوا بسم الله » فأكلنا حتى شبعنا، وإنا لعشرة، ثم رفعنا أيدينا وإنهن كما هن سبع فقال: « لولا أني أستحي من ربي عز وجل لأكلت من هذه التمرات حتى نرد إلى المدينة عن آخرنا ».
فلما رجع إلى المدينة طلع غليم من أهل المدينة، فدفعهن إلى ذلك الغلام فانطلق يلوكهن.
حديث آخر:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت له: لقد توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي فكلته، ففني.
حديث آخر:
روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن شبيب، عن الحسن بن أعين، عن معقل، عن أبي الزبير، عن جابر أن رجلا أتى النبي ﷺ يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي ﷺ فقال: « لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم ».
وبهذا الإسناد عن جابر أن أم مالك كانت تهدي إلى رسول الله ﷺ في عكتها سمنا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندها شيء فتعمد إلى التي كانت تهدي فيه إلى رسول الله ﷺ فتجد فيه سمنا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرتها، فأتت رسول الله ﷺ فقال: « أعصرتيها؟ »
قالت: نعم.
فقال: « لو تركتيها ما زالت قائمة ».
وقد رواهما الإمام أحمد عن موسى، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو جعفر البغدادي، ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا حسان بن عبد الله، ثنا ابن لهيعة، ثنا يونس بن يزيد، ثنا أبو إسحاق عن سعيد بن الحرث بن عكرمة، عن جده نوفل بن الحرث بن عبد المطلب أنه استعان رسول الله في التزويج فأنكحه امرأة فالتمس شيئا فلم يجده، فبعث رسول الله ﷺ أبا رافع وأبا أيوب بدرعه فرهناها عند رجل من اليهود بثلاثين صاعا من شعير، فدفعه رسول الله ﷺ إليه.
قال: فطعمنا منه نصف سنة، ثم كلناه فوجدناه كما أدخلناه.
قال نوفل: فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: « لو لم تكله لأكلت منه ما عشت ».
حديث آخر:
قال الحافظ البيهقي فيالدلائل: أنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنا أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا عباس بن محمد الدوري، أنا أحمد بن عبد الله بن يونس، أنا أبو بكر ابن عياش عن هشام - يعني: ابن حسان -، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: أتى رجل أهله فرأى ما بهم من الحاجة فخرج إلى البرية.
فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعتجن ونختبز.
قال: فإذا الجفنة ملأى خميرا، والرحى تطحن، والتنور ملأى خبزا وشواء.
قال: فجاء زوجها فقال: عندكم شيء؟
قالت: نعم رزق الله، فرفع الرحى فكنس ما حوله، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: « لو تركها لدارت إلى يوم القيامة ».
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان: أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا أبو إسمعيل الترمذي، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار كان ذا حاجة فخرج وليس عند أهله شيء فقالت امرأته: لو حركت رحاي وجعلت في تنوري سعفات، فسمع جيراني صوت الرحى ورأوا الدخان فظنوا أن عندنا طعاما وليس بنا خصاصة، فقامت إلى تنورها فأوقدته وقعدت تحرك الرحا.
قال: فأقبل زوجها وسمع الرحا، فقامت إليه لتفتح له الباب.
فقال: ماذا كنت تطحنين؟
فأخبرته فدخلا وإن رحاهما لتدور، وتصب دقيقا، فلم يبق في البيت وعاء إلا ملئ، ثم خرجت إلى تنورها فوجدته مملوءا خبزا، فأقبل زوجها فذكر ذلك للنبي ﷺ قال: « فما فعلت الرحا؟ »
قال: رفعتها ونفضتها.
فقال رسول الله ﷺ: « لو تركتموها ما زالت لكم حياتي - أو قال: - حياتكم ».
وهذا الحديث غريب سندا ومتنا.
حديث آخر:
وقال مالك عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ ضافه ضيف كافر فأمر بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأتى رسول الله ﷺ فأمر له بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها.
فقال رسول الله ﷺ: « إن المسلم يشرب في معا واحد، والكافر يشرب في سبعة أمعاء ».
ورواه مسلم من حديث مالك.
حديث آخر:
قال الحافظ البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثني محمد بن الفضل بن حاتم، ثنا الحسين بن عبد الأول، ثنا حفص بن غياث، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: ضاف النبي ﷺ أعرابي قال: فطلب له شيئا فلم يجد إلا كسرة في كوة قال: فجزأها رسول الله ﷺ أجزاء ودعا عليها وقال: « كل ».
قال: فأكل فأفضل.
قال: فقال: يا محمد إنك لرجل صالح.
فقال له النبي ﷺ: « أسلم ».
فقال: إنك لرجل صالح.
ثم رواه البيهقي من حديث سهل بن عثمان عن حفص بن غياث بإسناده نحوه.
حديث آخر:
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ قال: وفيما ذكر عبدان الأهوازي، ثنا محمد بن زياد البرجمي، ثنا عبيد الله بن موسى عن مسعر، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال: أضاف النبي ﷺ ضيف، فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاما فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فقال: « اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت ».
قال: فأهديت له شاة مصلية.
فقال: « هذا من فضل الله، ونحن ننتظر الرحمة ».
قال أبو علي: حدثنيه محمد بن عبدان الأهوازي عنه قال: والصحيح عن زبيد مرسلا، حدثناه محمد بن عبدان، حدثنا أبي، ثنا الحسن بن الحرث الأهوازي، أنا عبيد الله بن موسى عن مسعر، عن زبيد فذكره مرسلا.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، ثنا أبو عمر بن حمدان، أنا الحسن بن سفيان، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا سليمان بن عبد الرحمن، ثنا عمرو بن بشر بن السرح، ثنا الوليد بن سليمان ابن أبي السائب، ثنا واثلة بن الخطاب عن أبيه، عن جده واثلة بن الأسقع قال: حضر رمضان ونحن في أهل الصفة فصمنا، فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجل من أهل البيعة فانطلق به فعشاه، فأتت علينا ليلة لم يأتنا أحد وأصبحنا صياما، وأتت علينا القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله -ﷺ - فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها هل عندهاشيء؟ فما بقيت منهن امرأة إلا أرسلت تقسم ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد.
فقال لهم رسول الله ﷺ: « فاجتمعوا » فدعا وقال: « اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنها بيدك لا يملكها أحد غيرك ».
فلم يكن إلا ومستأذن يستأذن فإذا بشاة مصلية ورغف، فأمر بها رسول الله ﷺ فوضعت بين أيدينا، فأكلنا حتى شبعنا.
فقال لنا رسول الله ﷺ: « إنا سألنا الله من فضله ورحمته فهذا فضله، وقد ادخر لنا عنده رحمته ».
حديث الذراع
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي إسحاق، حدثني رجل من بني غفار في مجلس سالم بن عبد الله قال: حدثني فلان أن رسول الله ﷺ أتي بطعام من خبز ولحم.
فقال: « ناولني الذراع » فنوول ذراعا.
قال يحيى: لا أعلمه إلا هكذا ثم قال: « ناولني الذراع » فنوول ذراعا فأكلها.
ثم قال: « ناولني الذراع ».
فقال: يا رسول الله إنما هما ذراعان.
فقال: « وأبيك لو سكت ما زلت أناول منها ذراعا ما دعوت به »
فقال سالم: أما هذه فلا، سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله ﷺ: « إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ».
هكذا وقع إسناد هذا الحديث، وهو عن مبهم عن مثله.
وقد روي من طرق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا أبو جعفر - يعني: الرازي - عن شرحبيل، عن أبي رافع مولى النبي ﷺ قال: أهديت له شاة فجعلها في القدر، فدخل رسول الله ﷺ فقال: « ما هذا يا أبا رافع؟ »
قال: شاة أهديت لنا يا رسول الله، فطبختها في القدر.
فقال: « ناولني الذراع يا أبا رافع ».
فناولته الذراع.
ثم قال: « ناولني الذراع الآخر »
فناولته الذراع الآخر.
ثم قال: « ناولني الذراع الآخر ».
فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان.
فقال رسول الله ﷺ: « أما إنك لو سكت لناولتني ذراعا فذراعا ما سكت » ثم دعا بماء فمضمض فاه، وغسل أطراف أصابعه، ثم قام فصلى، ثم عاد إليهم فوجد عندهم لحما باردا فأكل، ثم دخل المسجد فصلى ولم يمس ماء.
طريق أخرى عن أبي رافع:
قال الإمام أحمد: ثنا مؤمل، ثنا حماد، حدثني عبد الرحمن ابن أبي رافع، عن عمته، عن أبي رافع قال: صنع لرسول الله ﷺ شاة مصلية فأتى بها فقال لي: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فقلت: يا رسول الله وهل للشاة إلا ذراعان؟!
فقال: « لو سكت لناولتني منها ما دعوت به ».
قال: وكان رسول الله ﷺ يعجبه الذراع.
قلت: ولهذا لما علمت اليهود - عليهم لعائن الله - بخيبر سموه في الذراع في تلك الشاة التي أحضرتها زينب اليهودية، فأخبره الذراع بما فيه السم لما نهس منه نهسة كما قدمنا ذلك في غزوة خيبر مبسوطا.
طريق أخرى:
قال الحافظ أبو يعلى: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، حدثني قائد مولى عبيد الله ابن أبي رافع قال: أتيت رسول الله ﷺ يوم الخندق بشاة في مكتل فقال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فقلت: يا رسول الله أللشاة إلا ذراعان؟
فقال: « لو سكت ساعة ناولتنيه ما سألتك ».
فيه انقطاع من هذا الوجه.
وقال أبو يعلى أيضا: ثنا محمد ابن أبي بكر المقدمي، ثنا فضيل بن سليمان، ثنا قايد مولى عبيد الله، حدثني عبيد الله أن جدته سلمى أخبرته أن النبي ﷺ بعث إلى أبي رافع بشاة وذلك يوم الخندق فيما أعلم، فصلاها أبو رافع ليس معها خبز، ثم انطلق بها فلقيه النبي ﷺ راجعا من الخندق فقال: « يا أبا رافع ضع الذي معك » فوضعه.
ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « يا أبا رافع ناولني الذراع ».
فقلت: يا رسول الله هل للشاة غير ذراعين؟
فقال: « لو سكت لناولتني ما سألتك ».
وقد روي من طريق أبي هريرة: قال الإمام أحمد: ثنا الضحاك، ثنا ابن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة أن شاة طبخت فقال رسول الله ﷺ: « أعطني الذراع ».
فناولته إياه.
فقال: « أعطني الذراع ».
فناولته إياه.
ثم قال: « أعطني الذراع ».
فناولته إياه.
ثم قال: « أعطني الذراع ».
فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان؟
قال: « أما إنك لو التمستها لوجدتها ».
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله ﷺ ونحن أربعون وأربعمائة نسأله الطعام، فقال النبي ﷺ لعمر: « قم فأعطهم ».
فقال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصبية -.
قال وكيع: القيظ في كلام العرب أربعة أشهر -.
قال: « قم فأعطهم ».
قال: يا رسول الله سمعا وطاعة.
قال: فقام عمر وقمنا معه، فصعد بنا إلى غرفة له فأخرج المفتاح من حجزته ففتح الباب.
قال دكين فإذا في الغرفة من التمر شبيه بالفصيل الرابض.
قال: شأنكم.
قال: فأخذ كل رجل منا حاجته ما شاء، ثم التفت وإني لمن آخرهم فكأنا لم نرزأ منه تمرة.
ثم رواه أحمد عن محمد، ويعلى أبي عبيد عن إسماعيل - وهو ابن أبي خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم -، عن دكين به.
ورواه أبو داود عن عبد الرحيم بن مطرف الرواسي، عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل به.
حديث آخر:
قال علي بن عبد العزيز: ثنا أبو نعيم، ثنا حشرج بن نباتة، ثنا أبو نضرة، حدثني أبو رجاء قال: خرج رسول الله ﷺ حتى دخل حائطا لبعض الأنصار فإذا هو برسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ: « ما تجعل لي إن أرويت حائطك هذا؟ »
قال: إني أجهد أن أرويه فما أطيق ذلك.
فقال له رسول الله ﷺ: « تجعل لي مائة تمرة أختارها من تمرك؟ »
قال: نعم.
فأخذ رسول الله ﷺ الغرب فما لبث أن أرواه حتى قال الرجل: غرقت حائطي، فاختار رسول الله ﷺ من تمره مائة تمره.
قال: فأكل هو وأصحابه حتى شبعوا، ثم رد عليه مائة تمرة كما أخذها.
هذا حديث غريب أورده الحافظ ابن عساكر في دلائل النبوة من أول تاريخه بسنده عن علي بن عبد العزيز البغوي كما أوردناه.
وقد تقدم في ذكر إسلام سلمان الفارسي ما كان من أمر النخيل التي غرسها رسول الله ﷺ بيده الكريمة لسلمان، فلم يهلك منهن واحدة بل أنجب الجميع وكن ثلاثمائة، وما كان من تكثيره الذهب حين قلبه على لسانه الشريف حتى قضى منه سلمان ما كان عليه من نجوم كتابته وعتق - رضي الله عنه وأرضاه -.
باب انقياد الشجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قد تقدم الحديث الذي رواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن جابر بن عبد الله قال: سرنا مع النبي ﷺ حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله ﷺ يقضي حاجته، فأبتعته بإداوة من ماء فنظر فلم ير شيئا يستتر به، وإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها وقال: « انقادي علي بإذن الله » فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها وقال: « انقادي علي بإذن الله » فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما لأم بينهما - يعني: جمعهما - وقال: « التئما علي بإذن الله » فالتأمتا.
قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس بقربي فيبعد، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله مقبل، وإذا الشجرتان قد افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله وقف وقفة وقال برأسه: هكذا يمينا وشمالا، وذكر تمام الحديث في قصة الماء، وقصة الحوت الذي دسره البحر كما تقدم، ولله الحمد والمنة.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي سفيان - وهو طلحة بن نافع - عن أنس قال: جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ ذات يوم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء من ضربة بعض أهل مكة قال: فقال له: مالك؟
فقال: « فعل بي هؤلاء وفعلوا ».
قال: فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟
قال: فقال: نعم.
قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: أدع تلك الشجرة فدعاها.
قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه.
فقال: مرها فلترجع، فأمرها فرجعت إلى مكانها.
فقال رسول الله ﷺ: « حسبي ».
وهذا إسناد على شرط مسلم ولم يروه إلا ابن ماجه عن محمد بن طريف، عن أبي معاوية.
حديث آخر:
روى البيهقي من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله كان على الحجون كئيبا لما أذاه المشركون فقال: « اللهم أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها ».
قال: فأمر فنادى شجرة من قبل عقبة المدينة فأقبلت تخد الأرض حتى انتهت إليه.
قال: ثم أمرها فرجعت إلى موضعها.
قال: فقال: « ما أبالي من كذبني بعدها من قومي ».
ثم قال البيهقي: أنا الحاكم وأبو سعيد بن عمرو قالا: ثنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن مبارك ابن فضالة، عن الحسن قال: خرج رسول الله ﷺ إلى بعض شعاب مكة وقد دخله من الغم ما شاء الله من تكذيب قومه إياه فقال: « يا رب أرني ما أطمئن إليه ويذهب عني هذا الغم » فأوحى الله إليه أدع إليك أي أغصان هذه الشجرة شئت.
قال: فدعا غصنا فانتزع من مكانه، ثم خد في الأرض حتى جاء رسول الله ﷺ فقال له رسول الله: « ارجع إلى مكانك » فرجع، فحمد الله رسول الله وطابت نفسه.
وكان قد قال المشركون: أفضلت أباك وأجدادك يا محمد.
فأنزل الله: « أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون » الآيات.
وقال البيهقي: وهذا المرسل يشهد له ما قبله.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي ظبيان - وهو حصين بن جندب - عن ابن عباس قال: أتى النبي ﷺ رجل من بني عامر فقال: يا رسول الله أرني الخاتم الذي بين كتفيك، فإني من أطب الناس.
فقال له رسول الله ﷺ: « ألا أريك آية؟ »
قال: بلى.
قال: فنظر إلى نخلة فقال: « أدع ذلك العذق » فدعاه، فجاء ينقز بين يديه.
فقال له رسول الله ﷺ: « ارجع » فرجع إلى مكانه.
فقال العامري: يا آل بني عامر ما رأيت كاليوم رجلا أسحر من هذا هكذا.
رواه الإمام أحمد.
وقد أسنده البيهقي من طريق محمد بن أبي عبيدة عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: جاء رجل من بني عامر إلى رسول الله ﷺ فقال: إن عندي طبا وعلما فما تشتكي؟ هل يريبك من نفسك شيء إلى ما تدعو؟
قال: « أدعو إلى الله والإسلام ».
قال: فإنك لتقول قولا فهل لك من آية؟
قال: نعم إن شئت أريتك آية، وبين يديه شجرة فقال لغصن منها: « تعال يا غصن » فانقطع الغصن من الشجرة، ثم أقبل ينقز حتى قام بين يديه.
فقال: « ارجع إلى مكانك » فرجع.
فقال العامري: يا آل عامر بن صعصعة لا ألومك على شيء قلته أبدا.
وهذا يقتضي أنه سالم الأمر، ولم يجب من كل وجه.
وقد قال البيهقي: أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا ابن أبي قماش، ثنا ابن عائشة عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: ما هذا الذي يقول أصحابك؟
قال: وحول رسول الله أعذاق وشجر.
قال: فقال رسول الله: « هل لك أن أريك آية؟ »
قال: نعم.
قال: فدعا عذقا منها، فأقبل يخد الأرض حتى وقف بين يديه يخد الأرض ويسجد، ويرفع رأسه، حتى وقف بين يديه، ثم أمره فرجع.
قام العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة والله لا أكذبه بشيء يقوله أبدا.
طريق أخرى فيها أن العامري أسلم:
قال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو علي حامد بن محمد بن الوفا، أنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، أنا شريك عن سماك، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ قال: بما أعرف أنك رسول الله؟
قال: « أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟ »
قال: نعم.
قال: فدعا العذق، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض، فجعل ينقز حتى أتى رسول الله ثم قال له: « ارجع » فرجع حتى عاد إلى مكانه.
فقال: أشهد أنك رسول الله وآمن.
قال البيهقي: رواه البخاري في التاريخ عن محمد بن سعيد الأصبهاني.
قلت: ولعله قال أولا: إنه سحر، ثم تبصر لنفسه فأسلم وآمن لما هداه الله عز وجل، والله أعلم.
حديث آخر عن أبي عمر في ذلك:
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الوراق، أنا الحسين بن سفيان، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، ثنا محمد بن فضيل عن أبي حيان، عن عطاء، عن ابن عمر قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله: « أين تريد؟ »
قال: إلى أهلي.
قال: « هل لك إلى خير؟ »
قال: ما هو؟
قال: « تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله ».
قال: هل من شاهد على ما تقول؟
قال: « هذه الشجرة ».
فدعاها رسول الله ﷺ وهي على شاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا فقامت بين يديه، فاستشهد ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك.
وهذا إسناد جيد، ولم يخرجوه، ولا رواه الإمام أحمد، والله أعلم.
باب حنين الجزع شوقا إلى رسول الله وشغفا من فراقه
وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان.
الحديث الأول عن أبي كعب:
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال: كان النبي ﷺ يصلي إلى جذع نخلة إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع.
فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة فتسمع الناس خطبتك؟
قال: « نعم ».
فصنع له ثلاث درجات هن اللاتي على المنبر، فلما صنع المنبر ووضع موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ بدا للنبي ﷺ أن يقوم على ذلك المنبر فيخطب عليه فمر إليه، فلما جاوز ذلك الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تصدع وانشق، فنزل النبي ﷺ لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه - فكان عنده حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا.
وهكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل، عن أبي بن كعب فذكره، وعنده فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، وكان إذا صلى صلى إليه، والباقي مثله.
وقد رواه ابن ماجه عن إسمعيل بن عبد الله الرقي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي به.
الحديث الثاني عن أنس بن مالك:
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو خيثمة، ثنا عمرو بن يونس الحنفي، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب الناس.
فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله على المنبر خار كخوار الثور، ارتج لخواره حزنا على رسول الله، فنزل إليه رسول الله من المنبر فالتزمه وهو يخور فلما التزمه سكت.
ثم قال: « والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى يوم القيامة حزنا على رسول الله ».
فأمر به رسول الله ﷺ فدفن.
وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن عمر بن يونس به وقال: صحيح غريب من هذا الوجه.
طريق أخرى عن أنس:
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: ثنا هدبة، ثنا حماد عن ثابت عن أنس، عن النبي ﷺ أنه كان يخطب إلى جذع نخلة فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن، فجاء رسول الله ﷺ حتى احتضنه فسكن وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن خلاد، عن بهز بن أسد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، وعن حماد، عن عمار ابن أبي عمار، عن ابن عباس به، وهذا إسناد على شرط مسلم.
طريق أخرى عن أنس:
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا المبارك عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: « ابنوا لي منبرا » - أراد أن يسمعهم - فبنوا له عتبتين فتحول من الخشبة إلى المنبر.
قال: فأخبر أنس بن مالك أنه سمع الخشبة تحن حنين الواله.
قال: فما زالت تحن حتى نزل رسول الله ﷺ عن المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكنت.
تفرد به أحمد.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن شيبان بن فروخ، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس فذكره.
وزاد: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إليه لمكانه من الله فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
وقد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث الوليد بن مسلم عن سالم بن عبد الله الخياط، عن أنس بن مالك، فذكره.
طريق أخرى عن أنس:
قال أبو نعيم: ثنا أبو بكر ابن خلاد، ثنا الحارث بن محمد ابن أبي أسامة، ثنا يعلى بن عباد، ثنا الحكم عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ يخطب إلى جذع فحن الجذع فاحتضنه وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله:
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه، عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ يخطب إلى جذع نخلة.
قال: فقالت امرأة من الأنصار - وكان لها غلام نجار -: يا رسول الله إن لي غلاما نجارا أفآمره أن يتخذ لك منبرا تخطب عليه؟
قال: « بلى ».
قال: فاتخذ له منبرا.
قال: فلما كان يوم الجمعة خطب على المنبر.
قال: فأن الجذع الذي كان يقوم عليه كما يئن الصبي.
فقال النبي ﷺ: « إن هذا بكى لما فقد من الذكر » هكذا رواه أحمد.
وقد قال البخاري: ثنا عبد الواحد بن أيمن قال: سمعت أبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة.
فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟
قال: « إن شئتم ».
فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي ﷺ فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن.
قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
وقد ذكره البخاري في غير ما موضع من صحيحه من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه - وهو أيمن الحبشي المكي مولى ابن أبي عمرة المخزومي، عن جابر به.
طريق أخرى عن جابر:
قال البخاري: ثنا إسماعيل، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، حدثني حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي ﷺ إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي ﷺ فوضع يده عليها فسكنت.
تفرد به البخاري.
طريق أخرى عنه:
قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو المساور، ثنا أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح - وهو ذكوان - عن جابر بن عبد الله، وعن إسحاق عن كريب، عن جابر قال: كانت خشبة في المسجد يخطب إليها النبي ﷺ.
فقالوا: لو اتخذنا لك مثل الكرسي تقوم عليه؟
ففعل، فحنت الخشبة كما تحن الناقة الحلوج فأتاه فاحتضنها فوضع يده عليها فسكنت.
قال أبو بكر البزار: وأحسب أنا قد حدثناه عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر، وعن أبي إسحاق عن كريب، عن جابر بهذه القصة التي رواها أبو المساور عن أبي عوانة، وحدثناه محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد ابن أبي كريب، عن جابر، عن النبي ﷺ بنحوه.
والصواب إنما هو سعيد ابن أبي كريب، وكريب خطأ، ولا يعلم يروي عن سعيد ابن أبي كريب إلا أبا إسحاق.
قلت: ولم يخرجوه من هذا الوجه، وهو جيد.
طريق أخرى عن جابر:
قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد ابن أبي كريب، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي ﷺ يخطب إلى خشبة، فلما جعل له منبر حنت حنين الناقة فأتاها فوضع يده عليها فسكنت.
تفرد به أحمد.
طريق أخرى عن جابر:
قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن معمر، ثنا محمد بن كثير، ثنا سليمان بن كثير عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي ﷺ يقوم إلى جذع قبل أن يجعل له المنبر فلما جعل المنبر حن الجذع حتى سمعنا حنينه فمسح رسول الله ﷺ يده عليه فسكن.
قال البزار: لا نعلم رواه عن الزهري إلا سليمان بن كثير.
قلت: وهذا إسناد جيد رجاله على شرط الصحيح، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة.
وقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل: ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن رجل سماه، عن جابر.
ثم أورده من طريق أبي عاصم بن علي: عن سليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر مثله.
ثم قال: ثنا أبو بكر ابن خلاد، ثنا أحمد بن علي الخراز، حدثنا عيسى بن المساور، ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر أن رسول الله كان يخطب إلى جذع فلما بني المنبر حن الجذع فاحتضنه فسكن وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
ثم رواه من حديث أبي عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر، وعن أبي إسحاق، عن كريب، عن جابر مثله.
طريق أخرى عن جابر:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج وروح قال: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كان النبي ﷺ إذا خطب يستند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له منبره واستوى عليه فاضطربت تلك السارية كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل إليها رسول الله ﷺ فاعتنقها، فسكنت.
وقال روح: فسكتت، وهذا إسناد على شرط مسلم ولم يخرجوه.
طريق أخرى عن جابر:
قال الإمام أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن سليمان، عن أبي نضرة، عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ يقوم في أصل شجرة - أو قال: إلى جذع - ثم اتخذ منبرا.
قال: فحن الجذع.
قال جابر: حتى سمعه أهل المسجد حتى أتاه رسول الله ﷺ فمسحه فسكن.
فقال بعضهم: لو لم يأته لحن إلى يوم القيامة.
وهذا على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه عن بكير بن خلف، عن ابن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطفة العبدي النضري، عن جابر به.
الحديث الرابع عن سهل بن سعد:
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا سفيان بن عيينة عن أبي حازم قال: أتوا سهل بن سعد فقالوا: من أي شيء منبر رسول الله - ﷺ -؟
فقال: كان رسول الله - ﷺ - يستند إلى جذع في المسجد يصلي إليه إذا خطب، فلما اتخذ المنبر فصعد حن الجذع حتى أتاه رسول الله - ﷺ - فوطنه حتى سكن.
وأصل هذا الحديث في الصحيحين وإسناده على شرطهما.
وقد رواه إسحاق بن راهويه وابن أبي فديك عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده.
ورواه عبد الله بن نافع وابن وهب عن عبد الله بن عمر، عن ابن عباس بن سهل، عن أبيه فذكره.
ورواه ابن لهيعة عن عمارة بن عرفة، عن ابن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه بنحوه.
الحديث الخامس عن عبد الله بن عباس:
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر وتحول إليه حن عليه فأتاه فاحتضنه فسكن قال: « ولو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
وهذا الإسناد على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه من حديث حماد بن سلمة.
الحديث السادس عن عبد الله بن عمر:
قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن كثير أبو غسان، ثنا أبو حفص - واسمه عمر بن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء - قال: سمعت نافعا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي ﷺ يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه.
وقال عبد الحميد: أنا عثمان بن عمر، أنا معاذ بن العلاء عن نافع بهذا.
ورواه أبو عاصم عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ هكذا ذكره البخاري.
وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي الفلاس، عن عثمان بن عمرو ويحيى بن كثير، عن أبي غسان العنبري، كلاهما عن معاذ بن العلاء به وقال: حسن صحيح غريب.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في أطرافه: ورواه علي بن نصر بن علي الجهضمي، وأحمد بن خالد الخلال، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في آخرين عن عثمان بن عمر، عن معاذ بن العلاء قال: وعبد الحميد هذا - يعني: الذي ذكره البخاري - يقال: إنه عبد بن حميد، والله أعلم.
قال شيخنا: وقد قيل: إن قول البخاري عن أبي حفص - واسمه عمرو بن العلاء - وهم، والصواب معاذ ابن العلاء كما وقع في رواية الترمذي.
قلت: وليس هذا ثابتا في جميع النسخ، ولم أر في النسخ التي كتبت منها تسميته بالكلية، والله أعلم.
وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر، ومن حديث أبي عاصم عن ابن أبي رواد، كلاهما عن نافع عن ابن عمر قال: قال تميم الداري: ألا نتخذ لك منبرا فذكر الحديث.
طريق أخرى عن ابن عمر:
قال الإمام أحمد: ثنا حسين، ثنا خلف عن أبي خباب - وهو يحيى ابن أبي حية - عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال: كان جذع نخلة في المسجد يسند رسول الله ﷺ ظهره إليه إذا كان يوم جمعة، أو حدث أمر يريد أن يكلم الناس.
فقالوا: ألا نجعل لك يا رسول الله شيئا كقدر قيامك؟
قال: « لا عليكم أن تفعلوا »
فصنعوا له منبرا ثلاث مراقي.
قال: فجلس عليه.
قال: فخار الجذع كما تخور البقرة جزعا على رسول الله ﷺ فالتزمه ومسحه حتى سكن.
تفرد به أحمد.
الحديث السابع عن أبي سعيد الخدري:
قال عبد بن حميد الليثي: ثنا علي بن عاصم عن الجريري، عن أبي نضرة العبدي، حدثني أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله ﷺ يخطب يوم الجمعة إلى جذع نخلة.
فقال له الناس: يا رسول الله إنه قد كثر الناس - يعني: المسلمين - وإنهم ليحبون أن يروك فلو اتخذت منبرا تقوم عليه ليراك الناس.
قال: « نعم من يجعل لنا هذا المنبر؟ ».
فقام إليه رجل فقال: أنا.
قال: « تجعله »
قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: فلان.
قال: « أقعد »
فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »
فقام إليه رجل فقال: أنا.
فقال: « تجعله »
قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: فلان.
قال: « أقعد ».
فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »
فقام إليه رجل فقال: أنا.
قال: « تجعله؟ »
قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: فلان.
قال: « أقعد »
فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »
فقام إليه رجل فقال: أنا.
قال: « تجعله؟ »
قال: نعم إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: إبراهيم.
قال: « اجعله »
فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس للنبي ﷺ في آخر المسجد فلما صعد رسول الله ﷺ المنبر فاستوى عليه فاستقبل الناس وحنت النخلة حتى أسمعتني وأنا في آخر المسجد.
قال: فنزل رسول الله ﷺ عن المنبر فاعتنقها فلم يزل حتى سكنت، ثم عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « إن هذه النخلة إنما حنت شوقا إلى رسول الله لما فارقها، فوالله لو لم أنزل إليها فأعتنقها لما سكنت إلى يوم القيامة ».
وهذا إسناد على شرط مسلم، ولكن في السياق غرابة، والله تعالى أعلم.
طريق أخرى عن أبي سعيد:
قال الحافظ أبو يعلى: ثنا مسروق بن المرزبان، ثنا زكريا عن مجالد عن أبي الوداك - وهو جبر بن نوف - عن أبي سعيد قال: كان النبي ﷺ يقوم إلى خشبة يتوكأ عليها يخطب كل جمعة، حتى أتاه رجل من الروم فقال: إن شئت جعلت لك شيئا إذا قعدت عليه كنت كأنك قائم؟
قال: « نعم »
قال: فجعل له المنبر فلما جلس عليه حنت الخشبة حنين الناقة على ولدها حتى نزل النبي ﷺ فوضع يده عليها، فلما كان الغد رأيتها قد حولت.
فقلنا: ما هذا؟
قالوا: جاء رسول الله - ﷺ - وأبو بكر وعمر البارحة فحولوها.
وهذا غريب أيضا.
الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها:
رواه الحافظ من حديث علي بن أحمد الحوار عن قبيصة، عن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة، فذكر الحديث بطوله، وفيه أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة وغار حتى ذهب فلم يعرف، هذا حديث غريب إسنادا ومتنا.
الحديث التاسع عن أم سلمة -رضي الله عنها -:
روى أبو نعيم من طريق شريك القاضي وعمرو ابن أبي قيس ومعلى بن هلال ثلاثتهم عن عمار الذهبي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة قالت: كان لرسول الله ﷺ خشبة يستند إليها إذا خطب، فصنع له كرسي أو منبر فلما فقدته خارت كما يخور الثور حتى سمع أهل المسجد، فأتاها رسول الله ﷺ فسكنت، هذا لفظ شريك.
وفي رواية معلى بن هلال: أنها كانت من دوم، وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.
وقد روى الإمام أحمد والنسائي من حديث عمار الذهبي عن أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: « قوائم منبري في زاوية في الجنة ».
وروى النسائي أيضا بهذا الإسناد: « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ».
فهذه الطرق من هذه الوجوه تفيد القطع بوقوع ذلك عند أئمة هذا الفن، وكذا من تأملها وأنعم فيها النظر والتأمل مع معرفته بأحوال الرجال وبالله المستعان.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد ابن أبي الحسن، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي قال: قال أبي - يعني أبا حاتم الرازي -: قال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ﷺ.
فقلت له: أعطى عيسى إحياء الموتى.
فقال: أعطى محمدا الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيء له المنبر، فلما هيء له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك.
باب تسبيح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا الكديمي، ثنا قريش بن أنس، ثنا صالح ابن أبي الأخضر عن الزهري، عن رجل يقال له: سويد بن يزيد السلمي قال: سمعت أبا ذر يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته كنت رجلا أتبع خلوات رسول الله ﷺ، فرأيته يوما جالسا وحده فاغتنمت خلوته فجئت حتى جلست إليه فجاء أبو بكر فسلم عليه، ثم جلس عن يمين رسول الله ﷺ، ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فسلم ثم جلس عن يمين عمر وبين يدي رسول الله ﷺ سبع حصيات - أو قال: تسع حصيات - فأخذهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في كف أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسن فقال النبي ﷺ: « هذه خلافة النبوة ».
قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يسار عن قريش بن أنس، عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظا، والمحفوظ عن أبي حمزة، عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد هذا الحديث عن أبي ذر هكذا.
قال البيهقي: وقد قال محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات التي جمع فيها أحاديث الزهري: حدثنا أبو اليمان، ثنا شعيب قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر أنه بينما هو قاعد يوما في ذلك المجلس وأبو ذر في المجلس إذ ذكر عثمان بن عفان، يقول السلمي: فأنا أظن أن في نفس أبي ذر على عثمان معتبة لإنزاله إياه بالربذة، فلما ذكر له عثمان عرض له أهل العلم بذلك وهو يظن أن في نفسه عليه معتبة، فلما ذكره قال: لا تقل في عثمان إلا خيرا، فإني أشهد لقد رأيت منه منظرا وشهدت منه مشهدا لا أنساه حتى أموت، كنت رجلا ألتمس خلوات النبي ﷺ لأسمع منه أو لآخذ عنه، فهجرت يوما من الأيام فإذا النبي ﷺ قد خرج من بيته، فسألت عنه الخادم فأخبرني أنه في بيت فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكأني حينئذ أرى أنه في وحي، فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: « ما جاء بك؟ »
فقلت: جاء بي الله ورسوله، فأمرني أن أجلس، فجلست إلى جنبه لا أسأله عن شيء ولا يذكره لي، فمكثت غير كثير فجاء أبو بكر يمشي مسرعا فسلم عليه، فرد السلام ثم قال: « ما جاء بك؟ »
قال: جاء بي الله ورسوله، فأشار بيده أن اجلس، فجلس إلى ربوة مقابل النبي ﷺ بينه وبينها الطريق، حتى إذا استوى أبو بكر جالسا فأشار بيده، فجلس إلى جنبي عن يميني، ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، وقال له رسول الله ﷺ مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر على تلك الربوة، ثم جاء عثمان فسلم، فرد السلام وقال: « ما جاء بك؟ »
قال: جاء بي الله ورسوله، فأشار إليه بيده فقعد إلى الربوة، ثم أشار بيده فقعد إلى جنب عمر، فتكلم النبي ﷺ بكلمة لم أفقه أولها غير أنه قال: « قليل ما يبقين » ثم قبض على حصيات سبع أو تسع أو قريب من ذلك، فسبحن في يده حتى سمع لهن حنينا كحنين النخل في كف النبي ﷺ، ثم ناولهن أبا بكر وجاوزني فسبحن في كف أبي بكر كما سبحن في كف النبي ﷺ، ثم أخذهن منه فوضعهن في الأرض فخرسن فصرن حصا، ثم ناولهن عمر فسبحن في كفه كما سبحن في كف أبي بكر، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبحن في كفه نحو ما سبحن في كف أبي بكر وعمر، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن.
قال الحافظ ابن عساكر: رواه صالح ابن أبي الأخضر عن الزهري فقال عن رجل يقال له: سويد بن يزيد السلمي، وقول شعيب أصح.
وقال أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة: وقد روى داود ابن أبي هند عن الوليد بن عبد الرحمن الحرشي، عن جبير بن نفير، عن أبي ذر مثله.
ورواه شهر بن حوشب وسعيد بن المسيب عن أبي سعيد قال: وفيه عن أبي هريرة، وقد تقدم ما رواه البخاري: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
حديث آخر في ذلك:
روى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد ابن أبي وقاص قال: حدثني أبو أمي مالك بن حمزة ابن أبي أسيد الساعدي عن أبيه، عن جده أبي أسيد الساعدي قال: قال رسول الله ﷺ للعباس بن عبد المطلب: « يا أبا الفضل لا ترم منزلك غدا أنت وبنوك حتى آتيكم فإنل لي فيكم حاجة ».
فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى فدخل عليهم فقال: « السلام عليكم »
فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
قال: « كيف أصبحتم؟ »
قالوا: أصبحنا بخير نحمد الله فكيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله؟
قال: « أصبحت بخير أحمد الله » فقال لهم: « تقاربوا تقاربوا، يزحف بعضكم إلى بعض ».
حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته وقال: « يا رب هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كسترتي إياهم بملاءتي هذه ».
وقال: فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين.
وقد رواه أبو عبد الله بن ماجه في سننه مختصرا عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حاتم الهروي، عن عبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد ابن أبي وقاص الوقاصي الزهري، روى عنه جماعة وقد قال ابن معين: لا أعرفه.
وقال أبو حاتم: يروي أحاديث مشبهة.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: ثنا يحيى ابن أبي بكير، ثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن ».
رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن يحيى ابن أبي بكير به.
ورواه أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ، عن سماك به.
حديث آخر:
قال الترمذي: ثنا عباد بن يعقوب الكوفي، ثنا الوليد ابن أبي ثور عن السدي، عن عباد ابن أبي يزيد، عن علي ابن أبي طالب قال: كنت مع النبي ﷺ بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
ثم قال: وهذا حديث حسن غريب، وقد رواه غير واحد عن الوليد ابن أبي ثور، وقالوا عن عباد ابن أبي يزيد منهم: فروة ابن أبي الفرا.
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث زياد بن خيثمة عن السدي، عن أبي عمارة الحيواني، عن علي قال: خرجت مع رسول الله ﷺ فجعل لا يمر على شجر ولا حجر إلا سلم عليه.
وقدمنا في المبعث أنه عليه السلام لما رجع وقد أوحي إليه جعل لا يمر بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا قال له: السلام عليك يا رسول الله.
وذكرنا في وقعة بدر، ووقعة حنين رميه عليه السلام بتلك القبضة من التراب وأمره أصحابه أن يتبعوها بالحملة الصادقة فيكون النصر والظفر، والتأييد عقب ذلك سريعا، أما في وقعة بدر فقد قال الله تعالى في سياقها في سورة الأنفال: « وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى » الآية.
وأما في غزوة حنين فقد ذكرناه في الأحاديث بأسانيده وألفاظه بما أغني عن إعادته ههنا، ولله الحمد والمنة.
حديث آخر:
ذكرنا في غزوة الفتح أن رسول الله ﷺ لما دخل المسجد الحرام فوجد الأصنام حول الكعبة فجعل يطعنها بشيء في يده ويقول: « جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، قل: جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ».
وفي رواية أنه جعل لا يشير إلى صنم منها إلا خر لقفاه، وفي رواية: إلا سقط.
وقال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر وأحمد بن عيسى اللخمي قالا: ثنا بشر بن بكير، أنا الأوزاعي عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله ﷺ وأنا مستترة بقرام فهتكه، ثم قال: « إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله ».
قال الأوزاعي: وقالت عائشة: أتى رسول الله ﷺ بترس فيه تمثال عقاب فوضع عليه يده فأذهبه الله عز وجل.
باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة
قصة البعير الناد وسجوده له، وشكواه إليه.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، ثنا خلف بن خليفة عن حفص - هو ابن عمر - عن عمه أنس بن مالك قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل.
فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: « قوموا » فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته، فمشى النبي ﷺ نحوه.
فقالت الأنصار: يا رسول الله إنه قد صار مثل الكلب الكلب وإنا نخاف عليك صولته.
فقال: « ليس علي منه بأس ».
فلما نظر الجمل إلى رسول الله ﷺ أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله ﷺ بناصيته أذل ما كانت قط حتى أدخله في العمل.
فقال له أصحابه: يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك ونحن أحق أن نسجد لك.
فقال: « لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تتفجر بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه ».
وهذا إسناد جيد، وقد روى النسائي بعضه من حديث خلف بن خليفة به.
رواية جابر في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام سمعته من أبي مرتين، ثنا الأجلح عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال: أقبلنا مع رسول الله ﷺ من سفر حتى إذا دفعنا إلى حائط من حيطان بني النجار إذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، قال: فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فجاء حتى أتى الحائط فدعا البعير فجاء واضعا مشفره إلى الأرض حتى برك بين يديه.
قال: فقال رسول الله ﷺ: « هاتوا خطاما » فخطمه ودفعه إلى صاحبه.
قال: ثم التفت إلى الناس فقال: « إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس ».
تفرد به الإمام أحمد، وسيأتي عن جابر من وجه أخر، بسياق آخر إن شاء الله، وبه الثقة.
رواية ابن عباس:
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا بشر بن موسى، ثنا يزيد بن مهران أخو خالد الجيار، ثنا أبو بكر ابن عياش عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن ابن عباس قال: جاء قوم إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله إن لنا بعيرا قد ند في حائط.
فجاء إليه رسول الله ﷺ فقال: « تعال » فجاء مطأطئا رأسه حتى خطمه، وأعطاه أصحابه.
فقال له أبو بكر الصديق: يا رسول الله كأنه علم أنك نبي.
فقال رسول الله ﷺ: « ما بين لابتيها أحد إلا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس ».
وهذا من هذا الوجه عن ابن عباس غريب جدا، والأشبه رواية الإمام أحمد عن جابر، اللهم إلا أن يكون الأجلح قد رواه عن الذيال عن جابر عن ابن عباس، والله أعلم.
طريق أخرى عن ابن عباس:
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: ثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا أبو عون الزيادي، ثنا أبو عزة الدباغ عن أبي يزيد المديني، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار كان له فحلان فاغتلما فأدخلهما حائطا فسد عليهما الباب، ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فأراد أن يدعو له، والنبي قاعد معه نفر من الأنصار.
فقال: يا نبي الله إني جئت في حاجة فإن فحلين لي اغتلما، وإني أدخلتهما حائطا وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما الله لي.
فقال لأصحابه: « قوموا معنا » فذهب حتى أتى الباب فقال: « افتح » فأشفق الرجل على النبي ﷺ.
فقال: إفتح ففتح الباب فإذا أحد الفحلين قريبا من الباب فلما رأى رسول الله ﷺ سجد له.
فقال رسول الله: « إئت بشيء أشد رأسه وأمكنك منه » فجاء بخطام فشد رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر فلما رآه وقع له ساجدا.
فقال للرجل: « إئتني بشيء أشد رأسه » فشد رأسه وأمكنه منه.
فقال: « إذهب فإنهما لا يعصيانك ».
فلما رأى أصحاب رسول الله ﷺ ذلك قالوا: يا رسول الله هذان فحلان سجدا لك أفلا نسجد لك؟
قال: « لا آمر أحدا أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».
وهذا إسناد غريب، ومتن غريب.
ورواه الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه دلائل النبوة عن أحمد بن حمدان السحري، عن عمر بن محمد بن بجير البحتري، عن بشر بن آدم، عن محمد بن عون أبي عون الزيادي به.
وقد رواه أيضا من طريق مكي بن إبراهيم عن قائد أبي الورقاء، عن عبد الله ابن أبي أوفى، عن النبي ﷺ بنحو ما تقدم، عن ابن عباس.
رواية أبي هريرة:
قال أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه: أخبرنا أحمد بن حمدان، أنا عمر بن محمد بن بجير، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: انطلقنا مع رسول الله ﷺ إلى ناحية، فأشرفنا إلى حائط فإذا نحن بناضح فلما أقبل الناضح رفع رأسه فبصر برسول الله ﷺ فوضع جرانه على الأرض.
فقال أصحاب رسول الله ﷺ: فنحن أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة.
فقال: « سبحان الله أدون الله؟ ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله، ولو أمرت أحد أن يسجد لشيء من دون الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».
رواية عبد الله بن جعفر في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا مهدي بن ميمون عن محمد ابن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر.
ح، وثنا بهز وعفان قالا: ثنا مهدي، ثنا محمد ابن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله ﷺ ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا لا أخبر به أحدا أبدا، وكان رسول الله ﷺ أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، فدخل يوما حائطا من حيطان الأنصار فأتى جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه.
وقال بهز وعفان: فلما رأى رسول الله حن وذرفت عيناه فمسح رسول الله سراته وذفراه فسكن فقال: « من صاحب الجمل؟ »
فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله.
فقال: « أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله لك إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه ».
وقد رواه مسلم من حديث مهدي بن ميمون به.
رواية عائشة أم المؤمنين في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد وعفان قالا: ثنا حماد - هو ابن سلمة - عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له.
فقال أصحابه: يا رسول الله تسجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك.
فقال: « اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبل أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أبيض كان ينبغي لها أن تفعله ».
وهذا الإسناد على شرط السنن.
وإنما روى ابن ماجه عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد به: « لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » إلى آخره.
رواية يعلى بن مرة الثقفي أو هي قصة أخرى:
قال الإمام أحمد: ثنا أبو سلمة الخزاعي، ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن حبيب ابن أبي جبيرة، عن يعلى بن سيابة قال: كنت مع النبي ﷺ في مسير له فأراد أن يقضي حاجته فأمر وديتين فانضمت إحداهما إلى الأخرى، ثم أمرهما فرجعتا إلى منابتهما، وجاء بعير فضرب بجرانه إلى الأرض ثم جرجر حتى ابتل ما حوله.
فقال رسول الله -ﷺ -: « أتدرون ما يقول البعير؟ إنه يزعم أن صاحبه يريد نحره ».
فبعث إليه رسول الله ﷺ فقال: « أواهبه أنت لي؟ »
فقال: يا رسول الله مالي مال أحب إلي منه.
فقال: « استوص به معروفا ».
فقال: لا جرم لا أكرم مالا لي كرامته يا رسول الله.
قال: وأتى على قبر يعذب صاحبه.
فقال: « إنه يعذب في غير كبير » فأمر بجريدة فوضعت على قبره وقال: « عسى أن يخفف عنه ما دامت رطبة ».
طريق أخرى عنه:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن جعفر، عن يعلى بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله ﷺ: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه، فوقف عليه النبي ﷺ فقال: « أين صاحب هذا البعير؟ »
فجاء فقال: « بعنيه »
فقال: لا بل أهبه لك.
فقال: « لا بل بعنيه ».
قال: لا بل نهبه لك إنه لأهل بيت مالهم معيشة غيره.
قال: « أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكى لكثرة العمل، وقلة العلف فأحسنوا إليه ».
قال: ثم سرنا فنزلنا منزلا فنام رسول الله ﷺ فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له فقال: « هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم على رسول الله ﷺ فأذن لها ».
قال: فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة فأخذ النبي ﷺ بمنخره فقال: « أخرج إني محمد رسول الله ».
قال: ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته امرأة بجزر ولبن، فأمرها أن ترد الجزر، وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبي.
فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك.
طريق أخرى عنه:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نمير، ثنا عثمان بن حكيم، أخبرني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن يعلى بن مرة قال: لقد رأيت رسول الله ﷺ ثلاثا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي: لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها فقالت: يا رسول الله هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة.
قال: « ناولينيه » فرفعته إليه فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا وقال: « بسم الله أنا عبد الله إخسأ عدو الله » ثم ناولها إياه.
فقال: « إلقينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل ».
قال: فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث.
فقال: « ما فعل صبيك؟ »
فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة فاجترر هذه الغنم.
قال: « إنزل فخذ منها واحدة ورد البقية ».
قال: وخرجت ذات يوم إلى الجبانة حتى إذا برزنا قال: « ويحك انظر هل ترى من شيء يواريني؟ »
قلت: ما أرى شيئا يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك.
قال: « فما بقربها؟ »
قلت: شجرة مثلها، أو قريب منها.
قال: « فاذهب إليهما فقل: إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا بإذن الله ».
قال: فاجتمعتا فبرز لحاجته، ثم رجع فقال: « اذهب إليهما فقل لهما: إن رسول الله يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها » فرجعت.
قال: وكنت معه جالسا ذات يوم إذ جاء جمل نجيب حتى صوى بجرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه فقال: « ويحك أنظر لمن هذا الجمل، إن له لشأنا؟ »
قال: فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إليه.
فقال: « ما شأن الجمل هذا؟ »
فقال: وما شأنه؟
قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه.
قال: « فلا تفعل هبه لي أو بعنيه »
قال: بل هو لك يا رسول الله، فوسمه بسمة الصدقة، ثم بعث به.
طريق أخرى عنه:
قال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا الأعمش بن المنهال عن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن النبي ﷺ أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم.
فقال رسول الله ﷺ: « أخرج عدو الله، أنا رسول الله ».
قال: فبرأ، فأهدت إليه كبشين وشيئا من أقط، وشيئا من سمن.
قال: فقال رسول الله: « خذ الأقط والسمن وأحد الكبشين، ورد عليها الآخر ».
ثم ذكر قصة الشجرتين كما تقدم.
وقال أحمد: ثنا أسود، ثنا أبو بكر ابن عياش عن حبيب ابن أبي عمرة، عن المنهال بن عمرو، عن يعلى قال: ما أظن أن أحدا من الناس رأى رسول الله ﷺ إلا دون ما رأيت، فذكر أمر الصبي، والنخلتين، وأمر البعير إلا أنه قال: « ما لبعيرك يشكوك؟ زعم أنك سانيه حتى إذا كبر تريد نحره »
قال: صدقت والذي بعثك بالحق، قد أردت ذلك والذي بعثك بالحق لا أفعل.
طريق أخرى عنه:
روى البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، ثنا عباس بن محمد الدوري، ثنا حمدان بن الأصبهاني، ثنا يزيد عن عمرو بن عبد الله بن يعلى بن مرة، عن أبيه، عن جده قال: رأيت من رسول الله ﷺ ثلاثة أشياء ما رآها أحد قبلي: كنت معه في طريق مكة فمر بامرأة معها ابن لها به لمم ما رأيت لمما أشد منه.
فقالت: يا رسول الله ابني هذا كما ترى.
فقال: « إن شئت دعوت له » فدعا له.
ثم مضى فمر على بعير ناد جرانه يرغو فقال: « علي بصاحب هذا البعير » فجيء به فقال: « هذا يقول: نتجت عندهم فاستعملوني حتى إذا كبرت عندهم أرادوا أن ينحروني ».
قال: ثم مضى ورأى شجرتين متفرقتين فقال لي: « إذهب فمرهما فليجتمعا لي ».
قال: فاجتمعتا فقضى حاجته.
قال: ثم مضى، فلما انصرف مر على الصبي وهو يلعب مع الغلمان وقد ذهب ما به وهيأت أمه أكبشا فأهدت له كبشين وقالت: ما عاد إليه شيء من اللمم.
فقال النبي ﷺ: « ما من شيء إلا ويعلم أني رسول الله إلا كفرة أو فسقة الجن والإنس ».
فهذه طرق جيدة متعددة تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين، أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة، وقد تفرد بهذا كله الإمام أحمد دون أصحاب الكتب الستة، ولم يرو أحد منهم شيئا سوى ابن ماجه فإنه روى عن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن يحيى بن سليم، عن خيثم، عن يونس بن خباب، عن يعلى بن مرة أن رسول الله ﷺ كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد.
وقد اعتنى الحافظ أبو نعيم بحديث البعير في كتابه: دلائل النبوة وطرقه من وجوه كثيرة، ثم أورد حديث عبد الله بن قرط اليماني قال: جيء رسول الله ﷺ بست زود فجعلن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ.
وقد قدمت الحديث في حجة الوداع.
قلت: قد أسلفنا عن جابر بن عبد الله نحو قصة الشجرتين، وذكرنا آنفا عن غير واحد من الصحابة نحوا من حديث الجمل لكن بسياق يشبه أن يكون غير هذا، فالله أعلم.
وسيأتي حديث الصبي الذي كان يصرع ودعاؤه عليه السلام له وبرؤه في الحال من طرق أخرى.
وقد روى الحافظ البيهقي عن أبي عبد الله الحاكم وغيره، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: خرجت مع رسول الله ﷺ في سفر، وكان رسول الله ﷺ إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه أحد فنزلنا منزلا بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر.
فقال لي: يا جابر خذ الأداوة وانطلق بنا، فملأت الأداوة ماء وانطلقنا فمشينا حتى لا نكاد نرى فأتى شجرتان بينهما أذرع فقال رسول الله ﷺ: « يا جابر انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله: الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما » ففعلت فرجعت فلحقت بصاحبتها فجلس خلفها حتى قضى حاجته، ثم رجعنا فركبنا رواحلنا فسرنا كأنما على رؤسنا الطير تظلنا، وإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات لا يدعه، فوقف رسول الله ﷺ فتناوله فجعله بينه وبين مقدمة الرحل فقال: « إخسأ عدو الله، أنا رسول الله » وأعاد ذلك ثلاث مرات ثم ناولها إياه، فلما رجعنا وكنا بذلك الماء عرضت لنا تلك المرأة ومعها كبشان تقودهما والصبي تحمله.
فقالت: يا رسول الله إقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق إن عاد إليه بعد.
فقال رسول الله ﷺ: « خذوا أحدهما وردوا الآخر ».
قال: ثم سرنا ورسول الله ﷺ بيننا فجاء جمل ناد فلما كان بين السماطين خر ساجدا.
فقال رسول الله ﷺ: « يا أيها الناس من صاحب هذا الجمل؟ »
فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله.
قال: « فما شأنه؟ »
قالوا: سنونا عليه منذ عشرين سنة، فلما كبرت سنه وكانت عليه شحيمة أردنا نحره لنقسمه بين غلمتنا.
فقال رسول الله ﷺ: « تبيعونيه؟ »
قالوا: يا رسول الله هو لك.
قال: « فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله ».
قالوا: يا رسول الله نحن أحق أن نسجد لك من البهائم.
فقال رسول الله ﷺ: « لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن ».
وهذا إسناد جيد رجاله ثقات.
وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث إسماعيل بن عبد الملك ابن أبي الصفراء عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله كان إذا ذهب المذهب أبعد.
ثم قال البيهقي: وحدثنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا الحسين بن علي بن زياد، ثنا أبو حمنة، ثنا أبو قرة عن زياد - هو ابن سعد - عن أبي الزبير أنه سمع يونس بن خباب الكوفي يحدث أنه سمع أبا عبيدة يحدث: عن عبد الله بن مسعود، عن النبي ﷺ أنه كان في سفر إلى مكة فذهب إلى الغائط وكان يبعد حتى لا يراه أحد.
قال: فلم يجد شيئا يتوارى به، فبصر بشجرتين، فذكر قصة الشجرتين، وقصة الجمل بنحو من حديث جابر.
قال البيهقي: وحديث جابر أصح.
قال: وهذه الرواية ينفرد بها زمعة بن صالح، عن زياد - أظنه ابن سعد - عن أبي الزبير.
قلت: وقد يكون هذا أيضا محفوظا ولا ينافي حديث جابر ويعلى بن مرة بل يشهد لهما، ويكون هذا الحديث عند أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر، وعن يونس بن خباب، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، والله أعلم.
وروى البيهقي من حديث معاوية بن يحيى الصيرفي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أسامة بن زيد حديثا طويلا نحو سياق حديث يعلى بن مرة، وجابر بن عبد الله، وفيه قصة الصبي الذي كان يصرع ومجيء أمه بشاة مشوية فقال: « ناوليني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « ناوليني الذراع ».
فناولته.
ثم قال: « ناوليني الذراع ».
فقلت: كم للشاة من ذراع؟
فقال: « والذي نفسي بيده لو سكت لناولتيني ما دعوت ».
ثم ذكر قصة النخلات واجتماعهما وانتقال الحجارة معهما حتى صارت الحجارة رجما خلف النخلات، وليس في سياقه قصة البعير فلهذا لم يورده بلفظه وإسناده، وبالله المستعان.
وقد روى الحافظ ابن عساكر ترجمة غيلان بن سلمة الثقفي بسنده إلى يعلى بن منصور الرازي عن شبيب بن شيبة، عن بشر بن عاصم، عن غيلان بن سلمة قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ فرأينا عجبا، فذكر قصة الشجرتين واستتاره بهما عند الخلاء، وقصة الصبي الذي كان يصرع وقوله: « بسم الله أنا رسول الله أخرج عدو الله » فعوفي، ثم ذكر قصة البعيرين النادين وأنهما سجدا له بنحو ما تقدم في البعير الواحد فلعل هذه قصة أخرى، والله أعلم.
وقد ذكرنا فيما سلف حديث جابر وقصة جمله الذي كان قد أعيي وذلك مرجعهم من تبوك، وتأخره في أخريات القوم فلحقه النبي ﷺ فدعا له وضربه فسار سيرا لم يسر مثله حتى جعل يتقدم أمام الناس.
وذكرنا شراءه عليه السلام منه، وفي ثمنه اختلاف كثير وقع من الرواة لا يضر أصل القصة كما بيناه.
وتقدم حديث أنس في ركوبه عليه السلام على فرس أبي طلحة حين سمع صوتا بالمدينة فركب ذلك الفرس وكان يبطئ، وركب الفرسان نحو ذلك الصوت فوجدوا رسول الله ﷺ قد رجع بعد ما كان كشف ذلك الأمر فلم يجد له حقيقة، وكان قد ركبه عريا لا شيء عليه وهو متقلد سيفا فرجع وهو يقول: « لن تراعوا، لن تراعوا، ما وجدنا من شيء، وإن وجدناه لبحرا ».
أي: لسابقا وكان ذلك الفرس يبطأ قبل تلك الليلة فكان بعد ذلك لا يجارى ولا يكشف له غبار، وذلك كله ببركته عليه الصلاة والسلام.
حديث آخر غريب في قصة البعير:
قال الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه دلائل النبوة - وهو مجلد كبير حافل كثير الفوائد -: أخبرني أبو علي الفوارسي، حدثنا أبو سعيد عن عبد العزيز بن شهلان القواس، حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن خالد الراسبي، حدثنا عبد الرحمن بن علي البصري، حدثنا سلامة بن سعيد بن زياد ابن أبي هند الرازي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، حدثنا غنيم بن أوس - يعني: الرازي - قال: كنا جلوسا مع رسول الله ﷺ إذ أقبل بعير يعدو حتى وقف على رسول الله ﷺ فزعا.
فقال رسول الله ﷺ: « أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، مع أن الله تعالى قد أمن عائذنا، ولا يخاف لائذنا ».
قلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟
قال: « هذا بعير هم أهله بنحره فهرب منهم، فاستغاث بنبيكم ».
فبينا نحن كذلك إذ أقبل أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله ﷺ.
فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منا منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك.
فقال رسول الله ﷺ: « يشكو مر الشكاية ».
فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟
قال: « يقول: إنه ربي في إبلكم جوارا وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء رحلتم إلى موضع الدفء ».
فقالوا: قد كان ذلك يا رسول الله.
فقال: ما جزاء العبد الصالح من مواليه؟
قالوا: يا رسول الله فإنا لا نبيعه ولا ننحره.
قال: « فقد استغاث فلم تغيثوه وأنا أولى بالرحمة منكم لأن الله نزع الرحمة من قلوب المنافقين وأسكنها في قلوب المؤمنين ».
فاشتراه النبي ﷺ بمائة درهم ثم قال: « أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه الله ».
فرغا على هامة رسول الله ﷺ.
فقال رسول الله: « آمين ».
ثم رغا الثانية.
فقال: « آمين ».
ثم رغا الثالثة.
فقال: « آمين ».
ثم رغا الرابعة، فبكى رسول الله ﷺ.
فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟
قال: يقول: جزاك الله أيها النبي عن الإسلام والقرآن خيرا.
قلت: « آمين ».
قال: سكن الله رعب أمتك يوم القيامة كما سكنت رعبي.
قلت: « آمين ».
قال: حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي.
قلت: « آمين ».
قال: لا جعل الله بأسها بينها.
فبكيت وقلت: « هذه خصال سألت ربي فأعطانيها ومنعني واحدة، وأخبرني جبريل عن الله أن فناء أمتك بالسيف فجرى القلم بما هو كائن ».
قلت: هذا الحديث غريب جدا لم أر أحدا من هؤلاء المصنفين في الدلائل أورده سوى هذا المصنف، وفيه غرابة ونكارة في إسناده ومتنه أيضا، والله أعلم.
حديث في سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم
قال أبو محمد عبد الله بن حامد أيضا: قال يحيى بن صاعد: حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا عباد بن يوسف الكندي أبو عثمان، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال: دخل النبي ﷺ حائطا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار وفي الحائط غنم فسجدت له.
فقال أبو بكر: يا رسول الله كنا نحن أحق بالسجود لك من هذه الغنم.
فقال: « إنه لا ينبغي أن يسجد أحد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ».
غريب وفي إسناده من لا يعرف.
قصة الذئب وشهادته بالرسالة
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا القاسم بن الفضل الحداني عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه.
فقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقا ساقه الله إلي؟
فقال: يا عجبي ذئب يكلمني كلام الأنس!
فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد ﷺ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق.
قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله ﷺ فأخبره، فأمر رسول الله ﷺ فنودي: الصلاة جامعة ثم خرج فقال للراعي: « أخبرهم » فأخبرهم.
فقال رسول الله ﷺ: « صدق والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الأنس، ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده ».
وهذا إسناد على شرط الصحيح، وقد صححه البيهقي.
ولم يروه إلا الترمذي من قوله: « والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الأنس » إلى آخره عن سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن القاسم بن الفضل.
ثم قال: وهذا حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث القاسم وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث، وثقه يحيى وابن مهدي.
طريق أخرى عن أبي سعيد الخدري:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب، حدثني عبد الله ابن أبي حسين، حدثني شهر أن أبا سعيد الخدري حدثه عن النبي ﷺ قال: « بينا أعرابي في بعض نواحي المدينة في غنم له عدا عليه ذئب فأخذ شاة من غنمه، فأدركه الأعرابي فاستنقذها منه وهجهجه فعانده الذئب يمشي، ثم أقعى مشتذفرا بذنبه يخاطبه فقال: أخذت رزقا رزقنيه الله.
قال: واعجبا من ذئب مستذفر بذنبه يخاطبني!
فقال: والله إن لتترك أعجب من ذلك.
قال: وما أعجب من ذلك؟
قال: رسول الله ﷺ في النخلتين بين الحرتين يحدث الناس عن أنباء ما قد سبق، وما يكون بعد ذلك.
قال: فنعق الأعرابي بغنمه حتى ألجأها إلى بعض المدينة، ثم مشى إلى النبي ﷺ حتى ضرب عليه بابه، فلما صلى النبي ﷺ قال: « أين الأعرابي صاحب الغنم؟ »
فقام الأعرابي فقال له النبي ﷺ: « حدث الناس بما سمعت، وبما رأيت ».
فحدث الأعرابي الناس بما رأى من الذئب وما سمع منه.
فقال النبي ﷺ عند ذلك: « صدق آيات تكون قبل الساعة، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده ».
وهذا على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.
وقد رواه البيهقي من حديث النفيلي قال: قرأت على معقل بن عبد الله بن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد فذكره.
ثم رواه الحاكم وأبو سعيد بن عمرو عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الجيد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد فذكره.
ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن تميم عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد فذكره.
حديث أبي هريرة في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر عن أشعث بن عبد الملك، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى انتزعها منه.
قال: فصعد الذئب على تل فأقعى فاستذفر وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله عز وجل انتزعته مني.
فقال الرجل: لله إذا رأيت كاليوم ذئبا يتكلم.
فقال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى، وما هو كائن بعدكم.
وكان الرجل يهوديا، فجاء إلى النبي -ﷺ - فأسلم، وخبره فصدقه النبي ﷺ ثم قال رسول الله: « إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه بما أحدثه أهله بعده ».
تفرد به أحمد، وهو على شرط السنن ولم يخرجوه، ولعل شهر بن حوشب قد سمعه من أبي سعيد وأبي هريرة أيضا، والله أعلم.
حديث أنس في ذلك:
قال أبو نعيم في دلائل النبوة: ثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا علي بن الحسن بن سالم، ثنا الحسين الرفا عن عبد الملك بن عمير، عن أنس.
ح، وحدثنا سليمان - هو الطبراني -، ثنا عبد الله بن محمد بن ناجية، ثنا هشام بن يونس اللؤلؤي، ثنا حسين بن سليمان الرفا عن عبد الملك بن عمير، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي ﷺ في غزوة تبوك فشردت علي غنمي فجاء الذئب فأخذ منها شاة فاشتد الرعاء خلفه.
فقال: طعمة أطعمنيها الله تنزعونها مني؟
قال: فبهت القوم.
فقال: ما تعجبون من كلام الذئب، وقد نزل الوحي على محمد فمن مصدق ومكذب.
ثم قال أبو نعيم: تفرد به حسين بن سليمان عن عبد الملك.
قلت: الحسين بن سليمان الرفا هذا يقال له: الطلخي كوفي، أورد له ابن عدي عن عبد الملك بن عمير أحاديث ثم قال: لا يتابع عليها.
حديث ابن عمر في ذلك:
قال البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنا أبو أحمد بن عدي، ثنا عبد الله ابن أبي داود السجستاني، ثنا يعقوب بن يوسف ابن أبي عيسى، ثنا جعفر بن حسن، أخبرني أبو حسن، ثنا عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن عمر: كان راع على عهد رسول الله ﷺ إذ جاء الذئب فأخذ شاة ووثب الراعي حتى انتزعها من فيه.
فقال له الذئب: أما تتقي الله أن تمنعني طعمة أطعمنيها الله تنزعها مني؟
فقال له الراعي: العجب من ذئب يتكلم.
فقال الذئب: أفلا أدلك على ما هو أعجب من كلامي ذلك الرجل في النخل يخبر الناس بحديث الأولين والآخرين أعجب من كلامي.
فانطلق الراعي حتى جاء رسول الله ﷺ فأخبره، وأسلم.
فقال له رسول الله ﷺ: « حدث به الناس ».
قال الحافظ ابن عدي: قال لنا أبو بكر ابن أبي داود: ولد هذا الراعي يقال لهم: بنو مكلم الذئب، ولهم أموال ونعم وهم من خزاعة، واسم مكلم الذئب: أهبان قال: ومحمد بن أشعث الخزاعي من ولده.
قال البيهقي: فدل على اشتهار ذلك، وهذا مما يقوي الحديث.
وقد روى من حديث محمد بن إسماعيل البخاري في التاريخ: حدثني أبو طلحة، حدثني سفيان بن حمزة الأسلمي سمع عبد الله بن عامر الأسلمي عن ربيعة بن أوس، عن أنس بن عمرو، عن أهبان بن أوس قال: كنت في غنم لي فكلمه الذئب وأسلم.
قال البخاري: إسناده ليس بالقوي.
ثم روى البيهقي عن أبي عبد الرحمن السلمي سمعت الحسين بن أحمد الرازي سمعت أبا سليمان المقري يقول: خرجت في بعض البلدان على حمار فجعل الحمار يحيد بي عن الطريق فضربت رأسه ضربات، فرفع رأسه إلي وقال: لي اضرب يا أبا سليمان فإنما على دماغك هو ذا يضرب.
قال: قلت له: كلمك كلاما يفهم!
قال: كما تكلمني وأكلمك.
حديث آخر عن أبي هريرة في الذئب:
وقد قال سعيد بن مسعود: ثنا حبان بن علي، ثنا عبد الملك بن عمير عن أبي الأوس الحارثي، عن أبي هريرة قال: جاء الذئب فأقعى بين يدي النبي ﷺ وجعل يبصبص بذنبه.
فقال رسول الله ﷺ: « هذا وافد الذئاب، جاء ليسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئا ».
قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرا فرماه، فأدبر الذئب وله عواء.
فقال رسول الله ﷺ: « الذئب وما الذئب ».
وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن أبي عبد الله الأصبهاني، عن محمد بن مسلمة، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل به.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل، عن مكحول، عن أبي هريرة فذكره.
وعن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأوبر، عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله ﷺ يوما صلاة الغداة ثم قال: « هذا الذئب وما الذئب جاءكم يسألكم أن تعطوه أو تشركوه في أموالكم ».
فرماه رجل بحجر فمر، أو ولى وله عواء.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري، عن حمزة ابن أبي أسيد قال: خرج رسول الله ﷺ في جنازة رجل من الأنصار بالبقيع فإذا الذئب مفترشا ذراعيه على الطريق فقال رسول الله ﷺ: « هذا جاء يستفرض فافرضوا له ».
قالوا: ترى رأيك يا رسول الله؟
قال: « من كل سائمة شاة في كل عام ».
قالوا: كثير.
قال: فأشار إلى الذئب أن خالسهم، فانطلق الذئب، رواه البيهقي.
وروى الواقدي عن رجل سماه، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: بينا رسول الله ﷺ في المدينة إذ أقبل ذئب فوقف بين يديه.
فقال: « هذا وافد السباع إليكم فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه واحترزتم منه فما أخذ فهو رزقه ».
فقالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا له بشيء.
فأومأ إليه بأصابعه الثلاث أن خالسهم قال: فولى وله عواء.
وقال أبو نعيم: ثنا سليمان بن أحمد، ثنا معاذ بن المثنى، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، ثنا الأعمش عن شمر بن عطية، عن رجل من مزينة أن جهينة قال: أتت وفود الذئاب قريب من مائة ذئب حين صلى رسول الله ﷺ فأقعين.
فقال رسول الله ﷺ: « هذه وفود الذئاب جئنكم يسألنكم لتفرضوا لهن من قوت طعامكم، وتأمنوا على ما سواه » فشكوا إليه الحاجة.
قال: « فأدبروهم ».
قال: فخرجن ولهن عواء.
وقد تكلم القاضي عياض على حديث الذئب، فذكر عن أبي هريرة وأبي سعيد، وعن أهبان ابن أوس، وأنه كان يقال له: مكلم الذئب قال: وقد روى ابن وهب أنه جرى مثل هذا لأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية مع ذئب وجداه أخذ صبيا فدخل الصبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك.
فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة، وتدعونه إلى النار.
فقال أبو سفيان: واللات والعزى لأن ذكرت هذا بمكة ليتركنها أهلوها.
قصة الوحش الذي كان في بيت النبي وكان يحترمه عليه السلام ويوقره ويجله
قال الأعرابي أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا يونس عن مجاهد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان لآل رسول الله ﷺ وحش فإذا خرج رسول الله ﷺ لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله ﷺ قد دخل ربض فلم يترمرم ما دام رسول الله ﷺ في البيت كراهية أن يؤذيه.
ورواه أحمد أيضا عن وكيع وعن قطن كلاهما عن يونس - وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - وهذا الإسناد على شرط الصحيح ولم يخرجوه، وهو حديث مشهور، والله أعلم.
قصة الأسد
وقد ذكرنا في ترجمة سفينة مولى رسول الله ﷺ حديثه حين انكسرت بهم السفينة فركب لوحا منها حتى دخل جزيرة في البحر فوجد فيها الأسد فقال له: يا أبا الحارث إني سفينة مولى رسول الله ﷺ.
قال: فضرب منكبي وجعل يحاذيني حتى أقامني على الطريق، ثم همهم ساعة، فرأيت أنه يودعني.
وقال عبد الرزاق: ثنا معمر عن الحجبي، عن محمد بن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله ﷺ أخطأ الجيش بأرض الروم، أو أسر في أرض الروم فانطلق هاربا يلتمس الجيش فإذا هو بالأسد.
فقال: يا أبا الحارث إني مولى رسول الله ﷺ كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد يبصبصه حتى قام إلى جنبه كلما سمع صوته أهوى إليه، ثم أقبل يمشي إلى جنبه فلم يزل كذلك حتى أبلغه الجيش، ثم رجع الأسد عنه.
رواه البيهقي.
حديث الغزالة
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه دلائل النبوة: حدثنا سليمان بن أحمد إملاء، ثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، ثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، ثنا عبد الكريم بن هلال الجعفي عن صالح المري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: مر رسول الله ﷺ على قوم قد اصطادوا ظبية فشدوها على عمود فسطاط.
فقالت: يا رسول الله إني أخذت ولي خشفان فاستأذن لي أرضعهما وأعود إليهم.
فقال: « أين صاحب هذه؟ »
فقال القوم: نحن يا رسول الله.
قال: خلوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وترجع إليكم.
فقالوا: من لنا بذلك؟
قال: « أنا ».
فأطلقوها فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمر بهم رسول الله - ﷺ - فقال: « أين أصحاب هذه؟ »
فقالوا: هو ذا نحن يا رسول الله.
فقال: « تبيعونيها؟ »
فقالوا: هي لك يا رسول الله.
فقال: « خلوا عنها ».
فأطلقوها فذهبت.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي - من أصله - ثنا أحمد بن موسى بن أنس بن نصر بن عبيد الله بن محمد بن سيرين بالبصرة، ثنا زكريا بن يحيى بن خلاد، ثنا حبان بن أغلب بن تميم، ثنا أبي عن هشام بن حبان، عن الحسن، عن ضبة بن محصن، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: بينا رسول الله ﷺ في حجر من الأرض إذا هاتف يهتف: يا رسول الله، يا رسول الله.
قال: « فالتفت فلم أر أحدا »
قال: « فمشيت غير بعيد، فإذا الهاتف يا رسول الله، يا رسول الله، قال: « التفت فلم أر أحدا » وإذا الهاتف يهتف بي، فاتبعت الصوت وهجمت على ظبية مشدودة الوثاق، وإذا أعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس.
فقالت الظبية: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني قبل ولي خشفان في هذا الجبل فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ثم أعود إلى وثاقي.
قال: « وتفعلين؟ »
قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل.
فأطلقها رسول الله - ﷺ -، فمضت فأرضعت الخشفين وجاءت.
قال: فبينا رسول الله ﷺ يوثقها إذا انتبه الأعرابي.
فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني أصبتها قبيلا فلك فيها من حاجة؟
قال: قلت: « نعم ».
قال: هي لك، فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء فرحا وهي تضرب برجليها في الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
قال أبو نعيم: وقد رواه آدم ابن أبي إياس فقال: حدثني حبي الصدوق نوح بن الهيثم عن حبان بن أغلب، عن أبيه، عن هشام بن حبان ولم يجاوزه به.
وقد رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه دلائل النبوة من حديث إبراهيم بن مهدي عن ابن أغلب بن تميم، عن أبيه، عن هشام بن حبان، عن الحسن بن ضبة ابن أبي سلمة به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة، أنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ثنا أحمد بن حازم ابن أبي عروة الغفاري، ثنا علي بن قادم، ثنا أبو العلاء خالد بن طهمان عن عطية، عن أبي سعيد قال: مر النبي ﷺ بظبية مربوطة إلى خباء فقالت: يا رسول الله خلني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني.
فقال رسول الله ﷺ: « صيد قوم، وربيطة قوم ».
قال: فأخذ عليها فحلفت له.
قال: فحلها فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها فربطها رسول الله ﷺ، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم، فوهبوها له فحلها.
ثم قال رسول الله ﷺ: « لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا ».
قال البيهقي: وروى من وجه آخر ضعيف أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، أنا أبو علي حامد بن محمد الهروي، ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو حفص عمر بن علي، ثنا يعلى بن إبراهيم الغزالي، ثنا الهيثم بن حماد عن أبي كثير، عن يزيد بن أرقم قال: كنت مع النبي ﷺ في بعض سكك المدينة.
قال: فمررنا بخباء أعرابي فإذا بظبية مشدودة إلى الخباء.
فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي اصطادني، وإن لي خشفين في البرية وقد تعقد اللبن في أخلافي فلا هو يذبحني فأستريح، ولا هو يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية.
فقال لها رسول الله ﷺ: « إن تركتك ترجعين؟ »
قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار.
قال: فأطلقها رسول الله ﷺ فلم تلبث أن جاءت تلمض فشدها رسول الله ﷺ إلى الخباء، وأقبل الأعرابي ومعه قربة.
فقال له رسول الله ﷺ: « أتبيعنيها؟ »
قال: هي لك يا رسول الله.
فأطلقها رسول الله ﷺ.
قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ورواه أبو نعيم: ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن بن مطر، ثنا بشر بن موسى فذكره.
قلت: وفي بعضه نكارة والله أعلم.
وقد ذكرنا في باب تكثيره عليه السلام اللبن: حديث تلك الشاة التي جاءت وهي في البرية فأمر رسول الله ﷺ الحسن بن سعيد مولى أبي بكر أن يحلبها فحلبها، وأمره أن يحفظها فذهبت وهو لا يشعر.
فقال رسول الله ﷺ: « ذهب بها الذي جاء بها ».
وهو مروي من طريقين عن صحابيين كما تقدم، والله أعلم.
حديث الضـب على ما فيه من النكارة والغرابة
قال البيهقي: أنا أبو منصور أحمد بن علي الدامغاني من ساكني قرية نامين من ناحية بيهق - قراءة عليه من أصل كتابه - ثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ - في شعبان سنة اثنتين وثلثمائة - ثنا محمد بن الوليد السلمي، ثنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا معمر بن سليمان، ثنا كهمس عن داود ابن أبي هند، عن عامر بن عمر، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبا وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله، فلما رأى الجماعة قال: ما هذا؟
قالوا: هذا الذي يذكر أنه نبي فجاء فشق الناس.
فقال: واللات والعزى ما شملت السماء على ذي لهجة أبغض إلي منك، ولا أمقت منك، ولولا أن يسميني قومي عجولا لعجلت عليك فقتلتك فسررت بقتلك الأسود والأحمر والأبيض وغيرهم.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فأقوم فأقتله.
قال: « يا عمر أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا ».
ثم أقبل على الأعرابي وقال: « ما حملك على أن قلت ما قلت غير الحق، ولم تكرمني في مجلسي؟ »
فقال: وتكلمني أيضا؟ استخفافا برسول الله ﷺ واللات والعزى لا آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضـب - وأخرج الضـب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله ﷺ.
فقال رسول الله ﷺ: « يا ضب ».
فأجابه الضـب بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة.
قال: « من تعبد يا ضب؟ »
قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه.
قال: « فمن أنا يا ضب؟ »
فقال: رسول رب العالمين وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك.
فقال الأعرابي: والله لا أتبع أثرا بعد عين، والله لقد جئتك وما على ظهر الأرض أبغض إلي منك، وإنك اليوم أحب إلي من والدي، ومن عيني ومني، وإني لأحبك بداخلي وخارجي، وسري وعلانيتي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله: « الحمد لله الذي هداك بي، إن هذا الدين يعلو ولا يعلى، ولا يقبل إلا بصلاة ولا تقبل الصلاة إلا بقرآن.
قال: فعلمني.
فعلمه « قل هو الله أحد ».
قال: زدني فما سمعت في البسيط ولا في الوجيز أحسن من هذا.
قال: « يا أعرابي إن هذا كلام الله ليس بشعر، إنك إن قرأت « قل هو الله أحد » مرة كان لك كأجر من قرأ ثلث القرآن، وإن قرأتها مرتين كان لك كأجر من قرأ ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاث مرات كان لك كأجر من قرأ القرآن كله ».
قال الأعرابي: نعم الإله إلهنا يقبل اليسير ويعطي الجزيل.
فقال رسول الله ﷺ: « ألك مال؟ »
فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل هو أفقر مني.
فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: « أعطوه فأعطوه حتى أبطروه ».
قال: فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله إن له عندي ناقة عشراء دون البختية وفوق الأعرى، تلحق ولا تلحق أهديت إلي يوم تبوك، أتقرب بها إلى الله عز وجل فأدفعها إلى الأعرابي؟
فقال رسول الله ﷺ: « وصفت ناقتك فأصف مالك عند الله يوم القيامة؟ »
قال: نعم.
قال: « لك ناقة من درة جوفاء قوائمها من زبرجد أخضر، وعنقها من زبرجد أصفر، عليها هودج وعلى الهودج السندس والاستبرق، وتمر بك على الصراط كالبرق الخاطف، يغبطك بها كل من رآك يوم القيامة ».
فقال عبد الرحمن: قد رضيت، فخرج الأعرابي فلقيه ألف أعرابي من بني سليم على ألف دابة معهم ألف سيف وألف رمح.
فقال لهم: أين تريدون؟
قالوا: نذهب إلى هذا الذي سفه آلهتنا فنقتله.
قال: لا تفعلوا أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وحدثهم الحديث.
فقالوا بأجمعهم: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم دخلوا فقيل لرسول الله فتلقاهم بلا رداء، ونزلوا عن ركبهم يقبلون حيث ولوا عنه وهم يقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ثم قالوا: يا رسول الله مرنا بأمرك.
قال: كونوا تحت راية خالد بن الوليد.
فلم يؤمن من العرب ولا غيرهم ألف غيرهم.
قال البيهقي: قد أخرجه شيخنا أبو عبد الله الحافظ في المعجزات بالإجازة عن أبي أحمد ابن عدي الحافظ.
قلت: ورواه الحافظ أبو نعيم في الدلائل عن أبي القاسم بن أحمد الطبراني - إملاء وقراءة -، حدثنا محمد بن علي بن الوليد السلمي البصري أبو بكر بن كنانة فذكر مثله.
ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن محمد بن علي بن الوليد السلمي.
قال البيهقي: روي في ذلك عن عائشة وأبي هريرة، وما ذكرناه هو أمثل الأسانيد فيه وهو أيضا ضعيف، والحمل فيه على هذا السلمي، والله أعلم.
حديث الحمار
وقد أنكره غير واحد من الحفاظ الكبار فقال أبو محمد بن عبد الله بن حامد: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن حمدان السحركي، حدثنا عمر بن محمد بن بجير، حدثنا أبو جعفر محمد بن يزيد إملاء، أنا أبو عبد الله محمد بن عقبة بن أبو الصهباء، حدثنا أبو حذيفة عن عبد الله بن حبيب الهذلي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أبي منظور قال: لما فتح الله على نبيه ﷺ خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال، وأربعة أزواج خفاف، وعشر أواق ذهب وفضة، وحمار أسود ومكتل.
قال: فكلم النبي ﷺ الحمار، فكلمه الحمار فقال له: « ما اسمك؟ »
قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارا كلهم لم يركبهم إلا نبي لم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك وقد كنت أتوقعك أن تركبني، قد كنت قبلك لرجل يهودي وكنت أعثر به عمدا، وكان يجيع بطني، ويضرب ظهري.
فقال النبي ﷺ: « سميتك يعفور، يا يعفور ».
قال: لبيك.
قال: « تشتهي الإناث؟ »
قال: لا، فكان النبي ﷺ يركبه لحاجته فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله ﷺ.
فلما قبض النبي ﷺ جاء إلى بئر كان لأبي الهيثم بن النبهان فتردى فيها فصارت قبره جزعا منه على رسول الله ﷺ.
حديث الحمرة وهو طائر مشهور
قال أبو داود الطيالسي: ثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فدخل رجل غيطة فأخرج بيضة حمرة فجاءت الحمرة ترف على رسول الله وأصحابه فقال: « أيكم فجع هذه؟ »
فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضتها.
فقال: « رده رده رحمة بها ».
وروى البيهقي عن الحاكم وغيرهم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو معاوية عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله في سفر فمررنا بشجرة فيها فرخا حمرة فأخذناهما.
قال: فجاءت الحمرة إلى رسول الله ﷺ وهي تفرش.
فقال: « من فجع هذه بفرخيها؟ »
قال: فقلنا: نحن.
قال: « ردوهما ».
فرددناهما إلى موضعهما فلم ترجع.
حديث آخر في ذلك وفيه غرابة:
قال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن الحسين بن داود العلوي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأموي، ثنا محمد بن عبيد بن عتبة الكندي، ثنا محمد بن الصلت، ثنا حبان، ثنا أبو سعيد البقال عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله ﷺ إذا أراد الحاجة أبعد.
قال: فذهب يوما فقعد تحت سمرة ونزع خفيه.
قال: ولبس أحدهما فجاء طير فأخذ الخف الآخر فحلق به في السماء فانسلت منه أسود سالح.
فقال رسول الله ﷺ: « هذه كرامة أكرمني الله بها، اللهم إني أعوذ بك من شر ما مشى على رجليه، ومن شر ما يمشي على بطنه ».
حديث آخر:
قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن رجلين من أصحاب النبي ﷺ خرجا من عند النبي ﷺ ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله.
وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن ثابت، عن أنس أن أسيد بن حضير الأنصاري ورجلا آخر من الأنصار تحدثا عند النبي ﷺ في حاجة لهما حتى ذهب من الليل ساعة وهي ليلة شديدة الظلمة حتى خرجا من عند رسول الله ﷺ ينقلبان وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصى أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه حتى مشى في ضوئها حتى أتى كل واحد منهما ضوء عصاه حتى بلغ أهله.
وقد علقه البخاري فقال: وقال معمر: فذكره.
وعلقه البخاري أيضا عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أن عباد بن بشر، وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي ﷺ فذكر مثله.
وقد رواه النسائي عن أبي بكر ابن نافع، عن بشر بن أسيد.
وأسنده البيهقي من طريق يزيد بن هارون كلاهما عن حماد بن سلمة به.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني، ثنا أحمد بن مهران، ثنا عبيد الله بن موسى، أنا كامل بن العلاء عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: كنا نصلي مع رسول الله ﷺ العشاء وكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا فإذا عاد عادا، فلما صلى جعل واحدا ههنا وواحدا ههنا، فجئته فقلت: يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما؟
قال: « لا » فبرقت برقة.
فقال: « إلحقا بأمكما » فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا.
حديث آخر:
قال البخاري في التاريخ: حدثني أحمد بن الحجاج، ثنا سفيان بن حمزة عن كثير بن يزيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله ﷺ فتفرقنا في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي لتنير.
ورواه البيهقي من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي عن سفيان بن حمزة.
ورواه الطبراني من حديث إبراهيم ابن حمزة الزهري، عن سفيان بن حمزة به.
حديث آخر:
قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو محمد بن أحمد بن عبد الله المدني، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو كريب، ثنا يزيد بن الحباب، ثنا عبد الحميد ابن أبي عبس الأنصاري من بني حارثة، أخبرني ميمون بن زيد ابن أبي عبس، أخبرني أبي أن أبا عبس كان يصلي مع رسول الله ﷺ الصلوات ثم يرجع إلى بني حارثة، فخرج في ليلة مظلمة مطيرة فنور له في عصاه حتى دخل دار بني حارثة.
قال البيهقي: أبو عبس ممن شهد بدرا.
قلت: وروينا عن يزيد بن الأسود - وهو من التابعين -: أنه كان يشهد الصلاة بجامع دمشق من جسرين فربما أضاءت له إبهام قدمه في الليلة المظلمة.
وقد قدمنا في قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي بمكة قبل الهجرة، وأنه سأل رسول الله ﷺ آية يدعو قومه بها، فلما ذهب إليهم وانهبط من الثنية أضاء له نور بين عينيه.
فقال: اللهم لا يقولوا هو مثلة فحوله الله إلى طرف سوطه حتى جعلوا يرونه مثل القنديل.
حديث آخر فيه كرامة لتميم الداري:
روى الحافظ البيهقي من حديث عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن معاوية بن حرمل قال: خرجت نار بالحرة فجاء عمر إلى تميم الداري فقال: قم إلى هذه النار.
قال: يا أمير المؤمنين ومن أنا؟ وما أنا؟
قال: فلم يزل به حتى قام معه.
قال: وتبعتهما، فانطلقا إلى النار فجعل تميم يحوشها بيديه حتى دخلت الشعب، ودخل تميم خلفها.
قال: فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير، قالها ثلاثا.
حديث فيه كرامة لولي من هذه الأمة:
وهي معدودة من المعجزات لأن كل ما يثبت لولي فهو معجزة لنبيه.
قال الحسن بن عروة: ثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي سبرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن فلما كان ببعض الطريق نفق حماره، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللهم إني جئت من الدفينة مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة أطلب إليك اليوم أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه.
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة.
قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلي وغيره عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي وكأنه عند إسماعيل عنهما، والله أعلم.
طريق أخرى:
قال أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت: حدثنا إسحاق بن إسماعيل وأحمد بن بجير وغيرهما قالوا: ثنا محمد بن عبيد عن إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي أن قوما أقبلوا من اليمن متطوعين في سبيل الله، فنفق حمار رجل منهم فأرادوه أن ينطلق معهم فأبى، فقام فتوضأ وصلى ثم قال: اللهم إني جئت من الدفينة مجاهدا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وإني أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي منة فإذا أطلب إليك أن تبعث لي حماري، ثم قام إلى الحمار فضربه فقام الحمار ينفض أذنيه، فأسرجه وألجمه، ثم ركبه وأجراه فلحق بأصحابه.
فقالوا له: ما شأنك؟
قال: شأني أن الله بعث حماري.
قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع في الكناسة - يعني: بالكوفة -.
قال ابن أبي الدنيا: وأخبرني العباس بن هشام عن أبيه، عن جده، عن مسلم بن عبد الله بن شريك النخعي أن صاحب الحمار رجل من النخع يقال له: نباتة بن يزيد، خرج في زمن عمر غازيا حتى إذا كان يلقى عميرة نفق حماره فذكر القصة غير أنه قال: فباعه بعد الكناسة.
فقيل له: تبيع حمارك وقد أحياه الله لك؟
قال: فكيف أصنع؟
وقد قال رجل من رهطه ثلاثة أبيات فحفظت هذا البيت:
ومنا الذي أحيا الإله حماره * وقد مات منه كل عضو ومفصل
وقد ذكرنا في باب رضاعه عليه السلام ما كان من حمارة حليمة السعدية وكيف كانت تسبق الركب في رجوعها لما ركب معها عليها رسول الله ﷺ وهو رضيع وقد كانت أدمت بالركب في مسيرهم إلى مكة، وكذلك ظهرت بركته عليهم في شارفهم - وهي الناقة التي كانوا يحلبونها - وشياههم وسمنهم، وكثرة ألبانها - صلوات الله وسلامه عليه -.
قصة أخرى مع قصة العلاء بن الحضرمي:
قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني خالد بن خداش بن عجلان المهلبي وإسماعيل بن بشار قالا: ثنا صالح المزي عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: عدنا شابا من الأنصار فما كان بأسرع من أن مات فأغمضناه ومددنا عليه الثوب.
وقال بعضنا لأمه: احتسبيه.
قالت: وقد مات؟
قلنا: نعم، فمدت يديها إلى السماء وقالت: اللهم إني آمنت بك وهاجرت إلى رسولك فإذا نزلت بي شدة دعوتك ففرجتها، فأسألك اللهم لا تحمل علي هذه المصيبة.
قال: فكشف الثوب عن وجهه فما برحنا حتى أكلنا وأكل معنا.
وقد رواه البيهقي عن أبي سعيد الماليني، عن ابن عدي، عن محمد بن طاهر بن أبي الدميك، عن عبد الله بن عائشة، عن صالح بن بشير المزني - أحد زهاد البصرة وعبادها مع لين في حديثه - عن أنس فذكر القصة.
وفيه أن أم السائب كانت عجوزا عمياء.
قال البيهقي: وقد روي من وجه آخر مرسل - يعني: فيه انقطاع - عن ابن عدي وأنس بن مالك، ثم ساقه من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس قال: أدركت في هذه الأمة ثلاثا لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم.
قلنا: ما هي يا أبا حمزة؟
قال: كنا في الصفة عند رسول الله - ﷺ - فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياما ثم قبض، فغمضه النبي - ﷺ - وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله.
قال: « يا أنس إئت أمه فأعلمها » فأعلمتها.
قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا، وخالفت الأوثان زهدا، وهاجرت لك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها.
قال: فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه وألقى أثوب عن وجهه وعاش حتى قبض الله رسوله ﷺ، وحتى هلكت أمه.
قال: ثم جهز عمر بن الخطاب جيشا واستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي.
قال أنس: وكنت في غزاته فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحر شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة، فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين، ثم مد يده إلى السماء، وما نرى في السماء شيئا.
قال: فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحا وأنشأ سحابا وأفرغت حتى ملأت الغدر، والشعاب فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا، ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجا في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا علي يا عظيم، يا حليم يا كريم.
ثم قال: أجيزوا بسم الله.
قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيرا فأصبنا العدو عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا، ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا.
قال: فلم نلبث إلا يسيرا حتى رمي في جنازته.
قال: فحفرنا له وغسلناه ودفناه، فأتى رجل بعد فراغنا من دفنه فقال: من هذا؟
فقلنا: هذا خير البشر، هذا ابن الحضرمي.
فقال: إن هذه الأرض تلفظ الموتى، فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى.
فقلنا: ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسباع تأكله؟
قال: فاجتمعنا على نبشه فلما وصلنا إلى اللحد إذا صاحبنا ليس فيه، وإذا اللحد مد البصر نور يتلألأ.
قال: فأعدنا التراب إلى اللحد ثم ارتحلنا.
قال البيهقي رحمه الله: وقد روي عن أبي هريرة في قصة العلاء بن الحضرمي في استسقائه، ومشيهم على الماء دون قصة الموت بنحو من هذا.
وذكر البخاري في التاريخ لهذه القصة إسنادا آخر، وقد أسنده ابن أبي الدنيا عن أبي كريب، عن محمد بن فضيل، عن الصلت بن مطر العجلي، عن عبد الملك بن سهم، عن سهم بن منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي فذكره وقال في الدعاء: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، إسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ، فإذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا.
وقال في البحر: اجعل لنا سبيلا إلى عدوك.
وقال في الموت: أخف جثتي، ولا تطلع على عورتي أحدا، فلم يقدر عليه، والله أعلم.
قصة أخرى:
قال البيهقي: أنا الحسين بن بشران، أنا إسماعيل الصفار، ثنا الحسن بن علي بن عثمان، ثنا ابن نمير عن الأعمش، عن بعض أصحابه قال: انتهينا إلى دجلة وهي مادة والأعاجم خلفها.
فقال رجل من المسلمين: بسم الله ثم اقتحم بفرسه فارتفع على الماء.
فقال الناس: بسم الله، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء.
فنظر إليهم الأعاجم وقالوا: ديوان ديوان، ثم ذهبوا على وجوههم.
قال: فما فقد الناس إلا قدحا كان معلقا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء ببيضاء.
قصة أخرى:
قال البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنا أبو عبد الله بن محمد السمري، ثنا أبو العباس السراج، ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا: ثنا أبو النضر، ثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعو الله عز وجل؟
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
قلت: وستأتي قصة مسلم الخولاني، واسمه عبد الله بن ثوب مع الأسود العنسي حين ألقاه في النار فكانت عليه بردا وسلاما كما كانت على الخليل إبراهيم عليه السلام.
قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت:
وشهادته بالرسالة لمحمد ﷺ، وبالخلافة لأبي بكر الصديق، ثم لعمر، ثم لعثمان - رضي الله عنهم -
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو صالح ابن أبي طاهر العنبري، أنا جدي يحيى بن منصور القاضي، ثنا أبو علي بن محمد بن عمرو بن كشمرد، أنا القعنبي، أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن زيد بن خارجة الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج توفي زمن عثمان بن عفان فسجي بثوبه، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره ثم تكلم ثم قال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوي في أمر الله في الكتاب الأول، صدق صدق عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجهم مضت أربع وبقيت ثنتان، أتت بالفتن وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس، وما بئر أريس؟
قال يحيى: قال سعيد: ثم هلك رجل من بني خطمة فسجي بثوبه فسمع جلجلة في صدره ثم تكلم فقال: إن أخا بني الحارث بنت الخزرج صدق صدق.
ثم رواه البيهقي عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن موسى بن الحسن، عن القعنبي فذكره وقال: هذا إسناد صحيح وله شواهد.
ثم ساقه من طريق أبي بكر عبد الله ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت: حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، ثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد قال: جاء يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن بكتاب أبيه النعمان ابن بشير - يعني: إلى أمه - بسم الله الرحمن الرحيم؛ من النعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو فإنك كتبت إلي لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة، وأنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصح الناس أو أهل المدينة، فتوفي بين صلاة الأولى وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره وغشيناه ببردين وكساء، فأتاني آت في مقامي وأنا أسبح بعد المغرب فقال: إن زيدا قد تكلم بعد وفاته فانصرفت إليه مسرعا، وقد حضره قوم من الأنصار وهو يقول أو يقال على لسانه: الأوسط أجلد الثلاثة الذي كان لا يبالي في الله لومة لائم، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم عبد الله أمير المؤمنين صدق صدق كان ذلك في الكتاب الأول.
ثم قال: عثمان أمير المؤمنين وهو يعافي الناس من ذنوب كثيرة خلت اثنتان وبقي أربع، ثم اختلف الناس وأكل بعضهم بعضا، فلا نظام وأبيحت الأحماء، ثم ارعوى المؤمنين.
وقال: كتاب الله وقدره أيها الناس أقبلوا على أميركم واسمعوا، وأطيعوا فمن تولى فلا يعهدن دما وكان أمر الله قدرا مقدورا، الله أكبر هذه الجنة وهذه النار، ويقول النبيون والصديقون: سلام عليكم يا عبد الله بن رواحة هل أحسست لي خارجة لأبيه وسعدا اللذين قتلا يوم أحد؟
« كلا إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى » ثم خفت صوته فسألت الرهط عما سبقني من كلامه.
فقالوا: سمعناه يقول: أنصتوا أنصتوا، فنظر بعضنا إلى بعض فإذا الصوت من تحت الثياب.
قال: فكشفنا عن وجهه فقال: هذا أحمد رسول الله سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
ثم قال: أبو بكر الصديق الأمين خليفة رسول الله كان ضعيفا في جسمه، قويا في أمر الله صدق صدق، وكان في الكتاب الأول.
ثم رواه الحافظ البيهقي عن أبي نصر ابن قتادة، عن أبي عمرو ابن بجير، عن علي بن الحسين بن الجنيد، عن المعافى بن سليمان، عن زهير بن معاوية، عن إسماعيل ابن أبي خالد فذكره.
وقال: هذا إسناد صحيح.
وقد روى هشام بن عمار في كتاب البعث عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني عمير بن هانئ، حدثني النعمان بن بشير قال: توفي رجل منا يقال له: خارجة بن زيد، فسجينا عليه ثوبا فذكر نحو ما تقدم.
قال البيهقي: وروي ذلك عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير وذكر بئر أريس كما ذكرنا في رواية ابن المسيب.
قال البيهقي: والأمر فيها أن النبي ﷺ اتخذ خاتما فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر من بعده، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس بعد ما مضى من خلافته ست سنين، فعند ذلك تغيرت عماله وظهرت أسباب الفتن كما قيل على لسان زيد بن خارجة.
قلت: وهي المرادة من قوله: مضت اثنتان وبقي أربع، أو مضت أربع وبقي اثنتان على اختلاف الرواية، والله أعلم.
وقد قال البخاري في التاريخ: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري شهد بدرا، توفي زمن عثمان وهو الذي تكلم بعد الموت.
قال البيهقي: وقد روى في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة، والله أعلم.
قال ابن أبي الدنيا: ثنا خلف بن هشام البزار، ثنا خالد الطحان عن حصين، عن عبد الله بن عبيد الأنصاري أن رجلا من بني سلمة تكلم فقال: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عثمان اللين الرحيم.
قال: ولا أدري أيش قال في عمر، كذا رواه ابن أبي الدنيا في كتابه.
وقد قال الحافظ البيهقي: أنا أبو سعيد ابن أبي عمرو، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى ابن أبي طالب، أنا علي بن عاصم، أنا حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عبيد الأنصاري قال: بينما هم يثورون القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، إذ تكلم رجل من الأنصار من القتلى فقال: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الشهيد، عثمان الرحيم، ثم سكت.
وقال هشام بن عمار في كتاب البعث.
باب في كلام الأموات وعجائبهم
حدثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدثنا عبد الحكم بن عمير عن ربعي بن خراش العبسي قال: مرض أخي الربيع بن خراش فمرضته ثم مات فذهبنا نجهزه فلما جئنا رفع الثوب عن وجهه ثم قال: السلام عليكم.
قلنا: وعليك السلام قد مت.
قال: بلى، ولكن لقيت بعدكم ربي ولقيني بروح وريحان ورب غير غضبان، ثم كساني ثيابا من سندس أخضر، وإني سألته أن يأذن لي أن أبشركم فأذن لي، وإن الأمر كما ترون فسددوا وقاربوا، وبشروا ولا تنفروا، فلما قالها كانت كحصاة وقعت في ماء.
ثم أورد بأسانيد كثيرة في هذا الباب، وهي آخر كتابه.
حديث غريب جدا:
قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليماني وانصرفنا من عدن بقرية يقال لها: الحردة، حدثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليماني عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله ﷺ ووجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجبا، جاءه رجل بغلام يوم ولد.
فقال له رسول الله ﷺ: « من أنا؟ »
قال: أنت رسول الله.
قال: « صدقت، بارك الله فيك ».
ثم قال: إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب.
قال أبي: فكنا نسميه مبارك اليمامة.
قال شاصونة: وقد كنت أمر على معمر فلا أسمع منه.
قلت: هذا الحديث مما تكلم الناس في محمد ابن يونس الكديمي بسببه، وأنكروه عليه واستغربوا شيخه هذا، وليس هذا مما ينكر عقلا ولا شرعا.
فقد ثبت في الصحيح في قصة جريج العابد أنه استنطق ابن تلك البغي فقال له: يا أبا يونس ابن من أنت؟
قال: ابن الراعي، فعلم بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه.
وقد تقدم ذلك على أنه قد روي هذا الحديث من غير طريق الكديمي إلا أنه بإسناد غريب أيضا.
قال البيهقي: أنا أبو سعد عبد الملك ابن أبي عثمان الزاهد، أنا أبو الحسين محمد بن أحمد ابن جميع الغساني - بثغر صيدا -، ثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، ثنا أبي، ثنا جدي شانوصة بن عبيد، حدثني معرض بن عبد الله بن معيقيب عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله ﷺ وجهه كدارة القمر فسمعت منه عجبا، أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفه في خرقة.
فقال له رسول الله ﷺ: « يا غلام من أنا؟ »
قال: أنت رسول الله.
فقال له: « بارك الله فيك ».
ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها.
قال البيهقي: وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ عن أبي الحسن علي بن العباس الوراق، عن أبي الفضل أحمد بن خلف بن محمد المقري القزويني، عن أبي الفضل العباس بن محمد بن شاصونة به.
قال الحاكم: وقد أخبرني الثقة من أصحابنا عن أبي عمر الزاهد قال: لما دخلت اليمن دخلت حردة فسألت عن هذا الحديث، فوجدت فيها لشاصونة عقبا وحملت إلى قبره فزرته.
قال البيهقي: ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل يخالفه في وقت الكلام.
ثم أورد من حديث وكيع عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه أن النبي ﷺ أتي بصبي قد شب لم يتكلم قط.
قال: « من أنا؟ »
قال: أنت رسول الله.
ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه قال: جاءت امرأة بابن لها قد تحرك فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد.
فقال رسول الله ﷺ: « أدنيه مني » فأدنته منه.
فقال: « من أنا؟ »
فقال: أنت رسول الله.
قصة الصبي الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ
قد تقدم ذلك من رواية أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة الثقفي، مع قصة الجمل الحديث بطوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة عن فرقد السنجي، عن سعيد بن جبير بن عباس أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا.
قال: فمسح رسول الله ﷺ صدره ودعا له، فثع ثعة فخرج منه مثل الجرو الأسود يسعى.
تفرد به أحمد، وفرقد السنجي رجل صالح ولكنه سيء الحفظ، وقد روى عنه شعبة وغير واحد، واحتمل حديثه، ولما رواه ههنا شاهد مما تقدم، والله أعلم.
وقد تكون هذه القصة هي كما سبق إيرادها، ويحتمل أن تكون أخرى غيرها، والله أعلم.
حديث آخر في ذلك:
قال أبو بكر البزار: ثنا محمد بن مرزوق، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا صدقة - يعني: ابن موسى - ثنا فرقد - يعني: السنجي - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت: يا رسول الله إن هذا الخبيث قد غلبني.
فقال لها: « إن تصبري على ما أنت عليه تجيئين يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب ».
قالت: والذي بعثك بالحق لأصبرن حتى ألقى الله.
قالت: إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتعلق بها وتقول له: إخسأ، فيذهب عنها.
قال البزار: لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وصدقة ليس به بأس، وفرقد حدث عنه جماعة من أهل العلم منهم شعبة وغيره، واحتمل حديثه على سوء حفظه فيه.
طريق أخرى عن ابن عباس:
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن عمران أبي بكر، ثنا عطاء ابن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟
قلت: بلى.
قال: هذه السوداء أتت رسول الله ﷺ فقالت: إني أصرع وأنكشف، فادع الله لي.
قال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك ».
قالت: لا بل أصبر فادع الله ألا أنكشف ولا ينكشف عني.
قال: فدعا لها.
وهكذا رواه البخاري عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان -.
وأخرجه مسلم عن القواريري، عن يحيى القطان وبشر بن الفضل، كلاهما عن عمران بن مسلم أبي بكر الفقيه البصري، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس فذكر مثله.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد، ثنا مخلد عن ابن جريح قال: أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.
وقد ذكر الحافظ ابن الأثير في الغابة: أن أم زفر هذه كانت مشاطة خديجة بنت خويلد قديما، وأنها عمرت حتى أدركها عطاء ابن أبي رباح، فالله أعلم.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد، ثنا محمد بن يونس، ثنا قرة بن حبيب الغوي، ثنا إياس ابن أبي تميمة عن عطاء، عن أبي هريرة قال: جاءت الحمى إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إبعثني إلى أحب قومك إليك، أو أحب أصحابك إليك - شك قرة -.
فقال: « إذهبي إلى الأنصار ».
فذهبت إليهم فصرعتهم، فجاؤا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله قد أتت الحمى علينا فادع الله لنا بالشفاء، فدعا لهم فكشفت عنهم.
قال: فاتبعته امرأة فقالت: يا رسول الله أدع الله لي فإن لمن الأنصار فادع الله لي كما دعوت لهم.
فقال: « أيهما أحب إليك أن أدعو لك فيكشف عنك، أو تصبرين وتجب لك الجنة ».
فقالت: لا والله يا رسول الله بل أصبر ثلاثا ولا أجعل والله لجنته خطرا.
محمد بن يونس الكديمي ضعيف.
وقد قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا هشام ابن لاحق - سنة خمس وثمانين ومائة -، ثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: استأذنت الحمى على رسول الله ﷺ فقال: « من أنت؟ »
قالت: أنا الحمى أبري اللحم وأمص الدم.
قال: « إذهبي إلى أهل قباء ».
فأتتهم فجاءوا إلى رسول الله ﷺ وقد اصفرت وجوههم فشكوا إليه الحمى.
فقال لهم: « ما شئتم؟ إن شئتم دعوت الله فيكشف عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم ».
قالوا: بل ندعها يا رسول الله.
وهذا الحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد ذكرنا في أول الهجرة دعاءه عليه السلام لأهل المدينة أن يذهب حماها إلى الجحفة فاستجاب الله له ذلك، فإن المدينة كانت من أوبأ أرض الله فصححها الله ببركة حلوله بها، ودعائه لأهلها - صلوات الله وسلامه عليه -.
حديث آخر في ذلك:
قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا شعبة عن أبي جعفر المديني سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أدع الله أن يعافيني.
فقال: « إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت له ».
قال: لا بل أدع الله لي.
قال: فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: « اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك في حاجتي هذه فتقضي وتشفعني فيه وتشفعه في ».
قال: فكان يقول هذا مرارا ثم قال بعد: أحسب أن فيها أن تشفعني فيه.
قال: ففعل الرجل فبرأ.
وقد رواه أحمد أيضا عن عثمان بن عمرو، عن شعبة به.
وقال: اللهم شفعه في، ولم يقل الأخرى وكأنها غلط من الراوي، والله أعلم.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن أحمد بن منصور بن سيار، كلاهما عن عثمان بن عمرو.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن جعفر الخطمي.
ثم رواه أحمد أيضا عن مؤمل بن حماد بن سلمة ابن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف فذكر الحديث.
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن معمر، عن حبان، عن حماد بن سلمة به.
رواه النسائي عن زكريا بن يحيى، عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، وهذه الرواية تخالف ما تقدم، ولعله عند أبي جعفر الخطمي من الوجهين، والله أعلم.
وقد روى البيهقي والحاكم من حديث يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب، عن سعيد الحنطبي، عن أبيه، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله ﷺ وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شق علي.
فقال رسول الله ﷺ: « إئت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فينجلي بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي ».
قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.
قال البيهقي: ورواه أيضا هشام الدستوائي عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف.
حديث آخر:
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا محمد بن بشر، ثنا عبد العزيز بن عمر، حدثني رجل من بني سلامان وبني سعد عن أبيه، عن خاله، أو أن خاله، أو خالها حبيب بن مريط، حدثها أن أباه خرج إلى رسول الله ﷺ وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا أصلا.
فسأله: « ما أصابك؟ »
فقال: كنت أرعى جملا لي فوقعت رجلي على بطن حية فأصبت ببصري.
قال: فنفث رسول الله ﷺ في عينيه فأبصر، فرأيته وإنه ليدخل الخيط في الإبرة، وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان.
قال البيهقي: كذا في كتابه، وغيره يقول: حبيب بن مدرك.
قال: وقد مضى في هذا المعنى حديث قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه فسالت حدقته فردها رسول الله إلى موضعها، فكان لا يدري أيهما أصيبت.
قلت: وقد تقدم ذلك في غزوة أحد، وقد ذكرنا في مقتل أبي رافع مسحه بيده الكريمة على رجل جابر بن عتيك - وقد انكسر ساقه - فبرأ من ساعته.
وذكر البيهقي بإسناده: أنه ﷺ مسح يد محمد بن حاطب - وقد احترقت يده بالنار - فبرأ من ساعته.
وأنه عليه السلام نفث في كف شرحبيل الجعفي فذهبت من كفه سلعة كانت به.
قلت: وتقدم في غزوة خيبر تفله في عيني علي وهو أمرد فبرأ.
وروى الترمذي عن علي حديثه في تعليمه عليه السلام ذلك الدعاء لحفظ القرآن فحفظه.
وفي الصحيح أنه قال لأبي هريرة وجماعة: « من يبسط رداءه اليوم فإنه لا ينسى شيئا من مقالتي ».
قال: فبسطته، فلم أنس شيئا من مقالته تلك.
فقيل: كان ذلك حفظا من أبي هريرة لكل ما سمعه منه في ذلك اليوم.
وقيل: وفي غيره، فالله أعلم.
ودعا لسعد ابن أبي وقاص فبرأ.
وروى البيهقي: أنه دعا لعمه أبي طالب في مرضة مرضها وطلب من رسول الله ﷺ أن يدعو له ربه فبرأ من ساعته.
والأحاديث في هذا كثيرة جدا يطول استقصاؤها.
وقد أورد البيهقي من هذا النوع كثيرا طيبا أشرنا إلى أطراف منه، وتركنا أحاديث ضعيفة الإسناد واكتفينا بما أوردنا عما تركنا، وبالله المستعان.
حديث آخر:
ثبت في الصحيحين من حديث زكريا ابن أبي زائدة زاد مسلم والمغيرة، كلاهما عن شراحيل الشعبي، عن جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل قد أعيا فأراد أن يسيبه.
قال: فلحقني رسول الله ﷺ فضربه ودعا لي، فسار سيرا لم يسر مثله.
وفي رواية: فما زال بين يدي الإبل قدامها حتى كنت أحبس خطامه فلا أقدر عليه.
فقال: « كيف ترى جملك؟ »
فقلت: قد أصابته بركتك يا رسول الله.
ثم ذكر أن رسول الله ﷺ اشتراه منه، واختلف الرواة في مقدار ثمنه على روايات كثيرة، وأنه استثنى حملانه إلى المدينة، ثم لما قدم المدينة جاءه بالجمل فنقده ثمنه وزاده، ثم أطلق له الجمل أيضا، الحديث بطوله.
حديث آخر:
روى البيهقي واللفظ له وهو في صحيح البخاري من حديث حسن بن محمد المروزي عن جرير ابن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: فزع الناس فركب رسول الله ﷺ فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلف رسول الله ﷺ فقال: « لن تراعوا إنه لبحر » فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو بكر القاضي، أنا حامد بن محمد الهروي، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، ثنا رافع بن سلمة بن زياد، حدثني عبد الله ابن أبي الجعد عن جعيل الأشجعي قال: غزوت مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته وأنا على فرس لي عجفاء ضعيفة.
قال: فكنت في أخريات الناس فلحقني رسول الله ﷺ وقال: « سر يا صاحب الفرس ».
فقلت: يا رسول الله عجفاء ضعيفة.
قال: فرفع رسول الله ﷺ مخفقة معه فضربها بها وقال: « اللهم بارك له ».
قال: فلقد رأيتني أمسك برأسها أن تقدم الناس، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا.
ورواه النسائي عن محمد بن رافع، عن محمد بن عبد الله الرقاشي فذكره.
وهكذا رواه أبو بكر ابن أبي خيثمة عن عبيد بن يعيش، عن زيد بن الخباب، عن رافع بن سلمة الأشجعي فذكره.
وقال البخاري في التاريخ: وقال رافع بن زياد بن الجعد ابن أبي الجعد: حدثني أبي عبد الله ابن أبي الجعد أخي سالم، عن جعيل فذكره.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو الحسين ابن الفضل القطان ببغداد، أنا أبو سهل بن زياد القطان، ثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا زكريا بن عدي، ثنا مروان بن معاوية عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني تزوجت امرأة.
فقال: « هلا نظرت إليها؟ فإن في أعين الأنصار شيئا »
قال: قد نظرت إليها.
قال: « على كم تزوجتها؟ » فذكر شيئا.
قال: « كأنهم ينحتون الذهب والفضة من عرض هذه الجبال، ما عندنا اليوم شيء نعطيكه ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثا إلى بني عبس وبعث الرجل فيهم ».
فأتاه فقال: يا رسول الله أعيتني ناقتي أن تنبعث.
قال: فناوله رسول الله ﷺ يده كالمعتمد عليه للقيام فأتاها فضربها برجله.
قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق به القائد.
رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن معين، عن مروان.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزني، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنا أبو جعفر بن عون، أنا الأعمش عن مجاهد أن رجلا اشترى بعيرا فأتى رسول الله ﷺ فقال: إني اشتريت بعيرا فادع الله أن يبارك لي فيه.
فقال: « اللهم بارك له فيه ».
فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا آخر فأتى به رسول الله ﷺ فقال: إني اشتريت بعيرا فادع الله أن يبارك لي فيه.
فقال: « اللهم بارك له فيه ».
فلم يلبث حتى نفق، ثم اشترى بعيرا آخر فأتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله قد اشتريت بعيرين فدعوت الله أن يبارك لي فيهما فادع الله أن يحملني عليه.
فقال: « اللهم احمله عليه » فمكث عنده عشرين سنة.
قال البيهقي: وهذا مرسل ودعاؤه عليه السلام صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين.
حديث آخر:
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنا إسماعيل بن عبد الله الميكالي، ثنا علي بن سعد العسكري، أنا أبو أمية عبد الله بن محمد بن خلاد الواسطي، ثنا يزيد بن هارون، أنا المستلم بن سعيد، ثنا خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن أساف عن أبيه، عن جده حبيب بن أساف قال: أتيت رسول الله ﷺ أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه فقلنا: إنا نشتهي أن نشهد معك مشهدا.
قال: « أسلمتم؟ »
قلنا: لا.
قال: « فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين ».
قال: فأسلمنا، وشهدت مع رسول الله ﷺ فأصابتني ضربة على عاتقي فجافتني فتعلقت يدي، فأتيت رسول الله ﷺ فتفل فيها وألزقها فالتأمت وبرأت، وقتلت الذي ضربني، ثم تزوجت ابنة الذي قتلته وضربني فكانت تقول: لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح.
فأقول: لا عدمت رجلا أعجل أباك إلى النار.
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن يزيد بن هارون بإسناده مثله، ولم يذكر: فتفل فيها فبرأت.
حديث آخر:
ثبت في الصحيحين من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء بن عمر السكري، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله ﷺ الخلاء فوضعت له وضوءا فلما خرج قال: « من صنع هذا؟ »
قالوا: ابن عباس.
قال: « اللهم فقهه في الدين ».
وروى البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن عباس الدورقي، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن زهير، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ وضع يده على كتفي - أو قال: منكبي شك سعيد - ثم قال: « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ».
وقد استجاب الله لرسوله ﷺ هذه الدعوة في ابن عمه، فكان إماما يهتدى بهداه ويقتدى بسناه في علوم الشريعة، ولا سيما في علم التأويل وهو التفسير فإنه انتهت إليه علوم الصحابة قبله، وما كان عقله من كلام ابن عمه رسول الله ﷺ.
وقد قال الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشره أحد منا.
وكان يقول لهم: « نعم ترجمان القرآن ابن عباس ».
هذا وقد تأخرت وفاة ابن عباس عن وفاة عبد الله بن مسعود ببضع وثلاثين سنة فما ظنك بما حصله بعده في هذه المدة؟
وقد روينا عن بعض أصحابه أنه قال: خطب الناس ابن عباس في عشية عرفة ففسر لهم سورة البقرة - أو قال: سورة - ففسرها تفسيرا لو سمعه الروم والترك والديلم لأسلموا - رضي الله عنه وأرضاه -.
حديث آخر:
ثبت في الصحيح أنه عليه السلام دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد.
فكان كذلك حتى روى الترمذي عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي خلدة قال: قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي - ﷺ -؟
فقال: خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك.
وقد روينا في الصحيح: أنه ولد له لصلبه قريب من مائة أو ما ينيف عليها.
وفي رواية: أنه ﷺ قال: « اللهم أطل عمره » فعمر مائة.
وقد دعا ﷺ لأم سليم، ولأبي طلحة في غابر ليلتهما فولدت له غلاما سماه رسول الله ﷺ عبد الله، فجاء من صلبه تسعة كلهم قد حفظ القرآن، ثبت ذلك في الصحيح.
وثبت في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي كثير الغبري، عن أبي هريرة أنه سأل من رسول الله ﷺ أن يدعو لأمه فيهديها الله، فدعا لها، فذهب أبو هريرة فوجد أمه تغتسل خلف الباب فلما فرغت قالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فجعل أبو هريرة يبكي من الفرح، ثم ذهب فأعلم بذلك رسول الله وسأل منه أن يدعو لهما أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، فدعا لهما فحصل ذلك.
قال أبو هريرة: فليس مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا، وقد صدق أبو هريرة في ذلك - رضي الله عنه وأرضاه -.
ومن تمام هذه الدعوة أن الله شهر ذكره في أيام الجمع حيث يذكره الناس بين يدي خطبة الجمعة، وهذا من التقييض القدري والتقدير المعنوي.
وثبت في الصحيح أنه عليه السلام دعا لسعد ابن أبي وقاص وهو مريض فعوفي، ودعا له أن يكون مجاب الدعوة فقال: « اللهم أجب دعوته، وسدد رميته » فكان كذلك، فنعم أمير السرايا والجيوش كان.
وقد دعا على أبي سعدة أسامة بن قتادة حين شهد فيه بالزور بطول العمر، وكثرة الفقر، والتعرض للفتن، فكان ذلك، فكان إذا سئل ذلك الرجل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد.
وثبت في صحيح البخاري وغيره: أنه ﷺ دعا للسائب بن يزيد، ومسح بيده على رأسه فطال عمره حتى بلغ أربعا وتسعين سنة، وهو تام القامة معتدل، ولم يشب منه موضع أصابت يد رسول الله ﷺ ومتع بحواسه وقواه.
وقال أحمد: ثنا جرير بن عمير، ثنا عروة بن ثابت، ثنا علي بن أحمد، حدثني أبو زيد الأنصاري قال: قال لي رسول الله ﷺ: « أدن مني » فمسح بيده على رأسي ثم قال: « اللهم جمله وأدم جماله ».
قال: فبلغ بضعا ومائة - يعني: سنة - وما في لحيته بياض إلا نبذة يسيرة، ولقد كان منبسط الوجه لم ينقبض وجهه حتى مات، قال السهيلي: إسناد صحيح موصول.
ولقد أورد البيهقي لهذا نظائر كثيرة في هذا المعنى تشفي القلوب، وتحصل المطلوب.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، ثنا معتمر، وقال: يحيى بن معين، ثنا عبد الأعلى، ثنا معتمر - هو ابن سليمان - قال: سمعت أبي يحدث عن أبي العلاء قال: كنت عند قتادة بن ملحان في موضعه الذي مات فيه.
قال: فمر رجل في مؤخر الدار.
قال: فرأيته في وجه قتادة.
وقال: كان رسول الله ﷺ قد مسح وجهه.
قال: وكنت قبل ما رأيته إلا ورأيت كأن على وجهه الدهان.
وثبت في الصحيحين أنه عليه السلام دعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة حين رأى عليه ذلك الدرع من الزعفران لأجل العرس، فاستجاب الله لرسوله ﷺ ففتح له في المتجر والمغانم حتى حصل له مال جزيل بحيث أنه لما مات صولحت امرأة من نسائه الأربع عن ربع الثمن على ثمانين ألفا.
وثبت في الحديث من طريق شبيب بن غرقد أنه سمع الحي يخبرون عن عروة ابن أبي الجعد المازني أن رسول الله ﷺ أعطاه دينارا ليشتري له به شاة، فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار فقال له: « بارك الله لك في صفقة يمينك ».
وفي رواية: فدعا له بالبركة في البيع فكان لو اشترى التراب لربح فيه.
وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنا ابن وهب، ثنا سعيد ابن أبي أيوب عن أبي عقيل أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن الزبير وابن عمر فيقولان: أشركنا في بيعك فإن رسول الله ﷺ قد دعا لك بالبركة، فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل.
وقال البيهقي: أنا أبو سعد الماليني، أنا ابن عدي، ثنا علي بن محمد بن سليمان الحليمي، ثنا محمد بن يزيد المستملي، ثنا سبابة بن عبد الله، ثنا أيوب بن سيار عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال قال: أذنت في غداة باردة فخرج النبي ﷺ فلم ير في المسجد واحدا فقال: « أين الناس؟ »
فقلت: منعهم البرد.
فقال: « اللهم أذهب عنهم البرد ».
فرأيتهم يتروحون.
ثم قال البيهقي: تفرد به أيوب بن سيار، ونظيره قد مضى في الحديث المشهور عن حذيفة في قصة الخندق.
حديث آخر:
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد العزيز بن عبد الله عن محمد بن عبد الله الأصبهاني إملاء، أنا أبو إسماعيل الترمذي محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا علي ابن أبي علي اللهبي عن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ خرج وعمر بن الخطاب معه، فعرضت له امرأة فقالت: يا رسول الله إني امرأة مسلمة محرمة ومعي زوج لي في بيتي مثل المرأة.
فقال لها رسول الله: « إدعي لي زوجك ».
فدعته، وكان خرازا فقال له: « ما تقول في امرأتك يا عبد الله؟ »
فقال الرجل: والذي أكرمك ما جف رأسي منها.
فقالت امرأته: جاء مرة واحدة في الشهر.
فقال لها رسول الله ﷺ: « أتبغضينه؟ »
قالت: نعم.
فقال رسول الله ﷺ: « أدنيا رءوسكما » فوضع جبهتها على جبهة زوجها ثم قال: « اللهم ألف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحبه » ثم مر رسول الله ﷺ بسوق النمط ومعه عمر بن الخطاب فطلعت المرأة تحمل أدما على رأسها، فلما رأت رسول الله ﷺ طرحته وأقبلت فقبلت رجليه.
فقال: « كيف أنت وزوجك؟ »
فقالت: والذي أكرمك ما طارف ولا تالد أحب إلي منه.
فقال رسول الله ﷺ: « أشهد أني رسول الله »
فقال عمر: وأنا أشهد أنك رسول الله.
قال أبو عبد الله: تفرد به علي بن علي اللهبي، وهو كثير الرواية للمناكير.
قال البيهقي: وقد روى يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - يعني: هذه القصة - إلا أنه لم يذكر عمر بن الخطاب.
حديث آخر:
قال أبو القاسم البغوي: ثنا كامل بن طلحة، ثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن زيد بن جدعان عن أبي الطفيل أن رجلا ولد له غلام فأتى به رسول الله ﷺ فدعا له بالبركة، وأخذ بجبهته فنبتت شعرة في جبهته كأنها هلبة فرس، فشب الغلام فلما كان زمن الخوارج أجابهم، فسقطت الشعرة عن جبهته، فأخذه أبوه فحبسه وقيده مخافة أن يلحق بهم.
قال: فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له: ألم تر إلى بركة رسول الله ﷺ وقعت، فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم.
قال: فرد الله تلك الشعرة إلى جبهته إذ تاب.
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أبي أسامة الكلبي، عن سريج بن مسلم، عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي، حدثني سيف بن وهب عن أبي الطفيل أن رجلا من بني ليث يقال له: فراس بن عمرو أصابه صداع شديد فذهب به أبوه إلى رسول الله ﷺ فأجلسه بين يديه وأخذ بجلدة بين عينيه فجذبها حتى تبعصت فنبتت في موضع أصابع رسول الله ﷺ شعرة وذهب عنه الصداع فلم يصدع، وذكر بقية القصة في الشعرة كنحو ما تقدم.
حديث آخر:
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا هاشم بن القاسم الحراني، ثنا يعلى بن الأشدق سمعت عبد الله بن حراد العقيلي، حدثني النابغة - يعني: الجعدي - قال: أتيت رسول الله ﷺ فأنشدته من قولي:
بلغنا السماء عفة وتكرما * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: « أين المظهر يا أبا ليلى؟ »
قال: قلت: أي الجنة.
قال: « أجل إن شاء الله ».
قال: « أنشدني ».
فأنشدته من قولي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له * بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
قال: « أحسنت لا يفضض الله فاك ».
هكذا رواه البزار إسنادا ومتنا.
وقد رواه الحافظ البيهقي من طريق أخرى فقال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن عبدان، أنا أبو بكر بن محمد بن المؤمل، ثنا جعفر بن محمد بن سوار، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد السكري الرقي، حدثني يعلى بن الأشدق قال: سمعت النابغة نابغة - بني جعدة - يقول: أنشدت رسول الله ﷺ هذا الشعر فأعجبه:
بلغنا السما مجدنا وتراثنا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال لي: « أين المظهر يا أبا ليلى؟ »
قلت: إلى الجنة.
قال: « كذلك إن شاء الله ».
ولا خير في حلم إذا لم يكن له * بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبي ﷺ: « أجدت لا يفضض الله فاك ».
قال يعلى: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن.
قال البيهقي وروي عن مجاهد بن سليم، عن عبد الله بن حراد سمعت نابغة يقول: سمعني رسول الله ﷺ وأنا أنشد من قولي:
بلغنا السماء عفة وتكرما * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ثم ذكر الباقي بمعناه.
قال: فلقد رأيت سنه كأنها البرد المنهل، ما سقط له سن ولا انفلت.
حديث آخر:
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو بكر القاضي وأبو سعيد بن يوسف أبي عمرو قالا: ثنا الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا علي بن بحر القطان، ثنا هاشم بن يوسف، ثنا معمر، ثنا ثابت وسليمان التيمي عن أنس أن رسول الله ﷺ نظر قبل العراق والشام واليمن - لا أدري بأيتهن بدأ - ثم قال: « اللهم أقبل بقلوبهم إلى طاعتك، وحط من أوزارهم ».
ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصغاني، عن علي بن بحر بن سري فذكر بمعناه.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا عمران القطان عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت قال: نظر رسول الله ﷺ قبل اليمن فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم ».
ثم نظر قبل الشام فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم ».
ثم نظر قبل العراق فقال: « اللهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا ».
وهكذا وقع الأمر: أسلم أهل اليمن قبل أهل الشام، ثم كان الخير والبركة قبل العراق، ووعد أهل الشام بالدوام على الهداية والقيام بنصرة الدين إلى آخر الأمر.
وروى أحمد في مسنده: « لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق ».
فصل آداب الطعام
وروى مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن عكرمة بن عمار، حدثني إياس ابن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه أن رجلا أكل عند رسول الله ﷺ بشماله.
فقال له: « كل بيمينك ».
قال: لا أستطيع.
قال: « لا استطعت ما يمنعه إلا الكبر ».
قال: فما رفعها إلى فيه.
وقد رواه أبو داود الطيالسي عن عكرمة، عن إياس، عن أبيه قال: أبصر رسول الله ﷺ بشر بن راعي العير وهو يأكل بشماله فقال: « كل بيمينك ».
قال: لا أستطيع.
قال: « لااستطعت ».
فما وصلت يده إلى فيه بعد.
وثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي حمزة، عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الغلمان فجاء رسول الله ﷺ فاختبأت منه، فجاءني فحطاني حطوة أو حطوتين وأرسلني إلى معاوية في حاجة فأتيته وهو يأكل.
فقلت: أتيته وهو يأكل.
فأرسلني الثانية، فأتيته وهو يأكل.
فقلت: أتيته وهو يأكل.
فقال: « لا أشبع الله بطنه ».
وقد روى البيهقي عن الحاكم، عن علي بن حماد، عن هشام بن علي، عن موسى بن إسماعيل، حدثني أبو عوانة عن أبي حمزة سمعت ابن عباس قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء.
فقلت: ما جاء إلا إلي فذهبت فاختبأت على باب فجاء فخطاني خطوة وقال: « إذهب فادع لي معاوية » - وكان يكتب الوحي -.
قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل.
فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: إنه يأكل.
فقال: « إذهب فادعه لي ».
فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل.
فأتيت رسول الله فأخبرته.
فقال في الثانية: « لا أشبع الله بطنه ».
قال: فما شبع بعدها.
قلت: وقد كان معاوية رضي الله عنه لا يشبع بعدها، ووافقته هذه الدعوة في أيام إمارته فيقال: إنه كان يأكل في اليوم سبع مرات طعاما بلحم وكان يقول: والله لا أشبع وإنما أعيى.
وقال مالك عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة بني أنمار فذكر الحديث في الرجل الذي عليه ثوبان قد خلقا، وله ثوبان في القنية فأمره رسول الله ﷺ فلبسهما ثم ولى.
فقال رسول الله: « ماله ضرب الله عنقه؟ »
فقال الرجل: في سبيل الله.
فقال رسول الله ﷺ: « في سبيل الله ».
فقتل الرجل في سبيل الله.
وقد ورد من هذا النوع كثير، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة بطرق متعددة عن جماعة من الصحابة تفيد القطع كما سنوردها قريبا في باب فضائله ﷺ أنه قال: « اللهم من سببته أو جلدته أو لعنته وليس لذلك أهلا، فاجعل ذلك قربة له تقربه بها عندك يوم القيامة ».
وقد قدمنا في أول البعثة حديث ابن مسعود في دعائه ﷺ على أولئك النفر السبعة الذين أحدهم أبو جهل ابن هشام وأصحابه حين طرحوا على ظهره عليه السلام الجزور وألقته عنه ابنته فاطمة، فلما انصرف قال: « اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة » ثم سمى بقية السبعة.
قال ابن مسعود: فوالذي بعثه بالحق لقد رأيتهم صرعى في القليب قليب بدر، الحديث وهو متفق عليه.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثني هشام، ثنا سليمان - يعني: ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله ﷺ فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب.
قال: فرفعوه وقالوا: هذا كان يكتب لمحمد وأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له وواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا.
ورواه مسلم عن محمد بن راضي، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.
طريق أخرى عن أنس:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب للنبي ﷺ وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران عز فينا - يعني: عظم - فكان رسول الله ﷺ يملي عليه: « غفورا رحيما » فيكتب عليما حكيما، فيقول له النبي ﷺ: « إكتب كذا وكذا ».
فيقول: أكتب كيف شئت.
ويملي عليه: « عليما حكيما ».
فيكتب: سميعا بصيرا.
فيقول: « أكتب كيف شئت ».
قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمد، وإني كنت لا أكتب إلا ما شئت، فمات ذلك الرجل.
فقال النبي ﷺ: « إن الأرض لا تقبله ».
قال أنس: فحدثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا.
فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟
قالوا: قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض.
وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجوه.
طريق أخرى عن أنس:
وقال البخاري: ثنا أبو معمر، ثنا عبد الرزاق، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال: كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ﷺ فعاد نصرانيا.
وكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض.
فقالوا: هذا فعل محمد - وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه - فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه.
باب المسائل التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب عنها بما يطابق الحق الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء
قد ذكرنا في أول البعثة ما تعنتت به قريش وبعثت إلى يهود المدينة يسألونهم عن أشياء يسألون عنها رسول الله ﷺ.
فقالوا: سلوه عن الروح، وعن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدرى ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض بلغ المشارق والمغارب.
فلما رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [64].
وأنزل سورة الكهف يشرح فيها خبر الفتية الذين فارقوا دين قومهم وآمنوا بالله العزيز الحميد، وأفردوه بالعبادة واعتزلوا قومهم، ونزلوا غارا وهو الكهف فناموا فيه ثم أيقظهم الله بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وكان من أمرهم ما قص الله علينا في كتابه العزيز، ثم قص خبر الرجلين المؤمن والكافر وما كان من أمرهما، ثم ذكر خبر موسى والخضر وما جرى لهما من الحكم والمواعظ ثم قال: { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } [65].
ثم شرح ثم ذكر خبره وما وصل إليه من المشارق والمغارب وما عمل من المصالح في العالم، وهذا الإخبار هو الواقع في الواقع، وإنما يوافقه من الكتب التي بأيدي أهل الكتاب ما كان منها حقا وأما ما كان محرفا مبدلا فذاك مردود، فإن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما اختلفوا فيه من الأخبار والأحكام.
قال الله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } [66].
وذكرنا في أول الهجرة قصة إسلام عبد الله بن سلام وأنه قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه قلت: إن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما سمعته يقول: « أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ».
وثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث إسماعيل بن عطية وغيره عن حميد، عن أنس قصة سؤاله رسول الله ﷺ ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟
فقال رسول الله ﷺ: « أخبرني بهن جبريل آنفا ».
ثم قال: « أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه ».
وقد رواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري فذكر مسألة عبد الله بن سلام إلا أنه قال: فسأله عن السواد الذي في القمر بدل أشراط الساعة فذكر الحديث إلى أن قال: « وأما السواد الذي في القمر فإنهما كانا شمسين، فقال الله عز وجل: « وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل » فالسواد الذي رأيت هو المحو ».
فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
حديث آخر في معناه:
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي، أنا أبو الحسن - أحمد بن محمد بن عيدروس -، ثنا عثمان بن سعيد، أنا الربيع بن نافع أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: أخبرني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان حدثه قال: كنت قائما عند رسول الله ﷺ فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها.
قال: لم تدفعني؟
قال: قلت: ألا تقول: يا رسول الله؟
قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله.
فقال رسول الله ﷺ: « إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد ».
فقال اليهودي: جئت أسألك.
فقال رسول الله ﷺ: « ينفعك شيء إن حدثتك؟ »
قال: أسمع بأذني، فنكت بعود معه.
فقال له: « سل ».
فقال له اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟
فقال رسول الله - ﷺ -: « في الظلمة دون الجسر ».
قال: فمن أول الناس إجازة؟
فقال: « فقراء المهاجرين ».
قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟
قال: « زيادة كبد الحوت ».
قال: وما غذاؤهم على إثره؟
قال: « ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ».
قال: فما شرابهم عليه؟
قال: « من عين فيها تسمى سلسبيلا ».
قال: صدقت.
قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان.
قال: « ينفعك إن حدثتك؟ »
قال: أسمع بأذني.
قال: « جئت أسألك عن الولد؟
قال: « ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله ».
فقال اليهودي: صدقت، وإنك لنبي ثم انصرف.
فقال النبي ﷺ: « إنه سألني عنه وما أعلم شيئا منه حتى أتاني الله به ».
وهكذا رواه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني، عن أبي توبة الربيع بن نافع به.
وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو عبد الله بن سلام، ويحتمل أن يكون غيره، والله أعلم.
حديث آخر:
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، حدثني ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود يوما عند رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي؟
قال: « سلوني ما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على نبيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعني على الإسلام ».
قالوا: لك ذلك.
قال: « سلوا عما شئتم ».
قالوا: أخبرنا عن أربع خلال ثم نسألك: أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا؟ وكيف تكون الأنثى حتى تكون الأنثى؟ وأخبرنا عن هذا النبي في النوم ومن وليك من الملائكة؟
قال: « فعليكم عهد الله لئن أنا حدثتكم لتتابعني ».
فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق.
قال: « أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل وأحب الطعام إليه لحمان الإبل؟ ».
قالوا: اللهم نعم.
فقال رسول الله: « اللهم اشهد عليهم ».
قال: « فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، وإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله؟ »
قالوا: اللهم نعم.
قال رسول الله: « اللهم اشهد عليهم ».
قال: « وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ »
قالوا: اللهم نعم.
قال: « اللهم اشهد عليهم ».
قالوا: أنت الآن حدثنا عن وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك.
قال: « وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه » فقالوا: فعندها نفارقك لو كان وليك غيره من الملائكة لبايعناك وصدقناك.
قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟
قالوا: إنه عدونا من الملائكة.
فأنزل الله عز وجل: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } [67].
ونزلت: { فباءوا بغضب على غضب } [68] الآية.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: ثنا يزيد، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } . [69].
فقال: لا تقل له شيئا، فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين فسألاه.
فقال النبي ﷺ: « لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة - أو قال: - لا تفروا من الزحف - شعبة الشاك - وأنتم يا معشر يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت ».
قال: فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي.
قال: فما يمنعكما أن تتبعاني؟
قالا: إن داود - عليه السلام - دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود.
وقد رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه وابن جرير، والحاكم والبيهقي من طرق عن شعبة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
قلت: وفي رجاله من تكلم فيه وكأنه اشتبه على الراوي التسع الآيات بالعشر الكلمات، وذلك أن الوصايا التي أوصاها الله إلى موسى وكلمه بها ليلة القدر بعد ما خرجوا من ديار مصر وشعب بني إسرائيل حول الطور حضور، وهارون ومن معه وقوف على الطور أيضا، وحينئذ كلم الله موسى تكليما آمرا له بهذه العشر كلمات، وقد فسرت في هذا الحديث، وأما التسع الآيات فتلك دلائل وخوارق عادات أيد بها موسى عليه السلام وأظهرها الله على يديه بديار مصر وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والجدب، ونقص الثمرات، وقد بسطت القول على ذلك في التفسير بما فيه الكفاية، والله أعلم.
فصل المباهلة
وقد ذكرنا في التفسير عند قوله تعالى في سورة البقرة: { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } [70].
ومثلها في سورة الجمعة وهي قوله: { قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } [71].
وذكرنا أقوال المفسرين في ذلك، وأن الصواب أنه دعاهم إلى المباهلة، وأن يدعو بالموت على المبطل منهم أو المسلمين، فنكلوا عن ذلك لعلمهم بظلم أنفسهم وأن الدعوة تنقلب عليهم ويعود وبالها إليهم.
وهكذا دعا النصارى من أهل نجران حين حاجوه في عيسى بن مريم، فأمره الله أن يدعوهم إلى المباهلة في قوله: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } [72].
وهكذا دعا على المشركين على وجه المباهلة في قوله: { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } [73].
وقد بسطنا القول في ذلك عند هذه الآيات في كتابنا التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.
حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنه رسول الله
ويتضمن تحاكمهم ولكن بقصد منهم مذموم، وذلك أنهم ائتمروا بينهم أنه إن حكم بما يوافق هواهم اتبعوه وإلا فاحذروا ذلك، وقد ذمهم الله في كتابه العزيز على هذا القصد قال عبد الله بن المبارك: ثنا معمر عن الزهري قال: كنت جالسا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجل وهو يوقره وإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شهد الحديبية وكان من أصحاب أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت جالسا عند رسول الله ﷺ إذ جاء نفر من اليهود وقد زنا رجل منهم وامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا حدا دون الرجم فعلناه واحتججنا عند الله حين نلقاه بتصديق نبي من أنبيائه.
قال مرة عن الزهري: وإن أمرنا بالرجم عصينا فقد عصينا الله فيما كتب علينا من الرجم في التوراة.
فأتوا رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل منا زنا بعد ما أحصن؟
فقام رسول الله - ﷺ - ولم يرجع إليهم شيئا، وقام معه رجال من المسلمين حتى أتوا بيت مدراس اليهود فوجدوهم يتدارسون التوراة.
فقال لهم رسول الله ﷺ: « يا معشر اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنا إذا أحصن؟ »
قالوا: نجبيه، - والتجبية أن يحملوا اثنين على حمار فيولوا ظهر أحدهما ظهر الآخر - قال: وسكت حبرهم - وهو فتى شاب - فلما رآه رسول الله ﷺ صامتا ألظ به النشدة.
فقال حبرهم: أما إذ نشدتهم فإنا نجد في التوراة الرجم على من أحصن.
قال النبي ﷺ: « فما أول ما ترخصتم أمر الله عز وجل؟ »
فقال: زنا رجل منا ذو قرابة بملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، فزنا بعده آخر في أسرة من الناس فأراد ذلك الملك أن يرجمه فقام قومه دونه فقالوا: لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلانا ابن عمه، فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة.
فقال رسول الله ﷺ: « فإني أحكم بما حكم في التوراة ».
فأمر رسول الله ﷺ بهما فرجما.
قال الزهري: وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } [74].
وله شاهد في الصحيح عن ابن عمر.
قلت: وقد ذكرنا ما ورد في هذا السياق من الأحاديث عند قوله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم عن مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } [75].
يعني: الجلد والتحميم الذي اصطلحوا عليه وابتدعوه من عند أنفسهم، يعني: إن حكم لكم محمد بهذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا، يعني: وإن لم يحكم لكم بذلك فاحذروا قبوله.
قال الله تعالى: { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [76].
إلى أن قال: { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } [77].
فذمهم الله تعالى على سوء ظنهم وقصدهم بالنسبة إلى اعتقادهم في كتابهم، وإن فيه حكم الله بالرجم وهم مع ذلك يعلمون صحته ثم يعدلون عنه إلى ما ابتدعوه من التحميم والتجبية.
وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثهم فذكره وعنده.
فقال رسول الله ﷺ لابن صوريا: « أنشدك بالله وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله حكم فيمن زنا بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ »
فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم يعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك.
فخرج رسول الله ﷺ فأمر بهما فرجما عند باب مسجده في بني تميم عند مالك بن النجار.
قال: ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا فأنزل الله: « يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » الآيات.
وقد ذكر عبد الله بن صوريا الأعور في حديث ابن عمير وغيره بروايات صحيحة قد بيناها في التفسير.
حديث آخر:
قال حماد بن سلمة: ثنا ثابت عن أنس أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي ﷺ فمرض فأتاه رسول الله ﷺ يعوده فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة فقال له رسول الله ﷺ: « يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون في التوراة نعتي وصفتي ومخرجي؟
فقال: لا.
فقال الفتى: بلى والله يا رسول الله إنا نجد في التوراة نعتك وصفتك ومخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال النبي لأصحابه: « أقيموا هذا من عند رأسه ولوا أخاكم »
ورواه البيهقي من هذا الوجه بهذا اللفظ.
حديث آخر:
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة ابن عبد الله، عن أبيه قال: إن الله ابتعث نبيه ﷺ لإدخال رجل الجنة، فدخل النبي ﷺ كنيسة وإذا يهودي يقرأ التوراة، فلما أتى على صفته أمسك.
قال: وفي ناحيتها رجل مريض.
فقال النبي ﷺ: « ما لكم أمسكتم؟ »
فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة.
وقال: إرفع يدك، فقرأ حتى أتى على صفته.
فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله ثم مات.
فقال النبي ﷺ: « لوا أخاكم ».
حديث آخر:
أن النبي ﷺ وقف على مدراس اليهود فقال: « يا معشر يهود أسلموا، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله إليكم ».
فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم.
فقال: « ذلك أريد ».
فصل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم
فالذي يقطع به من كتاب الله وسنة رسوله ومن حيث المعنى أن رسول الله ﷺ قد بشرت به الأنبياء قبله، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك ولكن أكثرهم يكتمون ذلك ويخفونه.
قال الله تعالى: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون * قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } [78].
وقال تعالى: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } [79].
وقال تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [80].
وقال تعالى: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } [81].
وقال تعالى: { هذا بلاغ للناس ولينذروا به } [82].
وقال تعالى: { لأنذركم به ومن بلغ } [83].
وقال تعالى: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } [84].
وقال تعالى: { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } [85].
فذكر تعالى: بعثته إلى الأميين، وأهل الكتاب، وسائر الخلق من عربهم وعجمهم، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له.
قال ﷺ: « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بي إلا دخل النار ».
رواه مسلم وفي الصحيحين: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت السماحة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ».
وفيهما « بعثت إلى الأسود والأحمر ».
قيل: إلى العرب والعجم، وقيل: إلى الإنس والجن.
والصحيح أعم من ذلك.
والمقصود أن البشارات به ﷺ موجودة في الكتب الموروثة عن الأنبياء قبله حتى تناهت النبوة إلى آخر أنبياء بني إسرائيل - هو عيسى بن مريم - وقد قام بهذه البشارة في بني إسرائيل وقص الله خبره في ذلك.
فقال تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [86].
فأخبار محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بأن ذكره موجود في الكتب المتقدمة فيما جاء به من القرآن، وفيما ورد عنه من الأحاديث الصحيحة كما تقدم، وهو مع ذلك من أعقل الخلق باتفاق الموافق والمفارق، يدل على صدقه في ذلك قطعا لأنه لو لم يكن واثقا بما أخبر به من ذلك لكان ذلك من أشد المنفرات عنه، ولا يقدم على ذلك عاقل، والغرض أنه من أعقل الخلق حتى عند من يخالفه بل هو أعقلهم في نفس الأمر، ثم إنه قد انتشرت دعوته في المشارق والمغارب، وعمت دولة أمته في أقطار الآفاق عموما لم يحصل لأمة من الأمم قبلها، فلو لم يكن محمد ﷺ نبيا لكان ضرره أعظم من كل أحد، ولو كان كذلك لحذر عنه الأنبياء أشد التحذير، ولنفروا أممهم منه أشد التنفير فإنهم جميعهم قد حذروا من دعاة الضلالة في كتبهم، ونهوا أممهم عن اتباعهم والإقتداء بهم، ونصوا على المسيح الدجال الأعور الكذاب، حتى قد أنذر نوح - وهو أول الرسل قومه - ومعلوم أنه لم ينص نبي من الأنبياء على التحذير من محمد ولا التنفير عنه ولا الإخبار عنه بشيء خلاف مدحه والثناء عليه، والبشارة بوجوده، والأمر باتباعه، والنهي عن مخالفته والخروج من طاعته قال الله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } [87].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه.
رواه البخاري.
وقد وجدت البشارات به ﷺ في الكتب المتقدمة وهي أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وقد قدمنا قبل مولده عليه السلام طرفا صالحا من ذلك، وقررنا في كتاب التفسير عند الآيات المقتضية لذلك آثارا كثيرة، ونحن نورد ههنا شيئا مما وجد في كتبهم التي يعترفون بصحتها، ويتدينون بتلاوتها مما جمعه العلماء قديما وحديثا ممن آمن منهم واطلع على ذلك من كتبهم التي بأيديهم:
ففي السفر الأول من التوراة التي بأيديهم في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام ما مضمونه وتعريبه: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام بعد ما سلمه من نار النمرود أن قم فاسلك الأرض مشارقها ومغاربها لولدك، فلما قص ذلك على سارة طمعت أن يكون ذلك لولدها منه، وحرصت على إبعاد هاجر وولدها حتى ذهب بهما الخليل إلى برية الحجاز وجبال فاران، وظن إبراهيم عليه السلام أن هذه البشارة تكون لولده إسحاق، حتى أوحى الله إليه ما مضمونه: أما ولدك إسحاق فإنه يرزق ذرية عظيمة، وأما ولدك إسماعيل فإني باركته وعظمته وكثرت ذريته، وجعلت من ذريته ماذ ماذ - يعني: محمدا ﷺ وجعلت في ذريته اثنا عشر إماما، وتكون له أمة عظيمة.
وكذلك بشرت هاجر حين وضعها الخليل عند البيت فعطشت وحزنت على ولدها، وجاء الملك فأنبع زمزم وأمرها بالاحتفاظ بهذا الولد فإنه سيولد له منه عظيم له ذرية عدد نجوم السماء، ومعلوم أنه لم يولد من ذرية إسماعيل بل من ذرية آدم أعظم قدرا ولا أوسع جاها، ولا أعلى منزلة ولا أجل منصبا من محمد ﷺ وهو الذي استولت دولة أمته على المشارق والمغارب، وحكموا على سائر الأمم.
وهكذا في قصة إسماعيل من السفر الأول: أن ولد إسماعيل تكون يده على كل الأمم وكل الأمم تحت يده، وبجميع مساكن إخوته يسكن، وهذا لم يكن لأحد يصدق على الطائفة إلا لمحمد ﷺ.
وأيضا في السفر الرابع في قصة موسى أن: الله أوحى إلى موسى عليه السلام أن قل لبني إسرائيل سأقيم لهم نبيا من أقاربهم مثلك يا موسى، وأجعل وحيي بفيه وإياه تسمعون.
وفي السفر الخامس - وهو سفر الميعاد -: أن موسى عليه السلام خطب بني إسرائيل في آخر عمره - وذلك في السنة التاسعة والثلاثين من سني التيه - وذكرهم بأيام الله وأياديه عليهم وإحسانه إليهم وقال لهم فيما قال: واعلموا أن الله سيبعث لكم نبيا من أقاربكم مثل ما أرسلني إليكم يأمركم بالمعروف، وينهاكم عن المنكر، ويحل لكم الطيبات، ويحرم عليكم الخبائث، فمن عصاه فله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وأيضا في آخر السفر الخامس - وهو آخر التوراة التي بأيديهم -: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، وظهر من ربوات قدسه عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشعوب أي: جاء أمر الله وشرعه من طور سيناء - وهو الجبل الذي كلم الله موسى عليه السلام عنده - وأشرق من ساعير وهي جبال بيت المقدس - المحلة التي كان بها عيسى بن مريم عليه السلام - واستعلن أي ظهر وعلا أمره من جبال فاران - وهي جبال الحجاز بلا خلاف - ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد ﷺ فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة على الترتيب الوقوعي، ذكر محلة موسى، ثم عيسى، ثم بلد محمد ﷺ ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضل أولا ثم الأفضل منه، ثم الأفضل منه على قاعدة القسم.
فقال تعالى: { والتين والزيتون } [88].
والمراد بها محلة بيت المقدس حيث كان عيسى عليه السلام.
{ وطور سينين } [89]. وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى.
{ وهذا البلد الأمين } [90]. وهو البلد الذي ابتعث منه محمدا ﷺ قاله غير واحد من المفسرين في تفسير هذه الآيات الكريمات.
وفي زبور داود عليه السلام صفة هذه الأمة بالجهاد والعبادة، وفيه مثل ضربه لمحمد ﷺ بأنه ختام القبة المبنية.
كما ورد به الحديث في الصحيحين: « مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يطيفون بها ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ »
ومصداق ذلك أيضا في قوله تعالى: { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [91].
وفي الزبور صفة محمد ﷺ بأنه ستنبسط نبوته ودعوته وتنفذ كلمته من البحر إلى البحر، وتأتيه الملوك من سائر الأقطار طائعين بالقرابين والهدايا، وأنه يخلص المضطر ويكشف الضر عن الأمم، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويصلى عليه في كل وقت، ويبارك الله عليه في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد، وهذا إنما ينطبق على محمد ﷺ.
وفي صحف شعيا في كلام طويل فيه معاتبة لبني إسرائيل وفيه: فإني أبعث إليكم وإلى الأمم نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ القلب، ولا سخاب في الأسواق، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى في ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحقع شريعته، والهدى ملته، والإسلام دينه، والقرآن كتابه، أحمد اسمه، أهدي به من الضلالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين القلوب المختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، قرابينهم دماؤهم، أناجليهم في صدورهم، رهبانا بالليل، ليوثا بالنهار { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } [92].
وفي الفصل الخامس من كلام شعيا: يدوس الأمم كدوس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب وينهزمون قدامه.
وفي الفصل السادس والعشرين منه: ليفرح أرض البادية العطشى، ويعطي أحمد محاسن لبنان، ويرون جلال الله بمهجته.
وفي صحف إلياس عليه السلام أنه خرج مع جماعة من أصحابه سائحا فلما رأى العرب بأرض الحجاز قال: لمن معه انظروا إلى هؤلاء فإنهم هم الذين يملكون حصونكم العظيمة.
فقالوا: يا نبي الله فما الذي يكون معبودهم؟
فقال: يعظمون رب العزة فوق كل رابية عالية.
ومن صحف حزقيل: إن عبدي خيرتي أنزل عليه وحيي، يظهر في الأمم عدلي، اخترته واصطفيته لنفسي، وأرسلته إلى الأمم بأحكام صادقة.
