☰ جدول المحتويات
- سنة ثلاث عشرة من الهجرة
- وقعة اليرموك
- انتقال إمرة الشام من خالد إلى أبي عبيدة بعد وقعة اليرموك
- وقعة جرت بالعراق بعد مجيء خالد إلى الشام
- خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
- فتح دمشق
- فصل الاختلاف في فتح دمشق صلحا أو عنوة
- بعث خالد بن الوليد إلى البقاع لفتحه
- وقعة فحل
- ما وقع بأرض العراق آنذاك من القتال
- وقعة النمارق
- وقعة جسر أبي عبيد ومقتل أمير المسلمين وخلق كثير منهم
- وقعة البويب التي اقتص فيها المسلمون من الفرس
- فصل بعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص أميرا على العراق
- ذكر اجتماع الفرس على يزدجرد بعد اختلافهم
- ما وقع سنة ثلاث عشرة من الحوادث
- ذكر المتوفين في هذه السنة مرتبين على الحروف
- سنة أربع عشرة من الهجرة
- غزوة القادسية
- فصل وقعة القادسية
- ذكرى من توفى في هذا العام من المشاهير
- ثم دخلت سنة خمس عشرة
- وقعة حمص الأولى
- وقعة قنسرين
- وقعة قيسارية
- وقعة أجنادين
- فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب
- أيام برس وبابل وكوثى
- وقعة نهرشير
- ومن توفي هذه السنة مرتبين على الحروف
- ثم دخلت سنة ست عشرة
- ذكر فتح المدائن
- وقعة جلولاء
- ذكر فتح حلوان
- فتح تكريت والموصل
- فتح ماسبذان من أرض العراق
- فتح قرقيسيا وهيت في هذه السنة
- ثم دخلت سنة سبع عشرة
- أبو عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدوم عمر إلى الشام
- فتح الجزيرة
- شيء من أخبار طاعون عمواس
- كائنة غريبة فيها عزل خالد عن قنسرين أيضا
- فتح الأهواز ومناذر ونهر تيري
- فتح تستر المرة الأولى صلحا
- ذكر غزو بلاد فارس من ناحية البحرين عن ابن جرير عن سيف
- ذكر فتح تستر ثانية وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب
- فتح السويس
- ثم دخلت سنة ثماني عشرة
- ذكر طائفة من أعيانهم رضي الله عنهم
- ثم دخلت سنة تسع عشرة
- ذكر من توفى فيها من الأعيان
- سنة عشرين من الهجرة
- صفة فتح مصر عن ابن إسحاق وسيف
- قصة نيل مصر
- ذكر المتوفين من الأعيان
- ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وكانت وقعة نهاوند
- ذكر من توفي إحدى وعشرين
- ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وفيها كانت فتوحات كثيرة
- فتح الري
- فتح قومس
- فتح جرجان
- وهذا فتح أذربيجان
- فتح الباب
- أول غزو الترك
- قصة السد
- بقية من خبر السد
- قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى
- خراسان مع الأحنف بن قيس
- ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وفيها وفاة عمر بن الخطاب
- فتح فسا ودار أبجرد وقصة سارية بن زنيم
- فتح كرمان وسجستان ومكران
- غزة الأكراد
- خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد
- وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى
- صفته رضي الله عنه
- ذكر زوجاته وأبنائه وبناته
- ذكر بعض ما رثي به
- أحداث وقعت في هذه السنة
- ذكر من توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
- خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ثم استهلت سنة أربع وعشرين
- ثم دخلت سنة خمس وعشرين
- ثم دخلت سنة ست وعشرين
- ثم دخلت سنة سبع وعشرين
- غزوة إفريقية
- غزوة الأندلس
- ثم دخلت سنة ثمان وعشرين فتح قبرص
- ثم دخلت سنة تسع وعشرين
- سنة ثلاثين من الهجرة النبوية
- فصل ذكر الذهبي وفاة أبي بن كعب
- ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين
- كيفية قتل كسرى ملك الفرس وهو يزدجرد
- ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين
- ذكر من توفي من الأعيان في هذا السنة
- ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين
- ثم دخلت سنة أربع وثلاثين
- ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان
- ذكر مجيء الأحزاب إلى عثمان للمرة الثانية من مصر
- ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان
- فصل استمرار حصار عثمان بن عفان
- صفة قتله رضي الله عنه
- فصل مقتل عثمان رضي الله عنه
- فصل مدة حصاره أربعون يوما
- ذكر صفته رضي الله عنه
- فصل قتل عثمان أول الفتن وآخر الفتن الدجال
- وهذا ذكر بعض ما رثي به رضي الله عنه
- إن قال قائل كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم
- بعض الأحاديث الواردة في فضائل عثمان بن عفان
- الأول فيما ورد في فضائله مع غيره
- القسم الثاني فيما ورد من فضائله وحده
- ذكر شيء من سيرته وهي دالة على فضيلته
- شيء من خطبه
- فصل من مناقبه رضي الله عنه
- فصل ومن مناقبه أيضا
- ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم
- فصل ذكر حديث تدور رحا الإسلام
- في ذكر من توفي زمان عثمان ممن لا يعرف وقت وفاته على التعيين
- خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
- ذكر بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة
- ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة
- ابتداء وقعة الجمل
- مسير علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلا من الشام
- فصل فراغ علي رضي الله عنه من أمر الجمل
- فصل في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل
- وفي هذه السنة أعني سنة ست وثلاثين
- فصل في وقعة صفين بين أهل العراق وبين أهل الشام
- ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
- رفع أهل الشام المصاحف
- قصة التحكيم
- خروج الخوارج
- فصل قد تقدم أن عليا رضي الله عنه لما رجع من الشام بعد وقعة صفين
- اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص بدومة الجندل
- خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا
- مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج
- ما ورد فيهم من الأحاديث الشريفة
- فصل خطبة علي رضي الله عنه بعد انصرافه من النهروان
- فصل ما جرى من أحداث في قصة التحكيم
- فصل قتاله للخوارج كان سنة سبع وثلاثين
- ذكر من توفي فيها من الأعيان
- ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين
- فصل قتال علي رضي الله عنه لأهل النهروان سنة ثمان وثلاثين
- ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
- ثم دخلت سنة تسع وثلاثين
- ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
- سنة أربعين من الهجرة
- ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
- صفة مقتله رضي الله عنه
- ذكر زوجاته وبنيه وبناته
- شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
- حديث المؤآخاة
- تزويجه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما
- حديث غدير خم
- حديث الطير
- حديث آخر في فضل علي
سنة ثلاث عشرة من الهجرة
استهلت هذه السنة والصديق عازم على جمع الجنود ليبعثهم إلى الشام، وذلك بعد مرجعه من الحج عملا بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [1].
وبقوله تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الآية [2]، واقتداء برسول الله ﷺ فإنه جمع المسلمين لغزو الشام - وذلك عام تبوك - حتى وصلها في حر شديد وجهد. فرجع عامه ذلك.
ثم بعث قبل موته أسامة بن زيد مولاه ليغزو تخوم الشام كما تقدم.
ولما فرغ الصديق من أمر جزيرة العرب بسط يمينه إلى العراق، فبعث إليها خالد بن الوليد، ثم أراد أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق، فشرع في جمع الأمراء في أماكن متفرقة من جزيرة العرب، وكان قد استعمل عمرو بن العاص على صدقات قضاعة معه الوليد بن عقبة فيهم، فكتب إليه يستنفره إلى الشام: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاكه رسول الله ﷺ مرة، وسماه لك أخرى وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.
فكتب إليه عمرو بن العاص: إني سهم من سهام الإسلام وأنت عبد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها.
وكتب إلى الوليد بن عقبة بمثل ذلك ورد عليه مثله، وأقبلا بعد ما استخلفا في عملهما، إلى المدينة.
وقدم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن فدخل المدينة وعليه جبة ديباج، فلما رآها عمر عليه أمر من هناك من الناس بتحريقها عنه، فغضب خالد بن سعيد وقال لعلي بن أبي طالب: يا أبا الحسن أغلبتم يا بني عبد مناف عن الأمرة؟
فقال له علي: أمغالبة تراها أو خلافة؟
فقال: لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم.
فقال له عمر بن الخطاب: اسكت فض الله فاك، والله لا تزال كاذبا تخوض فيما قلت ثم لا تضر إلا نفسك، وأبلغها عمر أبا بكر فلم يتأثر لها أبو بكر، ولما اجتمع عند الصديق من الجيوش ما أراد قام في الناس خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حث الناس على الجهاد، فقال: ألا لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه، ومن عمل لله كفاه الله، عليكم بالجد والقصد فإن القصد أبلغ، إلا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا إيمان لمن خشيه له، ولا عمل لمن لا نية له، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به هي النجاة التي دل الله عليها إذ نجى بها من الخزي، والحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.
ثم شرع الصديق في تولية الأمراء وعقد الألوية والرايات، فيقال: إن أول لواء عقده لخالد بن سعيد بن العاص، فجاء عمر بن الخطاب فثناه عنه، وذكره بما قال، فلم يتأثر به الصديق كما تأثر به عمر، بل عزله عن الشام وولاه أرض تيماء يكون بها فيمن معه من المسلمين حتى يأتيه أمره.
ثم عقد لواء يزيد بن أبي سفيان، ومعه جمهور من الناس، ومعه سهيل بن عمرو، وأشباهه من أهل مكة، وخرج معه ماشيا يوصيه بما اعتمده في حربه ومن معه من المسلمين، وجعل له دمشق.
وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جند آخر، وخرج معه ماشيا يوصيه، وجعل له نيابة حمص.
وبعث عمرو بن العاص، ومعه جند آخر وجعله على فلسطين، وأمر كل أمير أن يسلك طريقا غير طريق الآخر، لما لحظ في ذلك تداخل من المصالح.
وكان الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله يعقوب حين قال لبنيه: { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [3] فكان سلوك يزيد بن أبي سفيان على تبوك.
قال المدائني بإسناده عن شيوخه قالوا: وكان بعث أبي بكر هذه الجيوش في أول سنة ثلاث عشرة.
قال محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان: خرج أبو بكر ماشيا، ويزيد بن أبي سفيان راكبا، فجعل يوصيه، فلما فرغ قال: أقرئك السلام، واستودعك الله. ثم انصرف ومضى يزيد وأجد السير.
ثم تبعه شرحبيل بن حسنة، ثم أبو عبيدة مددا لهما فسلكوا غير ذلك الطريق.
وخرج عمرو بن العاص حتى نزل العرمات من أرض الشام.
ويقال: إن يزيد بن أبي سفيان نزل البلقاء أولا.
ونزل شرحبيل بالأردن، ويقال ببصرى.
ونزل أبو عبيدة بالجابية.
وجعل الصديق يمدهم بالجيوش، وأمر كل واحد منهم أن ينضاف إلى من أحب من الأمراء.
ويقال: إن أبا عبيدة لما مر بأرض البلقاء قاتلهم حتى صالحوه، وكان أول صلح وقع بالشام.
ويقال: إن أول حرب وقع بالشام أن الروم اجتمعوا بمكان يقال له: العرية من أرض فلسطين، فوجه إليهم أبا أمامة الباهلي في سرية فقتلهم وغنم منهم، وقتل منهم بطريقا عظيما.
ثم كانت بعد هذه وقعة مرج الصفراء استشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص، وجماعة من المسلمين.
ويقال: إن الذي استشهد في مرج الصفراء ابن لخالد بن سعيد، وأما هو ففر حتى انحاز إلى أرض الحجاز فالله أعلم.
حكاه ابن جرير.
قال ابن جرير: ولما انتهى خالد بن سعيد إلى تيماء، اجتمع له جنود من الروم في جمع كثير من نصارى العرب، من غيرا، وتنوخ، وبني كلب، وسليح، ولخم، وجذام، وغسان، فتقدم إليهم خالد بن سعيد، فلما اقترب منهم تفرقوا عنه ودخل كثير منهم في الإسلام، وبعث إلى الصديق يعلمه بما وقع من الفتح فأمره الصديق أن يتقدم ولا يحجم؛ وأمده بالوليد بن عقبة، وعكرمة بن أبي جهل، وجماعة.
فسار إلى قريب من إيلياء فالتقى هو وأمير من الروم يقال له: ماهان فكسره، ولجأ ماهان إلى دمشق، فلحقه خالد بن سعيد، وبادر الجيوش إلى لحوق دمشق وطلب الحظوة، فوصلوا إلى مرج الصفراء، فانطوت عليه مسالح ماهان، وأخذوا عليهم الطريق، وزحف ماهان ففر خالد بن سعيد، فلم يرد إلى ذي المروة.
واستحوذ الروم على جيشهم إلا من فر على الخيل، وثبت عكرمة بن أبي جهل، وقد تقهقر عن الشام قريبا وبقي رداءا لمن نفر إليه، وأقبل شرحبيل بن حسنة من العراق من عند خالد بن الوليد إلى الصديق، فأمّره على جيشه وبعثه إلى الشام، فلما مر بخالد بن سعيد بذي المروة، أخذ جمهور أصحابه الذين هربوا معه إلى ذي المروة.
ثم اجتمع عند الصديق طائفة من الناس فأمّر عليهم معاوية بن أبي سفيان، وأرسله وراء أخيه يزيد بن أبي سفيان، ولما مرَّ بخالد بن سعيد أخذ من كان بقي معه بذي المروة إلى الشام.
ثم أذن الصديق لخالد بن سعيد في الدخول إلى المدينة وقال: كان عمر أعلم بخالد.
وقعة اليرموك
على ما ذكره سيف بن عمر في هذه السنة قبل فتح دمشق، وتبعه على ذلك أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - وأما الحافظ ابن عساكر - رحمه الله - فإنه نقل عن يزيد بن أبي عبيدة، والوليد، وابن لهيعة، والليث، وأبي معشر، أنها كانت في سنة خمسة عشرة بعد فتح دمشق.
وقال محمد بن إسحاق: كانت في رجب سنة خمس عشرة.
وقال خليفة بن خياط: قال ابن الكلبي: كانت وقعة اليرموك يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة.
قال ابن عساكر: وهذا هو المحفوظ، وأما ما قاله سيف: من أنها قبل فتح دمشق سنة ثلاث عشرة، فلم يتابع عليه.
قلت: وهذا ذكر سياق سيف وغيره على ما أورده ابن جرير وغيره.
قال: ولما توجهت هذه الجيوش نحو الشام أفزع ذلك الروم، وخافوا خوفا شديدا، وكتبوا إلى هرقل يعلمونه بما كان من الأمر، فيقال: إنه كان يومئذ بحمص، ويقال: كان حج عامه ذلك إلى بيت المقدس، فلما انتهى إليه الخبر.
قال لهم: ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قِبَلَ لأحدٍ بهم، فأطيعوني وصالحوهم بما تصالحونهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم.
فنخروا من ذلك نخرة حمر الوحش كما هي عاداتهم في قلة المعرفة، والرأي بالحرب، والنصرة في الدين والدنيا.
فعند ذلك سار إلى حمص، وأمر هرقل بخروج الجيوش الرومية صحبة الأمراء، في مقابلة كل أمير من المسلمين جيش كثيف، فبعث إلى عمرو بن العاص أخا له لأبويه تذارق في تسعين ألفا من المقاتلة.
وبعث جرجة بن بوذيها إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بازائه في خمسين ألفا أو ستين ألفا.
وبعث الدارقص إلى شرحبيل بن حسنة.
وبعث اللقيقار، ويقال: القيقلان - قال ابن إسحاق وهو خصي هرقل نسطورس - في ستين ألفا إلى أبي عبيدة بن الجراح.
وقالت الروم: والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا.
وجميع عساكر المسلمين أحد وعشرون ألفا سوى الجيش الذي مع عكرمة بن أبي جهل.
وكان واقفا في طرف الشام ردءا للناس - في سنة آلاف - فكتب الأمراء إلى أبو بكر وعمر يعلمونهما بما وقع من الأمر العظيم، فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا جندا واحدا، والقوا جنود المشركين، فأنتم أنصار الله، والله ينصر من نصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم عن قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصل كل رجل منكم بأصحابه.
وقال الصديق: والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، وبعث إليه وهو بالعراق، ليقدم إلى الشام فيكون الأمير على من به فإذا فرغ عاد إلى عمله بالعراق، فكان ما سنذكره.
ولما بلغ هرقل ما أمر به الصديق أمراءه من الاجتماع، بعث إلى أمرائه أن يجتمعوا أيضا، وأن ينزلوا بالجيش منزلا واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب، وعلى الناس أخوه تذارق، وعلى المقدمة جرجة، وعلى المجنبتين ماهان، والدارقص، وعلى البحر القيقلان.
وقال محمد بن عائد عن عبد الأعلى عن سعيد بن عبد العزيز: إن المسلمين كانوا أربعة وعشرين ألفا، وعليهم أبو عبيدة، والروم كانوا عشرين ومائة ألف عليهم ماهان وسقلاب يوم اليرموك.
وكذا ذكر ابن إسحاق: أن سقلاب الخصي كان على الروم يومئذ في مائة ألف، وعلى المقدمة جرجه - من أرمينية - في اثني عشر ألفا، ومن المستعربة اثني عشر ألفا عليهم جبلة بن الأيهم، والمسلمون في أربعة وعشرين ألفا، فقاتلوا قتالا شديدا، حتى قاتلت النساء من ورائهم أشد القتال.
وقال الوليد: عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال: بعث هرقل مائتي ألف عليهم ماهان الأرمني.
قال سيف: فسارت الروم فنزلوا الواقوصة قريبا من اليرموك، وصار الوادي خندقا عليهم.
وبعث الصحابة إلى الصديق يستمدونه ويعلمونه بما اجتمع من جيش الروم باليرموك، فكتب الصديق عند ذلك إلى خالد بن الوليد أن يستنيب على العراق، وأن يقفل بمن معه إلى الشام، فإذا وصل إليهم فهو الأمير عليهم، فاستناب المثنى بن حارثة على العراق، وسار خالد مسرعا في تسعة آلاف وخمسمائة، ودليله رافع بن عميرة الطائي فأخذ به على السماق حتى انتهى إلى قراقر، وسلك به أراضي لم يسلكها قبله أحد، فاجتاب البراري والقفار، وقطع الأودية، وتصعّد على الجبال، وسار في غير مهيع، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق، وهو في مفاوز معطشة، وعطش النوق وسقاها الماء عللا بعد نهل، وقطع مشارفها وكعمها حتى لا تجتز رحل أدبارها.
واستاقها معه، فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء، ويقال: بل سقاه الخيل، وشربوا ما كانت تحمله من الماء، وأكلوا لحومها، ووصل ولله الحمد والمنة في خمسة أيام، فخرج على الروم من ناحية تدمر، فصالح أهل تدمر وأركه، ولما مر بعذراء أباحها وغنم لغسان أموالا عظيمة، وخرج من شرقي دمشق ثم سار حتى وصل إلى قناة بصرى فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها وسلمها إليه، فكانت أول مدينة فتحت من الشام ولله الحمد.
وبعث خالد بأخماس ما غنم من غسان مع بلال بن الحرث المزني إلى الصديق، ثم سار خالد، وأبو عبيدة، ومرثد، وشرحبيل إلى عمرو بن العاص - وقد قصده الروم بأرض العربا من المعور - فكانت واقعة أجنادين.
وقد قال رجل من المسلمين في مسيرهم هذا مع خالد:
لله عينا رافع أنى اهتدى * فوز من قراقر إلى نوى
خمسا إذا ماسارها الجيش بكى * ما سارها قبلك أنسي أرى
وقد كان بعض العرب قال له في هذا المسير: إن أنت أصبحت عند الشجرة الفلانية نجوت أنت ومن معك، وإن لم تدركها هلكت أنت ومن معك.
فسار خالد بمن معه، وسروا سروة عظيمة فأصبحوا عندها، فقال خالد: عند الصباح يحمد القوم السرى، فأرسلها مثلا وهو أول من قالها رضي الله عنه.
ويقول غير ابن إسحاق كسيف بن عمر، وأبي نحيف وغيرهما في تكميل السياق الأول: حين اجتمعت الروم مع أمرائها بالواقوصة، وانتقل الصحابة من منزلهم الذي كانوا فيه، فنزلوا قريبا من الروم في طريقهم الذي ليس لهم طريق غيره، فقال عمرو بن العاص:
أبشروا أيها الناس، فقد حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير.
ويقال: إن الصحابة لما اجتمعوا للمشورة في كيفية المسير إلى الروم جلس الأمراء لذلك، فجاء أبو سفيان فقال: ما كنت أظن أني أعمر حتى أدرك قوما يجتمعون لحرب ولا أحضرهم.
ثم أشار أن يتجزأ الجيش ثلاثة أجزاء:
فيسير ثلثه فينزلون تجاه الروم، ثم تسير الأثقال والذراري في الثلث الآخر، ويتأخر خالد بالثلث الآخر حتى إذا وصلت الأثقال إلى أولئك سار بعدهم ونزلوا في مكان تكون البرية من وراء ظهورهم، لتصل إليهم البرد والمدد.
فامتثلوا ما أشار به ونعم الرأي هو.
وذكر الوليد، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير: أن الروم نزلوا فيما بين دير أيوب واليرموك، ونزل المسلمون من وراء النهر من الجانب الآخر، وأذرعات خلفهم ليصل إليهم المدد من المدينة.
ويقال: إن خالدا إنما قدم عليهم بعد ما نزل الصحابة تجاه الروم بعد ما صابروهم وحاصروهم شهر ربيع الأول بكماله، فلما انسلخ وأمكن القتال لقلة الماء بعثوا إلى الصديق يستمدونه فقال خالد لها، فبعث إلى خالد فقدم عليهم في ربيع الآخر، فعند وصول خالد إليهم أقبل ماهان مددا للروم ومعه القساقسة، والشمامسة، والرهبان، يحثونهم ويحرضونهم على القتال لنصر دين النصرانية.
فتكامل جيش الروم أربعون ومائتا ألف وثمانون ألفا مسلسل بالحديد والحبال، وثمانون ألفا فارس، وثمانون ألفا راجل.
قال سيف: وقيل بل كان الذين تسلسلوا كل عشرة سلسلة لئلا يفرون ثلاثين ألفا، فالله أعلم.
قال سيف: وقدم عكرمة بمن معه من الجيوش فتكامل جيش الصحابة ستة وثلاثين ألفا إلى الأربعين ألفا.
وعند ابن إسحاق والمدايني أيضا: أن وقعة أجنادين قبل وقعة اليرموك، وكانت واقعة أجنادين لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وقتل بها بشر كثير من الصحابة، وهزم الروم، وقتل أميرهم القيقلان.
وكان قد بعث رجلا من نصارى العرب يجس له أمر الصحابة فلما رجع إليه قال: وجدت قوما رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، والله لو سرق فيهم ابن ملكهم لقطعوه، أو زنى لرجموه.
فقال له القيقلان: والله لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من ظهرها.
وقال سيف بن عمر في سياقه: ووجد خالد الجيوش متفرقة، فجيش أبي عبيدة وعمرو بن العاص ناحية، وجيش يزيد وشرحبيل ناحية.
فقام خالد في الناس خطيبا.
فأمرهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف. فاجتمع الناس وتصافوا مع عدوهم في أول جمادى الآخرة، وقام خالد بن الوليد في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:
إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وإن هذا يوم له ما بعده لو رددناهم اليوم إلى خندقهم فلا نزال نردهم وإن هزمونا لا نفلح بعدها أبدا، فتعالوا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم، ودعوني اليوم إليكم فأمروه عليهم وهم يظنون أن الأمر يطول جدا، فخرجت الروم في تعبئة لم ير مثلها قبلها قط.
وخرج خالد في تعبئة لم تعبها العرب من قبل ذلك.
فخرج في ستة وثلاثين كردوسا إلى الأربعين، كل كردوس ألف رجل عليهم أمير، وجعل أبا عبيدة في القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص، ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان.
وأمر على كل كردوس أميرا، وعلى الطلائع قباب بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، والقاضي يومئذ أبو الدرداء، وقاصهم الذي يعظهم ويحثهم على القتال أبو سفيان بن حرب، وقارئهم الذي يدور على الناس فيقرأ سورة الأنفال وآيات الجهاد المقداد بن الأسود.
وذكر إسحاق بن يسار بإسناده: أن أمراء الأرباع يومئذ كانوا أربعة:
أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وخرج الناس على راياتهم وعلى الميمنة معاذ بن جبل، وعلى الميسرة نفاثة بن أسامة الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيالة خالد بن الوليد، وهو المشير في الحرب الذي يصدر الناس كلهم عن رأيه.
ولما أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها، كأنهم غمامة سوداء، يصيحون بأصوات مرتفعة، ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش فساق بفرسه إلى أبي عبيدة فقال له:
إني مشير بأمر، فقال: قل أمرك الله أسمع لك وأطيع فقال له خالد:
إن هؤلاء القوم لا بد لهم من حملة عظيمة لا محيد لهم عنها، وإني أخشى على الميمنة والميسرة وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين، وأجعلها وراء الميمنة والميسرة حتى إذا صدموهم كانوا لهم ردءا فنأتيهم من ورائهم.
فقال له: نعم ما رأيت.
فكان خالد في أحد الخيلين من وراء الميمنة، وجعل قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله، لكي إذا رآه المنهزم استحى منه ورجع إلى القتال، فجعل أبو عبيدة مكانه في القلب سعيد بن زيد أحد العشر رضي الله عنهم، وساق خالد إلى النساء من وراء الجيش ومعهن عدد من السيوف وغيرها.
فقال لهن: من رأيتموه موليا فاقتلنه، ثم رجع إلى موقفه رضي الله عنه.
ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال: عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بالقتال وشرِّعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله تعالى.
قالوا: وخرج معاذ بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول: يا أهل القرآن، ومتحفظي الكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ألم تسمعوا لقول الله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } [4] الآية، فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم في قبضته وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره.
وقال عمرو بن العاص: يا أيها المسلمون غضوا الأبصار، وأجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا فلا يهولكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل.
وقال أبو سفيان: يا معشر المسلمين أنتم العرب وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل نائين عن أمير المؤمنين وإمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عدده شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنة لازمة وأن الأرض ورائكم، بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحارى وبراري، ليس لأحد فيها معقل ولا معدل إلا الصبر ورجاء ما وعد لله فهو خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون.
ثم ذهب إلى النساء فوصاهم، ثم عاد فنادى: يا معاشر أهل الإسلام حضر ما ترون فهذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم، ثم سار إلى موقفه رحمه الله.
وقد وعظ الناس أبو هريرة أيضا فجعل يقول: سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم عز وجل في جنات النعيم، ما أنتم إلى ربكم في موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم.
قال سيف بن عمر إسناده عن شيوخه أنهم قالوا: كان في ذلك الجمع ألف رجل من الصحابة منهم مائة من أهل بدر.
وجعل أبو سفيان يقف على كل كردوس ويقول: الله الله إنكم دارة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم دارة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
قالوا: ولما أقبل خالد من العراق قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين!! فقال خالد: ويلك، أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برأ من توجعه، وأنهم أضعفوا في العدد - وكان فرسه قد حفا واشتكى في مجيئه من العراق -.
ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، وأبو جندل بن سهيل، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع به، فأذن لهم في الدخول على تذارق، وإذا هو جالس في خيمة من حرير.
فقال الصحابة: لا نستحل دخولها فأمر لهم بفرش بسط من حرير، فقالوا: ولا نجلس على هذه.
فجلس معهم حيث أحبوا وتراضوا على الصلح، ورجع عنهم الصحابة بعد ما دعوهم إلى الله عز وجل فلم يتم ذلك.
وذكر الوليد بن مسلم: أن ماهان طلب خالدا ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحة لهم.
فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلموا إلى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعام وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها.
فقال خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أن لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك.
فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نُحَدَّثُ به العرب.
قالوا: ثم تقدم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو - وهما على مجنبتي القلب - أن ينشئا القتال.
فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البراز، وتنازل الأبطال، وتجاولوا وحمى الحرب وقامت على ساق. هذا وخالد مع كردوس من الحماة الشجعان الأبطال بين يدي الصفوف، والأبطال يتصاولون من الفريقين بين يديه، وهو ينظر ويبعث إلى كل قوم من أصحابه بما يعتمدونه من الأفاعيل، ويدبر أمر الحرب أتم تدبير.
وقال إسحاق بن بشير عن سعيد بن عبد العزيز عن قدماء مشايخ دمشق، قالوا: ثم زحف ماهان فخرج أبو عبيدة، وقد جعل على الميمنة معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباب بن أشيم الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وخرج الناس على راياتهم، وسار أبو عبيدة بالمسلمين، وهو يقول:
عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معاشر المسلمين اصبروا وصابروا فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، ولا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدؤوهم بالقتال، وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله.
وخرج معاذ بن جبل فجعل يذكرهم، ويقول: يا أهل القرآن، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا للصادق المصدق، ألم تسمعوا لقول الله عز وجل: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلى آخر الآية فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم في قبضته، وليس لكم ملتحد من دونه.
وسار عمرو بن العاص في الناس وهو يقول:
أيها المسلمون غضوا الأبصار، واجثوا على الراكب، وأشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويجزي الإحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد لتطايروا تطاير أولاد الحجل.
ثم تكلم أبو سفيان فأحسن وحث على القتال فأبلغ في كلام طويل.
ثم قال حين تواجه الناس:
يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون، فهذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم، وحرض أبو سفيان النساء وقال: من رأيتنه فارَّا فاضربنه بهذه الأحجار والعصي حتى يرجع.
وأشار خالد أن يقف في القلب سعيد بن زيد، وأن يكون أبو عبيدة من وراء الناس ليرد المنهزم، وقسم خالد الخيل قسمين:
فجعل فرقة وراء الميمنة.
وفرقة وراء الميسرة.
لئلا يفر الناس وليكونوا ردءا لهم من ورائهم.
فقال له أصحابه: افعل ما أراك الله، وامتثلوا ما أشار به خالد رضي الله عنه.
وأقبلت الروم رافعة صلبانها ولهم أصوات مزعجة كالرعد، والقساقسة والبطارقة تحرضهم على القتال، وهم في عدد وعدد لم ير مثله، فالله المستعان وعليه التكلان.
وقد كان فيمن شهد اليرموك الزبير بن العوام، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ فقالوا: ألا تحمل فنحمل معك؟
فقال: إنكم لا تثبتون.
فقالوا: بلى! فحمل وحملوا فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر وعاد إلى أصحابه ثم جاؤوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجرح يومئذ جرحين بين كتفيه، وفي رواية: جرح.
وقد روى البخاري معنى ما ذكرناه في صحيحه.
وجعل معاذ بن جبل كلما سمع أصوات القسيسين والرهبان يقول: اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وأنزل علينا السكينة، وألزمنا كلمة التقوى، وحبب إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء.
وخرج ماهان فأمر صاحب الميسرة وهو الدبريجان، وكان عدو الله متنسكا فيهم، فحمل على الميمنة وفيها الأزد، ومذحج، وحضرموت، وخولان، فثبتوا حتى صدقوا أعداء الله، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال.
فزال المسلمون من الميمنة إلى ناحية القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت صور من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، وانكشف زبيد.
ثم تنادوا فتراجعوا وحملوا حتى نهنهوا من أمامهم من الروم، وأشغلوهم عن أتباع من انكشف من الناس، واستقبل النساء من انهزم من سرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة، وجعلت خولة بنت ثعلبة تقول:
يا هاربا عن نسوة تقّيات * فعن قليل ما ترى سبيات
ولا حصيات ولا رضيات
قال: فتراجع الناس إلى مواقفهم.
وقال سيف بن عمر، عن أبي عثمان الغساني عن أبيه، قال قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلت رسول الله ﷺ في مواطن وأفر منكم اليوم؟
ثم نادى: من يبايع على الموت؟
فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق منهم: ضرار بن الأزور رضي الله عنهم.
وقد ذكر الواقدي وغيره: أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا ماء فجيء إليهم بشربة ماء فلما اقتربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا ولم يشربها أحد منهم رضي الله عنهم أجمعين.
ويقال: إن أول من قتل من المسلمين يومئذ شهيدا رجل جاء إلى أبو عبيدة، فقال: إني قد تهيأت لأمري فهل لك من حاجة إلى رسول الله ﷺ؟
قال: نعم، تقرئه عني السلام وتقول: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
قال: فتقدم هذا الرجل حتى قتل رحمه الله.
قالوا: وثبت كل قوم على رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا.
فلم تر يوم اليرموك إلا مخا ساقطا، ومعصما نادرا، وكفا طائرة من ذلك الموطن.
ثم حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على ميمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب فقتل من الروم في حملته هذه ستة آلاف منهم ثم قال: والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر والجلد غير ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف فما وصل إليهم حتى انفض جمعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فانكشفوا وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم.
قالوا: وبينما هم في جولة الحرب وحومة الوغى والأبطال يتصاولون من كل جانب، إذ قدم البريد من نحو الحجاز فدفع إلى خالد بن الوليد فقال له: ما الخبر؟
فقال له - فيما بينه وبينه -: إن الصديق رضي الله عنه قد توفي، واستخلف عمر، واستناب على الجيوش أبا عبيدة عامر بن الجراح فأسرها خالد ولم يبد ذلك للناس لئلا يحصل ضعف ووهن في تلك الحال، وقال له والناس يسمعون: أحسنت، وأخذ منه الكتاب فوضعه في كنانته واشتغل بما كان فيه من تدبير الحرب والمقاتلة، وأوقف الرسول الذي جاء بالكتاب - وهو منجمة بن زنيم - إلى جانبه، كذا ذكره ابن جرير بأسانيده.
قالوا: وخرج جرجه أحد الأمراء الكبار من الصف واستدعى خالد بن الوليد فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجه: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟
قال: لا!
قال: فبم سميت سيف الله؟
قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه.
فقال لي: أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
فقال جرجه: يا خالد إلى ما تدعون؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل.
قال: فمن لم يجبكم؟
قال: فالجزية ونمنعهم.
قال: فإن لم يعطها؟
قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله.
قال: فما منزلة من يجيبكم، ويدخل في هذا الأمر اليوم؟
قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا.
قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟
قال: نعم وأفضل.
قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟
فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة، وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا.
فقال جرجه: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟
قال: تالله لقد صدقتك، وإن الله ولي ما سألت عنه.
فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال: علمني الإسلام فمال به خالد إلى فسطاطه فسن عليه قربة من ماء ثم صلى به ركعتين.
وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل، والحرث بن هشام.
فركب خالد وجرجه معه والروم خلال المسلمين، فتنادى الناس وثابوا وتراجعت الروم إلى مواقفهم وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجه من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب.
وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماء وأصيب جرجه رحمه الله ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما، وضعضعت الروم عند ذلك.
ثم نهد خالد بالقلب حتى صار في وسط خيول الروم، فعند ذلك هربت خيالتهم، وأسندت بهم في تلك الصحراء، وأفرج المسلمون بخيولهم حتى ذهبوا.
وأخر الناس صلاتي العشاءين، حتى استقر الفتح، وعمد خالد إلى رحل الروم وهم الرجالة ففصلوهم حتى آخرهم حتى صاروا كأنهم حائط قد هدم ثم تبعوا من فر من الخيالة، واقتحم خالد عليهم خندقهم، وجاء الروم في ظلام الليل إلى الواقوصة، فجعل الذين تسلسلوا وقيدوا بعضهم ببعض إذا سقط واحد منهم سقط الذين معه.
قال ابن جرير وغيره: فسقط فيها وقتل عندها مائة ألف وعشرون ألفا سوى من قتل في المعركة.
وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم وقتلوا خلقا كثيرا من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين، ويقلن: أين تذهبون وتدعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى القتال.
قال: وتجلل القيقلان وأشراف من قومه من الروم ببرانسهم، وقالوا: إذا لم نقدر على نصر دين النصرانية فلنمت على دينهم، فجاء المسلمون فقتلوهم عن آخرهم.
قالوا: وقتل في هذا اليوم من المسلمين ثلاثة آلاف منهم: عكرمة وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وأثبت خالد بن سعيد فلا يدرى أين ذهب، وضرار بن الأزور، وهشام بن العاص، وعمرو بن الطفيل بن عمرو الدوسي، وحقق الله رؤيا أبيه يوم اليمامة.
وقد أتلف في هذا اليوم جماعة من الناس وانهزم عمرو بن العاص في أربعة حتى وصلوا إلى النساء ثم تراجعوا حين وعظهم الأمير بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [5] الآية.
وثبت يومئذ يزيد بن أبي سفيان وقاتل قتالا شديدا، وذلك أن أباه مر به فقال له: يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفا بالقتال، فكيف بك وبأشباهك الذين ولو أمور المسلمين؟! أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة، فاتق الله يا بني، ولا يكونن أحد من أصحابك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب، ولا أجرأ على عدو الإسلام منك.
فقال: أفعل إن شاء الله.
فقاتل يومئذ قتالا شديدا، وكان من ناحية القلب رضي الله عنه.
قال سعيد بن المسيب عن أبيه قال: هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتا يكاد يملأ العسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، قال: فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد، وأكمل خالد ليلته في خيمة تذارق أخي هرقل - وهو أمير الروم كلهم يومئذ - هرب فيمن هرب، وباتت الخيول تجول نحو خيمة خالد يقتلون من مر بهم من الروم حتى أصبحوا وقتل تذارق وكان له ثلاثون سرادقا وثلاثون رواقا من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم.
وما فرحوا بما وجدوا بقدر حزنهم على الصديق حين أعلمهم خالد بذلك ولكن عوضهم الله بالفاروق رضي الله عنه.
وقال خالد حين عزى المسلمين في الصديق: الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إلي من عمر، والحمد لله الذي ولى عمر وكان أبغض إلى من أبي بكر وألزمني حبه.
وقد اتبع خالد من انهزم من الروم حتى وصل إلى دمشق فخرج إليه أهلها فقالوا: نحن على عهدنا وصلحنا؟
قال: نعم.
ثم اتبعهم إلى ثنية العقاب فقتل منهم خلقا كثيرا، ثم ساق وراءهم إلى حمص فخرج إليه أهلها فصالحهم كما صالح أهل دمشق.
وبعث أبو عبيدة عياض بن غنم وراءهم أيضا فساق حتى وصل ملطية فصالحه أهلها ورجع.
فلما بلغ هرقل ذلك بعث إلى مقاتليها فحضروا بين يديه وأمر بملطية فحرقت وانتهت الروم منهزمة إلى هرقل وهو بحمص والمسلمون في آثارهم يقتلون ويأسرون ويغنمون.
فلما وصل الخبر إلى هرقل ارتحل من حمص، وجعلها بينه وبين المسلمين وترس بها، وقال هرقل: أما الشام فلا شام، وويل للروم من المولود المشئوم.
ومما قيل من الأشعار في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو:
ألم ترنا على اليرموك فزنا * كما فزنا بأيام العراق
وعذراء المدائن قد فتحنا * ومرج الصفر على العتاق
فتحنا قبلها بصرى وكانت * محرمة الجناب لدى النعاق
قتلنا من أقام لنا وفينا * نهابهم بأسياف رقاق
قتلنا الروم حتى ما تساوى * على اليرموك معروق الوراق
فضضنا جمعهم لما استجالوا * على الواقوص بالبتر الرقاق
غداة تهافتوا فيها فصاروا * إلى أمر يعضل بالذواق
وقال الأسود بن مقرن التميمي:
وكم قد أغرنا غارة بعد غارة *يوما ويوما قد كشفنا أهاوله
ولولا رجال كان عشو غنيمة * لدى مأقط رجت علينا أوائله
لقيناهم اليرموك لما تضايقت * بمن حل باليرموك منه حمائله
فلا يعد من منا هرقل كتائبا * إذا رامها رام الذي لا يحاوله
وقال عمرو بن العاص:
القوم لخم وجذام في الحرب * ونحن والروم بمرج نضطرب
فإن يعودوا بها لا نصطحب * بل نعصب الفرار بالضرب الكرب
وروى أحمد بن مروان المالكي في المجالسة: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا أبو معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء.
فقال هرقل وهو على أنطاكية لما قدمت منهزمة الروم: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم؟
قالوا: بلى.
قال: فأنتم أكثر أم هم؟
قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن.
قال: فما بالكم تنهزمون؟
فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض.
فقال: أنت صدقتني.
وقال الوليد بن مسلم: أخبرني من سمع يحيى بن يحيى الغساني يحدث عن رجلين من قومه قالا: لما نزل المسلمون بناحية الأردن، تحدثنا بيننا أن دمشق ستحاصر فذهبنا نتسوق منها قبل ذلك، فبينا نحن فيها إذ أرسل إلينا بطريقها فجئناه.
فقال: أنتما من العرب؟
قلنا: نعم.
قال: وعلى النصرانية؟
قلنا: نعم.
فقال: ليذهب أحدكما فليتجسس لنا عن هؤلاء القوم ورأيهم، وليثبت الآخر على متاع صاحبه.
ففعل ذلك أحدنا فلبث مليا ثم جاءه فقال: جئتك من عند رجال دقاق يركبون خيولا عتاقا، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها، ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر.
قال: فالتفت إلى أصحابه، وقال: آتاكم منهم ما لا طاقة لكم به.
انتقال إمرة الشام من خالد إلى أبي عبيدة بعد وقعة اليرموك
وصيرورة الإمرة بالشام إلى أبو عبيدة، فكان أبو عبيدة أول من سمي أمير الأمراء.
وقد تقدم أن البريد قدم بموت الصديق والمسلمون مصافو الروم يوم اليرموك، وأن خالدا كتم ذلك عن المسلمين لئلا يقع وهن، فلما أصبحوا أجلى لهم الأمر وقال ما قال، ثم شرع أبو عبيدة في جمع الغنيمة وتخميسها، وبعث بالفتح والخمس مع قباب بن أشيم إلى الحجاز، ثم نودي بالرحيل إلى دمشق، فساروا حتى نزلوا مرج الصفر، وبعث أبو عبيدة بين يديه طليعة أبا أمامة الباهلي ومعه رجلان من أصحابه.
قال أبو أمامة: فسرت فلما كان ببعض الطريق أمرت الآخر فكمن هناك وسرت أنا وحدي حتى جئت باب البلد، وهو مغلق في الليل وليس هناك أحد فنزلت وغرزت رمحي بالأرض، ونزعت لجام فرسي، وعلقت عليه مخلاته ونمت فلما أصبح الصباح قمت فتوضأت وصليت الفجر، فإذا باب المدينة يقعقع فلما فتح حملت على البواب فطعنته بالرمح فقتلته.
ثم رجعت والطلب ورائي فلما انتهينا إلى الرجل الذي في الطريق من أصحابي ظنوا أنه كمين فرجعوا عني، ثم سرنا حتى أخذنا الآخر.
وجئت إلى أبو عبيدة فأخبرته بما رأيت فأقام أبو عبيدة ينتظر كتاب عمر فيما يعتمده من أمر دمشق.
فجاءه الكتاب يأمره بالمسير إليها، فساروا إليها حتى أحاطوا بها.
واستخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب في خيل هناك.
وقعة جرت بالعراق بعد مجيء خالد إلى الشام
وذلك أن أهل فارس اجتمعوا بعد مقتل ملكهم وابنه على تمليك شهريار بن أزدشير بن شهريار، واستغنموا غيبة خالد عنهم فبعثوا إلى نائبه المثنى بن حارثة جيشا كثيفا نحوا من عشرة آلاف عليهم هرمز بن حادويه، وكتب شهريار إلى المثنى: إني قد بعثت إليك جندا من وحش أهل فارس، إنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم.
فكتب إليه المثنى: من المثنى إلى شهريار إنما أنت أحد رجلين: إما باغ لذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكاذبين عقوبة وفضيحة عند الله في الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد الله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير.
قال: فجزع أهل فارس من هذا الكتاب، ولاموا شهريار على كتابه إليه واستهجنوا رأيه.
وسار المثنى من الحرة إلى بابل، ولما التقى المثنى وجيشهم بمكان عند عدوة الصراة الأولى، اقتتلوا قتالا شديدا جدا، وأرسل الفرس فيلا بين صفوف الخيل ليفرق خيول المسلمين، فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن الحارثة فقتله، وأمر المسلمين فحملوا، فلم تكن إلا هزيمة الفرس فقتلوهم قتلا ذريعا، وغنموا منهم مالا عظيما، وفرت الفرس حتى انتهوا إلى المدائن في شر حالة، ووجدوا الملك قد مات فملكوا عليهم ابنة كسرى بوران بنت أبرويز فأقامت العدل، وأحسنت السيرة، فأقامت سنة وسبع شهور، ثم ماتت فملكوا عليهم أختها آزرميدخت زنان فلم ينتظم لهم أمر، فملكوا عليهم سابور بن شهريار وجعلوا أمره إلى الفرخزاذ بن البندوان فزوجه سابور بابنه كسرى آزرميدخت فكرهت ذلك وقالت: إنما هذا عبد من عبيدنا فلما كان ليلة عرسها عليه هموا إليه فقتلوه، ثم ساروا إلى سابور فقتلوه أيضا، وملكوا عليهم هذه المرأة وهي آزرمدخيت ابنة كسرى، ولعبت فارس بملكها لعبا كثيرا، وآخر ما استقر أمرهم عليه في هذه السنة أن ملكوا امرأة، وقد قال رسول الله ﷺ: « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ».
وفي هذه الوقعة التي ذكرنا يقول عبدة بن الطبيب السعدي، وكان قد هاجر لمهاجرة حليلة له حتى شهد وقعة بابل هذه، فلما آيسته رجع إلى البادية وقال:
هل حبل خولة بعد البين موصول * أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
وللأحبة أيام تذكرها * وللنوى قبل يوم البين تأويل
حلَّت خويلة في حي عهدتهم * دون المدينة فيها الديك والفيل
يقارعون رؤس العجم ضاحية * منهم فوارس لا عزل ولا ميل
وقد قال الفرزدق في شعره يذكر قتل المثنى ذلك الفيل:
وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة * ببابل إذ في فارس ملك بابل
ثم إن المثنى بن حارثة استبطأ أخبار الصديق لتشاغله بأهل الشام، وما فيه من حرب اليرموك المتقدم ذكره، فسار المثنى بنفسه إلى الصديق، واستناب على العراق بشير بن الخصاصية، وعلى المسالح سعيد بن مرة العجلي، فلما انتهى المثنى إلى المدينة وجد الصديق في آخر مرض الموت.
وقد عهد إلى عمر بن الخطاب، ولما رأى الصديق المثنى قال لعمر: إذا أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس لحرب أهل العراق مع المثنى، وإذا فتح الله على أمرائنا بالشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أعلم بحربه.
فلما مات الصديق ندب عمر المسلمين إلى الجهاد بأرض العراق لقلة من بقي فيه من المقاتلة بعد خالد بن الوليد، فانتدب خلقا، وأمر عليهم أبا عبيدة بن مسعود، وكان شابا شجاعا خبيرا بالحرب والمكيدة، وهذا آخر ما يتعلق بخبر العراق إلى آخر أيام الصديق، وأول دولة الفاروق.
خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كانت وفاة الصديق رضي الله عنه في يوم الاثنين عشية، وقيل: بعد المغرب، ودفن من ليلته، وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوما.
وكان عمر بن الخطاب يصلي عنه فيها بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان، وقرىء على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا.
فكانت خلافة الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وكان عمره يوم توفي ثلاثا وستين سنة، للسن الذي توفي فيه رسول الله ﷺ وقد جمع الله بينهما في التربة، كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه.
قال محمد بن سعد، عن أبي قطن عمرو بن الهيثم، عن ربيع بن حسان الصائغ قال: كان نقش خاتم أبي بكر (نعم القادر الله).
وهذا غريب.
وقد ذكرنا ترجمة الصديق رضي الله عنه، وسيرته وأيامه وما روي من الأحاديث، وما روي عنه من الأحكام في مجلد ولله الحمد والمنة.
فقام بالأمر من بعده أتم القيام الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهو أول من سمي بأمير المؤمنين.
وكان أول من حياه بها المغيرة بن شعبة، وقيل: غيره كما بسطنا ذلك في ترجمة عمر بن الخطاب وسيرته التي أفردناها في مجلد، ومسنده والآثار المروية مرتبا على الأبواب في مجلد آخر ولله الحمد.
وقد كتب بوفاة الصديق إلى أمراء الشام مع شداد بن أوس، ومحمد بن جريح، فوصلا والناس مصافون وجيوش الروم يوم اليرموك كما قدمنا، وقد أمر عمر على الجيوش أبا عبيدة حين ولاه وعزل خالد بن الوليد.
وذكر سلمة عن محمد بن إسحاق: أن عمر إنما عزل خالد لكلام بلغه عنه، ولما كان من أمر مالك بن نويرة، وما كان يعتمده في حربه.
فلما ولي عمر كان أول ما تكلم به أن عزل خالدا، وقال: لا يلي لي عملا أبدا.
وكتب عمر إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول، فأنزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين.
فلما قال أبو عبيدة ذلك لخالد قال له خالد: أمهلني حتى استشير أختي، فذهب إلى أخته فاطمة - وكانت تحت الحارث بن هشام - فاستشارها في ذلك، فقالت له: إن عمر لا يحبك أبدا، وإنه سيعزلك وإن كذبت نفسك.
فقال لها: صدقت والله، فقاسمه أبو عبيدة حتى أخذ إحدى نعليه وترك له الآخرة، وخالد يقول: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين.
وقد روى ابن جرير عن صالح بن كيسان أنه قال: أول كتاب كتبه عمر إلى أبي عبيدة حين ولاه وعزل خالدا أن قال: وأوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد فقم بأمرهم الذي يحق عليك، ولا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف ماتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغض بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم.
وأمرهم بالمسير إلى دمشق، وكان بعدما بلغه الخبر بفتح اليرموك وجاءته به البشارة، وحمل الخمس إليه.
وقد ذكر ابن إسحاق أن الصحابة قاتلوا بعد اليرموك أجنادين، ثم بفحل من أرض الغور قريبا من بيسان بمكان يقال له: الردغة سمي بذلك لكثرة ما لقوا من الأوحال فيها، فأغلقوها عليهم، وأحاط بها الصحابة.
قال: وحينئذ جاءت الإمارة لأبي عبيدة من جهة عمر وعزل خالد، وهذا الذي ذكره بن إسحاق من مجيء الإمارة لأبي عبيدة في حصار دمشق هو المشهور.
فتح دمشق
قال سيف بن عمر: لما ارتحل أبو عبيدة من اليرموك فنزل بالجنود على مرج الصفر وهو عازم على حصار دمشق إذ أتاه الخبر بقدوم مددهم من حمص، وجاءه الخبر بأنه قد اجتمع طائفة كبيرة من الروم بفحل من أرض فلسطين وهو لا يدري بأي الأمرين يبدأ.
فكتب إلى عمر في ذلك، فجاء الجواب: أن ابدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، فانهد لها واشغلوا عنكم أهل فحل بخيول تكون تلقاءهم، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن فتحت دمشق قبلها فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق، فإذا فتح الله عليكم فحل فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عمرا وشرحبيل على الأردن وفلسطين.
قال فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة أمراء مع كل أمير خمسة أمراء وعلى الجميع عمارة بن مخشى الصحابي، فساروا من مرج الصفر إلى فحل، فوجدوا الروم هنالك قريبا من ثمانين ألفا، وقد أرسلوا المياه حولهم حتى أردغت الأرض فسموا ذلك الموضع الردغة.
وفتحها الله على المسلمين فكانت أول حصن فتح قبل دمشق على ما سيأتي تفصيله.
وبعث أبو عبيدة جيشا يكون بين دمشق وبين فلسطين، وبعث ذا الكلاع في جيش يكون بين دمشق وبين حمص، ليرد من يرد إليهم من المدد من جهة هرقل.
ثم سار أبو عبيدة من مرج الصفر قاصدا دمشق، وقد جعل خالد بن الوليد في القلب، وركب أبو عبيدة وعمرو بن العاص في المجنبتين، وعلى الخيل عياض بن غنم، وعلى الرجالة شرحبيل بن حسنة، فقدموا دمشق وعليها نسطاس بن نسطوس، فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي وإليه كيسان أيضا.
ونزل أبو عبيدة على باب الجابية الكبير، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب الجابية الصغير، ونزل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة على بقية أبواب البلد، ونصبوا المجانيق والدبابات، وقد أرصد أبو عبيدة أبا الدرداء على جيش ببرزة يكونون ردءا له، وكذا الذي بينه وبين حمص وحاصروها حصارا شديدا سبعين ليلة، وقيل: أربعة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقيل: أربعة عشر شهرا فالله أعلم.
وأهل دمشق ممتنعون منهم غاية الامتناع، ويرسلون إلى ملكهم هرقل - وهو مقيم بحمص - يطلبون منه المدد فلا يمكن وصول المدد إليهم من ذي الكلاع، الذي قد أرصده أبو عبيدة رضي الله عنه بين دمشق وبين حمص - عن دمشق ليلة - فلما أيقن أهل دمشق أنه لا يصل إليهم مدد أبلسوا وفشلوا وضعفوا، وقوي المسلمون واشتد حصارهم، وجاء فصل الشتاء واشتد البرد وعسر الحال وعسر القتال، فقدر الله الكبير المتعال، ذو العزة والجلال، أن ولد لبطريق دمشق مولود في تلك الليالي فصنع لهم طعاما وسقاهم بعده شرابا، وباتوا عنده في وليمته قد أكلوا وشربوا وتعبوا فناموا عن مواقفهم، واشتغلوا عن أماكنهم وفطن لذلك أمير الحرب خالد بن الوليد فإنه كان لا ينام ولا يترك أحدا ينام، بل مراصد لهم ليلا ونهارا وله عيون وقصاد يرفعون إليه أحوال المقاتلة صباحا ومساءا.
فلما رأى حمدة تلك الليلة، وأنه لا يقاتل على السور أحد كان قد أعد سلاليم من حبال فجاء هو وأصحابه من الصناديد الأبطال مثل: القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وقد أحضر جيشه عند الباب وقال لهم: إذا سمعتم تكبيرنا فوق السور فارقوا إلينا.
ثم نهد هو وأصحابه فقطعوا الخندق سباحة بقرب في أعناقهم، فنصبوا تلك السلالم وأثبتوا أعاليها بالشرفات، وأكدوا أسافلها خارج الخندق، وصعدوا فيها، فلما استووا على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير، وجاء المسلمون فصعدوا في تلك السلالم، وانحدر خالد وأصحابه الشجعان من السور إلى البوابين فقتلوهم وقطع خالد، وأصحابه أغاليق الباب بالسيوف، وفتحوا الباب عنوة، فدخل الجيش الخالدي من الباب الشرقي.
ولما سمع أهل البلد التكبير ثاروا، وذهب كل فريق إلى أماكنهم من السور لا يدرون ما الخبر، فجعل كلما قدم أحد من أصحاب الباب الشرقي قتله أصحاب خالد.
ودخل خالد البلدة عنوة، فقتل من وجده، وذهب أهل كل باب فسألوا من أميرهم الذي عند الباب من خارج الصلح - وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فيأبون عليهم - فلما دعوهم إلى ذلك أجابوهم.
ولم يعلم بقية الصحابة ما صنع خالد.
ودخل المسلمون من كل جانب وباب فوجدوا خالدا وهو يقتل من وجده، فقالوا له: إنا قد أمناهم، فقال: إني فتحتها عنوة.
والتقت الأمراء في وسط البلد عند كنيسة المقسلاط بالقرب من درب الريحان اليوم.
هكذا ذكره سيف بن عمرو وغيره وهو المشهور أن خالدا فتح الباب قسرا.
وقال آخرون: بل الذي فتحها عنوة أبو عبيدة.
وقيل: يزيد بن أبي سفيان، وخالد صالح أهل البلد فعكسوا المشهور المعروف. والله أعلم.
وقد اختلف الصحابة فقال قائلون: هي صلح - يعني على ما صالحهم الأمير في نفس الأمر وهو أبو عبيدة.
وقال آخرون: بل هي عنوة، لأن خالدا افتتحها بالسيف أولا كما ذكرنا، فلما أحسوا بذلك ذهبوا إلى بقية الأمراء ومعهم أبو عبيدة فصالحوهم، فاتفقوا فيما بينهم على أن جعلوا نصفها صلحا ونصفها عنوة، فملك أهلها نصف ما كان بأيديهم وأقروا عليه، واستقرت يد الصحابة على النصف.
ويقوي هذا ما ذكره سيف بن عمرو: من أن الصحابة كانوا يطلبون إليهم أن يصالحوهم على المشاطرة فيأبون، فلما أحسوا باليأس أنابوا إلى ما كانت الصحابة دعوهم إليه فبادروا إلى إجابتهم.
ولم تعلم الصحابة بما كان من خالد إليهم والله أعلم.
ولهذا أخذ الصحابة نصف الكنيسة العظمى التي كانت بدمشق، تعرف: بكنيسة يوحنا.
فاتخذوا الجانب الشرقي منها مسجدا، وأبقوا لهم النصف الغربي كنيسة، وقد أبقوا لهم مع ذلك أربع عشرة كنيسة أخرى مع نصف الكنيسة المعروفة: بيوحنا وهي: جامع دمشق اليوم، وقد كتب إليهم خالد بن الوليد كتابا، وكتب فيه شهادته أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل:
إحداها: كنيسة المقسلاط التي اجتمع عندها أمراء الصحابة، وكانت مبنية على ظهر السوق الكبير، وهذه القناطر المشاهدة في سوق الصابونيين من بقية القناطر التي كانت تحتها، ثم بادت فيما بعد وأخذت حجارتها في العمارات.
الثانية: كنيسة كانت في رأس درب القرشيين، وكانت صغيرة.
قال الحافظ ابن عساكر: وبعضها باق إلى اليوم وقد تشعثت.
الثالثة: كانت بدار البطيخ العتيقة.
قلت: وهي داخل البلد بقرب الكوشك، وأظنها هي المسجد الذي قبل هذا المكان المذكور، فإنها خربت من دهر والله أعلم.
الرابعة: كانت بدرب بني نصر بين درب الحبالين ودرب التميمي.
قال الحافظ ابن عساكر: وقد أدركت بعض بنيانها، وقد خرب أكثرها.
الخامسة: كنيسة بولص.
قال ابن عساكر: وكانت غربي القيسارية الفخرية، وقد أدركت من بنيانها بعض أساس الحنية.
السادسة: كانت في موضع دار الوكالة، وتعرف اليوم بكنيسة القلانسيين.
قلت: والقلانسيين هي: الحواحين اليوم.
السابعة: التي بدرب السقيل اليوم، وتعرف: بكنيسة حميد بن درة سابقا، لأن هذا الدرب كان أقطاعا له وهو: حميد بن عمرو بن مساحق القرشي العامري، ودرة أمه، وهي: درة ابنة هاشم بن عتبة بن ربيعة، فأبوها خال معاوية.
وكان قد أقطع هذا الدرب فنسبت هذه الكنيسة إليه، وكان مسلما، ولم يبق لهم اليوم سواها، وقد خرب أكثرها، ولليعقوبية منهم كنيسة داخل باب توما بين رحبة وخالد - وهو: خالد بن أسيد بن أبي العيص - وبين درب طلحة بن عمرو بن مرة الجهني، وهي: الكنيسة الثامنة، وكان لليعقوبيين كنيسة أخرى فيما بين التنوى وسوق علي.
قال ابن عساكر: قد بقي من بنائها بعضه، وقد خربت منذ دهر، وهي: الكنيسة التاسعة.
وأما العاشرة: فهي الكنيسة المصلبة.
قال الحافظ ابن عساكر: وهي باقية إلى اليوم بين الباب الشرقي وباب توما بقرب النيبطن عند السور، والناس اليوم يقولون: النيطون.
قال ابن عساكر: وقد خرب أكثرها هكذا قال.
وقد خرجت هذه الكنيسة وهدمت في أيام صلاح الدين فاتح القدس بعد الثمانين وخمسمائة بعد موت الحافظ ابن عساكر رحمه الله.
الحادية عشرة: كنيسة مريم داخل الباب الشرقي.
قال ابن عساكر: وهي من أكبر ما بقي بأيديهم.
قلت: ثم خربت بعد موته بدهر في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري على ما سيأتي بيانه.
الثانية عشرة: كنيسة اليهود التي بأيديهم اليوم في حارتهم، ومحلها معروف بالقرب من الجبر، وتمسيه الناس اليوم بستان القط، وكانت لهم كنيسة في درب البلاغة لم تكن داخلة في العهد فهدمت فيما بعد وجعل مكانها المسجد المعروف: بمسجد ابن السهروردي، والناس يقولون درب الشاذوري.
قلت: وقد أخربت لهم كنيسة كانوا قد أحدثوها لم يذكرها أحد من علماء التاريخ ولا ابن عساكر ولا غيره، وكان إخرابها في حدود سنة سبع عشرة وسبعمائة، ولم يتعرض الحافظ ابن عساكر لذكر كنيسة السامرة بمرة.
ثم قال ابن عساكر: ومما أحدث - يعني: النصارى - كنيسة بناها أبو جعفر المنصور بنى قطيطا في الفريق عند قناة صالح قريبا من دازبها وأرمن اليوم.