ومن كتاب النبوات: أن نبيا من الأنبياء مر بالمدينة فأضافه بنو قريظة والنضير، فلما رآهم بكى.
فقالوا له: ما الذي يبكيك يا نبي الله؟
فقال: نبي يبعثه الله من الحرة يخرب دياركم، ويسبي حريمكم.
قال: فأراد اليهود قتله فهرب منهم.
ومن كلام حزقيل عليه السلام يقول الله: من قبل أن صورتك في الأحشاء قدستك، وجعلتك نبيا، وأرسلتك إلى سائر الأمم.
في صحف شعيا أيضا مثل مضروب لمكة - شرفها الله -: إفرحي يا عاقر بهذا الولد الذي يهبه لك ربك، فإن ببركته تتسع لك الأماكن، وتثبت أوتادك في الأرض، وتعلو أبواب مساكنك، ويأتيك ملوك الأرض عن يمينك وشمالك بالهدايا والتقادم، وولدك هذا يرث جميع الأمم، ويملك سائر المدن والأقاليم، ولا تخافي ولا تحرني فما بقي يلحقك ضيم من عدو أبدا، وجميع أيام ترملك تنسيها.
وهذا كله إنما حصل على يدي محمد ﷺ وإنما المراد بهذه العاقر مكة، ثم صارت كما ذكر في هذا الكلام لا محالة.
ومن أراد من أهل الكتاب أن يصرف هذا ويتأوله على بيت المقدس وهذا لا يناسبه من كل وجه، والله أعلم.
وفي صحف أرميا: كوكب ظهر من الجنوب أشعته صواعق، سهامه خوارق، دكت له الجبال، وهذا المراد به محمد ﷺ.
وفي الإنجيل يقول عيسى عليه السلام: إني مرتق إلى جنات العلى، ومرسل إليكم الفارقليط روح الحق يعلمكم كل شيء، ولم يقل شيئا من تلقاء نفسه، والمراد بالفارقليط: محمد - صلوات الله وسلامه عليه -.
وهذا كما تقدم عن عيسى أنه قال: { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [93].
وهذا باب متسع، ولو تقصينا جميع ما ذكره الناس لطال هذا الفصل جدا، وقد أشرنا إلى نبذ من ذلك يهتدي بها من نور الله بصيرته وهداه إلى صراطه المستقيم، وأكثر هذه النصوص يعلمها كثير من علمائهم وأحبارهم، وهم مع ذلك يتكاتمونها ويخفونها.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى بن الفضل ومحمد بن أحمد الصيدلاني قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبيد الله ابن أبي داود المنادي، ثنا يونس بن محمد المؤدب، ثنا صالح بن عمر، ثنا عاصم بن كليب عن أبيه، عن الغليان بن عاصم قال: كنا جلوسا عند النبي ﷺ إذ شخص ببصره إلى رجل فدعاه، فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان فجعل يقول: يا رسول الله.
فجعل رسول الله ﷺ يقول: « أتشهد إني رسول الله؟ ».
فجعل لا يقول شيئا إلا قال: يا رسول الله.
فيقول: « أتشهد أني رسول الله؟ »
فيأبى.
فقال رسول الله ﷺ: « أتقرأ التوراة؟ »
قال: نعم.
قال: « والإنجيل؟ »
قال: نعم، والفرقان ورب محمد لو شئت لقرأته.
قال: « فأنشدك بالذي أنزل التوراة والإنجيل، وأنشأ خلقه بها تجدني فيهما؟ »
قال: نجد مثل نعتك يخرج من مخرجك، كنا نرجو أن يكون فينا، فلما خرجت رأينا أنك هو، فلما نظرنا إذا أنت لست به.
قال: « من أين؟ »
قال: نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وإنما أنتم قليل.
قال: فهلل رسول الله ﷺ وكبر وهلل وكبر ثم قال: « والذي نفس محمد بيده إنني لأنا هو، وإن من أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين ».
جوابه صلى الله عليه وسلم لمن ساءل عما سأل قبل أن يسأله عن شيء منه
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا الزبير بن عبد السلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز - ولم يسمعه منه - قال: حدثني جلساؤه وقد رأيته عن وابصة الأسدي وقال عفان: ثنا غير مرة ولم يقل: حدثني جلساؤه قال: أتيت رسول الله ﷺ وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم.
فقالوا: إليك وابصة عن رسول الله.
فقلت: دعوني فأدنو منه فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه.
قال: « دعوا وابصة، أدن يا وابصة » مرتين أو ثلاثا.
قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه.
فقال: « يا وابصة أخبرك أم تسألني؟ »
فقلت: لا بل أخبرني.
فقال: « جئت تسأل عن البر والإثم ».
فقلت: نعم.
فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول: « يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك » ثلاث مرات « البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ».
باب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده
وهذا باب عظيم لا يمكن استقصاء جميع ما فيه لكثرتها، ولكن نحن نشير إلى طرف منها، وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، وذلك منتزع من القرآن ومن الأحاديث.
أما القرآن
فقال تعالى في سورة المزمل - وهي من أوائل ما نزل بمكة -: { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } [94].
ومعلوم أن الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة بعد الهجرة.
وقال تعالى في سورة اقترب - وهي مكية -: { أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر } [95].
ووقع هذا يوم بدر وقد تلاها رسول الله ﷺ وهو خارج من العريش، ورماهم بقبضة من الحصباء فكان النصر والظفر، وهذا مصداق ذاك.
وقال تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد } [96].
فأخبر أن عمه عبد العزى بن عبد المطلب الملقب بأبي لهب سيدخل النار هو وامرأته، فقدر الله عز وجل أنهما ماتا على شركهما لم يسلما حتى ولا ظاهرا، وهذا من دلائل النبوة الباهرة.
وقال تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [97].
وقال تعالى في سورة البقرة: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } [98].
فأخبر أن جميع الخليقة لو اجتمعوا، وتعاضدوا وتناصروا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته، وحلاوته وإحكام أحكامه، وبيان حلاله وحرامه، وغير ذلك من وجوه إعجازه لما استطاعوا ذلك، ولما قدروا عليه ولا على عشر سور منه بل ولا سورة، وأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا.
و لن لنفي التأبيد في المستقبل، ومثل هذا التحدي وهذا القطع، وهذا الإخبار الجازم لا يصدر إلا عن واثق بما يخبر به، عالم بما يقوله، قاطع أن أحدا لا يمكنه أن يعارضه، ولا يأتي بمثل ما جاء به عن ربه عز وجل.
وقال تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم } [99].
وهكذا وقع سواء بسواء، مكن الله هذا الدين وأظهره وأعلاه ونشره في سائر الآفاق، وأنفذه وأمضاه.
وقد فسر كثير من السلف هذه الآية بخلافة الصديق، ولا شك في دخوله فيها ولكن لا تختص به بل تعمه كما تعم غيره.
كما ثبت في الصحيح: « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لننفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وقد كان ذلك في زمن الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم وأرضاهم -.
وقال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [100].
وهكذا وقع وعم هذا الدين وغلب وعلا على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمته في زمن الصحابة ومن بعدهم، وذلت لهم سائر البلاد ودان لهم جميع أهلها على اختلاف أصنافهم، وصار الناس إما مؤمن داخل في الدين، وإما مهادن باذل الطاعة والمال، وإما محارب خائف وجل من سطوة الإسلام وأهله.
وقد ثبت في الحديث: « إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ».
وقال تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } [101].
وسواء كان هؤلاء هوازن أو أصحاب مسيلمة أو الروم فقد وقع ذلك.
وقال تعالى: { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما * وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا } [102].
وسواء كانت هذه الأخرى خيبر أو مكة فقد فتحت وأخذت كما وقع به الوعد سواء بسواء.
وقال تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } [103].
فكان هذا الوعد في سنة الحديبية عام ست، ووقع إنجازه في سنة سبع عام عمرة القضاء كما تقدم، وذكرنا هناك الحديث بطوله وفيه أن عمر قال: يا رسول الله ألم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال: « بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ »
قال: لا.
قال: « فإنك تأتيه وتطوف به ».
وقال تعالى: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } [104].
وهذا الوعد كان في وقعة بدر لما خرج رسول الله ﷺ من المدينة ليأخذ عير قريش، فبلغ قريشا خروجه إلى عيرهم فنفروا في قريب من ألف مقاتل فلما تحقق رسول الله ﷺ وأصحابه قدومهم وعده الله إحدى الطائفتين أن سيظفره بها إما العير، وإما النفير، فود كثير من الصحابة ممن كان معه أن يكون الوعد للعير لما فيه من الأموال وقلة الرجال، وكرهوا لقاء النفير لما فيه من العدد والعدد، فخار الله لهم وأنجز لهم وعده في النفير بهم بأسه الذي لا يرد فقتل من سراتهم سبعون وأسر سبعون، وفادوا أنفسهم بأموال جزيلة، فجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } [105].
وقد تقدم بيان هذا في غزوة بدر.
وقال تعالى: { ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } [106].
وهكذا وقع فإن الله عوض من أسلم منهم بخير الدنيا والآخرة.
ومن ذلك ما ذكره البخاري أن العباس جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا.
فقال له: « خذ » فأخذ في ثوب مقدارا لم يمكنه أن يقله، ثم وضع منه مرة بعد مرة حتى أمكنه أن يحمله على كاهله وانطلق به كما ذكرناه في موضعه مبسوطا، وهذا من تصديق هذه الآية الكريمة.
وقال تعالى: { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } [107].
هكذا وقع عوضهم الله عما كان يغدو إليهم مع حجاج المشركين بما شرعه لهم من قتال أهل الكتاب، وضرب الجزية عليهم، وسلب أموال من قتل منهم على كفره كما وقع بكفار أهل الشام من الروم ومجوس الفرس بالعراق، وغيرها من البلدان التي انتشر الإسلام على أرجائها وحكم على مدائنها وفيفائها.
قال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [108].
وقال تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس } [109].
وهكذا وقع لما رجع ﷺ من غزوة تبوك كان قد تخلف عنه طائفة من المنافقين فجعلوا يحلفون بالله لقد كانوا معذورين في تخلفهم، وهم في ذلك كاذبون، فأمر الله رسوله أن يجري أحوالهم على ظاهرها ولا يفضحهم عند الناس، وقد أطلعه الله على أعيان جماعة منهم أربعة عشر رجلا كما قدمناه لك في غزوة تبوك، فكان حذيفة بن اليمان ممن يعرفهم بتعريفه إياه ﷺ.
وقال تعالى: { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } [110].
وهكذا وقع لما اشتوروا عليه ليثبتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه من بين أظهرهم، ثم وقع الرأي على القتل، فعند ذلك أمر الله رسوله بالخروج من بين أظهرهم فخرج هو وصديقه أبو بكر فكمنا في غار ثور ثلاثا ثم ارتحلا بعدها كما قدمنا وهذا هو المراد بقوله: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } [111].
وهو مراد من قوله: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [112].
ولهذا قال: { وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } [113].
وقد وقع كما أخبر فإن الملأ الذين اشتوروا على ذلك لم يلبثوا بمكة بعد هجرته ﷺ إلا ريثما استقر ركابه الشريف بالمدينة، وتابعه المهاجرون والأنصار ثم كانت وقعة بدر فقتلت تلك النفوس وكسرت تلك الرءوس، وقد كان ﷺ يعلم ذلك قبل كونه من إخبار الله له بذلك.
ولهذا قال سعد بن معاذ لأمية بن خلف: أما إني سمعت محمدا ﷺ يذكر أنه قاتلك.
فقال: أنت سمعته؟
قال: نعم.
قال: فإنه والله لا يكذب.
وسيأتي الحديث في بابه، وقد قدمنا أنه عليه السلام جعل يشير لأصحابه قبل الوقعة إلى مصارع القتلى، فما تعدى أحد منهم موضعه الذي أشار إليه - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقال تعالى: { الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [114].
وهذا الوعد وقع كما أخبر به، وذلك أنه لما غلبت فارس الروم فرح المشركون واغتم بذلك المؤمنون لأن النصارى أقرب إلى الإسلام من المجوس، فأخبر الله رسوله ﷺ بأن الروم ستغلب الفرس بعد هذه المدة بسبع سنين، وكان من أمر مراهنة الصديق رءوس المشركين على أن ذلك سيقع في هذه المدة ما هو مشهور، كما قررنا في كتابنا التفسير فوقع الأمر كما أخبر به القرآن، غلبت الروم فارس بعد غلبهم غلبا عظيما جدا، وقصتهم في ذلك يطول بسطها وقد شرحناها في التفسير بما فيه الكفاية ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [115].
وكذلك وقع، أظهر الله من آياته ودلائله في أنفس البشر وفي الآفاق بما أوقعه من الناس بأعداء النبوة، ومخالفي الشرع ممن كذب به من أهل الكتابين والمجوس والمشركين، ما دل ذوي البصائر والنهى على أن محمدا رسول الله حقا، وأن ما جاء به من الوحي عن الله صدق، وقد أوقع له في صدور أعدائه وقلوبهم رعبا ومهابة وخوفا.
كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: « نصرت بالرعب مسيرة شهر » وهذا من التأييد والنصر الذي آتاه الله - عز وجل - وكان عدوه يخافه وبينه وبينه مسيرة شهر وقيل: كان إذا عزم على غزو قوم أرعبوا قبل مجيئه إليهم ووروده عليهم بشهر - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين.
فصل الدلائل على إخباره صلى الله عليه وسلم بما وقع
وأما الأحاديث الدالة على إخباره بما وقع كما أخبر فمن ذلك ما أسلفناه في قصة الصحيفة التي تعاقدت فيها بطون قريش وتمالأوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يؤووهم، ولا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله ﷺ فدخلت بنو هاشم وبنو عبد المطلب بمسلمهم وكافرهم شعب أبي طالب آنفين لذلك، ممتنعين منه أبدا ما بقوا دائما ما تناسلوا وتعاقبوا، وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية التي يقول فيها:
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا * ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا * يحوط الذمار غير درب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وكانت قريش قد علقت صحيفة الزعامة في سقف الكعبة، فسلط الله عليها الأرضة فأكلت ما فيها من أسماء الله لئلا يجتمع بما فيها من الظلم والفجور، وقيل: إنها أكلت ما فيها إلا أسماء الله - عز وجل - فأخبر بذلك رسول الله ﷺ عمه أبو طالب.
فجاء أبو طالب إلى قريش فقال: إن ابن أخي قد أخبرني بخبر عن صحيفتكم فإن الله قد سلط عليها الأرضة فأكلتها إلا ما فيها من أسماء الله - أو كما قال: - فأحضروها فإن كان كما قال وإلا أسلمته إليكم، فأنزلوها ففتحوها فإذا الأمر كما أخبر به رسول الله ﷺ فعند ذلك نقضوا حكمها ودخلت بنو هاشم وبنو المطلب مكة، ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك كما أسلفنا ذكره، ولله الحمد.
ومن ذلك حديث خباب بن الأرت حين جاء هو وأمثاله من المستضعفين يستنصرن النبي ﷺ وهو يتوسد رداءه في ظل الكعبة فيدعو لهم لما هم فيه من العذاب والإهانة فجلس محمرا وجهه وقال: « إن من كان قبلكم كان أحدهم يشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر ولكنكم تستعجلون ».
ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري: ثنا محمد بن العلاء، ثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله ابن أبي بردة، عن أبيه، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى أراه عن النبي ﷺ قال: « رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض فيها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقرا والله خير فإذا هم المؤمنون يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي أتانا بعد يوم بدر ».
ومن ذلك قصة سعد بن معاذ مع أمية بن خلف حين قدم عليه مكة. قال البخاري: ثنا أحمد بن إسحاق، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد.
فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت فبينا سعد يطوف فإذا أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟
فقال سعد: أنا سعد.
فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟
فقال: نعم، فتلاحيا بينهما.
فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.
ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام.
قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك وجعل يمسكه.
فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمد ﷺ يزعم أنه قاتلك.
قال: إياي؟
قال: نعم.
قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟
قالت: وما قال لك؟
قال: زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي.
قالت: فوالله ما يكذب محمدا.
قال: فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ.
قالت له امرأته: ما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟
قال: فأراد أن لا يخرج.
فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي فسر يوما أو يومين، فسار معهم فقتله الله.
وهذا الحديث من أفراد البخاري، وقد تقدم بأبسط من هذا السياق.
ومن ذلك قصة أبي بن خلف الذي كان يعلف حصانا له فإذا مر برسول الله ﷺ يقول: إني سأقتلك عليه.
فيقول له رسول الله ﷺ: « بل أنا أقتلك إن شاء الله ».
فقتله يوم أحد كما قدمنا بسطه.
ومن ذلك إخباره عن مصارع القتلى يوم بدر كما تقدم الحديث في الصحيح أنه جعل يشير قبل الوقعة إلى محلها ويقول: « هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان ».
قال: فوالذي بعثه بالحق ما حاد أحد منهم عن مكانه الذي أشار إليه رسول الله ﷺ.
ومن ذلك قوله لذلك الرجل الذي كان لا يترك للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها ففراها بسيفه وذلك يوم أحد، وقيل: خيبر - وهو الصحيح - وقيل: في يوم حنين -.
فقال الناس: ما أغنى أحد اليوم ما أغنى فلان - يقال: إنه قرمان -.
فقال: « إنه من أهل النار ».
فقال بعض الناس: أنا صاحبه فاتبعه فجرح فاستعجل الموت فوضع ذباب سيفه في صدره ثم تحامل عليه حتى أنفذه فرجع ذلك الرجل فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقال: « وما ذاك؟ »
فقال: إن الرجل الذي ذكرت آنفا كان من أمره كيت وكيت، فذكر الحديث كما تقدم.
ومن ذلك إخباره عن فتح مدائن كسرى وقصور الشام، وغيرها من البلاد يوم حفر الخندق لما ضرب بيده الكريمة تلك الصخرة فبرقت من ضربه، ثم أخرى، ثم أخرى كما قدمنا.
ومن ذلك إخباره ﷺ عن ذلك الذراع أنه مسموم، فكان كما أخبر به اعترف إليه بذلك، ومات - من أكل معه - بشر بن البراء بن معرور.
ومن ذلك ما ذكره عبد الرزاق عن معمر أنه بلغه أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم: « اللهم نج أصحاب السفينة ».
ثم مكث ساعة ثم قال: « قد استمرت » والحديث بتمامه في دلائل النبوة للبيهقي، وكانت تلك السفينة قد أشرفت على الغرق وفيها الأشعريون الذين قدموا عليه - وهو بخيبر -.
ومن ذلك إخباره عن قبر أبي رغال حين مر عليه وهو ذاهب إلى الطائف وأن معه غصنا من ذهب، فحفروه فوجدوه كما أخبر- صلوات الله وسلامه عليه -.
رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن بحر ابن أبي بحر، عن عبد الله بن عمرو به.
ومن ذلك قوله عليه السلام للأنصار لما خطبهم تلك الخطبة مسليا لهم عما كان وقع في نفوس بعضهم من الإيثار عليهم في القسمة لما تألف قلوب من تألف من سادات العرب ورؤوس قريش وغيرهم فقال: « أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم ».
وقال: « إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ».
وقال: « إن الناس يكثرون وتقل الأنصار ».
وقال لهم في الخطبة قبل هذه على الصفا: « بل المحيا محياكم، والممات مماتكم ».
وقد وقع جميع ذلك كما أخبر به سواء بسواء.
وقال البخاري: ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب قال: وأخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وقال البخاري: ثنا قبيصة، ثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة رفعه: « إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده » وقال: « لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث جرير، وزاد البخاري وابن عوانة، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير به، وقد وقع مصداق ذلك بعده في أيام الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، استوثقت هذه الممالك فتحا على أيدي المسلمين، وأنفقت أموال قيصر ملك الروم وكسرى ملك الفرس في سبيل الله على ما سنذكره بعد إن شاء الله.
وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمسلمين، وهي أن ملك فارس قد انقطع فلا عودة له، وملك الروم للشام قد زال عنها فلا يملوكها بعد ذلك، ولله الحمد والمنة.
وفيه دلالة على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، والشهادة لهم بالعدل حيث أنفقت الأموال المغنومة في زمانهم في سبيل الله على الوجه المرضي الممدوح.
وقال البخاري: ثنا محمد بن الحكم، ثنا النضر، ثنا إسرائيل، ثنا سعد الطائي، أنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي ﷺ إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل.
فقال: « يا عدي هل رأيت الحيرة؟ »
قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.
قال: « فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ما تخاف أحدا إلا الله عز وجل » - قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟ - « ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى »
قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: « كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقولن له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وولدا وأفضلت عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يسارة فلا يرى إلا جهنم ».
قال عدي: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجد فبكلمة طيبة ».
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة فلا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم ﷺ يخرج ملء كفه.
ثم رواه البخاري عن عبيد الله بن محمد - هو أبو بكر ابن أبي شيبة - عن أبي عاصم النبيل، عن سعدان بن بشر، عن أبي مجاهد - سعد الطائي -، عن محل عنه به.
وقد تفرد به البخاري من هذين الوجهين.
ورواه النسائي من حديث شعبة عن محل عنه: « إتقوا النار ولو بشق تمرة ».
وقد رواه البخاري من حديث شعبة ومسلم من حديث زهير، كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مغفل، عن عدي مرفوعا: « اتقوا النار ولو بشق تمرة ».
وكذلك أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش عن خيثمة عن عبد الرحمن، عن عدي.
وفيها من حديث شعبة عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن عدي به.
وهذه كلها شواهد لأصل هذا الحديث الذي أوردناه، وقد تقدم في غزوة الخندق بفتح مدائن كسرى وقصوره وقصور الشام وغير ذلك من البلاد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل عن قيس، عن خباب قال: أتينا رسول الله ﷺ وهو في ظل الكعبة متوسدا بردة له فقلنا: يا رسول الله أدع الله لنا واستنصره.
قال: فاحمر لونه أو تغير فقال: « لقد كان من قبلكم تحفر له الحفيرة ويجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيشق ما يصرفه عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم أو لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون ».
وهكذا رواه البخاري عن مسدد ومحمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد به.
ثم قال البخاري في كتاب علامات النبوة: حدثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا ليث عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي الحسين، عن عتبة، عن النبي ﷺ أنه خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال: « أنا فرطكم وأنا شهيد عليكم، إني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا، ولكني أخاف أن تنافسوا فيها ».
وقد رواه البخاري أيضا من حديث حيوة بن شريح، ومسلم من حديث يحيى بن أيوب، كلاهما عن يزيد ابن أبي حبيب كرواية الليث عنه.
ففي هذا الحديث مما نحن بصدده أشياء:
منها أنه أخبر الحاضرين أنه فرطهم أي المتقدم عليهم في الموت، وهكذا وقع فإن هذا كان في مرض موته عليه السلام.
ثم أخبر أنه شهيد عليهم، وإن تقدم وفاته عليهم.
وأخبر أنه أعطي مفاتيح خزائن الأرض، أي فتحت له البلادكما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم قال أبو هريرة: فذهب رسول الله ﷺ وأنتم تفتحونها كفرا كفرا، أي بلدا بلدا.
وأخبر أن أصحابه لا يشركون بعده، وهكذا وقع ولله الحمد والمنة.
ولكن خاف عليهم أن ينافسوا في الدنيا، وقد وقع هذا في زمان علي ومعاوية رضي الله عنهما ثم من بعدهما، وهلم جرا إلى وقتنا هذا.
ثم قال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، أنا أزهر بن سعد، أنا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس بن مالك عن أنس أن النبي ﷺ افتقد ثابت بن قيس.
فقال رجل: يا رسول الله أعلم لك علمه.
فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه فقال: ما شأنك؟
فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي - ﷺ - فقد حبط عمله وهو من أهل النار.
فأتى الرجل فأخبره أنه قال: كذا وكذا.
قال موسى: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: « إذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة ».
تفرد به البخاري، وقد قتل ثابت بن قيس بن شماس شهيدا يوم اليمامة، كما سيأتي تفصيله.
وهكذا ثبت في الحديث الصحيح البشارة لعبد الله بن سلام أنه يموت على الإسلام ويكون من أهل الجنة، وقد مات رضي الله عنه على أكمل أحواله وأجملها، وكان الناس يشهدون له بالجنة في حياته لأخبار الصادق عنه بأنه يموت على الإسلام، وكذلك وقع.
وقد ثبت في الصحيح الإخبار عن العشرة بأنهم من أهل الجنة، بل ثبت أيضا الإخبار عنه - صلوات الله وسلامه عليه - بأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، وقيل: وخمسمائة، ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء رضي الله عنه عاش إلا حميدا، ولا مات إلا على السداد والاستقامة والتوفيق، ولله الحمد والمنة.
وهذا من أعلام النبوات ودلالات الرسالة.
فصل في الإخبار بغيوب ماضية ومستقبلة
روى البيهقي من حديث إسرائيل عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إن فلانا مات.
فقال: « لم يمت ».
فعاد الثانية فقال: إن فلانا مات.
فقال: « لم يمت ».
فعاد الثالثة فقال: إن فلانا نحر نفسه بمشقص عنده.
فلم يصل عليه.
ثم قال البيهقي: تابعه زهير عن سماك.
ومن ذلك الوجه رواه مسلم مختصرا في الصلاة.
وقال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا هريم بن سفيان عن سنان بن بشر، عن قيس ابن أبي حازم، عن أبي شهم قال: مرت بي جارية بالمدينة فأخذت بكشحها.
قال: وأصبح الرسول ﷺ يبايع الناس.
قال: فأتيته فلم يبايعني.
فقال: « صاحب الجبيذة ».
قال: قلت: والله لا أعود.
قال: « فبايعني ».
ورواه النسائي عن محمد بن عبد الرحمن الحربي، عن أسود بن عامر به.
ثم رواه أحمد عن سريج، عن يزيد بن عطاء، عن بيان بن بشر، عن قيس، عن أبي شهم فذكره.
وفي صحيح البخاري عن أبي نعيم، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا في عهد رسول الله ﷺ خشية أن ينزل فينا شيء، فلما توفي تكلمنا وانبسطنا.
وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحرث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أنه قال: والله لقد كان أحدنا يكف عن الشيء مع امرأته وهو وإياها في ثوب واحد تخوفا أن ينزل فيه شيء من القرآن.
وقال أبو داود: ثنا محمد بن العلاء، ثنا ابن إدريس، ثنا عاصم بن كليب عن أبيه، عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة فرأيت رسول الله ﷺ وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده فيه، ووضع القوم أيديهم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله ﷺ يلوك لقمة في فيه ثم قال: « أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها ».
قال: فأرسلت المرأة: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم توجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل بها إلي بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها.
فقال رسول الله ﷺ: « أطعميه الأسارى ».
فصل في ترتيب الإخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلى الله عليه وسلم
ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال: قام رسول الله ﷺ فينا مقاما ما ترك فيه شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله، وقد كنت أرى الشيء قد كنت نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه.
وقال البخاري: ثنا يحيى بن موسى، حدثنا الوليد، حدثني ابن جابر، حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: « نعم ».
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: « نعم وفيه دخن ».
قلت: وما دخنه؟
فقال: « قوم يهدون بغير هديي يعرف منهم ينكر ».
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: « نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ».
قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟
قال: « هم من جلدتنا ويكلمون بألسنتنا ».
قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟
قال: « تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ».
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال: « فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ».
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم عن محمد بن المثنى، عن الوليد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن جابر به.
قال البخاري: ثنا محمد بن مثنى، ثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل، عن قيس، عن حذيفة قال: تعلم أصحابي الخير وتعلمت الشر، تفرد به البخاري.
وفي صحيح مسلم من حديث شعبة عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن حذيفة قال: لقد حدثني رسول الله ﷺ بما يكون حتى تقوم الساعة غير أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة منها.
وفي صحيح مسلم من حديث علياء بن أحمر: عن أبي يزيد عمرو بن أخطب قال: أخبرنا رسول الله ﷺ بما كان وبما هو كائن إلى يوم القيامة، فأعلمنا أحفظنا.
وفي الحديث الآخر: « حتى دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ».
وقد تقدم حديث خباب بن الأرت: « والله ليتمن الله هذا الأمر ولكنكم تستعجلون ».
وكذا حديث عدي بن حاتم في ذلك.
وقال الله تعالى: { ليظهره على الدين كله } [116].
وقال تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [117].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: « إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ».
وفي حديث آخر: « ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء ».
وفي الصحيحين من حديث الزهري: عن عروة بن المسور، عن عمرو بن عوف فذكر قصة بعث أبي عبيدة إلى البحرين، قال: وفيه قال: قال رسول الله ﷺ: « أبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تنبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ».
وفي الصحيحين من حديث سفيان الثوري: عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: « هل لكم من أنماط؟ »
قال: قلت: يا رسول الله وأنى يكون لنا أنماط؟
فقال: « أما إنها ستكون لكم أنماط »
قال: فأنا أقول لامرأتي: نحي عني أنماطك، فتقول: ألم يقل رسول الله أنها ستكون لكم أنماط فأتركها.
وفي الصحيحين والمسانيد والسنن وغيرها من حديث هشام بن عروة: عن أبيه عن عبد الله بن الزبير، عن سفيان ابن أبي زهير قال: قال رسول الله ﷺ: « تفتح اليمن فيأتي قوم يبثون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ».
كذلك رواه: عن هشام بن عروة جماعة كثيرون.
وقد أسنده الحافظ ابن عساكر من حديث مالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وأبو معاوية، ومالك بن سعد بن الحسن، وأبو ضمرة أنس بن عياض، وعبد العزيز ابن أبي حازم، وسلمة بن دينار، وجرير بن عبد الحميد.
ورواه أحمد: عن يونس عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة وعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن هشام.
ومن حديث مالك: عن هشام به بنحوه.
ثم روى أحمد: عن سليمان بن داود الهاشمي، عن إسماعيل بن جعفر، أخبرني يزيد بن خصيفة أن بسر بن سعيد أخبره أنه سمع في مجلس المكيين يذكرون أن سفيان أخبرهم فذكر قصة وفيها أن رسول الله ﷺ قال له: « ويوشك الشام أن يفتح فيأتيه رجال من هذا البلد - يعني: المدينة - فيعجبهم ربعهم ورخاؤه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم يفتح العراق فيأتي قوم يثبون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ».
وأخرجه ابن خزيمة من طريق إسماعيل.
ورواه الحافظ ابن عساكر من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ بنحوه.
وكذا حديث ابن حوالة، ويشهد لذلك منعت الشام مدها ودينارها، ومنعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم.
وهو في الصحيح، وكذا حديث المواقيت لأهل الشام واليمن وهو في الصحيحين.
وعند مسلم: ميقات أهل العراق.
ويشهد لذلك أيضا حديث: « إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل ».
وفي صحيح البخاري من حديث أبي إدريس الخولاني: عن عوف بن مالك أنه قال: قال رسول الله ﷺ في غزوة تبوك: « أعدد ستا بين يدي الساعة » فذكر موته عليه السلام ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان وهو الوباء، ثم كثرة المال، ثم فتنة، ثم هدنة بين المسلمين والروم، وسيأتي الحديث فيما بعد.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن شماسة: عن أبي زر قال: قال رسول الله ﷺ: « إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما فإذا رأيت رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها ».
قال: فمر بربيعة وعبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة يختصمان في موضع لبنة فخرج منها - يعني: ديار مصر - على يدي عمرو بن العاص في سنة عشرين كما سيأتي.
وروى ابن وهب: عن مالك والليث عن الزهري، عن ابن لكعب بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: « إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما » رواه البيهقي من حديث إسحق بن راشد: عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه.
وحكى أحمد بن حنبل: عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن قوله: « ذمة ورحما » فقال: من الناس من قال: إن أم إسماعيل هاجر كانت قبطية، ومن الناس من قال: أم إبراهيم.
قلت: الصحيح الذي لا شك فيه أنهما قبطيتان كما قدمنا ذلك، ومعنى قوله: ذمة يعني بذلك: هدية المقوقس إليه وقبوله ذلك منه، وذلك نوع ذمام ومهادنة والله تعالى أعلم.
وتقدم ما رواه البخاري من حديث محل بن خليفة: عن عدي بن حاتم في فتح كنوز كسرى، وانتشار الأمن وفيضان المال حتى لا يتقبله أحد.
وفي الحديث أن عديا شهد الفتح ورأى الظعينة ترتحل من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله.
قال: ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم ﷺ من كثرة المال حتى لا يقبله أحد.
قال البيهقي: وقد كان ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز.
قلت: ويحتمل أن يكون ذلك متأخرا إلى زمن المهدي كما جاء في صفته، أو إلى زمن نزول عيسى بن مريم عليه السلام بعد قتله الدجال.
فإنه قد ورد في الصحيح أنه يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويفيض المال حتى لا يقبله أحد والله تعالى أعلم.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن أبي ذئب: عن مهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يزال هذا الدين قائما ما كان اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، ثم يخرج كذابون بين يدي الساعة وليفتحن عصابة من المسلمين كنز القصر الأبيض قصر كسرى، وأنا فرطكم على الحوض » الحديث بمعناه.
وتقدم حديث عبد الرزاق: عن معمر عن همام، عن أبي هريرة مرفوعا « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل » أخرجاه.
وقال البيهقي: المراد زوال ملك قيصر عن الشام ولا يبقى فيها ملكه على الروم لقوله عليه السلام لما عظم كتابه: « ثبت ملكه ».
وأما ملك فارس فزال بالكلية لقوله: « مزق الله ملكه ».
وقد روى أبو داود: عن محمد بن عبيد عن حماد، عن يونس، عن الحسن أن عمر بن الخطاب - وروينا في طريق أخرى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جيء بفروة كسرى وسيفه ومنطقته وتاجه وسواريه ألبس ذلك كله لسراقة بن مالك بن جعشم وقال: الحمد لله الذي ألبس ثياب كسرى لرجل أعرابي من البادية.
قال الشافعي: إنما ألبسه ذلك لأن النبي ﷺ قال لسراقة - ونظر إلى ذراعيه -: « كأني بك وقد لبست سواري كسرى » والله أعلم.
وقال سفيان بن عيينة: عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم، عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ: « مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وإنكم ستفتحونها ».
فقام رجل فقال: يا رسول الله هب لي ابنته نفيله.
قال: « هي لك ».
فأعطوه إياها فجاء أبوها فقال: أتبيعها؟
قال: نعم.
قال: فبكم؟ أحكم ما شئت؟
قال: ألف درهم.
قال: قد أخذتها.
فقالوا له: لو قلت ثلاثين ألفا لأخذها.
فقال: وهل عدد أكثر من ألف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية عن ضمرة بن حبيب أن ابن زغب الأيادي حدثه قال: نزل علي عبد الله بن حوالة الأزدي فقال لي: بعثنا رسول الله ﷺ حول المدينة على أقدامنا لنغنم فرجعنا ولم نغنم شيئا وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا فقال: « اللهم لا تكلهم إلي فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم » ثم قال: « لتفتحن لكم الشام والروم وفارس، أو الروم وفارس وحتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم كذا وكذا، وحتى يعطي أحدكم مائة دينار فيسخطها » ثم وضع يده على رأسي أو على هامتي فقال: « يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك ».
ورواه أبو داود من حديث معاوية بن صالح.
وقال أحمد: حدثنا حيوة بن شريح ويزيد بن عبد ربه قالا: ثنا بقية، حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان، عن أبي قتيلة، عن ابن حوالة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: « سيصير الأمر إلى أن تكون جنود مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق ».
فقال ابن حوالة: خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك.
فقال: « عليك بالشام فإنه خيرة الله من أرضه يجيء إليه خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم واسعوا من غدره، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله.
وهكذا رواه أبو داود: عن حيوة بن شريح به.
وقد رواه أحمد أيضا: عن عصام بن خالد وعلي بن عياش كلاهما عن حريز بن عثمان، عن سليمان بن شمير، عن عبد الله بن حوالة فذكر نحوه.
ورواه الوليد بن مسلم الدمشقي: عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول وربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عبد الله بن حوالة به.
وقال البيهقي: أنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني أبو علقمة نصر بن علقمة يروي الحديث إلى جبير بن نفير قال: قال عبد الله بن حوالة: كنا عند رسول الله ﷺ فشكونا إليه العري والفقر وقلة الشيء، فقال: « أبشروا فوالله لأنا بكثرة الشيء أخوفني عليكم من قلته والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله عليكم أرض الشام » أو قال: « أرض فارس وأرض الروم وأرض حمير، وحتى تكونوا أجنادا ثلاثة: جند بالشام وجند بالعراق وجند باليمن، وحتى يعطي الرجل المائة فيسخطها ».
قال ابن حوالة: قلت: يا رسول الله ومن يستطيع الشام وبه الروم ذوات القرون؟
قال: « والله ليفتحها الله عليكم وليستخلفنكم فيها حتى تطل العصابة البيض منهم قمصهم الملحمية أقباؤهم قياما على الرويحل الأسود منكم المحلوق ما أمرهم من شيء فعلوه » وذكر الحديث.
قال أبو علقمة: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: فعرف أصحاب رسول الله نعت هذا الحديث في جزء بن سهيل السلمي وكان على الأعاجم في ذلك الزمان، فكانوا إذا رجعوا إلى المسجد نظروا إليه وإليهم قياما حوله فيعجبون لنعت رسول الله ﷺ فيه وفيهم.
وقال أحمد: حدثنا حجاج، ثنا الليث بن سعد، حدثني يزيد ابن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط النجيبي، عن عبد الله بن حوالة الأزدي أن رسول الله ﷺ قال: « من نجا من ثلاث فقد نجا ».
قالوا: ماذا يا رسول الله؟
قال: « موتي ومن قتال خليفة مصطبر بالحق يعطيه والدجال ».
وقال أحمد: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حوالة قال: أتيت على رسول الله ﷺ وهو جالس في ظل دومة وهو عنده كاتب له يملي عليه فقال: « ألا نكتبك يا ابن حوالة؟
قلت: فيم يا رسول الله؟
فأعرض عني وأكب على كاتبه يملي عليه ثم قال: « ألا نكتبك يا ابن حوالة؟ »
قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله؟
فأعرض عني وأكب على كاتبه يملي عليه ثم قال: « ألا نكتبك يا ابن حوالة؟ »
قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله؟
فأعرض عني وأكب على كاتبه يملي عليه، قال: فنظرت فإذا في الكتاب عمر.
فقلت: لا يكتب عمر إلا في خير.
ثم قال: « أنكتبك يا ابن حوالة؟ »
قلت: نعم.
فقال: « يا ابن حوالة كيف تفعل في فتنة تخرج في أطراف الأرض كأنها صياصي نفر؟ »
قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله؟
قال: « فكيف تفعل في أخرى تخرج بعدها كأن الأولى منها انتفاجة أرنب؟ »
قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله.
قال: « ابتغوا هذا ».
قال: ورجل مقفي حينئذ، قال: فانطلقت فسعيت وأخذت بمنكبه فأقبلت بوجهه إلى رسول الله ﷺ فقلت: هذا؟
قال: « نعم ».
قال: فإذا هو عثمان ابن عفان رضي الله عنه.
وثبت في صحيح مسلم من حديث يحيى بن آدم: عن زهير بن معاوية عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه ».
وقال يحيى بن آدم وغيره من أهل العلم: هذا من دلائل النبوة حيث أخبر عما ضربه عمر على أرض العراق من الدراهم والقفزان، وعما ضرب من الخراج بالشام ومصر قبل وجود ذلك - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقد اختلف الناس في معنى قوله عليه السلام: منعت العراق الخ، فقيل: معناه: أنهم يسلمون فيسقط عنهم الخراج ورجحه البيهقي.
وقيل: معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم، ولهذا قال: « وعدتم من حيث بدأتم » أي رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك.
كما ثبت في صحيح مسلم « إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء ».
ويؤيد هذا القول: ما رواه الإمام أحمد حدثنا إسماعيل عن الجريري، عن أبي نصرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله فقال: يوشك أهل العراق أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم.
قلنا: من أين ذلك؟
قال: من قبل العجم يمنعون ذلك، ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجيء إليهم دينار ولا مد.
قلنا: من أين ذلك؟
قال: من قبل الروم يمنعون ذلك.
قال: ثم سكت هنيهة ثم قال: قال رسول الله ﷺ: « يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعده عدا ».
قال الجريري: فقلت لأبي نضرة وأبي العلاء: أتريانه عمر بن عبد العزيز؟
فقالا: لا.
وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن علية وعبد الوهاب الثقفي كلاهما: عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطفة العبدي، عن جابر كما تقدم.
والعجب أن الحافظ أبا بكر البيهقي احتج به على ما رجحه من أحد القولين المتقدمين وفيما سلكه نظر والظاهر خلافه.
وثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله ﷺ وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، وفي صحيح مسلم عن جابر ولأهل العراق ذات عرق، فهذا من دلائل النبوة حيث أخبر عما وقع من حج أهل الشام واليمن والعراق - صلوات الله وسلامه عليه -.
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة: عن عمرو بن دينار عن جابر، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: « ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من صحب رسول الله - ﷺ -؟ فيقال: نعم، فيفتح الله لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله ﷺ؟ فيقال: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صحب من صاحبهم؟ فيقال: نعم، فيفتح الله لهم ».
وثبت في الصحيحين من حديث ثور بن زيد عن أبي الغيث، عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند رسول الله - ﷺ - فأنزلت عليه سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } [118].
فقال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟
فوضع يده على سلمان الفارسي وقال: « لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء ».
وهكذا وقع كما أخبر به عليه السلام.
وروى الحافظ البيهقي من حديث محمد ابن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن بشر قال: قال رسول الله ﷺ: « والذي نفسي بيده لتفتحن عليكم فارس والروم حتى يكثر الطعام فلا يذكر عليه اسم الله عز وجل ».
وروى الإمام أحمد والبيهقي وابن عدي وغير واحد من حديث أوس بن عبد الله بن بريدة: عن أخيه سهل عن أبيه عبد الله بن بريدة بن الخصيب مرفوعا « ستبعث بعوث فكن في بعث خراسان ثم اسكن مدينة مرو فإنه بناها ذو القرنين ودعا لها بالبركة ».
وقال: « لا يصيب أهلها سوء ».
وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ومنهم من يجعله موضوعا فالله أعلم.
وقد تقدم حديث أبي هريرة من جميع طرقه في قتال الترك وقد وقع ذلك كما أخبر به سواء بسواء.
وسيقع أيضا وفي صحيح البخاري من حديث شعبة عن فراب القزاز، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال: « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وإنه سيكون خلفاء فيكثرون ».
قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟
قال: « فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ».
وفي صحيح مسلم من حديث أبي رافع عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « ما كان نبي إلا كان له حواريون يهدون بهديه ويستنون بسنته ثم يكون من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما ينكرون ».
وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن الحرث بن محمد بن حاطب الجمحي عن إسماعيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « يكون بعد الأنبياء خلفاء يعملون بكتاب الله ويعدلون في عبادة الله، ثم يكون من بعد الخلفاء ملوك يأخذون بالثأر ويقتلون الرجال، ويصطفون الأموال، فمغير بيده ومغير بلسانه وليس وراء ذلك من الإيمان شيء ».
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا جرير بن حازم عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، عن النبي ﷺ قال: « إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا وكائنا عزة وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الفروج والخمور والحرير، وينصرون على ذلك، ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله عز وجل » وهذا كله واقع.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله أن رسول الله ﷺ قال: « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا ».
وفي رواية « ثم يؤتى الله ملكه من يشاء ».
وهكذا وقع سواء فإن أبا بكر رضي الله عنه كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال، وكانت خلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة إلا اثنا عشر يوما، وكانت خلافة علي ابن أبي طالب خمس سنين إلا شهرين.
قلت: وتكميل الثلاثين بخلافة الحسن بن علي نحوا من ستة أشهر حتى نزل عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة كما سيأتي بيانه وتفصيله.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن فضيل، ثنا مؤمل، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « خلافة نبوة ثلاثون عاما ثم يؤتي الله ملكه من يشاء ».
فقال معاوية: رضينا بالملك.
وهذا الحديث فيه رد صريح على الروافض المنكرين لخلافة الثلاثة، وعلى النواصب من بني أمية ومن تبعهم من أهل الشام في إنكار خلافة علي ابن أبي طالب.
فإن قيل: فما وجه الجمع بين حديث سفينه هذا وبين حديث جابر بن سمرة المتقدم في صحيح مسلم « لا يزال هذا الدين قائما ما كان في الناس اثنا عشر خليفة كلهم من قريش » فالجواب إن من الناس من قال: إن الدين لم يزل قائما حتى ولي اثنا عشر خليفة ثم وقع تخبيط بعدهم في زمان بني أمية.
وقال آخرون: بل هذا الحديث فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلا من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ثم كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رضي الله عنه وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ليس قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز.
ومنهم من ذكر من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي، والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان، منهم أيضا بالنص على كونه من أهل البيت واسمه محمد بن عبد الله وليس بالمنتظر في سرداب سامرا فإن ذاك ليس بموجود بالكلية وإنما ينتظره الجهلة من الروافض.
وقد تقدم في الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: « لقد هممت أن أدعو أباك وأخاك وأكتب كتابا لئلا يقول قائل أو يتمنى متمن ».
ثم قال رسول الله ﷺ: « يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ».
وهكذا وقع فإن الله ولاه، وبايعه المؤمنون قاطبة كما تقدم.
وفي صحيح البخاري أن امرأة قالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك - كأنها تعرض بالموت -؟
فقال: « إن لم تجديني فأت أبا بكر ».
وثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « بينا أنا نائم رأيتني على قليب فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف - والله يغفر له - ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بطعن ».
قال الشافعي رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي، وقوله: « وفي نزعه ضعف » قصر مدته وعجلة موته واشتغاله بحرب أهل الردة عن الفتح الذي ناله عمر بن الخطاب في طول مدته.
قلت: وهذا فيه البشارة بولايتهما على الناس فوقع كما أخبر سواء.
ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان، عن النبي ﷺ أنه قال: « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » رضي الله عنهما.
وقال الترمذي: حسن وأخرجه من حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ.
وتقدم من طريق الزهري عن رجل، عن أبي ذر حديث تسبيح الحصى في يد رسول الله ثم يد أبي بكر ثم عمر ثم عثمان وقوله عليه السلام: « هذه خلافة النبوة ».
وفي الصحيح عن أبي موسى قال: دخل رسول الله ﷺ حائطا فدلى رجليه في القف فقلت: لأكونن اليوم بواب رسول الله ﷺ فجلست خلف الباب، فجاء رجل فقال: إفتح.
فقلت: من أنت؟
قال: أبو بكر، فأخبرت رسول الله - ﷺ -.
فقال: « إفتح له وبشره بالجنة ».
ثم جاء عمر، فقال كذلك، ثم جاء عثمان.
فقال: « إئذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه » فدخل وهو يقول: الله المستعان.
وثبت في صحيح البخاري من حديث سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس قال: صعد رسول الله ﷺ أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل فضربه رسول الله ﷺ برجله وقال: « إثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ».
وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أن حراء ارتج وعليه النبي ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان.
فقال النبي ﷺ: « إثبت ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان ».
قال معمر: قد سمعت قتادة عن النبي ﷺ مثله.
وقد روى مسلم عن قتيبة، عن الدراوردي، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير فتحركت الصخرة.
فقال النبي ﷺ: « إهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ».
وهذا من دلائل النبوة فإن هؤلاء كلهم أصابوا الشهادة، واختص رسول الله ﷺ بأعلى مراتب الرسالة والنبوة، واختص أبو بكر بأعلى مقامات الصديقية.
وقد ثبت في الصحيح الشهادة للعشرة بالجنة، بل لجميع من شهد بيعة الرضوان عام الحديبية وكانوا ألفا وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل: خمسمائة، وكلهم استمر على السداد والاستقامة حتى مات - رضي الله عنهم أجمعين -.
وثبت في صحيح البخاري البشارة لعكاشة بأنه من أهل الجنة فقتل شهيدا يوم اليمامة.
وفي الصحيحين من حديث يونس عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: « يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر » فقام عكاشة ابن محصن الأسدي يجر نمرة عليه فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال النبي ﷺ: « اللهم اجعله منهم ».
ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال: « سبقك بها عكاشة » وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة تفيد القطع وسنورده في باب صفة الجنة، وسنذكر في قتال أهل الردة أن طلحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن شهيدا رضي الله عنه ثم رجع طلحة الأسدي عما كان يدعيه من النبوة وتاب إلى الله وقدم على أبي بكر الصديق واعتمر وحسن إسلامه.
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « بينا أنا نائم رأيت كأنه وضع في يدي سواران فقطعتهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة ».
وقد تقدم في الوفود أنه قال لمسيلمة حين قدم مع قومه وجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته.
فوقف عليه رسول الله ﷺ وقال له: « والله لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت ».
وهكذا وقع عقره الله وأهانه وكسره وغلبه يوم اليمامة.
كما قتل الأسود العنسي بصنعاء على ما سنورده إن شاء الله تعالى.
وروى البيهقي من حديث مبارك بن فضالة عن الحسن، عن أنس قال: لقي رسول الله ﷺ مسيلمة فقال له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟
فقال النبي ﷺ: « آمنت بالله وبرسله » ثم قال رسول الله ﷺ: « إن هذا الرجل أخر لهلكة قومه ».
وقد ثبت في الحديث الآخر أن مسيلمة كتب بعد ذلك إلى النبي ﷺ بسم الله الرحمن الرحيم، من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك أما بعد فإني قد أشركت في الأمر بعدك، فلك المدر ولي الوبر، ولكن قريشا قوم يعتدون.
فكتب إليه رسول الله ﷺ: « بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وقد جعل الله العاقبة لمحمد وأصحابه لأنهم هم المتقون، وهم العادلون المؤمنون لا من عداهم ».
وقد وردت الأحاديث المروية من طرق عنه ﷺ في الإخبار عن الردة التي وقعت في زمن الصديق، فقاتلهم الصديق بالجنود المحمدية حتى رجعوا إلى دين الله أفواجا، وعذب ماء الإيمان كما كان بعد ما صار أجاجا، وقد قال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين » الآية.
قال المفسرون: هم أبو بكر وأصحابه - رضي الله عنهم -.
وثبت في الصحيحين من حديث عامر الشعبي عن مسروق، عن عائشة في قصة مسارة النبي ﷺ ابنته فاطمة وإخباره إياها بأن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وأنه عارضني العام مرتين، وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي فبكت، ثم سارها فأخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وأنها أول أهله لحوقا به.
وكان كما أخبر.
قال البيهقي: واختلفوا في مكث فاطمة بعد رسول الله ﷺ فقيل: شهران، وقيل: ثلاثة، وقيل: ستة، وقيل: ثمانية.
قال: وأصح الروايات، رواية الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: مكثت فاطمة بعد وفاة رسول الله ﷺ ستة أشهر، أخرجاه في الصحيحين.
ومن كتاب دلائل النبوة في باب إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلة
فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: « إنه قد كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر بن الخطاب ».
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عبيد الله بن موسى، أنا أبو إسرائيل كوفي عن الوليد بن العيزار، عن عمر بن ميمون، عن علي رضي الله عنه قال: ما كنا ننكر ونحن متوافرون أصحاب محمد ﷺ أن السكينة تنطق على لسان عمر.
قال البيهقي: تابعه زر بن حبيش والشعبي عن علي.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث أن عمر بن الخطاب ينطق على لسان ملك.
وقد ذكرنا في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشياء كثيرة من مكاشفاته وما كان يخبر به من المغيبات كقصة سارية بن زنيم وما شاكلها ولله الحمد والمنة.
ومن ذلك ما رواه البخاري من حديث فراس عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها أن نساء النبي ﷺ اجتمعن عنده فقلن يوما: يا رسول الله أيتنا أسرع بك لحوقا؟
فقال: « أطولكن يدا » وكانت سودة أطولنا ذراعا فكانت أسرعنا به لحوقا.
هكذا وقع في الصحيح عند البخاري أنها سودة.
وقد رواه يونس بن بكير عن زكريا ابن أبي زائدة عن الشعبي فذكر الحديث مرسلا، وقال: فلما توفيت زينب علمن أنها كانت أطولهن يدا في الخير والصدقة.
والذي رواه مسلم عن محمود بن غيلان، عن الفضل بن موسى، عن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فذكرت الحديث، وفيه فكانت زينب أطولنا يدا لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق.
وهذا هو المشهور عن علماء التاريخ أن زينب بنت جحش كانت أول أزواج النبي ﷺ وفاة.
قال الواقدي: توفيت سنة عشرين، وصلى عليها عمر بن الخطاب.
قلت: وأما سودة فإنها توفيت في آخر إمارة عمر بن الخطاب أيضا، قاله ابن أبي خيثمة.
ومن ذلك ما رواه مسلم من حديث أسيد بن جابر عن عمر بن الخطاب في قصة أويس القرني وإخباره عليه السلام عنه بأنه خير التابعين، وأنه كان به برص فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضعا قدر الدرهم من جسده، وأنه بار بأمه، وأمره لعمر بن الخطاب أن يستغفر له، وقد وجد هذا الرجل في زمان عمر بن الخطاب على الصفة والنعت الذي ذكره في الحديث سواء.
وقد ذكرت طرق هذا الحديث وألفاظه والكلام عليه مطولا في الذي جمعته من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة.
ومن ذلك ما رواه أبو داود: حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا الوليد بن عبد الله بن جميع، حدثني جرير بن عبد الله وعبد الرحمن بن خلاد الأنصاري عن أم ورقة بنت نوفل أن رسول الله ﷺ لما غزا بدرا، قالت: يا رسول الله إئذن لي في الغزو معك أمرض مرضاكم لعل الله يرزقني بالشهادة.
فقال لها: « قري في بيتك فإن الله يرزقك الشهادة » فكانت تسمى الشهيدة، وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي ﷺ أن تتخذ في بيتها مؤذنا يؤذن لها، وكانت دبرت غلاما لها وجارية، فقاما إليها بالليل فغماها في قطيفة لها حتى ماتت وذهبا.
فأصبح عمر فقام في الناس وقال: من عنده من هذين علم أو من رآهما فليجيء بهما، فجيء بهما فأمر بهما فصلبا وكانا أول مصلوبين بالمدينة.
وقد رواه البيهقي من حديث أبي نعيم، ثنا الوليد بن جميع، حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث وكان رسول الله ﷺ يزورها ويسميها الشهيدة، فذكر الحديث.
وفي آخره فقال عمر: صدق رسول الله ﷺ كان يقول: « انطلقوا بنا نزور الشهيدة ».
ومن ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي إدريس الخولاني عن عوف بن مالك في حديثه عنه في الآيات الست بعد موته وفيه ثم موتان بأحدكم كقصاص الغنم.
وهذا قد وقع في أيام عشر وهو طاعون عمواس سنة ثماني عشرة ومات بسببه جماعات من سادات الصحابة منهم: معاذ بن جبل، وأبو عبيدة، ويزيد ابن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو جندل سهل بن عمر وأبوه، والفضل بن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنهم أجمعين -.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا النهاس بن قهم، ثنا شداد أبو عمار، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: « ست من أشراط الساعة موتي، وفتح بيت المقدس، وموت يأخذ في الناس كقصاص الغنم، وفتنة يدخل حربها بيت كل مسلم، وأن يعطى الرجل ألف دينار فيسخطها، وأن يغزو الروم فيسيرون إليه بثمانين بندا تحت كل بند اثنا عشر ألفا ».
وقد قال الحافظ البيهقي: أنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن حبان أنه سمع سليمان بن موسى يذكر أن الطاعون وقع بالناس يوم جسر عموسة، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أيها الناس إنما هذا الوجع رجس فتنحوا عنه.
فقام شرحبيل بن حسنة فقال: يا أيها الناس إني قد سمعت قول صاحبكم وإني والله لقد أسلمت وصليت، وإن عمرا لأضل من بعير أهله، وإنما هو بلاء أنزله الله عز وجل فاصبروا.
فقام معاذ بن جبل فقال: يا أيها الناس إني قد سمعت قول صاحبيكم هذين وإن هذا الطاعون رحمة بكم، ودعوة نبيكم ﷺ وإني قد سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إنكم ستقدمون الشام فتنزلون أرضا يقال لها: أرض عموسة فيخرج بكم فيها خرجان له ذباب كذباب الدمل يستشهد الله به أنفسكم وذراريكم ويزكي به أموالكم ».
اللهم إن كنت تعلم أني قد سمعت هذا من رسول الله ﷺ فارزق معاذا وآل معاذ منه الحظ الأوفى ولا تعافه منه.
قال: فطعن في السبابة فجعل ينظر إليها ويقول: اللهم بارك فيها فإنك إذا باركت في الصغير كان كبيرا، ثم طعن ابنه فدخل عليه فقال: { الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } [119].
فقال: { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [120].
وثبت في الصحيحين من حديث الأعمش وجامع ابن أبي راشد عن شقيق بن سلمة، عن حذيفة قال: كنا جلوسا عند عمر، فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله ﷺ في الفتنة؟
قلت: أنا.
قال: هات إنك لجريء.
فقلت: ذكر فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ».
فقال: ليس هذا أعني إنما أعني التي تموج موج البحر.
فقلت: يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابا مغلقا.
قال: ويحك يفتح الله أم يكسر؟
قلت: بل يكسر.
قال: إذا لا يغلق أبدا.
قلت: أجل.
فقلنا لحذيفة: فكان عمر يعلم من الباب؟
قال: نعم، وإني حدثته حديثا ليس بالأغاليط.
قال: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب.
فقلنا لمسروق فسأله، فقال: من بالباب؟
قال: عمر، وهكذا وقع من بعد مقتل عمر وقعت الفتن في الناس، وتأكد ظهورها بمقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنهما.
وقد قال يعلى بن عبيد: عن الأعمش عن سفيان، عن عروة بن قيس قال: خطبنا خالد بن الوليد فقال: إن أمير المؤمنين عمر بعثني إلى الشام فحين ألقى بوانيه بثنية وعسلا أراد أن يؤثر بها غيري ويبعثني إلى الهند.
فقال رجل من تحته: إصبر أيها الأمير فإن الفتن قد ظهرت.
فقال خالد: أما وابن الخطاب حي فلا، وإنما ذاك بعده.
وقد روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: أبصر رسول الله ﷺ على عمر ثوبا فقال: « أجديد ثوبك أم غسيل؟ »
قال: بل غسيل.
قال: « إلبس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا » وأظنه قال: « ويرزقك الله قرة عين في الدنيا والآخرة ».
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه من حديث عبد الرزاق به ثم قال النسائي: هذا حديث منكر أنكره يحيى القطان على عبد الرزاق.
وقد روي عن الزهري من وجه آخر مرسلا، قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ: لا أعلم أحدا رواه عن الزهري غير معمر وما أحسبه بالصحيح والله أعلم.
قلت: رجال إسناده واتصاله على شرط الصحيحين وقد قيل الشيخان، تفرد معمر عن الزهري في غير ما حديث.
ثم قد روى البزار هذا الحديث من طريق جابر الجعفي - وهو ضعيف - عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله مرفوعا مثله سواء.
وقد وقع ما أخبر به في هذا الحديث فإنه رضي الله عنه قتل شهيدا وهو قائم يصلي الفجر في محرابه من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام.
وقد تقدم حديث أبي ذر في تسبيح الحصا في يد أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وقوله عليه السلام: « هذه خلافة النبوة ».
وقال نعيم بن حماد: ثنا عبد الله بن المبارك، أنا خرج بن نباتة عن سعيد بن جهمان، عن سفينة قال: لما بنى رسول الله ﷺ مسجد المدينة جاء أبو بكر بحجر فوضعه ثم جاء عمر بحجر فوضعه ثم جاء عثمان بحجر فوضعه فقال رسول الله ﷺ: « هؤلاء يكونون خلفاء بعدي ».
وقد تقدم في حديث عبد الله بن حوالة قوله ﷺ: « ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتي وقتل خليفة مصطبر والدجال ».
وفي حديثه الآخر الأمر باتباع عثمان عند وقوع الفتنة.
وثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن شريك ابن أبي نمر، عن سعيد بن المسيب، عن أبي موسى قال: توضأت في بيتي ثم خرجت فقلت: لأكونن اليوم مع رسول الله ﷺ فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا: خرج وتوجه ههنا، فخرجت في أثره حتى جئت بئر أريس وما بها من جريد فمكثت عند بابها حتى علمت أن النبي ﷺ قد قضى حاجته وجلس فجئته فسلمت عليه فإذا هو قد جلس على قف بئر أريس فتوسطه ثم دلى رجليه في البئر وكشف عن ساقيه، فرجعت إلى الباب وقلت: لأكونن بواب رسول الله ﷺ فلم أنشب أن دق الباب فقلت: من هذا؟
قال: أبو بكر.
قلت: على رسلك وذهبت إلى النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن.
فقال: « إئذن لي وبشره بالجنة ».
قال: فخرجت مسرعا حتى قلت لأبي بكر: إدخل ورسول الله ﷺ يبشرك بالجنة.
قال: فدخل حتى جلس إلى جنب النبي ﷺ في القف على يمينه ودلى رجليه وكشف عن ساقيه كما صنع النبي ﷺ.
قال: ثم رجعت وقد كنت تركت أخي يتوضأ وقد كان قال لي: أنا على إثرك.
فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يأت به.
قال: فسمعت تحريك الباب فقلت: من هذا؟
قال: عمر.
قلت: على رسلك قال: وجئت النبي ﷺ فسلمت عليه وأخبرته.
فقال: « إئذن له وبشره بالجنة ».
قال: فجئت وأذنت له وقلت له: رسول الله ﷺ يبشرك بالجنة، قال: فدخل حتى جلس مع رسول الله ﷺ على يساره وكشف عن ساقيه ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي ﷺ وأبو بكر.
قال: ثم رجعت فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يأت به - يريد أخاه - فإذا تحريك الباب فقلت: من هذا؟
قال: عثمان بن عفان.
قلت: على رسلك وذهبت إلى رسول الله فقلت: هذا عثمان يستأذن.
فقال: « إئذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه ».
قال: فجئت فقلت: رسول الله ﷺ يأذن لك ويبشرك بالجنة على بلوى أو بلاء يصيبك.
فدخل وهو يقول: الله المستعان فلم يجد في القف مجلسا فجلس وجاههم من شق البئر وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر كما صنع رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان.
وقد روى البيهقي من حديث عبد الأعلى ابن أبي المساور: عن إبراهيم بن محمد بن حاطب عن عبد الرحمن بن بجير، عن زيد بن أرقم قال: بعثني رسول الله ﷺ فقال: « انطلق حتى تأتي أبا بكر فتجده في داره جالسا محتبيا فقل: إن رسول الله ﷺ يقرأ عليك السلام ويقول: أبشر بالجنة ثم انطلق حتى تأتي الثنية فتلقى عمر راكبا على حمار تلوح صلعته فقل: إن رسول الله يقرأ عليك السلام ويقول: أبشر بالجنة ثم انصرف حتى تأتي عثمان فتجده في السوق يبيع ويبتاع فقل: إن رسول الله ﷺ يقرأ عليك السلام ويقول: أبشر بالجنة بعد بلاء شديد » فذكر الحديث في ذهابه إليهم فوجد كلا منهم كما ذكر رسول الله ﷺ وكلا منهم يقول: أين رسول الله؟
فيقول: في مكان كذا وكذا فيذهب إليه.
وأن عثمان لما رجع قال: يا رسول الله وأي بلاء يصيبني؟ والذي بعثك بالحق ما تغيبت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك فأي بلاء يصيبني؟
فقال: هو ذاك.
ثم قال البيهقي: عبد الأعلى ضعيف فإن كان حفظ هذا الحديث فيحتمل أن رسول الله ﷺ بعث إليهم زيد بن أرقم، فجاء وأبو موسى الأشعري جالس على الباب كما تقدم.
وهذا البلاء الذي أصابه هو ما اتفق وقوعه على يدي من أنكر عليه من رعاع أهل الأمصار بلا علم فوقع ما سنذكره في دولته إن شاء الله من حصرهم إياه في داره حتى آل الحال بعد ذلك كله إلى اضطهاده وقتله وإلقائه على الطريق أياما لا يصلى عليه، ولا يلتفت إليه حتى غسل بعد ذلك وصلي عليه، ودفن بحش كوكب - بستان في طريق البقيع - رضي الله عنه وأرضاه - وجعل جنات الفردوس متقلبه ومثواه.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن إسماعيل بن قيس، عن أبي سهلة مولى عثمان، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: « إدعو لي بعض أصحابي ».
قلت: أبو بكر؟
قال: « لا ».
قلت: عمر؟
قال: « لا ».
قلت: ابن عمك علي؟
قال: « لا ».
قلت: عثمان؟
قال: « نعم ».
فلما جاء عثمان قال: تنحى فجعل يساره ولون عثمان يتغير.
قال أبو سهلة: فلما كان يوم الدار وحضر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟
قال: لا إن رسول الله ﷺ عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي عليه تفرد به أحمد.
ثم قد رواه أحمد عن وكيع عن إسماعيل، عن قيس، عن عائشة فذكر مثله.
وأخرجه ابن ماجه من حديث وكيع.
وقال نعيم بن حماد في كتابه الفتن والملاحم: حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على رسول الله ﷺ وعثمان بين يديه يناجيه، فلم أدرك من مقالته شيئا إلا قول عثمان: ظلما وعدوانا يا رسول الله، فما دريت ما هو حتى قتل عثمان فعلمت أن رسول الله ﷺ إنما عنى قتله.
قالت عائشة: وما أحببت أن يصل إلى عثمان شيء إلا وصل إلي مثله غيره، إن شاء الله علم أني لم أحب قتله ولو أحببت قتله لقتلت وذلك لما رمى هودجها من النبل حتى صار مثل القنفذ.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو ابن أبي عمرو مولى المطلب، عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم ».
وقال البيهقي: أنا أبو الحسين بن بشران، أنا علي بن محمد المصري، ثنا محمد بن إسماعيل السلمي، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف أنه حدثه أنه جلس يوما مع شفي الأصبحي فقال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « سيكون فيكم اثنا عشر خليفة أبو بكر الصديق لا يلبث خلفي إلا قليلا، وصاحب رحى العرب يعيش حميدا، ويموت شهيدا ».
فقال رجل: ومن هو يا رسول الله؟
قال: « عمر بن الخطاب » ثم التفت إلى عثمان فقال: « وأنت يسألك الناس أن تخلع قميصا كساكه الله والذي بعثني بالحق لئن خلعته لا تدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ».
ثم روى البيهقي من حديث موسى بن عقبة: حدثني جدي أبو أمي أبو حبيبة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إنكم ستلقون بعدي فتنة واختلافا ».
فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ أو ما تأمرنا؟
فقال: « عليكم بالأمين وأصحابه - وهو يشير إلى عثمان بذلك - ».
وقد رواه الإمام أحمد: عن عفان عن وهيب، عن موسى بن عقبة به.
وقد تقدم في حديث عبد الله بن حوالة شاهدان له بالصحة والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية، عن عبد الله - هو ابن مسعود - عن النبي - ﷺ - قال: « تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من قد هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما ».
قال: قلت: أمما مضى؟ أو مما بقي؟
ورواه أبو داود عن محمد بن سليمان الأنباري، عن عبد الرحمن ابن مهدي به.
ثم رواه أحمد عن إسحاق وحجاج عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « إن رحى الإسلام ستزول لخمس وثلاثين، أو سبع وثلاثين فإن تهلك فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما ».
قال: قال عمر: يا رسول الله أبما مضى؟ أو بما بقي؟
قال: « بل بما بقي ».
وهكذا رواه يعقوب بن سفيان: عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن منصور به، فقال له عمر فذكره.
قال البيهقي: وقد تابع إسرائيل الأعمش وسفيان الثوري عن منصور قال: وبلغني أن في هذا إشارة إلى الفتنة التي كان منها قتل عثمان سنة خمس وثلاثين، ثم إلى الفتن التي كانت في أيام علي وأراد بالسبعين ملك بني أمية فإنه بقي بين ما استقر لهم الملك إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيه نحوا من سبعين سنة.
قلت: ثم انطوت هذه الحروب أيام صفين وقاتل علي الخوارج في أثناء ذلك كما تقدم الحديث المتفق على صحته في الأخبار بذلك، وفي صفتهم، وصفة الرجل المخدج فيهم.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أم ذر قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت.
فقال: ما يبكيك؟
فقلت: ومالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يد لي بدفنك، وليس عندي ثوب يسعك فأكفنك فيه.
قال: فلا تبكي وابشري فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين ».
وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية أو جماعة، وإني أنا الذي أموت بالفلاة والله ما كذب ولا كذبت، تفرد به أحمد رحمه الله.
وقد رواه البيهقي من حديث علي بن المديني عن يحيى بن سليم الطائفي به مطولا، والحديث مشهور في موته رضي الله عنه بالربذة سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان وكان في النفر الذين قدموا عليه وهو في السياق عبد الله بن مسعود وهو الذي صلى عليه، ثم قدم المدينة فأقام بها عشر ليال ومات رضي الله عنه.
حديث آخر:
قال البيهقي: أنا الحاكم، أنا الأصم، ثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا عمر بن سعيد الدمشقي، ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي عبد الله الأشعري، عن أبي الدرداء قال: قلت: يا رسول الله بلغني أنك تقول: « ليرتدن أقوام بعد إيمانهم ».
قال: « أجل ولست منهم ».
قال: فتوفي أبو الدرداء قبل أن يقتل عثمان.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا صفوان، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبد الله أو عبد الغفار بن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه أنه حدثه عن شيخ من السلف قال: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله ﷺ: « إني فرطكم على الحوض أنتظر من يرد علي منكم فلا ألفين أنازع أحدكم فأقول: إنه من أمتي، فيقال: هل تدري ما أحدثوا بعدك ».
قال أبو الدرداء: فتخوفت أن أكون منهم فأتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له.
فقال: « إنك لست منهم ».
قال: فتوفي أبو الدرداء قبل أن يقتل عثمان وقبل أن تقع الفتن.
قال البيهقي: تابعه يزيد ابن أبي مريم عن أبي عبيد الله مسلم بن يشكر، عن أبي الدرداء إلى قوله: « لست منهم ».
قلت: قال سعيد بن عبد العزيز: توفي أبو الدرداء لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.
وقال الواقدي وأبو عبيد وغير واحد: توفي سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه.
ذكر إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة
في آخر أيام عثمان وخلافة علي رضي الله عنهما
ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد أن رسول الله ﷺ أشرف على أطم من آطام المدينة فقال: « هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ».
وروى الإمام أحمد ومسلم من حديث الزهري عن أبي إدريس الخولاني سمعت حذيفة بن اليمان يقول: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما ذاك أن يكون رسول الله ﷺ حدثني من ذلك شيئا أسره إلي لم يكن حدث به غيري ولكن رسول الله ﷺ قال: - وهو يحدث مجلسا أنا فيه - سئل عن الفتن، وهو يعد الفتن فيهن ثلاث لا تذوق شيئا منهن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار.
قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري، وهذا لفظ أحمد.
قال البيهقي: مات حذيفة بعد الفتنة الأولى بقتل عثمان وقيل: الفتنتين الآخرتين في أيام علي.
قلت: قال العجلي وغير واحد من علماء التاريخ: كانت وفاة حذيفة بعد مقتل عثمان بأربعين يوما وهو الذي قال: لو كان قتل عثمان هدي لاحتلبت به الأمة لبنا ولكنه كان ضلالة فاحتلبت به الأمة دما.
وقال: لو أن أحدا ارتقص لما صنعتم بعثمان لكان جديرا أن يرقص.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن زينب بنت جحش زوج النبي ﷺ قال سفيان: أربع نسوة، قالت: استيقظ النبي ﷺ من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول: « لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه » وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها.
قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟
قال: « نعم إذا كثر الخبث ».
هكذا رواه الأمام أحمد عن سفيان بن عيينة به.
وكذلك رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة وسعد بن عمرو والأشعثي وزهير بن حرب وابن أبي عمر كلهم عن سفيان بن عيينة به سواء.
ورواه الترمذي: عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وغير واحد، كلهم عن سفيان بن عيينة وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الترمذي: قال الحميدي: عن سفيان حفظت من الزهري في هذا الإسناد أربع نسوة.
قلت: وقد أخرجه البخاري عن مالك بن إسماعيل.
ومسلم: عن عمرو الناقد عن الزهري، عن عروة، عن زينب، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش فلم يذكروا حبيبة في الإسناد.
وكذلك رواه عن الزهري شعيب وصالح بن كيسان، وعقيل ومحمد بن إسحاق، ومحمد ابن أبي عتيق، ويونس بن يزيد فلم يذكروا عنه في الإسناد حبيبة والله أعلم.
فعلى ما رواه أحمد ومن تابعه عن سفيان بن عيينة يكون قد اجتمع في هذا الإسناد تابعيان وهما: الزهري وعروة بن الزبير، وأربع صحابيات وبنتان وزوجتان وهذا عزيز جدا، ثم قال البخاري بعد رواية الحديث المتقدم: عن أبي اليمان عن شعيب، عن الزهري فذكره إلى آخره، ثم قال: وعن الزهري، حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمة قالت: استيقظ رسول الله ﷺ فقال: « سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟! »
وقد أسنده البخاري في مواضع أخر من طرق: عن الزهري به.
ورواه الترمذي من حديث معمر: عن الزهري وقال: حسن صحيح.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا الصلت بن دينار، ثنا عقبة بن صهبان وأبو رجاء العطاردي قالا: سمعنا الزبير وهو يتلو هذه الآية: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [121].
قال: لقد تلوت هذه الآية زمنا وما أراني من أهلها فأصبحنا من أهلها، وهذا الإسناد ضعيف ولكن روي من وجه آخر فقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا جرير قال: سمعت أنسا قال: قال الزبير بن العوام: نزلت هذه الآية ونحن متوافرون مع النبي ﷺ « واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ».
فجعلنا نقول: ما هذه الفتنة؟ وما نشعر أنها تقع حيث وقعت.
ورواه النسائي: عن إسحاق بن إبراهيم عن مهدي، عن جرير بن حازم به.
وقد قتل الزبير بوادي السباع مرجعه من قتال يوم الجمل على ما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال أبو داود السجستاني في سننه: ثنا مسدد، ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سعيد بن زيد قال: كنا عند النبي ﷺ فذكر فتنة وعظم أمرها فقلنا: يا رسول الله لئن أدركتنا هذه لتهلكنا؟
فقال: « كلا إن بحسبكم القتل ».
قال سعيد: فرأيت إخواني قتلوا، تفرد به أبو داود.
وقال أبو داود السجستاني: حدثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد أنا هشام عن محمد قال: قال حذيفة: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا تضرك الفتنة » وهذا منقطع.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة عن أشعث ابن أبي أشعث سمعت أبا بردة يحدث عن ثعلبة ابن أبي ضبيعة سمعت حذيفة يقول: إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة، فأتينا المدينة فإذا فسطاط مضروب وإذا محمد بن مسلمة الأنصاري، فسألته فقال: لا أستقر بمصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة عن جماعة المسلمين.
قال البيهقي: ورواه أبو داود - يعني: السجستاني - عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة به.
وقال أبو داود: ثنا مسدد، ثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم، عن أبي بردة، عن ضبيعة بن حصين الثعلبي، عن حذيفة بمعناه.
قال البخاري في التاريخ: هذا عندي أولى.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي بردة قال: مررت بالربذة فإذا فسطاط فقلت: لمن هذا؟
فقيل: لمحمد بن مسلمة فاستأذنت عليه فدخلت عليه فقلت: رحمك الله إنك من هذا الأمر بمكان فلو خرجت إلى الناس فأمرت ونهيت، فقال: إن رسول الله ﷺ قال: « إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف فإذا كان ذلك فأت بسيفك أحدا فاضرب به عرضه، وكسر نبلك، واقطع واترك واجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو يعافيك الله » فقد كان ما قال رسول الله ﷺ وفعلت ما أمرني به.
ثم استنزل سيفا كان معلقا بعمود الفسطاط واخترطه فإذا سيف من خشب، فقال: قد فعلت ما أمرني به واتخذت هذا أرهب به الناس، تفرد به أحمد.
وقال البيهقي: أنا الحاكم، ثنا علي بن عيسى المدني، أنا أحمد بن بحرة القرشي، ثنا يحيى بن عبد الحميد، أنا إبراهيم بن سعد، ثنا سالم بن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مسلمة أنه قال: يا رسول الله كيف أصنع إذا اختلف المضلون؟
قال: « أخرج بسيفك إلى الحرة فتضربها به ثم تدخل بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا زياد بن مسلم أبو عمر، ثنا أبو الأشعث الصنعاني قال: بعثنا يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير فلما قدمت المدينة دخلت على فلان نسي زياد اسمه، فقال: إن الناس قد صنعوا ما صنعوا فما ترى؟
قال: أوصاني خليلي أبو القاسم إن أدركت شيئا من هذه الفتن فاعمد إلى أحد فاكسر به حد سيفك ثم أقعد في بيتك فإن دخل عليك أحد البيت فقم إلى المخدع فإن دخل عليك المخدع فاجثو على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، فقد كسرت سيفي وقعدت في بيتي.