قال: ومما أحدث كنيستنا العباد، إحداهما: عند دار ابن وقد أخربت فيما بعد وجعلت مسجدا، يعرف: بمسجد الجنيق، وهو مسجد أبي اليمن الماشلي، وقد جعلت مسجدا، والأخرى التي في رأس درب النقاشين وقد جعلت مسجدا.
انتهى ما ذكره الحافظ ابن عساكر الدمشقي رحمه الله.
قلت: وظاهر سياق سيف بن عمر يقتضي: أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكن نص سيف على ما نص عليه الجمهور: من أنها فتحت في نصف رجب سنة أربع عشرة.
كذا حكاه الحافظ ابن عساكر، من طريق محمد بن عائذ القرشي الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن عثمان بن حصين بن غلاق، عن يزيد بن عبيدة قال: فتحت دمشق سنة أربع عشرة.
ورواه دحيم عن الوليد قال: سمعت أشياخا يقولون: إن دمشق فتحت سنة أربع عشرة.
وهكذا قال سعيد بن عبد العزيز، وأبو معشر، ومحمد بن إسحاق، ومعمر، والأموي، وحكاه عن مشايخه، وابن الكلبي، وخليفة بن خياط، وأبو عبيد القاسم بن سلام: أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة.
وزاد سعيد بن عبد العزيز، وأبو معشر، والأموي: وكانت اليرموك بعدها بسنة.
وقال بعضهم: بل كان فتحها في شوال سنة أربع عشرة.
وقال خليفة: حاصرهم أبو عبيدة في رجب وشعبان ورمضان وشوال، وتم الصلح في ذي القعدة.
وقال الأموي في مغازيه: كانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى، ووقعة فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، - يعني: ووقعة دمشق سنة أربع عشرة -.
وقال دحيم عن الوليد: حدثني الأموي: أن وقعة فحل وأجنادين كانت في خلافة أبي بكر، ثم مضى المسلمون إلى دمشق فنزلوا عليها في رجب سنة ثلاث عشرة، يعني: ففتحوها في سنة أربع عشرة.
وكانت اليرموك سنة خمس عشرة، وقدم عمر إلى بيت المقدس سنة ست عشرة.
فصل الاختلاف في فتح دمشق صلحا أو عنوة
واختلف العلماء في دمشق هل فتحت صلحا أو عنوة؟
فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح، لأنهم شكوا في المتقدم على الآخر أفتحت عنوة، ثم عدل الروم إلى المصالحة، أو فتحت صلحا، أو اتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسرا؟ فلما شكوا في ذلك جعلوها صلحا احتياطا.
وقيل: بل جعل نصفها صلحا، ونصفها عنوة، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها. والله أعلم.
ثم قيل: أن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتاب الصلح، وهذا هو الأنسب والأشهر، فإن خالدا كان قد عزل عن الإمرة.
وقيل: بل الذي كتب لهم الصلح خالد بن الوليد، ولكن أقره على ذلك أبو عبيدة فالله أعلم.
وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر: أن الصديق توفي قبل فتح دمشق، وأن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق، وأنه قد استنابه على من بالشام، وأمره أن يستشير خالدا في الحرب، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة.
فقال له خالد: يرحمك الله ما منعك أن تعلمني حين جاءك؟
فقال: إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريد، ولا للدنيا أعمل، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ودنياه.
ومن أعجب ما يذكر ههنا: ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الملك بن محمد، حدثنا راشد بن داود الصنعاني، حدثني أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد قال: بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام، فذكر الراوي.
فقال خالد لأهل اليمامة إلى أن قال: ومات أبو بكر واستخلف عمر، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر، فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام، فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم.
وهذا غريب جدا، فإن الذي لا يشك فيه أن الصديق هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مددا لمن به، وأميرا عليهم ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميع الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقال محمد بن عائذ: قال الوليد بن مسلم: أخبرني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير: أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافدا إلى أبي بكر بشيرا بالفتح، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي، واستخلف عمر بن الخطاب، فأعظم أن يتأمر أحد من الصحابة عليه، فولاه جماعة الناس فقدم عليهم، فقالوا: مرحبا بمن بعثناه بريدا، فقدم علينا أميرا.
وقد روى الليث، وابن لهيعة، وحيوة بن شريح، ومفضل بن فضالة، وعمر بن الحارث، وغير واحد، عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر: أنه بعثه أبو عبيدة بريدا بفتح دمشق، قال: فقدمت على عمر يوم الجمعة، فقال لي: منذ كم لم تنزع خفيك؟
فقلت: من يوم الجمعة، وهذا يوم الجمعة.
فقال: أصبت السنة.
قال الليث: وبه نأخذ، يعني: أن المسح على الخفين للمسافر لا يتأقت بل له أن يمسح عليهما ما شاء، وإليه ذهب الشافعي في القديم.
وقد روى أحمد، وأبو داود، عن أبي بن عمارة مرفوعا مثل هذا.
والجمهور على ما رواه مسلم، عن علي في تأقيت المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة.
ومن الناس من فصل بين البريد ومن في معناه وغيره، فقال في الأول: لا يتأقت، وفيما عداه يتأقت لحديث عقبة وحديث علي والله أعلم.
بعث خالد بن الوليد إلى البقاع لفتحه
ثم إن أبا عبيدة بعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون، وعلى الروم رجل يقال له: سنان، تحدر على المسلمين من عقبة بيروت، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء، فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء.
واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان كما وعده بها الصديق، وبعث يزيد دحية بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها، وبعث أبا الزهراء القشيري إلى البثينة وحوران، فصالح أهلها.
قال أبو عبيدة القاسم بن سلام رحمه الله: افتتح خالد دمشق صلحا، وهكذا سائر مدن الشام كانت صلحا دون أراضيها.
فعلى يدي يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبي عبيدة.
وقال الوليد بن مسلم: أخبرني غير واحد من شيوخ دمشق بينما هم على حصار دمشق إذ أقبلت خيل من عقبة السلمية مخمرة بالحرير، فثار إليهم المسلمون فالتقوا فيما بين بيت لهيا والعقبة التي أقبلوا منها، فهزموهم وطردوهم إلى أبواب حمص، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم قد فتحوا دمشق.
فقال لهم أهل حمص: إنا نصالحكم على ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا.
وقال خليفة بن خياط: حدثني عبد الله بن المغيرة، عن أبيه قال: افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه.
وهكذا قال ابن الكلبي.
وقالا بعث أبو عبيدة خالدا فغلب على أرض البقاع، وصالحه أهل بعلبك، وكتب لهم كتابا.
وقال ابن المغيرة، عن أبيه: وصالحهم على أنصاف منازلهم، وكنائسهم، ووضع الخراج.
وقال ابن إسحاق وغيره: وفي سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحا على يدي أبي عبيدة في ذي القعدة.
قال خليفة: ويقال: في سنة خمس عشرة.
وقعة فحل
وقد ذكرها كثير من علماء السير قبل فتح دمشق، وإنما ذكرها الإمام أبو جعفر بن جرير بعد فتح دمشق، وتبع في ذلك سياق سيف بن عمر فيما رواه عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني، وأبي حارثة القيسي قالا:
خلف الناس يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق، وسار نحو فِحل، وعلى الناس الذين هم بالغور شرحبيل بن حسنة، وسار أبو عبيدة، وقد جعل على المقدمة خالد بن الوليد، وأبو عبيدة على الميمنة، وعمرو بن العاص على الميسرة، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجالة عياض بن غنم، فوصلوا إلى فحل، وهي: بلدة بالغور، وقد انحاز الروم إلى بيسان، وأرسلوا مياه تلك الأراضي على هنالك من الأراضي فحال بينهم وبين المسلمين، وأرسل المسلمون إلى عمر يخبرونه بما هم فيه من مصابرة عدوهم، وما صنعه الروم من تلك المكيدة، إلا أن المسلمين في عيش رغيد ومدد كبير وهم على أهبة من أمرهم.
وأمير هذا الحرب شرحبيل بن حسنة، وهو لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة.
وظن الروم أن المسلمين على غرة فركبوا في بعض الليالي ليبيتوهم، وعلى الروم سقلاب بن مخراق، فهجموا على المسلمين فنهضوا إليهم نهضة رجل واحد كأنهم على أهبة دائما فقاتلوهم حتى الصباح، وذلك اليوم بكماله إلى الليل.
فلما أظلم الليل فر الروم، وقتل أميرهم سقلاب، وركب المسلمون أكتافهم، وأسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل الذي كانوا قد كادوا به المسلمين فغرقهم الله فيه، وقتل منهم المسلمين بأطراف الرماح ما قارب الثمانين ألفا لم ينج منهم إلا الشريد، وغنموا منهم شيئا كثيرا ومالا جزيلا.
وانصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهم من الجيوش نحو حمص كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل بن حسنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص، فحاصر بيسان فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق، وضرب عليهم الجزية والخراج على أراضيهم، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء.
ما وقع بأرض العراق آنذاك من القتال
وقد قدمنا أن المثنى بن حارثة لما سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل: أنه سار بتسعة آلاف، وقيل: بثلاثة آلاف، وقيل: بسبعمائة، وقيل: بأقل إلا أنهم صناديد جيش العراق.
فأقام المثنى بمن بقي فاستقل عددهم وخاف من سطوة الفرس لولا اشتغالهم بتبديل ملوكهم وملكاتهم، واستبطأ المثنى خبر الصديق فسار إلى المدينة فوجد الصديق في السياق، فأخبره بأمر العراق، فأوصى الصديق عمر أن يندب الناس لقتال أهل العراق.
فلما مات الصديق ودفن ليلة الثلاثاء أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم، وشدة قتالهم.
ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن، وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يد خالد من معظم أرض العراق، ومالهم هنالك من الأموال، والأملاك، والأمتعة، والزاد، فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيدة بن مسعود الثقفي.
ثم تتابع الناس في الإجابة، أمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمر على الجميع أبا عبيد، هذا ولم يكن صحابيا، فقيل لعمر: هلا أمرت عليهم رجلا من الصحابة؟
فقال: إنما أومر أول من استجاب، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم.
ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله ﷺ، وأن يستشير سليط بن قيس فإنه رجل باشر الحروب فسار المسلمون إلى أرض العراق، وهم سبعة آلاف رجل.
وكتب عمر إلى أبي عبيدة: أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى العراق، فجهز عشرة آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق، فقدم الكوفة، ثم خرج منها فواقع هرقران المدار فقتله، وانهزم جيشه، وغرق أكثرهم في دجلة.
فلما وصل الناس إلى العراق وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم، وآخر ما استقر عليه أمرهم أن ملكوا عليهم بوران بنت كسرى بعد ما قتلوا التي كانت قبلها آزرميدخت وفوضت بوران أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له: رستم بن فرخزاذ على أن يقوم بأمر الحرب، ثم يصير الملك إلى آل كسرى، فقبل ذلك.
وكان رستم هذا منجما يعرف النجوم وعلمها جيدا، فقيل له: ما حملك على هذا؟ يعنون وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتم لك، فقال: الطمع، وحب الشرف.
وقعة النمارق
بعث رستم أميرا يقال له: جابان، وعلى مجنبته رجلان يقال لأحدهما: حشنس ماه، ويقال للآخر: مردانشاه وهو خصي أمير حاجب الفرس، فالتقوا مع أبي عبيد بمكان يقال له: النمارق - بين الحيرة والقادسية - وعلى الخيل المثنى بن حارثة، وعلى الميسرة عمرو بن الهيثم، فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا، وهزم الله الفرس، وأسر جابان ومردانشاه.
فأما مردانشاه فإنه قتله الذي أسره.
وأما جابان فإنه خدع الذي أسره حتى أطلقه فأمسكه المسلمون وأبوا أن يطلقوه، وقالوا: إن هذا هو الأمير وجاؤا به إلى أبي عبيد فقالوا: قتله فإنه الأمير.
فقال: وإن كان الأمير فإني لا أقتله.
وقد أمنه رجل من المسلمين ثم ركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم، وقد لجأوا إلى مدينة كسكر التي لابن خالة كسرى واسمه: نرسي فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد، فقهرهم أبو عبيد، وغنم منهم شيئا كثيرا وأطعمات كثيرة جدا، ولله الحمد.
وبعث بخمس ما غنم من المال والطعام إلى عمر بن الخطاب بالمدينة.
وقد قال في ذلك رجل من المسلمين:
لعمري وما عمري عليَّ بهين * لقد صبحت بالخزي أهل النمارق
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم * يجوسونهم ما بين درنا وبارق
قتلناهم ما بين مرج مسلح * وبين الهواني من طريق التدارق
فالتقوا بمكان بين كسكر والسفاطية وعلى ميمنة نرسي وميسرته ابنا خاله بندويه وبيرويه أولاد نظام، وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس، فلما بلغ أبو عبيد ذلك أعجل نرسي بالقتال قبل وصولهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الفرس، وهرب نرسي والجالينوس إلى المدائن بعد وقعة جرت من أبي عبيد مع الجالينوس بمكان يقال له: باروسما، فبعث أبو عبيد المثنى بن حارثة، وسرايا أخر إلى متاخم تلك الناحية كنهر جور ونحوها ففتحها صلحا وقهرا، وضربوا الجزية والخراج، وغنموا الأموال الجزيلة ولله الحمد والمنة.
وكسروا الجالينوس الذي جاء لنصره جابان غنموا جيشه وأمواله، وكر هاربا إلى قومه حقيرا ذليلا.
وقعة جسر أبي عبيد ومقتل أمير المسلمين وخلق كثير منهم
لما رجع الجالينوس هاربا مما لقي من المسلمين، تذامرت الفرس بينهم، واجتمعوا إلى رستم فأرسل جيشا كثيفا عليهم ذا الحاجب بهمس حادويه وأعطاه راية أفريدون وتسمى: درفش كابيان، وكانت الفرس تتيمن بها.
وحملوا معهم راية كسرى، وكانت من جلود النمور عرضها ثمانية أذرع.
فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر، وعليه جسر فأرسلوا: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم؟
فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: أأمرهم فليعبروا هم إلينا.
فقال: ما هم بأجرأ على الموت منا، ثم اقتحم إليهم فاجتمعوا في مكان ضيق هنالك فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله المسلمون في نحو من عشرة آلاف، وقد جاءت الفرس معهم بأفيلة كثيرة عليها الجلاجل، قائمة لتذعر خيول المسلمين فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر.
وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة ورشقتهم الفرس بالنبل، فنالوا منهم خلقا كثيرا، وقتل المسلمون منه مع ذلك ستة آلاف.
وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولا، فاحتوشوها فقتلوها عن آخرها، وقد قدمت الفرس بين أيديهم فيلا عظيما أبيض، فتقدم إليه أبو عبيد فضربه بالسيف فقطع ذلومه فحمى الفيل، وصاح صيحة هائلة وحمل فتخبطه برجليه فقتله ووقف فوقه فحمل على الفيل خليفة أبي عبيد الذي كان أوصى أن يكون أميرا بعده فقتل، ثم آخر ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد، ثم صارت إلى المثنى بن حارثة بمقتضى الوصية أيضا.
وقد كانت دومة امرأة أبي عبيد رأت مناما يدل على ما وقع سواء بسواء.
فلما رأى المسلمون ذلك وهنوا عند ذلك، ولم يكن بقي إلا الظفر بالفرس، وضعف أمرهم، وذهب ريحهم، وولوا مدبرين، وساقت الفرس خلفهم فقتلوا بشرا كثيرا وانكشف الناس فكان أمرا بليغا، وجاؤا إلى الجسر فمر بعض الناس.
ثم انكسر الجسر فتحكم فيمن وراءه الفرس، فقتلوا من المسلمين وغرق في الفرات نحو من أربعة آلاف. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وسار المثنى بن حارثة فوقف عند الجسر الذي جاؤا منه، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق.
فنادى المثنى: أيها الناس على هينتكم فإني واقف على فم الجسر لا أجوزه حتى لا يبقى منكم أحد ههنا، فلما عدّى الناس إلى الناحية الأخرى، سار المثنى فنزل بهم أول منزل، وقام يحرسهم هو وشجعان المسلمين، وقد جرح أكثرهم وأثخنوا.
ومن الناس من ذهب في البرية لا يُدري أين ذهب، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية مذعورا.
وذهب بالخبر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب فوجده على المنبر، فقال له عمر: ما وراءك يا عبد الله بن زيد؟
فقال: أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه المنبر فأخبره الخبر سرا.
ويقال: كان أول من قدم بخبر الناس عبد الله بن يزيد بن الحصين الحطمي فالله أعلم.
قال سيف بن عمر: وكانت هذه الوقعة في شعبان من سنة ثلاث عشرة بعد اليرموك بأربعين يوما فالله أعلم.
وتراجع المسلمون بعضهم إلى بعض، وكان منهم من فر إلى المدينة، فلم يؤنب عمر الناس، بل قال: إنا فيئكم، وأشغل الله المجوس بأمر ملكهم.
وذلك أن أهل المدائن عدوا على رستم فخلعوه ثم ولوه، وأضافوا إليه الفيرزان، واختلفوا على فرقتين، فركب الفرس إلى المدائن ولحقهم المثنى بن حارثة في نفر من المسلمين، فعارضه أميران من أمرائهم في جيشهم، فأسرهما وأسر معهما بشرا كثيرا فضرب أعناقهم.
ثم أرسل المثنى إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يستمدهم، فبعثوا إليه بالأمداد، وبعث إليه عمر بن الخطاب بمدد كثير فيهم جرير بن عبد الله البجلي، في قومه بجلية بكمالها، وغيره من سادات المسلمين حتى كثر جيشه.
وقعة البويب التي اقتص فيها المسلمون من الفرس
فلما سمع بذلك أمراء الفرس، وبكثرة جيوش المثنى، بعثوا إليه جيشا آخر مع رجل يقال له: مهران فتوافوا هم وإياهم بمكان يقال له: البويب، قريب من مكان الكوفة اليوم، وبينهما الفرات.
فقالوا: إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم؟
فقال المسلمون: بل اعبروا إلينا.
فعبرت الفرس إليهم فتواقفوا، وذلك في شهر رمضان، فعزم المثنى على المسلمين في الفطر فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم، وعبى الجيش، وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء على القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت.
وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بجلة وجماعة من سادات المسلمين.
وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول.
فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم، واقتتلوا قتالا شديدا.
ورأى المثنى في بعض صفوفه خللا، فبعث إليهم رجلا يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا العرب اليوم فاعتدلوا.
فلما رأى ذلك منهم - وهم بنو عجل - أعجبه وضحك. وبعث إليهم يقول:
يا معشر المسلمين عاداتكم، انصروا الله ينصركم. وجعل المثنى المسلمون يدعون الله بالظفر والنصر.
فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة، وحمل غلام من بني تغلب نصراني فقتل مهران وركب فرسه.
كذا ذكره سيف بن عمر.
وقال محمد بن إسحاق: بل حمل عليه المنذر بن حسان بن ضرار الضبي فطعنه واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي، واختصما في سلبه فأخذ جرير السلاح، وأخذ المنذر منطقته.
وهربت المجوس، وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلا.
وسبق المثنى بن حارثة إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون.
فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن أبعد إلى الليل فيقال: أنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف، ولله الحمد والمنة.
وغنم المسلمون مالا جزيلا وطعاما كثيرا، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر رضي الله عنه.
وقد قتل من سادات المسلمين هذا اليوم بشر كثير أيضا، وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، فغنموا شيئا عظيما لا يمكن حصره.
وجرت أمور يطول ذكرها بعد يوم البويب، وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام.
وقد قال الأعور الشني العبدي في ذلك:
هاجت لأعور دار الحي أحزانا * واستبدلت بعد عبد القيس حسانا
وقد أرانا بها الشمل مجتمع * إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
إذ كان سار المثنى بالخيول لهم * فقتل الزحف من فرس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه * حتى أبادهم مثنى ووحدانا
فصل بعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص أميرا على العراق
ثم بعث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص الزهري أحد العشرة في ستة آلاف أميرا على العراق، وكتب إلى جرير عبد الله، والمثنى بن حارثة أن يكونا تبعا له، وأن يسمعا له ويطيعا، فلما وصل إلى العراق كانا معه، وكانا قد تنازعا الإمرة فالمثنى يقول لجرير: إنما بعثك أمير المؤمنين مددا إلي.
ويقول جرير: إنما بعثني أميرا عليك.
فلما قدم سعد بن أبي وقاص على أمر العراق انقطع نزاعهما.
قال ابن إسحاق: وتوفي المثنى بن حارثة في هذه السنة:
كذا قال ابن إسحق.
والصحيح: أن بعث عمر سعدا إنما كان في أول سنة أربع عشرة كما سيأتي.
ذكر اجتماع الفرس على يزدجرد بعد اختلافهم
كان شيرين قد جمع آل كسرى في القصر الأبيض، وأمر بقتل ذكرانهم كلهم، وكانت أم يزدجرد فيهم ومعها ابنها وهو صغير، فواعدت أخواله فجاؤا وأخذوه منها، وذهبوا إلى بلادهم، فلما وقع ما وقع يوم البويب وقتل من قتل منهم كما ذكرنا، وركب المسلمون أكتافهم وانتصروا عليهم، وعلى أخذ بلدانهم، ومحالهم وأقاليمهم.
ثم سمعوا بقدوم سعد بن أبي وقاص من جهة عمر، اجتمعوا فيما بينهم وأحضروا الأميرين الكبيرين فيهم ووهما: رستم والفيرزان فتذامروا فيما بينهم وتواصوا، وقالوا لهما: لئن لم تقوما بالحرب كما ينبغي لنقتلنكما ونشتفي بكما.
ثم رأوا فيما بينهم: أن يبعثوا خلف نساء كسرى من كل فجٍ ومن كل بقعة فمن كان لها ولد من آل كسرى ملكوه عليهم.
فجعلوا إذا أتوا بالمرأة عاقبوها هل لها ولد وهي تنكر ذلك خوفا على ولدها إن كان لها ولد، فلم يزالوا حتى دلوا على أم يزدجرد، فأحضروها وأحضروا ولدها فملكوه عليهم، وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وهو: من ولد شهريار بن كسرى وعزلوا بوران واستوثقت الممالك له، واجتمعوا عليه وفرحوا به، وقاموا بين يديه بالنصر أتم قيام.
واستفحل أمره فيهم وقويت شوكتهم به، وبعثوا إلى الأقاليم والرساتيق، فخلعوا الطاعة للصحابة، ونقضوا عهودهم وذممهم.
وبعث الصحابة إلى عمر بالخبر، فأمرهم عمر أن يتبرزوا من بين ظهرانيهم، وليكونوا على أطراف البلاد حولهم على المياه، وأن تكون كل قبيلة تنظر إلى الأخرى بحيث إذا حدث حدث على قبيلة لا يخفى أمرها على جيرانهم. وتفاقم الحال جدا، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة.
وقد حج بالناس عمر في هذه السنة، وقيل: بل حج بهم عبد الرحمن بن عوف، ولم يحج عمر هذه السنة والله أعلم.
ما وقع سنة ثلاث عشرة من الحوادث
كانت فيها وقائع تقدم تفصيلها ببلاد العراق على يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه، فتحت فيها الحيرة والأنبار وغيرهما من الأمصار.
وفيها: سار خالد بن الوليد من العراق إلى الشام على المشهور.
وفيها: كانت وقعة اليرموك في قول سيف بن عمر، واختيار ابن جرير، وقتل بها من قتل من الأعيان ممن يطول ذكرهم وتراجمهم رضي الله عنهم أجمعين.
وفيها: توفي أبو بكر الصديق. وقد أفردنا سيرته في مجلد ولله الحمد.
وفيها: ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة منها، فولي قضاء المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستناب على الشام أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وعزل عنها خالد بن الوليد المخزومي، وأبقاه على شورى الحرب.
وفيها: فتحت بصرى صلحا وهي أول مدينة فتحت من الشام.
وفيها: فتحت دمشق في قول سيف وغيره كما قدمنا، واستنيب فيها يزيد بن أبي سفيان، فهو أول من وليها من أمراء المسلمين رضي الله عنهم.
وفيها: كانت وقعت وقعة الفحل من أرض الغور، وقتل بها جماعة من الصحابة وغيرهم.
وفيها: كانت وقعة جسر أبي عبيد فقتل فيها أربعة آلاف من المسلمين.
منهم: أميرهم أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو والد صفية امرأة عبد الله بن عمر، وكانت امرأة صالحة رحمهما الله.
ووالد المختار بن أبي عبيد كذاب ثقيف، وقد كان نائبا على العراق في بعض وقعات العراق كما سيأتي.
وفيها: توفي المثنى بن حارثة في قول ابن إسحاق، وقد كان نائبا على العراق، استخلفه خالد بن الوليد حين سار إلى الشام وقد شهد مواقف مشهورة، وله أيام مذكورة ولا سيما يوم البويب بعد جسر أبي عبيد قتل فيه من الفرس، وغرق بالفرات قريب من مائة ألف، الذي عليه الجمهور: أنه بقي إلى سنة أربع عشرة كما سيأتي بيانه.
وفيها: حج بالناس عمر بن الخطاب في قول بعضهم، وقيل: بل حج عبد الرحمن بن عوف.
وفيها: استنفر عمر قبائل العرب لغزو العراق الشام فأقبلوا من كل النواحي، فرمى بهم الشام والعراق.
وفيها: كانت وقعة أجنادين في قول ابن إسحاق يوم السبت لثلاث من جمادى الأولى منها.
وكذا عند الواقدي فيما بين الرملة وبين جسرين على الروم القيقلان، وأمير المسلمين عمرو بن العاص، وهو في عشرين ألفا في قول، فقتل القيقلان انهزمت الروم، وقتل منهم خلق كثير.
واستشهد من المسلمين أيضا جماعة منهم وهشام بن العاص، والفضل بن العباس، وأبان بن سعيد، وأخواه خالد وعمرو، ونعيم بن عبد الله بن النحام، والطفيل بن عمرو، وعبد الله بن عمرو الدوسيان، وضرار بن الأزور، وعكرمة بن أبي جهل، وعمه سلمة بن هشام، وهبار بن سفيان، وصخر بن نصر، وتميم وسعيد ابنا الحارث بن قيس رضي الله عنهم الأزور.
وقال محمد بن سعد: قتل يومئذ طليب بن عمرو، وأمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ، وممن قتل يومئذ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وكان عمره يومئذ ثلاثين سنة فيما ذكره الواقدي.
قال: ولم يكن له رواية، وكان ممن صبر يوم حنين.
قال ابن جرير: وقتل يومئذ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، والحارث بن أوس بن عتيك رضي الله عنهم.
وفيها: كانت وقعة مرج الصفر في قول خليفة بن خياط، وذلك لثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى، وأمير الناس خالد بن سعيد بن العاص فقتل يومئذ.
وقيل: إنما قتل أخوه عمرو.
وقيل: ابنه فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكان أمير الروم قلقط فقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى جرت طاحون هناك من دمائهم. والصحيح: أن وقعة مرج الصفر في أول سنة أربع عشرة كما ستأتي.
ذكر المتوفين في هذه السنة مرتبين على الحروف
كما ذكرهم الحافظ الذهبي
أبان بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي أبو الوليد المكي صحابي جليل، وهو: الذي أجار عثمان بن عفان يوم الحديبية حتى دخل مكة لأداء رسالة رسول الله ﷺ.
أسلم بعد مرجع أخويه من الحبشة خالد، وعمرو، فدعوه إلى الإسلام فأجابهما، وساروا فوجدوا رسول الله ﷺ قد فتح خيبر.
وقد استعمله رسول الله ﷺ سنة تسع على البحرين، وقتل بأجنادين.
أنسة مولى رسول الله ﷺ المشهور أنه قتل ببدر فيما ذكره البخاري وغيره.
وزعم الواقدي فيما نقله عن أهل العلم: أنه شهد أحدا وأنه بقي بعد ذلك زمانا.
قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن محمد بن يوسف: أن أنسة مات في خلافة أبي بكر الصديق، وكان: يكنى أبا مسروح.
وقال الزهري: كان يأذن للناس على النبي ﷺ.
تميم بن الحارث بن قيس السهمي وأخوه قيس صحابيان جليلان هاجرا إلى الحبشة وقتلا بأجنادين.
الحارث بن أوس بن عتيك من مهاجرة الحبشة، قتل بأجنادين.
خالد بن سعيد بن العاص الأموي من السابقين الأولين، ممن هاجر إلى الحبشة، وأقام بها بضع عشرة سنة.
ويقال: أنه كان على صنعاء من جهة رسول الله ﷺ، وأمره الصديق على بعض الفتوحات كما تقدم، قتل يوم مرج الصفر في قول، وقيل: بل هرب فلم يمكنه الصديق من دخول المدينة تعزيرا له فأقام شهرا في بعض ظواهرها حتى أذن له.
ويقال: أن الذي قتله أسلم، وقال: رأيت له حين قتلته نورا ساطعا إلى السماء رضي الله عنه.
سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة، ويقال: حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الخزرجي سيدهم، أبو ثابت.
ويقال: أبو قيس صحابي جليل كان أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرا في قول عروة وموسى بن عقبة والبخاري وابن ماكولا.
وروى ابن عساكر: من طريق حجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن راية المهاجرين يوم بدر كانت مع علي، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنهما.
قلت: والمشهور أن هذا كان يوم الفتح والله أعلم.
وقال الواقدي: لم يشهدها لأنه نهسته حية فشغلته عنها بعد أن تجهز لها فضرب له رسول الله ﷺ بسهمه، وأجره وشهد أحدا وما بعدها.
وكذا قال خليفة بن خياط.
وكانت له جفنة تدور مع النبي ﷺ حيث دار من بيوت نسائه بلحم وثريد، أو لبن وخبز، أو خبز وسمن، أو بخل وزيت، وكان ينادي عند أطمة كل ليلة لمن أراد القرى.
وكان يحسن الكتابة بالعربي، والرمي والسباحة، وكان يسمي من أحسن ذلك كاملا.
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر ما ذكره غير واحد من علماء التاريخ: أنه تخلف عن بيعة الصديق، حتى خرج إلى الشام فمات بقرب من حوران سنة ثلاث عشرة في خلافة الصديق.
قاله ابن إسحاق، والمدائني، وخليفة.
قال: وقيل في أول خلافة عمر.
وقيل: سنة أربع عشرة.
وقيل: سنة خمس عشرة.
وقال الفلاس وابن بكر: سنة ست عشرة.
قلت: أما بيعة الصديق فقد روينا في مسند الإمام أحمد أنه سلَّم للصديق ما قاله من أن الخلفاء من قريش.
وأما موته بأرض الشام فمحقق، والمشهور: أنه بحوران.
قال محمد بن عائذ الدمشقي، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: أول مدينة فتحت من الشام بصرى، وبها توفي سعد بن عبادة.
وعند كثير من أهل زماننا أنه دفن بقرية من غوطة دمشق يقال لها: المنيحة، وبها قبر مشهور به.