هكذا وقع إيراد هذا الحديث في مسند محمد بن مسلمة عند الإمام أحمد ولكن وقع إبهام اسمه وليس هو لمحمد بن مسلمة بل صحابي آخر فإن محمد بن مسلمة رضي الله عنه لا خلاف عند أهل التاريخ أنه توفي فيما بين الأربعين إلى الخمسين، فقيل: سنة اثنتين، وقيل ثلاث، وقيل سبع وأربعين، ولم يدرك أيام يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير بلا خلاف فتعين أنه صحابي آخر خبره كخبر محمد بن مسلمة.
وقال نعيم بن حماد في الفتن والملاحم: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث عن حماد بن سلمة، ثنا أبو عمرو السلمي، عن بنت أهبان الغفاري أن عليا أتى أهبان فقال: ما يمنعك أن تتبعنا؟
فقال: أوصاني خليلي وابن عمك ﷺ أن ستكون فرقة وفتنة واختلاف فإذا كان ذلك فاكسر سيفك واقعد في بيتك واتخذ سيفا من خشب.
وقد رواه أحمد: عن عفان وأسود بن عامر ومؤمل ثلاثتهم، عن حماد بن سلمة به وزاد مؤمل في روايته بعد قوله: واتخذ سيفا من خشب واقعد في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة، أو منية قاضية.
ورواه الإمام أحمد أيضا، والترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبيد الديلي: عن عديسة بنت أهبان بن صيفي عن أبيها به.
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عبيد كذا قال وقد تقدم من غير طريقه.
وقال البخاري: ثنا عبد العزيز الأويسي، ثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: « ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به ».
وعن ابن شهاب حدثني أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل ابن معاوية مثل حديث أبي هريرة.
هذا وقد روى مسلم حديث أبي هريرة من طريق إبراهيم بن سعد كما رواه البخاري، وكذلك حديث نوفل بن معاوية بإسناد البخاري ولفظه.
ثم قال البخاري: ثنا محمد بن كثير، أخبرني سفيان عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ قال: « ستكون أثرة وأمور تنكرونها ».
فقالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟
قال: « تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ».
ورواه مسلم من حديث الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا عثمان الشحام، ثنا سلمة ابن أبي بكرة عن أبي بكرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: « إنها ستكون فتنة ثم تكون فتنة ألا فالماشي فيها خير من الساعي إليها والقاعد فيها خير من القائم فيها ألا والمضطجع فيها خير من القاعد، ألا فإذا نزلت فمن كان له غنم فليلحق بغنمه، ألا ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ألا ومن كانت له إبل فليلحق بإبله ».
فقال رجل من القوم: يا نبي الله جعلني الله فداك أرأيت من ليست له غنم ولا أرض ولا إبل كيف يصنع؟
قال: « ليأخذ سيفه ثم ليعمد به إلى صخرة ثم ليدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت ».
إذ قال رجل: يا رسول الله جعلني الله فداك أرأيت إن أخذ بيدي مكرها حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين - شك عثمان - فيحذفني رجل بسيفه فيقتلني ماذا يكون من شأني؟
قال: « يبوء بإثمك وإثمه ويكون من أصحاب النار ».
وهكذا رواه مسلم من حديث عثمان الشحام بنحوه.
وهذا إخبار عن إقبال الفتن وقد وردت أحاديث كثيرة في معنى هذا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس قال: لما أقبلت عائشة - يعني: في مسيرها إلى وقعة الجمل - وبلغت مياه بني عامر ليلا نبحت الكلاب فقالت: أي ماء هذا؟
قالوا: ماء الحوأب.
فقالت: ما أظنني إلا راجعة.
فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم.
قالت: إن رسول الله ﷺ قال لنا ذات يوم: « كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟ »
ورواه أبو نعيم بن حماد في الملاحم: عن يزيد بن هارون عن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم به.
ثم رواه أحمد: عن غندر عن شعبة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب فسمعت نباح الكلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة إن رسول الله ﷺ قال لنا: « أيتكن ينبح عليها كلاب الحوأب؟ »
فقال لها الزبير: ترجعين عسى الله أن يصلح بك بين الناس وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله بن موسى عن عصام بن قدامة البجلي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: « ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأديب؟ تسير حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وعن يسارها خلق كثير ».
ثم قال: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد.
وقال الطبراني: ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، ثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا نوح بن دراج عن الأجلح بن عبد الله، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن ابن الحسين، عن ابن عباس قال: لما بلغ أصحاب علي حين ساروا إلى البصرة أن أهل البصرة قد اجتمعوا لطلحة والزبير شق عليهم ووقع في قلوبهم فقال علي: والذي لا إله غيره ليظهرنه على أهل البصرة وليقتلن طلحة والزبير وليخرجن إليكم من الكوفة ستة آلاف وخمسمائة وخمسون رجلا، أو خمسة آلاف وخمسمائة وخمسون رجلا - شك الأجلح - قال ابن عباس: فوقع ذلك في نفسي فلما أتى الكوفة خرجت فقلت: لأنظرن فإن كان كما يقول فهو أمر سمعه وإلا فهو خديعة الحرب، فلقيت رجلا من الجيش فسألته فوالله ما عتم أن قال: ما قال علي.
قال ابن عباس: وهو ما كان رسول الله ﷺ يخبره.
وقال البيهقي: أنا عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد، ثنا أحمد بن نصر، ثنا أبو نعيم الفضل، ثنا عبد الجبار بن الورد عن عمار الذهبي، عن سالم ابن أبي الجعد، عن أم سلمة قالت: ذكر النبي ﷺ خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة فقال لها: « انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت » ثم التفت إلى علي وقال: « يا علي إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها » وهذا حديث غريب جدا وأغرب منه ما رواه البيهقي أيضا عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني عن أبي نعيم، عن عبد الجبار بن العباس الشامي، عن عطاء بن السائب، عن عمر بن الهجيع، عن أبي بكرة قال: قيل له: ما يمنعك أن لا تكون قاتلت على نصرتك يوم الجمل؟
فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يخرج قوم هلكى لا يفلحون قائدهم امرأة قائدهم في الجنة » وهذا منكر جدا.
والمحفوظ ما رواه البخاري من حديث الحسن البصري: عن أبي بكرة قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله ﷺ وبلغه أن فارس ملكوا عليهم امرأة كسرى.
فقال: « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن الحكم سمعت أبا وائل قال: لما بعث علي عمارا والحسن إلى الكوفة يستنفرهم خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة لكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها.
ورواه البخاري: عن بندار عن غندر وهذا كله وقع في أيام الجمل، وقد ندمت عائشة رضي الله عنها على ما كان من خروجها على ما سنورده في موضعه وكذلك الزبير بن العوام أيضا، تذكر وهو واقف في المعركة أن قتاله في هذا الموطن ليس بصواب فرجع عن ذلك.
قال عبد الرزاق: أنا معمر عن قتادة قال: لما ولي الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان ابن صفية يعلم أنه على حق ما ولى وذلك أن النبي ﷺ لقيهما في سقيفة بنى ساعدة فقال: « أتحبه يا زبير؟ »
فقال: وما يمنعني؟
قال: فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له؟
قال: فيرون أنه إنما ولى لذلك، وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقد أسنده الحافظ البيهقي من وجه آخر فقال: أنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو عمرو بن مطر، أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشمي الكوفي، ثنا منجاب بن الحرث، ثنا عبد الله بن الأجلح، ثنا أبي عن يزيد الفقير، عن أبيه قال: وسمعت فضل بن فضالة يحدث أبي عن أبي حرب ابن أبي الأسود الدؤلي، عن أبيه دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه قال: لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير ودنت الصفوف بعضها من بعض خرج علي وهو على بغلة رسول الله ﷺ فنادى: إدعوا لي الزبير بن العوام فأتى علي فدعي له الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي: يا زبير ناشدتك بالله أتذكر يوم مر بك رسول الله ﷺ مكان كذا وكذا فقال: « يا زبير تحب عليا؟ »
فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي، وعلى ديني؟
فقال: « يا علي أتحبه؟ »
فقلت: يا رسول الله ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني؟
فقال: « يا زبير أما والله لتقاتلنه وأنت ظالم له ».
فقال الزبير: بلى والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله ﷺ ثم ذكرته الآن والله لا أقاتلك.
فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف فعرض له ابنه عبد الله ابن الزبير فقال: مالك؟
فقال: ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله - ﷺ - سمعته وهو يقول: « لتقاتلنه وأنت ظالم له » فلا أقاتلنه.
فقال: وللقتال جئت؟ إنما جئت تصلح بين الناس ويصلح الله هذا الأمر.
قال: قد حلفت أن لا أقاتله.
قال: فأعتق غلامك خير وقف حتى تصلح بين الناس فأعتق غلامه ووقف فلما اختلف أمر الناس ذهب على فرسه.
قال البيهقي: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا الإمام أبو الوليد، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا قطن بن بشير، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا عبد الله بن محمد الرقاشي، ثنا جدي وهو عبد الملك بن مسلم عن أبي وجرة المازني قال: سمعت عليا والزبير وعلي يقول له: ناشدتك الله يا زبير أما سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إنك تقاتلني وأنت لي ظالم »؟
قال: بلى ولكني نسيت.
وهذا غريب كالسياق الذي قبله.
وقد روى البيهقي من طريق الهذيل بن بلال - وفيه ضعف - عن عبد الرحمن بن مسعود العبدي، عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: « من سره أن ينظر إلى رجل يسبقه بعض أعضائه إلى الجنة فلينظر إلى زيد بن صوحان ».
قلت: قتل زيد هذا في وقعة الجمل من ناحية علي.
وثبت في الصحيحين من حديث همام بن منبه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة ».
ورواه البخاري أيضا عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مثله.
ورواه البخاري أيضا عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وهاتان الفئتان هما أصحاب الجمل وأصحاب صفين فإنهما جميعا يدعون إلى الإسلام، وإنما يتنازعون في شيء من أمور الملك ومراعاة المصالح العائد نفعها على الأمة والرعايا، وكان ترك القتال أولى من فعله، كما هو مذهب جمهور الصحابة كما سنذكره.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو اليمان، ثنا صفوان بن عمرو قال: كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفا فقتل منهم أربعون ألفا، ولكن كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم.
كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: حدثني من هو خير مني - يعني: أبا قتادة - أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
ورواه أيضا من حديث ابن علية عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: « يقتل عمارا الفئة الباغية ».
وفي رواية: « وقاتله في النار ».
وقد تقدم الحديث بطرقه عند بناء المسجد النبوي في أول الهجرة النبوية وما يزيده بعض الرافضة في هذا الحديث من قولهم بعد: لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة فليس له أصل يعتمد عليه.
وقد روى البيهقي من حديث أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مولاة لعمار قالت: اشتكى عمار شكوى أرق منها فغشي عليه فأفاق ونحن نبكي حوله فقال: ما تبكون أتخشون أن أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي ﷺ أنه تقتلني الفئة الباغية وأن آخر زادي من الدنيا مذقة لبن.
وقال الإمام أحمد: حدثني وكيع، ثنا سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قال عمار يوم صفين: إئتوني بشربة لبن فإن رسول الله ﷺ قال: « آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن ».
فشربها ثم تقدم فقتل.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري أن عمار بن ياسر أتى بشربة لبن فضحك وقال: إن رسول الله ﷺ قال لي: « آخر شراب أشربه لبن حين أموت ».
وروى البيهقي من حديث عمار الدهني عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن مسعود سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ».
ومعلوم أن عمارا كان في جيش علي يوم صفين وقتله أصحاب معاوية من أهل الشام وكان الذي تولى قتله رجل يقال له: أبو الغادية رجل من أفناد الناس، وقيل: إنه صحابي.
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر وغيره في أسماء الصحابة وهو أبو الغادية مسلم، وقيل: يسار بن أزيهر الجهني من قضاعة، وقيل: مزني وقيل: هما إثنان، سكن الشام ثم صار إلى واسط روى له أحمد حديثا وله عند غيره آخر.
قالوا: وهو قاتل عمار بن ياسر وكان يذكر صفة قتله لعمار لا يتحاشى من ذلك، وسنذكر ترجمته عند قتله لعمار أيام معاوية في وقعة صفين وأخطأ من قال: كان بدريا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا العوام، حدثني ابن مسعود عن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينا أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته.
فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما لصاحبه نفسا: فإني سمعت النبي ﷺ يقول: « تقتله الفئة الباغية ».
فقال معاوية: ألا نح عنا مجنونك يا عمرو فما بالك معنا.
قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله ﷺ.
فقال: « أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال: إني لأسير مع معاوية منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص.
فقال عبد الله بن عمرو: يا أبة أما سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار: « ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ».
قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟
فقال معاوية: لا يزال يأتينا نهيه أونحن قتلناه؟ إنما قتله من جاءوا به.
ثم رواه أحمد: عن أبي نعيم عن الثوري، عن الأعمش، عن عبد الرحمن ابن أبي زياد فذكر مثله، فقول معاوية: إنما قتله من قدمه إلى سيوفنا تأويل بعيد جدا، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله حيث قدمهم إلى سيوف الأعداء.
وقال عبد الرزاق: أنا ابن عيينة، أخبرني عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة قال عمرو لعبد الرحمن ابن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ { وجاهدوا في الله حق جهاده } [122].
في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟
فقال عبد الرحمن بن عوف: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟
قال: إذا كان بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء.
باب ما جاء في إخباره عن الحكمين اللذين بعثا في زمن علي
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا قتيبة ابن سعيد عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد وحبيب بن يسار، عن سويد بن غفلة قال: إني لأمشي مع علي بشط الفرات فقال: قال رسول الله ﷺ: « إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين فضلا وأضلا من اتبعهما وإن هذه الأمة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين ضلا وأضلا من اتبعهما، هكذا أورده ولم يبين شيئا من أمره وهو حديث منكر جدا وآفته من زكريا بن يحيى هذا - وهو الكندي الحميري الأعمى -.
قال يحيى بن معين: ليس بشيء والحكمان كانا من خيار الصحابة وهما عمرو بن العاص السهمي من جهة أهل الشام، والثاني أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري من جهة أهل العراق، وإنما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن لدمائهم، وكذلك وقع ولم يضل بسببهما إلا فرقة الخوارج حيث أنكروا على الأميرين التحكيم وخرجوا عليهما وكفروهما حتى قاتلهم علي ابن أبي طالب وناظرهم ابن عباس فرجع منهم شرذمة إلى الحق واستمر بقيتهم حتى قتل أكثرهم بالنهروان وغيره من المواقف المرذولة عليهم كما سنذكره.
إخباره صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم
قال البخاري: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة - وهو رجل من بني تميم - فقال: يا رسول الله إعدل.
فقال: « ويلك ومن يعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ».
فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه.
فقال: « دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضبه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلم يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من الناس ».
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله ﷺ وأشهد أن علي ابن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله ﷺ الذي نعته.
وهكذا رواه مسلم من حديث أبي سعيد.
ورواه البخاري أيضا من حديث الأوزاعي: عن الزهري، عن أبي سلمة والضحاك، عن أبي سعيد.
وأخرجه البخاري أيضا من حديث سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه.
ومسلم عن هناد، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن سعيد بن مسروق، عن عبد الرحمن بن يعمر، عن أبي سعيد الخدري به.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث داود ابن أبي هند، والقاسم بن الفضل.
وقتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: « تمرق مارقة عند فرقة المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق ».
ورواه أيضا من حديث أبي إسحاق الثوري عن حبيب ابن أبي ثابت، عن الضحاك المشرقي، عن أبي سعيد مرفوعا.
وروى مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن ابن مسهر، عن الشيباني، عن يسير بن عمرو قال: سألت سهل بن حنيف هل سمعت رسول الله ﷺ يذكر هؤلاء الخوارج؟
فقال: سمعته وأشار بيده نحو المشرق، وفي رواية نحو العراق يخرج قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية محلقة رؤوسهم.
وروى مسلم من حديث حميد بن هلال عن عبد الله ابن الصامت عن أبي ذر نحوه، وقال: سيماهم التحليق شر الخلق والخليقة.
وكذلك رواه محمد بن كثير المصيصي عن الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعا وقال: سيماهم التحليق شر الخلق والخليقة.
وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن علي سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم إلى يوم القيامة ».
وقد روى مسلم عن قتيبة عن حماد، عن أيوب، عن محمد بن عبيدة، عن علي في خبر مؤذن الليل وهو ذو الثدية، وأسنده من وجه آخر عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي وفيه أنه حلف عليا على ذلك فحلف له أنه سمع ذلك من رسول الله ﷺ.
ورواه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق، عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن زيد بن وهب، عن علي بالقصة مطولة، وفيه قصة ذي الثدية.
ورواه من حديث عبيد الله ابن أبي رافع عن علي.
ورواه أبو داود الطيالسي: عن حماد بن زيد عن حميد بن مرة، عن أبي الوضيء والسحيمي عن علي في قصة ذي الثدية.
ورواه الثوري عن محمد بن قيس، عن أبي موسى - رجل من قومه - عن علي بالقصة.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا الحميدي، ثنا سفيان، حدثني العلاء ابن أبي العباس أنه سمع أبا الطفيل يحدث عن بكر بن قرقاش، عن سعيد ابن أبي وقاص قال: ذكر رسول الله ﷺ ذا الثدية فقال: « شيطان الردهة كراعي الخيل يحذره رجل من بجيلة يقال له: الأشهب أو ابن الأشهب، علامة في قوم ظلمة ».
قال سفيان: فأخبرني عمار الذهبي أنه جاء به رجل منهم يقال له: الأشهب أو ابن الأشهب.
قال يعقوب بن سفيان: وحدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حامد الهمداني سمعت سعد بن مالك يقول: قتل علي ابن أبي طالب شيطان الردهة - يعني: المخدج يريد - والله أعلم قتلة أصحاب علي.
وقال علي بن عياش: عن حبيب، عن سلمة قال: لقد علمت عائشة أن جيش المروة وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد ﷺ.
قال ابن عياش: جيش المروة قتلة عثمان، رواه البيهقي.
ثم قال البيهقي: أنا الحاكم، أنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».
فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟
قال: « لا ».
فقال عمر: أنا هو يا رسول الله؟
قال: « لا ولكن خاصف النعل » - يعني: عليا -.
وقال يعقوب بن سفيان: عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عمران بن جرير، عن لاحق قال: كان الذين خرجوا على علي بالنهروان أربعة آلاف في الحديد فركبهم المسلمون فقتلوهم ولم يقتلوا من المسلمين إلا تسعة رهط وإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فإنه يشهد بذلك.
قلت: الأخبار بقتال الخوارج متواترة عن رسول الله ﷺ لأن ذلك من طرق تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن ووقوع ذلك في زمان علي معلوم ضرورة لأهل العلم قاطبة، وأما كيفية خروجهم وسببه ومناظرة ابن عباس لهم في ذلك ورجوع كثير منهم إليه فسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
إخباره صلى الله عليه وسلم بمقتل علي ابن أبي طالب
قال الإمام أحمد: ثنا علي بن بحر، ثنا عيسى بن يونس، ثنا محمد بن إسحاق، حدثني زيد بن محمد بن خيثم المحاربي عن محمد بن القرظي عن محمد كعب بن خيثم، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله ﷺ لعلي حين ولي غزوة العثيرة: « يا أبا تراب - لما يرى عليه من التراب - ألا أحدثك بأشقى الناس رجلين؟ »
قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: « أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه - يعني: قرنه - حتى يبل هذه - يعني: لحيته - ».
وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن مكرم، عن أبي النضر، عن محمد بن راشد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن فضالة ابن أبي فضالة الأنصاري - وكان أبوه من أهل بدر - قال: خرجت مع أبي عائدا لعلي ابن أبي طالب في مرض أصابه فثقل منه قال: فقال أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا فلو أصابك أجلك لم يكن إلا أعراب جهينة تحملك إلى المدينة، فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك.
فقال علي: إن رسول الله ﷺ عهد إلي أن لا أموت حتى تخضب هذه - يعني: لحيته - من دم هذه - يعني: هامته - فقتل، وقتل أبو فضالة مع علي يوم صفين.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب قال: جاء رأس الخوارج إلى علي فقال له: إتق الله فإنك ميت.
فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ولكن مقتول من ضربة على هذه تخضب هذه، وأشار بيده إلى لحيته، عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى.
وقد روى البيهقي بإسناد صحيح: عن زيد بن أسلم عن أبي سنان المدركي، عن علي في إخبار النبي ﷺ بقتله.
وروى من حديث هيثم عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الأزدي، عن علي قال: إن مما عهد إلي رسول الله ﷺ أن الأمة ستغدر بك بعدي.
ثم ساقه من طريق قطر بن خليفة وعبد العزيز بن سياه عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحمامي قال: سمعت عليا يقول: إنه لعهد النبي الأمي إلي إن الأمة ستغدر بك بعدي.
قال البخاري: ثعلبة هذا فيه نظر، ولا يتابع على حديثه هذا.
وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، عن أبي الأجوب الأحوص بن خباب، عن عمار بن زريق، عن الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد قال: قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه للحيته من رأسه، فما يحبس أشقاها.
فقال عبد الله بن سبيع: والله يا أمير المؤمنين لو أن رجلا فعل ذلك لأثرنا عشيرته.
فقال: أنشدك بالله أن لا تقتل بي غير قاتلي.
قالوا: يا أمير المؤمنين ألا تستخلف؟
قال: ولكن أترككم كما ترككم رسول الله ﷺ.
قالوا: فما تقول لربك إذا تركتنا هملا؟ قال: أقول اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني وتركتك فيهم فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم.
وهكذا روى البيهقي هذا وهو موقوف وفيه غرابة من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، ثم المشهور عن علي أنه لما طعنه عبد الرحمن بن ملجم الخارجي وهو خارج لصلاة الصبح عند السدة فبقي علي يومين من طعنته، وحبس ابن ملجم وأوصى علي إلى ابنه الحسن بن علي كما سيأتي بيانه وأمره أن يركب في الجنود وقال له: لا يجر علي كما تجر الجارية فلما مات قتل عبد الرحمن بن ملجم قودا، وقيل: حدا والله أعلم، ثم ركب الحسين بن علي في الجنود وسار إلى معاوية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك مقتل الحسين
وسيادة ولده الحسن بن علي في تركه الأمر من بعده وإعطائه لمعاوية:
قال البخاري في دلائل النبوة: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا يحيى بن آدم، ثنا حسين الجعفي عن أبي موسى، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: أخرج النبي ﷺ ذات يوم الحسن بن علي فصعد به على المنبر فقال: « إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ».
وقال في كتاب الصلح: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا سفيان عن أبي موسى قال: سمعت الحسن يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية ابن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها.
فقال له معاوية: فكان والله خير الرجلين: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟
فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز فقال: إذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه.
فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه.
فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها.
قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك.
قال: فمن لي بهذا؟
قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به فصالحه.
فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله ﷺ على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: « إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ».
وقال البخاري: قال لي علي بن عبد الله: إنما ثبت لنا سماع الحسن ابن أبي بكرة بهذا الحديث.
وقد رواه البخاري أيضا في فضل الحسن، وفي كتاب الفتن عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن أبي موسى - وهو إسرائيل بن موسى ابن أبي إسحاق -.
ورواه أبو داود والترمذي من حديث أشعث.
وأبو داود أيضا والنسائي من حديث علي بن زيد بن جدعان، كلهم عن الحسن البصري، عن أبي بكرة به.
وقال الترمذي: صحيح وله طرق عن الحسن مرسلا، وعن الحسن، وعن أم سلمة به.
وهكذا وقع الأمر كما أخبر به النبي ﷺ سواء، فإن الحسن بن علي لما صار إليه الأمر بعد أبيه وركب في جيوش أهل العراق وسار إليه معاوية فتصافا بصفين على ما ذكره الحسن البصري فمال الحسن بن علي إلى الصلح وخطب الناس، وخلع نفسه من الأمر وسلمه إلى معاوية وذلك سنة أربعين فبايعه الأمراء من الجيشين واستقل بأعباء الأمة فسمي ذلك العام عام الجماعة، لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد وسنورد ذلك مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد شهد الصادق المصدوق للفرقتين بالإسلام فمن كفرهم أو واحدا منهم لمجرد ما وقع فقد أخطأ وخالف النص النبوي المحمدي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد تكمل بهذه السنة المدة التي أشار إليها رسول الله ﷺ أنها مدة الخلافة المتتابعة بعده.
كما تقدم في حديث سفينة مولاه أنه قال: « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا ».
وفي رواية « عضوضا ».
وفي رواية عن معاوية أنه قال: رضينا بها ملكا.
وقد قال نعيم بن حماد في كتابه الفتن والملاحم: سمعت محمد بن فضيل عن السري بن إسماعيل، عن عامر الشعبي، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت الحسن بن علي يقول: سمعت عليا يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا تذهب الأيام والليالي حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع القدم ضخم البلغم، يأكل ولا يشبع وهو عري ».
وهكذا وقع في هذه الرواية.
وفي رواية بهذا الإسناد: « لا تذهب الأيام والليالي حتى تجتمع هذه الأمة على معاوية ».
وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر - وهو ضعيف - عن عبد الملك بن عمار قال: قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله ﷺ لي: « يا معاوية إن ملكت فأحسن ».
ثم قال البيهقي: وله شواهد من ذلك حديث عمرو بن يحيى عن سعيد بن العاص، عن جده سعيد أن معاوية أخذ الأداوة فتبع رسول الله ﷺ فنظر إليه فقال: « يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل ».
قال معاوية: فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول رسول الله ﷺ.
ومنها حديث الثوري عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد الداري، عن معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ».
ثم يقول أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله ﷺ فنفعه الله بها، رواه أبو داود.
وروى البيهقي من طريق هشيم عن العوام بن حوشب، عن سليمان ابن أبي سليمان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « الخلافة بالمدينة والملك بالشام ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، ثنا يحيى بن حمزة عن زيد بن واقد، حدثني بشر بن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: « بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب رفع واحتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان - حين تقع الفتن - بالشام ههنا ».
رواه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان عن عبد الله بن يوسف، عن يحيى بن حمزة السلمي به.
قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح، وروي من وجه آخر ثم ساقه من طريق عقبة بن علقمة عن سعيد بن عبد العزيز الدمشقي، عن عطية بن قيس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: « إني رأيت أن عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا نور ساطع عمد به إلى الشام، ألا إنو الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ».
ثم أورده البيهقي من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله ﷺ فذكر نحوه، إلا أنه قال: « فأتبعته بصري حتى ظننت أنه مذهوب به » قال: « وإني أولت أن الفتن إذا وقعت أن الإيمان بالشام ».
قال الوليد: حدثني عفير بن معدان أنه سمع سليمان بن عامر يحدث عن أبي أمامة، عن رسول الله ﷺ مثل ذلك.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثني نصر بن محمد بن سليمان الحمصي، ثنا أبي أبو ضمرة محمد بن سليمان السلمي، حدثني عبد الله ابن أبي قيس سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله ﷺ: « رأيت عمودا من نور خرج من تحت رأسي ساطعا حتى استقر بالشام ».
وقال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجل يوم صفين: اللهم إلعن أهل الشام.
فقال له علي: لا تسب أهل الشام جما غفيرا فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال.
وقد روي من وجه آخر عن علي.
قال الإمام أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدثني شريح - يعني: ابن عبيد الحضرمي - قال: ذكر أهل الشام عند علي ابن أبي طالب وهو بالعراق فقالوا: إلعنهم يا أمير المؤمنين.
قال: لا، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلا كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا يستسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب ».
تفرد به أحمد، وفيه انقطاع فقد نص أبو حاتم الرازي على أن شريح ابن عبيد هذا لم يسمع من أبي أمامة ولا من أبي مالك الأشعري وأنه رواية عنهما مرسلة، فما ظنك بروايته عن علي ابن أبي طالب وهو أقدم وفاة منهما.
إخباره صلى الله عليه وسلم عن غزاة البحر إلى قبرص
قال مالك: عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها يوما فأطعمته، فنام رسول الله ﷺ ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟
قال: « ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة » - شك إسحق -.
فقلت: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك.
قالت: قلت: ما يضحكك يا رسول الله؟
قال: « ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله » كما قال في الأولى.
قالت: قلت: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال: « أنت من الأولين ».
قال: فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمان معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الليث وحماد بن زيد، كلاهما عن يحيى بن سعيد، وعن محمد بن يحيى بن حبان، عن أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت ملحان، فذكر الحديث إلى أن قال: فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازية أول ما ركبوا مع معاوية، أو أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ابن أبي سفيان، فلما انصرفوا من غزاتهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق الفزاري عن زائدة، عن أبي حوالة عبد الله بن عبد الرحمن، عن أنس به.
وأخرجه أبو داود من حديث معمر عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أخت أم سليم.
وقال البخاري:
باب ما قيل في قتال الروم
حدثنا إسحاق بن يزيد الدمشقي، ثنا يحيى بن حمزة، حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي، حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل إلى ساحل حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: « أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ».
قالت أم حرام: فقلت: يا رسول الله أنا فيهم؟
قال: « أنت فيهم ».
قالت: ثم قال النبي ﷺ: « أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ».
قلت: أنا فيهم يا رسول الله؟
قال: « لا » تفرد به البخاري دون أصحاب الكتب الستة.
وقد رواه البيهقي في الدلائل عن الحاكم، عن أبي عمرو ابن أبي جعفر، عن الحسن بن سفيان، عن هشام بن عمار الخطيب، عن يحيى بن حمزة القاضي به وهو يشبه معنى الحديث الأول.
وفيه من دلائل النبوة ثلاث: إحداها الإخبار عن الغزوة الأولى في البحر وقد كانت في سنة سبع وعشرين مع معاوية ابن أبي سفيان حين غزا قبرص وهو نائب الشام عن عثمان بن عفان وكانت معهم أم حرام بنت ملحان هذه صحبة زوجها عبادة بن الصامت أحد النقباء ليلة العقبة فتوفيت مرجعهم من الغزو قتل بالشام كما تقدم في الرواية عند البخاري، وقال ابن زيد: توفيت بقبرص سنة سبع وعشرين، والغزوة الثانية غزوة قسطنطينية مع أول جيش غزاها وكان أميرها يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان وذلك في سنة اثنتين وخمسين وكان معهم أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري فمات هنالك - رضي الله عنه وأرضاه - ولم تكن هذه المرأة معهم لأنها كانت قد توفيت قبل ذلك في الغزوة الأولى.
فهذا الحديث فيه ثلاث آيات من دلائل النبوة الإخبار عن الغزوتين، والإخبار عن المرأة بأنها من الأولين وليست من الآخرين، وكذلك وقع - صلوات الله وسلامه عليه -.
الإخبار عن غزوة الهند
قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن سيار بن حسين بن عبيدة، عن أبي هريرة قال: وعدنا رسول الله ﷺ غزوة الهند فإن استشهدت كنت من خير الشهداء وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرر.
رواه النسائي من حديث هشيم وزيد بن أنيسة عن يسار بن جبر ويقال: جبير عن أبي هريرة قال: وعدنا رسول الله ﷺ غزوة الهند فذكره.
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن إسحق، ثنا البراء عن الحسن، عن أبي هريرة قال: حدثني خليلي الصادق المصدوق رسول الله ﷺ أنه قال: « يكون في هذه الأمة بعث إلى السند والهند، فإن أنا أدركته فاستشهدت فذاك وإن أنا وإن أنا فذكر كلمة رجعت فأنا أبو هريرة المحدث قد أعتقني من النار، تفرد به أحمد.
وقد غزا المسلمون الهند في أيام معاوية سنة أربع وأربعين وكانت هنالك أمور سيأتي بسطها في موضعها، وقد غزا الملك الكبير الجليل محمود بن سبكتكين صاحب غزنة في حدود أربعمائة بلاد الهند فدخل فيها وقتل وأسر وسبى وغنم ودخل السومنات وكسر الند الأعظم الذي يعبدونه، واستلب سيوفه وقلائده ثم رجع سالما مؤيدا منصورا.
فصل في الإخبار عن قتال الترك
قال البخاري: ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، ثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، وحتى تقاتل الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة، وتجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر حتى يقع فيه والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله » تفرد به من هذا الوجه.
ثم قال البخاري: ثنا يحيى، ثنا عبد الرزاق عن معمر، عن همام عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر ».
تابعه غيره عن عبد الرزاق.
وقد ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: أخطأ عبد الرزاق في قوله: خورا بالخاء، وإنما هو بالجيم جوزا وكرمان هما بلدان معروفان بالشرق فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة فبلغ به النبي ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة نعالهم الشعر ».
وقد رواه الجماعة إلا النسائي من حديث سفيان بن عيينة به.
وقال البخاري: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان قال: قال إسماعيل: أخبرني قيس قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه فقال: صحبت رسول الله ﷺ ثلاث سنين لم أكن في سني أحرص على أن أعي الحديث مني فيهن سمعته يقول: - وقال هكذا بيده -: « بين يدي الساعة تقاتلون قوما نعالهم الشعر » - وهو هذا البارز -.
وقال سفيان مرة: وهم أهل البارز.
وقد رواه مسلم عن أبي كريب، عن أبي أسامة ووكيع كلاهما، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم القيامة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين ».
قلت: وأما قول سفيان بن عيينة: أنهم هم أهل البارز فالمشهور في الرواية تقديم الراء على الزاي ولعله تصحيف اشتبه على القائل البازر وهو السوق بلغتهم فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا جرير بن حازم سمعت الحسن قال: ثنا عمرو بن ثعلب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، أو ينتعلون الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة ».
ورواه البخاري عن سليمان بن حرب وأبي النعمان، عن جرير بن حازم به.
والمقصود أن قتال الترك وقع في آخر أيام الصحابة قاتلوا القان الأعظم فكسروه كسرة عظيمة على ما سنورده في موضعه إذا انتهينا إليه بحول الله وقوته وحسن توفيقه.
خبر آخر عن عبد الله بن سلام
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، ثنا ابن عون عن محمد - هو ابن سيرين - عن بشر بن عباد قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر خشوع فدخل فصلى ركعتين فأوجز فيهما.
فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له: إن القوم لما دخلت المسجد قالوا: كذا وكذا.
قال: سبحان الله والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك أني رأيت رؤيا على عهد رسول الله ﷺ فقصصتها عليه رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون: فذكر من خضرتها وسعتها - وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة، فقيل لي: إصعد عليه.
فقلت: لا أستطيع فجاء بنصيف - قال ابن عون: وهو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي فقال: إصعد عليه.
فصعدت حتى أخذت بالعروة.
فقال: إستمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي.
قال: فأتيت النبي ﷺ فقصصتها عليه.
فقال: « أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى أنت على الإسلام تموت ».
قال: وهو عبد الله بن سلام.
ورواه البخاري من حديث عون.
ثم قد رواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب بن رافع، عن حرشة بن الحر، عن عبد الله بن سلام فذكره مطولا وفيه قال: حتى انتهيت إلى جبل زلق فأخذ بيدي ودحاني فإذا أنا على ذروته فلم أتقار ولم أتماسك، وإذا عمود حديد في يدي ذروته حلقة ذهب فأخذ بيدي ودحاني حتى أخذت بالعروة، وذكر تمام الحديث.
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مسهر، عن حرشة بن الحر، عن عبد الله بن سلام فذكره.
وقال: حتى أتى بي جبلا فقال لي: إصعد فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على رأسي حتى فعلت ذلك مرارا.
وأن رسول الله قال له حين ذكر رؤياه: « وأما الجبل فهو منزل الشهداء ولن تناله ».
قال البيهقي: وهذه معجزة ثانية حيث أخبر أنه لا ينال الشهادة وهكذا وقع فإنه مات سنة ثلاث وأربعين فيما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره.
الإخبار عن بيت ميمونة بنت الحارث بسرف
قال البخاري في التاريخ: أنا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عبد الله بن عبد الله بن الأصم، ثنا يزيد بن الأصم قال: ثقلت ميمونة بمكة وليس عندها من بني أختها أحد فقالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها إن رسول الله ﷺ أخبرني أني لا أموت بمكة، فحملوها حتى أتوا بها إلى سرف الشجرة التي بنى بها رسول الله ﷺ تحتها في موضع القبة فماتت رضي الله عنها.
قلت: وكان موتها سنة إحدى وخمسين على الصحيح.
ما روي في إخباره عن مقتل حجر بن عدي
قال يعقوب بن سفيان: ثنا ابن بكير، ثنا ابن لهيعة، حدثني الحارث عن يزيد، عن عبد الله بن رزين الغافقي قال: سمعت علي ابن أبي طالب يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الأخدود، فقتل حجر بن عدي وأصحابه.
وقال يعقوب بن سفيان: قال أبو نعيم: ذكر زياد بن سمية علي ابن أبي طالب على المنبر فقبض حجر على الحصباء ثم أرسلها وحصب من حوله زيادا فكتب إلى معاوية يقول: إن حجرا حصبني وأنا على المنبر، فكتب إليه معاوية أن يحمل حجرا فلما قرب من دمشق بعث من يتلقاهم فالتقى معهم بعذراء فقتلهم.
قال البيهقي: لا يقول علي مثل هذا إلا أنه يكون سمعه من رسول الله ﷺ.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا حرملة، ثنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء حجرا وأصحابه؟
فقال: يا أم المؤمنين إني رأيت قتلهم إصلاحا للأمة وأن بقاءهم فسادا.
فقالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء ».
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عمرو بن عاصم، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن مروان بن الحكم قال: دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: يا معاوية قتلت حجرا وأصحابه وفعلت الذي فعلت أما خشيت أن أخبىء لك رجلا فيقتلك؟
قال: لا إني في بيت أمان سمعت رسول الله ﷺ يقول: « الإيمان قيد الفتك لا يفتك، لا يفتك مؤمن » يا أم المؤمنين كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك؟
قالت: صالح.
قال: فدعيني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا عز وجل.
حديث آخر:
قال يعقوب بن سفيان: ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لعشرة من أصحابه: « آخركم موتا في النار » فيهم سمرة بن جندب قال أبو نضرة: فكان سمرة آخرهم موتا.
قال البيهقي: رواته ثقات إلا أن أبا نضرة العبدي لم يثبت له من أبي هريرة سماع والله أعلم.
ثم روى من طريق إسماعيل بن حكيم عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن حكيم قال: كنت أمر بالمدينة فألقى أبا هريرة فلا يبدأ بشيء حتى يسألني عن سمرة فلو أخبرته بحياته وصحته فرح وقال: إنا كنا عشرة في بيت وإن رسول الله قام علينا ونظر في وجوهنا وأخذ بعضادتي الباب وقال: « آخركم موتا في النار ».
فقد مات منا ثمانية ولم يبق غيري وغيره، فليس شيء أحب إلي من أن أكون قد ذقت الموت، وله شاهد من وجه آخر.
وقال يعقوب ابن سفيان: ثنا حجاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أوس بن خالد قال: كنت إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن سمرة، وإذا قدمت على سمرة سألني عن أبي محذورة.
فقلت لأبي محذورة: مالك إذا قدمت عليك تسألني عن سمرة وإذا قدمت على سمرة سألني عنك؟
فقال: إني كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت فجاء النبي ﷺ فقال: « آخركم موتا في النار ».
قال: فمات أبو هريرة ثم مات أبو محذورة ثم مات سمرة.
وقال عبد الرزاق: أنا معمر سمعت ابن طاوس وغيره يقولون: قال النبي ﷺ لأبي هريرة وسمرة بن جندب ولرجل آخر: « آخركم موتا في النار » فمات الرجل قبلهما، وبقي أبو هريرة وسمرة فكان الرجل إذا أراد أن يغيظ أبا هريرة يقول: مات سمرة، فإذا سمعه غشي عليه وصعق، ثم مات أبو هريرة قبل سمرة وقتل سمرة بشرا كثيرا.
وقد ضعف البيهقي عامة هذه الروايات لانقطاع بعضها وإرساله ثم قال: وقد قال بعض أهل العلم: أن سمرة مات في الحريق.
ثم قال: ويحتمل أن يورد النار بذنوبه ثم ينجو منها بإيمانه فيخرج منها بشفاعة الشافعين والله أعلم.
ثم أورد من طريق هلال بن العلاء الرقي أن عبد الله بن معاوية حدثهم عن رجل قد سماه أن سمرة استجمر فغفل عن نفسه وغفل أهله عنه حتى أخذته النار.
قلت: وذكر غيره أن سمرة بن جندب رضي الله عنه أصابه كرار شديد وكان يوقد له على قدر مملوءة ماءا حارا فيجلس فوقها ليتدفأ ببخارها فسقط يوما فيها فمات رضي الله عنه وكان موته سنة تسع وخمسين بعد أبي هريرة بسنة وقد كان ينوب عن زياد بن سمية في البصرة إذا سار إلى الكوفة، وفي الكوفة إذا سار إلى البصرة، فكان يقيم في كل منهما ستة أشهر من السنة وكان شديدا على الخوارج مكثرا للقتل فيهم ويقول: هم شر قتلى تحت أديم السماء.
وقد كان الحسن البصري ومحمد بن سيرين وغيرهما من علماء البصرة يثنون عليه رضي الله عنه.
خبر رافع بن خديج:
روى البيهقي من حديث مسلم بن إبراهيم عن عمرو بن مرزوق الواضحي، ثنا يحيى بن عبد الحميد ابن رافع عن جدته أن رافع بن خديج رمي.
قال عمر: لا أدري أيهما قال - يوم أحد أو يوم حنين - بسهم في ثندوته فأتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إنزع لي السهم.
فقال له: « يا رافع إن شئت نزعت السهم والقبضة جميعا وإن شئت نزعت السهم وتركت القبضة وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد ».
فقال: يا رسول الله إنزع السهم واترك القبضة واشهد لي يوم القيامة أني شهيد.
قال: فعاش حتى كانت خلافة معاوية انتقض الجرح فمات بعد العصر هكذا وقع في هذه الرواية أنه مات في إمارة معاوية.
والذي ذكره الواقدي وغير واحد أنه مات سنة ثلاث وقيل: أربع وسبعين، ومعاوية رضي الله عنه كانت وفاته في سنة ستين بلا خلاف والله أعلم.
إخباره صلى الله عليه وسلم لما وقع من الفتن من بني هاشم
قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرني سفيان عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ قال: « ستكون أثرة وأمور تنكرونها ».
قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟
قال: « تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ».
وقال البخاري: ثنا محمد بن عبد الرحيم، أنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أبو أسامة، ثنا شعبة عن أبي التياح، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « يهلك الناس هذا الحي من قريش ».
قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟
قال: « لو أن الناس اعتزلوهم ».
ورواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي أسامة.
وقال البخاري: قال محمود: ثنا أبو داود، أخبرنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا زرعة وحدثنا أحمد بن محمد المكي، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده قال: كنت مع مروان وأبي هريرة فسمعت أبا هريرة يقول: سمعت الصادق المصدوق يقول: « هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ».
فقال مروان: غلمة؟
قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم فلان وبني فلان، تفرد به البخاري.
وقال أحمد: ثنا روح، ثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، أخبرني جدي سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « هلكة أمتي على يدي غلمة ».
قال مروان: وهم معنا في الحلقة قبل أن يلي شيئا فلعنة الله عليهم غلمة.
قال: أما والله لو أشاء أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت.
قال: فكنت أخرج مع أبي وجدي إلى بني مروان بعد ما ملكوا فإذا هم يبايعون الصبيان ومنهم من يبايع له وهو في خرقة.
قال لنا: عسى أصحابكم هؤلاء أن يكونوا الذي سمعت أبا هريرة يذكر أن هذه الملوك يشبه بعضها بعضا.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن سماك، حدثني عبد الله بن ظالم قال: سمعت أبا هريرة قال: سمعت حبي أبا القاسم ﷺ يقول: « إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش ».
ثم رواه أحمد عن زيد بن الخباب، عن سفيان - وهو الثوري - عن سماك، عن مالك بن ظالم، عن أبي هريرة فذكره.
ثم روى غندر وروح بن عبادة عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن مالك بن ظالم قال: سمعت أبا هريرة - زاد روح يحدث مروان بن الحكم - قال: سمعت رسول الله ﷺ الصادق المصدوق يقول: « هلاك أمتي على يد غلمة أمراء سفهاء من قريش ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة، حدثني بشر بن أبي عمرو الخولاني، أنا الوليد بن قيس التجيبي، حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يكون خلف من بعد الستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم ويقرأ القرآن ثلاثا مؤمن، ومنافق، وفاجر ».
وقال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟
قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به.
تفرد به أحمد وإسناده جيد قوي على شرط السنن.
وقد روى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن علي بن عفان، عن أبي أسامة، عن مجالد، عن الشعبي قال: لما رجع علي من صفين قال: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية فإنه لو فقدتموه لقد رأيتم الرؤوس تنزو من كواهلها كالحنظل.
ثم روى عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن العباس ابن الوليد بن زيد، عن أبيه، عن جابر، عن عمير بن هانئ أنه حدثه أنه قال: كان أبو هريرة يمشي في سوق المدينة وهو يقول: اللهم لا تدركني سنة الستين ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني إمارة الصبيان.
قال البيهقي: وعلي وأبو هريرة إنما يقولان هذا الشيء سمعناه من رسول الله ﷺ.
وقال يعقوب بن سفيان: أنا عبد الرحمن بن عمرو الحزامي، ثنا محمد بن سليمان عن أبي تميم البعلبكي، عن هشام بن الغاز، عن ابن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول الله ﷺ: « لا يزال هذا الأمر معتدلا قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية ».
وروى البيهقي من طريق عوف الأعرابي عن أبي خلدة، عن أبي العالية، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية ».
وهذا منقطع بين أبي العالية وأبي ذر وقد رجحه البيهقي بحديث أبي عبيدة المتقدم قال: ويشبه أن يكون هذا الرجل هو يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان والله أعلم.
قلت: الناس في يزيد بن معاوية أقسام فمنهم من يحبه ويتولاه وهم طائفة من أهل الشام من النواصب، وأما الروافض فيشنعون عليه ويفترون عليه أشياء كثيرة ليست فيه ويتهمه كثير منهم بالزندقة ولم يكن كذلك، وطائفة أخرى لا يحبونه ولا يسبونه لما يعلمون من أنه لم يكن زنديقا كما تقوله الرافضة ولما وقع في زمانه من الحوادث الفظيعة والأمور المستنكرة البشعة الشنيعة فمن أنكرها قتل الحسين بن علي بكربلاء ولكن لم يكن ذلك من علم منه ولعله لم يرض به ولم يسؤه وذلك من الأمور المنكرة جدا ووقعة الحرة كانت من الأمور القبيحة بالمدينة النبوية على ما سنورده إذا انتهينا إليه في التاريخ إن شاء الله تعالى.
الإخبار بمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما
وقد ورد في الحديث بمقتل الحسين فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - يعني: ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: استأذن ملك المطر أن يأتي النبي ﷺ فأذن له.
فقال لأم سلمة: « إحفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد » فجاء الحسين بن علي فوثب حتى دخل فجعل يصعد على منكب النبي ﷺ فقال له الملك: أتحبه؟
فقال النبي - ﷺ -: « نعم ».
قال: فإن أمتك تقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه.
قال: فضرب بيده فأراه ترابا أحمر فأخذت أم سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها.
قال: فكنا نسمع يقتل بكربلاء.
ورواه البيهقي من حديث بشر بن موسى عن عبد الصمد، عن عمارة فذكره، ثم قال: وكذلك رواه سفيان بن فروخ عن عمارة وعمارة بن زاذان هذا هو الصيدلاني أبو سلمة البصري اختلفوا فيه وقد قال فيه أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتين.
وضعفه أحمد مرة ووثقه أخرى وحديثه هذا قد روي عن غيره من وجه آخر.
فرواه الحافظ البيهقي من طريق عمارة بن عرفة عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا.
وقد قال البيهقي: أنا الحاكم في آخرين قالوا: أنا الأصم، أنا عباس الدوري، ثنا محمد بن خالد بن مخلد، ثنا موسى بن يعقوب عن هاشم بن هاشم، عن عتبة ابن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، أخبرتني أم سلمة أن رسول الله ﷺ اضطجع ذات يوم فاستيقظ وهو حائر ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيت منه في المرة الأولى، ثم اضطجع واستيقظ وفي يده تربة حمراء وهو يقلبها.
فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟
فقال: « أخبرني جبريل أن هذا يقتل بأرض العراق - للحسين - قلت له: يا جبريل أرني تربة الأرض التي يقتل بها فهذه تربتها ».
ثم قال البيهقي: تابعه أبو موسى الجهني عن صالح بن يزيد النخعي، عن أم سلمة وأبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: ثنا إبراهيم بن يوسف الصيرفي، ثنا الحسين بن عيسى، ثنا الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان الحسين جالسا في حجر النبي ﷺ.
فقال جبريل: أتحبه؟
فقال: « وكيف لا أحبه وهو ثمرة فؤادي؟ »
فقال: أما إن أمتك ستقتله ألا أريك من موضع قبره؟ فقبض قبضة فإذا تربة حمراء.
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، والحسين بن عيسى قد حدث عن الحكم بن أبان بأحاديث لا نعلمها عند غيره.
قلت: هو الحسين بن عيسى بن مسلم الحنفي أبو عبد الرحمن الكوفي أخو سليم القاري.
قال البخاري: مجهول - يعني: مجهول الحال - وإلا فقد روى عنه سبعة نفر.
وقال أبو زرعة: منكر الحديث.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي روي عن الحاكم بن أبان أحاديث منكرة، وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن عدي: قليل الحديث وعامة حديثه غرائب وفي بعض أحاديثه منكرات.
وروى البيهقي عن الحكم وغيره، عن أبي الأحوص، عن محمد بن الهيثم القاضي، ثنا محمد بن مصعب، ثنا الأوزاعي، عن أبي عمار شداد بن عبد الله، عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله - ﷺ فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلما منكرا الليلة.
قال: « وما هو؟ »
قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري.
قال: « رأيت خيرا تلك فاطمة إن شاء الله تلد غلاما فيكون في حجرك » فولدت فاطمة الحسين، فكان في حجري كما قال رسول الله ﷺ فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله ﷺ تهريقان الدموع، قالت: قلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي مالك؟
قال: « أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا ».
فقلت: هذا؟
قال: « نعم وأتاني بتربة من ترتبه حمراء ».
وقد روى الإمام أحمد عن عفان، عن وهيب، عن أيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل قالت: أتيت رسول الله ﷺ فقلت: إني رأيت في منامي أن في بيتي أو حجري عضوا من أعضائك؟
قال: « تلد فاطمة إن شاء الله غلاما فتكفلينه » فولدت له فاطمة حسينا فدفعته إليها فأرضعته بلبن قثم، فأتيت به رسول الله ﷺ يوما أزوره فأخذه فوضعه على صدره فبال فأصاب البول إزاره، فزخخت بيدي على كتفيه.
فقال: « أوجعت ابني - أصلحك الله - » أو قال: « رحمك الله ».
فقلت: أعطني إزارك أغسله.
فقال: « إنما يغسل بول الجارية ويصب على بول الغلام ».
ورواه أحمد أيضا عن يحيى بن بكير، عن إسرائيل، عن سماك، عن قابوس بن مخارق، عن أم الفضل فذكر مثله سواء وليس فيه الإخبار بقتله فالله أعلم.
وقال الأمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد، أنا عمار ابن أبي عمارة عن ابن عباس قال: رأيت النبي ﷺ فيما يرى النائم بنصف النهار وهو قائل أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا؟
قال: « دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم ».
قال: فأحصينا ذلك اليوم فوجدوه قتل في ذلك اليوم رضي الله عنه.
قال قتادة: قتل الحسين يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف الشهر.
وهكذا قال الليث وأبو بكر ابن عياش الواقدي والخليفة بن خياط وأبو معشر وغير واحد: إنه قتل يوم عاشوراء عام إحدى وستين، وزعم بعضهم أنه قتل يوم السبت والأول أصح.
وقد ذكروا في مقتله أشياء كثيرة أنها وقعت من كسوف الشمس يومئذ وهو ضعيف، وتغيير آفاق السماء ولم ينقلب حجر إلا وجد تحته دم، ومنهم من خصص ذلك بحجارة بيت المقدس، وأن الورس استحال رمادا، وأن اللحم صار مثل العلقم، وكان فيه النار إلى غير ذلك مما في بعضها نكارة وفي بعضها احتمال والله أعلم.
وقد مات رسول الله ﷺ وهو سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ولم يقع شيء من هذه الأشياء، وكذلك الصديق بعده مات ولم يكن شيء من هذا، وكذا عمر بن الخطاب قتل شهيدا وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر، وحصر عثمان في داره وقتل بعد ذلك شهيدا، وقتل علي ابن أبي طالب شهيدا بعد صلاة الفجر ولم يكن شيء من هذه الأشياء والله أعلم.
وقد روى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمارة، عن أم سلمة أنها سمعت الجن تنوح على الحسين بن علي وهذا صحيح.
وقال شهر بن حوشب: كنا عند أم سلمة فجاءها الخبر بقتل الحسين فخرت مغشيا عليها، وكان سبب قتل الحسين أنه كتب إليه أهل العراق يطلبون منه أن يقدم إليهم ليبايعوه بالخلافة وكثر تواتر الكتب عليه من العامة ومن ابن عمه مسلم بن عقيل، فلما ظهر على ذلك عبيد الله بن زياد نائب العراق ليزيد بن معاوية فبعث إلى مسلم بن عقيل يضرب عنقه ورماه من القصر إلى العامة فتفرق ملؤهم وتبددت كلمتهم، هذا وقد تجهز الحسين من الحجاز إلى العراق ولم يشعر بما وقع فتحتمل بأهله ومن أطاعه وكانوا قريبا من ثلاثمائة وقد نهاه عن ذلك جماعة من الصحابة منهم أبو سعيد وجابر، وابن عباس، وابن عمر فلم يطعهم، وما أحسن ما نهاه ابن عمر عن ذلك واستدل له على أنه لا يقع ما يريده فلم يقبل.
فروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن سالم الأسدي، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه قال: سمعت الشعبي يقول: كان ابن عمر قدم المدينة فأخبر أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ليلتين أو ثلاث من المدينة قال: أين تريد؟
قال: العراق - ومعه طوامير وكتب -.
فقال: لا تأتهم.
فقال: هذه كتبهم وبيعتهم.
فقال: إن الله خير نبيه ﷺ بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا وإنكم بضعة من رسول الله ﷺ والله لا يليها أحد منكم أبدا وما صرفها عنكم إلى الذي هو خير منكم، فارجعوا.
فأبى وقال: هذه كتبهم وبيعتهم.
قال: فاعتنقه ابن عمر وقال: أستودعك الله من قتيل.
وقد وقع ما فهمه عبد الله بن عمر من ذلك سواء من أنه لم يل أحد من أهل البيت الخلافة على سبيل الإستقلال ويتم له الأمر.
وقد قال ذلك: عثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب، إنه لا يلي أحد من أهل البيت أبدا.
ورواه عنهما أبو صالح الخليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ في كتابه الفتن والملاحم.
قلت: وأما الخلفاء الفاطميون الذين كانوا بالديار المصرية فإن أكثر العلماء على أنهم أدعياء، وعلي ابن أبي طالب ليس من أهل البيت ومع هذا لم يتم له الأمر كما كان للخلفاء الثلاثة قبله، ولا اتسعت يده في البلاد كلها ثم تنكدت عليه الأمور، وأما ابنه الحسن رضي الله عنه فإنه لما جاء في جيوشه وتصافى هو وأهل الشام ورأى أن المصلحة في ترك الخلافة تركها لله عز وجل، وصيانة لدماء المسلمين أثابه الله رضي الله عنه وأما الحسين رضي الله عنه فإن ابن عمر لما أشار عليه بترك الذهاب إلى العراق وخالفه، اعتنقه مودعا وقال: أستودعك الله من قتيل، وقد وقع ما تفرسه ابن عمر، فإنه لما استقل ذاهبا بعث إليه عبيد الله بن زياد بكتيبة فيها أربعة آلاف يتقدمهم عمرو بن سعد ابن أبي وقاص، وذلك بعد ما استعفاه فلم يعفه، فالتقوا بمكان يقال له: كربلاء بالطف، فالتجأ الحسين ابن علي وأصحابه إلى مقصبة هنالك وجعلوها منهم بظهر، وواجهوا أولئك وطلب منهم الحسين إحدى ثلاث: إما أن يدعوه يرجع من حيث جاء، وإما أن يذهب إلى ثغر من الثغور فيقاتل فيه، أو يتركوه حتى يذهب إلى يزيد بن معاوية فيضع يده في يده فيحكم فيه بما شاء، فأبوا عليه واحدة منهن، وقالوا: لا بد من قدومك على عبيد الله بن زياد فيرى فيك رأيه، فأبى أن يقدم عليه أبدا، وقاتلهم دون ذلك فقتلوه رحمه الله وذهبوا برأسه إلى عبيد الله بن زياد فوضعوه بين يديه، فجعل ينكت بقضيب في يده على ثناياه وعنده أنس بن مالك جالس، فقال له: يا هذا إرفع قضيبك قد طال ما رأيت رسول الله يقبل هذه الثنايا.
ثم أمر عبيد الله بن زياد أن يسار بأهله ومن كان معه إلى الشام إلى يزيد بن معاوية، ويقال: أنه بعث معهم بالرأس حتى وضع بين يدي يزيد فأنشد حينئذ قول بعضهم:
نفلق هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ثم أمر بتجهيزهم إلى المدينة النبوية، فلما دخلوها تلقتهم امرأة من بنات عبد المطلب ناثرة شعرها، واضعة كفها على رأسها تبكي وهي تقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بشر في ذوي رحمي
وسنورد هذا مفصلا في موضعه إذا انتهينا إليه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد رثاه الناس بمراث كثيرة ومن أحسن ذلك ما أورده الحاكم أبو عبد الله النيسابوري - وكان فيه تشيع -:
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد * متزملا بدمائه تزميلا
فكأنما بك يا ابن بنت محمد * قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا ولم يترقبوا * في قتلك التنزيل والتأويلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما * قتلوا بك التكبير والتهليلا
الإخبار عن وقعة الحرة التي كانت في زمن يزيد
قال يعقوب بن سفيان: حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثني ابن فليح عن أبيه، عن أيوب بن عبد الرحمن، عن أيوب بن بشير المعافري أن رسول الله ﷺ خرج في سفر من أسفاره فلما مر بحرة زهرة وقف فاسترجع، فساء ذلك من معه وظنوا أن ذلك من أمر سفرهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ما الذي رأيت؟
فقال رسول الله ﷺ: « أما إن ذلك ليس من سفركم هذا ».
قالوا: فما هو يا رسول الله؟
قال: « يقتل بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي » هذا مرسل.
وقد قال يعقوب بن سفيان: قال وهب بن جرير: قالت جويرية: حدثني ثور بن زيد عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها } [123].
قال: لأعطوها يعني: إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، وتفسير الصحابي في حكم المرفوع عند كثير من العلماء.
وقال نعيم بن حماد في كتاب الفتن والملاحم: حدثنا أبو عبد الصمد العمي، ثنا أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله ﷺ: « يا أبا ذر أرأيت إن الناس قتلوا حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف أنت صانع؟ »
قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: « تدخل بيتك ».
قال: قلت: فإن أتى علي؟
قال: « يأتي من أنت منه ».
قال: قلت: وأحمل السلاح؟
قال: « إذا تشرك معهم ».
قال: قلت: فكيف أصنع يا رسول الله؟
قال: « إن خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق طائفة من ردائك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه ».
ورواه الأمام أحمد في مسنده عن مرحوم - هو ابن عبد العزيز - عن أبي عمران الجوني، فذكره مطولا.
قلت: وكان سبب وقعة الحرة أن وفدا من أهل المدينة قدموا على يزيد بن معاوية بدمشق فأكرمهم وأحسن جائزتهم وأطلق لأميرهم - وهو عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر - قريبا من مائة ألف، فلما رجعوا ذكروا لأهليهم عن يزيد ما كان يقع منه من القبائح في شربه الخمر وما يتبع ذلك من الفواحش التي من أكبرها ترك الصلاة عن وقتها بسبب السكر، فاجتمعوا على خلعه فخلعوه عند المنبر النبوي فلما بلغه ذلك بعث إليهم سرية يقدمها رجل يقال له: مسلم بن عقبة، وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة، فلما ورد المدينة استباحها ثلاثة أيام فقتل في غضون هذه الأيام بشرا كثيرا حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها، وزعم بعض علماء السلف أنه قتل في غضون ذلك ألف بكر فالله أعلم.
وقال عبد الله بن وهب: عن الإمام مالك، قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، حسبت أنه قال: وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله ﷺ وذلك في خلافة يزيد.
وقال يعقوب ابن سفيان: سمعت سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري يقول: قتل يوم الحرة عبد الله بن يزيد المازني، ومعقل بن سنان الأشجعي، ومعاذ بن الحارث القاري، وقتل عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر.
قال يعقوب: وحدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير عن الليث قال: وكانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لثلاث بقين من الحجة سنة ثلاث وستين.
ثم انبعث مسرف بن عقبة إلى مكة قاصدا عبد الله بن الزبير ليقتله بها لأنه فر من بيعة يزيد، فمات يزيد بن معاوية في غضون ذلك واستفحل أمر عبد الله بن الزبير في الخلافة بالحجاز، ثم أخذ العراق ومصر، وبويع بعد يزيد لابنه معاوية بن يزيد وكان رجلا صالحا، فلم تطل مدته مكث أربعين يوما، وقيل: عشرين يوما، ثم مات رحمه الله فوثب مروان بن الحكم على الشام فأخذها فبقي تسعة أشهر ثم مات، وقام بعده ابنه عبد الملك فنازعه فيها عمرو بن سعيد بن الأشدق وكان نائبا على المدينة من زمن معاوية وأيام يزيد ومروان، فلما هلك مروان زعم أنه أوصى له بالأمر من بعد ابنه عبد الملك فضاق به ذرعا، ولم يزل به حتى أخذه بعد ما استفحل أمره بدمشق فقتله في سنة تسع وستين ويقال: في سنة سبعين، واستمرت أيام عبد الملك حتى ظفر بابن الزبير سنة ثلاث وسبعين قتله الحجاج بن يوسف الثقفي عن أمره بمكة بعد محاصرة طويلة اقتضت أن نصب المنجنيق على الكعبة من أجل أن ابن الزبير لجأ إلى الحرم، فلم يزل به حتى قتله، ثم عهد في الأمر إلى بنيه الأربعة بعده الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام بن عبد الملك.
وقد قال الأمام أحمد: حدثنا أسود ويحيى ابن أبي بكير، ثنا كامل أبو العلاء سمعت أبا صالح - وهو مولى ضباعة المؤذن واسمه مينا - قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: « تعوذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان ».
وقال: « لا تذهب الدنيا حتى يظهر اللكع ابن لكع ».
وقال الأسود: يعني: اللئيم ابن اللئيم.
وقد روى الترمذي من حديث أبي كامل عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين سنة ».
ثم قال: حسن غريب.
وقد روى الإمام أحمد عن عفان وعبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، حدثني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لينعقن ».
وقال عبد الصمد في روايته: « ليزعقن جبار من جبابرة بني أمية على منبري هذا ».
زاد عبد الصمد: « حتى يسيل رعافه ».
قال: فحدثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص يرعف على منبر النبي ﷺ حتى سال رعافه.
قلت: علي بن يزيد بن جدعان في روايته غرابة ونكارة وفيه تشيع، وعمرو بن سعيد هذا يقال له: الأشدق كان من سادات المسلمين وأشرافهم في الدنيا لا في الدين.
وروى عن جماعة من الصحابة منهم في صحيح مسلم عن عثمان في فصل الطهور، وكان نائبا على المدينة لمعاوية ولابنه يزيد بعده، ثم استفحل أمره حتى كان يصاول عبد الملك بن مروان، ثم خدعه عبد الملك حتى ظفر به فقتله في سنة تسع وستين أو سنة سبعين فالله أعلم.
وقد روى عنه من المكارم أشياء كثيرة من أحسنها أنه لما حضرته الوفاة قال لبنيه وكانوا ثلاثة عمرو هذا وأمية وموسى، فقال لهم: من يتحمل ما علي؟
فبدر ابنه عمرو هذا وقال: أنا يا أبة وما عليك؟
قال: ثلاثون ألف دينار.
قال: نعم.
قال: وأخواتك لا تزوجهن إلا بالأكفاء ولو أكلن خبز الشعير.
قال: نعم.
قال: وأصحابي من بعدي إن فقدوا وجهي فلا يفقدوا معروفي.
قال: نعم.
قال: أما لئن قلت ذلك فلقد كنت أعرفه من حماليق وجهك وأنت في مهدك.
وقد ذكر البيهقي من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث - عن حرملة بن عمران، عن أبيه، عن يزيد ابن أبي حبيب أنه سمعه يحدث عن محمد بن يزيد ابن أبي زياد الثقفي، قال: اصطحب قيس ابن خرشة وكعب حتى إذا بلغا صفين وقف كعب الأحبار فذكر كلامه فيما يقع هناك من سفك دماء المسلمين، وأنه يجد ذلك في التوراة.
وذكر عن قيس بن خرشة أنه بايع رسول الله ﷺ على أن يقول الحق، وقال: « يا قيس بن خرشة عسى إن عذبك الدهر حتى يكبك بعدي من لا يستطيع أن تقول بالحق معهم ».
فقال: والله لا أبايعك على شيء إلا وفيت لك.
فقال له رسول الله ﷺ: « إذا لا يضرك بشر ».
فبلغ قيس إلى أيام عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان فنقم عليه عبيد الله في شيء فأحضره، فقال: أنت الذي زعم أنه لا يضرك بشر؟
قال: نعم.
قال: لتعلمن اليوم أنك قد كذبت ائتوني بصاحب العذاب.
قال: فمال قيس عند ذلك فمات.
معجزة أخرى:
روى البيهقي من طريق الدراوردي عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة أن بعض بني عبد الله سايره في بعض طريق مكة، قال: حدثني العباس بن عبد المطلب أنه بعث ابنه عبد الله إلى رسول الله ﷺ في حاجة فوجد عنده رجلا فرجع ولم يكلمه من أجل مكان الرجل، فلقي العباس رسول الله ﷺ فأخبره بذلك، فقال: « ورآه؟ »
قال: نعم.
قال: « أتدري من ذلك الرجل؟ ذاك جبريل ولن يموت حتى يذهب بصره، ويؤتى علما ».
وقد مات ابن عباس سنة ثمان وستين بعد ما عمي رضي الله عنه.
وروى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان حدثتنا سيابة بنت يزيد عن خمارة، عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها أن رسول الله ﷺ دخل على زيد يعوده في مرض كان به.
قال: « ليس عليك من مرضك بأس ولكن كيف بك إذا عمرت بعدي فعميت؟ »
قال: إذا أحتسب وأصبر.
قال: « إذا تدخل الجنة بغير حساب ».
قال: فعمي بعد ما مات رسول الله ثم رد الله عليه بصره ثم مات.
فصل حديث إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة وعند مسلم عن جابر بن سمرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: « إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا كلهم يزعم أنه نبي ».
وقال البيهقي: عن الماليني، عن أبي عدي، عن أبي يعلى الموصلي، حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسدي، ثنا شريك عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا منهم: مسيلمة، والعنسي، والمختار، وشر قبائل العرب بنو أمية وبنو حنيفة، وثقيف ».
قال ابن عدي: محمد بن الحسن له إفرادات وقد حدث عنه الثقات ولم أر بتحديثه بأسا.
وقال البيهقي: لحديثه في المختار شواهد صحيحه.
ثم أورد من طريق أبي داود الطيالسي حدثنا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل، عن أبي عقرب، عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت للحجاج بن يوسف: أما إن رسول الله ﷺ حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.
قال: ورواه مسلم من حديث الأسود بن شيبان وله طرق عن أسماء وألفاظ سيأتي إيرادها في موضعه.
وقال البيهقي: أنا الحاكم وأبو سعيد عن الأصم، عن عباس الدراوردي، عن عبيد الله بن الزبير الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة عن أبي المحيا، عن أمه قالت: لما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير دخل الحجاج على أسماء بنت أبي بكر، فقال: يا أمه إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟
فقالت: لست لك بأم ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله ﷺ يقول: « يخرج من ثقيف كذاب ومبير » فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت.
فقال الحجاج: مبير المنافقين.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شريك عن أبي علوان عبد الله بن عصمة، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن في ثقيف كذابا ومبيرا ».
وقد تواتر خبر المختار ابن أبي عبيد الكذاب الذي كان نائبا على العراق وكان يزعم أنه نبي، وأن جبريل كان يأتيه بالوحي.
وقد قيل لابن عمر - وكان زوج أخت المختار وصفيه -: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه.
قال: صدق قال الله تعالى: « وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ».
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا قرة بن خالد عن عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد قال: كنت ألصق شيء بالمختار الكذاب، قال: فدخلت عليه ذات يوم فقال: دخلت وقد قام جبريل قبل من هذا الكرسي.
قال: فأهويت إلى قائم السيف لأضربه حتى ذكرت حديثا حدثنيه عمرو بن الحمق الخزاعي أن رسول الله ﷺ قال: « إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة » فكففت عنه.
وقد رواه أسباط بن نصر وزائدة والثوري عن إسماعيل السدي، عن رفاعة بن شداد القتباني فذكر نحوه.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو بكر الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة عن مجالد، عن الشعبي قال: فأخرت أهل البصرة فغلبتهم بأهل الكوفة، والأحنف ساكت لا يتكلم فلما رآني غلبتهم أرسل غلاما له، فجاء بكتاب فقال: هاك إقرأ.
فقرأته فإذا فيه من المختار لله يذكر أنه نبي.
يقول الأحنف: أنى فينا مثل هذا.
وأما الحجاج بن يوسف فقد تقدم الحديث أنه الغلام المبير الثقفي وسنذكر ترجمته إذا انتهينا إلى أيامه فإنه كان نائبا على العراق لعبد الملك بن مروان ثم لابنه الوليد بن عبد الملك وكان من جبابرة الملوك على ما كان فيه من الكرم والفصاحة على ما سنذكره.
وقد قال البيهقي: ثنا الحاكم عن أبي نضر الفقيه، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي أن معاوية بن صالح حدثه عن شريح بن عبيد، عن أبي عذبة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فأخبره أن أهل العراق قد حصبوا أميرهم فخرج غضبان فصلى لنا الصلاة فسها فيها حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فلما سلم أقبل على الناس فقال: من ههنا من أهل الشام، فقام رجل ثم قام آخر ثم قمت أنا ثالثا أو رابعا، فقال: يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ اللهم إنهم قد لبسوا علي فألبس عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم أهل الجاهلية، لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم.
قال عبد الله: وحدثني ابن لهيعة بمثله.
قال: وولد الحجاج يومئذ.
ورواه الدارمي أيضا عن أبي اليمان، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن أبي عذبة الحمصي، عن عمر فذكر مثله.
قال أبو اليمان: علم عمر أن الحجاج خارج لا محالة فلما أغضبوه استعجل لهم العقوبة.
قلت: فإن كان هذا نقله عمر عن رسول الله ﷺ لقد تقدم له شاهد عن غيره وإن كان عن تحديث فكرامة الولي معجزة لنبيه.
وقال عبد الرزاق: أنا جعفر - يعني: ابن سليمان - عن مالك بن دينار، عن الحسن قال: قال علي لأهل الكوفة: اللهم كما ائتمنتهم فخانوني ونصحت لهم فغشوني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذبال الميال يأكل خضرتها ويلبس فروتها ويحكم فيهم بحكم الجاهلية.
قال: فتوفي الحسن وما خلق الله الحجاج يومئذ وهذا منقطع.
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أيوب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن علي ابن أبي طالب أنه قال: الشاب الذبال أمير المصرين يلبس فروتها ويأكل خضرتها، ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق ويكثر منه الأرق ويسلطه الله على شيعته.
وله من حديث يزيد بن هارون أنا العوان بن حوشب، حدثني حبيب ابن أبي ثابت قال: قال علي: لا مت حتى تدرك فتى ثقيف.
فقيل: يا أمير المؤمنين وما فتى ثقيف؟
فقال: ليقالن له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين سنة، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يفتن بمن أطاعه من عصاه وهذا معضل وفي صحته عن علي نظر والله أعلم.
وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الحسين بن الحسن بن أيوب، عن أبي حاتم الرازي، عن عبد الله بن يوسف الثنيني، ثنا هشام بن يحيى الغساني قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم.
وقال أبو بكر ابن عياش: عن عاصم بن النجود ما بقيت لله حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن ابن طاوس أن أباه لما تحقق موت الحجاج تلا قوله تعالى: { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } [124].
قلت: وقد توفي الحجاج سنة خمس وتسعين.
الإشارة النبوية إلى دولة عمر بن عبد العزيز تاج بني أمية
قد تقدم حديث أبي إدريس الخولاني عن حذيفة قال: سألت رسول الله ﷺ هل بعد هذا الخير من شر؟
قال: « نعم ».
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: « نعم وفيه دخن ».
قلت: وما دخنه؟
قال: « قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، يعرف منهم وينكر » الحديث.
فحمل البيهقي وغيره هذا الخبر الثاني على أيام عمر بن عبد العزيز.
وروى عن الحاكم، عن الأصم، عن العباس بن الوليد بن مرثد، عن أبيه قال: سئل الأوزاعي عن تفسير حديث حذيفة حين سأل رسول الله ﷺ عن الشر الذي يكون بعد ذلك الخير.
فقال الأوزاعي: هي الردة التي كانت بعد وفاة رسول الله ﷺ.
وفي مسألة حذيفة فهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: « نعم وفيه دخن ».
قال الأوزاعي: فالخير الجماعة وفي ولاتهم من يعرف سيرته وفيهم من ينكر سيرته.
قال: فلم يأذن رسول الله ﷺ في قتالهم ما صلوا الصلاة.
وروى أبو داود الطيالسي عن داود الواسطي - وكان ثقة - عن حبيب بن سالم، عن نعمان بن سالم، عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: « إنكم في النبوة ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها لكم إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ».
قال فقدم عمر بن عبد العزيز ومعه يزيد بن النعمان فكتبت إليه أذكره الحديث، وكتبته إليه أقول: أني أرجو أن تكون أمير المؤمنين بعد الخيرية.
قال: فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسر به وأعجبه.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا روح بن عبادة عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: قال عمر بن عبد العزيز: رأيت رسول الله ﷺ وعنده عمر وعثمان وعلي، فقال لي: « أدن » فدنوت حتى قمت بين يديه فرفع بصره إلي وقال: « أما إنك ستلي أمر هذه الأمة وستعدل عليهم ».
وسيأتي في الحديث الآخر إن شاء الله أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.
وقد قال كثير من الأئمة إنه عمر بن عبد العزيز فإنه تولى سنة إحدى ومائة.
وقال البيهقي: أنا الحاكم، أنا أبو حامد أحمد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفان بن مسلم، ثنا عثمان بن عبد الحميد ابن لاحق عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شين يلي فيملأ الأرض عدلا.
قال نافع من قبله: ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
وقد رواه نعيم بن حماد عن عثمان بن عبد الحميد به.
ولهذا طرق عن ابن عمر أنه كان يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا.
وقد روي ذلك عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب نحوا من هذا، وقد كان هذا الأمر مشهورا قبل ولايته وميلاده بالكلية أنه يلي رجل من بني أمية يقال له: أشج بني مروان، وكانت أمه أروى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان أبوه عبد العزيز بن مروان نائبا لأخيه عبد الملك على مصر، وكان يكرم عبد الله بن عمر ويبعث إليه بالتحف والهدايا والجوائز فيقبلها، وبعث إليه مرة بألف دينار، فأخذها وقد دخل عمر بن عبد العزيز يوما إلى اصطبل أبيه وهو صغير فرمحه فرس فشجه في جبينه، فجعل أبوه يسلت عنه الدم ويقول: أما لئن كنت أشج بني مروان إنك إذا لسعيد وكان الناس يقولون: الأشج والناقص أعدلا بني مروان، فالأشج هو عمر بن عبد العزيز، والناقص هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقول فيه الشاعر:
رأيت اليزيد بن الوليد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كاهله
قلت: وقد ولي عمر بن عبد العزيز بعد سليمان بن عبد الملك سنتين ونصفا فملأ الأرض عدلا وفاض المال حتى كان الرجل يهمه لمن يعطي صدقته.
وقد حمل البيهقي الحديث المتقدم عن عدي بن حاتم على أيام عمر بن عبد العزيز وعندي في ذلك نظر والله أعلم.
وقد روى البيهقي من حديث إسماعيل ابن أبي أويس، حدثني أبو معن الأنصاري، ثنا أسيد قال: بينما عمر بن عبد العزيز يمشي إلى مكة بفلاة من الأرض إذ رأى حية ميتة، فقال: علي بمحفار.
فقالوا: نكفيك - أصلحك الله -.
قال: لا ثم أخذه ثم لفه في خرقة ودفنه، فإذا هاتف يهتف رحمة الله عليك يا سرق.
فقال له عمر بن عبد العزيز: من أنت - يرحمك الله -؟
قال: أنا رجل من الجن، وهذا سرق ولم يبق ممن بايع رسول الله ﷺ غيري وغيره وأشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول: « تموت يا سرق بفلاة من الأرض ويدفنك خير أمتي ».
وقد روي هذا من وجه آخر وفيه أنهم كانوا تسعة بايعوا رسول الله ﷺ وفيه أن عمر بن عبد العزيز حلفه فلما حلف بكى عمر بن عبد العزيز.
وقد رجحه البيهقي وحسنه فالله أعلم.
حديث آخر في صحته نظر في ذكر وهب بن منبه بالمدح، وذكر غيلان بالذم:
روى البيهقي من حديث هشام بن عمار وغيره عن الوليد بن أسلم، عن مروان بن سالم اليرقاني، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: « يكون في أمتي رجل يقال له: وهب يهب الله له الحكمة، ورجل يقال له: غيلان هو أضر على أمتي من إبليس ».
وهذا لا يصح لأن مروان بن سالم هذا متروك.
وبه إلى الوليد حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: « ينعق الشيطان بالشام نعقة يكذب ثلثاهم بالقدر ».
قال البيهقي: وفي هذا وأمثاله إشارة إلى غيلان وما ظهر بالشام بسببه من التكذيب بالقدر حتى قتل.
الإشارة إلى محمد بن كعب القرظي وعلمه بتفسير القرآن وحفظه
قال حرملة: عن ابن وهب، أخبرني أبو صخر عن عبد الله بن مغيث، عن أبي بردة الظفري، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يخرج في أحد الكاهنين رجل قد درس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون من بعده ».
وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن إسماعيل القاضي، ثنا أبو ثابت، ثنا ابن وهب، حدثني عبد الجبار بن عمر عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن قال: قال رسول الله ﷺ: « يكون في أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد غيره ».
قال: فكانوا يرون أنه محمد بن كعب القرظي.
قال أبو ثابت: الكاهنان قريظة والنضير.
وقد روى من وجه آخر مرسل يخرج من الكاهنين رجل أعلم الناس بكتاب الله.
وقد قال عون بن عبد الله: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من محمد بن كعب.
الإخبار بانخرام قرنة صلى الله عليه وسلم بعد مائة سنة من ليلة إخباره
ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن سالم وأبي بكر بن سليمان ابن أبي حيثمة عن عبد الله ابن عمر قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة العشاء ليلة في آخر عمره فلما سلم قام فقال: « أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ».
قال عمر: فوهل الناس من مقالة رسول الله ﷺ إلى ما يحدثون من هذه الأحاديث من مائة سنة، وإنما يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن.
وفي رواية إنما أراد رسول الله ﷺ انخرام قرنه.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بشهر: « يسألون عن الساعة وإنما علمها عند الله فأقسم بالله ما على ظهر الأرض من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة ».
وهذا الحديث وأمثاله مما يحتج به من ذهب من الأئمة إلى أن الخضر ليس بموجود الآن كما قدمنا ذلك في ترجمته في قصص الأنبياء - عليهم السلام - وهو نص على أن جميع الأحياء في الأرض يموتون إلى تمام مائة سنة من إخباره عليه السلام وكذا وقع سواء فما نعلم تأخر أحد من أصحابه إلى ما يجاوز هذه المدة، وكذلك جميع الناس ثم قد طرد بعض العلماء هذا الحكم في كل مائة سنة، وليس في الحديث تعرض لهذا والله أعلم.
حديث آخر:
قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني شريح بن يزيد عن إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، عن أبيه، عن عبد الله بن بسر قال: وضع رسول الله ﷺ يده على رأسي وقال: « هذا الغلام يعيش قرنا ».
قال: فعاش مائة سنة.
وقد رواه البخاري في التاريخ عن أبي حيوة شريح بن يزيد به فذكره، قال: وزاد غيره وكان في وجهه ثالول، فقال: « ولا يموت حتى يذهب الثالول من وجهه ».
فلم يمت حتى ذهب الثالول من وجهه وهذا إسناد على شرط السنن ولم يخرجوه.
ورواه البيهقي عن الحاكم، عن محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، عن الفضل بن محرز الشعراني، ثنا حيوة بن شريح، عن إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، عن أبيه، عن عبد الله بن بسر أن رسول الله ﷺ قال له: « يعيش هذا الغلام قرنا » فعاش مائة سنة.
قال الواقدي وغير واحد: توفي عبد الله بن بسر بحمص سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين، وهو آخر ما بقي من الصحابة بالشام.
الإخبار عن الوليد بن يزيد بما فيه له من الوعيد الشديد
وإن صح فهو الوليد بن يزيد لا الوليد بن عبد الملك.
قال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن خالد بن العباس السكسكي، حدثني الوليد بن مسلم، حدثني أبو عمر الأوزاعي عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب قال: ولد لأخي أم سلمة غلام فسموه الوليد.
فقال رسول الله ﷺ: « قد جعلتم تسمون بأسماء فراعنتكم إنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له: الوليد هو أضر على أمتي من فرعون على قومه ».
قال أبو عمر الأوزاعي: فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حتى خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت على الأمة الفتنة والهرج.
وقد رواه البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن سعيد بن عثمان التنوخي، عن بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد فذكره، ولم يذكر قول الأوزاعي ثم قال: وهذا مرسل حسن.
وقد رواه نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم به، وعنده قال الزهري: إن استخلف الوليد بن يزيد فهو هو وإلا فهو الوليد بن عبد الملك.
وقال نعيم بن حماد: ثنا هشيم عن أبي حمزة، عن الحسن قال: قال رسول الله ﷺ: « سيكون رجل اسمه الوليد يسد به ركن من أركان جهنم وزاوية من زواياها » وهذا مرسل أيضا.
حديث آخر:
قال سليمان بن بلال: عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا وعباد الله خولا ومال الله دولا » رواه البيهقي من حديثه.
وقال نعيم بن حماد: ثنا بقية بن الوليد وعبد القدوس عن أبي بكر ابن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولا ومال الله نحلا وكتاب الله دغلا » وهذا منقطع بين راشد بن سعد وبين أبي ذر.
وقال إسحاق بن راهويه: أنا جرير عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا دين الله دغلا ومال الله دولا وعباد الله خولا ».
ورواه أحمد عن عثمان ابن أبي شيبة، عن جرير به.
وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا بسام - وهو محمد بن غالب - ثنا كامل بن طلحة، ثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل أن ابن وهب أخبره أنه كان عند معاوية ابن أبي سفيان فدخل عليه مروان فكلمه في حاجته فقال: إقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فوالله إن مؤنتي لعظيمة وإني لأبو عشرة وعم عشرة وأخو عشرة، فلما أدبر مروان - وابن عباس جالس مع معاوية على السرير - قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله ﷺ قال: « إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا؟ فإذا بلغوا سبعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك ثمرة؟ »
فقال ابن عباس: اللهم نعم.
قال: وذكر مروان حاجة له، فرد مروان عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك، قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله ﷺ ذكر هذا فقال: « أبو الجبابرة الأربعة؟ ».
فقال ابن عباس: اللهم نعم.
وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة شديدة وابن لهيعة ضعيف.
وقد قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا سعد بن زيد أخو حماد بن زيد عن علي بن الحكم البناني، عن أبي الحسن، عن عمرو بن مرة - وكانت له صحبة - قال: جاء الحكم ابن أبي العاص يستأذن النبي ﷺ فعرف كلامه فقال: « إئذنوا له حية أو ولد حية - عليه لعنة الله - وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هم ليترفون في الدنيا، ويوضعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة، يعطون في الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق » قال الدارمي: أبو الحسن هذا حمصي.
وقال نعيم بن حماد في الفتن والملاحم: ثنا عبد الله بن مروان المرواني عن أبي بكر ابن أبي مريم، عن راشد بن سعد أن مروان بن الحكم لما ولد دفع إلى النبي ﷺ ليدعو له فأبى أن يفعل، ثم قال: « ابن الزرقاء هلاك أمتي على يديه ويدي ذريته » وهذا حديث مرسل.
ذكر الإخبار عن خلفاء بني أمية
قال يعقوب بن سفيان: ثنا أحمد بن محمد أبو محمد الزرقي، ثنا الزنجي - يعني: مسلم بن خالد - عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « رأيت في المنام بني الحكم أو بني أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة ».
قال: فما رآني رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكا حتى توفي.
وقال الثوري: عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله ﷺ بني أمية على منابرهم فساءه ذلك، فأوحي إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت به عينه وهي قوله: { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } [125].
يعني: بلاء للناس، علي بن زيد بن جدعان ضعيف، والحديث مرسل أيضا.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا القاسم بن الفضل - هو الحدائي - ثنا يوسف بن مازن الراسبي قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: يا مسود وجوه المؤمنين.
فقال الحسن: لا تؤنبني - رحمك الله - فإن رسول الله ﷺ رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك، فنزلت: « إنا أعطيناك الكوثر » - يعني: نهرا في الجنة ونزلت: « إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر » يملكه بنو أمية.
قال القاسم: فحسبنا ذلك فإذا هو ألف شهر لا يزيد يوما ولا ينقص يوما.
وقد رواه الترمذي وابن جرير الطبري والحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائل النبوة كلهم من حديث القاسم بن الفضل الحذاء، وقد وثقه يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي عن يوسف بن سعد ويقال: يوسف بن مازن الراسبي.
وفي رواية ابن جرير عيسى بن مازن قال الترمذي: وهو رجل مجهول وهذا الحديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فقوله: إن يوسف هذا مجهول مشكل، والظاهر أنه أراد أنه مجهول الحال فإنه قد روى عنه جماعة: منهم حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد.
وقال يحيى بن معين: وهو مشهور وفي رواية عنه قال: هو ثقة فارتفعت الجهالة عنه مطلقا.
قلت: ولكن في شهوده قصة الحسن ومعاوية نظر وقد يكون أرسلها عمن لا يعتمد عليه والله أعلم.
وقد سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هو حديث منكر وأما قول القاسم بن الفضل رحمه الله: إنه حسب دولة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقصه فهو غريب جدا وفيه نظر وذلك لأنه لا يمكن إدخال دولة عثمان بن عفان رضي الله عنه وكانت اثنتا عشرة سنة في هذه المدة لا من حيث الصورة، ولا من حيث المعنى وذلك أنها ممدوحة لأنه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون وهذا الحديث إنما سيق لذم دولتهم وفي دلالة الحديث على الذم نظر وذلك أنه دل على أن ليلة القدر خير من ألف شهر التي هي دولتهم، وليلة القدر ليلة خيرة عظيمة المقدار والبركة كما وصفها الله تعالى به فما يلزم من تفضيلها على دولتهم ذم دولتهم فليتأمل هذا فإنه دقيق يدل على أن الحديث في صحته نظر لأنه إنما سيق لذم أيامهم والله تعالى أعلم.
وأما إذا أراد أن ابتداء دولتهم منذ ولي معاوية حين تسلمها من الحسن بن علي فقد كان ذلك سنة أربعين، أو إحدى وأربعين، وكان يقال له: عام الجماعة لأن الناس كلهم اجتمعوا على إمام واحد وقد تقدم الحديث في صحيح البخاري عن أبي بكرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول للحسن بن علي: « إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » فكان هذا في هذا العام، ولله الحمد والمنة.
واستمر الأمر في أيدي بني أمية من هذه السنة إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائة حتى انتقل إلى بني العباس كما سنذكره، ومجموع ذلك اثنتان وتسعون سنة، وهذا لا يطابق ألف شهر لأن معدل ألف شهر ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فإن قال: أنا أخرج منها ولاية ابن الزبير وكانت تسع سنين فحينئذ يبقى ثلاث وثمانون سنة، فالجواب أنه وإن خرجت ولاية ابن الزبير فإنه لا يكون ما بقي مطابقا لألف شهر تحديدا بحيث لا ينقص يوما ولا يزيده كما قاله بل يكون ذلك تقريبا هذا وجه الثاني أن ولاية ابن الزبير كانت بالحجاز والأهواز والعراق في بعض أيامه، وفي مصر في قول، ولم تنسلب يد بني أمية من الشام أصلا، ولا زالت دولتهم بالكلية في ذلك الحين الثالث أن هذا يقتضي دخول دولة عمر بن عبد العزيز في حساب بني أمية ومقتضى ما ذكره أن تكون دولته مذمومة، وهذا لا يقوله أحد من أئمة الإسلام وإنهم مصرحون بأنه أحد الخلفاء الراشدين، حتى قرنوا أيامه تابعة لأيام الأربعة وحتى اختلفوا في أيهما أفضل هو أو معاوية ابن أبي سفيان أحد الصحابة.
وقد قال أحمد بن حنبل: لا أرى قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز، فإذا علم هذا فإن أخرج أيامه من حسابه انخرم حسابه، وإن أدخلها فيه مذمومة خالف الأئمة، وهذا ما لا محيد عنه وكل هذا مما يدل على نكارة هذا الحديث والله أعلم.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا سفيان عن العلاء ابن أبي العباس سمع أبا الطفيل سمع عليا يقول: لا يزال هذا الأمر في بني أمية ما لم يختلفوا بينهم.
حدثنا ابن وهب عن حرملة بن عمران، عن سعد بن سالم، عن أبي سالم الجيشاني سمع عليا يقول: الأمر لهم حتى يقتلوا قتيلهم ويتنافسوا بينهم فإذا كان ذلك بعث الله عليهم أقواما من المشرق يقتلوهم بددا ويحصروهم عددا، والله لا يملكون سنة إلا ملكنا سنتين ولا يملكون سنتين إلا ملكنا أربعا.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا الوليد بن مسلم عن حصين بن الوليد، عن الزهري بن الوليد سمعت أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلوما ما لم تزل طاعة يستخف بها ودم مسفوك بغير حق - يعني: الوليد ابن يزيد - ومثل هذه الأشياء إنما تقال عن توقيف.
الإخبار عن دولة بني العباس
وكان ظهورهم من خراسان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قال يعقوب بن سفيان: حدثني محمد بن خالد بن العباس، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني أبو عبد الله عن الوليد بن هشام المعيطي، عن أبان بن الوليد بن عقبة ابن أبي معيط قال: قدم عبد الله بن عباس على معاوية وأنا حاضر فأجازه، فأحسن جائزته ثم قال: يا أبا العباس هل لكم في دولة؟
فقال: إعفني يا أمير المؤمنين.
فقال: لتخبرني.
قال: نعم فأخبره.
قال: فمن أنصاركم؟
قال: أهل خراسان، ولبني أمية من بني هاشم بطحات رواه البيهقي.
وقال ابن عدي: سمعت ابن حماد، أنا محمد بن عبده ابن حرب، ثنا سويد بن سعيد، أنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال: مررت بالنبي ﷺ وإذا معه جبريل - وأنا أظنه دحية الكلبي - فقال جبريل للنبي ﷺ: إنه لوسخ الثياب، وسيلبس ولده من بعده السواد، وذكر تمام الحديث في ذهاب بصره ثم عوده إليه قبل موته.
قال البيهقي: تفرد به حجاج بن تميم وليس بالقوي.
وقال البيهقي: أنا الحاكم، ثنا أبو بكر بن إسحاق وأبو بكر بن بالونة في آخرين قالوا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا يحيى بن معين، ثنا عبيد الله ابن أبي قرة، ثنا الليث بن سعيد، عن أبي فضيل، عن أبي ميسرة مولى العباس قال: سمعت العباس قال: كنت عند النبي ﷺ ذات ليلة فقال: « إنظر هل ترى في السماء من شيء؟ »
قلت: نعم.
قال: « ما ترى؟ »
قلت: الثريا.
قال: « إما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك ».
قال البخاري: عبيد ابن أبي قرة بغدادي سمع الليث لا يتابع على حديثه في قصة العباس.
وروى البيهقي من حديث محمد بن عبد الرحمن العامري - وهو ضعيف - عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال للعباس: « فيكم النبوة وفيكم الملك ».
وقال أبو بكر ابن خيثمة: ثنا يحيى بن معين، ثنا سفيان عن عمرو ابن دينار، عن أبي معبد قال: قال ابن عباس: كما فتح الله بأولنا فأرجو أن يختمه بنا، هذا إسناد جيد وهو موقوف على ابن عباس من كلامه.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثني إبراهيم بن أيوب، ثنا الوليد، ثنا عبد الملك بن حميد عن أبي عتبة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس ونحن نقول: اثنا عشر أميرا واثنا عشر، ثم هي الساعة، فقال ابن عباس: ما أحمقكم إن منا أهل البيت بعد ذلك المنصور، والسفاح، والمهدي يرفعها إلى عيسى بن مريم وهذا أيضا موقوف.
وقد رواه البيهقي من طريق الأعمش عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعا: منا السفاح، والمنصور، المهدي، وهذا إسناد ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس شيئا على الصحيح فهو منقطع والله أعلم.
وقد قال عبد الرزاق: عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة ابن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: « يقتتل عند كيركم هذه ثلاثة كلهم ولد خليفة لا يصير إلى واحد منهم ثم تقبل الرايات السود من خراسان، فيقتلونهم مقتلة لم يروا مثلها ثم يجيء خليفة الله المهدي فإذا سمعتم فأتوه فبايعوه ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله المهدي ».
أخرجه ابن ماجه عن أحمد بن يوسف السلمي ومحمد بن يحيى الذهلي، كلاهما عن عبد الرزاق به.
ورواه البيهقي من طرق عن عبد الرزاق ثم قال: تفرد به عبد الرزاق.
قال البيهقي: ورواه عبد الوهاب بن عطاء عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أسماء موقوفا.
ثم قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن غالب، ثنا كثير بن يحيى، ثنا شريك عن علي بن زيد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا أقبلت الرايات السود من عقب خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج فإن فيها خليفة الله المهدي ».
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الفضل بن سهل، ثنا عبد الله بن داهر الرازي، ثنا أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ ذكر فتية من بني هاشم فاغرورقت عيناه وذكر الرايات، قال: « فمن أدركها فليأتها ولو حبوا على الثلج ».
ثم قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الحكم إلا ابن أبي ليلى، ولا نعلم يروى إلا من حديث داهر بن يحيى - وهو من أهل الرأي صالح الحديث - وإنما يعرف من حديث يزيد ابن أبي زياد عن إبراهيم.
وقال الحافظ أبو يعلى: ثنا أبو هشام بن يزيد بن رفاعة، ثنا أبو بكر ابن عياش، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: قال رسول الله ﷺ: « تجيء رايات سود من قبل المشرق تخوض الخيل الدم إلى أن يظهروا العدل ويطلبون العدل فلا يعطونه، فيظهرون فيطلب منهم العدل فلا يعطونه » وهذا إسناد حسن.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان وقتيبة بن سعيد قالا: ثنا رشد بن سعد، قال يحيى بن غيلان: في حديثه، قال: حدثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب، عن قبيصة - هو ابن ذؤيب الخزاعي - عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: « يخرج من خراسان رايات سود لا يردها شيء حتى تنصب بأيليا ».
وقد رواه الترمذي عن قتيبة به، وقال: غريب.
ورواه البيهقي والحاكم من حديث عبد الله ابن مسعود عن رشدين بن سعد.
وقال البيهقي: تفرد به رشدين بن سعد، وقد روي قريب من هذا عن كعب الأحبار ولعله أشبه والله أعلم.
ثم روى من طريق يعقوب بن سفيان حدثنا محمد عن أبي المغيرة عبد القدوس، عن إسماعيل بن عياش، عمن حدثه، عن كعب الأحبار قال: تظهر رايات سود لبني العباس حتى ينزلوا بالشام ويقتل الله على أيديهم كل جبار وكل عدو لهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا جرير عن الأعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: « يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور زمن الفتن رجل يقال له: السفاح فيكون إعطاؤه المال حثوا ».
ورواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الصمد، عن أبي عوانة، عن الأعمش به، وقال فيه: « يخرج رجل من أهل بيتي يقال له: السفاح » فذكره وهذا الإسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه، فهذه الأخبار في خروج الرايات السود من خراسان وفي ولاية السفاح وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وقد وقعت ولايته في حدود سنة ثلاثين ومائة، ثم ظهر بأعوانه ومعهم الرايات السود وشعارهم السواد.
كما دخل رسول الله ﷺ مكة يوم الفتح وعلى رأسه المعفر وفوقه عمامة سوداء ثم بعث عمه عبد الله لقتال بني أمية فكسرهم في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهرب من المعركة آخر خلفائهم وهو مروان بن محمد بن مروان ويلقب بمروان الحمار، ويقال له: مروان الجعدي لاشتغاله على الجعد بن درهم فيما قيل ودخل عمه دمشق واستحوذ على ما كان لبني أمية من الملك، والأملاك، والأموال، وجرت خطوب كثيرة سنوردها مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى.
وقد ورد عن جماعة من السلف في ذكر الرايات السود التي تخرج من خراسان بما يطول ذكره وقد استقصى ذلك نعيم بن حماد في كتابه، وفي بعض الروايات ما يدل على أنه لم يقع أمرها بعد وأن ذلك يكون في آخر الزمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى تكون الدنيا للكع بن لكع ».
قال أبو معمر: هو أبو مسلم الخراساني - يعني: الذي أقام دولة بني العباس - والمقصود أنه تحولت الدولة من بني أمية إلى بني العباس في هذه السنة وكان أول قائم منهم أبو العباس السفاح، ثم أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور باني مدينة السلام ثم من بعده ابنه المهدي محمد بن عبد الله ثم من بعده ابنه الهادي، ثم ابنه الآخر هارون الرشيد، ثم انتشرت الخلافة في ذريته على ما سنفصله إذا وصلنا إلى تلك الأيام، وقد نطقت هذه الأحاديث التي أوردناها آنفا بالسفاح، والمنصور، والمهدي، ولا شك أن المهدي الذي هو ابن المنصور ثالث خلفاء بني العباس ليس هو المهدي الذي وردت الأحاديث المستفيضة بذكره وأنه يكون في آخر الزمان، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما.
وقد أفردنا للأحاديث الواردة فيه جزءا على حدة كما أفرد له أبو داود كتابا في سننه، وقد تقدم في بعض هذه الأحاديث آنفا، أنه يسلم الخلافة إلى عيسى بن مريم إذا نزل إلى الأرض والله أعلم.
وأما السفاح فقد تقدم أنه يكون في آخر الزمان فيبعد أن يكون هو الذي بويع أول خلفاء بني العباس، فقد يكون خليفة آخر وهذا هو الظاهر فإنه قد روى نعيم بن حماد عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري من قدوم الحميري سمع نفيع بن عامر يقول: يعيش السفاح أربعين سنة اسمه في التوراة طائر السماء.
قلت: وقد تكون صفة للمهدي الذي يظهر في آخر الزمان لكثرة ما يسفح أي يريق من الدماء لإقامة العدل، ونشر القسط، وتكون الرايات السود المذكورة في هذه الأحاديث إن صحت هي التي تكون مع المهدي ويكون أول ظهور بيعته بمكة، ثم تكون أنصاره من خراسان كما وقع قديما للسفاح والله تعالى أعلم.
هذا كله تفريع على صحة هذه الأحاديث، وإلا فلا يخلو سند منها عن كلام والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش
وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي ابن أبي طالب، وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر في زعمهم بسرداب سامرا وليس له وجود ولا عين ولا أثر بل هؤلاء من الأئمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث، الأئمة الأربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - ومنهم: عمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الاثني عشر كما سنذكره بعد إيراد الحديث.
ثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة ومسلم من حديث سفيان بن عيينة كلاهما عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يكون اثنا عشر خليفة » ثم قال كلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما قال؟
قال: قال: « كلهم من قريش ».
وقال أبو نعيم بن حماد في كتاب الفتن والملاحم: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا مجالد عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « يكون بعدي من الخلفاء عدة أصحاب موسى ».
وقد روي مثل هذا عن عبد الله بن عمر وحذيفة، وابن عباس، وكعب الأحبار، من قولهم.
وقال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا مروان بن معاوية عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبيه، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يزال هذا الأمر قائما حتى يكون عليهم اثني عشر خليفة، أو أميرا كلهم يجتمع عليهم الأمة ».
وسمعت كلاما من النبي ﷺ لم أفهمه، فقلت لأبي: ما يقول؟
قال: كلهم من قريش.
وقال أبو داود أيضا: حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير بن معاوية، حدثنا زياد بن خيثمة، حدثنا الأسود بن سعيد الهمداني عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تزال هذه الأمة مستقيما أمرها ظاهرة على عدوها حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ».
قال: فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟
قال: « ثم يكون الهرج ».
قال البيهقي: ففي الرواية الأولى بيان العدد وفي الثانية بيان المراد بالعدد، وفي الثالثة بيان وقوع الهرج وهو القتل بعدهم وقد وجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم وقع الهرج، والفتنة العظيمة كما أخبر في هذه الرواية، ثم ظهر ملك العباسية كما أشار إليه في الباب قبله وإنما يزيدون على العدد المذكور في الخبر إذا تركت الصفة المذكورة فيه، أو عد منهم من كان بعد الهرج المذكور فيه.
وقد قال النبي ﷺ: « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ».
ثم ساقه من حديث عاصم بن محمد عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ فذكره.
وفي صحيح البخاري من طريق الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، عن معاوية ابن أبي سفيان قال: قال رسول الله ﷺ: « إن الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ».
قال البيهقي: أي أقاموا معالمه وإن قصروا هم في أعمال أنفسهم، ثم ساق أحاديث بقية ما ذكره في هذا والله أعلم.
فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الاثني عشر المذكورين في هذا الحديث هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد فإنه مسلك فيه نظر وبيان ذلك أن الخلفاء إلى زمن الوليد بن اليزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة « الخلافة بعدي ثلاثون سنة »
ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع لأن عليا أوصى إليه، وبايعه أهل العراق وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام حتى اصطلح هو ومعاوية كما دل عليه حديث أبي بكرة في صحيح البخاري، ثم معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه وعدوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبة على عدله، وأن أيامه كانت من أعدل الأيام حتى الرافضة يعترفون بذلك.
فإن قال: أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه لزمه على هذا القول أن لا يعد علي ابن أبي طالب، ولا ابنه لأن الناس لم يجتمعوا عليهما وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما، وعد حبيب معاوية، وابنه يزيد، وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير كأن الأمة لم تجتمع على واحد منهما، فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عادا للخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، ثم معاوية، ثم يزيد بن معاوية، ثم عبد الملك، ثم الوليد بن سليمان، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد، ثم هشام، فهؤلاء عشرة، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك فأخذها يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة بل والشيعة، ثم هو خلاف ما دل عليه نصا حديث سفينة عن رسول الله ﷺ أنه قال: « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا ».
وقد ذكر سفينة تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة، وقد بينا دخول خلافة الحسن وكانت نحوا من ستة أشهر فيها أيضا ثم صار الملك إلى معاوية لما سلم الأمر إليه الحسن بن علي، وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيان أن الخلافة قد انقطعت بعد الثلاثين سنة لا مطلقا بل انقطع تتابعها، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك كما دل عليه حديث جابر بن سمرة.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا راشد بن سعد عن ابن لهيعة، عن خالد ابن أبي عمران، عن حذيفة بن اليمان قال: يكون بعد عثمان اثنا عشر ملكا من بني أمية، وقيل له: خلفاء؟
قال: لا بل ملوك.
وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة عن أبي بحر قال: كان أبو الجلد جارا لي فسمعته يقول: يحلف عليه أن هذه الأمة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق منهم رجلان من أهل البيت أحدهما يعيش أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة.
ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الرد وهذا عجيب منه وقد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: أن الله تعالى بشر إبراهيم بإسماعيل وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيما.
قال شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية: وهؤلاء المبشر بهم في حديث جابر بن سمرة وقرر أنهم يكونون مفرقين في الأمة ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا وغلط كثير ممن تشرف بالإسلام من اليهود فظنوا أنهم الذين تدعو إليهم فرقة الرافضة فاتبعوهم.
وقد قال نعيم بن حماد: حدثنا ضمرة عن ابن شوذب، عن أبي المنهال، عن أبي زياد بن كعب قال: إن الله وهب لإسماعيل من صلبه اثني عشر قيما أفضلهم أبو بكر وعمر وعثمان.
وقال نعيم: حدثنا ضمرة عن ابن شوذب، عن يحيى بن عمرو الشيباني قال: ليس من الخلفاء من لم يملك المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
الإخبار عن أمور وقعت في دولة بني العباس
فمن ذلك حدثنا أبو جعفر عبد الله ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس الخليفة بعد أخيه الخليفة السفاح - وهو المنصور الباني لمدينة بغداد في سنة خمس وأربعين ومائة -.
قال نعيم بن حماد في كتابه: عن أبي المغيرة عن أرطأة بن المنذر، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه أتاه رجل وعنده حذيفة فقال: يا ابن عباس قوله: « حمعسق » فأطرق ساعة وأعرض عنه ثم كررها فلم يجبه بشيء.
فقال له حذيفة: أنا أنبئك وقد عرفت لم كررها إنما نزلت في رجل من أهل بيته يقال له: عبد الإله، أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا يجتمع فيهما كل جبار عنيد.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجد الحوطي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عبد الله بن السمط، حدثنا صالح بن علي الهاشمي عن أبيه، عن جده، عن النبي ﷺ قال: « لأن يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب خير من أن يربي ولدا لصلبه ».
قال شيخنا الذهبي: هذا الحديث موضوع واتهم به عبد الله بن السمط هذا.
وقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري في كتابه الفتن والملاحم: حدثنا أبو عمرو البصري عن أبي بيان المعافري عن بديع، عن كعب قال: إذا كانت سنة ستين ومائة انتقص فيها حلم ذوي الأحلام ورأي ذوي الرأي.
حديث آخر فيه إشارة إلى مالك بن أنس الإمام
روى الترمذي من حديث ابن عيينة عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رواية يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة، ثم قال: هذا حديث حسن وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عنه أنه قال: هو مالك بن أنس، وكذا قال عبد الرزاق.
قلت: وقد توفي مالك رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائة.
حديث آخر فيه إشارة إلى محمد بن إدريس الشافعي
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن سليمان عن النضر بن معبد الكندي أو العبدلي، عن الجارود، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما اللهم إنك أذقت أولها وبالا فأذق آخرها نوالا ».
وقد رواه الحاكم من طريق أبي هريرة.
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: وهو الشافعي.
قلت: وقد توفي الشافعي رحمه الله في سنة أربع ومائتين وقد أفردنا ترجمته في مجلد وذكرنا معه تراجم أصحابه من بعده.
حديث آخر:
روى رواد بن الجراح عن سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة مرفوعا: « خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ ».
قالوا: وما خفيف الحاذ يا رسول الله؟
قال: « من لا أهل له ولا مال ولا ولد ».
حديث آخر:
قال ابن ماجه: حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا عون بن عمارة، حدثني عبد الله بن المثنى، ثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك عن أبيه، عن جده أنس بن مالك، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله ﷺ: « الآيات بعد المائتين ».
وحدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا نوح بن قيس، حدثنا عبد الله بن معقل عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن رسول الله ﷺ قال: « أمتي على خمس طبقات فأربعون سنة أهل بر وتقوى، ثم الذين يلونهم إلى عشرين ومائة سنة أهل تراحم وتواصل، ثم الذين يلونهم إلى ستين ومائة أهل تدابر وتقاطع، ثم الهرج الهرج النجاء النجاء »..
وحدثنا نصر بن علي، حدثنا حازم أبو محمد العنزي، حدثنا المسور بن الحسن عن أبي معن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ: « أمتي على خمس طبقات كل طبقة أربعون عاما، فأما طبقتي وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان، وأما الطبقة الثانية ما بين الأربعين إلى الثمانين فأهل بر وتقوى ».
ثم ذكره نحوه هذا لفظه، وهو حديث غريب من هذين الوجهين ولا يخلو عن نكارة والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: ثنا وكيع عن الأعمش، حدثنا هلال بن بيان عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: « خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يتسمنون يحبون السمن يعطون الشهادة قبل أن يسألوها ».
ورواه الترمذي من طريق الأعمش.
وقد رواه البخاري ومسلم من حديث شعبة عن أبي جمرة، عن زهدم بن مضرب سمعت عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: « خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ».
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة « ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن » لفظ البخاري.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أنا سفيان عن منصور، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: « خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته ».
قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.
وقد رواه بقية الجماعة إلا أبا داود من طرق متعددة عن منصور به.
حديث آخر:
قال نعيم بن حماد: حدثنا أبو عمرو البصري عن ابن لهيعة، عن عبد الوهاب بن حسين، عن محمد بن ثابت البناني، عن أبيه، عن الحرث الهمداني، عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ قال: « السابع من ولد العباس يدعو الناس إلى الكفر فلا يجيبونه، فيقول له أهل بيته: تريد أن تخرجنا من معايشنا؟ فيقول: إني أسير فيكم بسيرة أبي بكر وعمر فيأبون عليه فيقتله عدو له من أهل بيته من بني هاشم، فإذا وثب عليه اختلفوا فيما بينهم » فذكر اختلافا طويلا إلى خروج السفياني.
وهذا الحديث ينطبق على عبد الله المأمون الذي دعا الناس إلى القول بخلق القرآن، ووقى الله شرها كما سنورد ذلك في موضعه والسفياني رجل يكون آخر الزمان منسوب إلى أبي سفيان يكون من سلالته، وسيأتي في آخر كتاب الملاحم.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا ليث عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه سمعت أبا ثعلبة الخشني صاحب رسول الله ﷺ أنه سمعه يقول وهو بالفسطاط في خلافة معاوية، وكان معاوية أغزى الناس القسطنطينية فقال: « والله لا تعجز هذه الأمة من نصف يوم إذا رأيت الشام مائدة رجل واحد وأهل بيته » فعند ذلك فتح القسطنطينية.
هكذا رواه أحمد موقوفا على أبي ثعلبة.
وقد أخرجه أبو داود في سننه من حديث ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله ﷺ: « لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم » تفرد به أبو داود.
ثم قال أبو داود: ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان عن سريج بن عبيد، عن سعد ابن أبي وقاص، عن النبي ﷺ أنه قال: « إني لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم ».
قيل لسعد: وكم نصف يوم؟
قال: خمسمائة سنة.
تفرد به أبو داود وإسناده جيد، وهذا من دلائل النبوة، فإن هذا يقتضي وقوع تأخير الأمة نصف يوم وهو خمسمائة سنة كما فسره الصحابي وهو مأخوذ من قوله تعالى: « وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ».
ثم هذا الإخبار بوقوع هذه المدة لا ينفي وقوع ما زاد عليها، فأما ما يذكره كثير من الناس من أنه عليه السلام لا يؤلف في قبره بمعنى: لا يمضي عليه ألف سنة من يوم مات إلى حين تقام الساعة، فإنه حديث لا أصل له في شيء من كتب الإسلام والله أعلم.
حديث آخر:
فيه الإخبار عن ظهور النار التي كانت بأرض الحجاز حتى أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، وقد وقع هذا في سنة أربع وخمسين وستمائة.
قال البخاري في صحيحه: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن الزهري قال: قال سعيد بن المسيب: أخبرني أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى » تفرد به البخاري.
وقد ذكر أهل التاريخ وغيرهم من الناس وتواتر وقوع هذا في سنة أربع وخمسين وستمائة
قال الشيخ الإمام الحافظ شيخ الحديث وإمام المؤرخين في زمانه شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الملقب بأبي شامة في تاريخه: إنها ظهرت يوم الجمعة في خامس جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وأنها استمرت شهرا وأزيد منه وذكر كتبا متواترة عن أهل المدينة في كيفية ظهورها شرق المدينة من ناحية وادي شظا تلقاء أحد، وأنها ملأت تلك الأودية وأنه يخرج منها شرر يأكل الحجاز، وذكر أن المدينة زلزلت بسببها وأنهم سمعوا أصواتا مزعجة قبل ظهورها بخمسة أيام، أول ذلك مستهل الشهر يوم الإثنين فلم تزل ليلا ونهارا حتى ظهرت يوم الجمعة، فانبجست تلك الأرض عند وادي شظا عن نار عظيمة جدا صارت مثل طوله أربعة فراسخ في عرض أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، يسيل الصخر حتى يبقى مثل الآنك، ثم يصير كالفحم الأسود، وذكر أن ضوءها يمتد إلى تيماء بحيث كتب الناس على ضوئها في الليل وكأن في بيت كل منهم مصباحا ورأى الناس سناها من مكة - شرفها الله -.
قلت: وأما بصرى فأخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي ابن أبي قاسم التيمي الحنفي قال: أخبرني والدي - وهو الشيخ صفي الدين أحد مدرسي بصرى - أنه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة تلك الليلة من كان بحاضرة بلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز، وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أن أهل المدينة لجأوا في هذه الأيام إلى المسجد النبوي وتابوا إلى الله من ذنوب كانوا عليها، واستغفروا عند قبر النبي ﷺ مما سلف منهم وأعتقوا الغلمان وتصدقوا على فقرائهم ومجاريحهم، وقد قال قائلهم في ذلك:
يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا * فقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها * حملا ونحن بها حقا أحقاء
زلازل تخشع الصم الصلاد لها * وكيف تقوى على الزلزال صماء
أقام سبعا يرج الأرض فانصدعت * عن منظر منه عين الشمس عشواء
بحر من النار تجري فوقه سفن * من الهضاب لها في الأرض إرساء
يرى لها شرر كالقصر طائشه * كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت * رعبا وترعد مثل الشهب أضواء
منها تكاثف في الجو الدخان إلى * أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سعفة في البدر لفحتها * فليلة التم بعد النور ليلاء
فيالها آية من معجزات رسو * ل الله يعقلها القوم الألباء
ومما قيل من هذه النار مع غرق بغداد في هذه السنة:
سبحان من أصبحت مشيئته * جارية في الورى بمقدار
أغرق بغداد بالمياه كما * أحرق أرض الحجاز بالنار
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، ثنا أفلح بن سعيد الأنصاري - شيخ من أهل قبا من الأنصار - حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن طالت بكم مدة أوشك أن تروا قوما يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر ».
ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن زيد بن الخباب، عن أفلح ابن سعيد به.
وروى مسلم أيضا عن زهير بن حرب، عن جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ».
وهذان الصنفان وهما الجلادون الذين يسمون بالرجالة والجاندارية كثيرون في زماننا هذا ومن قبله، وقبل قبله بدهر، والنساء الكاسيات العاريات أي عليهن لبس لا يواري سوآتهن، بل هو زيادة في العورة وإبداء للزينة، مائلات في مشيهن، مميلات غيرهن إليهن وقد عم البلاء بهن في زماننا هذا ومن قبله أيضا.
وهذا من أكبر دلالات النبوة إذ وقع الأمر في الخارج طبق ما أخبر به عليه السلام.
وقد تقدم حديث جابر: « أما إنها ستكون لكم أنماط » وذكر تمام الحديث في وقوع ذلك واحتجاج امرأته عليه بهذا.
حديث آخر:
روى الإمام أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن داود ابن أبي هند.
وأخرجه البيهقي من حديثه عن أبي حرب ابن أبي الأسود الدؤلي، عن طلحة بن عمرو البصري أنه قدم المدينة على رسول الله ﷺ فبينما هو يصلي إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله أحرق بطوننا التمر وتحرقت عنا الحيف.
قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « لقد رأيتني وصاحبي وما لنا طعام غير البرير حتى أتينا إخواننا من الأنصار فآسونا من طعامهم، وكان طعامهم التمر والذي لا إله إلا هو لو قدرت لكم على الخبز والتمر لأطعمتكموه، وسيأتي عليكم زمان أو من أدركه منكم يلبسون مثل أستار الكعبة، ويغدى ويراح عليكم بالجفان ».
قالوا: يا رسول الله أنحن يومئذ خير أم اليوم؟
قال: « بل أنتم اليوم خير، أنتم اليوم إخوان وأنتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض ».
وقد روى سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد، عن أبي موسى بحلس قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا مشت أمتي المطيطا وخدمتهم فارس والروم سلط الله بعضهم على بعض ».
وقد أسنده البيهقي من طريق موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - ﷺ-.
حديث آخر:
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، ثنا ابن وهب، ثنا سعيد ابن أبي أيوب عن شراحيل بن زيد المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة فيما أعلم، عن رسول الله ﷺ: « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ».
قال أبو داود: عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يحدثه شراحيل تفرد به أبو داود.
وقد ذكر كل طائفة من العلماء في رأس كل مائة سنة عالما من علمائهم ينزلون هذا الحديث عليه.
وقال طائفة من العلماء: هل الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف، كما جاء في الحديث من طرق مرسلة وغير مرسلة يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا هذا، ونحن في القرن الثامن والله المسؤول أن يختم لنا بخير، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن ورثة جنة النعيم آمين آمين يا رب العالمين.
وسيأتي الحديث المخرج من الصحيح « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ».
وفي صحيح البخاري « وهم بالشام » وقد قال كثير من علماء السلف: أنهم أهل الحديث.
وهذا أيضا من دلائل النبوة فإن أهل الحديث بالشام أكثر من سائر أقاليم الإسلام ولله الحمد، ولا سيما بمدينة دمشق - حماها الله وصانها -.
كما ورد في الحديث الذي سنذكره أنه تكون معقل المسلمين عند وقوع الفتن.
وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان أن رسول الله ﷺ أخبر عن عيسى بن مريم أنه ينزل من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق ولعل أصل لفظ الحديث على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، وقد بلغني أنه كذلك في بعض الأجزاء ولم أقف عليه إلى الآن والله الميسر.
وقد جددت هذه المنارة البيضاء الشرقية بجامع دمشق بعد ما أحرقها النصارى من أيامنا هذه بعد سنة أربعين وسبعمائة فأقاموها من أموال النصارى مقاصة على ما فعلوا من العدوان، وفي هذا حكمة عظيمة وهو أن ينزل على هذه المبنية من أموالهم عيسى بن مريم نبي الله فيكذبهم فيما افتروه عليه من الكذب عليه وعلى الله ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية أي يتركها ولا يقبل من أحد منهم ولا من غيرهم إلا الإسلام - يعني: أو يقتله -.
وقد أخبر بهذا عنه رسول الله ﷺ وقرره عليه وسوغه له - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان.
باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم
مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله وأعلى منها خارجة عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لأحد قبله منهم - عليهم السلام -.
فمن ذلك القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فإنه معجزة مستمرة على الآباد ولا يخفى برهانها ولا يتفحص مثلها، وقد تحدى به الثقلين من الجن والأنس على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك كما تقدم تقرير ذلك في أول كتاب المعجزات.
وقد سبق الحديث المتفق على إخراجه في الصحيحين من حديث الليث بن سعد بن سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: « ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ».
والمعنى: أن كل نبي أوتي من خوارق المعجزات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولي البصائر والنهى لا من أهل العناد والشقاء، وإنما كان الذي أوتيته أي جله وأعظمه وأبهره القرآن الذي أوحاه الله إلي فإنه لا يبيد ولا يذهب كما ذهبت معجزات الأنبياء وانقضت بانقضاء أيامهم، فلا تشاهد بل يخبر عنها بالتواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فإنه معجزة متواترة عنه مستمرة دائمة البقاء بعده مسموعة لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
وقد تقدم في الخصائص ذكر ما اختص به رسول الله ﷺ عن بقية إخوانه من الأنبياء - عليهم السلام - كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ».
وقد تكلمنا على ذلك وما شاكله فيما سلف بما أغنى عن إعادته ولله الحمد.
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن كل معجزة لنبي من الأنبياء فهي معجزة لخاتمهم محمد ﷺ وذلك أن كلا منهم بشر بمبعثه وأمر بمتابعته.
كما قال تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } [126].
وقد ذكر البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه العهد والميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به، وليتبعنه ولينصرنه، وذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الأولياء معجزات للأنبياء لأن الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه والمقصود أنه كان الباعث لي على عقد هذا الباب أني وقفت على مولد اختصره من سيرة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيرهما شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام كمال الدين أبو المعالي محمد بن علي الأنصاري السماكي، نسبة إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بن حرب بن حرشة الأوسي رضي الله عنه شيخ الشافعية في زمانه بلا مدافعة، المعروف بابن الزملكاني - عليه رحمة الله - وقد ذكر في أواخره شيئا من فضائل رسول الله ﷺ وعقد فصلا في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة، ونبه على فوائد جمة، وفوائد مهمة، وترك أشياء أخرى حسنة ذكرها غيره من الأئمة المتقدمين، ولم أره استوعب الكلام إلى آخره، فأما أنه قد سقط من خطه أو أنه لم يكمل تصنيفه، فسألني بعض أهله من أصحابنا ممن تتأكد إجابته وتكرر ذلك منه في تكميله وتبويبه وترتيبه وتهذيبه والزيادة عليه، والإضافة إليه، فاستخرت الله حينا من الدهر ثم نشطت لذلك ابتغاء الثواب والأجر، وقد كنت سمعت من شيخنا الإمام العلامة الحافظ أبي الحجاج المزي - تغمده الله برحمته - أن أول من تكلم في هذا المقام الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه.
وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه دلائل النبوة عن شيخه الحاكم أبي عبد الله أخبرني أبو أحمد ابن أبي الحسن، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي عن أبيه، قال عمر بن سوار: قال الشافعي: مثل ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ﷺ.
فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى.
فقال: أعطى محمدا ﷺ الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين بني له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك، هذا لفظه رضي الله عنه والمراد من إيراد ما نذكره في هذا الباب البينة على ما أعطى الله أنبياءه - عليهم السلام - من الآيات البينات، والخوارق القاطعات، والحجج الواضحات، وأن الله جمع لعبده ورسوله سيد الأنبياء وخاتمهم من جميع أنواع المحاسن والآيات، مع ما اختصه الله به مما لم يؤت أحدا قبله كما ذكرنا في خصائصه وشمائله ﷺ.
ووقفت على فصل مليح في هذا المعنى في كتاب دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني وهو كتاب حافل في ثلاث مجلدات، عقد فيه فصلا في هذا المعنى.
وكذا ذكر ذلك الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه دلائل النبوة وهو كتاب كبير جليل حافل مشتمل على فرائد نفيسة.
وكذا الصرصري الشاعر يورد في بعض قصائده أشياء من ذلك كما سيأتي، وها أنا أذكر بعون الله مجامع ما ذكرنا من هذه الأماكن المتفرقة بأوجز عبارة، وأقصر إشارة وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
القول فيما أوتي نوح عليه السلام
قال الله تعالى: { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر } [127].
وقد ذكرت القصة مبسوطة في أول هذا الكتاب وكيف دعا على قومه فنجاه الله ومن اتبعه من المؤمنين فلم يهلك منهم أحد، وأغرق من خالفه من الكافرين فلم يسلم منهم أحد، حتى ولا ولده.
قال شيخنا العلامة أبو المعالي محمد بن علي الأنصاري الزملكاني ومن خطه نقلت: وبيان أن كل معجزة لنبي فلنبينا أمثالها إذا تم يستدعي كلاما طويلا وتفصيلا لا يسعه مجلدات عديدة، ولكن ننبه بالبعض على البعض، فلنذكر جلائل معجزات الأنبياء - عليهم السلام -.
فمنها نجاة نوح في السفينة بالمؤمنين ولا شك أن حمل الماء للناس من غير سفينة أعظم من السلوك عليه في السفينة، وقد مشى كثير من الأولياء على متن الماء، وفي قصة العلاء بن زياد صاحب رسول الله ﷺ ما يدل على ذلك.
روى منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له، فنزلنا منزلا فطلب الماء فلم يجده، فقام وصلى ركعتين وقال: اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك اللهم اسقنا غيثا نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لأحد فيه نصيب غيرنا، فسرنا قليلا فإذا نحن بماء حين أقلعت السماء عنه، فتوضأنا منه، وتزودنا وملأت إداوتي وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا، فسرنا قليلا ثم قلت لأصحابي: نسيت إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنه لم يصبه ماء قط، ثم سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم.
فقال: يا علي يا حكيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لبودنا ومشينا على متن الماء ولم يبتل لنا شيء، وذكر بقية القصة.
فهذا أبلغ من ركوب السفينة فإن حمل الماء للسفينة معتاد، وأبلغ من فلق البحر لموسى فإن هناك انحسر الماء حتى مشوا على الأرض فالمعجز انحسار الماء، وها هنا صار الماء جسدا يمشون عليه كالأرض وإنما هذا منسوب إلى النبي ﷺ وبركته، انتهى ما ذكره بحروفه فيما يتعلق بنوح عليه السلام.
وهذه القصة التي ساقها شيخنا ذكرها الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الدلائل من طريق أبي بكر ابن أبي الدنيا عن أبي كريب، عن محمد بن فضيل، عن الصلت بن مطر العجلي، عن عبد الملك ابن أخت سهم، عن سهم بن منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي فذكره.
وقد ذكرها البخاري في التاريخ الكبير من وجه آخر.
ورواها البيهقي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان مع العلاء وشاهد ذلك.
وساقها البيهقي من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله، عن عون، عن أنس بن مالك قال: أدركت في هذه الأمة ثلاثا لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم.
قلنا: ما هن يا أبا حمزة؟
قال: كنا في الصفة عند رسول الله ﷺ فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياما ثم قبض فغمضه النبي - ﷺ - وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله قال: « يا أنس إئت أمه فأعلمها ».
فأعلمتها، قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا وخلعت الأوثان، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله.
قال: فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله ﷺ وحتى هلكت أمه.
قال أنس: ثم جهز عمر بن الخطاب جيشا واستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي.
قال أنس: وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحر شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة.
فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مد يده إلى السماء وما نرى في السماء شيئا قال: فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحا، وأنشأ سحابا، وأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا.
قال: ثم أتينا عدونا وقد جاوز خليجا في البحر إلى جزيرة.
فوقف على الخليج وقال: يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ثم قال: أجيزوا بسم الله.
قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيرا فأصبنا العدو عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا.
ثم ذكر موت العلاء ودفنهم إياه في أرض لا تقبل الموتى، ثم إنهم حفروا عليه لينقلوه منها إلى غيرها فلم يجدوه، ثم وإذا اللحد يتلألأ نورا فأعادوا التراب عليه ثم ارتحلوا.
فهذا السياق أتم وفيه قصة المرأة التي أحيى الله لها ولدها بدعائها، وسننبه على ذلك فيما يتعلق بمعجزات المسيح عيسى بن مريم مع ما يشابهها إن شاء الله تعالى.
كما سنشير إلى قصة العلاء هذه مع ما سنورده معها ههنا فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام في قصة فلق البحر لبني إسرائيل وقد أرشد إلى ذلك شيخنا في عيون كلامه.
قصة أخرى تشبه قصة العلاء بن الحضرمي:
روى البيهقي في الدلائل وقد تقدم ذلك أيضا من طريق سليمان بن مروان الأعمش عن بعض أصحابه قال: انتهينا إلى دجلة وهي مادة والأعاجم خلفها.
فقال رجل من المسلمين: بسم الله ثم اقتحم بفرسه فارتفع على الماء.
فقال الناس: بسم الله ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فنظر إليهم الأعاجم وقالوا: ديوان، ديوان - أي مجانين - ثم ذهبوا على وجوههم.
قال: فما فقد الناس إلا قدحا كان معلقا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم واقتسموا، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء ببيضاء؟
وقد ذكرنا في السيرة العمرية وأيامها وفي التفسير أيضا أن أول من اقتحم دجلة يومئذ أبو عبيدة النفيعي أمير الجيوش في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأنه نظر إلى دجلة فتلا قوله تعالى: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } [128].
ثم سمى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه، ولما نظر إليهم الأعاجم يفعلون ذلك جعلوا يقولون: ديوان، ديوان - أي مجانين، مجانين - ثم ولوا مدبرين فقتلهم المسلمون وغنموا منهم مغانم كثيرة.
قصة أخرى شبيهة بذلك:
وروى البيهقي من طريق أبي النضر عن سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمي الخشب من مدها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعو الله تعالى؟
ثم قال: هذا إسناد صحيح.
قلت: وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في ترجمة أبي عبد الله بن أيوب الخولاني هذه القصة بأبسط من هذه من طريق بقية ابن الوليد حدثني محمد بن زياد عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر، قال: أجيزوا بسم الله.
قال: ويمر بين أيديهم فيمرون على الماء فما يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، أو في بعض ذلك أو قريبا من ذلك.
قال: وإذا جازوا قال للناس: هل ذهب لكم شيء؟ من ذهب له شيء فأنا ضامن.
قال: فألقى مخلاة عمدا فلما جاوزوا، قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر.
قال له: إتبعني، فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النهر.
قال: خذها.
وقد رواه أبو داود من طريق الأعرابي عنه عن عمرو بن عثمان، عن بقية به، ثم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد أن أبا مسلم الخولاني أتى على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها فوقف عليها ثم حمد الله وأثنى عليه، وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثم لهز دابته فخاضت الماء وتبعه الناس حتى قطعوا.
ثم قال: هل فقدتم شيئا من متاعكم فأدعو الله أن يرده علي؟
وقد رواه ابن عساكر من طريق أخرى عن عبد الكريم بن رشيد، عن حميد بن هلال العدوي، حدثني ابن عمي أخي أبي قال: خرجت مع أبي مسلم في جيش فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لأهل القرية: أين المخاضة؟
فقالوا: ما كانت هاهنا مخاضة ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين.
فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبيدك وفي سبيلك فأجزنا هذا النهر اليوم، ثم قال: اعبروا بسم الله.
قال ابن عمي: وأنا على فرس فقلت: لأدفعنه أول الناس خلف فرسه قال: فوالله ما بلغ الماء بطون الخيل حتى عبر الناس كلهم.
ثم وقف وقال: يا معشر المسلمين هل ذهب لأحد منكم شيء فأدعو الله تعالى يرده؟
فهذه الكرامات لهؤلاء الأولياء هي معجزات لرسول الله - ﷺ - كما تقدم تقريره لأنهم إنما نالوها ببركة متابعته ويمن سفارته، إذ فيها حجة في الدين أكيدة للمسلمين، وهي مشابهة نوح - عليه السلام - في مسيره فوق الماء بالسفينة التي أمره الله تعالى بعملها، ومعجزة موسى - عليه السلام - في فلق البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك من جهة مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنه ماء جار والسير عليه أعجب من السير على الماء القار الذي يجاز، وإن كان ماء الطوفان أطم وأعظم فهذه خارق والخارق لا فرق بين قليله وكثيره، فإن من سلك على وجه الماء الخضم الجاري العجاج فلم يبتل منه نعال خيولهم أو لم يصل إلى بطونها فلا فرق في الخارق بين أن يكون قامة أو ألف قامة، أو أن يكون نهرا أو بحرا، بل كونه نهرا عجاجا كالبرق الخاطف، والسيل الجاري أعظم وأغرب وكذلك بالنسبة إلى فلق البحر وهو جانب بحر القلزم حتى صار كل فرق كالطود العظيم أي الجبل الكبير، فانحاز الماء يمينا وشمالا حتى بدت أرض البحر وأرسل الله عليها الريح حتى أيبسها ومشت الخيول عليها بلا انزعاج حتى جاوزوا عن آخرهم، وأقبل فرعون بجنوده { فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى } [129].
وذلك أنهم لما توسطوه وهموا بالخروج منه أمر الله البحر فارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم فلم يفلت منهم أحد كما لم يفقد من بني إسرائيل واحد، ففي ذلك آية عظيمة بل آيات معدودات كما بسطنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.
والمقصود أن ما ذكرناه من قصة العلاء بن الحضرمي، وأبي عبد الله الثقفي، وأبي مسلم الخولاني من مسيرهم على تيار الماء الجاري فلم يفقد منهم أحد، ولم يفقدوا شيئا من أمتعتهم.
هذا وهم أولياء منهم صحابي، وتابعيان، فما الظن لو كان الاحتياج إلى ذلك بحضرة رسول الله ﷺ سيد الأنبياء وخاتمهم، وأعلاهم منزلة ليلة الإسراء، وإمامهم ليلتئذ ببيت المقدس الذي هو محل ولايتهم، ودار بدايتهم، وخطيبهم يوم القيامة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وأول شافع في الحشر وفي الخروج من النار، وفي دخوله الجنة وفي رفع الدرجات بها.
كما بسطنا أقسام الشفاعة وأنواعها في آخر الكتاب في أهوال يوم القيامة، وبالله المستعان.
وسنذكر في المعجزات الموسوية ما ورد من المعجزات المحمدية مما هو أظهر وأبهر منها ونحن الآن فيما يتعلق بمعجزات نوح عليه السلام ولم يذكر شيخنا سوى ما تقدم.
وأما الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني فإنه قال في آخر كتابه دلائل النبوة وهو في مجلدات ثلاث: الفصل الثالث والثلاثون في ذكر موازنة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي، إذ أوتي ما أوتوا وشبهه ونظيره فكان أول الرسل نوح عليه السلام وآيته التي أوتي شفاء غيظه، وإجابة دعوته في تعجيل نقمة الله لمكذبيه حتى هلك من على بسيط الأرض من صامت وناطق إلا من آمن به ودخل معه في سفينته، ولعمري إنها آية جليلة وافقت سابق قدر الله وما قد علمه في هلاكهم.
وكذلك نبينا ﷺ لما كذبه قومه وبالغوا في أذيته والاستهانة بمنزلته من الله عز وجل حتى ألقى السفيه عقبة ابن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو ساجد فقال: « اللهم عليك بالملأ من قريش ».
ثم ساق الحديث عن ابن مسعود كما تقدم، كما ذكرنا له في صحيح البخاري وغيره في وضع الملأ من قريش على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد عند الكعبة سلا تلك الجزور واستضحاكهم من ذلك حتى أن بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك ولم يزل على ظهره حتى جاءت ابنته فاطمة - عليها السلام - فطرحته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما سلم رسول الله ﷺ من صلاته، رفع يديه فقال: « اللهم عليك بالملأ من قريش ».
ثم سمى فقال: « اللهم عليك بأبي جهل، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة ابن أبي معيط، وعمارة بن الوليد ».
قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثه بالحق لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر.
وكذلك لما أقبلت قريش يوم بدر في عددها وعديدها فحين عاينهم رسول الله ﷺ قال رافعا يديه: « اللهم هذه قريش جاءتك بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم أصبهم الغداة ».
فقتل من سراتهم سبعون، وأسر من أشرافهم سبعون، ولو شاء لاستأصلهم عن آخرهم، ولكن من حلم وشرف نبيه أبقى منهم من سبق في قدره أن سيؤمن به وبرسول الله ﷺ.
وقد دعا على عتبة ابن أبي لهب أن يسلط عليه كلبه بالشام فقتله الأسد عند وادي الزرقاء قبل مدينة بصرى، وكم له من مثلها ونظيرها كسبع يوسف فقحطوا حتى أكلوا العكبر وهو الدم بالوتر، وأكلوا العظام وكل شيء، ثم توصلوا إلى تراحمه وشفقته ورأفته، فدعا لهم ففرج الله عنهم وسقوا الغيث ببركة دعائه.
وقال الإمام الفقيه أبو محمد بن عبد الله بن حامد في كتاب دلائل النبوة - وهو كتاب حافل -: ذكر ما أوتي نوح عليه السلام من الفضائل، وبيان ما أوتي محمد ﷺ مما يضاهي فضائله ويزيد عليها، إن قوم نوح لما بلغوا من أذيته والاستخفاف به وترك الإيمان بما جاءهم به من عند الله.
دعا عليهم فقال: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [130].
فاستجاب الله دعوته وغرق قومه حتى لم يسلم شيء من الحيوانات والدواب إلا من ركب السفينة وكان ذلك فضيلة أوتيها إذ أجيبت دعوته وشفي صدره بإهلاك قومه.
قلنا: وقد أوتي محمد ﷺ مثله حين ناله من قريش ما ناله من التكذيب والاستخفاف، فأنزل الله إليه ملك الجبال وأمره بطاعته فيما أمره به من إهلاك قومه فاختار الصبر على أذيتهم والابتهال في الدعاء لهم بالهداية.
قلت: وهذا أحسن.
وقد تقدم الحديث بذلك عن عائشة، عن رسول الله ﷺ في قصة ذهابه إلى الطائف فدعاهم فآذوه فرجع وهو مهموم، فلما كان عند قرن الثعالب، ناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد أرسلني إليك لأفعل ما تأمرني به فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين - يعني: جبلي مكة اللذين يكتنفانها جنوبا وشمالا، أبو قبيس، وزر -.
فقال: « بل استأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك بالله شيئا ».
وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في مقابلة قوله تعالى: « فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ».
أحاديث الاستسقاء عن أنس وغيره، كما تقدم ذكرنا لذلك في دلائل النبوة قريبا أنه ﷺ سأله ذلك الأعرابي أن يدعو الله لهم لما بهم من الجدب والجوع فرفع يديه فقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا »
فما نزل عن المنبر حتى رؤي المطر يتحادر على لحيته الكريمة ﷺ فاستحضر من استحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - قول عمه أبي طالب فيه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
وكذلك استسقى في غير ما موضع للجدب والعطش فيجاب كما يريد على قدر الحاجة المائية، ولا أزيد ولا أنقص وهكذا وقع أبلغ في المعجزة وأيضا فإن هذا ماء رحمة ونعمة، وماء الطوفان ماء غضب ونقمة.
وأيضا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستسقي بالعباس عم النبي ﷺ فيسقون.
وكذلك ما زال المسلمون في غالب الأزمان والبلدان يستسقون فيجابون فيسقون، وغيرهم لا يجابون غالبا ولا يسقون ولله الحمد.
قال أبو نعيم: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فبلغ جميع من آمن رجالا ونساء الذين ركبوا معه سفينته دون مائة نفس، وآمن بنبينا في مدة عشرين سنة الناس شرقا وغربا ودانت له جبابرة الأرض وملوكها، وخافت زوال ملكهم ككسرى وقيصر وأسلم النجاشي والأقيال رغبة في دين الله، والتزم من لم يؤمن به من عظماء الأرض الجزية والأيادة عن صغار أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأنذر دومة، فذلوا له منقادين لما أيده الله به من الرعب الذي يسير بين يديه شهرا، وفتح الفتوح ودخل الناس في دين الله أفواجا.
كما قال الله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } [131].
قلت: مات رسول الله ﷺ وقد فتح الله له المدينة، وخيبر، ومكة، وأكثر اليمن، وحضرموت وتوفي عن مائة ألف صحابي أو يزيدون، وقد كتب في آخر حياته الكريمة إلى سائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الله تعالى فمنهم من أجاب، ومنهم من صانع ودارى عن نفسه، ومنهم من تكبر فخاب وخسر، كما فعل كسرى بن هرمز حين عتى وبغى وتكبر فمزق ملكه، وتفرق جنده شذر مذر، ثم فتح خلفاؤه من بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي التالي على الأثر مشارق الأرض ومغاربها من البحر الغربي إلى البحر الشرقي.
كما قال رسول الله ﷺ: « زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ».
وقال ﷺ: « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وكذا وقع سواء بسواء فقد استولت الممالك الإسلامية على ملك قيصر وحواصله إلا القسطنطينية، وجميع ممالك كسرى، وبلاد المشرق، وإلى أقصى بلاد المغرب إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين، فكما عمت جميع أهل الأرض النقمة بدعوة نوح عليه السلام لما رآهم عليه من التمادي في الضلال والكفر والفجور، فدعا عليهم غضبا لله ولدينه ورسالته، فاستجاب الله له وغضب لغضبه وانتقم منهم بسببه.
كذلك عمت جميع أهل الأرض ببركة رسالة محمد ﷺ ودعوته، فآمن من آمن من الناس وقامت الحجة على من كفر منهم.
كما قال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [132].
وكما قال ﷺ: « إنما أنا رحمة مهداة ».
وقال هشام بن عمار في كتاب البعث: حدثني عيسى بن عبد الله النعماني، حدثنا المسعودي عن سعيد ابن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ».
قال: من آمن بالله ورسله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسله عد فيمن يستحق تعجيل ما كان يصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والقذف والخسف.
وقال تعالى: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } [133].
قال ابن عباس: النعمة محمد، والذين بدلوا نعمة الله كفرا كفار قريش - يعني: وكذلك كل من كذب به من سائر الناس.
كما قال: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } [134].
قال أبو نعيم: فإن قيل فقد سمى الله نوحا عليه السلام باسم من أسمائه الحسنى، فقال: { إنه كان عبدا شكورا } [135].
قلنا: وقد سمى الله محمدا ﷺ باسمين من أسمائه فقال: « بالمؤمنين رءوف رحيم ».
قال: وقد خاطب الله الأنبياء بأسمائهم يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا يحيى، يا عيسى، يا مريم.
وقال مخاطبا لمحمد ﷺ: « يا أيها الرسول » « يا أيها النبي » « يا أيها المزمل » « يا أيها المدثر ».
وذلك قائم مقام الكنية بصفة الشرف، ولما نسب المشركون أنبياءهم إلى السفه والجنون كل أجاب عن نفسه، قال نوح: { ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين } [136].
وكذا قال هود عليه السلام.
ولما قال فرعون: { إني لأظنك ياموسى مسحورا } [137].
قال موسى: { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا } [138].
وأما محمد ﷺ فإن الله تعالى هو الذي يتولى جوابهم عنه بنفسه الكريمة.
كما قال: { وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين } [139].
قال الله تعالى: { ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين } [140].
وقال تعالى: { أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } [141].
{ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } [142].
وقال تعالى: { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } [143].
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون } [144].
قال الله تعالى: { وما هو إلا ذكر للعالمين } [145].
وقال تعالى: { والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم } [146].
وقال تعالى: { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } [147].
القول فيما أوتي هود عليه السلام
قال أبو نعيم ما معناه: إن الله تعالى أهلك قومه بالريح العقيم وقد كانت ريح غضب ونصر الله تعالى محمدا ﷺ بالصبا يوم الأحزاب.
كما قال تعالى: { ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } [148].
ثم قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا محمد بن إسحق بن خزيمة.
ح، وحدثنا عثمان بن محمد العثماني، أنا زكريا بن يحي الساجي قالا: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن عتاب عن داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان يوم الأحزاب انطلقت الجنوب إلى الشمال فقالت: انطلقي بنا ننصر محمدا رسول الله ﷺ.
فقالت الشمال للجنوب: إن الحرة لا ترى بالليل، فأرسل الله عليهم الصبا.
فذلك قوله: { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } [149].
ويشهد له الحديث المتقدم عن رسول الله ﷺ أنه قال: « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ».
القول فيما أوتي صالح عليه السلام
قال أبو نعيم: فإن قيل فقد أخرج الله لصالح ناقة من الصخرة جعلها الله له آية وحجة على قومه، وجعل لها شرب يوم ولهم شرب يوم معلوم.
قلنا: وقد أعطى الله محمدا ﷺ مثل ذلك بل أبلغ، لأن ناقة صالح لم تكلمه، ولم تشهد له بالنبوة والرسالة، ومحمد ﷺ شهد له البعير بالرسالة، وشكى إليه ما يلقى من أهله من أنهم يجيعونه ويريدون ذبحه، ثم ساق الحديث بذلك كما قدمنا في دلائل النبوة بطرقه وألفاظه وغرره بما أغنى عن إعادته هاهنا وهو في الصحاح والحسان، والمسانيد، وقد ذكرنا مع ذلك حديث الغزالة، وحديث الضـب وشهادتهما له ﷺ بالرسالة كما تقدم التنبيه على ذلك والكلام فيه.
وثبت الحديث في الصحيح بتسليم الحجر عليه قبل أن يبعث، وكذلك سلام الأشجار، والأحجار، والمدر عليه قبل أن يبعث ﷺ.
القول فيما أوتي إبراهيم الخليل عليه السلام
قال شيخنا العلامة أبو المعالي ابن الزملكاني رحمه الله: وأما خمود النار لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد خمدت لنبينا ﷺ نار فارس لمولده ﷺ وبينه وبين بعثته أربعون سنة، وخمدت نار إبراهيم لمباشرته لها، وخمدت نار فارس لنبينا ﷺ وبينه وبينها مسافة أشهر كذا.
وهذا الذي أشار إليه من خمود نار فارس ليلة مولده الكريم، قد ذكرناه بأسانيده وطرقه في أول السيرة عند ذكر المولد المطهر الكريم بما فيه كفاية ومقنع.
ثم قال شيخنا: مع أنه قد ألقي بعض هذه الأمة في النار فلم تؤثر فيه ببركة نبينا ﷺ منهم أبو مسلم الخولاني.
قال: بينما الأسود بن قيس العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني، فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟
قال: نعم.
قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: ما أسمع.
فأعاد إليه، قال: ما أسمع.
فأمر بنار عظيمة فأججت فطرح فيها أبو مسلم فلم تضره.
فقيل له: لئن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك، فأمره بالرحيل فقدم المدينة وقد قبض رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي، فبصر به عمر فقال: من أين الرجل؟
قال: من اليمن.
قال: ما فعل الله بصاحبنا الذي حرق بالنار فلم تضره؟
قال: ذاك عبد الله بن أيوب.
قال: نشدتك بالله أنت هو؟
قال: اللهم نعم.
قال: فقبل ما بين عينيه ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد ﷺ من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
وهذا السياق الذي أورده شيخنا بهذه الصفة.
وقد رواه الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر رحمه الله في ترجمة أبي مسلم عبد الله بن أيوب في تاريخه من غير وجه عن عبد الوهاب بن محمد، عن اسماعيل بن عياش الحطيمي، حدثني شراحيل ابن مسلم الخولاني، أن الأسود بن قيس بن ذي الحمار العنسي تنبأ باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني فأتي به.
فلما جاء به قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: ما أسمع.
قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟
قال: نعم.
قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: ما أسمع.
قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟
قال: نعم.
قال: فردد عليه ذلك مرارا، ثم أمر بنار عظيمة فأججت فألقي فيها فلم تضره.
فقيل للأسود: إنفه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك، فأمره فارتحل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، ثم دخل المسجد وقام يصلي إلى سارية فبصر به عمر بن الخطاب فأتاه فقال: ممن الرجل؟
فقال: من أهل اليمن.
قال: ما فعل الرجل الذي حرقة الكذاب بالنار؟
قال: ذاك عبد الله بن أيوب.
قال: فأنشدك بالله أنت هو؟
قال: اللهم نعم.
قال: فاعتنقه ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد ﷺ من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن.
قال إسماعيل بن عياش: فأنا أدركت رجالا من الأمداد الذين يمدون إلينا من اليمن من خولان، ربما تمازحوا فيقول الخولانيون للعنسيين: صاحبكم الكذاب حرق صاحبنا بالنار ولم تضره.
وروى الحافظ ابن عساكر أيضا من غير وجه عن إبراهيم بن دحيم، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد، أخبرني سعيد بن بشير عن أبي بشر جعفر ابن أبي وحشية أن رجلا أسلم فأراده قومه على الكفر فألقوه في نار فلم يحترق منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يصيبها الوضوء.
فقدم على أبي بكر فقال: استغفر لي؟
قال: أنت أحق.
قال أبو بكر: أنت ألقيت في النار فلم تحترق، فاستغفر له، ثم خرج إلى الشام وكانوا يسمونه بإبراهيم عليه السلام وهذا الرجل هو أبو مسلم الخولاني، وهذه الرواية بهذه الزيادة تحقق أنه إنما نال ذلك ببركة متابعته الشريعة المحمدية المطهرة المقدسة.
كما جاء في حديث الشفاعة « وحرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود ».
وقد نزل أبو مسلم بداريا من غربي دمشق وكان لا يسبقه أحد إلى المسجد الجامع بدمشق وقت الصبح، وكان يغازي ببلاد الروم، وله أحوال وكرامات كثيرة جدا وقبره مشهور بداريا والظاهر أنه مقامه الذي كان يكون فيه، فإن الحافظ ابن عساكر رجح أنه مات ببلاد الروم في خلافة معاوية وقيل: في أيام ابنه يزيد بعد الستين والله أعلم.
وقد وقع لأحمد ابن أبي الحواري من غير وجه أنه جاء إلى أستاذه أبي سليمان يعلمه بأن التنور قد سجروه وأهله يتنظرون ما يأمرهم به فوجده يكلم الناس وهم حوله فأخبره بذلك، فاشتغل عنه بالناس، ثم أعلمه فلم يلتفت إليه، ثم أعلمه مع أولئك الذين حوله، فقال: إذهب فاجلس فيه.
فذهب أحمد ابن أبي الحواري إلى التنور فجلس فيه وهو يتضرم نارا فكان عليه بردا وسلاما وما زال فيه حتى استيقظ أبو سليمان من كلامه فقال لمن حوله: قوموا بنا إلى أحمد ابن أبي الحواري فإني أظنه قد ذهب إلى التنور فجلس فيه امتثالا لما أمرته.
فذهبوا فوجدوه جالسا فيه فأخذ بيده الشيخ أبو سليمان وأخرجه منه - رحمة الله عليهما - ورضي الله عنهما -.
وقال شيخنا أبو المعالي: وأما إلقاؤه - يعني: إبراهيم عليه السلام - من المنجنيق.
فقد وقع في حديث البراء بن مالك في وقعة مسيلمة الكذاب وأن أصحاب مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا الباب، فقال البراء بن مالك: ضعوني على برش واحملوني على رؤوس الرماح ثم ألقوني من أعلاها داخل الباب ففعلوا ذلك وألقوه عليهم فوقع وقام وقاتل المشركين، وقتل مسيلمة.
قلت: وقد ذكر ذلك مستقصى في أيام الصديق حين بعث خالد بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون، وكان المسلمون بضعة عشر ألفا فلما التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون، فقال المهاجرون والأنصار: خلصنا يا خالد فميزهم عنهم وكان المهاجرون والأنصار قريبا من ألفين وخمسمائة، فصمموا الحملة وجعلوا يتدابرون، ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم فهزموهم بإذن الله وألجأوهم إلى حديقة هناك وتسمى حديقة الموت، فتحصنوا بها فحصروهم فيها ففعل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك - وكان الأكبر - ما ذكر من رفعه على الأسنة فوق الرماح حتى تمكن من أعلى سورها، ثمب ألقى نفسه عليهم ونهض سريعا إليهم، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح الحديقة ودخل المسلمون يكبرون، وانتهوا إلى قصر مسيلمة وهو واقف خارجه عند جدار كأنه جمل أزرق أي من سمرته فابتدره وحشي بن حرب الأسود - قاتل حمزة - بحربته، وأبو دجانة سماك بن حرشة الأنصاري - وهو الذي ينسب إليه شيخنا هذا أبو المعالي ابن الزملكاني - فسبقه وحشي فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه وجاء إليه أبو دجانة فعلاه بسيفه فقتله، لكن صرخت جارية من فوق القصر: واأميراه قتله العبد الأسود.
ويقال: إن عمر ميسلمة يوم قتل مائة وأربعين سنة - لعنه الله - فمن طال عمره وساء عمله - قبحه الله -.
وهذا ما ذكره شيخنا فيما يتعلق بإبراهيم الخليل عليه السلام.
وأما الحافظ أبو نعيم فإنه قال: فإن قيل: فإن إبراهيم اختص بالخلة مع النبوة.
قيل: فقد اتخذ الله محمدا خليلا وحبيبا، والحبيب ألطف من الخليل.
ثم ساق من حديث شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: « لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ».
وقد رواه مسلم من طريق شعبة والثوري عن أبي إسحاق، ومن طريق عبد الله بن مرة وعبد الله ابن أبي الهديل، كلهم عن أبي الأحوص عوف بن مالك الجشيمي قال: سمعت عبد الله بن مسعود يحدث عن رسول الله ﷺ قال: « لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا ».
هذا لفظ مسلم ورواه أيضا منفردا به عن جندب بن عبد الله البجلي كما سأذكره.
وأصل الحديث في الصحيحين عن أبي سعيد، وفي أفراد البخاري عن ابن عباس وابن الزبير.
كما سقت ذلك في فضائل الصديق رضي الله عنه وقد أوردناه هنالك من رواية أنس، والبراء، وجابر، وكعب بن مالك، وأبي الحسين ابن العلى، وأبي هريرة، وأبي واقد الليثي، وعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهم أجمعين -.
ثم إنما رواه أبو نعيم من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن كعب بن مالك أنه قال: عهدي نبيكم ﷺ فسمعته يقول: « لم يكن نبي إلا له خليل من أمته وإن خليلي أبو بكر، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا » وهذا الإسناد ضعيف.
ومن حديث محمد بن عجلان عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « لكل نبي خليل وخليلي أبو بكر ابن أبي قحافة، وخليل صاحبكم الرحمن » وهو غريب من هذا الوجه.
ومن حديث عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: « إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ومنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين والعباس بيننا، مؤمن بين خليلين » غريب وفي إسناده نظر انتهى ما أورده أبو نعيم رحمه الله.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم قالا: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، حدثنا زيد ابن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، حدثني جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: « إني أبرأ إلى الله عز وجل أن يكون لي بينكم خليلا، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ الله إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك ».
وأما اتخاذه حسينا خليلا فلم يتعرض لإسناده أبو نعيم.
وقد قال هشام بن عمار في كتابه المبعث: حدثنا يحيى بن حمزة الحضرمي وعثمان بن علان القرشي قالا: حدثنا عروة بن رويم اللخمي أن رسول الله ﷺ قال: « إن الله أدرك بي الأجل المرقوم وأخذني لقربه واحتضرني احتضارا، فنحن الآخرون، ونحن السابقون يوم القيامة، وأنا قائل قولا غير فخر إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وإن بيدي لواء الحمد، وأجارني الله عليكم من ثلاث أن لا يهلككم بسنة، وأن يستبيحكم عدوكم، وأن لا تجمعوا على ضلالة ».