ولم أر الحافظ ابن عساكر تعرض لذكر هذا القبر في ترجمته بالكلية فالله أعلم.
قال ابن عبد البر: ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * رميناه بسهم فلم يخطئ فؤاده
قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: سمعت أن الجن قالوا في سعد بن عبادة هذين البيتين له.
عن النبي ﷺ أحاديث، وكان رضي الله عنه من أشد الناس غيرة، ما تزوج امرأة بكرا ولا طلق امرأة فتجاسر أحد أن يخطبها بعده.
وقد روي: أنه لما خرج من المدينة قسم ماله بين بنيه، فلما توفي ولد له ولد فجاء أبو بكر وعمر إلى ابنه قيس بن سعد فأمراه أن يدخل هذا معهم، فقال: إني لا أغير ما صنع سعد، ولكن نصيبي لهذا الولد.
سلمة بن هشام بن المغيرة، أخو أبي جهل بن هشام، أسلم سلمة قديما، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها حبسه أخوه وأجاعه، فكان رسول الله ﷺ يدعو له في القنوت ولجماعة معه من المستضعفين.
ثم انسل فلحق رسول الله ﷺ بالمدينة بعد الخندق، وكان معه بها، وقد شهد أجنادين وقتل بها رضي الله عنه.
ضرار بن الأزور الأسدي، كان من الفرسان المشهورين، والأبطال المذكورين، له ومواقف مشهودة وأحوال محمودة.
ذكر عروة وموسى بن عقبة: أنه قتل بأجنادين.
له حديث في استحباب إبقاء شيء من اللبن في الضرع عند الحلب.
طليب بن عمير بن وهب بن كثير بن هند بن قصي القرشي العبدي، أمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ.
أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا.
قاله ابن إسحاق، والواقدي، والزبير بن بكار.
ويقال: أنه أول من ضرب مشركا، وذلك أن أبا جهل سب النبي ﷺ فضربه طليب بلحى جمل فشجه، استشهد طليب بأجنادين، وقد شاخ رضي الله عنه.
عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله ﷺ، كان من الأبطال المذكورين والشجعان المشهورين، قتل يوم أجنادين بعد ما قتل عشرة من الروم مبارزة كلهم بطارقة أبطال، وله من العمر يومئذ بضع وثلاثون سنة.
عبد الله بن عمرو الدوسي، قتل بأجنادين.
وليس هذا الرجل معروفا.
عثمان بن طلحة العبدري الحجبي.
قيل: أنه قتل بأجنادين، والصحيح: أنه تأخر إلى ما بعد الأربعين.
عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن أمير مكة نيابة عن رسول الله ﷺ، استعمله عليها عام الفتح، وله من العمر عشرون سنة، فحج بالناس عامئذ، واستنابه عليها أبو بكر بعده عليه السلام، وكانت وفاته بمكة، قيل: يوم توفي أبو بكر رضي الله عنهما.
له حديث واحد رواه أهل السنن الأربعة.
عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أبو عثمان القرشي المخزومي، كان من سادات الجاهلية كأبيه، ثم أسلم عام الفتح بعدما فر، ثم رجع إلى الحق.
واستعمله الصديق على عُمان حين ارتدوا فظفر بهم كما تقدم.
ثم قدم الشام، وكان أميرا على بعض الكراديس، ويقال: أنه لا يعرف له ذنب بعدما أسلم.
وكان يقبل المصحف ويبكي ويقول: كلام ربي كلام ربي.
احتج بهذا الإمام أحمد على جواز تقبيل المصحف ومشروعيته.
وقال الشافعي: كان عكرمة محمود البلاء في الإسلام.
قال عروة: قتل بأجنادين.
وقال غيره: باليرموك بعدما وجد به بضع وسبعون ما بين ضربة وطعنة رضي الله عنه.
الفضل بن العباس بن عبد المطلب، قيل: أنه توفي في هذه السنة، والصحيح: أنه تأخر إلى سنة ثماني عشرة.
نعيم بن عبد الله بن النحام أحد بني عدي، أسلم قديما قبل عمر، ولما يتهيأ له هجرة إلى ما بعد الحديبية، وذلك لأنه كان فيه بر بأقاربه، فقالت له قريش: أقم عندنا على أي دين شئت فوالله لا يتعرضك أحد إلا ذهبت أنفسنا دونك.
استشهد يوم أجنادين، وقيل: يوم اليرموك رضي الله عنه.
هبار بن الأسود بن أسد أبو الأسود القرشي الأسدي، هذا الرجل كان قد طعن راحلة زينب بنت النبي ﷺ يوم خرجت من مكة حتى أسقطت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، وقتل بأجنادين رضي الله عنه.
هبار بن سفيان بن عبد الأسود المخزومي ابن أخي أم سلمة.
أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة، واستشهد يوم أجنادين على الصحيح، وقيل: قتل يوم مؤتة والله أعلم.
هشام بن العاص بن وائل السهمي أخو عمرو بن العاص.
روى الترمذي: أن رسول الله ﷺ قال: « ابنا العاص مؤمنان ».
وقد أسلم هشام قبل عمرو، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها احتبس بمكة.
ثم هاجر بعد الخندق، وقد أرسله الصديق إلى ملك الروم.
وكان من الفرسان.
وقتل بأجنادين، وقيل: باليرموك، والأول: أصح والله أعلم.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، تقدم وله ترجمة مفردة ولله الحمد.
سنة أربع عشرة من الهجرة
استهلت هذه السنة والخليفة عمر بن الخطاب يحث الناس ويحرضهم على جهاد أهل العراق، وذلك لما بلغه من قتل أبي عبيد يوم الجسر، وانتظام شمل الفرس، واجتماع أمرهم على يزدجر الذي أقاموه من بيت الملك، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، ونبذهم المواثيق التي كانت عليهم، وآذوا المسلمين وأخرجوا العمال من بين أظهرهم.
وقد كتب عمر إلى من هنالك من الجيش أن يتبرزوا من بين أظهرهم إلى أطراف البلاد.
قال ابن جرير رحمه الله: وركب عمر رضي الله عنه في أول يوم من المحرم هذه السنة في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له: صرار، فعسكر به عازما على غزو العراق بنفسه، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، واستصحب عثمان بن عفان وسادات الصحابة.
ثم عقد مجلسا لاستشارة الصحابة فيما عزم القيام به، ونودي أن الصلاة جامعة، وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقوه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فإنه قال له: إني أخشى إن كسرت أن تضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلا وترجع أنت إلى المدينة، فارثا عمر والناس عند ذلك واستصوبوا رأي ابن عوف.
فقال عمر: فمن ترى أن نبعث إلى العراق، فقال: قد وجدته.
قال: من هو؟
قال: الأسد في براثنه سعد بن مالك الزهري.
فاستجاد قوله، وأرسل إلى سعد فأمره على العراق وأوصاه فقال:
يا سعد بن وهيب لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله ﷺ وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله ﷺ منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه أمر.
هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.
ولما أراد فراقه قال له: إنك ستقدم على أمر شديد، فالصبر الصبر على ما أصابك ونابك، تجمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته، واجتناب معصيته، وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وإنما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة.
وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء، منها: للسر، ومنها: العلانية، فأما العلانية: فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر: فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس.
ومن محبة الناس فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبدا حببه، وإذا أبغض عبدا بغضه، فاعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك عند الناس.
قالوا: فسار سعد نحو العراق في أربعة آلاف ثلاثة آلاف من أهل اليمن، وألف من سائر الناس.
وقيل: في ستة آلاف، وشيعهم عمر من صرار إلى الأعوص، وقام عمر في الناس خطيبا هنالك، فقال: إن الله إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيي القلوب، فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحيها الله، من علم شيئا فلينفع به، فإن للعدل أمارات وتباشير.
فأما الأمارات: فالحياء، والسخاء، والهين، واللين.
وأما التباشير: فالرحمة.
وقد جعل الله لكل أمر بابا، ويسر لكل باب مفتاحا، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد والاعتبار، ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال.
والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء.
إني بينكم وبين الله، وليس بيني وبينه أحد، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه فانهوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها، نأخذ له الحق غير متعتع.
ثم سار سعد إلى العراق، ورجع عمر بمن معه من المسلمين إلى المدينة، ولما انتهى سعد إلى نهر زرود، ولم يبق بينه وبين أن يجتمع بالمثنى بن حارثة إلا اليسير، وكل منهما مشتاق إلى صاحبه، انتقض جرح المثنى بن حارثة الذي كان جرحه يوم الجسر فمات رحمه الله ورضي الله عنه.
واستخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعدا موته ترحم عليه، وتزوج زوجته سلمى، ولما وصل سعد إلى محلة الجيوش انتهت إليه رياستها وإمرتها، ولم يبق بالعراق أمير من سادات العرب إلا تحت أمره، وأمده عمر بأمداد أخر، حتى اجتمع معه يوم القادسية ثلاثون ألفا، وقيل: ستة وثلاثون.
وقال عمر: والله لأرمين ملوك العجم بملوك العرب.
وكتب إلى سعد أن يجعل الأمراء على القبائل، والعرفاء على كل عشرة عريفا على الجيوش، وأن يواعدهم إلى القادسية، ففعل ذلك سعد، عرف العرفاء، وأمر على القبائل، وولى على الطلائع والمقدمات، والمجنبات، والساقات، والرجالة، والركبان، كما أمر أمير المؤمنين عمر.
قال سيف بإسناده عن مشايخه قالوا: وجعل عمر على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النون، وجعل إليه الإقباض وقسمة الفيء، وجعل داعية الناس وقاصهم سلمان الفارسي، وجعل الكاتب زياد بن أبي سفيان.
قالوا: وكان في هذا الجيش كله من الصحابة ثلاثمائة وبضعة عشر صحابيا، منهم بضعة وسبعون بدريا، وكان فيه سبعمائة من أبناء الصحابة رضي الله عنهم.
وبعث عمر كتابه إلى سعد يأمره بالمبادرة إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وأن يكون بين الحجر والمدر، وأن يأخذ الطرق والمسالك على فارس، وأن يبدروهم بالضرب والشدة، ولا يهولنك كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم فإنهم قوم خدعة مكرة، وإن أنتم صبرتم وأحسنتم ونويتم الأمانة رجوت أن تُنْصَرُوا عليهم، ثم لم يجتمع لهم شملهم أبدا إلا أن يجتمعوا، وليست معهم قلوبهم.
وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا إلى الحجر، فإنكم عليه أجرأ، وإنهم عنه أجبن وبه أجهل، حتى يأتي الله بالفتح عليهم، ويرد لكم الكرة.
وأمره بمحاسبة نفسه، وموعظة جيشه، وأمرهم بالنية الحسنة والصبر، فإن النصر يأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وسلوا الله العافية، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واكتب إلي بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون، وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتبك إلي كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم على الجلية، وخف الله وأرجه، ولا تدل بشيء.
واعلم أن الله قد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له، فاحذر أن يصرفه عنك ويستبدل بكم غيركم.
فكتب إليه سعد يصف له كيفية تلك المنازل والأراضي بحيث كأنه يشاهدها، وكتب إليه يخبره بأن الفرس قد جردوا لحربه رستم وأمثاله، فهم يطلبوننا ونحن نطلبهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء، وخير القدر في عافية.
وكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فإذا لقيت عدوك ومنحك الله أدبارهم، فإنه قد ألقي في روعي أنكم ستهزمونهم، فلا تشكن في ذلك، فإذا هزمتهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله.
وجعل عمر يدعو لسعد خاصة، وله وللمسلمين عامة.
ولما بلغ سعد العُذيب اعترض للمسلمين جيش للفرس مع شيرزاذ بن أراذويه، فغنموا مما معه شيئا كثيرا، ووقع منهم موقعا كبيرا، فخمسها سعد، وقسم أربعة أخماسها في الناس، واستبشر الناس بذلك، وفرحوا، وتفاءلوا، وأفرد سعد سرية تكون حياطة لمن معهم من الحريم، على هذه السرية: غالب بن عبد الله الليثي.
غزوة القادسية
ثم سار سعد فنزل القادسية، وبث سراياه، وأقام بها شهرا لم ير أحدا من الفرس، فكتب إلى عمر بذلك، والسرايا تأتي بالميرة من كل مكان، فعجت رعايا الفرس أطراف بلادهم إلى يزدجرد من الذين يلقون من المسلمين من النهب والسبي.
وقالوا: إن لم تنجدونا وإلا أعطينا ما بأيدينا وسلمنا إليهم الحصون.
واجتمع رأي الفرس على إرسال رستم إليهم، فبعث إليه يزدجرد فأمره على الجيش فاستعفى رستم من ذلك وقال: إن هذا ليس برأي في الحرب، إن إرسال الجيوش بعد الجيوش أشد على العرب من أن يكسروا جيشا كثيفا مرة واحدة.
فأبى الملك إلا ذلك، فتجهز رستم للخروج، ثم بعث سعد كاشفا إلى الحيرة إلى صلوبا فأتاه الخبر بأن الملك قد أمر على الحرب رستم بن الفرخزاذ الأرمني، وأمده بالعساكر.
فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعائهم توهينا لهم، وفلجا عليهم، واكتب إلي في كل يوم.
ولما اقترب رستم بجيوشه، وعسكر بساباط، كتب سعد إلى عمر يقول: إن رستم قد عسكر بساباط، وجر الخيول والفيول، وزحف علينا بها، وليس شيء أهم عندي، ولا أكثر ذكرا مني لما أحببت أن أكون عليه من الاستعانة والتوكل.
وعبأ رستم فجعل على المقدمة وهي أربعون ألفا الجالنوس، وعلى الميمنة الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام، وذلك ستون ألفا، وعلى الساقة البندران في عشرين ألفا، فالجيش كله ثمانون ألفا، فيما ذكره سيف وغيره.
وفي رواية: كان رستم في مائة ألف وعشرين ألفا، يتبعها ثمانون ألفا، وكان معه ثلاث وثلاثون فيلا، منها فيل أبيض كان لسابور، فهو أعظمها وأقدمها، وكانت الفيلة تألفه.
ثم بعث سعد جماعة من السادات منهم: النعمان بن مقرن، وفرات بن حبان، وحنظلة بن الربيع التميمي، وعطارد بن حاجب، والأشعث بن قيس، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معدي كرب، يدعون رستم إلى الله عز وجل.
فقال لهم رستم: ما أقدمكم؟
فقالوا: جئنا لموعود الله إيانا، أخذ بلادكم، وسبي نسائكم وأبنائكم، وأخذ أموالكم، فنحن على يقين من ذلك، وقد رأى رستم في منامه كأن ملكا نزل من السماء فختم على سلاح الفرس كله ودفعه إلى رسول الله ﷺ فدفعه رسول الله ﷺ إلى عمر.
وذكر سيف بن عمر: أن رستم طاول سعدا في اللقاء حتى كان بين خروجه من المدائن وملتقاه سعدا بالقادسية أربعة أشهر كل ذلك لعله يضجر سعدا ومن معه ليرجعوا، ولولا أن الملك استعجله ما التقاه، لما يعلم من غلبة المسلمين لهم ونصرهم عليهم، لما رأى في منامه، ولما يتوسمه، ولما سمع منهم، ولما عنده من علم النجوم الذي يعتقد صحته في نفسه لما له من الممارسة لهذا الفن.
ولما دنا جيش رستم من سعد أحب سعد أن يطلع على أخبارهم على الجلية، فبعث رجلا سرية لتأتيه برجل من الفرس، وكان في السرية طليحة الأسدي الذي كان ادعى النبوة ثم تاب، وتقدم الحارث مع أصحابه حتى رجعوا، فلما بعث سعد السرية اخترق طليحة الجيوش والصفوف، وتخطى الألوف، وقتل جماعة من الأبطال حتى أسر أحدهم وجاء به لا يملك من نفسه شيئا، فسأله سعد عن القوم فجعل يصف شجاعة طليحة، فقال: دعنا من هذا، وأخبرنا عن رستم؟
فقال: هو في مائة ألف وعشرين ألفا، ويتبعها مثلها، وأسلم الرجل من فوره رحمه الله.
قال سيف عن شيوخه: ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى سعد أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه، فبعث إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا، وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا.
فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولا، قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، واجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز.
فقال له رستم: فما هو؟
فقال: أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله.
فقال: ما أحسن هذا؟! وأي شيء أيضا؟
قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.
قال: وحسن أيضا، وأي شيء أيضا؟
قال: والناس بنو آدم وحواء فهم أخوة لأب وأم.
وقال: وحسن أيضا.
ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا؟
قال: أي والله، ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة.
قال: وحسن أيضا.
قال: ولما خرج المغيرة من عنده ذكر رستم رؤساء قومه في الإسلام فانفوا ذلك، وأبوا أن يدخلوا فيه قبحهم الله وأخزاهم وقد فعل.
قالوا: ثم بعث إليه سعد رسولا آخر بطلبه، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت، واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.
فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
فقال رستم: ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فحرق عامتها.
فقالوا له: ما جاء بكم؟
فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لتدعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.
قالوا: وما موعود الله؟
قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟
قال: نعم!كم أحب إليكم؟ يوما أو يومين؟
قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا.
فقال: ما سن لنا رسول الله ﷺ أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.
فقال: أسيدهم أنت؟
قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟
فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟
فقال: ويلكم لا تنظرون إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي، والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.
ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلا، فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعي.
وفي اليوم الثالث المغيرة بن شعبة، فتكلم بكلام حسن طويل.
قال فيه رستم للمغيرة: إنما مثلكم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل.
فقال: من يوصلني إليه وله درهمان؟
فلما سقط عليه غرق فيه فجعل يطلب الخلاص فلا يجده.
وجعل يقول: من يخلصني وله أربعة دراهم؟
ومثلكم كمثل الثعلب ضعيف دخل جحرا في كرم فلما رآه صاحب الكرم ضعيفا رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئا كثيرا، فجاء بجيشه واستعان عليه بغلمانه فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله، فهكذا تخرجون من بلادنا.
ثم استشاط غضبا وأقسم بالشمس: لأقتلنكم غدا.
فقال المغيرة: ستعلم.
ثم قال رستم للمغيرة: قد أمرت لكم بكسوة، ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا.
فقال المغيرة: أبعد أن أوهنا ملككم وضعفنا عزكم، ولنا مدة نحو بلادكم، ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون، وستصيرون لنا عبيدا على رغمكم؟!
فلما قال ذلك استشاط غضبا.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، ثنا أمية بن خالد، ثنا أبو عوانة، عن حصيب بن عبد الرحمن قال: قال أبو وائل: جاء سعد حتى نزل القادسية ومعه الناس.
قال: لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف أو ثمان آلاف بين ذلك، والمشركون ثلاثون ألفا ونحو ذلك، فقالوا: لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح ما جاء بكم؟ ارجعوا.
قال: قلنا: ما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا ويقولون: دوك دوك، وشبهونا بالمغازل.
فلما أبينا عليهم أن نرجع، قالوا: ابعثوا إلينا رجلا من عقلائكم يبين لنا ما جاء بكم؟
فقال المغيرة بن شعبة: أنا.
فعبر إليهم فقعد مع رستم على السرير فنخروا وصاحوا.
فقال: إن هذا لم يزدني رفعة، ولم ينقص صاحبكم.
فقال رستم: صدق ما جاء بكم.
فقال: إنا كنا قوما في شر وضلالة فبعث الله إلينا نبيا فهدانا الله به ورزقنا على يديه، فكان فيما رزقنا حبة تنبت في هذا البلد، فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبر لنا عنها أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة.
فقال رستم: إذا نقتلكم.
قال: إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار وأديتم الجزية.
قال: فلما قال: وأديتم الجزية نخروا وصاحوا، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم.
فقال المغيرة: تعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟
فقال رستم: بل نعبر إليكم فاستأخر المسلمون حتى عبروا فحملوا عليهم فهزموهم.
وذكر سيف: أن سعدا كان به عرق النسا يومئذ، وأنه خطب الناس وتلا قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [6] وصلى بالناس الظهر، ثم كبر أربعا وحملوا بعد أن أمرهم أن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله في طردهم إياهم، وقتلهم إياهم، وقعودهم لهم كل مرصد، وحصرهم لبعضهم في بعض الأماكن حتى أكلوا الكلاب والسنانير.
وما رد شاردهم حتى وصل إلى نهاوند، ولجأ أكثرهم إلى المدائن، ولحقهم المسلمون إلى أبوابها.
وكان سعد قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها، وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عَدَدِها وعُدَدِها.
ولما استأذنوا على الملك يزدجرد أذن لهم، وأجلسهم بين يديه، وكان متكبرا قليل الأدب، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها؟ عن الأردية، والنعال، والسياط ثم كلما قالوا شيئا من ذلك تفاءل، فرد الله فأله على رأسه.
ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا؟
فقال له النعمان بن مقرن: إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة.
فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينهد إلى من خالفه من العرب، ويبدأ بهم ففعل، فدخلوا معه جميعا على وجهين: مكروه عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد.
فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق.
وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين الإسلام، حسن الحسن وقبح القبيح كله.
فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة.
وإن أجبتم إلى ديننا، خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمنكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجزي قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم.
قال: قتلكم يزدجرد.
فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم.
فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم. فأسكت القوم، فقام المغيرة بن شعبة فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤس العرب وجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف وإنما يكرم، الأشرافَ الأشرافُ، ويعظم حقوق الأشرافِ الأشرافَ، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا، ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني فأكون أنا الذي أبلغك، ويشهدون على ذلك. إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما.
فأما ما ذكرت من سوء الحال: فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا: فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا. وأما المنازل: فإنما هي ظهر الأرض.
ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل، وأشعار الغنم.
ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه.
وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلا معروفا نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا، وأحلمنا.
فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد.
أول ترب كان له الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله.
فقال لنا: إن ربكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام.
فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق، وقال: من تابعكم على هذا فله مالكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه.
فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك؟.
فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟
فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به.
فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي.
وقال: ائتوني بوقر من تراب، فاحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
ثم قال: من أشرفكم؟
فسكت القوم، فقال عاصم بن عمرو: وأفتات ليأخذ التراب، أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحملنيه.
فقال: أكذلك؟
قالوا: نعم، فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان، والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، ثم انجذب في السير ليأتوا به سعدا، وسبقهم عاصم فمر باب قديس فطواه، وقال: بشروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله تعالى.
ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر، ثم رجع فدخل على سعد فأخبره الخبر.
فقال: أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم، وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم، ثم لم يزل أمر الصحابة يزداد في كل يوم علوا وشرفا ورفعة، وينحط أمر الفرس سفلا وذلا ووهنا.
ولما رجع رستم إلى الملك يسأله عن حل من رأى من المسلمين؟ فذكر له عقلهم، وفصاحتهم وحدة جوابهم، وأنهم يرومون أمرا يوشك أن يدركوه.
وذكر ما أمر به أشرفهم من حمل التراب، وأنه استحمق أشرفهم في حمله التراب على رأسه، ولو شاء اتقى بغيره، وأنا لا أشعر.
فقال له رستم: إنه ليس أحمق، وليس هو بأشرفهم إنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه، ولكن والله ذهبوا بمفاتيح أرضنا، وكان رستم منجما، ثم أرسل رجلا وراءهم، وقال: إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا.
قال: فساق وراءهم فلم يدركهم بل سبقوه إلى سعد بالتراب، وساء ذلك فارس وغضبوا من ذلك أشد الغضب واستهجنوا رأي الملك.
فصل وقعة القادسية
كانت وقعة القادسية وقعة عظيمة لم يكن بالعراق أعجب منها، وذلك: أنه لما تواجه الصفان كان سعد رضي الله عنه قد أصابه عرق النسا، ودمامل في جسده فهو لا يستطيع الركوب، وإنما هو في قصر متكئ على صدره فوق وسادة وهو ينظر إلى الجيش ويدبر أمره، وقد جعل أمر الحرب إلى خالد بن عرفطة، وجعل على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي، وعلى الميسرة قيس بن مكشوح، وكان قيس والمغيرة بن شعبة قد قدما على سعد مددا من عند أبو عبيدة من الشام بعدما شهدا وقعة اليرموك.
وزعم ابن إسحاق: أن المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن رستما كان في ستين ألفا، فصلى سعد بالناس الظهر، ثم خطب الناس فوعظهم وحثهم، وتلا قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [7] وقرأ القراء آيات الجهاد وسوره.
ثم كبر سعدا أربعا، ثم حملوا بعد الرابعة فاقتتلوا حتى كان الليل فتحاجزوا، وقد قتل من الفرقين بشرٌ كثير، ثم أصبحوا إلى مواقفهم، فاقتتلوا يومهم ذلك وعامة ليلتهم، ثم أصبحوا كما أمسوا على مواقفهم، فاقتتلوا حتى أمسوا، ثم اقتتلوا في اليوم الثالث كذلك، وأمست هذه الليلة تسمى: ليلة الهرير.
فلما أصبح اليوم الرابع اقتتلوا قتالا شديدا، وقد قاسوا من الفيلة بالنسبة إلى الخيول العربية بسبب نفرتها منها أمرا بليغا، وقد أباد الصحابة الفيلة ومن عليها، وقلعوا عيونها، وأبلى جماعة من الشجعان في هذه الأيام مثل: طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب، والقعقاع بن عمرو، وجرير بن عبد الله البجلي، وضرار بن الخطاب، وخالد بن عرفطة، وأشكالهم وأضرابهم.
فلما كان وقت الزوال من هذا اليوم، ويسمى: يوم القادسية، وكان يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة كما قاله سيف بن عمر التميمي، هبت ريح شديدة فرفعت خيام الفرس عن أماكنها، وألقت سرير رستم الذي هو منصوب له، فبادر فركب بغلته وهرب فأدركه المسلمون فقتلوه، وقتلوا جالينوس مقدمة الطلائع القادسية، وانهزمت الفرس ولله الحمد والمنة عن بكرة أبيهم.
ولحقهم المسلمون في أقفائهم، فقتل يومئذ المسلسلون بكمالهم وكانوا ثلاثين ألفا، وقتل في المعركة عشرة آلاف، وقتلوا قبل ذلك قريبا من ذلك.
وقتل من المسلمين في هذا اليوم وما قبله من الأيام ألفان وخمسمائة رحمهم الله.
وساق المسلمون خلفهم المنهزمين حتى دخلوا وراءهم مدينة الملك، وهي المدائن التي فيها الإيوان الكسروي، وقد أذن لمن ذكرنا عليه فكان منهم إليه ما قدمنا، وقد غنم المسلمون من وقعة القادسية هذه من الأموال والسلاح ما لا يحد ولا يوصف كثره، فحصلت الغنائم بعد صرف الأسلاب وخمست، وبعث بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد كان عمر رضي الله عنه يستخبر عن أمر القادسية كل من لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق يستنشق الخبر، فينما هو ذات يوم من الأيام إذا هو براكب يلوح من بعد فاستقبله عمر فاستخبره.
فقال له: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل يحدثه وهو لا يعرف عمر، وعمر ماش تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة، فعرف الرجل عمر، فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة؟
فقال: لا حرج عليك يا أخي.
وقد تقدم أن سعدا رضي الله عنه كان به قروح وعرق النسا فمنعه من شهود القتال لكنه جالس في رأس القصر ينظر في مصالح الجيش، وكان مع ذلك لا يغلق عليه باب القصر لشجاعته، ولو فر الناس لأخذته الفرس قبضا باليد، لا يمتنع منهم، وعنده امرأته سلمى بنت حفص التي كانت قبله عند المثنى بن حارثة، فلما فر بعض الخيل يومئذ فزعت وقالت: وامثنياه، ولا مثنى لي اليوم. فغضب سعد من ذلك ولطم وجهها.
فقالت: أغيرة وجبنا؟ يعني: أنها تعيره بجلوسه في القصر يوم الحرب - وهذا عناد منها - فإنها أعلم الناس بعذره، وما هو فيه من المرض المانع من ذلك، وكان عنده في القصر رجل مسجون على الشراب كان قد حد فيه مرات متعددة، يقال: سبع مرات، فأمر به سعد فقيد وأودع في القصر فلما رأى الخيول تجول حول حمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال، قال:
كفى حزنا أن تدحم الخيل بالفتى * واترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت غناني الحديد وغلقت * مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وأخوة * وقد تركوني مفردا لا أخاليا
ثم سأل من زبراء أم ولد سعد أن تطلقه وتعيره فرس سعد، وحلف لها أنه يرجع آخر النهار فيضع رجله في القيد فأطلقته، وركب فرس سعد، وخرج فقاتل قتالا شديدا، وجعل سعد ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها ويشبهه بأبي محجن، ولكن يشك لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع فوضع رجله في قيدها، ونزل سعد فوجد فرسه يعرق، فقال: ما هذا؟
فذكروا له قصة أبو محجن فرضي عنه وأطلقه رضي الله عنهما.
وقد قال رجل من المسلمين في سعد رضي الله عنه:
نقاتل حتى أنزل الله نصره * وسعد بباب القادسية معصم
فأُبنا وقد آمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهم أيم
فيقال: أن سعدا نزل إلى الناس فاعتذر إليهم مما فيه من القروح في فخذيه وإليتيه، فعذره الناس.
ويذكر أنه دعا على قائل هذين البيتين وقال: اللهم إن كان كاذبا، أو قال: الذي قال رياءً وسمعةً وكذبا فاقطع لسانه ويده، فجاءه سهم وهو واقف بين الصفين، فوقع في لسانه فبطل شقه فلم يتكلم حتى مات.
رواه سيف: عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر فذكره.
وقال سيف: عن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه قال: قال جرير بن عبد الله البجلي:
أنا جرير وكنيتي أبو عمرو * قد فتح الله وسعد في القصر
فأشرف سعد من قصره وقال * وما أرجو بجيلة غير أني أومل أجرها يوم الحساب
وقد لقيت خيولهم خيولا * وقد وقع الفوارس في الضراب
وقد دلفت بعرصتهم خيول * كان زهاءها إبل الجراب
فلولا جمع قعقاع بن عمرو * وحمال للجوا في الركاب
ولولا ذاك ألفيتم رعاعا * تسيل جموعكم مثل الذباب
وقد روى محمد بن إسحاق: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم البجلي - وكان ممن شهد القادسية - قال: كان معنا رجل من ثقيف فلحق بالفرس مرتدا، فأخبرهم أن بأس الناس في الجانب الذي فيه بجيلة.
قال: وكنا ربع الناس، قال: فوجهوا إلينا ستة عشر فيلا، وجعلوا يلقون تحت أرجل خيولنا حسك الحديد، ويرشقوننا بالنشاب، فلكأنه المطر، وقربوا خيولهم بعضها إلى بعض لئلا ينفروا.
قال: وكان عمرو بن معد يكرب الزبيدي يمر بنا فيقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أسودا فإنما الفارسي تيس.
قال: وكان فيهم أسوار لا تكاد تسقط له النشاب.
فقلنا له: يا أبا ثور، اتق ذاك الفارس فإنه لا يسقط له نشابة فوجه إليه الفارس، ورماه بنشابة فأصاب ترسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه فذبحه فاستلبه سوارين من ذهب ومنطقة من ذهب، ويلمقا من ديباج.
قال: وكان المسلمون ستة آلاف أو سبعة آلاف، فقتل الله رستما، وكان الذي قتله رجل يقال له: هلال بن علقمة التميمي، رماه رستم بنشابه فأصاب قدمه، وحمل عليه هلال فقتله واحتز رأسه.
وولت الفرس فاتبعهم المسلمون يقتلونهم فأدركوهم في مكان قد نزلوا فيه وأطمأنوا، فبينما هم سكارى قد شربوا ولعبوا إذ هجم عليهم المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتل هنالك الجالينوس قتله زهرة بن حوية التميمي، ثم ساروا خلفهم، فكلما تواجه الفريقان نصر الله حزب الرحمن، وخذل حزب الشيطان وعبدة النيران، واحتاز المسلمون من الأموال ما يعجز عن حصره ميزان وقبان، حتى إن منهم من يقول: من يقايض بيضاء بصفراء لكثرة ما غنموا من الفرسان، ولم يزالوا يتبعونهم حتى جازوا الفرات وراءهم وفتحوا المدائن، وجلولاء على ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقال سيف بن عمرو: عن سليمان بن بشير، عن أم كثير امرأة همام بن الحارث النخعي قالت: شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان فنوليهم ذلك - تعني استلابهم - لئلا يكشفن عن عورات الرجال.
وقال سيف بأسانيده: عن شيوخه قالوا: وكتب سعد إلى عمر يخبره بالفتح وبعدة من قتلوا من المشركين. وبعدة من قتل من المسلمين، بعث بالكتاب مع سعد بن عميلة الفزاري، وصورته:
أما بعد: فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحناهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراؤن مثل زهائها، فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبوه، ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار، وصفوف الآجام، وفي الفجاج.
وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القاري وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله فإنه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوي النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم.
فيقال: أن عمر قرأ هذه البشارة على الناس فوق المنبر رضي الله عنهم.
ثم قال عمر للناس: إني حريص على أن لا أرى حاجة إلا سددتها، ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تأسينا في عيشنا حتى نستوى في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل إني والله لست بملك فأستعبدكم، ولكني عبد الله عرض علي الأمانة فإن أبيتها ورددتها عليكم، واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت بكم.
وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شقيت بكم ففرحت قليلا وحزنت طويلا، فبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.
وقال سيف عن شيوخه قالوا: وكانت العرب من العذيب إلى عدن أبين، يتربصون وقعة القادسية هذه يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدا يكشف ما يكون من خبرهم، فلما كان ما كان من الفتح سبقت الجن بالبشارة إلى أقصى البلاد قبل رسل الإنس، فسمعت امرأة ليلا بصنعاء على رأس جبل وهي تقول:
فحييت عنا عكرمَ ابنة خالد * وما خير زاد بالقليل المصردِ
وحييت عني الشمس عند طلوعها * وحييت عني كل تاج مفردِ
وحيتك عني عصبة نخعية * حسان الوجوه آمنوا بمحمد
أقاموا لكسرى يضربون جنوده * بكل رقيق الشفرتين مهند
إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكلٍ * من الموت مسود الغياطل أجرد
قالوا: وسمع أهل اليمامة مجتازا يغني بهذه الأبيات:
وجدنا الأكرمين بني تميم * غداة الروع أكثرهم رجالا
هموا ساروا بأرعن مكفهر * إلى لجب يرونهم رعالا
بحور للأكاسر من رجال * كأسد الغاب تحسبهم جبالا
تركن لهم بقادس عز فخر * وبالخيفين أياما طوالا
مقطعة أكفهم وسوق * بمرد حيث قابلت الرجالا
قالوا: وسمع ذلك في سائر بلاد العرب، وقد كانت بلاد العراق بكاملها التي فتحها خالد نقضت العهود والذمم والمواثيق التي كانوا أعطوها خالدا، سوى أهل بانقيا وبرسما، وأهل أُليس الآخرة، ثم عاد الجميع بعد هذه الواقعة التي أوردناها، وادعوا أن الفرس أجبروهم على نقض العهود، وأخذوا منهم الخراج، وغير ذلك.
فصدقوهم في ذلك تألفا لقلوبهم، وسنذكر حكم أهل السواد في كتابنا: (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى.
وقد ذهب ابن إسحاق وغيره: إلى أن وقعة القادسية كانت في سنة خمس عشرة.
وزعم الواقدي: أنها كانت في سنة ستة عشرة.
وأما سيف بن عمرو وجماعة: فذكروها في سنة أربع عشرة، وفيها ذكرها ابن جرير. فالله أعلم.
قال ابن جرير والواقدي: في سنة أربع عشرة جمع عمر بن الخطاب الناس على أُبي بن كعب في التراويح، وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إلى سائر الأمصار يأمرهم بالاجتماع في قيام شهر رمضان.
قال ابن جرير: وفيها: بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان إلى البصرة، وأمره أن ينزل فيها بمن معه من المسلمين، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها، منهم في قول المدائني، وروايته.
قال: وزعم سيف أن البصرة إنما مصرت في ربيع من سنة ست عشرة، وأن عتبة بن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت، وجهه إليها سعد بأمر من عمر رضي الله عنهم.
وقال أبو مخنف: عن مجالد، عن الشعبي رضي الله عنهم: أن عمر بعث عتبة بن غزوان إلى أرض البصرة في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وسار إليه من الأعراب ما كمل معه خمسمائة، فنزلها في ربيع الأول سنة أربع عشرة، والبصرة يومئذ تدعى: أرض الهند، فيها حجارة بيض خشنة، وجعل يرتاد لهم منزلا حتى جاؤا حيال الجسر الصغير فإذا فيه حلفا وقصب نابت، فنزلوا.
فركب إليهم صاحب الفرات في أربعة آلاف أسوار، فالتقاه عتبة بعدما زالت الشمس، وأمر الصحابة فحملوا عليهم فقتلوا الفرس عن آخرهم، وأسروا صاحب الفرات، وقام عتبة خطيبا فقال في خطبته:
إن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا عما بحضرتكم فقد ذكر لي لو أن صخرة ألقيت من شفير جهنم هوت سبعين خريفا ولتملأنه، أو عجبتم؟!
ولقد ذكر لي أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة، وأنا مع رسول الله ﷺ ما لنا طعام إلا ورق السمر، حتى تقرحت أشداقنا، والتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا هو أمير على مصر من الأمصار، وسيجربون الناس بعدنا.
وهذا الحديث في صحيح مسلم بنحو من هذا السياق.
وروى علي بن محمد المدائني: أن عمر كتب إلى عتبة بن غزوان حين وجهه إلى البصرة:
يا عتبة، إني استعملتك على أرض الهند وهي حومة من حومة العدو، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، وأن يعينك عليها، وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي يمدك بعرفجة بن هرثمة.
فإذا قدم عليك فاستشره وقربه، وادع إلى الله، فمن أجابك فأقبل منه، ومن أبى فالجزية عن صغار وذلة، وإلا فالسيف في غير هوادة.
واتق الله فيما وليت، وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر فتفسد عليك آخرتك، وقد صحبت رسول الله ﷺ فعززت بعد الذلة، وقويت بعد الضعف، حتى صرت أميرا مسلطا، وملكا مطاعا، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، فيالها نعمة إذا لم ترق فوق قدرك وتبطر على من دونك.
احتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية، وهي أخوفهما عندي عليك أن يستدرجك ويخدعك فتسقط سقط فتصير بها إلى جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك أن الناس أسرعوا إلى الله حتى رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأرد الله ولا ترد الدنيا واتق مصارع الظالمين.
وقد فتح عتبة الأبلة في رجب أو شعبان من هذه السنة.
ولما مات عتبة بن غزوان في هذه السنة استعمل عمر على البصرة المغيرة بن شعبة سنتين، فلما رمي بما رمي به عزله وولى عليها أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم.
وفي هذه السنة: ضرب عمر بن الخطاب ابنه عبيد الله في الشراب هو وجماعة معه.
وفيها: ضرب أبا محجن الثقفي في الشراب أيضا سبع مرات، وضرب معه ربيعة بن أمية بن خلف.
وفيها: نزل سعد بن أبي وقاص الكوفة.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، قال: وكان بمكة: عتاب بن أسيد، وبالشام: أبو عبيدة، وبالبحرين: عثمان بن أبي العاص. وقيل: العلاء بن الحضرمي، وعلى العراق: سعد، وعلى عمان: حذيفة بن محصن.
ذكرى من توفى في هذا العام من المشاهير
ففيها: توفي سعد بن عبادة في قول، والصحيح في التي قبلها والله أعلم.
عتبة بن غزوان بن جابر بن هيب المازني، حليف بني عبد شمس صحابي بدري، وأسلم قديما بعد سنة وهاجر إلى أرض الحبشة وهو أول من اختط البصرة عن أمر عمر في امرأته له على ذلك كما تقدم، وله فضائل ومآثر، وتوفي سنة أربع عشرة.
وقيل: سنة خمس عشرة.
وقيل: سنة سبع عشرة.
وقيل سنة عشرين فالله أعلم.
وقد جاوز الخمسين، وقيل: بلغ ستين سنة رضي الله عنه.
عمرو بن أم مكتوم الأعمى، ويقال: اسمه عبد الله، صحابي مهاجر، هاجر بعد مصعب بن عمير قبل النبي ﷺ فكان يقرئ الناس القرآن، وقد استخلفه رسول الله ﷺ على المدينة غير مرة، فيقال: ثلاث عشرة مرة.
وشهد القادسية مع سعد زمن عمر، فيقال: إنه قتل بها شهيدا. ويقال: إنه رجع المدينة وتوفي بها والله أعلم.
المثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرة بن ذهل شيبان الشيباني، نائب خالد على العراق.
وهو: الذي صارت إليه الإمرة بعد أبي عبيد يوم الجسر، فدارى بالمسلمين حتى خلصهم من الفرس يومئذ، وكان أحد الفرسان الأبطال وهو الذي ركب إلى الصديق فحرضه على غزو العراق، ولما توفي تزوج سعد بن أبي وقاص بامرأته سلمى بنت حفص رضي الله عنهما وأرضاهما.
وقد ذكره ابن الأثير في كتابه (الغابة في أسماء الصحابة): أبو زيد الأنصاري النجاري أحد القراء الأربعة الذين حفظوا القرآن من الأنصار في عهد رسول الله ﷺ، كما ثبت ذلك في حديث أنس بن مالك
وهم: معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
قال أنس: أحد عمومتي.
قال الكلبي: واسم أبي زيد هذا: قيس بن السكن بن قيس بن زعوراء بن حزم بن جندب بن غنم بن عدي بن النجار شهد بدرا.
قال موسى بن عقبة: واستشهد يوم جسر أبي عبيد، وهي عنده في سنة أربع عشرة.
وقال بعض الناس: أبو زيد الذي يجمع القرآن سعد بن عبيد وردوا هذا برواية قتادة عن أنس بن مالك، قال:
افتخرت الأوس والخزرج فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومنا الذي حمته الدبر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ومنا الذي اهتز له عرش الرحمن سعد بن معاذ، ومنا الذي جعلت شهادته شهادة رجلين خزيمة بن ثابت.
فقالت الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله ﷺ أبي، وزيد بن ثابت، ومعاذ، وأبو زيد رضي الله عنهم أجمعين.
أبو عبيد بن مسعود بن عمر الثقفي، والد المختار بن أبي عبيد أمير العراق، ووالد صفية امرأة عبد الله بن عمر.
أسلم أبو عبيد في حياة النبي ﷺ، وذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر في الصحابة.
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ولا يبعد أن يكون له رواية والله أعلم.
أبو قحافة والد الصديق، واسم أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن صخر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، أسلم أبو قحافة عام الفتح، فجاء به الصديق يقوده إلى النبي ﷺ، فقال:
- « هلا أقررتم الشيخ في بيته حتى كنا نحن نأتيه، تكرمة لأبي بكر رضي الله عنه، فقال: بل هو أحق بالسعي إليك يا رسول الله، فأجلسه رسول الله ﷺ بين يديه، ورأسه كالثغامة بياضا ودعا له، وقال: غيروا هذا الشيب بشيء وجنبوه السواد ».
ولما توفي رسول الله ﷺ، وصارت الخلافة إلى الصديق أخبره المسلمون بذلك وهو بمكة، فقال: أو أقرت بذلك بنو هاشم بنو مخزوم؟
قالوا: نعم!!.
قال: ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء.
ثم أصيب ابنه الصديق رضي الله عنه.
ثم توفي أبو قحافة في محرم، وقيل: في رجب سنة أربع عشرة بمكة، عن أربع وسبعين سنة رحمه الله وأكرم مثواه.
وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي من المستشهدين في هذه السنة مرتبين على الحروف:
أوس بن أوس بن عتيك، قتل يوم الجسر.
بشير بن عنبس بن يزيد الظفري أحدي، وهو ابن عم قتادة بن النعمان، ويعرف: بفارس الحواء، اسم فرسه.
ثابت بن عتيك من بني عمرو بن مبذول، صحابي قتل يوم الجسر.
ثعلبة بن عمرو بن محصن النجاري، بدري قتل يومئذ.
الحارث بن عتيك بن النعمان النجاري، شهد أحدا، قتل يومئذ.
الحارث بن مسعود بن عبدة صحابي أنصاري، قتل يومئذ.
الحارث بن عدي بن مالك، أنصاري أحدي، قتل يومئذ.
خالد بن سعيد بن العاص، قيل: استشهد يوم مرج الصفر، وكان في سنة أربع عشرة في قول.
خزيمة بن أوس الأشهلي، قتل يوم الجسر.
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أرخ وفاته في هذه السنة ابن قانع.
زيد بن سراقة، يوم الجسر.
سعد بن سلامة بن وقش الأشهلي.
سعد بن عبادة في قول سلمة بن أسلم بن حريش، يوم الجسر.
ضمرة بن غزية، يوم الجسر.
عباد وعبد الله وعبد الرحمن، بنو مريع بن قيظي، قتلوا يومئذ.
عبد الله بن صعصعة بن وهب الأنصاري النجاري، شهدا أحدا وما بعدها.
قال ابن الأثير في (الغابة): وقتل يوم الجسر.
عتبة بن غزوان تقدم.
عقبة وأخوه عبد الله حضرا الجسر مع أبيهما قيظي بن قيس وقتلا يومئذ.
العلاء الحضرمي، توفي في هذه السنة في قول، وقيل: بعدها وسيأتي.
عمرو بن أبي اليسر، قتل يوم الجسر.
قيس بن السكن أبو زيد الأنصاري رضي الله عنه تقدم.
المثنى بن حارثة الشيباني، توفي في هذه السنة رحمه الله وقد تقدم.
نافع بن غيلان، قتل يومئذ.
نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكان أسن من عمه العباس، قيل: أنه توفي في هذه السنة، والمشهور قبلها كما تقدم.
واقد بن عبد الله، قتل يوم.
يزيد بن قيس بن الخطيم الأنصاري الظفري، شهد أحدا وما بعدها، قتل يوم الجسر، وقد أصابه يوم أحد جراحات كثيرة، وكان أبوه شاعرا مشهورا.
أبو عبيد بن مسعود الثقفي، أمير يوم الجسر وبه عرف لقتله عنده، تخبطه الفيل حتى قتله رضي الله عنه بعدما قطع خرطومه بسيفه خرطومه كما تقدم.
أبو قحافة التيمي، والد أبي بكر الصديق، توفي في هذه السنة رضي الله عنه.
هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن أمية الأموية، والدة معاوية بن أبي سفيان، وكانت من سيدات نساء قريش، ذات رأي ودهاء ورياسة في قومها، وقد شهدت يوم أحد مع زوجها وكان لها تحريض على قتل المسلمين يومئذ، ولما قتل حمزة مثّلت به وأخذت من كبده فلاكتها فلم تستطيع إساغتها، لأنه كان قد قتل أباها وأخاها يوم بدر، ثم بعد ذلك كله أسلمت وحسن إسلامها عام الفتح، بعد زوجها بليلة.
ولما أرادت الذهاب إلى رسول الله ﷺ لتبايعه، استأذنت أبا سفيان فقال لها: قد كنت بالأمس مكذبة بهذا الأمر، فقالت: والله ما رأيت الله عبد حق عبادته بهذا المسجد قبل هذه الليلة، والله لقد باتوا ليلهم كلهم يصلون فيه.
فقال لها: إنك قد فعلت ما فعلت فلا تذهبي وحدك.
فذهبت إلى عثمان بن عفان، ويقال: إلى أخيها أبي حذيفة بن عتبة فذهب معها، فدخلت وهي متنقبة، فلما بايعها رسول الله ﷺ مع غيرها من النساء.
قال: « على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين »
فقالت: أو تزني الحرة؟
« ولا تقتلن أولادكن »
قالت: قد ربيناهم صغارا وتقتلهم كبارا؟!
فتبسم رسول الله ﷺ « ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك » فبادرت وقالت: في معروف.
فقال: في معروف، وهذا من فصاحتها وحزمها.
وقد قالت لرسول الله ﷺ: والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك، فقد والله أصبح اليوم وما على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك.
فقال: وكذلك والذي نفسي بيده.
وشكت من شح أبي سفيان، فأمرها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي بنيها بالمعروف، وقصتها مع الفاكه بن المغيرة مشهورة، وقد شهدت اليرموك مع زوجها، وماتت يوم مات أبو قحافة في سنة أربع عشرة، وهي: أم معاوية بن أبي سفيان.
ثم دخلت سنة خمس عشرة
قال ابن جرير: قال بعضهم فيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة دلهم عليها ابن بقيلة.
قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق وانحدرت عن الفلاة؟
فدلهم على موضع الكوفة اليوم.
قال: وفيها كانت وقعة مرج الروم، وذلك لما انصرف أبو عبيدة وخالد من وقعة فحل قاصدين إلى حمص حسب ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما تقدم في رواية سيف بن عمر، فسارا حتى نزلا على ذي الكلاع.
فبعث هرقل بطريقا يقال له: توذرا في جيش معه، فنزل بمرج دمشق وغربها، وقد هجم الشتاء فبدأ أبو عبيد بمرج الروم.
وجاء أمير آخر من الروم يقال له: شنس، وعسكر معه كثيف، فنازله أبو عبيدة فاشتغلوا به عن توذرا، فسار توذرا نحو دمشق لينازلها وينتزعها من يزيد ابن أبي سفيان، فاتبعه خالد بن الوليد وبرز إليه يزيد بن أبي سفيان من دمشق، فاقتتلوا وجاء خالد وهم في المعركة، فجعل يقتلهم من ورائهم، ويزيد يفصل فيهم من أمامهم، حتى أناموهم، ولم يفلت منهم إلا الشارد.
وقتل خالد توذرا، وأخذوا من الروم أموالا عظيمة فاقتسماها، ورجع يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة فوجده قد واقع شنس بمرج الروم، فقاتلهم فيه مقاتلة عظيمة حتى أنتنت الأرض من زهمهم.
وقتل أبو عبيدة شنس وركبوا أكتافهم إلى حمص، فنزل عليها يحاصرها.
وقعة حمص الأولى
لما وصل أبو عبيدة في أتباعه الروم المنهزمين إلى حمص، نزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد فحاصروها حصارا شديدا، وذلك في زمن البرد الشديد، وصابر أهل البلد رجاء أن يصرفهم عنهم شدة البرد، وصبر الصحابة صبرا عظيما بحيث إنه ذكر غير واحد أن من الروم من كان يرجع، وقد سقطت رجله وهي في الخف، والصحابة ليس في أرجلهم شيء سوى النعال، ومع هذا لم يصب منهم قدم ولا أصبع أيضا، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتد الحصار.
وأشار بعض كبار أهل حمص عليهم بالمصالحة، فأبوا عليه ذلك، وقالوا: أنصالح والملك منا قريب؟
فيقال: إن الصحابة كبروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجت منها المدينة حتى تفطرت منها بعض الجدران، ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت عامتهم إلى خاصتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن فيه؟ إلا تصالحون القوم عنا؟
قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرب الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر.
وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود.
وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشا كثيفا يكون بها مع جماعة من الأمراء، منهم بلال والمقداد، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بأن هرقل قد قطع الماء إلى الجزيرة، وأنه يظهر تارة ويخفى أخرى، فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده.
وقعة قنسرين
لما فتح أبو عبيدة حمص بعث خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما جاءها ثار إليه أهلها ومن عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالد فيها قتالا شديدا، وقتل منهم خلقا كثيرا.
فأما من هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميتاس.
وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأن هذا القتال لم يكن عن رأينا، فقبل منهم خالد وكف عنهم، ثم خلص إلى البلد فتحصنوا فيه، فقال لهم خالد: إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.
ولم يزل بهم حتى فتحها الله عليه. ولله الحمد.
فلما بلغ عمر ما صنعه خالد في هذه الوقعة قال: يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة، ولكن خشيت أن يوكل الناس إليه.
وفي هذه السنة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن بلاد الشام إلى بلاد الروم.
هكذا ذكره ابن جرير عن محمد بن إسحاق قال: قال سيف: كان ذلك في سنة ست عشرة.
قالوا: وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطرا وهو عائد.
فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرها، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى الروم.
فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك فتركهم.
فلما وصل إلى شمشان وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده إلا أن أسلم عليكم تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا حتى يولد المولود المشؤوم، ويا ليته لم يولد.
ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم!!
ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلا ممن اتبعه كان قد أسر مع المسلمين، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم فرسان بالنهار، رهبان بالليل، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربوه حتى يأتوا عليه.
فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين.
قلت: وقد حاصر المسلمون قسطنطينية في زمان بني أمية فلم يملكوها، ولكن سيملكها المسلمون في آخر الزمان كما سنبينه في كتاب الملاحم، وذلك قبل خروج الدجال بقليل على ما صحت به الأحاديث عن رسول الله ﷺ في صحيح مسلم وغيره من الأئمة ولله الحمد والمنة.
وقد حرم الله على الروم أن يملكوا بلاد الشام برمتها إلى آخر الدهر، كما ثبت به الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل ».
وقد وقع ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه كما رأيت، وسيكون ما أخبر به جزما لا يعود ملك القياصره إلى الشام أبدا، لأن قيصر علم جنس عند العرب يطلق على كل من ملك الشام مع بلاد الروم.
فهذا لا يعود لهم أبدا.
وقعة قيسارية
قال ابن جرير: وفي هذه السنة أمر عمر معاوية بن أبي سفيان على قيسارية وكتب إليه:
أما بعد: فقد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا فنعم المولى ونعم النصير.
فسار إليها، فحاصرها وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وقعة أن قاتلوا قتالا عظيما، وصمم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله عليه فما انفصل الحال حتى قتل منهم نحوا من ثمانين ألفا، وكمل المائة الألف من الذين انهزموا عن المعركة، وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وفيها كتب عمر بن الخطاب إلى عمر بن العاص بالمسير إلى إيليا، ومناجزة صاحبها فاجتاز في طريقه عند الرملة بطائفة من الروم فكانت.
وقعة أجنادين
وذلك أنه سار بجيشه، وعلى ميمنته: ابنه عبد الله بن عمرو، وعلى ميسرته: جنادة بن تميم المالكي من بني مالك بن كنانة، ومعه شرحبيل بن حسنة، واستخلف على الأردن أبا الأعور السلمي، فلما وصل إلى الرملة وجد عندها جمعا من الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم وأبعدها غورا، وأنكأها فعلا، وقد كان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا عظيما، فكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عما تنفرج.
وبعث عمرو بن العاص، علقمة بن حكيم الفراسي، ومسروق بن بلال العكي على قتال أهل إيليا.
وأبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، فكانوا بإزائهم ليشغلوهم عن عمرو بن العاص وجيشه، وجعل عمرو كلما قدم عليه أمدادا من جهة يبعث منهم طائفة إلى هؤلاء وطائفة إلى هؤلاء.
وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة، ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول فأبلغه ما يريد وسمع كلامه وتأمل حضرته حتى عرف ما أراد، وقال الأرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو أو أنه الذي يأخذ عمر برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتله.
فدعا حرسيا فساره فأمره بفتكه، فقال: اذهب فقم في مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، ففطن عمرو بن العاص فقال للأرطبون: أيها الأمير إني قد سمعت كلامك وسمعت كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنشهد أموره، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت.
فقال الأرطبون: نعم، فاذهب فأتني بهم.
ودعا رجلا فساره، فقال: اذهب إلى فلان فرده.
وقام عمرو فذهب إلى جيشه ثم تحقق الأرطبون أنه عمرو بن العاص، فقال: خدعني الرجل، هذا والله أدهى العرب.
وبلغت عمر بن الخطاب، فقال: لله در عمرو.
ثم ناهضه عمرو فاقتتلوا بأجنادين قتالا عظيما، كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم، ثم اجتمعت بقية الجيوش إلى عمرو بن العاص، وذلك حين أعياهم صاحب إيليا وتحصن منهم بالبلد، وكثر جيشه، فكتب الأرطبون إلى عمرو: بأنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى مثل ما لقي الذين قبلك من الهزيمة.
فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية فبعثه إلى أرطبون وقال: اسمع ما يقول لك ثم ارجع فأخبرني.
وكتب إليه معه جاءني كتابك وأنت نظيري، ومثلي في قومك لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، واقرأ كتابي هذا بمحضر من أصحابك ووزرائك.
فلما وصله الكتاب جمع وزراءه وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا للأرطبون: من أين علمت أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد؟
فقال: صاحبها رجل اسمه على ثلاثة أحرف.
فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال.
فكتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: إني أعالج حربا كؤدا صدوما وبلادا ادخرت لك فرأيك.
فلما وصل الكتاب إلى عمر علم أن عمرا لم يقل ذلك إلا لأمر علمه، فعزم عمر على الدخول إلى الشام لفتح بيت المقدس كما سنذكر تفصيله.
قال سيف بن عمر عن شيوخه: وقد دخل عمر الشام أربع مرات:
الأولى: كان راكبا فرسا حين فتحت بيت المقدس.
والثانية: على بعير.
والثالثة: وصل إلى سرع، ثم رجع لأجل ما وقع بالشام من الوباء.
والرابعة: دخلها على حمار، هكذا نقله ابن جرير عنه.
فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب
ذكره أبو جعفر بن جرير في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر، وملخص ما ذكره هو وغيره: أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق كتب إلى أهل إيليا يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يبذلون الجزية، أو يؤذنون بحرب، فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه، فركب إليهم في جنوده، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد، ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح، بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم.
وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم، فهوي ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان.
وسار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب، وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته، فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤس الأمراء، كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، فترجل أبو عبيدة، وترجل عمر، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر، فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة، فكف أبو عبيدة فكف عمر.
ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث، ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله ﷺ ليلة الإسراء.
ويقال: إنه لبى حين دخل بيت المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد، فقرأ في الأولى بسورة ص، وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار، فأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه، فقال: ضاهيت اليهودية، ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس وهو العمري اليوم، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائة، ونقل المسلمون معه في ذلك وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة لأنها قبلة اليهود، حتى أن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب، فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة، وانسحب هذا الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك.
وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود، قال لهم: إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا، ثم أمروا بإزالتها، فشرعوا في ذلك فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون، فأزالها عمر بن الخطاب، وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه (المستقصى في فضائل المسجد الأقصى).
وذكر سيف في سياقه: أن عمر رضي الله عنه ركب من المدينة على فرس ليسرع السير بعد ما استخلف عليها علي بن أبي طالب، فسار حتى قدم الجابية فنزل بها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة منها:
أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم، واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب حي، ولا بينه وبين الله هوادة، فمن أراد لَحْبَ (طريق) وجه الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.
وهي خطبة طويلة اختصرناها.
ثم صالح عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس، وقد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية، فتوافوا أجمعون في ذلك اليوم إلى الجابية، فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج، فسار إليهم عمر ليحصبهم فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح، وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم.
فسكت عنهم، واجتمع الأمراء كلهم بعدما استخلفوا على أعمالهم سوى عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فإنهما مواقفان الأرطبون بأجنادين، فبينما عمر في الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح، فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون.
فساروا نحوهم فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم عمر رضي الله عنه إلى ما سألوا، وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة، وضرب عليهم الجزية، واشترط عليهم شروطا ذكرها ابن جرير.
وشهد في الكتاب خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وهو كاتب الكتاب، وذلك سنة خمس عشرة.
ثم كتب لأهل لدٍّ ومن هنالك من الناس كتابا آخر، وضرب عليهم الجزية، ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء، وفر الأرطبون إلى بلاد مصر، فكان بها حتى فتحها عمرو بن العاص، ثم فر إلى البحر فكان يلي بعض السرايا الذين يقاتلون المسلمين فظفر به رجل من قيس فقطع يد القيسي، وقتله القيسي، وقال في ذلك:
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها * فإن فيها بحمد الله منتفعا
وإن يكن أرطبون الروم قطعها * فقد تركت بها أوصالة قطعا
ولما صالح أهل الرملة وتلك البلاد، أقبل عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة حتى قدما الجابية، فوجدا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب راكبا، فلما اقتربا منه أكبا على ركبتيه فقبلاها، واعتنقهما عمر معا رضي الله عنهم.
قال سيف: ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية، وقد توحى فرسه فأتوه ببرذون فركبه، فجعل يهملج به فنزل عنه وضرب وجهه وقال: لا علم الله من علمك، هذا من الخيلاء، ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده، ففتحت إيلياء وأرضها على يديه، ماخلا أجنادين فعلى يدي عمرو، وقيسارية فعلى يدي معاوية.
هذا سياق سيف بن عمر.
وقد خالفه غيره من أئمة السير: فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة.
قال محمد بن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن عثمان بن حصن بن علان، قال يزيد بن عبيدة: فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة، وفيها قدم عمر بن الخطاب الجابية.
وقال أبو زرعة الدمشقي، عن دحيم، عن الوليد بن مسلم قال: ثم عاد في سنة سبع عشرة فرجع من سرع، ثم قدم سنة ثماني عشرة فاجتمع إليه الأمراء وسلموا إليه ما اجتمع عندهم من الأموال فقسمها وجند الأجناد ومصر الأمصار، ثم عاد إلى المدينة.
وقال يعقوب بن سفيان: ثم كان فتح الجابية وبيت المقدس سنة ست عشرة.