وأما الفقيه أبو محمد بن عبد الله بن حامد فتكلم على مقام الخلة بكلام طويل إلى أن قال: ويقال: الخليل الذي يعبد ربه على الرغبة والرهبة من قوله: { إن إبراهيم لأواه حليم } [150].
من كثرة ما يقول: أواه والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة.
ويقال: الخليل الذي يكون معه انتظار العطاء.
والحبيب الذي يكون معه انتظار اللقاء.
ويقال: الخليل الذي يصل بالواسطة من قوله: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } [151].
والحبيب الذي يصل إليه من غير واسطة من قوله: { فكان قاب قوسين أو أدنى } [152].
وقال: الخليل { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [153].
وقال الله للحبيب محمد ﷺ: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [154].
وقال الخليل: { ولا تخزني يوم يبعثون } [155].
وقال الله للنبي: { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } [156].
وقال الخليل حين ألقي في النار: « حسبي الله ونعم الوكيل ».
وقال الله لمحمد ﷺ: { ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [157].
وقال الخليل: { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [158].
وقال الله لمحمد ﷺ: { ووجدك ضالا فهدى } [159].
وقال الخليل: { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [160].
وقال الله لمحمد ﷺ: { ورفعنا لك ذكرك } . [161].
وقال الخليل: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } [162].
وقال الله للحبيب: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } [163].
وقال الخليل: { واجعلني من ورثة جنة النعيم } [164].
وقال الله لمحمد ﷺ: { إنا أعطيناك الكوثر } [165].
وذكر أشياء أخر، وسيأتي الحديث في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن رسول الله ﷺ قال: « إني سأقوم مقاما يوم القيامة يرغب إلى الخلق كلهم حتى أبوهم إبراهيم الخليل ».
فدل على أنه أفضل إذ هو يحتاج إليه في ذلك المقام، ودل على أن إبراهيم أفضل الخلق بعده، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعده لذكره.
ثم قال أبو نعيم: فإن قيل: إن إبراهيم عليه السلام حجب عن نمرود بحجب ثلاثة.
قيل: فقد كان كذلك، وحجب محمد ﷺ عمن أرادوه بخمسة حجب، قال الله تعالى في أمره: { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } [166].
فهذه ثلاث ثم قال: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } [167].
ثم قال: { فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } [168].
فهذه خمس حجب وقد ذكر مثله سواء الفقيه أبو محمد ابن حامد، وما أدري أيهما أخذ من الآخر والله أعلم.
وهذا الذي قاله غريب، والحجب التي ذكرها لإبراهيم عليه السلام لا أدري ما هي كيف وقد ألقاه في النار التي نجاه الله منها، وأما ما ذكره من الحجب التي استدل عليها بهذه الآيات، فقد قيل: إنها جميعها معنوية لا حسية، بمعنى أنهم مصرفون عن الحق، لا يصل إليهم ولا يخلص إلى قلوبهم، كما قال تعالى: { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [169].
وقد حررنا ذلك في التفسير، وقد ذكرنا في السيرة وفي التفسير: أن أم جميل امرأة أبي لهب لما نزلت السورة في ذمها وذم زوجها ودخولهما النار وخسارهما، جاءت بفهر وهو الحجر الكبير لترجم النبي ﷺ فانتهت إلى أبي بكر وهو جالس عند النبي ﷺ فلم تر رسول الله ﷺ وقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟
فقال: وماله؟
فقالت: إنه هجاني.
فقال: ما هجاك؟
فقالت: والله لئن رأيته لأضربنه بهذا الفهر.
وكذلك حجب ومنع أبا جهل حين هم أن يطأ برجله رأس النبي ﷺ وهو ساجد فرأى جدثا من نار وهولا عظيما وأجنحة الملائكة دونه، فرجع القهقرى وهو يتقي بيديه، فقالت له قريش: مالك ويحك؟
فأخبرهم بما رأى.
وقال النبي ﷺ: « لو أقدم لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ».
وكذلك لما خرج رسول الله ﷺ ليلة الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه وأرسلوا إلى بيته رجالا يحرسونه لئلا يخرج، ومتى عاينوه قتلوه، فأمر عليا فنام على فراشه، ثم خرج عليهم وهم جلوس فجعل يذر على رأس كل إنسان منهم ترابا ويقول: « شاهت الوجوه » فلم يروه حتى صار هو وأبو بكر الصديق إلى غار ثور كما بسطنا ذلك في السيرة.
وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سد على باب الغار ليعمي الله عليهم مكانه.
وفي الصحيح أن أبا بكر قال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا.
فقال: « يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ».
وقد قال بعض الشعراء في ذلك:
نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت
وكذلك حجب ومنع من سراقة بن مالك بن جشعم حين اتبعهم بسقوط قوائم فرسه في الأرض حتى أخذ منه أمانا كما تقدم بسطه في الهجرة.
وذكر ابن حامد في كتابه في مقابلة إضجاع إبراهيم عليه السلام ولده للذبح مستسلما لأمر الله تعالى ببذل رسول الله ﷺ نفسه للقتل يوم أحد وغيره حتى نال منه العدو ما نالوا من هشم رأسه، وكسر ثنيته اليمنى السفلى كما تقدم بسط ذلك في السيرة.
ثم قال: قالوا: كان إبراهيم عليه السلام ألقاه قومه في النار فجعلها الله بردا وسلاما.
قلنا: وقد أوتي رسول الله ﷺ مثله، وذلك أنه لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصير ذلك السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله، والسم عرق إذ لا يستقر في الجوف كما تحرق النار.
قلت: وقد تقدم الحديث بذلك في فتح خيبر ويؤيد ما قاله أن بشر بن البراء بن معرور مات سريعا من تلك الشاة المسمومة، وأخبر ذراعها رسول الله ﷺ بما أودع فيه من السم وكان قد نهش منه نهشة، وكان السم فيه أكثر لأنهم كانوا يفهمون أنه ﷺ يحب الذراع فلم يضره السم الذي حصل في باطنه بإذن الله عز وجل حتى انقضى أجله ﷺ فذكر أنه وجد حينئذ من ألم ذلك السم الذي كان في تلك الأكلة ﷺ.
وقد ذكرنا في ترجمة خالد بن الوليد المخزومي فاتح بلاد الشام أنه أتى بسم فحثاه بحضرة الأعداء ليرهبهم بذلك فلم ير بأسا رضي الله عنه.
ثم قال أبو نعيم: فإن قيل فإن إبراهيم خصم نمرود ببرهان نبوته فبهته، قال الله تعالى: { فبهت الذي كفر } [170].
قيل: محمد ﷺ أتاه الكذاب بالبعث أبي بن خلف بعظم بال ففركه وقال: { من يحيي العظام وهي رميم } [171].
فأنزل الله تعالى البرهان الساطع: { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } [172].
فانصرف مبهوتا ببرهان نبوته.
قلت: وهذا أقطع للحجة وهو استدلاله للمعاد بالبداءة، فالذي خلق الخلق بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا قادر على إعادتهم.
كما قال: { أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } [173].
أي يعيدهم كما بدأهم، كما قال في الآية الأخرى: { على أن يحيي الموتى } [174].
وقال: { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [175].
هذا وأمر المعاد نظري لا فطري ضروري في قول الأكثرين، فأما الذي حاج إبراهيم في ربه فإنه معاند مكابر، فإن وجود الصانع مذكور في الفطر، وكل واحد مفطور على ذلك إلا من تغيرت فطرته فيصير نظريا عنده، وبعض المتكلمين يجعل وجود الصانع من باب النظر لا الضروريات، وعلى كل تقدير فدعواه أنه هو الذي يحيى الموتى لا يقبله عقل ولا سمع وكل واحد يكذبه بعقله في ذلك، ولهذا ألزمه إبراهيم بالإتيان بالشمس من المغرب إن كان كما ادعى { فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين } [176].
وكان ينبغي أن يذكر مع هذا أن الله تعالى سلط محمدا على هذا المعاند لما بارز النبي ﷺ يوم أحد فقتله بيده الكريمة طعنه بحربة، فأصاب ترقوته فتردى عن فرسه مرارا، فقالوا له: ويحك مالك؟
فقال: والله إن بي لما لو كان بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، ألم يقل: « بل أنا أقتله » والله لو بصق علي لقتلني، وكان هذا - لعنه الله - قد أعد فرسا وحربة ليقتل بها رسول الله ﷺ.
فقال: « بل أنا أقتله إن شاء الله » فكان كذلك يوم أحد.
ثم قال أبو نعيم: فإن قيل: فإن إبراهيم عليه السلام كسر أصنام قومه غضبا لله.
قيل: فإن محمدا ﷺ كسر ثلاثمائة وستين صنما قد ألزمها الشيطان بالرصاص والنحاس، فكان كلما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسها ويقول: { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } [177].
فتساقط لوجوهها ثم أمر بهن فأخرجن إلى الميل، وهذا أظهر وأجلى من الذي قبله.
وقد ذكرنا هذا في أول دخول النبي ﷺ مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصحاح وغيرها بما فيه كفاية.
وقد ذكر غير واحد من علماء السير أن الأصنام تساقطت أيضا لمولده الكريم وهذا أبلغ وأقوى في المعجز من مباشرة كسرها، وقد تقدم أن نار فارس التي كانوا يعبدونها خمدت أيضا ليلتئذ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وأنه سقط من شرفات قصر كسرى أربع عشر شرفة مؤذنة بزوال دولتهم بعد هلاك أربعة عشر من ملوكهم في أقصر مدة، وكان لهم في الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة.
وأما إحياء الطيور الأربعة لإبراهيم عليه السلام فلم يذكره أبو نعيم ولا ابن حامد، وسيأتي في إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام ما وقع من المعجزات المحمدية من هذا النمط ما هو مثل ذلك، كما سيأتي التنبيه عليه إذا انتهينا إليه من إحياء أموات بدعوات أمته، وحنين الجذع، وتسليم الحجر والشجر والمدر عليه، وتكليم الذراع له وغير ذلك.
وأما قوله تعالى: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } [178].
والآيات بعدها فقد قال الله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } [179].
وقد ذكر ذلك ابن حامد فيما وقفت عليه بعد، وقد ذكرنا في أحاديث الإسراء من كتابنا هذا، ومن التفسير ما شاهده رسول الله ﷺ ليلة أسري به من الآيات فيما بين مكة إلى بيت المقدس، وفيما بين ذلك إلى سماء الدنيا، ثم عاين من الآيات في السموات السبع وما فوق ذلك، وسدرة المنتهى، وجنة المأوى، والنار التي هي بئس المصير والمثوى.
وقال - عليه أفضل الصلاة والسلام - في حديث المنام - وقد رواه أحمد والترمذي وصححه وغيرهما -: « فتجلى لي كل شيء وعرفت ».
وذكر ابن حامد في مقابلة ابتلاء الله يعقوب عليه السلام بفقده ولده يوسف عليه السلام وصبره واستعانته ربه عز وجل، موت إبراهيم ابن رسول الله ﷺ وصبره عليه وقوله: « تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ».
قلت: وقد مات بناته الثلاثة: رقية، وأم كلثوم، وزينب وقتل عمه الحمزة أسد الله وأسد رسوله يوم أحد فصبر واحتسب.
وذكر في مقابلة حسن يوسف عليه السلام ما ذكر من جمال رسول الله ﷺ ومهابته وحلاوته شكلا ونفعا، وهديا ودلا، ويمنا كما تقدم في شمائله من الأحاديث الدالة على ذلك كما قالت الربيع بنت مسعود: لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وذكر في مقابلة ما ابتلي به يوسف عليه السلام من الفرقة والغربة، هجرة رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة ومفارقته وطنه وأهله وأصحابه الذين كانوا بها.
القول فيما أوتي موسى عليه السلام
وأعظمهن تسع آيات كما قال تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [180].
وقد شرحناها في التفسير وحكينا قول السلف فيها واختلافهم فيها، وأن الجمهور على أنها هي العصا في انقلابها حية تسعى، واليد إذا أدخل يده في جيب درعه أخرجها تضيء كقطعة قمر يتلألأ إضاءة، ودعاؤه على قوم فرعون حين كذبوه فأرسل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات كما بسطنا ذلك في التفسير، وكذلك أخذهم الله بالسنين وهي نقص الحبوب، وبالجدب وهو نقص الثمار، وبالموت الذريع وهو نقص الأنفس، وهو الطوفان في قول، ومنها فلق أبحر لإنجاء بني إسرائيل وإغراق آل فرعون، ومنها تضليل بني إسرائيل في التيه، وإنزال المن والسلوى عليهم، واستسقاؤه لهم فجعل الله ماءهم يخرج من حجر يحمل معهم على دابة له أربعة وجوه، إذا ضربه موسى بعصاه يخرج من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين، ثم يضربه فينقلع، إلى غير ذلك من الآيات الباهرات كما بسطنا ذلك في التفسير وفي قصة موسى عليه السلام من كتابنا هذا في قصص الأنبياء منه، ولله الحمد والمنة.
وقيل: كل من عبد العجل أماتهم ثم أحياهم الله تعالى، وقصة البقرة.
أما العصا فقال شيخنا العلامة ابن الزملكاني: وأما حياة عصا موسى فقد سبح الحصا في كف رسول الله ﷺ وهو جماد، والحديث في ذلك صحيح.
وهذا الحديث مشهور عن الزهري، عن رجل، عن أبي ذر، وقد قدمنا ذلك مبسوطا في دلائل النبوة بما أغنى عن إعادته، وقيل: إنهن سبحن في كف أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، كما سبحن في كف رسول الله ﷺ فقال: « هذه خلافة النبوة ».
وقد روى الحافظ بسنده إلى بكر ابن حبيش عن رجل سماه قال: كان بيد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها قال: فنام والسبحة في يده، قال: فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات.
فقال: هلم يا أم مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب، قال: فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكتت.
وأصح من هذا كله وأصرح حديث البخاري عن ابن مسعود قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
قال شيخنا: وكذلك قد سلمت عليه الأحجار.
قلت: وهذا قد رواه مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن ».
قال بعضهم: هو الحجر الأسود.
وقال الترمذي: حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي، حدثنا الوليد ابن أبي ثور عن السدي، عن عباد بن يزيد، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي ﷺ بمكة في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
ثم قال: غريب.
ورواه أبو نعيم في الدلائل من حديث السدي عن أبي عمارة الحيواني، عن علي قال: خرجت مع رسول الله ﷺ فجعل لا يمر بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
قال: وأقبلت الشجرة عليه بدعائه.
وذكر اجتماع تينك الشجرتين لقضاء حاجته من ورائهما، ثم رجوعهما إلى منابتهما، وكلا الحديثين في الصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك حلول حياة فيهما إذ يكونان ساقهما سائق، ولكن في قوله: « انقادا علي بإذن الله » ما يدل على حصول شعور منهما لمخاطبته ولا سيما مع امتثالهما ما أمرهما به.
قال: وأمر عذقا من نخلة أن ينزل فنزل يبقر في الأرض حتى وقف بين يديه فقال: « أتشهد أني رسول الله؟ » فشهد بذلك ثلاثا ثم عاد إلى مكانه، وهذا أليق وأظهر في المطابقة من الذي قبله، ولكن هذا السياق فيه غرابة.
والذي رواه الإمام أحمد وصححه الترمذي، ورواه البيهقي، والبخاري في التاريخ من رواية أبي ظبيان وحصين بن المنذر عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟
قال: « أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟ »
قال: نعم.
قال: فدعا العذق فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض فجعل ينقز حتى أتى رسول الله ﷺ ثم قال له: « إرجع » فرجع إلى مكانه.
فقال: أشهد أنك رسول الله، وآمن به.
هذا لفظ البيهقي وهو ظاهر في أن الذي شهد بالرسالة هو الأعرابي، وكان رجلا من بني عامر، ولكن في رواية البيهقي من طريق الأعمش عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: ما هذا الذي يقول أصحابك؟
قال: وحول رسول الله - ﷺ أعذاق وشجر -.
فقال: « هل لك أن أريك آية؟ »
قال: نعم.
فدعا غصنا منها فأقبل يخد الأرض حتى وقف بين يديه وجعل يسجد ويرفع رأسه، ثم أمره فرجع.
قال: فرجع العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة: والله لا أكذبه بشيء يقوله أبدا.
وتقدم فيما رواه الحاكم في مستدركه متفردا به عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ دعا رجلا إلى الإسلام، فقال: هل من شاهد على ما تقول؟
قال: « هذه الشجرة » فدعاها رسول الله - ﷺ - وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه وقال: إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك.
قال: وأما حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النبي ﷺ فعمل له المنبر، فلما رقي عليه وخطب حن الجذع إليه حنين العشار والناس يسمعون بمشهد الخلق يوم الجمعة، ولم يزل يئن ويحن حتى نزل إليه النبي ﷺ فاعتنقه وسكنه وخيره بين أن يرجع غصنا طريا، أو يغرس في الجنة يأكل منه أولياء الله، فاختار الغرس في الجنة وسكن عند ذلك، فهو حديث مشهور معروف قد رواه من الصحابة عدد كثير متواتر وكان بحضور الخلائق.
وهذا الذي ذكره من تواتر حنين الجذع كما قال فإنه قد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، وعنهم أعداد من التابعين، ثم من بعدهم آخرون عنهم لا يمكن تواطؤهم على الكذب فهو مقطوع به في الجملة، وأما تخيير الجذع كما ذكره شيخنا فليس بمتواتر بل ولا يصح إسناده، وقد أوردته في الدلائل عن أبي بن كعب.
وذكر في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، وعن أنس من خمس طرق إليه صحح الترمذي إحداها، وروى ابن ماجه أخرى، وأحمد ثالثة، والبزار رابعة، وأبو نعيم خامسة.
وعن جابر بن عبد الله في صحيح البخاري من طريقين عنه، والبزار من ثالثة، ورابعة، وأحمد من خامسة، وسادسة، وهذه على شرط مسلم.
وعن سهل بن سعد في مصنف ابن أبي شيبة على شرط الصحيحين، وعن ابن عباس في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه بإسناد على شرط مسلم، وعن ابن عمر في صحيح البخاري.
ورواه أحمد من وجه آخر عن ابن عمر، وعن أبي سعيد في مسند عبد بن حميد بإسناد على شرط مسلم.
وقد رواه يعلى الموصلي من وجه آخر عنه.
وعن عائشة رواه الحافظ أبو نعيم من طريق علي بن أحمد الخوارزمي، عن قبيصة بن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله ابن بريدة، عن عائشة فذكر الحديث بطوله وفيه أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة، وغار حتى ذهب فلم يعرف، وهذا غريب إسنادا ومتنا.
وعن أم سلمة رواه أبو نعيم بإسناد جيد، وقدمت الأحاديث ببسط أسانيدها، وتحرير ألفاظها، وغررها بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا، ومن تدبرها حصل له القطع بذلك ولله الحمد والمنة.
قال القاضي عياض بن موسى السبتي المالكي في كتابه الشفا وهو حديث مشهور متواتر خرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر منهم أبي وأنس وبريدة، وسهل بن سعد، وابن عباس، وابن عمر، والمطلب ابن أبي وداعة، وأبو سعيد، وأم سلمة - رضي الله عنهم أجمعين -.
قال شيخنا: فهذه جمادات ونباتات وقد حنت وتكلمت وفي ذلك ما يقابل انقلاب العصا حية.
قلت: وسنشير إلى هذا عند ذكر معجزات عيسى عليه السلام في إحيائه الموتى بإذن الله تعالى، في ذلك كما رواه البيهقي عن الحاكم، عن أبي أحمد ابن أبي الحسن، عن عبد الرحمن ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن سوار قال: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ﷺ.
فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى.
فقال: أعطى محمد الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيء له المنبر، فلما هيء له حن الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك.
وهذا إسناد صحيح إلى الشافعي رحمه الله وهو مما كنت أسمع شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله يذكره عن الشافعي رحمه الله وأكرم مثواه وإنما قال: فهذا أكبر من ذلك، لأن الجذع ليس محلا للحياة ومع هذا حصل له شعور ووجد لما تحول عنه إلى المنبر، فأن وحن حنين العشار حتى نزل إليه رسول الله ﷺ فاحتضنه وسكنه حتى سكن.
قال الحسن البصري: فهذا الجذع حن إليه فإنهم أحق أن يحنوا إليه.
وأما عود الحياة إلى جسد كانت فيه بإذن الله فعظيم، وهذا أعجب وأعظم من إيجاد حياة وشعور في محل ليس مألوفا لذلك لم تكن فيه قبل بالكلية، فسبحان الله رب العالمين.
تنبيه: وقد كان لرسول الله ﷺ لواء يحمل معه في الحرب يخفق في قلوب أعدائه مسيرة شهر بين يديه، وكانت له عنزة تحمل بين يديه، فإذا أراد الصلاة إلى غير جدار ولا حائل ركزت بين يديه، وكان له قضيب يتوكأ عليه إذا مشى وهو الذي عبر عنه سطيح في قوله لابن أخيه عبد المسيح بن نفيلة: يا عبد المسيح إذا أكثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوه، فليست الشام لسطيح شاما، ولهذا كان ذكر هذه الأشياء عند إحياء عصا موسى وجعلها حية أليق إذ هي مساوية لذلك، وهذه متعددة في محال متفرقة بخلاف عصا موسى فإنها وإن تعدد جعلها حية فهي ذات واحدة، والله أعلم.
ثم ننبه على ذلك عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى لأن هذه أعجب وأكبر، وأظهر وأعلم.
قال شيخنا: وأما أن الله كلم موسى تكليما فقد تقدم حصول الكلام للنبي ﷺ ليلة الإسراء مع الرؤية وهو أبلغ، هذا أورده فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام ليلة الإسراء فيشهد له فنوديت: يا محمد قد كلفت فريضتين، وخففت عن عبادي، وسياق بقية القصة يرشد إلى ذلك.
وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك، لكن رأيت في كلام القاضي عياض نقل خلاف فيه والله أعلم.
وأما الرؤية ففيها خلاف مشهور بين الخلف، والسلف، ونصرها من الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المشهور بإمام الأئمة، واختار ذلك القاضي عياض، والشيخ محيي الدين النووي.
وجاء عن ابن عباس تصديق الرؤية، وجاء عنه تفنيدها، وكلاهما في صحيح مسلم.
وفي الصحيحين عن عائشة إنكار ذلك، وقد ذكرنا في الإسراء: عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي ذر، وعائشة - رضي الله عنهم - أن المرئي في المرتين المذكورتين في أول سورة النجم إنما هو جبريل عليه السلام.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟
فقال: « نورا لي أراه ».
وفي رواية: « رأيت نورا ».
وقد تقدم بسط ذلك في الإسراء في السيرة، وفي التفسير في أول سورة بني إسرائيل، وهذا الذي ذكره شيخنا فيما يتعلق بالمعجزات الموسوية - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
وأيضا فإن الله تعالى كلم موسى وهو بطور سينا وسأل الرؤية فمنعها، وكلم محمدا ﷺ ليلة الإسراء وهو بالملأ الأعلى حين رفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام، وحصلت له الرؤية في قول طائفة كبيرة من علماء السلف والخلف والله أعلم.
ثم رأيت ابن حامد قد طرق هذا في كتابه وأجاد وأفاد، وقال ابن حامد: قال الله تعالى لموسى: { وألقيت عليك محبة مني } [181].
وقال لمحمد ﷺ: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } . [182].
وأما اليد التي جعلها الله برهانا وحجة لموسى على فرعون وقومه كما قال تعالى بعد ذكر صيرورة العصا حية: { اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه } [183].
وقال في سورة طه: { آية أخرى * لنريك من آياتنا الكبرى } [184].
فقد أعطى الله محمدا انشقاق القمر بإشارته إليه فرقتين فرقة من وراء جبل حراء، وأخرى أمامه كما تقدم بيان ذلك بالأحاديث المتواترة، مع قوله تعالى: { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [185].
ولا شك أن هذا أجل وأعظم وأبهر في المعجزات وأعم وأظهر وأبلغ من ذلك.
وقد قال كعب بن مالك في حديثه الطويل في قصة توبته: وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر، وذلك في صحيح البخاري.
وقال ابن حامد: قالوا: فإن موسى أعطي اليد البيضاء.
قلنا لهم: فقد أعطي محمد ﷺ ما هو أفضل من ذلك نورا كان يضيء عن يمينه حيث ما جلس، وعن يساره حيث ما جلس، وقام يراه الناس كلهم وقد بقي ذلك النور إلى قيام الساعة، ألا ترى أنه يرى النور الساطع من قبره ﷺ من مسيرة يوم وليلة.
هذا لفظه وهذا الذي ذكره من هذا النور غريب جدا، وقد ذكرنا في السيرة عند إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي أنه طلب من النبي ﷺ آية تكون له عونا على إسلام قومه من بيته هناك فسطع نور بين عينيه كالمصباح.
فقال: اللهم في غير هذا الموضع فإنهم يظنونه مثله، فتحول النور إلى طرف سوطه، فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح فهداهم الله على يديه ببركة رسول الله ﷺ وبدعائه لهم في قوله: « اللهم إهد دوسا وآت بهم ».
وكان يقال للطفيل: ذو النور لذلك.
وذكر أيضا حديث أسيد بن حضير، وعباد بن بشر في خروجهما من عند النبي ﷺ في ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف عصا أحدهما، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف عصاه وذلك في صحيح البخاري وغيره.
وقال أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس بن مالك أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي ﷺ في ليلة ظلماء حندس، فأضاءت عصا أحدهما مثل السراج وجعلا يمشيان بضوئها، فلما تفرقا إلى منزلهما أضاءت عصا ذا، وعصا ذا.
ثم روي عن إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام، وعن يعقوب بن حميد المدني كلاهما، عن سفيان بن حمزة بن يزيد الأسلمي، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال: سرنا في سفر مع رسول الله ﷺ في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي لتستنير.
وروى هشام بن عمار في البعث حدثنا عبد الأعلى بن محمد البكري، حدثنا جعفر بن سليمان البصري، حدثنا أبو التياح الضبعي قال: كان مطرف بن عبد الله يبدر فيدخل كل جمعة فربما نور له في سوطه، فأدلج ذات ليلة وهو على فرسه حتى إذا كان عند المقابر هدم به، قال: فرأيت صاحب كل قبر جالسا على قبره فقال: هذا مطرف يأتي الجمعة.
فقلت لهم: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟
قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير.
قلت: وما يقول فيه الطير؟
قالوا: يقول: رب سلم سلم قوم صالح.
وأما دعاؤه عليه السلام بالطوفان وهو الموت الذريع في قول، وما بعده من الآيات، والقحط، والجدب، فإنما كان ذلك لعلهم يرجعون إلى متابعته، ويقلعون عن مخالفته فما زادهم إلا طغيانا كبيرا.
قال الله تعالى: { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } [186].
{ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون * فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } [187].
وقد دعا رسول الله ﷺ على قريش حين تمادوا على مخالفته بسبع كسبع يوسف، فقحطوا حتى أكلوا كل شيء، وكان أحدهم يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجوع.
وقد فسر ابن مسعود قوله تعالى: { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } [188].
بذلك كما رواه البخاري عنه في غير ما موضع من صحيحه، ثم توسلوا إليه - صلوات الله وسلامه عليه - بقرابتهم منه، مع أنه بعث بالرحمة والرأفة، فدعا لهم فأقلع عنهم، ورفع عنهم العذاب، وأحيوا بعد ما كانوا أشرفوا على الهلكة.
وأما فلق البحر لموسى عليه السلام حين أمره الله تعالى حين تراءى الجمعان أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فإنه معجزة عظيمة باهرة، وحجة قاطعة قاهرة، وقد بسطنا ذلك في التفسير وفي قصص الأنبياء من كتابنا هذا.
وفي إشارته ﷺ بيده الكريمة إلى قمر السماء فانشق القمر فلقتين وفق ما سأله قريش وهم معه جلوس في ليلة البدر أعظم آية وأيمن دلالة، وأوضح حجة وأبهر برهان على نبوته وجاهه عند الله تعالى، ولم ينقل معجزة عن نبي من الأنبياء من الآيات الحسيات أعظم من هذا كما قررنا ذلك بأدلته من الكتاب والسنة في التفسير في أول البعثة وهذا أعظم من حبس الشمس قليلا ليوشع بن نون حتى تمكن من الفتح ليلة السبت، كما سيأتي في تقرير ذلك مع ما يناسب ذكره عنده.
وقد تقدم من سيرة العلاء بن الحضرمي، وأبي عبيد الثقفي، وأبي مسلم الخولاني وسير الجيوش التي كانت معهم على تيار الماء ومنها دجلة وهي جارية عجاج تقذف الخشب من شدة جريها.
وتقدم تقرير أن هذا أعجب من فلق البحر لموسى من عدة وجوه والله أعلم.
وقال ابن حامد: فإن قالوا: فإن موسى عليه السلام ضرب بعصاه البحر فانفلق فكان ذلك آية لموسى عليه السلام.
قلنا: فقد أوتي رسول الله ﷺ مثلها، قال علي رضي الله عنه: لما خرجنا إلى خيبر فإذا نحن بواد سحب وقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة.
فقالوا: يا رسول الله العدو من ورائنا والوادي من أمامنا، كما قال أصحاب موسى: إنا لمدركون، فنزل رسول الله ﷺ فعبرت الخيل لا تبدي حوافرها، والإبل لا تبدي أخفافها، فكان ذلك فتحا وهذا الذي ذكره بلا إسناد، ولا أعرفه في شيء من الكتب المعتمدة بإسناد صحيح ولا حسن بل ضعيف فالله أعلم.
وأما تظليله بالغمام في التيه فقد تقدم ذكر حديث الغمامة التي رآها بحيرا تظله من بين أصحابه وهو ابن اثنتي عشرة سنة، صحبة عمه أبي طالب وهو قادم إلى الشام في تجارة، وهذا أبهر من جهة أنه كان وهو قبل أن يوحى إليه وكانت الغمامة تظلله وحده من بين أصحابه، فهذا أشد في الاعتناء وأظهر من غمام بني إسرائيل وغيرهم.
وأيضا فإن المقصود من تظليل الغمام إنما كان لاحتياجهم إليه من شدة الحر، وقد ذكرنا في الدلائل حين سئل النبي ﷺ أن يدعو لهم ليسقوا لما هم عليه من الجوع والجهد والقحط فرفع يديه وقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».
قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار فأنشأن من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت.
قال أنس: فلا والله ما رأينا الشمس سبتنا، ولما سألوه أن يستصحي لهم رفع يده وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا » فما جعل يشير بيديه إلى ناحية إلا انحاز السحاب إليها حتى صارت المدينة مثل الإكليل يمطر ما حولها ولا تمطر.
فهذا تظليل عام محتاج إليه آكد من الحاجة إلى ذلك، وهو أنفع منه والتصرف فيه، وهو يشير أبلغ في المعجز، وأظهر في الإعتناء والله أعلم.
وأما إنزال المن والسلوى عليهم فقد كثر رسول الله ﷺ الطعام والشراب في غير ما موطن كما تقدم بيانه في دلائل النبوة من إطعام الجم الغفير من الشيء اليسير كما أطعم يوم الخندق من شويهة جابر بن عبد الله وصاعه الشعير أزيد من ألف نفس جائعة - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين، وأطعم من حفنة قوما من الناس وكانت تمد من السماء إلى غير ذلك من هذا القبيل مما يطول ذكره.
وقد ذكر أبو نعيم وابن حامد أيضا هاهنا أن المراد بالمن والسلوى إنما هو رزق رزقوه من غير كد منهم ولا تعب، ثم أورد في مقابلته حديث تحليل المغنم ولا يحل لأحد قبلنا، وحديث جابر في سيره إلى عبيدة وجوعهم حتى أكلوا الخبط، فحسر البحر لهم عن دابة تسمى العنبر فأكلوا منها ثلاثين من يوم وليلة حتى سمنوا وتكسرت عكن بطونهم، والحديث في الصحيح كما تقدم وسيأتي عند ذكر المائدة في معجزات المسيح بن مريم.
قصة أبي موسى الخولاني
أنه خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الحج وأمرهم أن لا يحملوا زادا ولا مزادا فكانوا إذا نزلوا منزلا صلى ركعتين فيؤتون بطعام وشراب وعلف يكفيهم ويكفي دوابهم غداء وعشاء مدة ذهابهم وإيابهم.
وأما قوله تعالى: { استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم } [189].
فقد ذكرنا بسط ذلك في قصة موسى عليه السلام وفي التفسير.
وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في وضع النبي ﷺ يده في ذلك الإناء الصغير الذي لم يسع بسطها فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه أمثال العيون، وكذلك كثر الماء في غير ما موطن كمزادتي تلك المرأة يوم الحديبية وغير ذلك، وقد استسقى الله لأصحابه في المدينة وغيرها فأجيب طبق السؤال وفق الحاجة، لا أزيد ولا أنقص، وهذا أبلغ في المعجز، ونبع الماء من بين أصابعه من نفس يده على قول طائفة من العلماء أعظم من نبع الماء من الحجر فإنه محل لذلك.
قال أبو نعيم الحافظ: فإن قيل: إن موسى كان يضرب بعصاه الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا في التيه قد علم كل أناس مشربهم.
قيل: كان لمحمد ﷺ مثله أو أعجب فإن نبع الماء من الحجر مشهور في العلوم والمعارف، وأعجب من ذلك نبع الماء من بين اللحم والدم والعظم فكان يفرج بين أصابعه في محصب فينبع من بين أصابعه الماء، فيشربون ويسقون ماء جاريا عذبا يروي العدد الكثير من الناس والخيل والإبل.
ثم روى من طريق المطلب بن عبد الله بن أبي حنطب حدثني عبد الرحمن ابن أبي عمرة الأنصاري، حدثني أبي قال: كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة غزاها فبات الناس في مخمصة فدعا بركوة فوضعت بين يديه، ثم دعا بماء فصبه فيها، ثم مج فيها وتكلم ما شاء الله أن يتكلم ثم أدخل إصبعه فيها، فأقسم بالله لقد رأيت أصابع رسول الله ﷺ تتفجر منها ينابيع الماء ثم أمر الناس فسقوا وشربوا وملأوا قربهم وأداواتهم.
وأما قصة إحياء الذين قتلوا بسبب عبادة العجل وقصة البقرة، فسيأتي ما يشابههما من إحياء حيوانات وأناس عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى ابن مريم والله أعلم.
وقد ذكر أبو نعيم هاهنا أشياء أخر تركناها اختصارا واقتصادا.
وقال هشام بن عمارة في كتابه المبعث:
باب ما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعطي الأنبياء قبله
حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا روح بن مدرك، أخبرني عمر بن حسان التميمي أن موسى عليه السلام أعطي آية من كنوز العرش، رب لا تولج الشيطان في قلبي وأعذني منه ومن كل سوء، فإن لك اليد والسلطان والملك والملكوت دهر الداهرين وأبد الأبدين آمين آمين.
قال: وأعطي محمد ﷺ آيتان من كنوز العرش آخر سورة البقرة « آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه » إلى آخرها.
قصة حبس الشمس
على يوشع بن نون بن أفرائم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن - عليهم السلام - وقد كان نبي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وهو الذي خرج ببني إسرائيل من التيه ودخل بهم بيت المقدس بعد حصار ومقاتلة، وكان الفتح قد ينجز بعد العصر يوم الجمعة وكادت الشمس تغرب ويدخل عليهم السبت فلا يتمكنون معه من القتال، فنظر إلى الشمس فقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، ثم قال: اللهم احبسها علي، فحبسها الله عليه حتى فتح البلد ثم غربت.
وقد قدمنا في قصة من قصص الأنبياء الحديث الوارد في صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر ابن همام، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: « غزا نبي من الأنبياء فدنا من القرية حين صلى العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم امسكها علي شيئا، فحبست عليه حتى فتح الله عليه، الحديث بطوله، وهذا النبي هو: يوشع بن نون.
بدليل ما رواه الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو بكر ابن هشام عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالي سار إلى بيت المقدس ».
تفرد به أحمد، وإسناده على شرط البخاري.
إذا علم هذا فانشقاق القمر فلقتين حتى صارت فلقة من وراء الجبل - أعني: حراء - وأخرى من دونه أعظم في المعجزة من حبس الشمس قليلا، وقد قدمنا في الدلائل حديث رد الشمس بعد غروبها وذكرنا ما قيل فيه من المقالات، فالله أعلم.
قال شيخنا العلامة أبو المعالي بن الزملكاني: وأما حبس الشمس ليوشع في قتال الجبارين، فقد انشق القمر لنبينا ﷺ وانشقاق القمر فلقتين أبلغ من حبس الشمس عن مسيرها، وصحت الأحاديث وتواترت بانشقاق القمر، وأنه كان فرقة خلف الجبل، وفرقة أمامه، وأن قريشا قالوا: هذا سحر أبصارنا، فوردت المسافرون وأخبروا أنهم رأوه مفترقا.
قال الله تعالى: { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } . [190].
قال: وقد حبست الشمس لرسول الله ﷺ مرتين: إحداهما ما رواه الطحاوي، وقال رواته ثقات وسماهم وعدهم واحدا واحدا وهو أن النبي ﷺ كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يرفع رأسه حتى غربت الشمس ولم يكن علي صلى العصر، فقال رسول الله ﷺ: « اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس » فرد الله عليه الشمس حتى رؤيت، فقام علي فصلى العصر ثم غربت.
والثانية صبيحة الإسراء، فإنه ﷺ أخبر قريشا عن مسراه من مكة إلى بيت المقدس فسألوه عن أشياء من بيت المقدس فجلاه الله له حتى نظر إليه ووصفه لهم، وسألوه عن عير كانت لهم في الطريق، فقال: إنها تصل إليكم مع شروق الشمس فتأخرت، فحبس الله الشمس عن الطلوع حتى كانت العصر، روى ذلك ابن بكير في زياداته على السنن.
أما حديث رد الشمس بسبب علي رضي الله عنه فقد تقدم ذكرنا له من طريق أسماء بنت عميس وهو أشهرها، وابن سعيد، وأبي هريرة، وعلي نفسه وهو مستنكر من جميع الوجوه، وقد مال إلى تقويته أحمد بن صالح المصري الحافظ، وأبو حفص الطحاوي، والقاضي عياض، وكذا صححه جماعة من العلماء الرافضة: كابن المطهر وذويه، ورده وحكم بضعفه آخرون من كبار حفاظ الحديث ونقادهم: كعلي بن المديني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وحكاه عن شيخه محمد، ويعلى بن عبيد الطنافسيين، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه أحد الحفاظ، والحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر.
وذكره الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات.
وكذلك صرح بوضعه شيخاي الحافظان الكبيران: أبو الحجاج المزي، وأبو عبد الله الذهبي.
وأما ما ذكره يونس ابن بكير في زياداته على السيرة من تأخر طلوع الشمس عن أبان طلوعها، فلم ير لغيره من العلماء على أن هذا ليس من الأمور المشاهدة، وأكثر ما في الباب أن الراوي روى تأخير طلوعها ولم نشاهد حبسها عن وقته.
وأغرب من هذا ما ذكره ابن المطهر في كتابه المنهاج أنها ردت لعلي مرتين، فذكر الحديث المتقدم كما ذكر، ثم قال: وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بسبب دوابهم وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفاتت كثيرا منهم فتكلموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت.
قال: وذكر أبو نعيم بعد موسى إدريس عليه السلام وهو عند كثير من المفسرين من أنبياء بني إسرائيل، وعند محمد بن إسحاق بن يسار وآخرين من علماء النسب قبل نوح عليه السلام في عمود نسبه إلى آدم عليه السلام كما تقدم التنبيه على ذلك، فقال:
القول فيما أعطي إدريس عليه السلام
من الرفعة التي نوه الله بذكرها فقال: « ورفعناه مكانا عليا ».
قال: والقول فيه أن نبينا محمدا ﷺ أعطي أفضل وأكمل من ذلك لأن الله تعالى رفع ذكره في الدنيا والآخرة فقال: { ورفعنا لك ذكرك } [191].
فليس خطيب ولا شفيع ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقرن الله اسمه باسمه في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك مفتاحا للصلاة المفروضة.
ثم أورد حديث ابن لهيعة عن دراج، عن أبي الهشيم، عن أبي سعيد، عن رسول الله ﷺ في قوله: { ورفعنا لك ذكرك } .
قال: قال جبريل: قال الله: « إذا ذكرت ذكرت ».
ورواه ابن جرير وابن أبي عاصم من طريق دراج، ثم قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا موسى بن سهل الجوني، حدثنا أحمد بن القاسم بن بهرام الهيتي، حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: « لما فرغت مما أمرني الله تعالى به من أمر السموات والأرض قلت: يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد كرمته، جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أوليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهرا ولم أعطها أمة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله ».
وهذا إسناد فيه غرابة ولكن أورد له شاهدا من طريق أبي القاسم ابن بنت منيع البغوي عن سليمان بن داود المهراني، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا بنحوه.
وقد رواه أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة بسياق آخر وفيه انقطاع فقال: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن زريق أنه سمع عطاء الخراساني يحدث عن أبي هريرة وأنس بن مالك، عن النبي ﷺ من حديث ليلة أسري به قال: « لما أراني الله من آياته فوجدت ريحا طيبة فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجنة، قلت: يا ربي إئتني بأهلي، قال الله تعالى: لك ما وعدتك كل مؤمن ومؤمنة لم يتخذ من دوني أندادا ومن أقرضني قربته، ومن توكل علي كفيته ومن سألني أعطيته، ولا ينقص نفقته ولا ينقص ما يتمنى، لك ما وعدتك، فنعم دار المتقين أنت، قلت: رضيت، فلما انتهينا إلى سدرة المنتهى خررت ساجدا فرفعت رأسي فقلت: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وآتيت داود زبورا، وآتيت سليمان ملكا عظيما، قال: فإني قد رفعت لك ذكرك، ولا تجوز لأمتك خطبة حتى يشهدوا أنك رسولي، وجعلت قلوب أمتك أناجيل، وآتيتك خواتيم سورة البقرة من تحت عرشي ».
ثم روى من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي هريرة حديث الإسراء بطوله كما سقناه من طريق ابن جرير في التفسير، وقال أبو زرعة في سياقه: ثم لقي أرواح الأنبياء - عليهم السلام - فأثنوا على ربهم عز وجل فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا لله محياي ومماتي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردا وسلاما.
ثم إن موسى أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليما واصطفاني برسالته وبكلامه وقربني نجيا، وأنزل علي التوراة، وجعل هلاك فرعون على يدي.
ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعلني ملكا وأنزل علي الزبور، وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن معه والطير، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح والجن والإنس، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير، وأسال لي عين القطر، وأعطاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.
ثم إن عيسى أثنى على الله عز وجل فقال: الحمد لله الذي علمني التوراة والإنجيل، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وطهرني ورفعني من الذين كفروا وأعاذني من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثم إن محمدا ﷺ أثنى على ربه فقال: « كلكم أثنى على ربه وأنا مثن على ربي، الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لي صدري ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا وخاتما ».
فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد ﷺ.
ثم أورد إبراهيم الحديث المتقدم فيما رواه الحاكم والبيهقي من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر بن الخطاب مرفوعا في قول آدم: « يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي.
فقال الله: وما أدراك ولم أخلقه بعد.
فقال: لأني رأيت مكتوبا مع اسمك على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.
فقال الله: صدقت يا آدم ولولا محمد ما خلقتك ».
وقال بعض الأئمة: رفع الله ذكره وقرنه باسمه في الأولين والآخرين، وكذلك يرفع قدره ويقيمه مقاما محمودا يوم القيامة يغبطه به الأولون والآخرون، ويرغب إليه الخلق كلهم حتى إبراهيم الخليل.
كما ورد في صحيح مسلم فيما سلف وسيأتي أيضا، فإن التنويه بذكره في الأمم الخالية والقرون السابقة.
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به وليتبعنه ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه، وقد بشرت بوجوده الأنبياء حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكذلك بشرت به الأحبار والرهبان والكهان كما قدمنا ذلك مبسوطا.
ولما كانت ليلة الإسراء رفع من سماء إلى سماء حتى سلم على إدريس عليه السلام وهو في السماء الرابعة، ثم جاوزه إلى الخامسة، ثم إلى السادسة فسلم على موسى بها، ثم جاوزه إلى السابعة فسلم على إبراهيم الخليل عند البيت المعمور، ثم جاوز ذلك المقام فرفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام وجاء سدرة المنتهى ورأى الجنة والنار وغير ذلك من الآيات الكبرى، وصلى بالأنبياء، وشيعه من كل مقربوها، وسلم عليه رضوان خازن الجنان، ومالك خازن النار فهذا هو الشرف، وهذه هي الرفعة، وهذا هو التكريم والتنويه والإشهار والتقديم والعلو، والعظمة - صلوات الله وسلامه عليه - وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.
وأما رفع ذكره في الآخرين فإن دينه باق ناسخ لكل دين، ولا ينسخ هو أبد الآبدين، ودهر الداهرين إلى يوم الدين، ولا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، والنداء في كل يوم خمس مرات على كل مكان مرتفع من الأرض: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وهكذا كل خطيب يخطب لا بد أن يذكره في خطبته وما أحسن قول حسان:
أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال الصرصري رحمه الله:
ألم تر أنا لا يصح أذاننا * ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما
القول فيما أوتي داود عليه السلام
قال الله تعالى: { واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب } [192].
وقال تعالى: { ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير } [193].
وقد ذكرنا قصته عليه السلام في التفسير، وطيب صوته عليه السلام وأن الله تعالى كان قد سخر له الطير تسبح معه، وكانت الجبال أيضا تجيبه وتسبح معه، وكان سريع القراءة يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ الزبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثم يركب، وكان لا يأكل إلا من كسب يده - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقد كان نبينا ﷺ حسن الصوت طيبه بتلاوة القرآن.
قال جبير بن مطعم: قرأ رسول الله ﷺ في المغرب بالتين والزيتون، فما سمعت صوتا أطيب من صوته ﷺ وكان يقرأ ترتيلا كما أمره الله عز وجل بذلك.
وأما تسبيح الطير مع داود فتسبيح الجبال الصم أعجب من ذلك وقد تقدم في الحديث أن الحصا سبح في كف رسول الله ﷺ.
قال ابن حامد: وهذا حديث معروف مشهور، وكانت الأحجار والأشجار والمدر تسلم عليه ﷺ.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل - يعني: بين يدي النبي ﷺ وكلمه ذراع الشاة المسمومة وأعلمه بما فيه من السم، وشهدت بنبوته الحيوانات الإنسية والوحشية، والجمادات أيضا كما تقدم بسط ذلك كله، ولا شك أن صدور التسبيح من الحصا الصغار الصم التي لا تجاويف فيها أعجب من صدور ذلك من الجبال لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلها تردد صدى الأصوات العالية غالبا.
كما قال عبد الله بن الزبير: كان إذا خطب وهو أمير المدينة بالحرم الشريف تجاوبه الجبال أبو قبيس وزرود، ولكن من غير تسبيح، فإن ذلك من معجزات داود عليه السلام ومع هذا كان تسبيح الحصا في كف رسول الله ﷺ وأبي بكر، وعمر، وعثمان أعجب.
وأما أكل داود من كسب يده فقد كان رسول الله ﷺ يأكل من كسبه أيضا كما كان يرعى غنما لأهل مكة على قراريط.
وقال: « وما من نبي إلا وقد رعى الغنم » وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة مضاربة.
وقال الله تعالى: { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } [194].
إلى قوله { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [195].
أي للتكسب والتجارة طلبا للربح الحلال، ثم لما شرع الله الجهاد بالمدينة كان يأكل مما أباح له من المغانم التي لم تبح قبله، ومما أفاء الله عليه من أموال الكفار التي أبيحت له دون غيره.
كما جاء في المسند والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: « بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ».
وأما إلانة الحديد بغير نار كما يلين العجين في يده، فكان يصنع هذه الدروع الداوودية، وهي الزرديات السابغات وأمره الله تعالى بنفسه بعملها، « وقدر في السرد » أي ألا يدق المسمار فيعلق ولا يعظله فيقصم، كما جاء في البخاري.
وقال تعالى: { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون } [196].
وقد قال بعض الشعراء في معجزات النبوة:
نسيج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت
والمقصود المعجز في إلانة الحديد، وقد تقدم في السيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب في سنة أربع، وقيل: خمس أنهم عرضت لهم كدية وهي الصخرة في الأرض فلم يقدروا على كسرها ولا شيء منها، فقام إليها رسول الله ﷺ وقد ربط حجرا على بطنه من شدة الجوع فضربها ثلاث ضربات: لمعت الأولى حتى أضاءت له منها قصور الشام، وبالثانية قصور فارس، وثالثة ثم انسالت الصخرة كأنها كثيب من الرمل، ولا شك أن انسيال الصخرة التي لا تنفعل ولا بالنار أعجب من لين الحديد الذي إن أحمى لانه، كما قال بعضهم:
فلو أن ما عالجت لين فؤادها * بنفسي للان الجندل الصلد
والجندل: الصخر، فلو أن شيئا أشد قوة من الصخر لذكره هذا الشاعر المبالغ.
قال الله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة } الآية [197].
وأما قوله تعالى: { قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم } الآية [198].
فذلك لمعنى آخر في التفسير وحاصله أن الحديد أشد امتناعا في الساعة الراهنة من الحجر ما لم يعالج، فإذا عولج انفعل الحديد ولا ينفعل الحجر والله أعلم.
وقال أبو نعيم: فإن قيل: فقد لين الله لداود عليه السلام الحديد حتى سرد منه الدروع السوابغ.
قيل: لينت لمحمد الحجارة وصم الصخور فعادت له غارا استتر به من المشركين يوم أحد، مال إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم فلين الجبل حتى أدخل رأسه فيه وهذا أعجب لأن الحديد تلينه النار، ولم نر النار تلين الحجر.
قال: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس.
قال: وكذلك في بعض شعاب مكة حجر من جبل في صلايه إليه، فـلان الحجر حتى إدرأ فيه بذراعيه وساعديه، وذلك مشهور يقصده الحجاج ويرونه، وعادت الصخرة ليلة أسري به كهيئة العجين فربط بها دابته - البراق - وموضعه يسمونه الناس إلى يومنا هذا، وهذا الذي أشار إليه من يوم أحد وبعض شعاب مكة غريب جدا، ولعله قد أسنده هو فيما سلف وليس ذلك بمعروف في السيرة المشهورة.
وأما ربط الدابة في الحجر فصحيح، والذي ربطها جبريل كما هو في صحيح مسلم رحمه الله.
وأما قوله: « وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب » فقد كانت الحكمة التي أوتيها محمد ﷺ والشرعة التي شرعت له أكمل من كل حكمة وشرعة كانت لمن قبله من الأنبياء - صلوات الله عليه وعليهم أجمعين - فإن الله جمع له محاسن من كان قبله وفضله وأكمله، وآتاه ما لم يؤت أحدا قبله.
وقد قال ﷺ: « أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا ».
ولا شك أن العرب أفصح الأمم، وكان النبي ﷺ أفصحهم نطقا وأجمع لكل خلق جميل مطلقا.
القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام
قال الله تعالى: { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } [199].
وقال تعالى: { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين } [200].
وقال تعالى: { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } [201].
وقد بسطنا ذلك في قصته وفي التفسير أيضا.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ: « أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا: سأل الله حكما يوافق حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه لا يأتي هذا المسجد أحد إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ».
أما تسخير الريح لسليمان فقد قال الله تعالى في شأن الأحزاب: { ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } [202].
وقد تقدم في الحديث الذي رواه مسلم من طريق شعبة عن الحاكم، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ».
ورواه مسلم من طريق الأعمش عن مسعود بن مالك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ مثله.
وثبت في الصحيحين: « نصرت بالرعب مسيرة شهر ».
ومعنى ذلك: أنه ﷺ كان إذا قصد قتال قوم من الكفار ألقى الله الرعب في قلوبهم قبل وصوله إليهم بشهر، ولو كان مسيره شهرا، فهذا في مقابلة غدوها شهر ورواحها شهر، بل هذا أبلغ في التمكن والنصر والتأييد والظفر، وسخرت الرياح تسوق السحاب لإنزال المطر الذي امتن الله به حين استسقى رسول الله ﷺ في غير ما موطن كما تقدم.
وقال أبو نعيم: فإن قيل: فإن سليمان سخرت له الريح فسارت به في بلاد الله وكان غدوها شهرا ورواحها شهرا.
قيل: ما أعطي محمد ﷺ أعظم وأكبر لأنه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السموات سماء سماء ورأى عجائبها، ووقف على الجنة والنار، وعرض عليه أعمال أمته، وصلى بالأنبياء وبملائكة السموات، واخترق الحجب وهذا كله في ليلة قائما أكبر وأعجب.
وأما تسخير الشياطين بين يديه تعمل ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فقد أنزل الله الملائكة المقربين لنصرة عبده ورسوله محمد ﷺ في غير ما موطن يوم أحد، وبدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين كما تقدم ذكرناه ذلك مفصلا في مواضعه، وذلك أعظم وأبهر وأجل وأعلا من تسخير الشياطين.
وقد ذكر ذلك ابن حامد في كتابه، وفي الصحيحين من حديث شعبة عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: « إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى يصبحوا وينظروا إليه، فذكرت دعوة أخي سليمان رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ».
قال روح: فرده الله خاسئا، لفظ البخاري.
ولمسلم عن أبي الدرداء نحوه، قال: « ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح يلعب به ولدان أهل المدينة ».
وقد روى الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال: « لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أختنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان أهل المدينة ».
وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد أن رسول الله ﷺ قال: « إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ».
وفي رواية « مردة الجن » فهذا من بركة ما شرعه الله له من صيام شهر رمضان وقيامه، وسيأتي عند إبراء الأكمه والأبرص من معجزات المسيح عيسى بن مريم عليه السلام دعاء رسول الله ﷺ لغير ما واحد ممن أسلم من الجن فشفي وفارقهم خوفا منه ومهابة له، وامتثالا لأمره - صلوات الله وسلامه عليهم -.
وقد بعث الله نفرا من الجن يستمعون القرآن فآمنوا به وصدقوه ورجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى دين محمد ﷺ وحذروهم مخالفته لأنه كان مبعوثا إلى الإنس والجن فآمنت طوائف من الجن كثيرة كما ذكرنا، ووفدت إليه منهم وفود كثيرة وقرأ عليهم سورة الرحمن، وخبرهم بما لمن آمن منهم من الجنان، وما لمن كفر من النيران، وشرع لهم ما يأكلون وما يطعمون دوابهم، فدل على أنه بين لهم ما هو أهم من ذلك وأكبر.
وقد ذكر أبو نعيم هاهنا حديث الغول التي كانت تسرق التمر من جماعة من أصحابه ﷺ ويريدون إحضارها إليه فتمتنع كل الامتناع خوفا من المثول بين يديه، ثم افتدت منهم بتعليمهم قراءة آية الكرسي التي لا يقرب قارئها الشيطان.
وقد سقنا ذلك بطرقه وألفاظه عند تفسير آية الكرسي من كتابنا التفسير ولله الحمد.
والغول هي الجن المتبدي بالليل في صورة مرعبة.
وذكر أبو نعيم هاهنا حماية جبريل له عليه السلام غير ما مرة من أبي جهل كما ذكرنا في السيرة، وذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن يمينه وشماله يوم أحد.
وأما ما جمع الله تعالى لسليمان من النبوة والملك كما كان أبوه من قبله فقد خير الله عبده محمدا ﷺ بين أن يكون ملكا نبيا، أو عبدا رسولا، فاستشار جبريل في ذلك فأشار إليه وعليه أن يتواضع فاختار أن يكون عبدا رسولا.
وقد روى ذلك من حديث عائشة وابن عباس، ولا شك أن منصب الرسالة أعلى، وقد عرضت على نبينا ﷺ كنوز الأرض فأباها.
قال: « ولو شئت لأجرى الله معي جبال الأرض ذهبا ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ».
وقد ذكرنا ذلك كله بأدلته وأسانيده في التفسير وفي السيرة أيضا ولله الحمد والمنة.
وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا طرفا منها من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « بينا أنا نائم جيء بمفاتيح خزائن الأرض فجعلت في يدي ».
ومن حديث الحسين بن واقد عن الزبير عن جابر مرفوعا: « أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل عليه قطيفة من سندس ».
ومن حديث القاسم عن أبي لبابة مرفوعا: « عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ».
قال أبو نعيم: فإن قيل سليمان عليه السلام كان يفهم كلام الطير والنملة.
كما قال تعالى: { وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير } [203].
وقال: { حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها } [204].
قيل: قد أعطي محمد ﷺ مثل ذلك وأكثر منه، فقد تقدم ذكرنا لكلام البهائم والسباع، وحنين الجذع ورغاء البعير، وكلام الشجر وتسبيح الحصا والحجر، ودعائه إياه واستجابته لأمره، وإقرار الذئب بنبوته وتسبيح الطير لطاعته، وكلام الظبية وشكواها إليه، وكلام الضـب وإقراره بنبوته وما في معناه، كل ذلك قد تقدم في الفصول بما يغني عن إعادته انتهى كلامه.
قلت: وكذلك أخبره ذراع الشاة بما فيه من السم، وكان ذلك بإقرار من وضعه فيه من اليهود.
وقال: إن هذه السحابة لتبتهل بنصرك يا عمرو بن سالم - يعني: الخزاعي - حين أنشده تلك القصيدة يستعديه فيها على بني بكر الذين نقضوا صلح الحديبية، وكان ذلك سبب فتح مكة كما تقدم.
وقال ﷺ: « إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن » فهذا إن كان كلاما مما يليق بحاله ففهم عنه الرسول ذلك، فهو من هذا القبيل وأبلغ لإقامة جماد بالنسبة إلى الطير والنمل لأنهما من الحيوانات ذوات الأرواح، وإن كان سلاما نطقيا وهو الأظهر فهو أعجب من هذا الوجه أيضا.
كما قال علي: خرجت مع رسول الله ﷺ في بعض شعاب مكة فما مر بحجر ولا شجر، ولا مدر، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
فهذا النطق سمعه رسول الله ﷺ وعلي رضي الله عنه.
ثم قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن محمد بن الحارث العنبري، حدثنا أحمد بن يوسف بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن سويد النخعي، حدثنا عبد الله بن أذينة الطائي عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معلاة بن جبل قال: أتى النبي ﷺ وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه، فقال: « من أنت؟ »
فقال: أنا عمرو بن فهران كنا سبعة إخوة، وكلنا ركبنا الأنبياء، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكني رجل من اليهود وكنت إذ أذكرك عثرت به فيوجعني ضربا.
فقال النبي ﷺ: « فأنت يعفور ».
وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ولا يحتاج إلى ذكره مع ما تقدم من الأحاديث الصحيحة التي فيها غنية عنه.
وقد روى على غير هذه الصفة وقد نص على نكارته ابن أبي حاتم عن أبيه والله أعلم.
القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام
ويسمى المسيح فقيل: لمسحه الأرض.
وقيل: لمسح قدمه.
وقيل: لخروجه من بطن أمه ممسوحا بالدهان.
وقيل: لمسح جبريل بالبركة.
وقيل: لمسح الله الذنوب عنه.
وقيل: لأنه كان لا يمسح أحدا إلا برأ.
حكاها كلها الحافظ أبو نعيم رحمه الله.
ومن خصائصه أنه عليه السلام مخلوق بالكلمة من أنثى بلا ذكر، كما خلقت حواء من ذكر بلا أنثى، وكما خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وإنما خلقه الله تعالى من تراب، ثم قال له: « كن فيكون ». وكذلك يكون عيسى بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق منها عيسى، ومن خصائصه وأمه أن إبليس - لعنه الله - حين ولد ذهب يطعن فطعن في الحجاب كما جاء في الصحيح. ومن خصائصه أنه حي لم يمت وهو الآن بجسده في السماء الدنيا، وسينزل قبل يوم القيامة على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، ثم يموت ويدفن بالحجرة النبوية كما رواه الترمذي، وقد بسطنا ذلك في قصته. وقال شيخنا العلامة ابن الزملكاني رحمه الله: وأما معجزات عيسى عليه السلام فمنها إحياء الموتى، وللنبي ﷺ من ذلك كثير، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت.
وقد كلم النبي ﷺ الذراع المسمومة وهذا الإحياء أبلغ من إحياء الإنسان الميت من وجوه أحدها: أنه إحياء جزء من الحيوان دون بقيته وهذا معجز لو كان متصلا بالبدن.
الثاني: أنه أحياه وحده منفصلا عن بقية أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية.
الثالث: أنه أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل ولم يكن هذا الحيوان يعقل في حياته الذي هو جزؤه مما يتكلم، وفي هذا ما هو أبلغ من حياة الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ﷺ.
قلت: وفي حلول الحياة والإدراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطب النبي ﷺ بالسلام عليه كما روي في صحيح مسلم من المعجز ما هو أبلغ من إحياء الحيوان في الجملة، لأنه كان محلا للحياة في وقت بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليم الأحجار والمدر عليه وكذلك الأشجار والأغصان وشهادتها بالرسالة، وحنين الجذع.
وقد جمع ابن أبي الدنيا كتابا فيمن عاش بعد الموت وذكر منها كثيرا، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض يعقل فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه وسجيناه وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله.
فقالت: وما ذاك أمات ابني؟
قلنا: نعم.
قالت: أحق ما تقولون؟
قلنا: نعم، فمدت يدها إلى الله تعالى فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعينني عند كل شدة ورخاء، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم.
قال: فكشف الرجل عن وجهه وقعد وما برحنا حتى أكلنا معه.
وهذه القصة قد تقدم التنبيه عليها في دلائل النبوة، وقد ذكر معجز الطوفان مع قصة العلاء بن الحضرمي، وهذا السياق الذي أورده شيخنا ذكر بعضه بالمعنى، وقد رواه أبو بكر ابن أبي الدنيا، والحافظ أبو بكر البيهقي من غير وجه عن صالح بن بشير المري أحد زهاد البصرة وعبادها، وفي حديثه لين عن ثابت، عن أنس فذكره.
وفي رواية البيهقي أن أمه كانت عجوزا عمياء ثم ساقه البيهقي من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس كما تقدم وسياقه أتم، وفيه أن ذلك كان بحضرة رسول الله ﷺ وهذا إسناد رجاله ثقات ولكن فيه انقطاع بين عبد الله بن عون وأنس والله أعلم.
قصة أخرى:
قال الحسن بن عرفة: حدثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي سبرة النخعي قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في بعض الطريق نفق حماره، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللهم إني جئت من المدينة مجاهدا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة أطلب إليك اليوم أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه.
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة.
قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن عبيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي وكأنه عند إسماعيل من الوجهين والله أعلم.
قلت: كذلك رواه ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل عن الشعبي فذكره، قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع في الكناسة - يعني: بالكوفة -.
وقد أوردها ابن أبي الدنيا من وجه آخر، وأن ذلك كان في زمن عمر بن الخطاب، وقد قال بعض قومه في ذلك:
ومنا الذي أحي الإله حماره * وقد مات منه كل عضو ومفصل
وأما قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للنبي ﷺ ولأبي بكر، وعمر، وعثمان بالصدق فمشهورة مروية من وجوه كثيرة صحيحة.
قال البخاري في التاريخ الكبير: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري شهد بدرا وتوفي في زمن عثمان وهو الذي تكلم بعد الموت.
وروى الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائله وصححه كما تقدم من طريق العتبي عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب أن زيد بن خارجة الأنصاري ثم من الحارث بن الخزرج، توفي زمن عثمان بن عفان فسجي بثوبه ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: أحمد في الكتاب الأول صدق صدق، أبو بكر الضعيف في نفسه القوي في أمر الله، في الكتاب الأول صدق صدق، عمر بن الخطاب القوي في الكتاب الأول صدق صدق، عثمان بن عفان على منهاجهم مضت أربع وبقيت اثنتان، أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف وقامت الساعة، وسيأتيكم عن جيشكم خير.
قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: ثم هلك رجل من بني حطمة، فسجي بثوبه فسمع جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: إن أخا بني حارث بن الخزرج صدق صدق.
ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأطول.
وصححه البيهقي قال: وقد روى في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة والله أعلم.
قلت: قد ذكرت في قصة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الألف منها ومن قليل شعير ما تقدم.
وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر في كتابه الغرائب والعجائب بسنده كما سبق أن رسول الله ﷺ جمع عظامها ثم دعا الله تعالى فعادت كما كانت فتركها في منزله والله أعلم.
قال شيخنا: ومن معجزات عيسى الإبراء من الجنون، وقد أبرأ النبي ﷺ يعني من ذلك هذا آخر ما وجدته فيما حكيناه عنه.
فأما إبراء عيسى من الجنون فما أعرف فيه نقلا خاصا وإنما كان يبرئ الأكمه والأبرص، والظاهر ومن جميع العاهات والأمراض المزمنة.
وأما إبراء النبي ﷺ من الجنون فقد روى الإمام أحمد والحافظ البيهقي من غير وجه عن يعلى بن مرة أن امرأة أتت بابن لها صغير به لمم ما رأيت لمما أشد منه فقالت: يا رسول الله ابني هذا كما ترى أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يوجد منه في اليوم ما يؤذي، ثم قالت: مرة.
فقال رسول الله ﷺ: « ناولينيه » فجعلته بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه ونفث فيه ثلاثا وقال: « بسم الله أنا عبد الله إخسأ عدو الله ».
ثم ناولها إياه فذكرت أنه برئ من ساعته، وما رابهم شيء بعد ذلك.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة عن فرقد السبخي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا.
قال: فمسح رسول الله ﷺ صدره ودعا له فسغ سغة فخرج منه مثل الجرو الأسود فشفي.
غريب من هذا الوجه وفرقد فيه كلام، وإن كان من زهاد البصرة، لكن ما تقدم له شاهد وإن كانت القصة واحدة والله أعلم.
وروى البزار من طريق فرقد أيضا عن سعد بن عباس قال: كان النبي ﷺ بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت: يا رسول الله إن هذا الخبيث قد غلبني.
فقال لها: « تصبري على ما أنت عليه وتجيئي يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب ».
فقالت: والذي بعثك بالحق لأصبرن حتى ألقى الله ثم قالت: إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، وكانت إذا أحست أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها وتقول له: إخسأ فيذهب عنها.
وهذا دليل على أن فرقد قد حفظ فإن هذا له شاهد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عطاء ابن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟
قلت: بلى.
قال: هذه السوداء أتت رسول الله ﷺ فقالت: إني أصرع وأنكشف فادع الله لي.
قال: « إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ».
قالت: لا بل أصبر فادع الله أن لا أنكشف.
قال: فدعا لها، فكانت لا تنكشف.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا مخلد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة.
وذكر الحافظ ابن الأثير في كتاب أسد الغابة في أسماء الصحابة: أن أم زفر هذه كانت ماشطة لخديجة بنت خويلد وأنها عمرت حتى رآها عطاء ابن أبي رباح - رحمهما الله تعالى -.
وأما إبراء عيسى الأكمه وهو الذي يولد أعمى، وقيل: هو الذي لا يبصر في النهار ويبصر في الليل، وقيل غير ذلك كما بسطنا ذلك في التفسير.
والأبرص الذي به بهق، فقد رد رسول الله ﷺ يوم أحد عين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد ما سالت على خده، فأخذها في كفه الكريم وأعادها إلى مقرها فاستمرت بحالها وبصرها وكانت أحسن عينيه رضي الله عنه.
كما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة وغيره، وكذلك بسطناه ثم ولله الحمد والمنة وقد دخل بعض ولده وهو عاصم بن عمر بن قتادة على عمر بن عبد العزيز فسأل عنه، فأنشأ يقول:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها * فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
فقال عمر بن عبد العزيز:
تلك المكارم لاقعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ثم أجازه فأحسن جائزته.
وقد روى الدارقطني أن عينيه أصيبتا معا حتى سالتا على خديه فردهما رسول الله ﷺ إلى مكانهما والمشهور الأول كما ذكر ابن إسحاق.
قصة الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول
قال الإمام أحمد: حدثنا روح وعثمان بن عمر قالا: حدثنا شعبة عن أبي جعفر المديني سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضريرا أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أدع الله لي أن يعافيني.
فقال: « إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت ».
قال: بل أدع الله لي.
قال: فأمره رسول الله ﷺ أن يتوضأ ويصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني أتوجه به في حاجتي هذه فتقضى.
وقال في رواية عثمان بن عمر: فشفعه في.
قال: ففعل الرجل فبرأ.
ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر الخطمي.
وقد رواه البيهقي عن الحاكم بسنده إلى أبي جعفر الخطمي، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف فذكر نحوه.
قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأن لم يكن به ضر قط.
قصة أخرى:
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبد العزيز بن عمر، حدثني رجل من بني سلامان بن سعد عن أمه، عن خاله أو أن خاله أو خالها حبيب بن قريط، حدثها أن أباه خرج إلى رسول الله ﷺ وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا.
فقال له: « ما أصابك؟ »
قال: كنت حملا لي فوقعت رجلي على بيض حية فأصيب بصري.
فنفث رسول الله ﷺ في عينيه فأبصر، فرأيته وإنه ليدخل الخيط في الإبرة وإنه لابن ثمانين سنة وإن عينيه لمبيضتان.
قال البيهقي وغيره: يقول حبيب بن مدرك وثبت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ نفث في عيني علي يوم خيبر وهو أرمد فبرأ من ساعته، ثم لم يرمد بعدها أبدا، ومسح رجل جابر بن عتيك وقد انكسرت رجله ليلة قتل أبا رافع تاجر أهل الحجاز الخيبري فبرأ من ساعته أيضا.
وروى البيهقي أنه ﷺ مسح يد محمد بن حاطب وكانت قد احترقت بالنار فبرأ من ساعته، ومسح رجل سلمة بن الأكوع وقد أصيبت يوم خيبر فبرأت من ساعتها، ودعا لسعد ابن أبي وقاص أن يشفى من مرضه ذلك فشفي.
وروى البيهقي أن عمه أبا طالب مرض فسأل منه ﷺ أن يدعو له ربه فدعا له فشفي من مرضه ذلك، وكم له من مثلها وعلى مسلكها من إبراء آلام، وإزالة أسقام، مما يطول شرحه وبسطه.
وقد وقع في كرامات الأولياء إبراء الأعمى بعد الدعاء عليه بالعمى أيضا.
كما رواه الحافظ ابن عساكر من طريق أبي سعيد بن الأعرابي عن أبي داود، حدثنا عمر بن عثمان، حدثنا بقية عن محمد بن زياد، عن أبي مسلم أن امرأة خبثت عليه امرأته فدعا عليها فذهب بصرها، فأتته فقالت: يا أبا مسلم إني كنت فعلت وفعلت وإني لا أعود لمثلها، فقال: اللهم إن كانت صادقة فاردد عليها بصرها، فأبصرت.
ورواه أيضا من طريق أبي بكر ابن أبي الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن واقد، حدثنا ضمرة، حدثنا عاصم، حدثنا عثمان بن عطاء قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل منزله فإذا بلغ وسط الدار كبر وكبرت امرأته، فإذا دخل البيت كبر وكبرت امرأته، فيدخل فينزع رداءه وحذاءه وتأتيه بطعام يأكل، فجاء ذات ليلة فكبر فلم تجبه، ثم جاء إلى باب البيت فكبر وسلم فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود تنكت في الأرض به، فقال لها: مالك؟
فقالت: الناس بخير وأنت لو أتيت معاوية فيأمر لنا بخادم ويعطيك شيئا تعيش به.
فقال: اللهم من أفسد علي أهلي فأعم بصره.
قال: وكانت أتتها امرأة فقالت لامرأة أبي مسلم: لو كلمت زوجك ليكلم معاوية فيخدمكم ويعطيكم.
قال: فبينما هذه المرأة في منزلها والسراج مزهو إذ أنكرت بصرها فقالت: سراجكم طفئ؟
قالوا: لا.
قالت: إن الله أذهب بصري فأقبلت كما هي إلى أبي مسلم فلم تزل تناشده وتتلطف إليه، فدعا الله فرد بصرها، ورجعت امرأته على حالها التي كانت عليها.
وأما قصة المائدة التي قال الله تعالى: { قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } [205].
وقد ذكرنا في التفسير بسط ذلك واختلاف المفسرين فيها هل نزلت أم لا على قولين، والمشهور عن الجمهور أنها نزلت واختلف فيما كان عليها من الطعام على أقوال، وذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير الذي فتح البلاد المغربية أيام بني أمية وجد المائدة، ولكن قيل: إنها مائدة سليمان بن داود مرصعة بالجواهر وهي من ذهب، فأرسل بها إلى الوليد بن عبد الملك فكانت عنده حتى مات، فتسلمها أخوه سليمان، وقيل: إنها مائدة عيسى لكن يبعد هذا أن النصارى لا يعرفون المائدة كما قاله غير واحد من العلماء والله أعلم.
والمقصود أن المائدة سواء كانت قد نزلت أم لم تنزل، وقد كانت موائد رسول الله ﷺ تمد من السماء، وكانوا يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يديه، وكم قد أشبع من طعام يسير ألوفا ومئات وعشرات ﷺ ما تعاقبت الأوقات، وما دامت الأرض والسموات.
وهذا أبو مسلم الخولاني وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخه أمرا عجيبا، وشأنا غريبا حيث روي من طريق إسحاق بن يحيى الملطي عن الأوزاعي قال: أتى أبا مسلم الخولاني نفر من قومه فقالوا: يا أبا مسلم أما تشتاق إلى الحج؟
قال: بلى لو أصبت لي أصحابا.
فقالوا: نحن أصحابك.
قال: لستم لي بأصحاب، إنما أصحابي قوم لا يريدون الزاد ولا المزاد.
فقالوا: سبحان الله وكيف يسافر أقوام بلا زاد ولا مزاد؟
قال لهم: ألا ترون إلى الطير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد والله يرزقها، وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها.
قال: فقالوا: فإنا نسافر معك.
قال: فهبوا على بركة الله تعالى.
قال: فغدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاد ولا مزاد، فلما انتهوا إلى المنزل قالوا: يا أبا مسلم طعام لنا وعلف لدوابنا.
قال: فقال لهم: نعم، فسجا غير بعيد فيمم مسجد أحجار فصلى فيه ركعتين ثم جثى على ركبتيه فقال: إلهي قد تعلم ما أخرجني من منزلي وإنما خرجت آمرا لك، وقد رأيت البخيل من ولد آدم تنزل به العصابة من الناس فيوسعهم قرى وإنا أضيافك وزوارك فأطعمنا واسقنا واعلف دوابنا.
قال: فأتى بسفرة مدت بين أيديهم، وجيء بجفنة من ثريد، وجيء بقلتين من ماء، وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به، فلم تزل تلك حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتى رجعوا لا يتكلفون زادا ولا مزادا.
فهذه حال ولي من هذه الأمة نزل عليه وعلى أصحابه مائدة كل يوم مرتين مع ما يضاف إليها من الماء والعلوفة لدواب أصحابه، وهذا اعتناء عظيم، وإنما نال ذلك ببركة متابعته لهذا النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم -.
وأما قوله عن عيسى بن مريم عليه السلام: أنه قال لبني إسرائيل: { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [206].
فهذا شيء يسير على الأنبياء بل وعلى كثير من الأولياء، وقد قال يوسف الصديق لذينك الفتيين المحبوسين معه: { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [207].
وقد أخبر رسول الله ﷺ بالأخبار الماضية طبق ما وقع، وعن الأخبار الحاضرة سواء بسواء، كما أخبر عن أكل الأرضة لتلك الصحيفة الظالمة التي كانت بطون قريش قديما كتبتها على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب حتى يسلموا إليهم رسول الله ﷺ وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة فأرسل الله الأرضة فأكلتها إلا مواضع اسم الله تعالى، وفي رواية فأكلت اسم الله منها تنزيها لها أن تكون مع الذي فيها من الظلم والعدوان، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ عمه أبا طالب وهم بالشعب، فخرج إليهم أبو طالب وقال لهم عما أخبرهم به.
فقالوا: إن كان كما قال، وإلا فسلموه إلينا.
فقالوا: نعم، فأنزلوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر عنها رسول الله ﷺ سواء بسواء، فأقلعت بطون قريش عما كانوا عليه لبني هاشم وبني المطلب، وهدى الله بذلك خلقا كثيرا، وكم له مثلها كما تقدم بسطه وبيانه في مواضع من السيرة وغيرها ولله الحمد والمنة.
وفي يوم بدر لما طلب من العباس عمه فداء ادعى أنه لا مال له.
فقال له: فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل تحت أسكفة الباب وقلت لها: إن قتلت فهو للصبية.
فقال: والله يا رسول الله إن هذا شيء لم يطلع عليه غيري وغير أم الفضل إلا الله عز وجل.
وأخبر بموت النجاشي يوم مات وهو بالحبشة وصلى عليه.
وأخبر عن قتل الأمراء يوم مؤتة واحدا بعد واحد وهو على المنبر وعيناه تذرفان.