وقال أبو معشر: ثم كان عمواس والجابية في سنة ست عشرة.
ثم كانت سرع في سبع عشرة، ثم كان عام الرمادة في سنة ثماني عشرة.
قال: وكان فيها طاعون عمواس - يعني: فتح البلدة المعروفة بعمواس - فأما الطاعون المنسوب إليها فكان في سنة ثماني عشرة كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.
قال أبو مخنف: لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين تلا قوله تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْما آخَرِينَ } [8].
ثم أنشد قول النابغة:
هما فتيا دهر يكر عليهما * نهار وليل يلحقان التواليا
إذا ما هما مرا بحي بغبطة * أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا
وهذا يقتضي بادي الرأي أنه دخل دمشق، وليس كذلك فإنه لم ينقل أحد أنه دخلها في شيء من قدماته الثلاث إلى الشام:
أما الأولى: وهي هذه فإنه سار من الجابية إلى بيت المقدس، كما ذكر سيف وغيره والله أعلم.
وقال الواقدي: أما رواية غير أهل الشام فهي أن عمر دخل الشام مرتين، ورجع الثالثة من سرع سنة سبع عشرة، وهم يقولون: دخل في الثالثة دمشق وحمص، وأنكر الواقدي ذلك.
قلت: ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه، كما بسطنا ذلك في سيرته.
وقد روينا أن عمر حين دخل بيت المقدس، سأل كعب الأحبار عن مكان الصخرة.
فقال: يا أمير المؤمنين أذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعا فهي ثمَّ.
فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة، وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى، فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح.
وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله نص الله تعالى على خطئهم في ذلك.
والمقصود: أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلاثمائة سنة طهروا مكان القمامة، واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه، واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية.
وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون.
والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضا في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه.
فلما فتح عمر بيت المقدس، وتحقق موضع الصخرة أمر بإزالة ما عليها من الكناسة، حتى قيل: أنه كنسها بردائه.
ثم استشار كعبا أين يضع المسجد، فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة، فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود، وأمر ببنائه في مقدم بيت المقدس.
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان، عن عبيد بن آدم، وأبي مريم، وأبي شعيب: أن عمر بن الخطاب كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس، قال: قال ابن سلمة: فحدثني أبو سنان، عن عبيد بن آدم سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟
قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك.
فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله ﷺ، فتقدم إلى القبلة فصلى، ثم جاء فبسط ردائه وكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس.
وهذا إسناد جيد، اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه (المستخرج)، وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر، ما رواه من الأحاديث المرفوعة، وما روى عنه من الآثار الموقوفة مبوبا على أبواب الفقه، ولله الحمد والمنة.
وقد روى سيف بن عمر، عن شيوخه، عن سالم قال: لما دخل عمر الشام، تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء؟
لا هالله لا ترجع حتى يفتح الله عليك إيلياء.
وقد روى أحمد بن مروان الدينوري، عن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن أسامة بن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم مولى عمر بن الخطاب: أنه قدم دمشق في تجار من قريش فلما خرجوا تخلف عمر لبعض حاجته، فبينما هو في البلد إذا ببطريق يأخذ بعنقه فذهب ينازعه فلم يقدر، فأدخله دارا فيها تراب وفأس ومجرفة وزنبيل، وقال له: حول هذا من ههنا إلى ههنا، وغلق عليه الباب، وانصرف فلم يجئ إلى نصف النهار.
قال: وجلست مفكرا ولم أفعل مما قال لي شيئا.
فلما جاء قال: مالك لم تفعل؟
ولكمني في رأسي بيده، قال: فأخذت الفأس فضربته بها فقتلته، وخرجت على وجهي فجئت ديرا لراهب، فجلست عنده من العشي فأشرف علي فنزل وأدخلني الدير فأطعمي وسقاني، وأتحفني، وجعل يحقق النظر فيَّ، وسألني عن أمري.
فقلت: إني ضللت أصحابي.
فقال: إنك لتنظر بعين خائف، وجعل يتوسمني، ثم قال: لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم، وإني لأراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه، فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا؟
فقلت: يا هذا لقد ذهبت غير مذهب، فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفة بما طلب مني، فلما كان وقت الانصراف أعطاني أتانا، فقال لي: اركبها فإذا وصلت إلى أصحابك فابعث إلي بها وحدها فإنها لا تمر بدير إلا أكرموها.
ففعلت ما أمرني به، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو بالجابية بتلك الصحيفة فأمضاها له عمر، واشترط عليه ضيافة من يمر به من المسلمين، وأن يرشدهم إلى الطريق.
رواه ابن عساكر وغيره.
وقد ساقه ابن عساكر من طريق أخرى في ترجمة يحيى بن عبيد الله بن أسامة القرشي البلقاوي عن زيد بن أسلم، عن أبيه فذكر حديثا طويلا عجيبا هذا بعضه.
وقد ذكرنا الشروط العمرية على نصارى الشام مطولا في كتابنا الأحكام، وأفردنا له مصنفا على حدة، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكرنا خطبته في الجابية بألفاظها وأسانيدها في الكتاب الذي أفردناه لمسند عمر، وذكرنا تواضعه في دخوله الشام في السيرة التي أفردناها له.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثني الربيع بن ثعلب، نا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، عن أبي الغالية الشامي قال: قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جنبه.
فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس.
فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني ثوبا أو قميصا.
فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟
قالوا: كتان.
قال: وما الكتان؟
فأخبروه فنزع قميصه، فغسل ورقع، وأتى به فنزع قميصهم ولبس قميصه.
فقال له: الجلومس أنت ملك العرب، وهذه البلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئا غير هذا وركبت برذونا لكان ذلك أعظم في أعين الروم.
فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نطلب بغير الله بديلا، فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها، فقال: احبسوا احبسوا، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه.
وقال إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا سفيان، عن أيوب الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه فأمسكهما بيد وخاض الماء ومعه بعيره.
فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا.
قال: فصك في صدره، وقال: أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العز بغير يذلكم الله.
أيام برس وبابل وكوثى
قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني: سنة خمس عشرة - كانت بين المسلمين وفارس وقعات في قول سيف بن عمر.
وقال ابن إسحاق والواقدي: إنما كان ذلك في سنة ست عشرة.
ثم ذكر ابن جرير وقعات كثيرة كانت بينهم، وذلك حين بعث عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء والعيال بالعقيق في خيل كثيرة كثيفة، فلما تفرغ سعد من القادسية بعث على المقدمة زهرة بن حوية، ثم أتبعه بالأمراء واحدا بعد واحد، ثم سار في الجيوش وقد جعل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على خلافته مكان خالد بن عرفطة، وجعل خالدا هذا على الساقة، فساروا في خيول عظيمة، وسلاح كثير، وذلك لأيام بقين من شوال من هذه السنة، فنزلوا الكوفة وارتحل زهرة بين أيديهم نحو المدائن فلقيه بها بصبهرى في جيش من فارس فهزمهم زهرة، وذهبت الفرس في هزيمتهم إلى بابل وبها جمع كثير ممن انهزم يوم القادسية قد جعلوا عليهم الفيرزان، فبعث زهرة إلى سعد فأعلمه باجتماع المنهزمين ببابل، فسار سعد بالجيوش إلى بابل فتقابل هو والفيرزان عند بابل، فهزمهم كأسرع من لفة الرداء، وانهزموا بين يديه فرقتين، فرقة ذهبت إلى المدائن، وأخرى سارت إلى نهاوند.
وأقام سعد ببابل أياما، ثم سار منها نحو المدائن فلقوا جمعا آخر من الفرس فاقتتلوا قتالا شديدا، وبارزوا أمير الفرس وهو شهريار، فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له: نائل الأعرجي أبو نباتة من شجعان تميم، فتجاولا ساعة بالرماح، ثم ألقياها فانتضيا سيفيهما، وتصاولا بهما ثم تعانقا وسقطا عن فرسيهما إلى الأرض، فوقع شهريار على صدر أبي نباتة، وأخرج خنجرا ليذبحه بها، فوقعت أصبعه في فم أبي نباتة فقضمها حتى شغله عن نفسه، وأخذ الخنجر فذبح شهريار بها، وأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه فهزموا.
فأقسم سعد على نائل ليلبس سواري شهريار وسلاحه، وليركبن فرسه إذا كان حرب، فكان يفعل ذلك.
قالوا: وكان أول من تسور بالعراق، وذلك بمكان يقال له: كوثى.
وزار المكان الذي حبس فيه الخليل وصلى عليه، وعلى سائر الأنبياء، وقرأ: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } الآية [9].
وقعة نهرشير
قالوا: ثم قدم سعد زهرة بين يديه من كوثى إلى نهرشير، فمضى إلى المقدمة، وقد تلقاه شيرزاذ إلى ساباط بالصلح والجزية، فبعثه إلى سعد فأمضاه، ووصل سعد بالجنود إلى مكان يقال له: مظلم ساباط، فوجدوا هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها: بوران، وهم يقسمون كل يوم لا يزول ملك فارس ما عشنا، ومعهم أسد كبير لكسرى يقال له: المقرط قد أرصدوه في طريق المسلمين، فتقدم إليه ابن أخي سعد، وهو هاشم بن عتبة، فقتل الأسد والناس ينظرون، وسمي: يومئذ سيفه المتين.
وقبل سعد يومئذ رأس هاشم، وقبل هاشم قدم سعد، وحمل هاشم على الفرس فأزالهم عن أماكنهم وهزمهم وهو يتلو قوله تعالى: « أولم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال » فلما كان الليل ارتحل المسلمون ونزلوا نهرشير فجعلوا كلما وقفوا كبروا، وكذلك حتى كان آخرهم مع سعد فأقاموا بها شهرين ودخلوا في الثالث وفرغت السنة.
قال ابن جرير: وفيها حج بالناس عمر وكان عامله فيها على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى الكوفة والعراق سعد، وعلى الطائف يعلى بن أمية، وعلى البحرين واليمامة عثمان بن أبي العاص، وعلى عُمان حذيفة بن محصن.
قلت: وكانت وقعة اليرموك في سنة خمس عشرة في رجب منها عند الليث بن سعد، وابن لهيعة، وأبي معشر، والوليد بن مسلم، ويزيد بن عبيدة، وخليفة بن خياط، وابن الكلبي، ومحمد بن عائذ، وابن عساكر، وشيخنا أبي عبد الله الذهبي الحافظ.
وأما سيف بن عمر، وأبو جعفر بن جرير فذكروا وقعة اليرموك في سنة ثلاث عشرة.
وقد قدمنا ذكرها هنالك تبعا لابن جرير، وهكذا وقعة القادسية عند بعض الحفاظ: أنها كانت في أواخر هذه السنة - سنة خمس عشرة - وتبعهم في ذلك شيخنا الحافظ الذهبي.
والمشهور: أنها كانت في سنة أربع عشرة كما تقدم ثم ذكر شيخنا الذهبي.
ومن توفي هذه السنة مرتبين على الحروف
سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، وهو أحد أقوال المؤرخين.
وقد تقدم.
سعد بن عبيد بن النعمان أبو زيد الأنصاري الأوسي، قتل بالقادسية، ويقال: أنه أبو زيد القاري أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ﷺ، وأنكر آخرون ذلك، ويقال: إنه والد عمير بن سعد الزاهد أمير حمص.
وذكر محمد بن سعد وفاته بالقادسية، وقال: كانت سنة ست عشرة والله أعلم.
سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن حسل بن عامر بن لؤي أبو يزيد العامري أحد خطباء قريش وأشرافهم، أسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه، وكان سمحا جوادا فصيحا، كثير الصلاة، والصوم، والصدقة، وقراءة القرآن، والبكاء.
ويقال: إنه قام وصام حتى شحب لونه، وله سعي مشكور في صلح الحديبية.
ولما مات رسول الله ﷺ خطب الناس بمكة خطبة عظيمة تثبت الناس على الإسلام، وكانت خطبته بمكة قريبا من خطبة الصديق بالمدينة، ثم خرج في جماعة إلى الشام مجاهدا، فحضر اليرموك، وكان أميرا على بعض الكراديس، ويقال: إنه استشهد يومئذ.
وقال الواقدي والشافعي: توفي بطاعون عمواس.
عامر بن مالك بن أهيب الزهري أخي سعد بن أبي وقاص، هاجر إلى الحبشة، وهو الذي قدم بكتاب عمر إلى أبي عبيدة بولايته على الشام وعزل خالد عنها، واستشهد يوم اليرموك.
عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، صحابي هاجر إلى الحبشة مع عمه أبي سلمة بن عبد الأسد.
روى عنه عمرو بن دينار منقطعا لأنه قتل يوم اليرموك.
عبد الرحمن بن العوام، أخو الزبير بن العوام، حضر بدرا مشركا، ثم أسلم واستشهد يوم اليرموك في قول.
عتبة بن غزوان، توفي فيها في قول.
عكرمة بن أبي جهل، استشهد باليرموك في قول.
عمرو بن أم مكتوم، استشهد يوم القادسية وقد تقدم، ويقال: بل رجع إلى المدينة.
عمرو بن الطفيل بن عمرو تقدم.
عامر بن أبي ربيعة تقدم.
فراس بن النضر بن الحارث، يقال: استشهد يوم اليرموك.
قيس بن عدي بن سعد بن سهم من مهاجرة الحبشة، قتل باليرموك.
قيس بن أبي صعصعة.
عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري المازني، شهد العقبة وبدرا، وكان أحد أمراء الكراديس يوم اليرموك، وقتل يومئذ، وله حديث قال: قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟
قال: « في خمس عشرة » الحديث.
قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: ففيه دليل على أنه ممن جمع القرآن في عهد رسول الله ﷺ.
نصير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، أسلم عام الفتح، وكان من علماء قريش، وأعطاه رسول الله ﷺ يوم حنين مائة من الإبل، فتوقف في أخذها وقال: لا أرتشي على الإسلام.
ثم قال: والله ما طلبتها ولا سألتها، وهي عطية رسول الله ﷺ، فأخذها وحسن إسلامه، واستشهد يوم اليرموك.
نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ﷺ، وكان أسن من أسلم من بني عبد المطلب، وكان ممن أسر يوم بدر ففاداه العباس، ويقال: أنه هاجر أيام الخندق، وشهد الحديبية والفتح، وأعان رسول الله ﷺ يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، وثبت يومئذٍ، وتوفي سنة خمس عشرة، وقيل: سنة عشرين والله أعلم.
توفي بالمدينة، وصلى عليه عمر، ومشى في جنازته، ودفن بالبقيع، وخلف عدة أولاد فضلاء وأكابر.
هشام بن العاص، أخو عمرو بن العاص تقدم.
وقال ابن سعد: قتل يوم اليرموك.
ثم دخلت سنة ست عشرة
استُهلت هذه السنة، وسعد بن أبي وقاص منازل مدينة نهرشير، وهي إحدى مدينتي كسرى مما يلي دجلة من الغرب، وكان قدوم سعد إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة، واستهلت هذه السنة وهو نازل عندها.
وقد بعث السرايا والخيول في كل وجه فلم يجدوا واحدا من الجند بل جمعوا من الفلاحين مائة ألف، فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم.
فكتب إليه عمر: إن من كان من الفلاحين لم يعن عليكم وهو مقيم ببلده فهو أمانه، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فأطلقهم سعد بعد ما دعاهم إلى الإسلام، فأبوا إلا الجزية.
ولم يبقى من غربي دجلة إلا أرض العرب أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية والخراج.
وامتنعت نهرشير من سعد أشد الامتناع، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي فدعاهم إلى الله عز وجل، أو الجزية، أو المقاتلة، فأبوا إلا المقاتلة والعصيان، ونصبوا المجانيق والدبابات.
وأمر سعد بعمل المجانيق فعملت عشرون منجنيقا ونصبت على نهرشير، واشتد الحصار، وكان أهل نهرشير يخرجون فيقاتلون قتالا شديدا ويحلفون أن لا يفروا أبدا، فأكذبهم الله وهزمهم زهرة بن حوية بعد ما أصابه سهم، وقتل بعد مصابه كثيرا من الفرس، وفروا بين يديه، ولجأوا إلى بلدهم، فكانوا يحاصرون فيه أشد الحصار، وقد انحصر أهل البلد حتى أكلوا الكلاب والسنانير، وقد أشرف رجل منهم على المسلمين فقال:
يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا؟ ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أم شبعتم؟ لا أشبع الله بطونكم.
قال: فبدر الناس رجل يقال له أبو مقرن الأسود بن قطبة فأنطقه الله بكلام لم يدر ما قال لهم، قال: فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون من نهرشير إلى المدائن.
فقال الناس لأبي مقرن: ما قلت لهم؟
فقال: والذي بعث محمد بالحق ما أدري ما قلت لهم، إلا أن علي سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير، وجعل الناس ينتابونه يسألونه عن ذلك، وكان فيمن سأله سعد بن أبي وقاص، وجاءه سعد إلى منزله فقال: يا أبا مقرن ما قلت؟ فوالله إنهم هراب.
فحلف له أنه لا يدري ما قال.
فنادى سعد في الناس، ونهد بهم إلى البلد والمجانيق تضرب في البلد، فنادى رجل من البلد بالأمان فأمناه، فقال: والله ما بالبلد أحد فتسور الناس السور فما وجدنا فيها أحد إلا قد هربوا إلى المدائن.
وذلك في شهر صفر من هذه السنة، فسألنا ذلك الرجل وأناسا من الأسارى فيها لأي شيء هربوا؟
قالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجابه ذلك الرجل بأنه لا يكون بينكم وبينه صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترج كوثى.
فقال الملك: يا ويلاه إن الملائكة لتتكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، ثم أمر الناس بالرحيل من هناك إلى المدائن، فجازوا في السفن منها إليها، وبينهما دجلة، وهي قريبة منها جدا.
ولما دخل المسلمون نهرشير لاح لهم القصر الأبيض من المدائن، وهو قصر الملك الذي ذكره رسول الله ﷺ أنه سيفتحه الله على أمته، وذلك قريب الصباح، فكان أول من رآه من المسلمين ضرار بن الخطاب فقال: الله أكبر، أبيض كسرى، هذا ما وعدنا الله ورسوله.
ونظر الناس إليه، فتتابعوا التكبير إلى الصبح.
ذكر فتح المدائن
لما فتح سعد نهرشير واستقر بها، وذلك في صفر، لم يجد فيها أحدا ولا شيئا مما يغنم، بل قد تحولوا بكمالهم إلى المدائن، وركبوا السفن وضموا السفن إليهم، ولم يجد سعد رضي الله عنه شيئا من السفن، وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية، وقد زادت دجلة زيادة عظيمة، وأسودَّ ماؤها، ورمت بالزبد من كثرة الماء بها، وأخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وأنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر.
فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد الله وأثنى عليه وقال:
إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاؤا فينا وشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا أني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.
فقالوا جميعا عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.
فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ فيحمي لنا الفراض - يعني: ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى - ليجوز الناس إليهم آمنين.
فانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس من الناس قريب من ستمائة، فأمر سعد عليهم عاصم بن عمرو فوقفوا على حافة دجلة، فقال عاصم: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟
فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين - والأعاجم وقوف صفوفا من الجانب الآخر - فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة، فقال: أتخافون من هذه النطفة؟
ثم تلا قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابا مُؤَجَّلا } [10].
ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس، وقد افترق الستون فرقتين أصحاب الخيل الذكور، وأصحاب الخيل الإناث.
فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانا ديوانا. يقولون: مجانين مجانين.
ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا.
ثم أرسلوا فرسانا منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء، فأمر عاصم بن عمرو وأصحابه أن يشرعوا لهم الرماح، ويتوخوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفرس، فقلعوا عيون خيولهم.
فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء، واتبعهم عاصم وأصحابه فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الآخر، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر، ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة فخاضوها حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر، فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب، وكانوا يسمون الكتيبة الأولى: كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو.
والكتيبة الثانية: الكتيبة الخرساء وأميرها القعقاع بن عمرو، وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس، وسعد واقف على شاطئ دجلة.
ثم نزل سعد ببقية الجيش، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين، وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد.
فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره، وتأييده، ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد توفي رسول الله ﷺ وهو عنه راضٍ ودعا له فقال: « اللهم أجب دعوته، وسدد رميته ».
والمقطوع به: أن سعدا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم فلم يفقد من المسلمين رجل واحد غير أن رجلا واحدا يقال له: غرقدة البارقي ذل عن فرس له شقراء، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على فرسه، وكان من الشجعان، فقال: عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن عمرو.
ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له: مالك بن عامر، كانت علاقته رثة فأخذه الموج، فدعا صاحبه الله عز وجل، وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي.
فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه فأخذه الناس، ثم ردوه على صاحبه بعينه.
وكان الفرس إذا أعيا وهو في الماء يقيض الله له مثل النشز المرتفع فيقف عليه فيستريح، وحتى أن بعض الخيل ليسير وما يصل الماء إلى حزامها، وكان يوما عظيما وأمرا هائلا، وخطبا جليلا، وخارقا باهرا، ومعجزة لرسول الله ﷺ، خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك البلاد، ولا في بقعة من البقاع، سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة؛ بل هذا أجل وأعظم فإن هذا الجيش كان أضعاف ذلك.
قالوا: وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي فجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. والله لينصرن الله وليه وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.
فقال له سلمان: إن الإسلام جديد، ذللت لهم والله البحور، كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سليمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا أفواجا.
فخرجوا منه كما قال سليمان لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئا.
ولما استقل المسلمون على وجه الأرض، خرجت الخيول تنفض أعرافها صاهلة، فساقوا وراء الأعاجم حتى دخلوا المدائن، فلم يجدوا بها أحدا؛ بل قد أخذ كسرى أهله وما قدروا عليه من الأموال والأمتعة والحواصل وتركوا ما عجزوا عنه من الأنعام والثياب والمتاع، والآنية والألطاف والأدهان ما لا يدري قيمته.
وكان في خزنة كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار ثلاث مرات، فأخذوا من ذلك ما قدروا عليه وتركوا ما عجزوا عنه، وهو مقدار النصف من ذلك أو ما يقاربه.
فكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثم الكتيبة الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون أحدا ولا يخشونه غير القصر الأبيض، ففيه مقاتلة وهو محصن.
فلما جاء سعد بالجيش دعا أهل القصر الأبيض ثلاث أيام على لسان سلمان الفارسي، فلما كان اليوم الثالث نزلوا منه وسكنه سعد، واتخذ الإيوان مصلى، وحين دخله تلا قوله تعالى: { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْما آخَرِينَ } [11]. ثم تقدم إلى صدره فصلى ثمان ركعات صلاة الفتح.
وذكر سيف في روايته: أنه صلاها بتسليمة واحدة، وأنه جمَّع بالإيوان في صفر من هذه السنة، فكانت أول جمعة جمِّعت بالعراق، وذلك لأن سعدا نوى الإقامة بها، وبعث إلى العيالات فأنزلهم دور المدائن واستوطنوها، حتى فتحوا جلولاء وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد ذلك كما سنذكره.
ثم أرسل السرايا في إثر كسرى يزدجرد فلحق بهم طائفة فقتلوهم، وشردوهم، واستلبوا منهم أموالا عظيمة.
وأكثر ما استرجعوا من ملابس كسرى وتاجه وحليه.
وشرع سعد في تحصيل ما هنالك من الأموال والحواصل والتحف، مما لا يقوم ولا يحد ولا يوصف كثرة وعظمة.
وقد روينا: أنه كان هناك تماثيل من جص، فنظر سعد إلى أحدها وإذا هو يشير بأصبعه إلى مكان.
فقال سعد: إن هذا لم يوضع هكذا سدىً، فأخذوا ما يسامت أصبعه، فوجدوا قبالتها كنزا عظيما من كنوز الأكاسرة الأوائل، فأخرجوا منه أموالا عظيمة جزيلة، وحواصل باهرة، وتحفا فاخرة.
واستحوذ المسلمون على ما هنالك أجمع مما لم ير أحد في الدنيا أعجب منه، وكان في جملة ذلك تاج كسرى وهو مكال بالجواهر النفيسة التي تحير الأبصار، ومنطقته كذلك وسيفه وسواره وقباؤه وبساط إيوانه، وكان مربعا ستون ذراعا في مثلها من كل جانب، والبساط مثله سواء، وهو منسوج بالذهب واللآلئ والجواهر الثمينة، وفيه مصور جميع ممالك كسرى، بلاده بأنهارها وقلاعها، وأقاليمها وكنوزها، وصفة الزروع والأشجار التي في بلاده.
فكان إذا جلس على كرسي مملكته ودخل تحت تاجه وتاجه معلق بسلاسل من ذهب، لأنه كان لا يستطيع أن يقله على رأسه لثقله؛ بل كان يجيء فيجلس تحته، ثم يدخل رأسه تحت التاج والسلاسل الذهب تحمله عنه، وهو يستره حال لبسه، فإذا رفع الحجاب عنه خرت له الأمراء سجودا.
وعليه المنطقة والسواران والسيف والقباء المرصع بالجواهر فينظر في البلدان واحدة واحدة، فيسأل عنها ومن فيها من النواب، وهل حدث فيها شيء من الأحداث؟ فيخبره بذلك ولاة الأمور بين يديه.
ثم ينتقل إلى الأخرى، وهكذا حتى يسأل عن أحوال بلاده في كل وقت لا يهمل أمر المملكة، وقد وضعوا هذا البساط بين يديه تذكارا له بشأن الممالك، وهو إصلاح جيد منهم في أمر السياسة، فلما جاء قدر الله زالت تلك الأيدي عن تلك الممالك والأراضي، وتسلمها المسلمون من أيديهم قسرا، وكسروا شوكتهم عنها، وأخذوها بأمر الله صافية ضافية، ولله الحمد والمنة.
وقد جعل سعد بن أبي وقاص على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، فكان أول ما حصل ما كان في القصر الأبيض ومنازل كسرى، وسائر دور المدائن، وما كان بالإيوان مما ذكرنا، وما يفد من السرايا الذين في صحبة زهرة بن حوية، وكان فيما رد زهرة بغل كان قد أدركه وغصبه من الفرس، وكانت تحوطه بالسيوف فاستنقذه منهم وقال: إن لهذا لشأنا، فرده إلى الأقباض وإذا عليه سفطان فيهما ثياب كسرى وحليه، ولبسه الذي كان يلبسه على السرير كما ذكرنا.
وبغل آخر عليه تاجه الذي ذكرنا في سفطين أيضا ردا من الطريق مما استلبه أصحاب السرايا، وكان فيما ردت السرايا أموال عظيمة، وفيها أكثر أثاث كسرى وأمتعته والأشياء النفيسة التي استصحبوها معهم فلحقهم المسلمون فاستلبوها منهم.
ولم تقدر الفرس على حمل البساط لثقله عليهم، ولا حمل الأموال لكثرتها.
فإنه كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور فيجدون البيت ملآنا إلى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئا كثيرا فيحسبونه ملحا، وربما استعمله بعضهم في العجين فوجدوه مرا حتى تبينوا أمره فتحصل الفيء على أمر عظيم من الأموال.
وشرع سعد فخمّسه، وأمر سلمان الفارسي فقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين، فحصل لكل واحدٍ من الفرسان اثني عشرة ألفا، وكانوا كلهم فرسانا، ومع بعضهم جنائب.
واستوهب سعد أربعة أخماس: البساط، ولبس كسرى من المسلمين، ليبعثه إلى عمر والمسلمين بالمدينة لينظروا إليه ويتعجبوا منه، فطيبوا له ذلك وأذنوا فيه، فبعثه سعد إلى عمر مع الخمس مع بشير بن الخصاصية.
وكان الذي بشر بالفتح قبله حليس بن فلان الأسدي، فروينا: أن عمر لما نظر إلى ذلك قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء.
فقال له علي بن أبي طالب: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت.
ثم قسّم عمر ذلك في المسلمين، فأصاب عليا قطعة من البساط، فباعها بعشرين ألفا.
وقد ذكر سيف بن عمر: أن عمر بن الخطاب ألبس ثياب كسرى لخشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وما عليها من زهرة الحياة الدنيا الفانية.
وقد روينا: أن عمر ألبس ثياب كسرى لسراقة بن مالك بن جعشم أمير بني مدلج رضي الله عنه.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في (دلائل النبوة): أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، حدثنا أبو سعيد ابن الأعرابي قال: وجدت في كتابي بخط يدي عن أبي داود، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد، ثنا يونس، عن الحسن: أن عمر بن الخطاب أُتي بفروة كسرى، فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك بن جعشم، قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يده فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج.
وذكر الحديث هكذا ساقه البيهقي.
ثم حُكي عن الشافعي أنه قال: وإنما ألبسهما سراقة لأن رسول الله ﷺ قال لسراقة: « ونظر إلى ذراعيه كأني بك وقد ألبست سواري كسرى ».
قال الشافعي: وقد قال عمر لسراقة حين ألبسه سواري كسرى، قل: الله أكبر.
فقال: الله أكبر.
ثم قال: قل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك الأعرابي من بني مدلج.
وقال الهيثم بن عدي: أخبرنا أسامة بن زيد الليثي، حدثنا القاسم بن محمد بن أبي بكر، قال: بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفيه.
قال: فنظر عمر في وجوه القوم وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا سراق قم فالبس.
قال سراقة: فطمعت فيه فقمت فلبست.
فقال: أدبر، فأدبرت.
ثم قال: أقبل، فأقبلت.
ثم قال: بخ بخ أُعَيْرَابي من بني مدلج، عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه.
رب يوم يا سراق بن مالك، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى، كان شرفا لك ولقومك، انزع، فنزعت.
فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم إليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي.
ثم بكى حتى رحمه من كان عنده.
ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي.
وذكر سيف بن عمر التميمي: أن عمر حين ملك تلك الملابس والجواهر جيء بسيف كسرى ومعه عدة سيوف منها سيف النعمان بن المنذر نائب كسرى على الحيرة.
وأن عمر قال: الحمد الله الذي جعل سيف كسرى فيما يضره ولا ينفعه.
ثم قال: إن قوما أدوا هذا لأمناء، أو لذوا أمانة.
ثم قال: إن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن آخرته فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته، ولم يقدم لنفسه، ولو قدم لنفسه ووضع الفضول في مواضعها لحصل له.
وقد قال بعض المسلمين وهو أبو نجيد نافع بن الأسود في ذلك:
وأملنا على المدائن خيلا * بحرها مثل برِّهنّ أريضا
فانتشلنا خزائن المرء كسرى * يوم ولوا وحاص منا جريضا
وقعة جلولاء
لما سار كسرى، وهو: يزدجرد بن شهريار من المدائن هاربا إلى حلوان، شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك، فاجتمع إليه خلق كثير، وجم غفير من الفرس، وأمر على الجميع مهران، وسار كسرى إلى حلوان فأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء، واحتفروا خندقا عظيما حولها، وأقاموا بها في العَدد والعُدد وآلات الحصار، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك.
فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن، ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميرا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو، وعلى الميمنة سعد بن مالك، وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك، وعلى الساقة عمرو بن مرة الجهني.
ففعل سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشا كثيفا يقارب اثني عشر ألفا من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورءوس العرب.
وذلك في صفر من هذه السنة بعد فراغهم من أمر المدائن، فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم، فحاصرهم هاشم بن عتبة، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالا لم يسمع بمثله.
وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد، وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه مرة بعد أخرى، وحمي القتال واشتد النزال، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة، فحرضهم على القتال والتوكل على الله.
وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبدا حتى يفنوا العرب.
فلما كان الموقف الأخير وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول النهار، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله حتى فني النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزنيات، وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءا، وذهبت فرقة المجوس، وجاءت مكانها أخرى.
فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم؟ ما رأيتم أيها المسلمون؟
قالوا: نعم، إنا كالون وهم مريحون.
فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم، فحمل وحمل الناس.
فأما القعقاع بن عمرو فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان، حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس، وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل.
وفي الأبطال يومئذ: طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وقيس بن مكشوح، وحجر بن عدي.
ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل، ولم يشعروا بذلك، لولا مناديه ينادي:
أين أيها المسلمون، هذا أميركم على باب خندقهم.
فلما سمع ذلك المجوس فروا وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو، فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم، وهربت الفرس كل مهرب، وأخذهم المسلمون من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى، فلذلك سميت جلولاء.
وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريبا مما غنموا من المدائن قبلها.
وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى، فساق خلفهم حتى أدرك مهران منهزما، فقتله القعقاع بن عمرو، وأفلتهم الفيرزان فاستمر منهزما، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة، وغنموا دواب كثيرة جدا.
ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص فنفل سعد ذوي النجدة، ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين.
قال الشعبي: كان المال المتحصل من وقعه جلولاء ثلاثين ألف ألف، فكان خمسه ستة آلاف ألف.
وقال غيره: كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن - يعني: اثني عشر ألفا لكل فارس - وقيل: أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب.
وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله، سلمان الفارسي رضي الله عنه.
ثم بعث بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان، وقضاعي بن عمرو، وأبي مقرن الأسود.
فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك، فقال: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟
فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا، بعبارة عظيمة بليغة.
فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المصقع - يعني: الفصيح - فقال زياد:
إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.
ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاؤا به سقف حتى يقسمه، فبات عبد الله بن أرقم، وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء عمر في الناس بعد ما صلى الغداة وطلعت الشمس، فأمر فكشف عنه جلابيبه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء، بكى عمر.
فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فوالله إن هذا لموطن شكر.
فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطي الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم.
ثم قسمه كما قسم أموال القادسية.
وروى سيف بن عمر، عن شيوخه أنهم قالوا: وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ستة عشر، وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر.
وقد تكلم ابن جرير ههنا فيما رواه عن سيف على ما يتعلق بأرض السواد وخراجها، وموضع تحرير ذلك كتاب (الأحكام).
وقد قال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء:
يوم جلولاء ويم رستم * ويوم زحف الكوفة المقدم
ويوم عرض الشهر المحرم * وأيام خلت من بينهن صرم
شيبن أصدغي فهي هرم * مثل ثغام البلد المحرم
وقال أبو نجيد في ذلك:
ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت * كتائبنا تردى بأسد عوابس
فضضت جموع الفرس ثم أئمتهم * فتبا لأجساد المجوس النجائس
وأفلتهن الفيرزان بجرعة * ومهران أردت يوم حز القوانس
أقاموا بدار للمنية موعد * وللترب تحثوها خجوج الروامس
ذكر فتح حلوان
ولما انقضت الوقعة أقام هشام بن عتبة بجلولاء عن أمر عمر بن الخطاب - في كتابه إلى سعد - وتقدم القعقاع بن عمرو إلى حلوان عن أمر عمر أيضا ليكون ردءا للمسلمين هنالك، ومرابطا لكسرى حيث هرب، فسار كما قدمنا.
وأدرك أمير الوقعة وهو مهران الرازي فقتله وهرب الفيرزان، فلما وصل إلى كسرى وأخبره بما كان من أمر جلولاء، وما جرى على الفرس بعده، وكيف قتل منهم مائة ألف، وأدرك مهران فقتل، هرب عند ذلك كسرى من حلوان إلى الري، واستناب على حلوان أميرا يقال له: خسروشنوم.
فتقدم إليه القعقاع بن عمرو، وبزر إليه خسروشنوم إلى مكان خارج حلوان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم فتح الله ونصر المسلمين، وانهزم خسروشنوم، وساق القعقاع إلى حلوان فتسلمها.
ودخلها المسلمون فغنموا وسبوا، وأقاموا في الإسلام فأبوا إلا الجزية، فلم يزل القعقاع بها حتى تحول سعد من المدائن بها، وضربوا الجزية على من حولها من الكور والأقاليم بعد ما دعوا إلى الدخول، فسار إليها كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فتح تكريت والموصل
لما افتتح سعد المدائن، بلغه أن أهل الموصل قد اجتمعوا بتكريت على رجل من الكفرة يقال له: الأنطاق.
فكتب إلى عمر بأمر جلولاء واجتماع الفرس بها، وبأمر أهل الموصل، فتقدم ما ذكرناه من كتاب عمر في أهل جلولاء وما كان من أمرها.
وكتب عمر في قضية أهل الموصل الذين قد اجتمعوا بتكريت على الأنطاق، أن يعين جيشا لحربهم، ويؤمر عليه عبد الله بن المعتم، وأن يجعل على مقدمته ربعي بن الأفكل الغزي، وعلى الميمنة الحارث بن حسان الذهلي، وعلى الميسرة فرات بن حيان العجلي، وعلى الساقة هانئ بن قيس، وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة.
ففصل عبد الله بن المعتم في خمسة آلاف من المدائن، فسار في أربع حتى نزل بتكريت على الأنطاق، وقد اجتمع إليه جماعة من الروم، ومن الشهارجة، ومن نصارى العرب من إياد وتغلب والنمر، وقد أحدقوا بتكريت، فحاصرهم عبد الله بن المعتم أربعين يوما، وزاحفوه في هذه المدة أربعة وعشرين مرة، ما من مرة إلا وينتصر عليهم، ويفل جموعهم، فضعف جانبهم؛ وعزمت الروم على الذهاب في السفن بأموالهم، وراسل عبد الله بن المعتم إلى من هنالك من الأعراب، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة، على أهل البلد، فجاءت القصاد إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك.
فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقروا بما جاء من عند الله.
فرجعت القصاد إليه: بأنهم قد أسلموا.
فبعث إليهم: إن كنتم صادقين، فإذا كبرنا وحملنا على البلد الليلة فأمسكوا علينا أبواب السفن، وأمنعوهم أن يركبوا فيها، واقتلوا منهم من قدرتم على قتله.
ثم شد عبد الله وأصحابه، وكبروا تكبيرة رجل واحد، وحملوا على البلد، فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلا ذريعا، وجاء عبد الله بن المعتم بأصحابه من الأبواب الأُخر، فقتل جميع أهل البلد عن بكرة أبيهم.
ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وقد كان عمر عهد في كتابه إذا نصروا على تكريت أن يبعثوا ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهي الموصل سريعا، فسار إليها كما أمر عمر، ومعه سرية كثيرة، وجماعة من الأبطال، فسار إليها حتى فجئها قبل وصول الأخبار إليها، فما كان إلا أن واقفها حتى أجابوا إلى الصلح فضربت عليهم الذمة عن يد وهم صاغرون، ثم قسمت الأموال التي تحصلت من تكريت، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألف درهم.
وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان، وبالفتح مع الحارث بن حسان، وولي إمرة حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وولي الخراج بها عرفجة بن هرثمة.
فتح ماسبذان من أرض العراق
لما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى عمر بالمدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان قد جمع طائفة من الفرس، فكتب إلى عمر في ذلك.
فكتب إليه: أن ابعث جيشا، وأمر عليهم ضرار بن الخطاب.
فخرج ضرار في جيش من المدائن، وعلى مقدمته ابن الهزيل الأسدي، فتقدم ابن الهزيل بين يدي الجيش، فالتقى مع آذين وأصحابه قبل وصول ضرار إليه، فكسر ابن الهزيل طائفة الفرس، وأسر آذين بن الهرمزان، وفر عنه أصحابه، وأمر ابن الهزيل فضرب عنق آذين بين يديه، وساق وراءه المنهزمين حتى انتهى إلى ماسبذان - وهي مدينة كبيرة - فأخذها عنوة، وهرب أهلها في رءوس الجبال والشعاب، فدعاهم فاستجابوا له، وضرب على من لم يسلم الجزية، وأقام نائبا عليها حتى تحول سعد من المدائن إلى الكوفة كما سيأتي.
فتح قرقيسيا وهيت في هذه السنة
قال ابن جرير وغيره: لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن، وكان أهل الجزيرة قد أمدوا أهل حمص على قتال أبي عبيدة وخالد - لما كان هرقل بقنسرين - واجتمع أهل الجزيرة في مدينة هيت.
كتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب إليه: أن يبعث إليهم جيشا، وأن يؤمر عليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، فسار فيمن معه من المسلمين إلى هيت، فوجدهم قد خندقوا عليهم، فحاصرهم حينا، فلم يظفر بهم.
فسار في طائفة من أصحابه، واستخلف على محاصرة هيت الحارث بن يزيد، فراح عمر بن مالك إلى قرقيسيا فأخذها عنوة، وأنابوا إلى بذل الجزية، وكتب إلى نائبه على هيت: إن لم يصالحوا أن يحفر من وراء خندقهم خندقا، ويجعل له أبوابا من ناحيته.
فلما بلغهم ذلك أنابوا إلى المصالحة.
قال شيخنا أبو عبد الله الحافظ الذهبي: وفي هذه السنة بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص بعد فراغه من اليرموك إلى قنسرين، فصالح أهل حلب، ومنبج، وأنطاكية، على الجزية، وفتح سائر بلاد قنسرين عنوة، قال:
وفيها افتتحت سروج والرها على يدي عياض بن غنم.
قال: وفيها فيما ذكر ابن الكلبي: سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصر إيليا فسألوا الصلح على أن يقدم عمر فيصالحهم على ذلك، فكتب أبو عبيدة إلى عمر فقدم حتى صالحهم، وأقام أياما ثم رجع إلى المدينة.
قلت: قد تقدم هذا فيما قبل هذه السنة والله أعلم.
قال الواقدي: وفي هذه السنة حمى عمر الربذة بخيل المسلمين.
وفيها: غرب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع.
وفيها: تزوج عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد.
قلت: الذي قتل يوم الجسر، وكان أمير السرية، وهي: أخت المختار بن أبي عبيد، أمير العراق فيما بعد، وكانت امرأة صالحة، وكان أخوها فاجرا وكافرا أيضا.
قال الواقدي: وفيها حج عمر بالناس، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت.
قال: وكان نائبه على مكة عتاب، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى العراق سعد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن أمية، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عُمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة، وعلى الموصل ربعي الأفكل، وعلى الجزيرة عياض بن غنم الأشعري.
قال الواقدي: وفي ربيع الأول من هذه السنة - أعني: سنة ست عشرة - كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه.
قلت: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك: أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان، فقال: أي شعبان؟ أَمِنْ هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها؟.
ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئا يعرفون فيه حلول ديونهم.
فيقال: أنهم أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك.
ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر، فكرهوا ذلك، ولطوله أيضا.
وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الله ﷺ.
وقال آخرون: من مبعثه عليه السلام.
وأشار علي بن أبي طالب وآخرون: أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد، فإنه أظهر من المولد والمبعث.
فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله ﷺ، وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها.
وعند مالك رحمه الله فيما حكاه عن السهيلي وغيره: أن أول السنة من ربيع الأول لقدومه عليه السلام إلى المدينة.
والجمهور: على أن أول السنة من المحرم، لأنه أضبط لئلا تختلف الشهور، فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية.
وفي هذه السنة - أعني: سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله ﷺ، وذلك في المحرم منها، فيما ذكره الواقدي وابن جرير وغير واحد.
وصلى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها وأرضاها، وهي: مارية القبطية أهداها صاحب الإسكندرية، -وهو جريج بن مينا - في جملة تحف وهدايا لرسول الله ﷺ، فقبل ذلك منه، وكان معها أختها شيرين التي وهبها رسول الله ﷺ لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان.
ويقال: أهدى المقوقس معهما جاريتين أخرتين، فيحتمل أنهما كانتا خادمتين لمارية وشيرين.
وأهدى معهن غلاما خصيا اسمه: مابور، وأهدى مع ذلك بغلة شهباء اسمها: الدلدل، وأهدى حلة حرير من عمل الإسكندرية.
وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان.
فحملت مارية من رسول الله ﷺ بإبراهيم عليه السلام، فعاش عشرين شهرا، ومات قبل أبيه رسول الله ﷺ بسنة سواء.
وقد حزن عليه رسول الله ﷺ، وبكى عليه، وقال: « تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ». وقد تقدم ذلك في سنة عشر.
وكانت مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان، وقد حظيت عند رسول الله ﷺ وأعجب بها، وكانت جميلة ملاحة أي: حلوة، وهي تشابه هاجر سرية الخليل، فإن كلا منهما من ديار مصر، وتسراها نبي كريم، وخليل جليل عليهما السلام.
ثم دخلت سنة سبع عشرة
في المحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أن الصحابة استوخموا المدائن، وتغيرت ألوانهم وضعفت أبدانهم، لكثرة ذبابها وغبارها، فكتب سعد إلى عمر في ذلك.
فكتب عمر: أن العرب لا تصلح إلا حيث يوافق إبلها،. فبعث سعد حذيفة وسلمان بن زياد يرتادان للمسلمين منزلا مناسبا يصلح لإقامتهم.
فمرا على أرض الكوفة وهي حصباء في رملة حمراء فأعجبتهما، ووجد هنالك ديرات ثلاث: دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة.
وبين ذلك خصاص خلال هذه الكوفة فنزلا فصليا هنالك، وقال كل واحد منهما: اللهم رب السماء وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلت والخصاص وما أجنت، بارك لنا في هذه الكوفة، واجعلها منزل ثبات.
ثم كتبا إلى سعد بالخبر، فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها، فكان أول بناء وضع فيها المسجد.
وأمر سعد رجلا راميا شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات، فحيث سقط سهمه بنى الناس منازلهم، وعمر قصرا تلقاء محراب المسجد للإمارة، وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة، فبنوها باللبن عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحد.
وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل، فقدموا عليه فأنزلهم الكوفة، وأمر سعد أبا هياج الموكل بإنزال الناس فيها أن يعمروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعا.
ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعا، وللأزقة سبعة أذرع.
وبنى لسعد قصر قريب من السوق، فكانت غوغاء الناس تمنع سعدا من الحديث، فكان يغلق بابه، ويقول: سكِّنْ الصويت.
فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده، ويجمع حطبا، ويحرق باب القصر، ثم يرجع من فوره.
فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعدا أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على بابه أحدا يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد، وعرض على محمد بن مسلمة شيئا من المال، فامتنع من قبوله ورجع إلى المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصف، حتى عزله عنها عمر من غير عجز ولا خيانة.
أبو عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدوم عمر إلى الشام
وذلك أن جمعا من الروم عزموا على حصار أبي عبيدة بحمص، واستجاشوا بأهل الجزيرة وخلق ممن هنالك، وقصدوا أبا عبيدة.
فبعث أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه من قنسرين، وكتب إلى عمر بذلك، واستشار أبو عبيدة المسلمين في أن يناجز الروم أو يتحصن بالبلد حتى يجيء أمر عمر؟ فكلهم أشار بالتحصن إلا خالدا فإنه أشار بمناجزتهم فعصاه وأطاعهم، وتحصن بحمص وأحاط به الروم، وكل بلد من بلدان الشام مشغول أهله عنه بأمرهم، ولو تركوا ما هم فيه، وأقبلوا إلى حمص لا نخرم النظام في الشام كله.
وكتب عمر إلى سعد: أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو، ويسيرهم إلى حمص من يوم يقدم عليه الكتاب، نجدة لأبي عبيدة فإنه محصور، وكتب إليه: أن يجهز جيشا إلى أهل الجزيرة الذين مالأوا الروم على حصار أبي عبيدة، ويكون أمير الجيش إلى الجزيرة عياض بن غنم.
فخرج الجيشان معا من الكوفة، القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص لنجدة أبي عبيدة.
وخرج عمر بنفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة، فبلغ الجابية، وقيل: إنما بلغ سرع.
قاله ابن إسحاق وهو أشبه والله أعلم.
فلما بلغ أهل الجزيرة الذين مع الروم على حمص أن الجيش قد طرق بلادهم انشمروا إلى بلادهم، وفارقوا الروم، وسمعت الروم بقدوم أمير المؤمنين عمر لينصر نائبه عليهم فضعف جانبهم جدا، وأشار خالد على أبي عبيدة بأن يبرز إليهم ليقاتلهم، ففعل ذلك أبو عبيدة، ففتح الله عليه ونصره، وهزمت الروم هزيمة فظيعة.
وذلك قبل ورود عمر عليهم، وقبل وصول الأمداد إليهم بثلاث ليال.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر وهو بالجابية يخبره بالفتح، وأن المدد وصل إليهم بعد ثلاث ليال، وسأله هل يدخلهم في القسم معهم مما أفاء الله عليهم؟ فجاء الجواب بأن يدخلهم معهم في الغنيمة، فإن العدو إنما يضعف وإنما انشمر عنه المدد من خوفهم منهم، فأشركهم أبو عبيدة في الغنيمة.
وقال عمر: جزى الله أهل الكوفة خيرا، يحمون حوزتهم، ويمدون أهل الأمصار.
فتح الجزيرة
قال ابن جرير: وفي هذه السنة: فتحت الجزائر فيما قاله سيف بن عمر.
قال ابن جرير: في ذي الحجة من سنة سبع عشرة، فوافق سيف بن عمر في كونها في هذه السنة.
وقال ابن إسحاق: كان ذلك في سنة تسع عشرة، سار إليها عياض بن غنم، وفي صحبته أبو موسى الأشعري، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو غلام صغير السن ليس إليه من الأمر شيء، وعثمان بن أبي العاص، فنزل الرها فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حران على ذلك.
ثم بعث أبا موسى الأشعري إلى نصيبين، وعمر بن سعد إلى رأس العين، وسار بنفسه إلى دارا، فافتتحت هذه البلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية، فكان عندها شيء من قتال، قتل فيه صفوان بن المعطل السلمي شهيدا.
ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية على كل أهل بيت دينار.
وقال سيف في روايته: جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان، فسلك على رجليه حتى انتهى إلى الموصل، فعبر إلى بلد حتى انتهى إلى نصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كما صنع أهل الرقة.
وبعث إلى عمر برؤوس النصارى من عرب أهل الجزيرة.
فقال لهم عمر: أدوا الجزية.
فقالوا: أبلغنا مامننا، فوالله لئن وضعت علينا الجزية لندخلن أرض الروم، والله لتفضحنا من بين العرب.
فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمتكم، ووالله لتؤدن الجزية وأنتم صغرة قمئة، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم، ثم لأسبينكم.
قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسميه جزية.
فقال: أما نحن فنسميه جزية، وأما أنتم فسموه ما شئتم.
فقال له علي بن أبي طالب: ألم يضعف عليهم سعد الصدقة؟.
قال: بلى؛ وأصغى إليه ورضي به منهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، فوصل إلى سَرْع في قول محمد بن إسحاق.
وقال سيف: وصل إلى الجابية.
قلت: والأشهر أنه وصل سرع، وقد تلقاه أمراء الأجناد: أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد إلى سرع، فأخبروه أن الوباء قد وقع في الشام، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، فمن قائل يقول: أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه، ومن قائل يقول: لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله ﷺ على هذا الوباء.
فيقال: أن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد.
فقال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟.
قال: نعم! نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو هبطت واديا ذا عدوتين، إحداهما: مخصبة، والأخرى: مجدبة، فإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
ثم قال: لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة.
قال ابن إسحاق في روايته وهو في صحيح البخاري: وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبا في بعض شأنه، فلما قدم قال: إن عندي من ذلك عِلما، سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إذا سمعتم به بأرض قومٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه ».
فحمد الله عمر - يعني لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس.
وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان بن حسين بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد قالوا: قال رسول الله ﷺ:
« إن هذا الطاعون رجزٌ وبقية عذاب عذب به قوم قبلكم، فإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه ».
ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص به.
قال سيف بن عمر: كان الوباء قد وقع بالشام في المحرم من هذه السنة ثم ارتفع، وكان سيفا يعتقد أن هذا الوباء هو طاعون عمواس الذي هلك فيه خلق من الأمراء، ووجوه المسلمين، وليس الأمر كما زعم؛ بل طاعون عمواس من السنة المستقبلة بعد هذه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وذكر سيف بن عمر: أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزم على أن يطوف البلدان، ويزور الأمراء، وينظر فيما اعتمدوه، وما آثروا من الخير، فاختلف عليه الصحابة، فمن قائل يقول: ابدأ بالعراق، ومن قائل يقول: بالشام.
فعزم عمر على قدوم الشام لأجل قسم مواريث من مات من المسلمين في طاعون عمواس، فإنه أشكل قسمها على المسلمين بالشام، فعزم على ذلك وهذا يقتضي أن عمر عزم على قدوم الشام بعد طاعون عمواس، وقد كان الطاعون في سنة ثماني عشرة كما سيأتي، فهو قدوم آخر غير قدوم سرع. والله أعلم.
قال سيف: عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بن النعمان قالوا: قال عمر: ضاعت مواريث الناس بالشام أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع فأتقلب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري.
قالوا: فأتى عمر الشام أربع مرات، مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في سنة سبع عشرة، ولم يدخلها في الأولى من الأخريين.
وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف أنه يقول: بكون طاعون عمواس في سنة سبع عشرة.
وقد خالفه محمد بن إسحاق وأبو معشر وغير واحد، فذهبوا إلى: أنه كان في سنة ثماني عشرة.
وفيه توفي أبو عبيدة، ومعاذ، ويزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من الأعيان على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
شيء من أخبار طاعون عمواس
الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم.
أورده ابن جرير في هذه السنة.
قال محمد بن إسحاق: عن شعبة، عن المختار بن عبد الله البجلي، عن طارق بن شهاب البجلي قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها، حتى يرتفع هذا البلاء، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى.
من ذلك أن يظن من خرج أنه لو قام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج وأن يتنزه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه:
أن سلام عليك، أما بعد: فإنه قد عرضت لي إليك حاجة، أريد أن أشافهك بها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتاب هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إلي.
قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء.
فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين، ثم كتب إليه يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي.
فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة؟
قال: لا، وكأن قد.
قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضا عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.
قال أبو موسى: فلما أتاه كتابه دعاني.
فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلا حتى أتبعك بهم، فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت فرجعت إليه وقلت: والله لقد كان في أهلي حدث. فقال: لعل صاحبتك قد أصيبت؟.
قلت: نعم.
فأمر ببعير فرحل له، فلما وضع رجله في غرزه طعن.
فقال: والله لقد أصبت، ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ورُفع عن الناس الوباء.
وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب، عن رابة - رجل من قومه -: وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون عمواس.
قال: لما اشتعل الوجع، قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة منه حظه، فطعن، فمات.
واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذ يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا.
فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيبا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا منه في الجبال.
فقال أبو وائل الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله ﷺ، وأنت شر من حماري هذا.
فقال: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه.
قال: ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ودفعه الله عنهم.
قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.
قال ابن إسحاق: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، أمر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها.
وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عمواس وقع مرتين لم ير مثلهما، وطال مكثه، وفني خلق كثير من الناس، حتى طمع العدو، وتخوفت قلوب المسلمين لذلك.
قلت: ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لما أشكل أمرها على الأمراء، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الأعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة.
وقال سيف بعد ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة، قال: فلما أراد القفول إلى المدينة في ذي الحجة منها، خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إني قد وليت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، فبسطنا بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجندنا لكم الجنود، وهيأنا لكم الفروج، وبوأنا لكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم، وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمينا لكم أطعماتكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانمكم.
فمن علم منكم شيئا ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله.
قال: وحضرت الصلاة، فقال الناس: لو أمرت بلالا فأذن؟ فأمره فأذن، فلم يبق أحد كان أدرك رسول الله ﷺ وبلال يؤذن إلا بكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم ولذكره ﷺ.
وذكر ابن جرير في هذه السنة: من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن عمر بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام وتدلكه بعد النورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه: إن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر فلا تمسوها أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا.
فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر.
فكتب إليه عمر: إني أظن أن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه، فانتهى لذلك.
قال سيف: وأصاب أهل البصرة تلك السنة طاعون أيضا، فمات بشر كثير وجم غفير، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
قالوا: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام، فلم يرجع منهم إلا أربعة.
فقال المهاجر بن خالد في ذلك:
من يسكن الشام يعرس به * والشام إن لم يفننا كارب
أفنى بني ريطة فرسانهم * عشرون لم يقصص لهم شارب
ومن بني أعمامهم مثلهم * لمثل هذا يعجب العاجب
طعنا وطاعونا مناياهم * ذلك ما خط لنا الكاتب
كائنة غريبة فيها عزل خالد عن قنسرين أيضا
قال ابن جرير: وفي هذه السنة: أدرب خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، أي: سلكا درب الروم، وأغارا عليهم، فغنموا أموالا عظيمةً، وسبيا كثيرا.
ثم روي من طريق سيف، عن أبي عثمان، وأبي حارثة، والربيع، وأبي المجالد.
قالوا: لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة، انتجعه الناس يبتغون وفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف.
فلما بلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة: يأمره أن يقيم خالدا ويكشف عمامته، وينزع عنه قلنسوته، ويقيده بعمامته، ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها الأشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة ثم أعزله عن عمله.
فطلب أبو عبيدة خالدا، وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي المنبر، وقام إليه بلال، ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي قدم بالكتاب.
هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك.
ثم سار خالد إلى قنسرين، فخطب أهل البلد وودعهم، وسار بأهله إلى حمص، فخطبهم أيضا وودعهم، وسار إلى المدينة، فلما دخل خالد على عمر أنشد عمر قول الشاعر:
صنعت فلم يصنع كصنعك صانع * وما يصنع الأقوام فالله صانع
ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟
فقال: من الأنفال والسهمان.
قال: فما زاد على الستين ألفا فلك، ثم قوم أمواله وعروضه، وأخذ منه عشرين ألفا، ثم قال: والله إنك علي لكريم، وإنك إليَّ لحبيب، ولن تعمل لي بعد اليوم على شيء.
وقال سيف، عن عبد الله، عن المستورد، عن أبيه، عن عدي بن سهل قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع.
ثم رواه سيف، عن مبشر، عن سالم قال: لما قدم خالد على عمر فذكر مثله.
قال الواقدي: وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمَّر في المسجد الحرام، وأمر بتجديد أنصاب الحرم أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع.
قال الواقدي: وحدثني كثير بن عبد الله المري، عن أبيه، عن جده قال: قدم عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلمه أهل المياه أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
قال الواقدي: وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله ﷺ، ودخل بها في ذي القعدة.
وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها أنه أمهرها أربعين ألفا، وقال: إنما تزوجتها لقول رسول الله ﷺ: « كل سبب ونسب فإنه ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ».
قال: وفي هذه السنة ولى عمر أبا موسى الأشعري البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول، فشهد عليه فيما حدثني معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلي، ونافع بن عبيد، وزياد.
ثم ذكر الواقدي وسيف هذه القصة وملخصها: أن امرأة كان يقال لها أم جميل بنت الأفقم، من نساء بني عامر بن صعصعة، ويقال: من نساء بني هلال.
وكان زوجها من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساء الأمراء والأشراف، وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شعبة، وهو أمير البصرة، وكانت دار المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما طريق، وفي دار أبي بكرة كوة تشرف على كوة في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي بكرة شنآن.
فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدثون في العلية إذ فتحت الريح باب الكوة، فقام أبو بكرة ليغلقها، فإذا كوة المغيرة مفتوحة، وإذا هو على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يجامعها.
فقال أبو بكرة لأصحابه: تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأم جميل، فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة.
فقالوا لأبي بكرة: ومن أين قلت أنها أم جميل؟ - وكان رأساهما من الجانب الآخر -.
فقال: انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة، فقال أبو بكرة: هذه أم جميل. فعرفوها فيما يظنون.
فلما خرج المغيرة وقد اغتسل ليصلي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم.
وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى أبا موسى الأشعري أميرا على البصرة.
وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد.
فقال المغيرة: والله ما جاء أبو موسى تاجرا ولا زائرا ولا جاء إلا أميرا.
ثم قدم أبو موسى على الناس وناول المغيرة كتابا من عمر، هو أوجز كتاب فيه:
أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم ما في يديك والعجل.
وكتب إلى أهل البصرة: إني قد وليت عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن دينكم، وليجبي لكم فيأكم، ثم ليقسمه بينكم.
وأهدى المغيرة لأبي موسى جارية من مولدات الطائف تسمى: عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، وكانت فارهة.
وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه، وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد بن أمية، وشبل بن معبد البجلي.
فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني؟ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم يستتروا؟ أو مستدبري فكيف استحلوا النظر في منزلي على امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي، وكانت تشبهها.
فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة.
قال: كيف رأيتهما؟
قال: مستدبرهما.
قال: فكيف استبنت رأسها؟
قال: تحاملت.
ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك.
فقال: استقبلتهما أم استدبرتهما؟
قال: استقبلتهما.
وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم.
قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان، وأستين مكشوفتين، وسمعت حفزانا شديدا.
قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟
قال: لا.
قال: فهل تعرف المرأة؟
قال: لا، ولكن أشبهها.
قال: فتنح.
وروي: أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك، ثم أمر بثلاث فجلدوا الحد، وهو يقرأ قوله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [12].
فقال المغيرة: إشفني من الأعبد.
قال: اسكت، اسكت الله فاك، والله لو تمت الشهادة لرجمناك بأحجارك.
فتح الأهواز ومناذر ونهر تيري
قال ابن جرير: كان في هذه السنة.
وقيل: في سنة ست عشرة.