وأخبر عن الكتاب الذي أرسل به حاطب بن بلتعة مع شاكر مولى بني عبد المطلب، وأرسل في طلبها عليا، والزبير، والمقداد، فوجدوها قد جعلته في عقاصها، وفي رواية في حجزتها، وقد تقدم ذلك في غزوة الفتح.
وقال لأميري كسرى اللذين بعث بهما نائب اليمن لكسرى ليستعلما أمر رسول الله ﷺ: « إن ربي قد قتل الليلة ربكما » فأرخا تلك الليلة، فإذا كسرى قد سلط الله عليه ولده فقتله، فأسلما وأسلم نائب اليمن، وكان سبب ملك اليمن لرسول الله ﷺ.
وأما إخباره ﷺ عن الغيوب المستقبلة فكثيرة جدا كما تقدم بسط ذلك، وسيأتي في أنباء التواريخ ليقع ذلك طبق ما كان سواء.
وذكر ابن حامد في مقابلة جهاد عيسى عليه الصلاة والسلام جهاد رسول الله ﷺ وفي مقابلة زهد عيسى عليه الصلاة والسلام زهادة رسول الله ﷺ عن كنوز الأرض حين عرضت عليه فأباها وقال: « أجوع يوما وأشبع يوما ».
وأنه كان له ثلاث عشرة زوجة يمضي عليهن الشهر والشهران لا توقد عندهن نار ولا مصباح، إنما هو الأسودان التمر والماء، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وما شبعوا من خبز بر ثلاث ليال تباعا وكان فراشه من أدم حشوه ليف، وربما اعتقل الشاة فيحلبها، ورقع ثوبه، وخصف نعله بيده الكريمة - صلوات الله وسلامه عليه - ومات ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لأهله، هذا وكم آثر بآلاف مؤلفة والإبل والشاء والغنائم والهدايا على نفسه وأهله للفقراء، والمحاويج والأرامل والأيتام والأسرى، والمساكين.
وذكر أبو نعيم في مقابلة تبشير الملائكة لمريم الصديقة بوضع عيسى، ما بشرت به آمنة أم رسول الله ﷺ حين حملت به في منامها، وما قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فسميه محمدا، وقد بسطنا ذلك في المولد كما تقدم.
وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا حديثا غريبا مطولا بالمولد أحببنا أن نسوقه ليكون الختام نظير الافتتاح وبالله المستعان وعليه التكلان، ولله الحمد.
فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حفص بن عمرو بن الصباح، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي، أنا أبو بكر ابن أبي مريم عن سعيد بن عمر الأنصاري، عن أبيه قال: قال ابن عباس: فكان من دلالات حمل محمد ﷺ أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة: قد حمل برسول الله ﷺ ورب الكعبة، وهو أمان الدنيا، وسراج أهلها، ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، والملك مخرسا لا ينطق يومه لذلك، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشر بعضهم بعضا، وفي كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السموات: أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا.
قال: وبقي في بطن أمه تسعة أشهر، وهلك أبوه عبد الله وهو في بطن أمه، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا بقي نبيك هذا يتيما.
فقال الله تعالى للملائكة: « أنا له ولي وحافظ ونصير » فتبركوا بمولده ميمونا مباركا، وفتح الله لمولده أبواب السماء وجناته، وكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتى لي آت حين مر لي من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال: يا آمنة إنك حملت بخير العالمين طرا، فإذا ولدتيه فسميه محمدا أو النبي، شأنك.
قال: وكانت تحدث عن نفسها وتقول: لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافه، قالت: فسمعت وجبة شديدة وأمرا عظيما فهالني ذلك وذلك يوم الإثنين، ورأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي فذهب كل رعب وكل فزع ووجل كنت أجد، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا وكنت عطشانة فتناولتها فشربتها فأصابني نور عال ثم رأيت نسوة كالنخل الطوال كأنهن من بنات عبد المطلب يحدقن بي، فبينا أنا أعجب وأقول: واغوثاه من أين علمن بي واشتد بي الأمر، وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول، وإذا أنا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول: خذوه عن أعين الناس.
قالت: رأيت رجالا وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة، وأنا يرشح مني عرق كالجمان أطيب ريحا من المسك الأزفر، وأنا أقول: ياليت عبد المطلب قد دخل علي.
قالت: ورأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من اليواقيت، فكشف الله لي عن بصيرتي فأبصرت من ساعتي مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاث علامات مضروبات: علم بالمشرق، وعلم بالمغرب، وعلم على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض واشتد بي الطلق جدا، فكنت كأني مسندة إلى أركان النساء، وكثرن علي حتى كأني مع البيت وأنا لا أرى شيئا، فولدت محمدا، فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه فإذا هو ساجد وقد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء تنزل حتى غشيته فغيب عن عيني، فسمعت مناديا ينادي يقول: طوفوا بمحمد ﷺ شرق الأرض وغربها وأدخلوه البحار كلها ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ويعلموا أنه سمي الماحي لا يبقي شيء من الشرك إلا محي به.
قالت: ثم تخلوا عنه في أسرع وقت، فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض أشد بياضا من اللبن، وتحته حريرة خضراء، وقد قبض محمد ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض وإذا قائل يقول: قبض محمد مفاتيح النصر، ومفاتيح الريح، ومفاتيح النبوة، هكذا أورده وسكت عليه وهو غريب جدا.
وقال الشيخ جمال الدين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن منصور بن عمر الأنصاري الصرصري الماهر الحافظ للأحاديث واللغة ذو المحبة الصادقة لرسول الله ﷺ: فلذلك يشبه في عصره بحسان بن ثابت رضي الله عنه وفي ديوانه المكتوب عنه في مديح رسول الله ﷺ وقد كان ضرير البصر بصير البصيرة، وكانت وفاته ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة قتله التتار في كل بنة بغداد كما سيأتي ذلك في موضعه في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
قال في قصيدته من حرف الحاء المهملة من ديوانه
محمد المبعوث للناس رحمة * يشيد ما أوهى الضلال ويصلح
لئن سبحت صم الجبال مجيبة * لداود أو لان الحديد المصفح
فإن الصخور الصم لانت بكفه * وإن الحصا في كفه ليسبح
وإن كان موسى أنبع الماء من العصا * فمن كفه قد أصبح الماء يطفح
وإن كانت الريح الرخاء مطيعة * سليمان لا تألو تروح وتسرح
فإن الصبا كانت لنصر نبينا * برعب على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملك العظيم وسخرت * له الجن تشفي مارضيه وتلدح
فإن مفاتيح الكنوز بأسرها * أتته فرد الزاهد المترجح
وإن كان إبراهيم أعطي خلة * وموسى بتكليم على الطور يمنح
فهذا حبيب بل خليل مكلم * وخصص بالرؤيا وبالحق أشرح
وخصص بالحوض العظيم وباللوا * ويشفع للعاصين والنار تلفح
وبالمقعد الأعلى المقرب عنده * عطاء ببشراه أقر وأفرح
وبالرتبة العليا الأسيلة دونها * مراتب أرباب المواهب تلمح
وفي جنة الفردوس أول داخل * له سائر الأبواب بالخار تفتح
وهذا آخر ما يسر الله جمعه من الأخبار بالمغيبات التي وقعت إلى زماننا مما يدخل في دلائل النبوة والله الهادي، وإذا فرغنا إن شاء الله من إيراد الحادثات من بعد موته عليه السلام إلى زماننا نتبع ذلك بذكر الفتن والملاحم الواقعة في آخر الزمان، ثم نسوق بعد ذلك أشراط الساعة، ثم نذكر البعث والنشور، ثم ما يقع يوم القيامة من الأهوال، وما فيه من العظمة، ونذكر الحوض والميزان والصراط، ثم نذكر صفة النار، ثم صفة الجنة.
كتاب تاريخ الإسلام الأول من الحوادث الواقعة في الزمان ووفيات المشاهير والأعيان سنة إحدى عشرة من الهجرة
تقدم ما كان في ربيع الأول منها من وفاة رسول الله ﷺ في يوم الإثنين وذلك لثاني عشر منه على المشهور، وقد بسطنا الكلام في ذلك بما فيه كفاية وبالله التوفيق.
خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث
قد تقدم أن رسول الله ﷺ توفي يوم الإثنين وذلك ضحى، فاشتغل الناس ببيعة أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، ثم في المسجد البيعة العامة في بقية يوم الإثنين وصبيحة الثلاثاء كما تقدم ذلك بطوله، ثم أخذوا في غسل رسول الله ﷺ وتكفينه والصلاة عليه - ﷺ تسليما - بقية يوم الثلاثاء، ودفنوه ليلة الأربعاء كما تقدم ذلك مبرهنا في موضعه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله ﷺ ولكني قد كنت أرى أن رسول الله ﷺ سيدبر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسول الله ﷺ فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ﷺ وثاني إثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله، وهذا إسناد صحيح وقد اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على بيعة الصديق في ذلك الوقت، حتى علي ابن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما.
والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني، ثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر ابن خزيمة وإبراهيم ابن أبي طالب قالا: ثنا بندار بن يسار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وهيب، ثنا داود ابن أبي هند، ثنا أبو نصرة عن أبي سعيد الخدري قال: قبض رسول الله ﷺ واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر.
قال فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أنا أنصار رسول الله ﷺ فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره.
قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم، ولو قلتم غير هذا لم نبايعكم، فأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصار.
وقال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال: فدعا الزبير فجاء.
قال: قلت: ابن عمة رسول الله ﷺ أردت أن تشق عصا المسلمين؟
قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا فدعا بعلي ابن أبي طالب.
قال: قلت: ابن عم رسول الله ﷺ وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين؟
قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعه هذا أو معناه.
قال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت ابن خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث فكتبته له في رقعة وقرأت عليه.
فقال: هذا حديث يساوي بدنة.
فقلت: يسوي بدنة بل هذا يسوي بدرة.
وقد رواه الإمام أحمد عن الثقة، عن وهيب مختصرا.
وأخرجه الحاكم في مستدركه من طريق عفان بن مسلم عن وهيب مطولا كنحو ما تقدم.
وروينا من طريق المحاملي عن القاسم بن سعيد بن المسيب، عن علي بن عاصم، عن الحريري، عن أبي نصرة، عن أبي سعيد فذكره مثله في مبايعة علي والزبير رضي الله عنهما يومئذ.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير.
ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته.
وقال علي والزبير: ما تأخرنا إلا لأننا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله ﷺ بالصلاة بالناس وهو حي وهذا اللائق بعلي رضي الله عنه والذي يدل عليه الآثار من شهوده معه الصلوات وخروجه معه إلى ذي القصة بعد موت رسول الله ﷺ كما سنورده وبذله له النصيحة والمشورة بين يديه.
وأما ما يأتي من مبايعته إياه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه السلام بستة أشهر فذلك محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله ﷺ في قوله: « لا نورث ما تركنا فهو صدقة » كما تقدم إيراد أسانيده وألفاظه ولله الحمد.
وقد كتبنا هذه الطرق مستقصاة في الكتاب الذي أفردناه في سيرة الصديق رضي الله عنه وما أسنده من الأحاديث عن رسول الله ﷺ وما روى عنه من الأحكام مبوبة على أبواب العلم ولله الحمد والمنة.
وقال سيف بن عمر التميمي: عن أبي ضمرة عن أبيه، عن عاصم بن عدي قال: نادى منادي أبي بكر من الغد من متوفى رسول الله ﷺ: ليتمم بعث أسامة ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جيش أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف.
وقام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إنما أنا مثلكم، وإني لعلكم تكلفونني ما كان رسول الله ﷺ يطيق، إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فبايعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله ﷺ قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، وإن لي شيطانا يعتريني، فإذا أتاني فاجتذوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، وإن استطعتم أن لا يمضي إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، وسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم بعدهم فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجد الجد، النجاة النجاة، الوحا الوحا فإن وراءكم طالبا حثيثا، وأجلا أمره سريع، احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والأخوان، ولا تطيعوا الأحياء إلا بما تطيعوا به الأموات.
قال: وقام أيضا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس، وأين هم اليوم، أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب، قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما، قد تولت عليهم العالات الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم وصاروا كلا شيء، إلا أن الله عز وجل قد أبقى عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلفا بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنا مثلهم، أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم صاروا ترابا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة أو السعادة بعد الموت، ألا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا ولا يصرف به عنه سوءا إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النار ولا تبعد عنه الجنة.
فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد
الذين كانوا قد أمرهم رسول الله ﷺ بالمسير إلى تخوم البلقاء من الشام حيث قتل زيد بن حارثة، وجعفر وابن رواحة، فيغتزوا على تلك الأراضي، فخرجوا إلى الجرف فخيموا به، وكان بينهم عمر بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق فاستثناه رسول الله منهم للصلاة، فلما ثقل رسول الله ﷺ أقاموا هنالك فلما مات عظم الخطب واشتد الحال، ونجم النفاق بالمدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق كما في صحيح البخاري عن ابن عباس كما سيأتي، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام لم يفروا ولا ارتدوا.
والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه، فيما هو أهم لأن ما جهز بسببه في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصديق من ذلك، وأبى أشد الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة.
وقال: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله ﷺ ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدينة، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة، فقاموا أربعين يوما، ويقال: سبعين يوما، ثم أتوا سالمين غانمين، ثم رجعوا فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة وما نعي الزكاة على ما سيأتي تفصيله.
قال سيف بن عمر: عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما بويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه، قال: ليتم بعث أسامة وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم ﷺ وقلتهم وكثرة عدوهم.
فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين.
فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ﷺ ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.
وقد روي هذا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ومن حديث القاسم وعمرة عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله ﷺ ارتدت العرب قاطبة وأشرأبت النفاق، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد ﷺ كأنهم معزى مطيرة في وحش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها، ثم ذكرت عمر فقالت: من رأى عمر علم أنه خلق غنى للإسلام، كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن علي الميموني، ثنا الفريابي، ثنا عباد بن كثير عن أبي الأعرج، عن أبي هريرة قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة.
فقيل له: مه يا أبا هريرة.
فقال: إن رسول الله ﷺ وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله ﷺ وارتدت العرب حول المدينة فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة.
فقال: والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ﷺ ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله، فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الإرتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام - عباد بن كثير هذا أظنه البرمكي - لرواية الفريابي عنه، وهو متقارب الحديث، فأما البصري الثقفي فمتروك الحديث والله أعلم.
وروى سيف بن عمر عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما، عن الحسن البصري أن أبا بكر لما صمم على تجهيز جيش أسامة، قال بعض الأنصار لعمر: قل له فليؤمر علينا غير أسامة، فذكر له عمر ذلك، فيقال: أنه أخذ بلحيته وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أؤمر غير أمير رسول الله ﷺ ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير وسار معهم ماشيا وأسامة راكبا وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق.
فقال أسامة: يا خليفة رسول الله إما أن تركب، وإما أن أنزل.
فقال: والله لست بنازل ولست براكب، ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب وكان مكتتبا في جيشه فأطلقه له، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الأمير.
مقتل الأسود العنسي المتنبي الكذاب
قال أبو جعفر بن جرير: حدثني عمرو بن شيبة النميري، ثنا علي بن محمد - يعني: المدائني - عن أبي معشر ويزيد بن عياض، عن جعد به، وغسان بن عبد الحميد وجويرية بن أسماء عن مشيختهم قالوا: أمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل الأسود في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، فكان ذلك أول فتح فتح أبو بكر وهو بالمدينة.
صفة خروجه وتمليكه ومقتله
قد أسلفنا فيما تقدم أن اليمن كانت لحمير وكانت ملوكهم يسمون التبابعة، وتكلمنا في أيام الجاهلية على طرف صالح من هذا، ثم إن ملك الحبشة بعث أميرين من قواده وهما: أبرهة الأشرم، وأرياط، فتملكا له اليمن من حمير وصار ملكها للحبشة، ثم اختلف هذان الأميران فقتل أرياط واستقل أبرهة بالنيابة وبنى كنيسة سماها العانس لارتفاعها، وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة، فجاء بعض قريش فأحدث في هذه الكنيسة، فلما بلغه ذلك حلف ليخربن بيت مكة، فسار إليه ومعه الجنود والفيل محمود، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه، وقد تقدم بسط ذلك في موضعه، فرجع أبرهة ببعض من بقي من جيشه في أسوأ حال، وشر خيبة وما زال تسقط أعضاؤه أنملة أنملة فلما وصل إلى صنعاء انصدع صدره فمات، فقام بالملك بعده ولده بلسيوم بن أبرهة، ثم أخوه مسروق بن أبرهة، فيقال: إنه استمر ملك اليمن بأيدي الحبشة سبعين سنة، ثم ثار سيف بن ذي يزن الحميري فذهب إلى قيصر ملك الروم يستنصره عليهم فأبى ذلك عليه لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النصرانية، فسار إلى كسرى ملك الفرس فاستغاث به وله معه مواقف ومقامات في الكلام تقدم بسط بعضها، ثم اتفق الحال على أن بعث معه ممن بالسجون طائفة تقدمهم رجل منهم يقال له: وهرز، فاستنقذ ملك اليمن من الحبشة، وكسر مسروق بن أبرهة وقتله، ودخلوا إلى صنعاء وقرروا سيف بن ذي يزن في الملك على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنئه من كل جانب، غير أن لكسرى نوايا على البلاد.
فاستمر الحال على ذلك حتى بعث رسول الله ﷺ فأقام بمكة ما أقام ثم هاجر إلى المدينة فلما كتب كتبه إلى الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكتب في جملة ذلك إلى كسرى ملك الفرس:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فأسلم تسلم إلى آخره.
فلما جاءه الكتاب قال: ما هذا؟
قالوا: هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنه نبي.
فلما فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى غضب كسرى غضبا شديدا وأخذ الكتاب فمزقه قبل أن يقرأه، وكتب إلى عامله على اليمن وكان اسمه باذام: أما بعد فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قبلك أميري إلى هذا الرجل الذي بجزيرة العرب الذي يزعم أنه نبي فابعثه إلي في جامعة، فلما جاء الكتاب إلى باذام بعث من عنده أميرين عاقلين، وقال: إذهبا إلى هذا الرجل فانظرا ما هو؟ فإن كان كاذبا فخذاه في جامعة حتى تذهبا به إلى كسرى، وإن كان غير ذلك فارجعا إلي فأخبراني ما هو حتى أنظر في أمره.
فقدما على رسول الله ﷺ إلى المدينة فوجداه على أسد الأحوال وأرشدها، ورأيا منه أمورا عجيبة يطول ذكرها، ومكثا عنده
شهرا حتى بلغا ما جاءا له، ثم تقاضاه الجواب بعد ذلك.
فقال لهما: « إرجعا إلى صاحبكما فأخبراه أن ربي قد قتل الليلة ربه » فأرخا ذلك عندهما، ثم رجعا سريعا إلى اليمن فأخبرا باذام بما قال لهما.
فقال: أحصوا تلك الليلة، فإن ظهر الأمر كما قال فهو نبي، فجاءت الكتب من عند ملكهم أنه قد قتل كسرى في ليلة كذا وكذا لتلك الليلة، وكان قد قتله بنوه، ولهذا قال بعض الشعراء:
وكسرى إذ تقاسمه بنوه * بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم * أنى ولكل حاملة تمام
وقام بالملك بعده ولده يزدجرد، وكتب إلى باذام أن خذ لي البيعة من قبلك، واعمد إلى ذلك الرجل فلا تهنه، وأكرمه، فدخل الإسلام في قلب باذام وذريته من أبناء فارس ممن باليمن، وبعث إلى رسول الله ﷺ بإسلامه، فبعث إليه رسول الله ﷺ بنيابة اليمن بكمالها، فلم يعزله عنها حتى مات، فلما مات استناب ابنه شهر بن باذام على صنعاء وبعض مخاليف، وبعث طائفة من أصحابه نوابا على مخاليف أخر، فبعث أولا في سنة عشر عليا وخالدا، ثم أرسل معاذا وأبا موسى الأشعري وفرق عمالة اليمن بين جماعة من الصحابة فمنهم: شهر بن باذام، وعامر بن شهر الهمذاني على همذان، وأبو موسى على مأرب، وخالد بن سعيد بن العاص على عامر نجران، ورفع وزبيد ويعلى ابن أمية على الجند، والطاهر ابن أبي هالة على عك والأشعريين، وعمرو بن حرام على نجران، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد، وعلى السكاسك عكاشة بن مور بن أخضر، وعلى السكون معاوية بن كندة، وبعث معاذ بن جبل معلما لأهل البلدين اليمن وحضرموت يتنقل من بلد إلى بلد، ذكره سيف بن عمر، وذلك كله في سنة عشر، وآخر حياة رسول الله ﷺ فبينما هم على ذلك إذ نجم هذا اللعين الأسود العنسي.
خروج الأسود العنسي
واسمه عبهلة بن كعب بن غوث من بلد يقال لها: كهف حنان في سبعمائة مقاتل وكتب إلى عمال النبي ﷺ أيها المتمردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثم ركب فتوجه إلى نجران فأخذها بعد عشر ليال من مخرجه، ثم قصد إلى صنعاء فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا فغلبه الأسود وقتله، وكسر جيشه من الأبناء، واحتل بلدة صنعاء لخمس وعشرين ليلة من مخرجه، ففر معاذ بن جبل من هنالك، واجتاز بأبي موسى الأشعري فذهبا إلى حضرموت، وانحاز عمال رسول الله ﷺ إلى الطاهر، ورجع عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوثقت اليمن بكمالها للأسود العنسي، وجعل أمره يستطير استطارة الشرارة، وكان جيشه يوم لقي شهرا سبعمائة فارس، وأمراؤه قيس بن عبد يغوث، ومعاوية ابن قيس، ويزيد بن محرم بن حصن الحارثي، ويزيد بن الأفكل الأزدي، واشتد ملكه واستغلظ أمره، وارتد خلق من أهل اليمن، وعامله المسلمون الذين هناك بالتقية، وكان خليفته على مذحج عمرو بن معدي كرب، وأسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي وداذويه، وتزوج بامرأة شهر بن باذام وهي ابنة عم فيروز الديلمي واسمها زاذ، وكانت امرأة حسناء جميلة وهي مع ذلك مؤمنة بالله ورسوله محمد ﷺ ومن الصالحات، قال سيف بن عمر التميمي: وبعث رسول الله ﷺ كتابه حين بلغه خبر الأسود العنسي مع رجل يقال له: وبر بن يحنس الديلمي يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الأسود العنسي ومصاولته، وقام معاذ بن جبل بهذا الكتاب أتم القيام، وكان قد تزوج امرأة من السكون يقال لها: رملة، فحزبت عليه السكون لصبره فيهم، وقاموا معه في ذلك، وبلغوا هذا الكتاب إلى عمال النبي ﷺ ومن قدروا عليه من الناس، واتفق اجتماعهم بقيس بن عبد يغوث أمير الجند، وكان قد غضب على الأسود واستخف به وهم بقتله، وكذلك كان أمر فيروز الديلمي قد ضعف عنده أيضا وكذا داوذيه، فلما أعلم وبر بن نحيس قيس بن عبد يغوث وهو قيس بن مكشوح كان كأنما نزلوا عليه من السماء، ووافقهم على الفتك بالأسود، وتوافق المسلمون على ذلك وتعاقدوا عليه.
فلما أيقن ذلك في الباطن اطلع شيطان الأسود للأسود على شيء من ذلك، فدعا قيس بن مشكوح فقال له: يا قيس ما يقول هذا؟
قال: وما يقول؟
قال: يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك وحاول ملكك، وأضمر على الغدر، إنه يقول: يا أسود يا أسود، يا سوآه يا سوآه، فطف به وخذ من قيس أعلاه وإلا سلبك وقطف رقبتك.
فقال له قيس وحلف له فكذب: وذي الخمار لأنت أعظم في نفسي، وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي.
فقال له الأسود: ما أخالك تكذب الملك فقد صدق الملك، وعرف الآن أنك تائب عما اطلع عليه منك.
ثم خرج قيس من بين يديه فجاء إلى أصحابه فيروز وداوذيه وأخبرهم بما قال له ورد عليه.
فقالوا: إنا كلنا على حذر فما الرأي؟ فبينما هم يشتورون إذ جاءهم رسوله فأحضرهم بين يديه.
فقال: ألم أشرفكم على قومكم؟
قالوا: بلى.
قال: فماذا يبلغني عنكم؟
فقالوا: أقلنا مرتنا هذه.
فقال: لا يبلغني عنكم فأقيلكم.
قال: فخرجنا من عنده ولم نكد وهو في ارتياب من أمرنا، ونحن على خطر فبينما نحن في ذلك إذ جاءتنا كتب من عامر بن شهر أمير همدان، وذي ظليم، وذي كلاع وغيرهم من أمراء اليمن يبذلون لنا الطاعة والنصر على مخالفة الأسود، وذلك حين جاءهم كتاب رسول الله ﷺ يحثهم على مصاولة الأسود العنسي، فكتبنا إليهم أ لا يحدثوا شيئا حتى نبرم الأمر.
قال قيس: فدخلت على امرأته
ازاذ فقلت: يا ابنة عمي قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك قتل زوجك، وطأطأ في قومك القتل، وفضح النساء فهل عندك ممالأة عليه؟
قالت: على أي أمر؟
قلت: إخراجه.
قالت: أو قتله؟
قلت: أو قتلة.
قالت: نعم والله ما خلق الله شخصا هو أبغض إلي منه فما يقوم لله علي حق ولا ينتهي له عن حرمة فإذا عزمتم أخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر.
قال: فأخرج، فإذا فيروز وداوذيه ينتظراني يريدون أن يناهضوه فما استقر اجتماعه بهما حتى بعث إليه الأسود فدخل في عشرة من قومه.
فقال: ألم أخبرك بالحق، وتخبرني بالكذابة إنه يقال: يا سوأة يا سوأة، إن لم تقطع من قيس يده يقطع رقبتك العليا حتى ظن قيس أنه قاتله.
فقال: إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول الله، فقتلي أحب إلي من موتات أموتها كل يوم، فرق له وأمره بالإنصراف، فخرج إلى أصحابه فقال: اعملوا عملكم، فبينما هم وقوف بالباب يشتورون، إذ خرج الأسود عليهم وقد جمع له مائة ما بين بقرة وبعير، فقام وخط وأقيمت من ورائه، وقام دونها فنحرها غير محبسة ولا معلقة ما يقتحم الخط منها شيء، فجالت إلى أن زهقت أرواحها.
قال قيس: فما رأيت أمرا كان أفظع منه ولا يوما أوحش منه.
ثم قال الأسود: أحق ما بلغني عنك يا فيروز؟ لقد هممت أن أنحرك فألحقك بهذه البهيمة، وأبدى له الحربة.
فقال له فيروز: اخترتنا لصهرك، وفضلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبيا ما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الآخرة والدنيا فلا تقبل علينا أمثال ما يبلغك فإنا بحيث تحب.
فرضي عنه وأمره بقسم لحوم تلك الأنعام، ففرقها فيروز في أهل صنعاء ثم أسرع اللحاق به.
فإذا رجل يحرضه على فيروز ويسعى إليه فيه، واستمع له فيروز، فإذا الأسود يقول: أنا قاتله غدا وأصحابه، فاغد علي به، ثم التفت فإذا فيروز فقال: مه، فأخبره فيروز بما صنع من قسم ذلك اللحم فدخل الأسود داره، ورجع فيروز إلى أصحابه فأعلمهم بما سمع، وبما قال، وقيل له، فاجتمع رأيهم على أن عاودوا المرأة في أمره، فدخل أحدهم - وهو فيروز - إليها، فقالت: إنه ليس من الدار بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس، وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجا وسلاحا، فلما خرج من عندها تلقاه الأسود فقال له: ما أدخلك على أهلي؟ ووجأ رأسه، وكان الأسود شديدا فصاحت المرأة فأدهشته عنه، ولولا ذلك لقتله، وقالت: ابن عمي جاءني زائرا.
فقال: اسكتي لا أبالك قد وهبته لك.
فخرج على أصحابه فقال: النجاء النجاء وأخبرهم الخبر، فحاروا ماذا يصنعون، فبعثت المرأة إليهم تقول لهم: لا تنثنوا عما كنتم عازمين عليه، فدخل عليها فيروز الديلمي فاستثبت منها الخبر، ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا داخله بطائن ليهون عليهم النقب من خارج، ثم جلس عندها
جهرة كالزائر فدخل الأسود فقال: وما هذا؟
فقالت: إنه أخي من الرضاعة، وهو ابن عمي، فنهره وأخرجه فرجع إلى أصحابه، فلما كان الليل نقبوا ذلك البيت فدخلوا، فوجدوا فيه سراجا تحت جفنة، فتقدم إليه فيروز الديلمي والأسود نائم على فراش من حرير قد غرق رأسه في جسده، وهو سكران يغط، والمرأة جالسة عنده، فلما قام فيروز على الباب أجلسه شيطانه وتكلم على لسانه - وهو مع ذلك يغط - فقال: مالي ومالك يا فيروز؟
فخشي إن رجع يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ رأسه فدق عنقه، ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله، ثم قام ليخرج إلى أصحابه ليخبرهم فأخذت المرأة بذيله وقالت: أين تذهب عن حرمتك فظنت أنها لم تقتله، فقال: أخرج لأعلمهم بقتله، فدخلوا عليه ليحتزوا رأسه، فحركه شيطانه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأة بشعره، وجعل يبربر بلسانه فاحتز الآخر رقبته، فخار كأشد خوار ثور سمع قط، فابتدر الحرس إلى المقصورة فقالوا: ما هذا؟ ما هذا؟
فقالت المرأة: النبي يوحي إليه، فرجعوا، وجلس قيس داذويه وفيروز يأتمرون كيف يعلمون أشياعهم، فاتفقوا على أنه إذا كان الصباح ينادون بشعارهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلما كان الصباح قام أحدهم وهو قيس على سور الحصن فنادى بشعارهم فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن، فنادى قيس، ويقال: وبر بن يحنش الأذان أشهد أن محمدا رسول الله، وأن عبهلة كذاب وألقى إليهم رأسه، فانهزم أصحابه وتبعهم الناس يأخذونهم، ويرصدونهم في كل طريق يأسرونهم، وظهر الإسلام وأهله، وتراجع نواب رسول الله ﷺ إلى أعمالهم، وتنازع أولئك الثلاثة في الإمارة، ثم اتفقوا على معاذ ابن جبل يصلي بالناس، وكتبوا بالخبر إلى رسول الله ﷺ وقد أطلعه الله على الخبر من ليلته.
كما قال سيف بن عمر التميمي: عن أبي القاسم الشنوي، عن العلاء بن زيد، عن ابن عمر أتى الخبر إلى النبي ﷺ من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي ليبشرنا فقال: « قتل العنسي البارحة قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين ».
قيل: ومن؟
قال: « فيروز، فيروز ».
وقد قيل: إن مدة ملكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر، ويقال: أربعة أشهر فالله أعلم.
وقال سيف بن عمر: عن المستنير، عن عروة، عن الضحاك، عن فيروز قال: قتلنا الأسود وعاد أمرنا في صنعاء كما كان إلا أنا أرسلنا إلى معاذ بن جبل فتراضينا عليه فكان يصلي بنا في صنعاء، فوالله ما صلى بنا إلا ثلاثة أيام حتى أتانا الخبر بوفاة رسول الله ﷺ فانتقضت الأمور وأنكرنا كثيرا مما كنا نعرف واضطربت الأرض.
وقد قدمنا أن خبر العنسي جاء إلى الصديق في أواخر ربيع الأول بعد ما جهز جيش أسامة، وقيل بل جاءت البشارة إلى المدينة صبيحة توفي رسول الله ﷺ والأول أشهر والله أعلم.
والمقصود أنه لم يجئهم فيما يتعلق بمصالحهم واجتماع كلمتهم وتأليف ما بينهم
والتمسك بدين الإسلام إلا الصديق رضي الله عنه.
وسيأتي إرساله إليهم من يمهد الأمور التي اضطربت في بلادهم، ويقوي أيدي المسلمين، ويثبت أركان دعائم الإسلام فيهم - رضي الله عنهم -.
فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة
قد تقدم أن رسول الله ﷺ لما توفي ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد، وطيء، وبشر كثير أيضا.
وادعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب وعظم الخطب، واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وراموا أن يهجموا عليها فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس علي ابن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود.
وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة، ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: « خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ».
قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا * فواعجبا ما بال ملك أبي بكر
وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك وأباه.
وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجه عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ».
فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقا، وفي رواية: عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لأقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
قلت: وقد قال الله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } [208].
وثبت في الصحيحين: « بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ».
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة ابن سوار، ثنا عيسى بن يزيد المديني، حدثني صالح بن كيسان قال: لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمد ﷺ والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرا لشر عندهم، قد غيروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشا، وأضلهم دينا في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمد وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم حتى قبض الله نبيه ﷺ فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم وبغى هلكتهم { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } [209].
إن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم ﷺ وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالا فهداه، وعائلا فأغناه، { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [210].
والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدا من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [211]. ثم نزل.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » الآية
قالوا: المراد بذلك أبو بكر وأصحابه في قتالهم المرتدين ومانعي الزكاة.
وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله ﷺ ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة.
وارتدت أسد، وغطفان، وعليهم طليحة بن خويلد الأسدي الكاهن.
وارتدت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي.
وارتدت مذحج ومن يليها وعليهم الأسود بن كعب العنسي الكاهن.
وارتدت ربيعة مع المعرور ابن النعمان بن المنذر.
وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذاب.
وارتدت سليم مع الفجأة واسمه أنس بن عبد ياليل.
وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة.
وقال القاسم بن محمد: اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة الأسدي، وبعثوا وفودا إلى المدينة، فنزلوا على وجوه الناس فأنزلوهم إلا العباس، فحملوا بهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم، فردهم، فرجعوا إلى عشائرهم فأخبروهم بقلة أهل المدينة وطمعوهم فيها، فجعل أبو بكر الحرس على أنقاب المدينة، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد، وقال: إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون ليلا يأتون أم نهارا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يؤملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، فاستعدوا وأعدوا فما لبثوا إلا ثلاثا حتى طرقوا المدينة غارة، وخلفوا نصفهم بذي حسى ليكونوا ردءا لهم، وأرسل الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارة، فبعث إليهم أن الزموا مكانكم، وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم فانفش العدو واتبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء، فالتقوا مع الجمع فكان الفتح، وقد قال:
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا * فيالعباد الله ما لأبي بكر
أيورثنا بكرا إذا مات بعده * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه * وهلا خشيتم حس راعية البكر
وإن التي سألوكمو فمنعتمو * لكالتمر أو أحلى إلي من التمر
وفي جمادى الآخرة ركب الصديق في أهل المدينة وأمراء الأنقاب إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها، فلما تواجه هو وأعداؤه من بني عبس، وبني مرة، وذبيان، ومن ناصب معهم من بني كنانة، وأمدهم طليحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدة وهي أنهم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها، ثم أرسلوها من رءوس الجبال فلما رأتها إبل أصحاب الصديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من أمرها شيئا إلى الليل وحتى رجعت إلى المدينة، فقال في ذلك الخطيل بن أوس:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي * عشية يحدى بالرماح أبو بكر
ولكن يدهدى بالرجال فهبنه * إلى قدر ما تقيم ولا تسري
ولله أجناد تذاق مذاقه * لتحسب فيما عد من عجب الدهر
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيالعباد الله ما لأبي بكر
فلما وقع ما وقع ظن القوم بالمسلمين الوهن وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أخر فاجتمعوا، وبات أبو بكر رضي الله عنه قائما ليله يعبي الناس، ثم خرج على تعبئة من آخر الليل وعلى ميمنته النعمان ابن مقرن، وعلى الميسرة أخوه عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة أخوهما سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة وكان أول الفتح، وذل بها المشركون، وعز بها المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي:
غداة سعى أبو بكر إليهم * كما يسعى لموتته حلال
أراح على نواهقها عليا * ومج لهن مهجته حبال
وقال أيضا:
أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا * ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها * صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر
طرقنا بني عبس بأدنى نباجها * وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
فكانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الإسلام وأهله، وذلك أنه عز المسلمون في كل قبيلة، وذل الكفار في كل قبيلة، ورجع أبو بكر إلى المدينة مؤيدا منصورا، سالما غانما، وطرقت المدينة في الليل صدقات عدي بن حاتم، وصفوان، والزبرقان: إحداها في أول الليل، والثانية في أوسطه، والثالثة في آخره، وقدم بكل واحدة منهن بشير من أمراء الأنقاب، فكان الذي بشر بصفوان سعد ابن أبي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف، والذي بشر بعدي بن حاتم عبد الله ابن مسعود، ويقال: أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه وذلك على رأس ستين ليلة من متوفى رسول الله ﷺ.
ثم قدم أسامة بن زيد بعد ذلك بليال فاستخلفه أبو بكر على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهرهم، ثم ركب أبو بكر في الذين كانوا معه في الوقعة المتقدمة إلى ذي القصة فقال له المسلمون: لو رجعت إلى المدينة وأرسلت رجلا.
فقال: والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي، فخرج في تعبئته إلى ذي حسى، وذي القصة والنعمان وعبد الله وسويد بنو مقرن على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق وهناك جماعة من بني عبس وذبيان وطائفة من بني كنانة فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفا، وأخذ الحطيئة أسيرا فطارت بنو عبس، وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما، وقد غلب بني ذبيان على البلاد، وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله وحمى الأبرق بخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة، ولما فرت عبس وذبيان صاروا إلى مؤازرة طلحة وهو نازل على بزاخة، وقد قال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة: ويوم بالأبارق قد شهدنا * على ذبيان يلتهب التهابا
أتيناهم بداهية نسوف * مع الصديق إذ ترك العتابا
خروجه إلى ذي القصة حين عقد ألوية الأمراء الأحد عشر
وذلك بعد ما جم جيش أسامة واستراحوا، وركب الصديق أيضا في الجيوش الإسلامية شاهرا سيفه مسلولا من المدينة إلى ذي القصة وهي من المدينة على مرحلة، وعلي ابن أبي طالب يقود براحلة الصديق رضي الله عنهما كما سيأتي فسأله الصحابة منهم علي وغيره وألحوا عليه أن يرجع إلى المدينة، وأن يبعث لقتال الأعراب غيره ممن يؤمره من الشجعان الأبطال، فأجابهم إلى ذلك، وعقد لهم الألوية لأحد عشر أميرا على ما سنفصله قريبا إن شاء الله.
وقد روى الدارقطني من حديث عبد الوهاب بن موسى الزهري عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر قال: لما برز أبو بكر إلى القصة واستوى على راحلته أخذ علي ابن أبي طالب بزمامها وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله ﷺ يوم أحد « لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك » وارجع إلى المدينة فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا.
فرجع، هذا حديث غريب من طريق مالك.
وقد رواه زكريا الساجي من حديث عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف.
و الزهري أيضا عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرج أبي شاهرا سيفه راكبا على راحلته إلى وادي القصة، فجاء علي ابن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد « لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك » فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدا، فرجع وأمضى الجيش.
وقال سيف بن عمر: عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد لما استراح أسامة وجنده، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث، وعقد الألوية فعقد أحد عشر لواء: عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة ابن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له.
ولعكرمة ابن أبي جهل وأمره بمسيلمة.
وبعث شرحبيل بن حسنة في أثره إلى مسيلمة الكذاب، ثم إلى بني قضاعة.
وللمهاجر ابن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح.
قلت: وذلك لأنه كان قد نزع يده من الطاعة على ما سيأتي.
قال: ولخالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة، ووديعة، والحارث.
ولحذيفة بن محصن الغطفاني وأمره بأهل دبا، وبعرفجة، وهرثمة وغير ذلك.
ولطرفة بن حاجب وأمره ببنى سليم ومن معهم من هوازن.
ولسويد بن مقرن وأمره بتهامة اليمن.
وللعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين - رضي الله عنهم -.
وقد كتب لكل أمير كتاب عهده على حدته ففصل كل أمير بجنده من ذي القصة ورجع الصديق إلى المدينة، وقد كتب معهم الصديق كتابا إلى الربذة، وهذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والهوى، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفر من أبى ذلك ونجاهده، أما بعد فإن الله أرسل بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من
أجاب إليه، وضرب رسول الله ﷺ من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم توفى الله رسوله وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، فقال: { إنك ميت وإنهم ميتون } [212].
وقال: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } [213].
وقال للمؤمنين: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } [214].
فمن كان إنما يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره منتقم من عدوه، وإني أوصيكم بتقوى الله، وحظكم ونصيبكم، وما جاءكم به نبيكم ﷺ وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعنه الله مخذول، ومن هداه غير الله كان ضالا، قال الله تعالى: { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } [215].
ولن يقبل له في الدنيا عمل عبد حتى يقر به، ولم يقبل له في الآخرة صرف ولا عدل وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام، وعمل به اغترارا بالله، وجهلا بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } [216].
وقال: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } [217].
وإني بعثت إليكم في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته أن لا يقبل من أحد إلا الإيمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عز وجل فإن أجاب وأقر وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه، وإن أبى حاربه عليه حتى يفيء إلى أمر الله، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، وأن يقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد غير الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابه في كل مجمع لكم والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا حمل منهم على ما ينبغي لهم، رواه سيف بن عمر عن عبد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.
فصل في مسيرة الأمراء من ذي القصة على ما عوهدوا عليه
وكان سيد الأمراء ورأس الشجعان الصناديد أبو سليمان خالد بن الوليد.
روى الإمام أحمد من طريق وحشي بن حرب أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد على قتال أهل الردة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين ».
ولما توجه خالد من ذي القصة وفارقه الصديق واعده أنه سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من الأمراء - وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعراب - وأمره أن يذهب أولا إلى طليحة الأسدي، ثم يذهب بعده إلى بني تميم، وكان طليحة بن خويلد في قومه بني أسد وفي غطفان، وانضم إليهم بنو عبس وذيبان، وبعث إلى بني جديلة، والغوث، وطيء يستدعيهم إليه، فبعثوا أقواما منهم بين أيديهم ليلحقوا على أثرهم سريعا، وكان الصديق قد بعث عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة فيكون دمارهم.
فذهب عدي إلى قومه بني طيء فأمرهم أن يبايعوا الصديق وأن يراجعوا أمر الله، فقالوا: لا نبايع أبا الفضل أبدا - يعنون أبا بكر رضي الله عنه -.
فقال: والله ليأتينكم جيش فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنه أبو الفحل الأكبر، ولم يزل عدي يفتل لهم في الذروة والغارب حتى لانوا، وجاء خالد في الجنود وعلى مقدمة الأنصار الذين معه ثابت بن قيس بن شماس، وبعث بين يديه ثابت بن أقرم، وعكاشة بن محصن، طليعة فتلقاهما طليحة وأخوه سلمة فيمن معهما، فلما وجدا ثابتا وعكاشة تبارزوا فقتل عكاشة جبال بن طليحة، وقيل: بل كان قتل جبالا قبل ذلك، وأخذ ما معه، وحمل عليه طليحة فقتله، وقتل هو وأخوه سلمة ثابت بن أقرم، وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين فشق ذلك على المسلمين، وقد قال طليحة في ذلك:
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة العمي تحت مجال
أقمت له صدر الحمالة إنها * معودة قبل الكماة نزال
فيوم تراها في الجلال مصونة * ويوم تراها في ظلال عوالي
وإن يك أولاد أصبن ونسوة * فلم يذهبوا فرغا بقتل حبال
ومال خالد إلى بني طيء، فخرج إليه عدي بن حاتم فقال: أنظرني ثلاثة أيام فإنهم قد استنظروني حتى يبعثوا إلى من تعجل منهم إلى طليحة حتى يرجعوا إليهم، فإنهم يخشون إن تابعوك أن يقتل طليحة من سار إليه منهم، وهذا أحب إليك من أن يعجلهم إلى النار، فلما كان بعد ثلاث، جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع الحق فانضافو إلى جيش خالد، وقصد خالد بني جديلة فقال له: يا خالد أجلني أياما حتى آتيهم فلعل الله أن ينقذهم كما أنقذ طيئا، فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى تابعوه، فجاء خالدا بإسلامهم ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة على قومه - رضي الله عنهم -.
قالوا: ثم سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى، وعبى جيشه هنالك والتقى مع طليحة الأسدي بمكان يقال له: بزاخة، ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة، واصطف الناس وجلس طليحة ملتفا في كساء له يتنبأ لهم، ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل ما يقاتل حتى إذا ضجر من القتال يجيء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه فيقول: أجاءك جبريل؟
فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك، ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟
قال: نعم.
قال: فما قال لك؟
قال: قال لي: إن لك رحاء كرحاه، وحديثا لا تنساه.
قال: يقول عيينة: أظن أن قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه.
ثم قال: يا بني فزارة انصرفوا، وانهزم وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدها له، وأركب امرأته النوار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام، وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه، فلما أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع، قالت بنو عامر وسليم وهوازن: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا.
قلت: وقد كان طليحة الأسدي ارتد في حياة النبي ﷺ فلما مات رسول الله ﷺ قام بمؤازرته عيينة بن حصن من بدر وارتد عن الإسلام، وقال لقومه: والله لنبي من بني أسد، أحب إلي من نبي من بني هاشم، وقد مات محمد وهذا طليحة فاتبعوه، فوافق قومه بنو فزارة على ذلك، فلما كسرهما خالد هرب طليحة بامرأته إلى الشام فنزل على بني كلب، وأسر خالد عيينة بن حصن وبعث به إلى المدينة مجموعة يداه إلى عنقه فدخل المدينة وهو كذلك، فجعل الولدان والغلمان يطعنونه بأيديهم ويقولون: أي عدو الله ارتددت عن الإسلام؟
فيقول: والله ما كنت آمنت قط، فلما وقف بين يدي الصديق استتابه وحقن دمه، ثم حسن إسلامه بعد ذلك، وكذلك من علي قرة بن هبيرة وكان أحد الأمراء مع طليحة فأسره مع عيينة، وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك أيضا، وذهب إلى مكة معتمرا أيام الصديق، واستحيى أن يواجهه مدة حياته، وقد رجع فشهد القتال مع خالد، وكتب الصديق إلى خالد أن استشره في الحرب ولا تؤمره - يعني: معاملته له بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن - وهذا من فقه الصديق - رضي الله عنه وأرضاه -.
وقد قال خالد بن الوليد لبعض أصحاب طليحة ممن أسلم وحسن إسلامه: أخبرنا عما كان يقول لكم طليحة من الوحي؟
فقال: إنه كان يقول: الحمام واليمام، والصرد والصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات السمجة.
وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه وقام بنصره، فكتب إليه ليزدك ما أنعم الله به خيرا، واتق الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمرك ولا تلن، ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكلت به، ومن أخذت ممن حاد الله أو ضاده ممن بري أن في ذلك صلاحا فاقتله، فأقام خالد ببزاخة شهرا يصعد فيها ويصوب ويرجع إليها في طلب الذين وصاه بسبيهم الصديق فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرا يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرقه بالنار، ومنهم من رضخه بالحجارة، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب رضي الله عنه.
وقال الثوري عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم وفد بزاخة أسد وغطفان على أبي بكر يسألونه الصلح، خيرهم أبو بكر بين حرب مجلية أو حطة مخزية.
فقالوا: يا خليفة رسول الله أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما الحطة المخزية؟
قال: تؤخذ منكم الحلقة والكراع، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة نبيه والمؤمنين أمرا يعذرونكم به، وتؤدون ما أصبتم منا، ولا نؤدي ما أصبنا منكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم.
فقال عمر: أما قولك تدون قتلانا فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم، فامتنع عمر وقال عمر في الثاني: نعم ما رأيت.
ورواه البخاري من حديث الثوري بسنده مختصرا.
وقعة أخرى:
كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الفلال يوم بزاخة من أصحاب طليحة من بني غطفان، فاجتمعوا إلى امرأة يقال لها: أم زمل سلمة بنت ملك بن حذيفة - وكانت من سيدات العرب - كأمها أم قرفة، وكان يضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولادها وعزة قبيلتها وبيتها، فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وناشب إليهم آخرون من بني سليم وطيء وهوازن وأسد، فصاروا جيشا كثيفا، وتفحل أمر هذه المرأة، فلما سمع بهم خالد بن الوليد سار إليهم، واقتتلوا قتالا شديدا وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يقال له: من يمس جملها فله مائة من الإبل وذلك لعزها، فهزمهم خالد وعقرجملها وقتلها، وبعث بالفتح إلى الصديق رضي الله عنه.
قصة الفجاءة
واسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف من بني سليم قاله ابن إسحاق، وقد كان الصديق حرق الفجاءة بالبقيع في المدينة، وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم وسأل منه أن يجهز معه جيشا يقاتل به أهل الردة، فجهز معه جيشا فلما سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله، فلما سمع الصديق بعث وراءه جيشا فرده، فلما أمكنه بعث به إلى البقيع فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرقه وهو مقموط.
قصة سجاح وبني تميم
كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة فمنهم من ارتد ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم من توقف لينظر في أمره، فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر الصديق، فلما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها فاستجاب لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها: مالك بن نويرة التميمي، وعطارد بن حاجب، وجماعة من سادات أمراء بني تميم، وتخلف آخرون منهم عنها، ثم اصطلحوا على أن لا حرب بينهم إلا أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عودها وحرضها على بني يربوع، ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا: بمن نبدأ؟
فقالت لهم فيما تسجعه: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب، ثم إنهم تعاهدوا على نصرها.
فقال قائل منهم:
أتتنا أخت تغلب في رجال * جلائب من سراة بني أبينا
وأرست دعوة فينا سفاها * وكانت من عمائر آخرينا
فما كنا لنرزيهم زبالا * وما كانت لتسلم إذ أتينا
ألا سفهت حلومكم وضلت * عشية تحشدون لها ثبينا
وقال عطارد بن حاجب في ذلك:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها * وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
ثم إن سجاح قصدت بجنودها اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب فهابه قومها وقالوا: إنه قد استفحل أمره وعظم.
فقالت لهم فيما تقوله: عليكم باليمامة، دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا تلحقكم بعدها ملامة.
قال: فعمدوا لحرب مسيلمة، فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال، وقد ساعده عكرمة ابن أبي جهل بجنود المسلمين، وهم نازلون ببعض بلاده ينتظرون قدوم خالد كما سيأتي.
فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الأرض الذي كان لقريش لو عدلت، فقد رده الله عليك فحباك به، وراسلها ليجتمع بها في طائفة من قومه فركب إليها في أربعين من قومه، وجاء إليها فاجتمعا في خيمة فلما خلا بها وعرض عليها ما عرض من نصف الأرض وقبلت ذلك.
قال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا يزال أمره في كل ما يسر مجتمع، رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشته أخلاكم، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلوات معشر أبرار لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار.
وقال أيضا: لما رأيت وجوههم حسنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت.
قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون، فسبحان الله إذا جاءت الحياة كيف تحيون، وإلى ملك السماء كيف ترقون، فلو أنها حبة خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور.
وقد كان مسيلمة - لعنه الله - شرع لمن اتبعه أن الأعزب يتزوج فإذا ولد له ذكر فيحرم عليه النساء حينئذ إلا أن يموت ذلك الولد الذكر فتحل له النساء حتى يولد له ذكر، هذا مما اقترحه - لعنه الله - من تلقاء نفسه.
ويقال: إنه لما خلا بسجاح سألها ماذا يوحى إليها؟
فقالت: وهل يكون النساء يبتدئن بل أنت ماذا أوحي إليك؟
فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا.
فقالت: أشهد أنك نبي.
فقال لها: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب.
قالت: نعم.
وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى قومها.
فقالوا: ما أصدقك؟
فقالت: لم يصدقني شيئا.
فقالوا: إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير صداق.
فبعثت إليه تسأله صداقا.
فقال: أرسلي إلي مؤذنك، فبعثته إليه وهو شبت بن ربعي.
فقال: ناد في قومك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد - يعني: صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة - فكان هذا صداقها عليه - لعنهما الله -.
ثم انثنت سجاح راجعة إلى بلادها وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض اليمامة، فكرت راجعة إلى الجزيرة بعد ما قبضت من مسيلمة نصف خراج أرضه، فأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية، فأجلاهم منها عام الجماعة كما سيأتي بيانه في موضعه.
فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي
كان قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة فلما اتصلت بمسيلمة - لعنهما الله - ثم ترحلت إلى بلادها، فلما كان ذلك ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له: البطاح، فقصدها خالد بجنوده وتأخرت عنه الأنصار وقالوا: إنا قد قضينا ما أمرنا به الصديق.
فقال لهم خالد: إن هذا أمر لابد من فعله وفرصة لا بد من انتهازها وإنه لم يأتني فيها كتاب وأنا الأمير، وإلي ترد الأخبار، ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البطاح فسار يومين، ثم لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار فلحقوا به، فلما وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة وبذلوا الزكوات إلا ما كان من مالك بن نويرة فإنه متحير في أمره، متنح عن الناس فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السرية فيهم فشهد أبو قتادة الحرث بن ربعي الأنصاري أنهم أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا.
فيقال: إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، فلما سمع الداعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة وهي أم تميم ابنة المنهال وكانت جملية، فلما حلت بني بها، ويقال: بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟
فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك.
فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك يا ضرار إضرب عنقه، فضربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الأعراب من المرتدة وغيرهم.
ويقال: إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر، ولم تفرغ الشعر لكثرته.
وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق، وتكلم عمر مع أبي قتادة في خالد وقال للصديق: إعزله فإن في سيفه رهقا.
فقال أبو بكر: لا أشيم سيفا سله الله على الكفار.
وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلى الصديق خالدا وعمر يساعده، وينشد الصديق ما قال في أخيه من المراثي، فوداه الصديق من عنده.
ومن قول متمم في ذلك:
وكنا كندمانى جذيمة برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وقال أيضا:
لقد لامني عند العبور على البكى * رفيقي لتذراف الدموع السوافك
وقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى * فدعني فهذا كله قبر مالك
والمقصود أنه لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرض الصديق ويذمره على عزل خالد عن الإمرة ويقول: إن في سيفه لرهقا، حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة وقد لبس درعه التي من حديد وقد صدئ من كثرة الدماء، وغرز في عمامته النشاب المضمخ بالدماء
فلما دخل المسجد قام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الأسهم من عمامة خالد فحطمها وقال: أرياء قتلت امرأ مسلما، ثم نزوت على امرأته، والله لارجمنك بالجنادل وخالد لا يكلمه ولا يظن إلا أن رأي الصديق فيه كرأي عمر، حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك، وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد فقال خالد: هلم إلي يا ابن أم شملة، فلم يرد عليه وعرف أن الصديق قد رضي عنه.
واستمر أبو بكر بخالد على الإمرة وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله كما أن رسول الله ﷺ لما بعثه إلى أبي جذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فوداهم رسول الله ﷺ حتى رد إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه وقال: « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد » ومع هذا لم يعزل خالدا عن الإمرة.
مقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله
لما رضي الصديق عن خالد بن الوليد وعذره بما اعتذر به بعثه إلى قتال بني حنيفة باليمامة وأوعب معه المسلمون وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكل بهم، وقد اجتاز بخيول لأصحاب سجاح فشردهم وأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، وأردف الصديق خالدا بسرية لتكون ردءا له من وراءه، وقد كان بعث قبله إلى مسيلمة عكرمة ابن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة فلم يقاوما بني حنيفة لأنهم في نحو أربعين ألفا من المقاتلة، فعجل عكرمة ابن أبي جهل مجيء صاحبه شرحبيل فناجزهم فنكب فانتظر خالدا، فلما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: عقربا في طرف اليمامة والريف وراء ظهورهم، وندب الناس وحثهم فحشد له أهل اليمامة، وجعل على مجنبتي جيشة المحكم بن الطفيل، والرجال بن عنفوة بن نهشل، وكان الرجال هذا صديقه الذي شهد له أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إنه قد أشرك معه مسيلمة بن حبيب في الأمر وكان هذا الملعون من أكبر ما أضل أهل اليمامة حتى اتبعوا مسيلمة - لعنهما الله -.
وقد كان الرجال هذا قد وفد إلى النبي ﷺ وقرأ البقرة وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الإسلام، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة.
قال سيف بن عمر: عن طلحة، عن عكرمة، عن أبي هريرة كنت يوما عند النبي ﷺ في رهط معنا الرجال بن عنفوة فقال: « إن فيكم لرجلا ضرسه في النار أعظم من أحد ».
فهلك القوم وبقيت أنا والرجال وكنت متخوفا لها، حتى خرج الرجال مع مسيلمة وشهد له بالنبوة فكانت فتنة الرجال أعظم من فتنة مسيلمة، رواه ابن إسحاق عن شيخ، عن أبي هريرة، وقرب خالد وقد جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى المجنبتين زيدا وأبا حذيفة، وقد مرت المقدمة في الليل بنحو من أربعين، وقيل: ستين فارسا عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأر له في بني تميم وبني عامر وهو راجع إلى قومه فأخذوهم، فلما جيء بهم إلى خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه فلم يصدقهم وأمر بضرب أعناقهم كلهم سوى مجاعة، فإنه استبقاه مقيدا عنده لعلمه بالحرب والمكيدة، وكان سيدا في بني حنيفة شريفا مطاعا، ويقال: إن خالدا لما عرضوا عليه قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة؟
قالوا: نقول منا نبي ومنكم نبي فقتلهم إلا واحدا اسمه سارية، فقال له: أيها الرجل إن كنت تريد عدا بعدول هذا خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل - يعني: مجاعة بن مرارة - فاستبقاه خالد مقيدا وجعله في الخيمة مع امرأته، وقال: استوصي به خيرا.
فلما تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه: اليوم يوم الغيرة اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات وينكحن غير حظيات فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم المسلمون حتى نزل بهم خالد على كثيب يشرف على اليمامة فضرب به عسكره، وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، والعرب على راياتها، ومجاعة بن مرارة مقيد في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة.. خالد بن الوليد وهموا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجاعة وقال: نعمت الحرة هذه، وقد قتل الرجال بن عنفوة - لعنه الله - في هذه الجولة قتله زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم، وقال ثابت بن قيس بن شماس: بئس ما عودتم أقرانكم ونادوا من كل جانب أخلصنا يا خالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والأنصار وحمى البراء بن معرور وكان إذا رأى الحرب أخذته العرواء فيجلس على ظهر الرحال حتى يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الأسد، وقاتلت بنو حنيفة قتالا لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم، وحفر ثابت ابن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقية وهو حامل لواء الأنصار بعد ما تحنط وتكفن فلم يزل ثابتا حتى قتل هناك.
وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك
فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا.
وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوكم وامضوا قدما.
وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدا رضي الله عنه.
وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم وأصيب رضي الله عنه.
وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع، ثم وقف بين الصفين ودعا البراز وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه، وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا أكله، ودارت رحى المسلمين، ثم اقترب من مسيلمة فعرض عليه النصف والرجوع إلى الحق فجعل شيطان مسيلمة يلوي عنقه لا يقبل منه شيئا، وكلما أراد مسيلمة يقارب من الأمر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد وقد ميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبرت الصحابة في هذا الموطن صبرا لم يعهد مثله ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفار الأدبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكم اليمامة وهم محكم بن الطفيل - لعنه الله - بدخولها فدخلوها، وفيها عدو الله مسيلمة - لعنه الله -.
وأدرك عبد الرحمن ابن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة، وقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون الحديقة من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة حتى خلصوا إلى مسيلمة - لعنه الله - وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، وهو يريد يتساند لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه فتقدم إليه وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة فضربه بالسيف فسقط، فنادت امرأة من القصر: واأمير الوضاءة قتله العبد الأسود.
فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفا، وقتل من المسلمين ستمائة، وقيل: خمسمائة، فالله أعلم، وفيهم من سادات الصحابة وأعيان الناس من يذكر بعد.
وخرج خالد وتبعه مجاعة بن مرارة يرسف في قيوده فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة، فلما مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد: أهذا هو؟
قال: لا والله هذا خير منه، هذا الرجال بن عنفوة.
قال سيف بن عمر: ثم مروا برجل أصفر أخنس فقال: هذا صاحبكم.
فقال خالد: قبحكم الله على اتباعكم هذا، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، ثم عزم على غزو الحصون ولم يكن بقي فيها إلا النساء والصبيان والشيوخ الكبار فخدعه مجاعة فقال: أنها ملأى رجالا ومقاتلة، فهلم فصالحني عنها.
فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد كلوا من كثرة الحروب والقتال.
فقال: دعني حتى أذهب إليهم ليوافقوني على الصلح.
فقال: إذهب، فسار إليهم مجاعة فأمر النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر خالد فإذا الشرفات ممتلئة من رؤوس الناس فظنهم كما قال مجاعة، فانتظر الصلح ودعاهم خالد إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم، ورجعوا إلى الحق، ورد عليهم خالد بعض ما كان أخذ من السبي وساق الباقين إلى الصديق، وقد تسرى علي ابن أبي طالب بجارية منهم وهي أم ابنه محمد الذي يقال له: محمد ابن الحنفية رضي الله عنه.
وقد قال ضرار بن الأزور في غزوة اليمامة هذه:
فلو سئلت عنا جنوب لأخبرت * عشية سالت عقرباء وملهم
وسال بفرع الواد حتى ترقرت * حجارته فيه من القوم بالدم
عشية لا تغني الرماح مكانها * ولا النبل إلا المشرفي المصمم
فإن تبتغي الكفار غير مسيلمة * جنوب فإني تابع الدين مسلم
أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة * ولله بالمرء المجاهد أعلم
وقد قال خليفة بن حناط ومحمد بن جرير وخلق من السلف: كانت وقعة اليمامة في سنة إحدى عشرة.
وقال ابن قانع: في آخرها.
وقال الواقدي وآخرون: كانت في سنة اثنتي عشرة، والجمع بينها أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة والفراغ منها في سنة اثنتي عشرة، والله أعلم.
ولما قدمت وفود بني حنيفة على الصديق قال لهم: أسمعونا شيئا من قرآن مسيلمة.
فقالوا: أوتعفينا يا خليفة رسول الله؟
فقال: لا بد من ذلك.
فقالوا: كان يقول: يا ضفدع بنت الضفدعين، نقي لكم نقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطين.
وكان يقول: والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، رفيقكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والناعي فواسوه، وذكروا أشياء من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون.
فيقال إن الصديق قال لهم: ويحكم أين كان يذهب بعقولكم، إن هذا الكلام لم يخرج من أل.
وكان يقول: والفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل.
وكان يقول: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطب ولا يابس.
وتقدم قوله: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، وأشياء من هذا الكلام السخيف الركيك، البارد السميج.
وقد أورد أبو بكر ابن الباقلاني رحمه الله في كتابه إعجاز القرآن أشياء من كلام هؤلاء الجهلة المتنبئين كمسيلمة، وطليحة، والأسود، وسجاح، وغيرهم مما يدل على ضعف عقولهم وعقول من اتبعهم على ضلالهم ومحالهم.
وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد إلى مسيلمة في أيام جاهليته فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين؟
فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة.
فقال: وما هي؟
قال: أنزل عليه « والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ».
قال: ففكر مسيلمة ساعة، ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل على مثلها.
فقال له عمرو: وما هي؟
فقال مسيلمة: ياوبر ياوبر، إنما أنت إيراد وصدر، وسائرك حفر نقر.
ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟
فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب.
وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبه بالنبي - ﷺ-.
بلغه أن رسول الله ﷺ بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق في بئر فغاض ماؤه بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجا.
وتوضأ وسقى بوضوئه نخلا فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرك عليهم فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه.
ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي.
وقال سيف بن عمر: عن خليد بن زفر النمري، عن عمير بن طلحة، عن أبيه أنه جاء إلى اليمامة فقال: أين مسيلمة؟
فقال: مه، رسول الله.
فقال: لا حتى أراه.
فلما جاء قال: أنت مسيلمة؟
فقال: نعم.
قال: من يأتيك؟
قال: رجس.
قال: أفي نور أو في ظلمة؟
فقال: في ظلمة.
فقال: أشهد أنك كذاب وإن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، واتبعه هذا الأعرابي الجلف - لعنه الله - حتى قتل معه يوم عقربا - لا رحمه الله -.
كان من خبرهم أن رسول الله ﷺ كان قد بعث العلاء بن الحضرمي إلى ملكها المنذر بن ساوى العبدي وأسلم على يديه، وأقام فيهم الإسلام والعدل، فلما توفي رسول الله ﷺ توفي المنذر بعده بقليل، وكان قد حضر عنده في مرضه عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو هل كان رسول الله ﷺ يجعل للمريض شيئا من ماله؟
ذكر ردة أهل البحرين وعودهم إلى الإسلام
قال: نعم، الثلث.
قال: ماذا أصنع به؟
قال: إن شئت تصدقت به على أقربائك، وإن شئت على المحاويج، وإن شئت جعلته صدقة من بعدك حبسا محرما.
فقال: إني أكره إن أجعله كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، ولكني أتصدق به ففعل ومات، فكان عمرو بن العاص يتعجب منه.
فلما مات المنذر ارتد أهل البحرين وملكوا عليهم الغرور - وهو المنذر ابن النعمان بن المنذر -.
وقال قائلهم: لو كان محمد نبيا ما مات، ولم يبق بها بلدة على الثبات سوى قرية يقال لها: جواثا، كانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس، وقد حاصرهم المرتدون، وضيقوا عليهم حتى منعوا من الأقوات وجاعوا جوعا شديدا حتى فرج الله.
وقد قال رجل منهم يقال له: عبد الله بن حذف أحد بني بكر بن كلاب وقد اشتد عليه الجوع:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا * وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام * قعود في جواثا محصرينا
كأن دماءهم في كل فج * شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا * قد وجدنا الصبر للمتوكلينا
وقد قام فيهم رجل من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى وكان ممن هاجروا إلى رسول الله ﷺ خطيبا وقد جمعهم قال: يا معشر عبد القيس إني سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتوه ولا تجيبوني إن لم تعلموه.
فقالوا: سل.
قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟
قالوا: نعم.
قال: تعلمونه أم ترونه؟
قالوا: نعلمه.
قال: فما فعلوا؟
قالوا: ماتوا.
قال: فإن محمدا ﷺ مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
فقالوا: ونحن أيضا نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه.
وبعث الصديق رضي الله عنه كما قدمنا إليهم العلاء بن الحضرمي فلما دنا من البحرين جاء إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير وجاء كل أمراء تلك النواحي فانضافوا إلى جيش العلاء بن الحضرمي، فأكرمهم العلاء وترحب بهم، وأحسن إليهم، وقد كان العلاء من سادات الصحابة العلماء العباد مجابي الدعوة، اتفق له في هذه الغزوة أنه نزل منزلا فلم يستقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش، وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شيء سوى ثيابهم وذلك ليلا، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فركب الناس من الهم والغم ما لا يحد ولا يوصف، وجعل بعضهم يوصي إلى بعض فنادى منادي العلاء فاجتمع الناس إليه فقال: أيها الناس ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟
قالوا: بلى.
قال: فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم، ونودي بصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلى بالناس فلما قضى الصلاة جثا على ركبتيه، وجثا الناس ونصب في الدعاء ورفع يديه، وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد أخرى، وهو يجتهد في الدعاء فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق الله إلى جانبهم غديرا عظيما من الماء القراح، فمشى ومشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد الناس من أمتعتهم سلكا، فسقوا الإبل عللا بعد نهل، فكان هذا مما عاين الناس من آيات الله بهذه السرية.
ثم لما اقترب من جيوش المرتدة وقد حشدوا وجمعوا خلقا عظيما نزل ونزلوا وباتوا متجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتا عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء؟
فقام عبد الله ابن حذف فدخل فيهم فوجدهم سكارى لا يعقلون من الشراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فوره والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلا عظيما وقل من هرب منهم واستولى على جميع أموالهم، وحواصلهم، وأثقالهم، فكانت غنيمة عظيمة جسيمة، وكان الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة من سادات القوم نائما، فقام دهشا حين اقتحم المسلمون عليهم فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول: من يصلح لي ركابي؟
فجاء رجل من المسلمين في الليل فقال: أنا أصلحها لك، إرفع رجلك فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه، فقال له: أجهز علي.
فقال: لا أفعل، فوقع صريعا كلما مر به أحد يسأله أن يقتله فيأبى، حتى مر به قيس بن عاصم فقال له: أنا الحطم فاقتلني
فقتله فلما وجد رجله مقطوعة ندم على قتله وقال: واسوأتاه لو أعلم ما به لم أحركه.
ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق، وذهب من فر منهم أو أكثرهم في البحر إلى دارين ركبوا إليها السفن.
ثم شرع العلاء بن الحضرمي في قسم الغنيمة ونقل الأثقال وفرغ من ذلك، وقال للمسلمين: إذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعا فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشقة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم، يا كريم، يا أحد، يا صمد، يا حي، يامحيي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا، وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة دمثة فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصل إلى ركب الخيل، ومسيرته للسفن يوم وليلة، فقطعه إلى الساحل الآخر، فقاتل عدوه وقهرهم واحتاز غنائمهم، ثم رجع فقطعه إلى الجانب الآخر، فعاد إلى موضعه الأول وذلك كله في يوم، ولم يترك من العدو مخبرا، واستاق الذراري، والأنعام، والأموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئا سوى عليقة فرس لرجل من المسلمين، ومع هذا رجع العلاء فجاءه بها.
ثم قسم غنائم المسلمين فيهم فأصاب الفارس ألفين، والراجل ألفا مع كثرة الجيش، وكتب إلى الصديق فأعلمه بذلك، فبعث الصديق يشكره على ما صنع.
وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر:
ألم تر أن الله ذلل بحره * وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا إلى شق البحار فجاءنا * بأعجب من فلق البحار الأوائل
وقد ذكر سيف بن عمر التميمي أنه كان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رأوها من أمر العلاء وما أجرى الله على يديه من الكرامات رجل من أهل هجر راهب فأسلم حينئذ.
فقيل له: ما دعاك إلى الإسلام؟
فقال: خشيت إن لم أفعل أن يمسخني الله لما شاهدت من الآيات قال: وقد سمعت في الهواء وقت السحر دعاء.
قالوا: وما هو؟
قال: اللهم أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك، والبديع ليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، والذي لا يموت، وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كل شيء علما.
قال: فعلمت أن القوم لم يعانوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله، قال: فحسن إسلامه وكان الصحابة يسمعون منه.
ذكر ردة أهل عمان ومهرة اليمن
أما أهل عمان فنبغ فيهم رجل يقال له: ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، وكان يسمى في الجاهلية الجلندي، فادعى النبوة أيضا، وتابعه الجهلة من أهل عمان، فتغلب عليها وقهر جيفرا وعبادا وألجأهما إلى أطرافها من نواحي الجبال والبحر، فبعث جيفر إلى الصديق فأخبره الخبر واستجاشه، فبعث إليه الصديق بأميرين وهما حذيفة بن محصن الحميري، وعرفجة البارقي من الأزد، حذيفة إلى عمان، وعرفجة إلى مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا ويبتدئا بعمان وحذيفة هو الأمير، فإذا ساروا إلى بلاد مهرة فعرفجة الأمير.
وقد قدمنا أن عكرمة ابن أبي جهل لما بعثه الصديق إلى مسيلمة وأتبعه بشرحبيل بن حسنة عجل عكرمة وناهض مسيلمة قبل مجيء شرحبيل ليفوز بالظفر وحده، فناله من مسيلمة قرح والذين معه فتقهقر حتى جاء خالد بن الوليد فقهر مسيلمة كما تقدم، وكتب إليه الصديق يلومه على تسرعه، قال: لا أرينك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، وأمره أن يلحق بحذيفة وعرفجة إلى عمان، وكل منكم أمير على جيشه وحذيفة ما دمتم بعمان فهو أمير الناس، فإذا فرغتم فاذهبوا إلى مهرة، فإذا فرغتم منها فاذهب إلى اليمن وحضرموت فكن مع المهاجر ابن أبي أمية، ومن لقيته من المرتدة بين عمان إلى حضرموت واليمن فنكل به، فسار عكرمة لما أمره به الصديق، فلحق حذيفة وعرفجة قبل أن يصلا إلى عمان، وقد كتب إليهما الصديق أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ من السير من عمان أو المقام بها، فساروا فلما اقتربوا من عمان راسلوا جيفرا، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له: دبا، وهي مصر تلك البلاد وسوقها العظمى، وجعل الذراري والأموال وراء ظهورهم ليكون أقوى لحربهم، واجتمع جيفر وعباد بمكان يقال له: صحار فعسكرا به، وبعثا إلى أمراء الصديق فقدموا على المسلمين فتقابل الجيشان هنالك، وتقاتلوا قتالا شديدا، وابتلى المسلمون وكادوا أن يولوا، فمن الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مددا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس في جماعة من الأمراء، فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر فولى المشركون مدبرين، وركب المسلمون ظهورهم فقتلوا من عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذراري، وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها، وبعثوا بالخمس إلى الصديق رضي الله عنه مع أحد الأمراء وهو عرفجة، ثم رجع إلى أصحابه.
وأما مهرة فأنهم لما فرغوا من عمان كما ذكرنا سار عكرمة بالناس إلى بلاد مهرة بمن معه من الجيوش ومن أضيف إليها، حتى اقتحم على مهرة بلادها فوجدهم جندين على أحدهما وهم الأكثر أمير يقال له: المصبح أحد بني محارب، وعلى الجند الآخر أمير يقال له: شخريت، وهما مختلفان، وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين فراسل عكرمة شخريت فأجابه وانضاف إلى عكرمة فقوي بذلك المسلمون وضعف جأش المصبح، فبعث إليه عكرمة يدعوه إلى الله وإلى السمع والطاعة فاغتر بكثرة من معه ومخالفة لشخريت فتمادى على طغيانه، فسار إليه عكرمة بمن معه من الجنود فاقتتلوا مع المصبح أشد من قتال دبا المتقدم، ثم فتح الله بالظفر والنصر ففر المشركون، وقتل المصبح وقتل خلق كثير من قومه، وغنم المسلمون أموالهم، فكان في جملة ما غنموا ألفا نجيبة، فخمس عكرمة ذلك كله، وبعث بخمسه إلى الصديق مع شخريت وأخبره بما فتح الله عليه، والبشارة مع رجل يقال له: السائب من بني عابد من مخزوم، وقد قال في ذلك رجل يقال له علجوم:
جزى الله شخريتا وأفناء هاشما * وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب
جزاء مسيء لم يراقب لذمة * ولم يرجها فيما يرجى الأقارب
أعكرم لولا جمع قومي وفعلهم * لضاقت عليكم بالفضاء المذاهب
وكنا كمن اقتاد كفا بأختها * وحلت علينا في الدهور النوائب
وأما أهل اليمن فقد قدمنا أن الأسود العنسي - لعنه الله - لما نبغ باليمن أضل خلقا كثيرا من ضعفاء العقول والأديان حتى ارتد كثير منهم أو أكثرهم عن الإسلام، وأنه لما قتله الأمراء الثلاثة: قيس بن مكشوح، وفيروز الديلمي، وداذويه، وكان ما قدمنا ذكره، ولما بلغهم موت رسول الله ﷺ ازداد بعض أهل اليمن فيما كانوا فيه من الحيرة والشك - أجارنا الله من ذلك - وطمع قيس بن مكشوح في الإمرة باليمن فعمل لذلك وارتد عن الإسلام، وتابعه عوام أهل اليمن.
وكتب الصديق إلى الأمراء والرؤساء من أهل اليمن أن يكونوا عونا إلى فيروز والأبناء على قيس بن مكشوح حتى تأتيهم جنوده سريعا، وحرص قيس على قتل الأميرين الأخيرين فلم يقدر إلا على داذويه، واحترز منه فيروز الديلمي وذلك أنه عمل طعاما وأرسل إلى داذويه أولا فلما جاءه عجل عليه فقتله، ثم أرسل إلى فيروز ليحضر عنده فلما كان ببعض الطريق سمع امرأة تقول لأخرى: وهذا أيضا والله مقتول كما قتل صاحبه، فرجع من الطريق وأخبر أصحابه بقتل داذويه، وخرج إلى أخواله خولان فتحصن عندهم، وساعدته عقيل، وعك وخلق.
وعمد قيس إلى ذراري فيروز وداذويه والأبناء فأجلاهم عن اليمن، وأرسل طائفة في البر وطائفة في البحر، فاحتد فيروز فخرج في خلق كثير فتصادف هو وقيس فاقتتلوا قتالا شديدا فهزم قيسا وجنده من العوام وبقية جند الأسود العنسي فهزموا في كل وجه، وأسر قيس وعمرو بن معدي كرب - وكان عمرو قد ارتد أيضا وبايع الأسود العنسي - وبعث بهما المهاجر ابن أبي أمية إلى أبي بكر أسيرين فعنفهما وأنبهما، فاعتذرا إليه، فقبل منهما علانيتهما، ووكل سرائرهما إلى الله عز وجل وأطلق سراحهما، وردهما إلى قومهما، ورجعت عمال رسول الله ﷺ الذين كانوا باليمن إلى أماكنهم التي كانوا عليها في حياته عليه السلام بعد حروب طويلة لو استقصينا إيرادها لطال ذكرها.
وملخصها أنه ما من ناحية من جزيرة العرب إلا وحصل في أهلها ردة لبعض الناس فبعث الصديق إليهم جيوشا وأمراء يكونون عونا لمن في تلك الناحية من المؤمنين، فلا يتواجه المشركون والمؤمنون في موطن من تلك المواطن إلا غلب جيش الصديق لمن هناك من المرتدين، ولله الحمد والمنة.
وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغنموا مغانم كثيرة، فيتقوون بذلك على من هنالك، ويبعثون بأخماس ما يغنمون إلى الصديق فينفقه في الناس فيحصل لهم قوة أيضا ويستعدون به على قتال من يريدون قتالهم من الأعاجم والروم على ما سيأتي تفصيله.
ولم يزل الأمر كذلك حتى لم يبق بجزيرة العرب إلا أهل طاعة لله ولرسوله وأهل ذمة من الصديق كأهل نجران وما جرى مجراهم، ولله الحمد.
وعامة ما وقع من هذه الحروب كان في أواخر سنة إحدى عشرة وأوائل سنة اثنتي عشرة، ولنذكر بعد إيراد هذه الحوادث من توفي في هذه السنة من الأعيان والمشاهير وبالله المستعان، وفيها رجع معاذ بن جبل من اليمن، وفيها استبقى أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ذكر من توفي في هذه السنة
أعني سنة إحدى عشرة من الأعيان والمشاهير، وذكرنا معهم من قتل باليمامة لأنها كانت في سنة إحدى عشرة على قول بعضهم، وإن كان المشهور أنها في ربيع سنة اثنتي عشرة.
توفي فيها رسول الله ﷺ محمد بن عبد الله، سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وذلك في ربيعها الأول يوم الإثنين ثاني عشره على المشهور كما قدمنا بيانه.
وبعده بستة أشهر على الأشهر توفيت ابنته فاطمة رضي الله عنها وتكنى بأم أبيها، وقد كان - صلوات الله وسلامه عليه - عهد إليها أنها أول أهله لحوقا به.
وقال لها مع ذلك: « أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة ».
وكانت أصغر بنات النبي ﷺ على المشهور ولم يبق بعده سواها، فلهذا عظم أجرها لأنها أصيبت به عليه السلام ويقال: إنها كانت توأما لعبد الله ابن رسول الله ﷺ وليس له عليه السلام نسل إلا من جهتها.
قال الزبير ابن بكار: وقد روي أنه عليه السلام ليلة زفاف علي على فاطمة توضأ وصب عليه وعلى فاطمة ودعا لهما أن يبارك في نسلهما، وقد تزوجها ابن عمها علي ابن أبي طالب بعد الهجرة، وذلك بعد بدر، وقيل: بعد أحد، وقيل: بعد تزويج رسول الله ﷺ عائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد ذلك بسبعة أشهر ونصف، فأصدقها درعه الحطمية وقيمتها أربعمائة درهم، وكان عمرها إذ ذاك خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وكان علي أسن منها بست سنين، وقد وردت أحاديث موضوعة في تزويج علي بفاطمة لم نذكرها رغبة عنها، فولدت له حسنا، وحسينا، ومحسنا، وأم كلثوم، التي تزوج بها عمر بن الخطاب بعد ذلك.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، أنا عطاء بن السائب عن أبيه، عن علي أن رسول الله لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحى، وسقاء، وجرتين.
فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه.
فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى محلت يداي، فأتت النبي ﷺ.
فقال: « ما جاء بك أي بنية؟ »
قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت.
فقال: ما فعلت؟
قالت: استحييت أن أسأله، فأتياه جميعا فقال علي: يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري.
وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى محلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا.
فقال: « والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم ».
فرجعا، فأتاهما رسول الله ﷺ وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا.
فقال: « مكانكما » ثم قال: « ألا أخبركم بخير مما سألتماني؟ »
قالا: بلى.
قال: « كلمات علمنيهن جبريل تسبحان الله في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين ».
قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله ﷺ.
قال: فقال له ابن الكوا: ولا ليلة صفين؟
فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم ولا ليلة صفين.
وآخر هذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه، فقد كانت فاطمة صابرة مع علي على جهد العيش وضيقه، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، ولكنه أراد أن يتزوج في وقت بدرة بنت أبي جهل فأنف رسول الله ﷺ من ذلك وخطب الناس فقال: « لا أحرم حلالا ولا أحل حراما، وإن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، وإني أخشى أن تفتن عن دمها، ولكن إن أحب ابن أبي طالب أن يطلقها ويتزوج بنت أبي جهل فإنه والله لا تجتمع بنت نبي الله وبنت عدو الله تحت رجل واحد أبدا ».
قال: فترك علي الخطبة.
ولما مات رسول الله ﷺ فسألت من أبي بكر الميراث فأخبرها أن رسول الله ﷺ قال: « لا نورث ما تركنا فهو صدقة » فسألت أن يكون زوجها ناظرا على هذه الصدقة فأبى ذلك وقال: إني أعول من كان رسول الله يعول، وإني أخشى إن تركت شيئا مما كان رسول الله ﷺ يفعله أن أضل، ووالله لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي أن أصل من قرابتي، فكأنها وجدت في نفسها من ذلك فلم تزل تبغضه مدة حياتها، فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها فجعل يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، فرضيت رضي الله عنهما.
رواه البيهقي من طريق إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي، ثم قال: وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح.
ولما حضرتها الوفاة أوصت إلى أسماء بنت عميس - امرأة الصديق - أن تغسلها فغسلتها هي وعلي ابن أبي طالب وسلمى أم رافع، قيل: والعباس بن عبد المطلب، وما روي من أنها اغتسلت قبل وفاتها وأوصت أن لا تغسل بعد ذلك فضعيف لا يعول عليه، والله أعلم.
وكان الذي صلى عليها زوجها علي، وقيل: عمها العباس وقيل: أبو بكر الصديق فالله أعلم.
ودفنت ليلا وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة.
وقيل: إنها توفيت بعده - عليه السلام بشهرين.
وقيل: بسبعين يوما.
وقيل: بخمسة وسبعين يوما.
وقيل: بثلاثة أشهر.
وقيل: بثمانية أشهر، والصحيح ما ثبت في الصحيح من طريق الزهري عن عروة، عن عائشة أن فاطمة عاشت بعد النبي ﷺ ستة أشهر، ودفنت ليلا.
ويقال: إنها لم تضحك في مدة بقائها بعده عليه السلام وأنها كانت تذوب من حزنها عليه، وشوقها إليه، واختلف في مقدار سنها يومئذ، فقيل: سبع وقيل: ثمان وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون وهذا بعيد وما قبله أقرب منه، والله أعلم.
ودفنت بالبقيع وهي أول من ستر سريرها، وقد ثبت في الصحيح أن عليا كان له فرجة من الناس حياة فاطمة، فلما ماتت التمس مبايعة الصديق فبايعه كما هو مروي في البخاري، وهذه البيعة لإزالة ما كان وقع من وحشة حصلت بسبب الميراث، ولا ينفي ما ثبت من البيعة المتقدمة عليها كما قررنا، والله أعلم.
وممن توفي هذه السنة أم أيمن:
بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان مولاة رسول الله ﷺ ورثها من أبيه، وقيل: من أمه، وحضنته وهو صغير وكذلك بعد ذلك، وقد أعتقها وزوجها عبيدا فولدت منه ابنها أيمن فعرفت به، ثم تزوجها زيد بن حارثة مولى رسول الله فولدت أسامة بن زيد، وقد هاجرت الهجرتين إلى الحبشة والمدينة، وكانت من الصالحات، وكان عليه السلام يزورها في بيتها ويقول: « هي أمي بعد أمي ».
وكذلك كان أبو بكر وعمر يزورانها في بيتها كما تقدم ذلك في ذكر الموالي، وقد توفيت بعده عليه السلام بخمسة أشهر، وقيل: بستة أشهر.
ومنهم ثابت بن أقرم بن ثعلبة:
ابن عدي بن العجلان البلوي حليف الأنصار، شهد بدرا وما بعدها، وكان ممن حضر مؤتة، فلما قتل عبد الله بن رواحة دفعت الراية إليه فسلمها لخالد بن الوليد وقال: أنت أعلم بالقتال مني.
وقد تقدم أن طليحة الأسدي قتله، وقتل معه عكاشة بن محصن وذلك حين يقول طليحة:
عشية غادرت ابن أقرم ساويا * وعكاشة الغنمي تحت مجال
وذلك في سنة إحدى عشرة، وقيل: سنة اثنتي عشرة.
وعن عروة أنه قتل في حياة النبي ﷺ وهذا غريب، والصحيح الأول، والله أعلم.
ومنهم ثابت بن قيس بن شماس:
الأنصاري الخزرجي أبو محمد خطيب الأنصار، ويقال له أيضا: خطيب النبي ﷺ وقد ثبت عنه عليه السلام أنه بشره بالشهادة وقد تقدم الحديث في دلائل النبوة، فقتل يوم اليمامة شهيدا وكانت راية الأنصار يومئذ بيده، وروى الترمذي بإسناد على شرط مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس ».
وقال أبو القاسم الطبراني: ثنا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا سليمان بن عبد الرحمن، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عطاء الخراساني قال: قدمت المدينة فسألت عمن يحدثني بحديث ثابت بن قيس بن شماس فأرشدوني إلى ابنته فسألتها، فقالت: سمعت أبي يقول: لما أنزل على رسول الله ﷺ: « إن الله لا يحب كل مختال فخور » اشتدت على ثابت، وغلق عليه بابه وطفق يبكي، فأخبر رسول الله فسأله فأخبره بما كبر عليه منها.
وقال أنا رجل أحب الجمال وأنا أسود قومي.
فقال: « إنك لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير، ويدخلك الله الجنة ».
فلما أنزل على رسول الله: { ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } [218].
فعل مثل ذلك فأخبر النبي ﷺ فأرسل إليه فأخبره بما كبر عليه منها، وأنه جهير الصوت وأنه يتخوف أن يكون ممن حبط عمله، فقال: « إنك لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا ويدخلك الله الجنة ».
فلما استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردة واليمامة ومسيلمة الكذاب سار ثابت فيمن سار فلما لقوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله ﷺ فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيها فقاتلا حتى قتلا، قالت: ورأى رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه، فقال: إني لما قتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين فانتزع مني درعا نفيسه ومنزله في أقصى العسكر وعند منزله فرس بتن في طوله، وقد أكفأ على الدرع برمة وجعل فوق البرمة رحلا وائت خالد بن الوليد فليبعث إلي درعي فليأخذها، فإذا قدمت على خليفة رسول الله فأعلمه أن علي من الدين كذا ولي من المال كذا، وفلان من رقيقي عتيق، وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه.
قال: فأتى خالد فوجه إلى الدرع فوجدها كما ذكر.
وقدم على أبي بكر فأخبره فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته، فلا نعلم أحدا جازت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس بن شماس، ولهذا الحديث وهذه القصة شواهد أخر، والحديث المتعلق بقوله: « لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي » في صحيح مسلم عن أنس.
وقال حماد بن سلمة: عن ثابت، عن أنس أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ونشر أكفانه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فقتل، وكانت له درع فسرقت فرآه رجل فيما يرى النائم: فقال إن درعي في قدر تحت الكانون في مكان كذا وكذا، وأوصاه بوصايا فطلبوا الدرع فوجدوها وأنفذوا الوصايا.
رواه الطبراني أيضا.
ومنهم حزن ابن أبي وهب:
ابن عمرو بن عامر بن عمران المخزومي له هجرة، ويقال: أسلم عام الفتح، وهو جد سعيد بن المسيب، أراد رسول الله ﷺ أن يسميه سهلا فامتنع، وقال: لا أغير اسما سمانيه أبواي، فلم تزل الحزونة فينا، استشهد يوم اليمامة، وقتل معه أيضا ابناه عبد الرحمن، ووهب، وابن ابنه حكيم بن وهب بن حزن، وممن استشهد في هذه السنة داذويه الفارسي أحد أمراء اليمن الذين قتلوا الأسود العنسي، قتله غيلة قيس بن مكشوح حين ارتد قبل أن يرجع قيس إلى الإسلام، فلما عنفه الصديق على قتله أنكر ذلك، فقبل علانيته وإسلامه.
ومنهم زيد بن الخطاب:
ابن نفيل القرشي العدوي أبو محمد وهو - أخو عمر بن الخطاب لأبيه - وكان زيد أكبر من عمر أسلم قديما وشهد بدرا وما بعدها، وقد آخى رسول الله ﷺ بينه وبين معن بن عدي الأنصاري، وقد قتلا جميعا باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذ بيده فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قتل زيد يومئذ الرجال بن عنفوة واسمه نهار، وكان الرجال هذا قد أسلم وقرأ البقرة ثم ارتد ورجع فصدق مسيلمة وشهد له بالرسالة فحصل به فتنة عظيمة، فكانت وفاته على يد زيد - رضي الله عن زيد -.
ثم قتل زيدا رجل يقال له: أبو مريم الحنفي وقد أسلم بعد ذلك.
وقال لعمر: يا أمير المؤمنين إن الله أكرم زيدا بيدي ولم يهني على يده.
وقيل: إنما قتله سلمة بن صبيح ابن عم أبي مريم هذا، ورجحه أبو عمر وقال: لأن عمر استقضى أبا مريم وهذا لا يدل على نفي ما تقدم والله أعلم.
وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب: سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي، واستشهد قبلي.
وقال لمتمم بن نويرة حين جعل يرثي أخاه مالكا بتلك الأبيات المتقدم ذكرها: لو كنت أحسن الشعر لقلت كما قلت.
فقال له متمم: لو أن أخي ذهب على ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه.
فقال له عمر: ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به.
ومع هذا كان عمر يقول: ما هبت الصبا إلا ذكرتني زيد بن الخطاب رضي الله عنه.
ومنهم سالم بن عبيد:
ويقال: ابن يعمل مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وإنما كان معتقا لزوجته ثبيتة بنت يعاد، وقد تبناه أبو حنيفة وزوجه بابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة، فلما أنزل الله « ادعوهم لآبائهم » جاءت امرأة أبي حذيفة سهلة بنت سهل بن عمرو فقالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علي وأنا غفل فأمرها أن ترضعه فأرضعته فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وكان من سادات المسلمين أسلم قديما، وهاجر إلى المدينة قبل رسول الله ﷺ فكان يصلي بمن بها من المهاجرين، وفيهم عمر بن الخطاب لكثرة حفظه القرآن، وشهد بدرا وما بعدها، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: « استقرئوا القرآن من أربعة » فذكر منهم سالما مولى أبي حذيفة.
وروي عن عمر أنه قال لما احتضر: لو كان سالم حيا لما جعلتها شورى.
قال أبو عمر بن عبد البر: معناه: أنه كان يصدر عن رأيه فيمن يوليه الخلافة، ولما أخذ الراية يوم اليمامة بعد مقتل زيد بن الخطاب قال له المهاجرون: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟
فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا. انقطعت يده اليمنى فأخذها بيساره، فقطعت فاحتضنها وهو يقول: « وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » « وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ».
فلما صرع قال لأصحابه: ما فعل أبو حذيفة؟
قالوا: قتل.
قال: فما فعل فلان؟
قالوا: قتل.
قال: فأضجعوني بينهما، وقد بعث عمر بميراثه إلى مولاته التي أعتقته بثينة فردته وقالت: إنما أعتقته سائبة، فجعله عمر في بيت المال.
ومنهم أبو دجانة سماك بن خرشة:
ويقال: سماك بن أوس بن خرشة بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي شهد بدرا وأبلى يوم أحد، وقاتل شديدا وأعطاه رسول الله ﷺ يومئذ سيفا فأعطاه حقه وكان يتبختر عند الحرب.
فقال عليه السلام: « إن هذه لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن ».
وكان يعصب رأسه بعصابة حمراء شعارا له بالشجاعة، وشهد اليمامة، ويقال: إنه ممن اقتحم على بني حنيفة يومئذ الحديقة فانكسرت رجله فلم يزل يقاتل حتى قتل يومئذ، وقد قتل مسيلمة مع وحشي بن حرب، رماه وحشي بالحربة وعلاه أبو دجانة بالسيف.
قال وحشي: فربك أعلم أينا قتله.
وقد قيل: إنه عاش حتى شهد صفين مع علي، والأول أصح، وأما ما يروى عنه من ذكر الحرز المنسوب إلى أبي دجانة فإسناده ضعيف ولا يلتفت إليه، والله أعلم.
ومنهم شجاع بن وهب:
ابن ربيعة الأسدي حليف بني عبد شمس أسلم قديما، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وكان رسول رسول الله إلى الحارث ابن أبي شمر الغساني فلم يسلم، وأسلم حاجبه سوى، واستشهد شجاع بن وهب يوم اليمامة عن بضع وأربعين سنة، وكان رجلا طوالا نحيفا أحنى.
ومنهم الطفيل بن عمرو بن طريف:
ابن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهر بن غنم بن دوس الدوسي أسلم قديما قبل الهجرة، وذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله فهداهم الله على يديه، فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة جاءه بتسعين أهل بيت من دوس مسلمين، وقد خرج عام اليمامة مع المسلمين ومعه ابنه عمرو فرأى الطفيل في المنام كأن رأسه قد حلق، وكأن امرأة أدخلته في فرجها، وكان ابنه يجتهد أن يلحقه فلم يصل، فأولها بأنه سيقتل ويدفن، وأن ابنه يحرص على الشهادة فلا ينالها عامه ذلك، وقد وقع الأمر كما أولها، ثم قتل ابنه شهيدا يوم اليرموك كما سيأتي.
ومنهم عباد بن بشر بن وقش الأنصاري:
أسلم على يدي مصعب بن عمير قبل الهجرة قبل إسلام معاذ وأسيد بن الحضير، وشهد بدرا وما بعدها، وكان ممن قتل كعب بن الأشرف، وكانت عصاه تضيء له إذا خرج من عند رسول الله في ظلمة.
قال موسى بن عقبة: عن الزهري قتل يوم اليمامة شهيدا عن خمس وأربعين سنة، وكان له بلاء وعناء.
وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: تهجد رسول الله فسمع صوت عباد فقال: « اللهم اغفر له ».
ومنهم السائب بن عثمان بن مظعون:
بدري من الرماة أصابه يوم اليمامة سهم فقتله وهو شاب رحمه الله.
ومنهم السائب بن العوام:
أخو الزبير بن العوام استشهد يومئذ رحمه الله.
ومنهم عبد الله بن سهيل بن عمرو:
ابن عبد شمس بن عبدود القرشي العامري أسلم قديما وهاجر، ثم استضعف بمكة فلما كان يوم بدر خرج معهم، فلما تواجهوا فر إلى المسلمين فشهدها معهم، وقتل يوم اليمامة، فلما حج أبو بكر عزى أباه فيه، فقال سهيل: بلغني أن رسول الله ﷺ قال: « إن الشهيد ليشفع لسبعين من أهله » فأرجو أن يبدأ بي.
ومنهم عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول:
الأنصاري الخزرجي كان من سادات الصحابة وفضلائهم، شهد بدرا وما بعدها، وكان أبوه رأس المنافقين، وكان أشد الناس على أبيه، ولو أذن له رسول الله فيه لضرب عنقه، وكان اسمه الحباب فسماه رسول الله ﷺ عبد الله، وقد استشهد يوم اليمامة رضي الله عنه.
ومنهم عبد الله ابن أبي بكر الصديق:
أسلم قديما، ويقال: إنه الذي كان يأتي بالطعام والشراب والأخبار إلى رسول الله ﷺ وإلى أبي بكر وهما بغار ثور، ويبيت عندهما ويصبح بمكة كبائت فلا يسمع بأمر يكادان به إلا أخبرهما به، وقد شهد الطائف فرماه رجل يقال له: أبا محجن الثقفي بسهم فذوى منها فاندملت، ولكن لم يزل منها حمتا حتى مات في شوال سنة إحدى عشرة.
ومنهم عكاشة بن محصن:
ابن حرثان بن قيس بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس، يكنى أبا محصن، وكان من سادات الصحابة وفضلائهم، هاجر وشهد بدرا وأبلى يومئذ بلاء حسنا وانكسر سيفه، فأعطاه رسول الله يومئذ عرجونا فعاد في يده سيفا أمضى من الحديد شديد المتن، وكان ذلك السيف يسمى العون، وشهد أحدا والخندق وما بعدها.
ولما ذكر رسول الله ﷺ السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عكاشة: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال: « اللهم اجعله منهم ».
ثم قام رجل آخر فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال: « سبقك بها عكاشة ».
والحديث مروي من طرق تفيد القطع، وقد خرج عكاشة مع خالد يوم إمرة الصديق بذي القصة فبعثه وثابت بن أقرم بين يديه طليعة، فتلقاهما طليحة الأسدي وأخوه سلمة فقتلاهما، وقد قتل عكاشة قبل مقتله حبال بن طليحة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك كما ذكرنا، وكان عمر عكاشة يومئذ أربعا وأربعين سنة، وكان من أجمل الناس رضي الله عنه.
ومنهم معن بن عدي:
ابن الجعد بن عجلان بن ضبيعة البلوي حليف بني عمرو بن عوف وهو أخو عاصم بن عدي شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد، وكان قد آخى رسول الله ﷺ بينه وبين زيد ابن الخطاب فقتلا جميعا يوم اليمامة رضي الله عنهما.
وقال مالك: عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: بكى الناس على رسول الله ﷺ حين مات وقالوا: والله وددنا أنا متنا قبله، ونخشى أن نفتتن بعده.
فقال معن بن عدي: لكني والله ما أحب أن أموت قبله لأصدقه ميتا كما صدقناه حيا.
ومنهم الوليد وأبو عبيدة ابنا عمارة بن الوليد بن المغيرة:
قتلا مع عمهما خالد بن الوليد بالبطاح، وأبوهما عمارة بن الوليد وهو صاحب عمرو بن العاص إلى النجاشي، وقضيته مشهورة.
ومنهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة:
ابن عبد شمس القرشي العبشمي أسلم قديما قبل دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وشهد بدرا وما بعدها، وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين عباد بن بشر، وقد قتلا شهيدين يوم اليمامة، وكان عمر أبي حذيفة يومئذ ثلاثا أو أربعا وخمسين سنة، وكان طويلا حسن الوجه أثعل - وهو الذي له سن زائدة - وكان اسمه هشيم، وقيل: هاشم.
ومنهم أبو دجانة واسمه سماك بن خرشة
تقدم قريبا.
وبالجملة فقد قتل من المسلمين يوم اليمامة أربعمائة وخمسون من حملة القرآن ومن الصحابة وغيرهم، وإنما أوردنا هؤلاء لشهرتهم، وبالله المستعان.
قلت: وممن استشهد يومئذ من المهاجرين مالك بن عمرو حليف بني غنم مهاجري بدري، ويزيد بن رقيش بن رباب الأسدي بدري، والحكم بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، وحسن بن مالك بن بحينة أخو عبد الله بن مالك الأزدي حليف بني المطلب بن عبد مناف، وعامر بن البكر الليثي حليف بني عدي بدري، ومالك بن ربيعة حليف بني عبد شمس، وأبو أمية صفوان بن أمية بن عمرو، ويزيد بن أوس حليف بني عبد الدار، وحيي ويقال: معلى بن حارثة الثقفي، وحبيب بن أسيد بن حارثة الثقفي، والوليد بن عبد شمس المخزومي، وعبد الله بن عمرو بن بجرة العدوي، وأبو قيس بن الحارث بن قيس السهمي - وهو من مهاجرة الحبشة - وعبد الله بن الحارث بن قيس، وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى ابن أبي قيس بن عبدود بن نصر العامري، من المهاجرين الأولين شهد بدرا وما بعدها وقتل يومئذ، وعمرو بن أويس بن سعد ابن أبي سرح العامري، وسليط بن عمرو العامري، وربيعة ابن أبي خرشة العامري، وعبد الله بن الحارث بن رحضة من بني عامر.
ومنهم الأنصار:
غير من ذكرنا تراجمهم: عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان النجاري - وهو أخو عمرو بن حزم - كانت معه راية قومه يوم الفتح، وقد شهد بدرا وقتل يومئذ، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام السلمي شهد العقبة الأولى وشهد بدرا وما بعدها، وثابت بن هزال من بني سالم بن عوف بدري في قول، وأبو عقيل ابن عبد الله بن ثعلبة من بني جحجبي شهد بدرا وما بعدها، فلما كان يوم اليمامة أصابه سهم فنزعه، ثم تحزم وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل، وقد أصابته جراحات كثيرة.
وعبد الله بن عتيك، ورافع بن سهل، وحاجب بن يزيد الأشهلي، وسهل بن عدي، ومالك بن أوس، وعمر بن أوس، وطلحة بن عتبة من بني جحجبي، ورباح مولى الحارث، ومعن بن عدي، وجزء بن مالك بن عامر من بني جحجبي، وورقة بن إياس بن عمرو الخزرجي بدري، ومروان بن العباس، وعامر بن ثابت، وبشر بن عبد الله الخزرجي، وكليب بن تميم، وعبد الله بن عتبان، وإياس بن وديعة، وأسيد بن يربوع، وسعد بن حارثة، وسهل بن حمان، ومحاسن بن حمير، وسلمة بن مسعود، وقيل: مسعود بن سنان، وضمرة بن عياض، وعبد الله بن أنيس، وأبو حبة بن غزية المازني، وخباب ابن زيد، وحبيب بن عمرو بن محصن، وثابت بن خالد، وفروة بن النعمان، وعائذ بن ماعص، ويزيد بن ثابت بن الضحاك أخو زيد بن ثابت.
قال خليفة بن خياط: فجميع من استشهد من المهاجرين والأنصار يوم اليمامة ثمانية وخمسون رجلا - يعني: وبقية الأربعمائة والخمسين من غيرهم، والله أعلم.
وقد قتل من الكفار فيما سقنا من المواطن التي التقى فيها المسلمون المشركون في هذه وأوائل التي قبلها ما ينيف على خمسين ألفا ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.
فمن مشاهيرهم الأسود العنسي - لعنه الله - واسمه عبهلة بن كعب بن غوث خرج أول مخرجه من بلدة باليمن يقال لها: كهف خبان ومعه سبعمائة مقاتل فما مضى شهر حتى تملك صنعاء، ثم استوثقت به اليمن بحذافيرها في أقصر مدة، وكان معه شيطان يحذق له ولكن خانه أحوج ما كان إليه، ثم لم تمض له ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر حتى قتله الله على يدي إخوان صدق، وأمراء حق كما قدمنا ذكره وهم دازويه الفارسي، وفيروز الديلمي، وقيس بن مكشوح المرادي، وذلك في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة قبل وفاة رسول الله ﷺ بليال، وقيل: بليلة، فالله أعلم.
وقد أطلع الله رسوله ليلة قتله على ذلك كما أسلفناه.
ومنهم مسيلمة بن حبيب اليمامي الكذاب:
قدم المدينة وافدا إلى رسول الله ﷺ مع قومه بني حنيفة، وقد وقف عليه رسول الله ﷺ فسمعه وهو يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته.
فقال له: « لو سألتني هذا العود - لعرجون في يده - ما أعطيتكه، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت ».
وكان رسول الله ﷺ قد رأى في المنام كأن في يده سوارين من ذهب فأهمه شأنهما، فأوحى الله إليه في المنام انفخهما فنفخهما فطارا، فأولهما بكذابين يخرجان، وهما صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة.
وهكذا وقع فإنهما ذهبا وذهب أمرهما، أما الأسود فذبح في داره، وأما مسيلمة فعقره الله على يدي وحشي بن حرب رماه بالحربة فأنفذه كما تعقر الإبل، وضربه أبو دجانة على رأسه ففلقه، وذلك بعقر داره في الحديقة التي يقال لها: حديقة الموت، وقد وقف عليه خالد بن الوليد وهو طريح أراه إياه من بين القتلى مجاعة بن مرارة.
ويقال: كان أصفر أخينس، وقيل: كان ضخما أسمر اللون كأنه جمل أورق.
ويقال: إنه مات وعمره مائة وأربعون سنة فالله أعلم.
وقد قتل قبله وزيراه ومستشاراه - لعنهما الله - وهما: محكم بن الطفيل الذي يقال له: محكم اليمامة، قتله عبد الرحمن ابن أبي بكر رماه بسهم وهو يخطب قومه يأمرهم بمصالح حربهم فقتله، والآخر نهار بن عنفوة الذي يقال له: الرجال بن عنفوة، وكان ممن أسلم ثم ارتد وصدق مسيلمة - لعنهما الله - في هذه الشهادة.
وقد رزق الله زيد بن الخطاب قتله قبل أن يقتل زيد رضي الله عنه ومما يدل على كذب الرجال في هذه الشهادة الضرورة في دين الإسلام.
وما رواه البخاري وغيره أن مسيلمة كتب إلى رسول الله ﷺ:
بسم الله الرحمن الرحيم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك، أما بعد فإني قد أشركت معك في الأمر فلك المدر ولي الوبر، ويروى فلكم نصف الأرض ولنا نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون.
فكتب إليه رسول الله ﷺ:
« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » وقد قدمنا ما كان يتعاطاه مسيلمة ويتعاناه - لعنه الله - من الكلام الذي هو أسخف من الهذيان مما كان يزعم أنه وحي من الرحمن، تعالى الله عما يقوله وأمثاله علوا كبيرا.
ولما مات رسول الله ﷺ زعم أنه استقل بالأمر من بعده واستخف قومه فأطاعوه، وكان يقول:
خذي الدف يا هذه والعبي * وبثي محاسن هذا النبي
تولى نبي بني هاشم * وقام نبي بني يعرب
فلم يمهله الله بعد وفاة رسول الله ﷺ إلا قليلا حتى سلط الله عليه سيفا من سيوفه، وحتفا من حتوفه، فبعج بطنه، وفلق رأسه، وعجل الله بروحه إلى النار، فبئس القرار.
قال الله تعالى: « فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ».
فمسيلمة والأسود وأمثالهما - لعنهم الله - أحق الناس دخولا في هذه الآية الكريمة، وأولاهم بهذه العقوبة العظيمة.
سنة اثنتي عشرة من الهجرة النبوية
استهلت هذه السنة وجيوش الصديق وأمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الردة جوالون في البلاد يمينا وشمالا لتمهيد قواعد الإسلام، وقتال الطغاة من الأنام حتى رد شارد الدين بعد ذهابه، ورجع الحق إلى نصابه، وتمهدت جزيرة العرب، وصار البعيد الأقصى كالقريب الأدنى.
وقد قال جماعة من علماء السير والتواريخ: إن وقعة اليمامة كانت في ربيع الأول من هذه السنة، وقيل: إنها كانت في أواخر التي قبلها، والجمع بين القولين أن ابتداءها كان في السنة الماضية، وانتهاءها وقع في هذه السنة الآتية، وعلى هذا القول ينبغي أن يذكروا في السنة الماضية كما ذكرناه، لاحتمال أنهم قتلوا في الماضية، ومبادرة إلى استيفاء تراجمهم قبل أن يذكروا مع من قتل بالشام والعراق في هذه السنة على ما سنذكر إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد قيل: إن وقعة جواثا وعمان ومهرة وما كان من الوقائع التي أشرنا إليها إنما كانت في سنة اثنتي عشرة، وفيها كان قتل الملوك الأربعة: حمد، ومحرس، وأبضعة، ومشرحا، وأختهم العمردة الذين ورد الحديث في مسند أحمد بلعنهم، وكان الذي قتلهم زياد بن الأنصاري.
بعث خالد بن الوليد إلى العراق
لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة بعث إليه الصديق أن يسير إلى العراق وأن يبدأ بفرج الهند، وهي الأبلة، ويأتي العراق من أعاليها وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره أن لا يكره أحدا على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتد عن الإسلام وإن كان عاد إليه، وأمره أن يستصحب كل امرئ مر به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث، والجيوش، إمدادا لخالد رضي الله عنه.
قال الواقدي: اختلف في خالد فقائل يقول: مضى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق، وقائل يقول: رجع من اليمامة إلى المدينة، ثم سار إلى العراق من المدينة فمر على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة.
قلت: والمشهور الأول، وقد ذكر المدائني بإسناده أن خالدا توجه إلى العراق في المحرم سنة اثنتي عشرة فجعل طريقه البصرة وفيها قطبة بن قتادة، وعلى الكوفة المثنى بن حارثة الشيباني.
وقال محمد بن إسحاق: عن صالح بن كيسان إن أبا بكر كتب إلى خالد أن يسير إلى العراق فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السواد يقال لها: بانقيا، وباروسما، وصاحبها حابان فصالحه أهلها.
قلت: وقد قتل منهم المسلمون قبل الصلح خلقا كثيرا، وكان الصلح على ألف درهم، وقيل: دينار في رجب، وكان الذي صالحه بصبهري بن صلوبا، ويقال: صلوبا بن بصبهري، فقبل منهم خالد وكتب لهم كتابا، ثم أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع بيصة بن إياس بن حية الطائي وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر، فقال لهم خالد: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم.
فقال له قبيصة: مالنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية.
فقال لهم خالد: تبا لكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها، فلقيه رجلان أحدهما عربي والآخر أعجمي فتركه واستدل بالعجمي، ثم صالحهم على تسعين ألفا، وفي رواية مائتي ألف درهم، فكانت أول جزية أخذت من العراق وحملت إلى المدينة هي والقريات قبلها التي صالح عليها ابن صلوبا.
قلت: وقد كان مع نائب كسرى على الحيرة ممن وفد إلى خالد عمرو بن عبد المسيح بن حيان بن بقيلة وكان من نصارى العرب، فقال له خالد: من أين أثرك؟
قال: من ظهر أبي.
قال: ومن أين خرجت؟
قال: من بطن أمي.
قال: ويحك على أي شيء أنت؟
قال: على الأرض.
قال: ويحك وفي أي شيء أنت؟
قال: في ثيابي.
قال: ويحك تعقل؟
قال: نعم، وأقيد.
قال: إنما أسألك؟
قال: وأنا أجيبك.
قال: أسلم أنت أم حرب؟
قال: بل سلم.
قال: فما هذه الحصون التي أرى؟
قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه، ثم دعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال فأجابوا إلى الجزية بتسعين، أو مائتي ألف كما تقدم.
ثم بعث خالد ابن الوليد كتابا إلى أمراء كسرى بالمدائن، ومرازبته، ووزرائه كما قال هشام بن الكلبي: عن أبي مخنف، عن مجالد، عن الشعبي قال: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن: من خالد ابن الوليد إلى مرازبة أهل فارس، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فالحمد لله الذي فض خدمكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم، وإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم الذي له مالنا وعليه ما علينا، أما بعد فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إلي بالرهن واعتقدوا مني الذمة، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، فلما قرؤوا الكتاب أخذوا يتعجبون.
وقال سيف بن عمر: عن طليحة الأعلم، عن المغيرة بن عيينة - وكان قاضي أهل الكوفة - قال: فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريق واحدة: فسرح المثنى قبله بيومين، ودليلة ظفر، وسرح عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد - يعني: في آخرهم - ودليله رافع، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا به، ويصادموا عدوهم، وكان فرج الهند أعظم فروج فارس بأسا، وأشدها شوكة، وكان صاحبه يحارب في البر والهند في البحر وهو هرمز، فكتب إليه خالد فبعث هرمز بكتاب خالد إلى شيرى بن كسرى، وأردشير بن شيرى، وجمع هرمز، وهو نائب كسرى جموعا كثيرة وسار بهم إلى كاظمة، وعلى مجنبتيه قباذ وأنوشجان - وهما من بيت الملك - وقد تفرق الجيش في السلاسل لئلا يفروا، وكان هرمز هذا من أخبث الناس طوية، وأشدهم كفرا، وكان شريفا في الفرس، وكان الرجل كلما ازداد شرفا زاد في حليته، فكانت قلنسوة هرمز بمائة ألف، وقدم خالد ومن معه من الجيش وهم ثمانية عشر ألفا فنزل تجاههم على غير ماء فشكى أصحابه ذلك، فقال: جالدوهم حتى تجلوهم عن الماء، فإن الله جاعل الماء لأصبر الطائفتين، فلما استقر بالمسلمين المنزل وهم ركبان على خيولهم بعث الله سحابة فأمطرتهم حتى صار لهم غدران من ماء، فقوي المسلمون بذلك وفرحوا فرحا شديدا، فلما تواجه الصفان، وتقاتل الفريقان، ترجل هرمز ودعا إلى النزال، فترجل خالد وتقدم إلى هرمز فاختلفا ضربتين، واحتضنه خالد، وجاءت حامية هرمز فما شغله عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو على حامية هرمز فأناموهم، وانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، واستحوذ المسلمون وخالد على أمتعتهم وسلاحهم فبلغ وقر ألف بعير، وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس، وأفلت قباذ وأنوشجان.
ولما رجع الطلب نادى منادي خالد بالرحيل فسار بالناس وتبعته الأثقال حتى نزل بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وبعث بالفتح والبشارة والخمس مع زر ابن كليب إلى الصديق، وبعث معه بفيل فلما رآه نسوة أهل المدينة جعلن يقلن: أمن خلق الله هذا أم شيء مصنوع؟
فرده الصديق مع زر، وبعث أبو بكر لما بلغه الخبر إلى خالد فنفله سلب هرمز، وكانت قلنسوته بمائة ألف، وكانت مرصعة بالجوهر، وبعث خالد الأمراء يمينا وشمالا يحاصرون حصونا هنالك ففتحوها عنوة وصلحا، وأخذوا منها أموالا جمة، ولم يكن خالد يتعرض للفلاحين - من لم يقاتل منهم - ولا أولادهم، بل للمقاتلة من أهل فارس.
وقعة المذار أو الثني
ثم كانت وقعة المذار في صفر من هذه السنة، ويقال لها: وقعة الثني - وهو النهر -.
قال ابن جرير: ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار.
وكان سببها أن هرمزا كان قد كتب إلى أردشير وشيرى بقدوم خالد نحوه من اليمامة، فبعث إليه كسرى بمدد مع أمير يقال له: قارن بن قريانس فلم يصل إلى هرمز حتى كان من أمره مع خالد ما تقدم، وفر من فر من الفرس فتلقاهم قارن فالتفوا عليه فتذامروا واتفقوا على العود إلى خالد، فساروا إلى موضع يقال له: المذار وعلى مجنبتي قارن قباذ وأنوشجان فلما انتهى الخبر إلى خالد قسم ما كان معه من أربعة أخماس غنيمة يوم ذات السلاسل، وأرسل إلى الصديق بخبره مع الوليد بن عقبة، وسار خالد بمن معه من الجيوش حتى نزل على المذار وهو على تعبئته فاقتتلوا قتال حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو إلى البراز فبرز إليه خالد وابتدره الشجعان من الأمراء فقتل معقل بن الأعشى بن النباش قارنا، وقتل عدي بن حاتم قباذ، وقتل عاصم أنوشجان، وفرت الفرس وركبهم المسلمون في ظهورهم فقتلوا منهم يومئذ ثلاثين ألفا وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه، وأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب إلى من قتل، وكان قارن قد انتهى شرفه في أبناء فارس، وجمع بقية الغينمة وخمسها وبعث بالخمس والفتح والبشارة إلى الصديق مع سعيد بن النعمان أخي بني عدي بن كعب، وأقام خالد هناك حتى قسم أربعة الأخماس وسبى ذراري من حصره من المقاتلة دون الفلاحين، فإنه أقرهم بالجزية.
وكان في هذا السبي حبيب أبو الحسن البصري وكان نصرانيا، ومافنه مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة، ثم أمر على الجند سعيد بن النعمان، وعلى الجزية سويد ابن مقرن، وأمره أن ينزل الحفير ليجبي إليه الأموال، وأقام خالد يتجسس الأخبار عن الأعداء.
وقعة الولجة
ثم كان أمر الولجة في صفر أيضا من هذه السنة فيما ذكره ابن جرير، وذلك لأنه لما انتهى الخبر بما كان بالمذار من قبل قارن وأصحابه إلى أردشير وهو ملك الفرس يومئذ، بعث أميرا شجاعا يقال له: الأندر زغر وكان من أبناء السواد ولد بالمدائن، ونشأ بها، وأمده بجيش آخر مع أمير يقال له: بهمن جاذويه، فساروا حتى بلغوا مكانا يقال له: الولجة، فسمع بهم خالد فسار بمن معه من الجنود ووصى من استخلفه هناك بالحذر وقلة الغفلة، فنازل أنذر زغر ومن ناشب معه، واجتمع عنده بالولجة، فاقتتلوا قتالا شديدا هو أشد مما قبله حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ كمينه الذي كان قد أرصدهم وراءه في موضعين فما كان إلا يسيرا حتى خرج الكمينان من هاهنا ومن هاهنا، فقرت صفوف الأعاجم فأخذهم خالد من أمامهم، والكمينان من ورائهم، فلم يعرف رجل منهم مقتل صاحبه، وهرب الأندر زغر من الوقعة فمات عطشا.
وقام خالد في الناس خطيبا فرغبهم في بلاد الأعاجم، وزهدهم في بلاد العرب وقال: ألا ترون ما هاهنا من الأطعمات، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى الإسلام، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن إثاقل عما أنتم عليه، ثم خمس الغنيمة وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، وبعث الخمس إلى الصديق وأسر من أسر من ذراري المقاتلة، وأقر الفلاحين بالجزية.
وقال سيف بن عمر: عن عمرو، عن الشعبي قال: بارز خالد يوم الولجة رجلا من الأعاجم يعدل بألف رجل فقتله، ثم إتكأ عليه وأتى بغدائه فأكله وهو متكئ عليه بين الصفين.
وقعة أليس
ثم كانت وقعة أليس في صفر أيضا، وذلك أن خالدا كان قد قتل يوم الولجة طائفة من بكر بن وائل من نصارى العرب ممن كان مع الفرس، فاجتمع عشائرهم وأشدهم حنقا عبد الأسود العجلي، وكان قد قتل له ابن بالأمس، فكاتبوا الأعاجم فأرسل إليهم أردشير جيشا فاجتمعوا بمكان يقال له: أليس، فبينما هم قد نصبوا لهم سماطا فيه طعام يريدون أكله إذ غافلهم خالد بجيشه، فلما رأوه أشار من أشار منهم بأكل الطعام وعدم الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى: بل ننهض إليه فلم يسمعوا منه.
فلما نزل خالد تقدم بين يدي جيشه ونادى بأعلى صوته لشجعان من هنالك من الأعراب: أين فلان، أين فلان، فكلهم تلكأوا عنه إلا رجلا يقال له: مالك بن قيس من بني جذرة فإنه برز إليه.
فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جرأك على من بينهم، وليس فيك وفاء، فضربه فقتله، ونفرت الأعاجم عن الطعام، وقاموا إلى السلاح، فاقتتلوا قتالا شديدا جدا والمشركون يرقبون قدوم بهمن مددا من جهة الملك إليهم، فهم في قوة وشدة، وكلب في القتال، وصبر المسلمون صبرا بليغا.
وقال خالد: اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم إن الله عز وجل منح المسلمين أكتافهم، فنادى منادي خالد الأسر الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلت الخيول بهم أفواجا يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة ويطلبهم في الغد ومن بعد الغد، وكلما حضر منهم أحد ضربت عنقه في النهر وقد صرف ماء النهر إلى موضع آخر، فقال له بعض الأمراء: إن النهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدم فيجري معه فتبر بيمينك، فأرسله فسال النهر دما عبيطا فلذلك سمي نهر الدم إلى اليوم، فدارت الطواحين بذلك الماء المختلط بالدم العبيط ما كفى العسكر بكماله ثلاثة أيام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفا، ولما هزم خالد الجيش ورجع من رجع من الناس عدل خالد إلى الطعام الذي كانوا قد وضعوه ليأكلوه.
فقال للمسلمين: هذا نفل، فانزلوا فكلوا فنزل الناس فأكلوا عشاء، وقد جعل الأعاجم على طعامهم مرققا كثيرا فجعل من يراه من أهل البادية من الأعراب يقولون: ما هذه الرقع؟ يحسبونها ثيابا.
فيقول لهم من يعرف ذلك من أهل الأرياف والمدن: أما سمعتم رقيق العيش؟
قالوا: بلى.
قالوا: فهذا رقيق العيش، فسموه يومئذ رقاقا، وإنما كانت العرب تسميه العود.
وقد قال سيف بن عمر: عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، عمن حدث، عن خالد أن رسول الله ﷺ نفل الناس يوم خيبر الخبز والبطيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك غير متأثليه.
وكان كل من قتل بهذه الوقعة يوم أليس من بلدة يقال لها: أمغيشيا، فعدل إليها خالد وأمر بخرابها، واستولى على ما بها، فوجدوا بها مغنما عظيما، فقسم بين الغانمين فأصاب الفارس بعد النفل ألفا وخمسمائة غير ما تهيأ له مما قبله، وبعث خالد إلى الصديق بالبشارة والفتح والخمس من الأموال، والسبي مع رجل يقال له: جندل من
بني عجل، وكان دليلا صارما فلما بلغ الصديق الرسالة، وأدى الأمانة أثنى عليه وأجازه جارية من السبي.
وقال الصديق: يا معشر قريش إن أسدكم قد عدا على الأسد فغلبه على خراذيله، عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد، ثم جرت أمور طويلة لخالد في أماكن متعددة يمل سماعها، وهو مع ذلك لا يكل ولا يمل ولا يهن، ولا يحزن، بل كلما له في قوة وصرامة وشدة وشهامة، ومثل هذا إنما خلقه الله عزا للإسلام وأهله، وذلا للكفر وشتات شمله.
فصل نزول خالد بن الوليد النجف
ثم سار خالد فنزل الخورنق والسدير وبالنجف، وبث سراياه هاهنا وهاهنا يحاصرون الحصون من الحيرة، ويستنزلون أهلها قسرا وقهرا، وصلحا ويسرا وكان في جملة ما نزل بالصلح قوم من نصارى العرب فيهم ابن بقيلة المتقدم ذكره.
وكتب لأهل الحيرة كتاب أمان، فكان الذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح ابن نقيلة، ووجد خالد معه كيسا فقال: ما في هذا؟ وفتحه خالد فوجد فيه شيئا.
فقال ابن بقيلة: هو سم الساعة.
فقال: ولم استصحبته معك؟
فقال: حتى إذا رأيت مكروها في قومي أكلته، فالموت أحب إلي من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال: إنه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثم قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم.
قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه فبادرهم فابتلعه، فلما رأى ذلك ابن بقيلة قال: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد، ثم التفت إلى أهل الحيرة فقال: لم أر كاليوم أوضح إقبالا من هذا.
ثم دعاهم وسألوا خالدا الصلح فصالحهم وكتب لهم كتابا بالصلح، وأخذ منهم أربعمائة ألف درهم عاجلة، ولم يكن صالحهم حتى سلموا كرامة بنت عبد المسيح إلى رجل من الصحابة يقال له: شويل وذلك أنه لما ذكر رسول الله ﷺ قصور الحيرة كأن شرفها أنياب الكلاب.
فقال له: يا رسول الله هب لي ابنة بقيلة.
فقال: « هي لك ».
فلما فتحت ادعاها شويل، وشهد له اثنان من الصحابة فامتنعوا من تسليمها إليه وقالوا: ما تريد إلى امرأة ابنة ثمانين سنة؟
فقالت لقومها: إدفعوني إليه، فإني سأفتدي منه وإنه قد رآني وأنا شابة، فسلمت إليه فلما خلا بها، قالت: ما تريد إلى امرأة بنت ثمانين سنة وأنا أفتدى منك فاحكم بما أردت.
فقال: والله لا أفديك بأقل من عشر مائة فاستكثرتها خديعة منها، ثم أتت قومها فأحضروا له ألف درهم.
ولامه الناس وقالوا: لو طلبت أكثر من مائة ألف لدفعوها إليك.
فقال: وهل عدد أكثر من عشر مائة؟
وذهب إلى خالد وقال: إنما أردت أكثر العدد.
فقال خالد: أردت أمرا وأراد الله غيره، وإنا نحكم بظاهر قولك ونيتك عند الله كاذبا أنت أم صادقا.
وقال سيف بن عمر: عن عمرو بن محمد، عن الشعبي لما افتتح خالد الحيرة صلى ثماني ركعات بتسليمة واحدة، وقد قال عمرو بن القعقاع في هذه الأيام ومن قتل من المسلمين بها، وأيام الردة:
سقى الله قتلى بالفرات مقيمة * وأخرى بأثباج النجاف الكوانف
ونحن وطئنا بالكواظم هرمزا * وبالثنى قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت * على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كان عرشهم * يميل بهم فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا * غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا * إلى الريف من أرض العريب المقانف
وقد قدم جرير بن عبد الله البجلي على خالد بن الوليد وهو بالحيرة بعد الوقعات المتعددة، والغنائم المتقدم ذكرها ولم يحضر شيئا منها وذلك لأنه كان قد بعثه الصديق مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام فاستأذن خالد بن سعيد في الرجوع إلى الصديق ليجمع له قومه من بجيلة فيكونوا معه.
فلما قدم على الصديق فسأله ذلك، غضب الصديق وقال: أتيتني لتشغلني عما هو أرضى لله من الذي تدعوني إليه، ثم سيره الصديق إلى خالد بن الوليد بالعراق.
قال سيف بأسانيده: ثم جاء ابن صلوبا فصالح خالدا على بانقيا، وبسما، وما حول ذلك على عشرة آلاف دينار، وجاءه دهاقين تلك البلاد فصالحوه على بلدانهم وأهاليهم كما صالح أهل الحيرة، واتفق في تلك الأيام التي كان قد تمكن بأطراف العراق واستحوذ على الحيرة وتلك البلدان، وأوقع بأهل أليس والثنى وما بعدها بفارس ومن ناشب معهم ما أوقع من القتل الفظيع في فرسانهم، أن عدت فارس على ملكهم الأكبر أردشير وابنه شيرين فقتلوهما، وقتلوا كل من ينسب إليهما، وبقيت الفرس حائرين فيمن يولوه أمرهم، واختلفوا فيما بينهم غير أنهم قد جهزوا جيوشا تكون حائلة بين خالد وبين المدائن التي فيها إيوان كسرى، وسرير مملكته.
فحينئذ كتب خالد إلى من هنالك من المرازبة والأمراء والدولة يدعوهم إلى الله، وإلى الدخول إلى دين الإسلام ليثبت ملكهم عليهم، وإلا فليدفعوا الجزية، وإلا فليعلموا وليستعدوا لقدومه عليهم بقوم يحبون الموت كما يحبون هم الحياة، فجعلوا يعجبون من جرأة خالد وشجاعته، ويسخرون من ذلك لحماقتهم، ورعونتهم في أنفسهم.
وقد أقام خالد هنالك بعد صلح الحيرة سنة يتردد في بلاد فارس هاهنا وهاهنا، ويوقع بأهلها من البأس الشديد، والسطوة الباهرة، ما يبهر الأبصار لمن شاهد ذلك، ويشنف أسماع من بلغه ذلك، ويحير العقول لمن تدبره.
فتح الأنبار معركة ذات العيون
ركب خالد في جيوشه فسار حتى انتهى إلى الأنبار وعليها رجل من أعقل الفرس وأسودهم في أنفسهم، يقال له: شيرزاذ، فأحاط بها خالد وعليها خندق وحوله أعراب من قومهم على دينهم، واجتمع
معهم أهل أرضهم فمانعوا خالدا أن يصل إلى الخندق فضرب معهم رأسا، ولما تواجه الفريقان أمر خالد أصحابه فرشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين، فتصايح الناس ذهبت عيون أهل الأنبار، وسميت هذه الغزوة ذات العيون، فراسل شيرزاذ خالدا في الصلح، فاشترط خالد أمورا امتنع شيرزاذ من قبولها، فتقدم خالد إلى الخندق فاستدعي برذايا الأموال من الإبل، فذبحها حتى ردم الخندق بها، وجاز هو وأصحابه فوقها، فلما رأى شيرزاذ ذلك أجاب إلى الصلح على الشروط التي اشترطها خالد، وسأله أن يرده إلى مأمنه فوفى له خالد بذلك، وخرج شيرزاذ من الأنبار، وتسلمها خالد فنزلها واطمأن بها، وتعلم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية، وكان أولئك العرب قد تعلموها من عرب قبلهم، وهم بنو إياد كانوا بها في زمان بختنصر حين أباح العراق للعرب، وأنشدوا خالدا قول بعض إياد يمتدح قومه:
قومي إياد لو أنهم أمم * أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا * ساروا جميعا واللوح والقلم
ثم صالح خالد أهل البوازيج، وكلواذي.
قال: ثم نقض أهل الأنبار ومن حولهم عهدهم لما اضربت بعض الأحوال، ولم يبق على عهده سوى البوازيج، وبانقيا.
قال سيف: عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب ابن أبي ثابت قال: ليس لأحد من أهل السواد عهد قبل الوقعة إلا بنو صلوبا، وهم أهل الحيرة، وكلواذي ذي، وقرى من قرى الفرات، غدروا حتى دعوا إلى الذمة بعد ما غدروا.
وقال سيف: عن محمد بن قيس، قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة وكل أرض إلا بعض القلاع والحصون؟
قال: بعض صالح، وبعض غالب.
قلت: فهل لأهل السواد ذمة اعتقدوها قبل الحرب؟
قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمة.
وقعة عين التمر
لما استقل خالد بالأنبار استناب عليها الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر وبها يومئذ مهران بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العرب، وحولهم من الأعراب طوائف من النمر، وتغلب، وإياد، ومن لاقاهم وعليهم عقة ابن أبي عقة، فلما دنا خالد، قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا.
فقال له: دونكم وإياهم وإن احتجتم إلينا أعناكم، فلامت العجم أميرهم على هذا، فقال: دعوهم فإن غلبوا خالدا فهو لكم، وإن غلبوا قاتلنا خالدا وقد ضعفوا ونحن أقوياء، فاعترفوا له بفضل الرأي عليهم.
وسار خالد وتلقاه عقة، فلما تواجهوا قال خالد لمجنبتيه: إحفظوا مكانكم فإني حامل، وأمر حماته أن يكونوا من ورائه، وحمل على عقة وهو يسوي الصفوف فاحتضنه وأسره، وانهزم جيش عقة من غير قتال، فأكثروا فيهم الأسر، وقصد خالد حصن عين التمر.
فلما بلغ مهران هزيمة عقة وجيشه نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت فلال نصارى الأعراب إلى الحصن فوجدوه مفتوحا فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، فلما رأوا ذلك سألوه الصلح فأبى إلا أن ينزلوا على حكم خالد، فجعلوا في السلاسل، وتسلم الحصن، ثم أمر فضربت عنق عقة ومن كان أسر معه، والذين نزلوا على حكمه أيضا أجمعين، وغنم جميع ما في ذلك الحصن، ووجد في الكنيسة التي به أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل وعليهم باب مغلق، فكسره خالد وفرقهم في الأمراء وأهل الغناء.
وكان حمران صار إلى عثمان بن عفان من الخمس، ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين، أخذه أنس بن مالك، وجماعة آخرون من الموالي المشاهير أراد بهم وبذراريهم خيرا.
ولما قدم الوليد بن عقبة على الصديق بالخمس، رده الصديق إلى عياض بن غنم مددا له وهو محاصر دومة الجندل، فلما قدم عليه وجده في ناحية من العراق يحاصر قوما وهم قد أخذوا عليه الطرق فهو محصور أيضا، فقال عياض للوليد: إن بعض الرأي خير من جيش كثيف، ماذا ترى فيما نحن فيه؟
فقال له الوليد: اكتب إلى خالد يمدك بجيش من عنده.
فكتب إليه يستمده فقدم كتابه على خالد عقب وقعة عين التمر وهو يستغيث به.
فكتب إليه من خالد إلى عياض: إياك أريد
لبث قليلا تأتك الحلائب * يحملن آسادا عليها القاشب
كتائب تتبعها كتائب
خبر دومة الجندل
لما فرغ خالد من عين التمر قصد إلى دومة الجندل، واستخلف على عين التمر عويمر بن الكاهن الأسلمي، فلما سمع أهل دومة الجندل بمسيره إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء، وتنوخ، وكلب، وغسان، والضجاعم، فأقبلوا إليهم وعلى غسان وتنوخ ابن الأيهم، وعلى الضجاعم ابن الحدرجان، وجماع الناس بدومة إلى رجلين أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة فاختلفا.
فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائر منه في حرب ولا أحد منه، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا قلوا أم كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم.
فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد وفارقهم، فبعث إليه خالد عاصم بن عمرو فعارضه فأخذه، فلما أتى به خالدا أمر فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه، ثم تواجه خالد وأهل دومة الجندل وعليهم الجودي بن ربيعة، وكل قبيلة مع أميرها من الأعراب، وجعل خالد دومة بينه وبين جيش عياض بن غنم، وافترق جيش الأعراب فرقتين، فرقة نحو خالد، وفرقة نحو عياض، وحمل خالد على من قبله، وحمل عياض على أولئك، فأسر خالد الجودي، وأسر الأقرع بن حابس وديعة، وفرت الأعراب إلى الحصن فملأوه، وبقي منهم خلق ضاق عليهم، فعطفت بنو تميم على من هو خارج الحصن فأعطوهم ميرة فنجا بعضهم، وجاء خالد فضرب أعناق من وجده خارج الحصن، وأمر بضرب عنق الجودي، ومن كان معه من الأسارى إلا أسارى بني كلب، فإن عاصم بن عمرو والأقرع بن حابس وبني تميم أجاروهم.
فقال لهم خالد: مالي ومالكم أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام.
فقال له عاصم بن عمرو: أتحسدونهم العافية، وتحوذونهم الشيطان.
ثم أطاف خالد بالباب فلم يزل عنه حتى اقتلعه واقتحموا الحصن، فقتلوا من فيه من المقاتلة، وسبوا الذراري، فبايعوهم بينهم فيمن يزيد، واشترى خالد يومئذ ابنة الجودي، وكانت موصوفة بالجمال، وأقام بدومة الجندل ورد الأقرع إلى الأنبار.
ثم رجع خالد إلى الحيرة فتلقاه أهلها من أهل الأرض بالتقليس، فسمع رجلا منهم يقول لصاحبه: مر بنا فهذا يوم فرح الشر.
خبر وقعتي الحصيد والمضيح
قال سيف: عن محمد وطلحة والمهلب قالوا: وكان خالد أقام بدومة الجندل فظن الأعاجم به وكاتبوا عرب الجزيرة فاجتمعوا لحربه، وقصدوا الأنبار يريدون انتزاعها من الزبرقان وهو نائب خالد عليها، فلما بلغ ذلك الزبرقان كتب إلى القعقاع بن عمرو نائب خالد على الحيرة، فبعث القعقاع أعبد ابن فدكي السعدي وأمره بالحصيد، وبعث عروة ابن أبي الجعد البارقي وأمره بالخنافس، ورجع خالد من دومة إلى الحيرة وهو عازم على مصادمة أهل المدائن محلة كسرى، لكنه يكره أن يفعل ذلك بغير إذن أبي بكر الصديق، وشغله ما قد اجتمع من جيوش الأعاجم مع نصارى الأعراب يريدون حربه، فبعث القعقاع بن عمرو أميرا على الناس فالتقوا بمكان يقال له: الحصيد وعلى العجم رجل منهم يقال له: روزبه، وأمده أمير آخر يقال له: زرمهر فاقتتلوا قتالا شديدا وهزم المشركون، فقتل منهم المسلمون خلقا كثيرا، وقتل القعقاع بيده زرمهر، وقتل رجل يقال له: عصمة بن عبد الله الضبي رزوبه، وغنم المسلمون شيئا كثيرا وهرب من هرب من العجم، فلجأوا إلى مكان يقال له: خنافس فسار إليهم أبو ليلى ابن فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المضيح، فلما استقروا بها بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق وأغار عليهم ليلا وهم نائمون، فأنامهم ولم يفلت منهم إلا اليسير، فما شبهوا إلا بغنم مصرعة.
وقد روى ابن جرير عن عدي بن حاتم قال: انتهينا في هذه الغارة إلى رجل يقال له: حرقوص بن النعمان النمري وحوله بنوه وبناته وامرأته وقد وضع لهم جفنة من خمر وهم يقولون: أحد يشرب هذه الساعة وهذه جيوش خالد قد أقبلت؟
فقال لهم: إشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها، فشربوا وجعل يقول:
ألا يا اسقياني قبل نائرة الفجر * لعل منايانا قريب ولا ندري
القصيدة إلى آخرها.
قال: فهجم الناس عليه فضرب رجل رأسه فإذا هو في جفنته، وأخذت بنوه وبناته وامرأته، وقد قتل في هذه المعركة رجلان كانا قد أسلما ومعهما كتاب من الصديق بالأمان، ولم يعلم بذلك المسلمون، وهما: عبد العزى ابن أبي رهم بن قرواش قتله جرير بن عبد الله البجلي، والآخر لبيد بن جرير قتله بعض المسلمين، فلما بلغ خبرهما الصديق وداهما، وبعث بالوصاة بأولادهما، وتكلم عمر بن الخطاب في خالد بسببهما، كما تكلم فيه بسبب مالك بن نويرة.
فقال له الصديق: كذلك يلقى من يساكن أهل الحرب في ديارهم، أي الذنب لهما في مجاورتهما المشركين.
وهذا كما في الحديث « أنا بريء من كل من ساكن المشرك في داره ».
وفي الحديث الآخر « لا ترى نارهما » أي لا يجمتع المسلمون والمشركون في محلة واحدة.
ثم كانت وقعة الثنى، والزميل، وقد بيتوهم فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث بخبر، ثم بعث خالد بالخمس من الأموال والسبي إلى الصديق، وقد اشترى علي ابن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب وهي ابنة ربيعة بن بجير التغلبي فاستولدها عمر، ورقية - رضي الله عنهم أجمعين -.
وقعة الفراض
ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى وقعة الفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأقام هنالك شهر رمضان مفطرا لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومصيره إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعا كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والنمر، ثم ناهدوا خالدا فحالت الفرات بينهم.
فقالت الروم لخالد: أعبر إلينا.
وقال خالد للروم: بل اعبروا أنتم.
فعبرت الروم إليهم وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة فاقتتلوا هنالك قتالا عظيما بليغا، ثم هزم الله جموع الروم، وتمكن المسلمون من اقتفائهم فقتل في هذه المعركة مائة ألف، وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرة أيام، ثم أذن بالقفول إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة، وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة، وأظهر خالد أنه يسير في الساقة، وسار خالد في عدة من أصحابه وقصد شطر المسجد الحرام وسار إلى مكة في طريق لم يسلك قبله قط ويأتي له في ذلك أمر لم يقع لغيره، فجعل يسير متعسفا على غير جادة حتى انتهى إلى مكة فأدرك الحج في هذه السنة، ثم عاد فأدرك أمر الساقة قبل أن يصلوا إلى الحيرة، ولم يعلم أحد بحج خالد هذه السنة إلا القليل من الناس ممن كان معه، ولم يعلم أبو بكر الصديق بذلك أيضا إلا بعدما رجع أهل الحج من الموسم، فبعث يعتب عليه في مفارقته الجيش، وكانت عقوبته عنده أن صرفه من غزو العراق إلى غزو الشام، وقال له: فيما كتب إليه يقول له: وإن الجموع لم تشج بعون الله شجيك فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي الجزاء.
فصل فيما كان من الحوادث في هذه السنة
فيها أمر الصديق زيد بن ثابت أن يجمع القرآن من اللحاف والعسب وصدور الرجال وذلك بعد ما استحر القتل في القراء يوم اليمامة، كما ثبت به الحديث في صحيح البخاري.
وفيها تزوج علي ابن أبي طالب بأمامة بنت زينب بنت رسول الله ﷺ وهي من أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس الأموي، وقد توفي أبوها في هذا العام، وهذه هي التي كان رسول الله ﷺ يحملها في الصلاة فيضعها إذا سجد، ويرفعها إذا قام.
وفيها تزوج عمر بن الخطاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وهي ابنة عمه وكان لها محبا وبها معجبا، وكان لا يمنعها من الخروج إلى الصلاة، ويكره خروجها، فجلس لها ذات ليلة في الطريق في ظلمة فلما مرت ضرب بيده على عجزها، فرجعت إلى منزلها ولم تخرج بعد ذلك، وقد كانت قبله تحت زيد بن الخطاب فيما قيل فقتل عنها، وكانت قبل زيد تحت عبد الله ابن أبي بكر فقتل عنها، ولما مات عمر تزوجها بعده الزبير فلما قتل خطبها علي ابن أبي طالب، فقالت: إني أرغب بك عن الموت، وامتنعت عن التزوج حتى ماتت.
وفيها اشترى عمر مولاه أسلم، ثم صار منه أن كان أحد سادات التابعين، وابنه زيد بن أسلم أحد الثقات الرفعاء.
وفيها حج بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف على المدينة عثمان بن عفان.
رواه ابن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة، عن رجل من بني سهم، عن ابن ماجدة قال: حج بنا أبو بكر في خلافته سنة اثنتي عشرة، فذكر حديثا في القصاص من قطع الأذن، وأن عمر حكم في ذلك بأمر الصديق.
قال ابن إسحاق: وقال بعض الناس: لم يحج أبو بكر في خلافته، وأنه بعث على الموسم السنة اثنتي عشرة عمر بن الخطاب أو عبد الرحمن بن عوف.
فصل فيمن توفي في هذه السنة
قد قيل: إن وقعة اليمامة وما بعدها كانت في سنة اثنتي عشرة، فليذكر هاهنا من تقدم ذكره في سنة إحدى عشرة من قتل اليمامة وما بعدها، ولكن المشهور ما ذكرناه.
بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي:
والد النعمان بن بشير شهد العقبة الثانية وبدرا وما بعدها، ويقال: إنه أول من أسلم من الأنصار، وهو أول من بايع الصديق يوم السقيفة من الأنصار، وشهد مع خالد حروبه إلى أن قتل بعين التمر رضي الله عنه.
وروى له النسائي حديث النحل.
والصعب بن جثامة الليثي أخو محكم بن جثامة له عن رسول الله ﷺ أحاديث، قال أبو حاتم: هاجر وكان نزل ودان ومات في خلافة الصديق.
أبو مرثد الغنوي:
واسمه معاذ بن الحصين ويقال: ابن الحصين بن يربوع بن عمرو بن يربوع بن خرشة بن سعد بن طريف بن خيلان بن غنم بن غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار أبو مرثد الغنوي شهد هو وابنه مرثد بدرا، ولم يشهدها رجل هو وابنه سواهما، واستشهد ابنه مرثد يوم الرجيع كما تقدم، وابن ابنه أنيس بن مرثد ابن أبي مرثد له صحبة أيضا شهد الفتح وحنينا، وكان عين رسول الله ﷺ يوم أوطاس، فهم ثلاثة نسقا وقد كان أبو مرثد حليفا للعباس بن عبد المطلب، وروي له عن النبي ﷺ حديث واحد أنه قال: « لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها ».
قال الواقدي: توفي سنة اثنتي عشرة، زاد غيره بالشام، وزاد غيره عن ست وستين سنة، وكان رجلا طويلا كثير الشعر.
قلت: وفي قبلي دمشق قبر يعرف بقبر كثير، والذي قرأته على قبره: هذا قبر كناز بن الحصين صاحب رسول الله ﷺ ورأيت على ذلك المكان روحا وجلالة.
والعجب أن الحافظ ابن عساكر لم يذكره في تاريخ الشام فالله أعلم.
وممن توفي في هذه السنة أبو العاص بن الربيع ابن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي زوج أكبر بنات رسول الله ﷺ زينب، وكان محسنا إليها، ومحبا لها، ولما أمره المسلمون بطلاقها حين بعث رسول الله ﷺ أبى عليهم ذلك، وكان ابن أخت خديجة بنت خويلد، واسم أمه هالة، ويقال: هند بنت خويلد، واختلف في اسمه فقيل: لقيط وهو الأشهر، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وقد شهد بدرا من ناحية الكفار فأسر، فجاء أخوه عمرو بن الربيع ليفاديه وأحضر معه الفداء قلادة كانت خديجة أخرجتها مع ابنتها زينب حين تزوج أبو العاص بها، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وأطلقه بسببها، واشترط عليه أن يبعث له زينب إلى المدينة، فوفى له بذلك، واستمر أبو العاص على كفره بمكة إلى قبيل الفتح بقليل، فخرج في تجارة لقريش فاعترضه زيد بن حارثة في سرية فقتلوا جماعة من أصحابه وغنموا العير، وفر أبو العاص هاربا إلى المدينة فاستجار بامرأته زينب فأجارته، فأجاز رسول الله جوارها، ورد عليه ما كان معه من أموال قريش فرجع بها أبو العاص إليهم، فرد كل مال إلى صاحبه، ثم تشهد شهادة الحق، وهاجر إلى المدينة، ورد عليه رسول الله ﷺ زينب بالنكاح الأول، وكان بين فراقها له وبين اجتماعها ست سنين، وذلك بعد سنتين من وقت تحريم المسلمات على المشركين في عمرة الحديبية، وقيل: إنما ردها عليه بنكاح جديد، فالله أعلم.
وقد ولد له من زينب علي ابن أبي العاص وخرج مع علي إلى اليمن حين بعثه إليها رسول الله ﷺ.
وكان رسول الله ﷺ يثني عليه خيرا في صهارته.
ويقول: « حدثني فصدقني، وواعدني فوفاني ».
وقد توفي في أيام الصديق سنة اثنتي عشرة.
وفي هذه السنة تزوج علي ابن أبي طالب بابنته أمامة بنت أبي العاص بعد وفاة خالتها فاطمة، وما أدري هل كان ذلك قبل وفاة أبي العاص أو بعده، فالله أعلم
(تم الجزء السادس.)
هامش
- ↑ [محمد: 19]
- ↑ [الأحزاب: 40]
- ↑ [الأنعام: 124]
- ↑ [القلم: 1-4]
- ↑ [الأعراف: 199]
- ↑ [الأنفال: 70]
- ↑ [الحديد: 10]
- ↑ [سبأ: 39]
- ↑ [الواقعة: 35-36]
- ↑ [طه: 131]
- ↑ [الكهف: 28]
- ↑ [النجم: 29-30]
- ↑ [لحجر: 87-88]
- ↑ [الأحزاب: 28 -29]
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [الأعراف: 89]
- ↑ [الأنعام: 52]
- ↑ [الأنعام: 52]
- ↑ [الأنعام: 53]
- ↑ [الأنعام: 54]
- ↑ [الكهف: 28]
- ↑ [الآية:65]
- ↑ [النساء: 41]
- ↑ [النساء: 84]
- ↑ [الإسراء: 88]
- ↑ [الطور: 33-34]
- ↑ [البقرة: 23 -24]
- ↑ [هود: 13-14]
- ↑ [يونس: 37-39]
- ↑ [الأنفال: 31]
- ↑ [الفرقان: 5]
- ↑ [الفرقان: 6]
- ↑ [هود: 49]
- ↑ [طه: 99-101]
- ↑ [المائدة: 48]
- ↑ [العنكبوت: 48-52]
- ↑ [يونس: 15 - 17]
- ↑ [الحاقة: 44-47]
- ↑ [الأنعام: 93]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [هود: 17]
- ↑ [الإسراء: 89]
- ↑ [العنكبوت: 43]
- ↑ [الزمر: 27-28]
- ↑ [القصص: 46]
- ↑ [آل عمران: 44]
- ↑ [يوسف: 102-111]
- ↑ [طه: 133]
- ↑ [فصلت: 52-53]
- ↑ [فصلت: 53]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [القمر: 45-46]
- ↑ [الأنعام: 115]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [الفتح: 28]
- ↑ [البقرة: 136-137]
- ↑ [البقرة: 285-286]
- ↑ [النجم: 1-4]
- ↑ [التكوير: 19-21]
- ↑ [التكوير: 22-27]
- ↑ [الشعراء: 192-223]
- ↑ [الحاقة: 40 -43]
- ↑ [القمر: 1-5]
- ↑ [الإسراء: 85]
- ↑ [الكهف: 83]
- ↑ [المائدة: 48]
- ↑ [البقرة: 97]
- ↑ [البقرة: 90]
- ↑ [الإسراء: 101]
- ↑ [البقرة: 94-95]
- ↑ [الجمعة: 6- 7]
- ↑ [آل عمران: 61]
- ↑ [مريم: 75]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [المائدة: 41]
- ↑ [المائدة: 41]
- ↑ [المائدة: 43]
- ↑ [الأعراف: 157- 158]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [البقرة: 146]
- ↑ [آل عمران: 20]
- ↑ [إبراهيم: 52]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [هود: 17]
- ↑ [يس: 70]
- ↑ [الصف: 6]
- ↑ [آل عمران: 81]
- ↑ [التين: 1]
- ↑ [التين: 2]
- ↑ [التين: 3]
- ↑ [الأحزاب: 40]
- ↑ [الحديد: 21]
- ↑ [الصف: 6]
- ↑ [المزمل: 20]
- ↑ [القمر: 44-45]
- ↑ [المسد: 1-5]
- ↑ [الإسراء: 88]
- ↑ [البقرة: 23-24]
- ↑ [النور: 55]
- ↑ [التوبة: 33]
- ↑ [الفتح: 16]
- ↑ [الفتح: 20 -21]
- ↑ [الفتح: 27]
- ↑ [الأنفال: 7]
- ↑ [الأنفال: 7]
- ↑ [الأنفال: 70]
- ↑ [التوبة: 95]
- ↑ [التوبة: 33]
- ↑ [التوبة: 95]
- ↑ [الإسراء: 76]
- ↑ [التوبة: 40]
- ↑ [الأنفال: 30]
- ↑ [الإسراء: 76]
- ↑ [الروم: 1-6]
- ↑ [فصلت: 53]
- ↑ [التوبة: 33]
- ↑ [النور: 55]
- ↑ [الجمعة: 3]
- ↑ [البقرة: 147]
- ↑ [الصافات: 102]
- ↑ [الأنفال: 25]
- ↑ [الحج: 78]
- ↑ [الأحزاب: 14]
- ↑ [الأنعام: 45]
- ↑ [الإسراء: 60]
- ↑ [آل عمران: 81-82]
- ↑ [القمر: 10-15]
- ↑ [آل عمران: 145]
- ↑ [طه: 78-79]
- ↑ [نوح: 26]
- ↑ [النصر: 1-3]
- ↑ [الأنبياء: 107]
- ↑ [إبراهيم: 28]
- ↑ [هود: 17]
- ↑ [الإسراء: 3]
- ↑ [الأعراف: 67]
- ↑ [الإسراء: 101]
- ↑ [الإسراء: 102]
- ↑ [الحجر: 6- 7]
- ↑ [الحجر: 8]
- ↑ [الفرقان: 5-6]
- ↑ [الطور: 30-31]
- ↑ [الحاقة: 41-43]
- ↑ [القلم: 51]
- ↑ [القلم: 52]
- ↑ [القلم: 1-4]
- ↑ [النحل: 103]
- ↑ [الأحزاب: 9]
- ↑ [الأحزاب: 9]
- ↑ [التوبة: 114]
- ↑ [الأنعام: 75]
- ↑ [النجم: 9]
- ↑ [الشعراء: 82]
- ↑ [الفتح: 2]
- ↑ [الشعراء: 87]
- ↑ [التحريم: 8]
- ↑ [الأنفال: 64]
- ↑ [الصافات: 99]
- ↑ [الضحى: 7]
- ↑ [الشعراء: 84]
- ↑ [الإنشراح: 4]
- ↑ [إبراهيم: 35]
- ↑ [الأحزاب: 33]
- ↑ [الشعراء: 85]
- ↑ [الكوثر: 1]
- ↑ [يس: 9]
- ↑ [الإسراء: 45]
- ↑ [يس: 8]
- ↑ [فصلت: 5]
- ↑ [البقرة: 258]
- ↑ [يس: 78]
- ↑ [يس: 79]
- ↑ [يس: 81]
- ↑ [الأحقاف: 33]
- ↑ [الروم: 27]
- ↑ [البقرة: 258]
- ↑ [الإسراء: 81]
- ↑ [الأنعام: 75]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [الإسراء: 101]
- ↑ [طه: 39]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [القصص: 32]
- ↑ [طه: 23]
- ↑ [القمر: 1-2]
- ↑ [الزخرف: 48-49]
- ↑ [الأعراف: 132-136]
- ↑ [الدخان: 10]
- ↑ [البقرة: 60]
- ↑ [القمر: 1-2]
- ↑ [الشرح: 4]
- ↑ [ص: 17-19]
- ↑ [سبأ: 10-11]
- ↑ [الفرقان: 7-9]
- ↑ [الفرقان: 20]
- ↑ [الأنبياء: 80]
- ↑ [البقرة: 74]
- ↑ [الإسراء: 50]
- ↑ [ص: 36-40]
- ↑ [الأنبياء: 81-82]
- ↑ [سبأ: 12-13]
- ↑ [الأحزاب: 9]
- ↑ [النمل: 16]
- ↑ [النمل: 18]
- ↑ [المائدة: 112-115]
- ↑ [آل عمران: 49]
- ↑ [يوسف: 37]
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [آل عمران: 144]
- ↑ [آل عمران: 103]
- ↑ [النور: 55]
- ↑ [الزمر: 30]
- ↑ [الأنبياء: 34]
- ↑ [آل عمران: 144]
- ↑ [الكهف: 17]
- ↑ [الكهف: 50]
- ↑ [فاطر: 6]
- ↑ [الحجرات: 2]