ثم روي من طريق سيف، عن شيوخه: أن الهرمزان كان قد تغلب على هذه الأقاليم، وكان ممن فر يوم القادسية من الفرس، فجهز أبو موسى من البصرة، وعتبة بن غزوان من الكوفة جيشين لقتاله، فنصرهم الله عليه، وأخذوا منه ما بين دجلة إلى دجيل، وغنموا من جيشه ما أرادوا، وقتلوا من أرادوا، ثم صانعهم وطلب مصالحتهم عن بقية بلاده، فشاورا في ذلك عتبة بن غزوان، فصالحه، وبعث بالأخماس والبشارة إلى عمر، وبعث وفدا فيهم الأحنف بن قيس.
فأعجب عمر به، وحظي عنده.
وكتب إلى عتبة يوصيه به، ويأمره بمشاورته والاستعانة برأيه.
ثم نقض الهرمزان العهد والصلح، واستعان بطائفة من الأكراد، وغرته نفسه، وحسن له الشيطان عمله في ذلك.
فبرز إليه المسلمون فنصروا عليه، وقتلوا من جيشه جما غفيرا، وخلقا كثيرا، وجمعا عظيما، واستلبوا منه ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى تستر، فتحصن بها، وبعثوا إلى عمر بذلك.
وقد قال الأسود بن سريع في ذلك، وكان صحابيا رضي الله عنه:
لعمرك ما أضاع بنو أبينا * ولكن حافظوا فيمن يطيعوا
أطاعوا لربهم وعصاه قوم * أضاعوا أمره فيمن يضيع
مجوس لا ينهنهها كتاب * فلاقوا كبة فيها قبوع
وولى الهرمزان على جواد * سريع الشد يثفنه الجميع
وخلى سرة الأهواز كرها * غداة الجسر إذ نجم الربيع
وقال حرقوص بن زهير السعدي، وكان صحابيا أيضا:
غلبنا الهرمزان على بلاد * لها في كل ناحية ذخائر
سواء برهم والبحر فيها * إذا صارت نواحيها بواكر
لها بجر يعج بجانبيه * جعافر لا يزال لها زواخر
فتح تستر المرة الأولى صلحا
قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في قول سيف وروايته.
وقال غيره: في سنة ست عشرة.
وقال غيره: كانت في سنة تسع عشرة.
ثم قال ابن جرير: ذكر الخبر عن فتحها، ثم ساق من طريق سيف عن محمد، وطلحة، والمهلب، وعمرو قالوا: ولما افتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، وفر الهرمزان بين يديه، فبعث في إثره جزء بن معاوية - وذلك عن كتاب عمر بذلك - فما زال جزء يتبعه حتى انتهى إلى رامهرمز، فتحصن الهرمزان في بلادها، وأعجز جزءا تطلبه، واستحوذ جزء على تلك البلاد والأقاليم والأراضي، فضرب الجزية على أهلها، وعمر عامرها وشق الأنهار إلى خرابها ومواتها، فصارت في غاية العمارة والجودة.
ولما رأى الهرمزان ضيق بلاده عليه لمجاورة المسلمين، طلب من جزء بن معاوية المصالحة، فكتب إلى حرقوص، فكتب حرقوص إلى عتبة بن غزوان، وكتب عتبة إلى عمر في ذلك، فجاء الكتاب العمري بالمصالحة على رامهرمز، وتستُر، وجندسابور، ومدائن أخر من ذلك.
فوقع الصلح على ذلك، كما أمر به عمر رضي الله عنه.
ذكر غزو بلاد فارس من ناحية البحرين عن ابن جرير عن سيف
وذلك أن العلاء بن الحضرمي كان على البحرين في أيام الصديق، فلما كان عمر عزله عنها، وولاها لقدامة بن مظعون.
ثم أعاد العلاء بن الحضرمي إليها، وكان العلاء الحضرمي يباري سعد بن أبي وقاص.
فلما افتتح سعد القادسية، وأزاح كسرى عن داره، وأخذ حدود ما يلي السواد واستعلى وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرمي من ناحية البحرين.
فأحب العلاء أن يفعل فعلا في فارس نظير ما فعله سعد فيهم، فندب الناس إلى حربهم، فاستجاب له أهل بلاده، فجزأهم أجزاء، فعلى فرقة الجارود بن المعلي، وعلى الأخرى السوار بن همام، وعلى الأخرى خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد هو أمير الجماعة.
فحملهم في البحر إلى فارس، وذلك بغير إذن عمر له في ذلك - وكان عمر يكره ذلك، لأن رسول الله ﷺ وأبا بكر ما أغزيا فيه المسلمين - فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا من عند أصطخر، فحالت فارس بينهم وبين سفنهم، فقام في الناس خليد بن المنذر، فقال:
أيها الناس، إنما أراد هؤلاء القوم بصنيعهم هذا محاربتكم، وأنتم جئتم لمحاربتهم، فاستعينوا بالله وقاتلوهم، فإنما الأرض والسفن لمن غلب، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، فأجابوه إلى ذلك، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم، فاقتتلوا قتالا شديدا في مكان من الأرض، يدعى: طاوس.
ثم أمر خليد المسلمين فترجلوا وقاتلوا، فصبروا ثم ظفروا، فقتلوا فارس مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها.
ثم خرجوا يريدون البصرة، فغرقت بهم سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا، ووجدوا شهرك في أهل أصطخر قد أخذوا على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا من العدو.
ولما بلغ عمر صنع العلاء بن الحضرمي اشتد غضبه عليه، وبعث إليه فعزله، وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه.
فقال: الحق بسعد بن أبي وقاص
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: أن العلاء بن الحضرمي خرج بجيش، فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم أن لا ينصروا، أن يغلبوا وينشبوا، فأندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا.
فندب عتبة المسلمين، وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك، فانتدب جماعة من الأمراء الأبطال، منهم: هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، والأحنف بن قيس، وغيرهم، في اثني عشر ألفا.
وعلى الجميع أبو سبرة بن أبي رهم.
فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعا، فساروا على الساحل لا يلقون أحدا حتى انتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب العلاء، وبين أهل فارس بالمكان المسمى: بطاوس، وإذا خليد بن المنذر ومن معه من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب، وقد تداعت عليهم تلك الأمم من كل وجه، وقد تكاملت أمداد المشركين، ولم يبق إلا القتال.
فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم، فالتقوا مع المشركين رأسا، فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة، وقتل منهم مقتلة عظيمة جدا، وأخذ منهم أموالا جزيلةً باهرةً، واستنقذ خليدا ومن معه من المسلمين من أيديهم، وأعز به الإسلام وأهله، ودفع الشرك وذله، ولله الحمد والمنة.
ثم عادوا إلى عتبة بن غزوان إلى البصرة.
ولما استكمل عتبة فتح تلك الناحية، استأذن عمر في الحج فأذن له، فسار إلى الحج، واستخلف على البصرة أبا سبرة بن أبي رهم واجتمع بعمر في الموسم، وسأله أن يقيله فلم يفعل، وأقسم عليه عمر ليرجعن إلى عمله.
فدعا عتبة الله عز وجل فمات ببطن نخلة، وهو منصرف من الحج فتأثر عليه عمر، وأثنى عليه خيرا، وولى بعده بالبصرة المغيرة بن شعبة، فوليها بقية تلك السنة والتي تليها، لم يقع في زمانه حدث، وكان مرزوق السلامة في عمله.
ثم وقع الكلام في تلك المرأة من أبي بكرة، فكان أمره ما قدمنا.
ثم بعث إليها أبا موسى الأشعري واليا عليها رضي الله عنهم.
ذكر فتح تستر ثانية وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب
قال ابن جرير: كان ذلك في هذه السنة في رواية سيف بن عمر التميمي.
وكان سبب ذلك: أن يزدجرد كان يحرض أهل فارس في كل وقت، ويؤنبهم بملك العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم، فكتب إلى أهل الأهواز وأهل فارس، فتحركوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرة.
وبلغ الخبر إلى عمر، فكتب إلى سعد - وهو بالكوفة -: أن ابعث جيشا كثيفا إلى الأهواز مع النعمان بن مقرن وعجل وليكونوا بإزاء الهرمزان، وسمى رجالا من الشجعان الأعيان الأمراء يكونون في هذا الجيش، منهم
- جرير بن عبد الله البجلي، وجرير بن عبد الله الحِمْيَري، والنعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، وعبد الله بن ذي السهمين.
وكتب عمر إلى أبي موسى وهو بالبصرة: أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا، وأمر عليهم سهيل بن عدي، وليكن معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن ثور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد.
وليكن على أهل الكوفة، وأهل البصرة جميعا أبو سبرة بن أبي رهم، وعلى كل من أتاه من المدد.
قالوا: فسار النعمان بن مقرن بجيش الكوفة، فسبق البصريين فانتهى إلى رامهرمز، وبها الهرمزان، فخرج إليه الهرمزان في جنده ونقض العهد بينه وبين المسلمين، فبادره طمعا أن يقتطعه قبل مجيء أصحابه من أهل البصرة رجاء أن ينصر أهل فارس.
فالتقى معه النعمان بن مقرن بأربل فاقتتلا قتالا شديدا، فهزم الهرمزان وفر إلى تستر، وترك رامهرمز فتسلمها النعمان عنوةً وأخذ ما فيها من الحواصل، والذخائر، والسلاح، والعدد.
فلما وصل الخبر إلى أهل البصرة بما صنع الكوفيون بالهرمزان، وأنه فر فلجا إلى تستر، ساروا إليها، ولحقهم أهل الكوفة حتى أحاطوا بها فحاصروها جميعا، وعلى الجميع أبو سبرة، فوجدوا الهرمزان قد حشد بها خلقا كثيرا وجما غفيرا.
وكتبوا إلى عمر في ذلك، وسألوه أن يمدهم، فكتب إلى أبي موسى: أن يسير إليهم.
فسار إليهم - وكان أمير أهل البصرة - واستمر أبو سبرة على الإمرة على جميع أهل الكوفة والبصرة، فحاصرهم أشهرا، وكثر القتل من الفريقين، وقتل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك يومئذ مائة مبارز، سوى من قتل غير ذلك، وكذلك فعل كعب بن ثور، ومجزأة بن ثور، وأبو يمامة، وغيرهم من أهل البصرة.
وكذلك أهل الكوفة قتل منهم جماعة مائة مبارزة كحبيب بن قرة، وربعي بن عامر، وعامر بن عبد الأسود، وقد تزاحفوا أياما متعددة، حتى إذا كان في آخر زحف، قال المسلمون للبراء بن مالك - وكان مجاب الدعوة -: يا براء، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا.
فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني.
قال: فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم واقتحموها عليهم، ولجأ المشركون إلى البلد فتحصنوا به وقد ضاقت بهم البلد، وطلب رجل من أهل البلد الأمان من أبي موسى فأمنه، فبعث يدل المسلمين على مكان يدخلون منه إلى البلد، وهو من مدخل الماء إليها، فندب الأمراء الناس إلى ذلك، فانتدب رجال من الشجعان والأبطال.
وجاؤوا فدخلوا مع الماء - كالبط - إلى البلد، وذلك في الليل، فيقال: كان أول من دخلها عبد الله بن مغفل المزني، وجاؤا إلى البوابين فأناموهم وفتحوا الأبواب، وكبر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت الفجر إلى أن تعالى النهار.
ولم يصلوا الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس - كما حكاه البخاري عن أنس بن مالك قال: شهدت فتح تستر، وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس بالفتح فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس، فما أحب أن لي بتلك الصلاة حمر النعم.
احتج بذلك البخاري لمكحول والأوزاعي في ذهابهما إلى جواز تأخير الصلاة لعذر القتال.
وجنح إليه، البخاري واستدل بقصة الخندق في قوله عليه السلام: « شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا »
وبقوله يوم بني قريظة: « لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ».
فأخرها فريق من الناس إلى بعد غروب الشمس، ولم يعنفهم، وقد تكلمنا على ذلك في غزوة الفتح.
والمقصود: أن الهرمزان لما فتحت البلد لجأ إلى القلعة فتبعه جماعة من الأبطال ممن ذكرنا وغيرهم، فلما حصروه في مكان من القلعة ولم يبق إلا تلافه أو تلافهم، قال لهم بعد ما قتل البراء بن مالك، ومجزأة بن ثور رحمهما الله: إن معي جعبة فيها مائة سهم، وإنه لا يتقدم إلى أحد منكم إلا رميته بسهم فقتلته، ولا يسقط لي سهم إلا في رجل منكم، فماذا ينفعكم إن أسرتموني بعد ما قتلت منكم مائة رجل؟.
قالوا: فماذا تريد؟.
قال: تؤمنوني، حتى أسلمكم يدي، فتذهبوا بي إلى عمر بن الخطاب، فيحكم فيَّ كما يشاء.
فأجابوه إلى ذلك، فألقى قوسه ونشابه، وأسروه فشدوه وثاقا، وأرصدوه ليبعثوه إلى أمير المؤمنين عمر، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل، فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كل فارس ثلاثة آلاف، وكل راجل ألف درهم.
فتح السويس
ثم ركب أبو سبرة في طائفة من الجيش، ومعه أبو موسى الأشعري، والنعمان بن مقرن، واستصحبوا معهم الهرمزان، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس حتى نزلوا على السوس، فأحاطوا بها.
وكتب أبو سبرة إلى عمر، فجاء الكتاب بأن يرجع أبو موسى إلى البصرة، وأمر عمر زر بن عبد الله بن كليب العقيمي - وهو صحابي - أن يسير إلى جندسابور. فسار.
ثم بعث أبو سبرة بالخمس، وبالهرمزان مع وفد فيهم أنس بن مالك، والأحنف بن قيس، فلما اقتربوا من المدينة هيؤا الهرمزان بلبسه الذي كان يلبسه من الديباج والذهب المكلل بالياقوت واللآلئ.
ثم دخلوا المدينة وهو كذلك، فتيمموا به منزل أمير المؤمنين، فسألوا عنه فقالوا: إنه ذهب إلى المسجد بسبب وفد من الكوفة، فجاؤا المسجد فلم يروا أحدا فرجعوا، فإذا غلمان يلعبون فسألوهم عنه، فقالوا: إنه نائم في المسجد متوسدا برنسا له.
فرجعوا إلى المسجد، فإذا هو متوسد برنسا كان قد لبسه للوفد، فلما انصرفوا عنه توسد البرنس ونام وليس في المسجد غيره، والدرة معلقة في يده.
فقال الهرمزان: أين عمر؟
فقالوا: هو ذا.
وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوا.
وجعل الهرمزان يقول: وأين حجابه؟ أين حرسه؟
فقالوا: ليس له حجاب، ولا حرس، ولا كاتب، ولا ديوان.
فقال: ينبغي أن يكون نبيا.
فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء.
وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان فقال: الهرمزان؟
قالوا: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه، ثم قال: أعوذ بالله من النار، وأستعين بالله.
ثم قال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غدارة.
فقال له الوفد: هذا ملك الأهواز فكلمه.
فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.
ففعلوا ذلك، وألبسوه ثوبا صفيقا، فقال عمر: يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟
فقال: يا عمر إنا وإياكم في الجاهلية، كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا.
فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.
ثم قال: ما عذرك، وما حجتك في إنقاضك مرة بعد مرة؟
فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.
قال: لا تخف ذلك.
فاستسقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في هذا، فأتي به قدح آخر يرضاه، فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب؟
فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه.
فقال عمر: أعيدوه عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.
فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأنس به.
فقال له عمر: إني قاتلك؟
فقال: إنك أمنتني؟
قال: كذبت.
فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين.
فقال عمر: ويحك يا أنس، أنا أؤمن من قبل مجزأة والبراء؟ لتأتيني بمخرج وإلا عاقبتك.
قال قلت: لا بأس عليك، حتى تخبرني.
وقلت: لأباس عليك حتى تشربه.
وقال له من حوله مثل ذلك.
فأقبل على الهرمزان فقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم، فأسلم، ففرض له في ألفين، وأنزله المدينة.
وفي رواية: إن الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان المغيرة بن شعبة، فقال له عمر: قل له من أي أرض أنت؟
قال: مهرجاني.
قال: تكلم بحجتك.
فقال: أكلام حي أم ميت؟
قال: بل كلام حي.
فقال: قد أمنتني.
فقال: خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم، فأسلم، ففرض له في ألفين، وأنزله المدينة، ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضا.
قلت: وقد حسن إسلام الهرمزان، وكان لا يفارق عمر حتى قتل عمر، فاتهمه بعض الناس بمملأة أبي لؤلؤة هو وجفينة، فقتل عبد الله بن عمر الهرمزان وجفينة على ما سيأتي تفصيله.
وقد روينا: أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال: لا إله إلا الله، وأما جفينه: فصلب على وجهه.
والمقصود: أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسعوا في بلاد العجم خوفا عليهم من العجم، حتى أشار عليه الأحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسعهم في الفتوحات، فإن الملك يزدجرد لا يزال يستحثهم على قتال المسلمين، وإن لم يستأصل شأو العجم، وإلا طمعوا في الإسلام وأهله، فاستحسن عمر ذلك منه وصوبه.
وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم، ففتحوا بسبب ذلك شيئا كثيرا، ولله الحمد.
وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة كما سيأتي بيانه فيها.
ثم نعود إلى فتح السوس، وجندسابور، وفتح نهاوند في قول سيف: كان قد تقدم أن أبا سبرة سار بمن معه من علية الأمراء من تستر إلى السوس فنازلها حينا، وقتل من الفريقين خلق كثير، فأشرف عليه علماء أهلها فقالوا: يا معشر المسلمين، لا تتعبوا في حصار هذا البلد، فإنا نأثر فيما نرويه عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجال، أو قوم معهم الدجال.
واتفق: أنه كان في جيش أبي موسى الأشعري صاف بن صياد، فأرسله أبو موسى فيمن يحاصره، فجاء إلى الباب فدقه برجله فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق، ودخل المسلمون البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالأمان، ودعوا إلى الصلح فأجابوهم إلى ذلك، وكان على السوس شهريار أخو الهرمزان، فاستحوذ المسلمون على السوس، وهو بلد قديم العمارة في الأرض يقال: إنه أول بلد وضع على وجه الأرض. والله أعلم.
وذكر ابن جرير: أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما قدم بها بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره، فكتب إليه: أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره ففعل.
وقد بسطنا ذلك في سيرة عمر ولله الحمد.
قال ابن جرير: وقال بعضهم: أن فتح السوس، ورامهز، وتسيير الهرمزان من تستر إلى عمر في سنة عشرين والله أعلم.
وكان الكتاب العمري قد ورد: بأن النعمان بن مقرن يذهب إلى أهل نهاوند، فسار إليها فمر بماه - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها، ثم ذهب إلى نهاوند ففتحها، ولله الحمد.
قلت: المشهور أن فتح نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين كما سيأتي فيها بيان ذلك، وهي وقعة عظيمة، وفتح كبير، وخبر غريب، ونبأ عجيب.
وفتح زر بن عبد الله الفقيمي مدينة جندي سابور، فاستوثقت تلك البلاد للمسلمين، هذا وقد تحول يزدجرد من بلد إلى بلد حتى انتهى أمره إلى الإقامة بأصبهان، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريبا من ثلاثمائة من العظماء عليهم رجل يقال له: سياه، فكانوا يفرون من المسلمين من بلد إلى بلد حتى فتح المسلمون تستر واصطخر.
فقال سياه لأصحابه: إن هؤلاء بعد الشقاء والذلة ملكوا أماكن الملوك الأقدمين، ولا يلقون جندا إلا كسروه، والله ما هذا عن باطل. - ودخل في قلبه الإسلام وعظمته - فقالوا له: نحن تبع لك.
وبعث عمار بن ياسر في غضون ذلك يدعوهم إلى الله، فأرسلوا إلى أبي موسى الأشعري بإسلامهم.
وكتب فيهم إلى عمر في ذلك، فأمره أن يفرض لهم في ألفين ألفين، وفرض لستة منهم في ألفين وخمسمائة، وحسن إسلامهم، وكان لهم نكاية عظيمة في قتال قومهم حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصنا فامتنع عليهم، فجاء أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن، وضمخ ثيابه بدم، فلما نظروا إليه حسبوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليأووه، فثار إلى البواب فقتله، وجاء بقية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن، وقتلوا من فيه من المجوس.
إلى غير ذلك من الأمور العجيبة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وذكر ابن جرير: أن عمر بن الخطاب عقد الألوية والرايات الكبيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم، كما أشار عليه بذلك الأحنف بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها كما سنبينه وننبه عليه، ولله الحمد والمنة.
قال: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم ذكر نوابه على البلاد، وهم من ذكر في السنة قبلها غير المغيرة فإن على البصرة بدله أبو موسى الأشعري.
قلت: وقد توفي في هذه السنة أقوام، قيل أنهم توفوا قبلها وقد ذكرناهم، وقيل فيما بعدها، وسيأتي ذكرهم في أماكنهم والله تعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة
المشهور الذي عليه الجمهور: أن طاعون عمواس كان بها، وقد تبعنا قول سيف بن عمر وابن جرير في إيراده ذلك في السنة التي قبلها، لكنا نذكر وفاة من مات في الطاعون في هذه السنة إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق، وأبو معشر: كان في هذه السنة طاعون عمواس، وعام الرمادة، فتفانى فيهما الناس.
قلت: كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعا شديدا، وقد بسطنا القول في ذلك في سيرة عمر.
وسميت عام الرمادة: لأن الأرض اسودت من قلة المطر، حتى عاد لونها شبيها بالرماد.
وقيل: لأنها تسفى الريح ترابا كالرماد.
ويمكن أن تكون سميت لكل منها والله أعلم.
وقد أجدبت الناس في هذا السنة بأرض الحجاز، وجفلت الأحياء إلى المدينة، ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه مِن الأطعمة والأموال حتى أنفذه، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا سمينا حتى يكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصب يبث له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت.
وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لون عمر رضي الله عنه وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف.
واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة، وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم.
قال الشافعي: بلغني أن رجلا من العرب قال لعمر حين ترحلت الأحياء عن المدينة: لقد انجلت عنك، ولأنك لابن حرة. أي: واسيت الناس، وأنصفتهم، وأحسنت إليهم.
وقد روينا: أن عمر عس المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلا يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إن السؤّال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال، والناس في همٍّ وضيق، فهم لا يتحدثون ولا يضحكون.
فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة: أن يا غوثاه لأمة محمد.
وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر: أن يا غوثاه لأمة محمد.
فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة، وهذا الأثر جيد الإسناد، لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهم. والله أعلم.
وذكر سيف عن شيوخه: أن أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحله تحمل طعاما، فأمره عمر بتفريقها في الأحياء حول المدينة، فلما فرغ من ذلك أمر له بأربعة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها، فلح عليه عمر حتى قبلها.
وقال سيف بن عمرو، عن سهل بن يوسف السلمي، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول سنة ثماني عشرة، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس، حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، فكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسولُ رسول الله إليك، يقول لك رسول الله ﷺ: « لقد عهدتك كيسا، وما زلت على ذلك فما شأنك؟ »
قال: متى رأيت هذا؟
قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس الصلاة جامعة، فصلى بهم ركعتين، ثم قام فقال:
أيها الناس: أنشدكم الله هل تعلمون مني أمرا غيره خير منه.
فقالوا: اللهم لا.
فقال: إن بلال بن الحارث يزعم ذية وذية.
قالوا: صدق بلال، فاستغث بالله، ثم بالمسلمين.
فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر: الله أكبر، بلغ البلاء مدته فانكشف. ما أذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم الأذى والبلاء.
وكتب إلى أمراء الأمصار: أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم.
وأخرج الناس إلى الاستسقاء فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشيا، فخطب وأوجز وصلى ثم حثى لركبتيه وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأرض عنا.
ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران.
ثم روى سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب: أن رجلا من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة فقال: ليس فيهن شيء.
فألحوا عليه فذبح شاة فإذا عظامها حمر فقال: يا محمداه.
فلما أمسى أري في المنام أن رسول الله ﷺ يقول له: أبشر بالحياة، إيت عمر فأقره مني السلام، وقل له إن عهدي بك وفيّ العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر.
فجاء حتى أتى باب عمر، فقال لغلامه: استأذن لرسول الله ﷺ.
فأتى عمر فأخبره ففزع، ثم صعد عمر المنبر فقال للناس: أنشدكم الله الذي هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئا تكرهونه؟
فقالوا: اللهم لا. وعم ذلك؟
فأخبرهم بقول المزني - وهو بلال بن الحارث - ففطنوا ولم يفطن.
فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا.
فنادى في الناس فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عن أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اسقنا وأحي العباد والبلاد.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، وأبو بكر الفارسي قالا: حدثنا أبو عمر بن مطر، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبي ﷺ.
فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا.
فأتاه رسول الله ﷺ في المنام فقال: إيت عمر، فأقرئه مني السلام، وأخبرهم أنه مسقون، وقل له عليك بالكيس الكيس.
فأتى الرجل فأخبر عمر، فقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه.
وهذا إسناد صحيح.
وقال الطبراني: حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا أبو محمد الأنصاري، ثنا أبي، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس: أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي، يقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ﷺ.
وقد رواه البخاري، عن الحسن بن محمد، عن محمد بن عبد الله به، ولفظه عن أنس: أن عمر كان إذا قحطوا يستسقي بالعباس بن عبد المطلب فيقول: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.
قال: فيسقون.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا - في (كتاب المطر)، وفي كتاب (مجابي الدعوة) - حدثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا عطاء بن مسلم، عن العمري، عن خوات بن جبير قال: خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مطروا، فقدم أعراب فقالوا: يا أمير المؤمنين بينا نحن في وادينا في ساعة كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا منها صوتا: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار حتى رجع فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت.
فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارا } [13]، ثم قرأ: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } الآية [14].
وذكر ابن جرير في هذا السنة من طريق سيف بن عمر، عن أبي المجالد، والربيع، وأبي عثمان، وأبي حارثة، وعن عبد الله بن شبرمة، عن الشعبي قالوا: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب أن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل بن سهل، فسألناهم فقالوا: خيرنا فاخترنا.
قال: فهل أنتم منتهون؟ ولم يعزم.
فجمع عمر الناس فأجمعوا على خلافهم، وأن المعنى: فهل أنتم منتهون؟ أي: انتهوا.
وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين.
وأن من تأول هذا التأويل وأصر عليه يقتل.
فكتب عمر إلى أبي عبيدة: أن ادعهم فسلهم عن الخمر، فإن قالوا: هي حلال، فاقتلهم، وإن قالوا: هي حرام، فاجلدهم.
فاعترف القوم بتحريمها، فجلدوا الحد وندموا على ما كان منهم من اللجاجة فيما تأولوه، حتى وسوس أبو جندل في نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في ذلك، وسأله أن يكتب إلى أبي جندل ويذكره.
فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك: من عمر إلى أبي جندل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فتب وارفع رأسك، وابرز ولا تقنط فإن الله تعالى يقول: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [15].
وكتب عمر إلى الناس: إن عليكم أنفسكم ومن غير فغيروا عليه، ولا تعيروا أحدا فيفشوا فيكم البلاء، وقد قال أبو الزهراء القشيري في ذلك:
ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى * وليس على صرف المنون بقادر
صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي * ولست عن الصهباء يوما بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها * فخلانها يبكون حول المقاصر
قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام - وكان ملصقا بجدار الكعبة - فأخره إلى حيث هو الآن لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين.
قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد والمنة.
قال: وفيها: استقضى عمر شريحا على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة.
قال: وفيها: حج عمر بالناس، وكانت نوابه فيها الذين تقدم ذكرهم في السنة الماضية.
وفيها: فتحت الرقة، والرها، وحران، على يدي عياض بن غنم.
قال: وفتحت رأس عين الوردة على يدي عمر بن سعد بن أبي وقاص.
وقال غيره خلاف ذلك.
وقال شيخنا الحافظ الذهبي في (تاريخه): وفيها - يعني: هذه السنة - افتتح أبو موسى الأشعري الرها وشمشاط عنوة.
وفي أوائلها: وجه أبو عبيدة عياض بن غنيم إلى الجزيرة، فوافق أبا موسى فافتتحا حران، ونصيبين، وطائفة من الجزيرة عنوة، وقيل: صلحا.
وفيها: سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة.
وفيها: بنى سعد جامع الكوفة.
وقال الواقدي: وفيها: كان طاعون عمواس، فمات فيه خمسة وعشرون ألفا.
قلت: هذا الطاعون منسوب إلى بلدة صغيرة يقال لها: عمواس - وهي بين القدس والرمله - لأنها كانت أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الواقدي: توفي في عام طاعون عمواس من المسلمين بالشام خمسة وعشرون ألفا.
وقال غيره: ثلاثون ألفا.
ذكر طائفة من أعيانهم رضي الله عنهم
الحارث بن هشام
أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح، وكان سيدا شريفا في الإسلام كما كان في الجاهلية، استشهد بالشام في هذه السنة في قول، وتزوج عمر بعده بامرأته فاطمة.
شرحبيل بن حسنة
أحد أمراء الأرباع، وهو أمير فلسطين، وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن قطن الكندي حليف بني زهرة، وحسنة أمه، نسب إليها وغلب عليه ذلك، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة، وجهزه الصديق إلى الشام، فكان أميرا على ربع الجيش، وكذلك في الدولة العمرية، وطعن هو وأبو عبيدة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد سنة ثماني عشرة.
له حديثان، روى ابن ماجه أحدهما في الوضوء وغيره.
عامر بن عبد الله بن الجراح
ابن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي، أبو عبيدة بن الجراح الفهري، أمين هذه الأمة، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الخمسة الذين أسلموا في يوم واحد، وهم: عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح.
أسلموا على يدي الصديق.
ولما هاجروا آخى رسول الله ﷺ بينه وبين سعد بن معاذ، وقيل: بين محمد بن مسلمة.
وقد شهد بدرا وما بعدها، وقال رسول الله ﷺ: « إن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح »، ثبت ذلك في الصحيحين.
وثبت في الصحيحين أيضا: أن الصديق قال يوم السقيفة: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوه - يعني عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة -.
وبعثه الصديق أميرا على ربع الجيش إلى الشام، ثم لما انتدب خالدا من العراق، كان أميرا على أبي عبيدة وغيره لعلمه بالحروب.
فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالدا وولى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالدا، فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد.
قال ابن عساكر: وهو أول من سمي أمير الأمراء بالشام.
قالوا: وكان أبو عبيدة طوالا نحيفا أجنى معروق الوجه، خفيف اللحية، أهتم، وذلك لأنه لما انتزع الحلقتين من وجنتي رسول الله ﷺ يوم أحد خاف أن يؤلم رسول الله ﷺ فتحامل على ثنيتيه فسقطتا، فما رأى أحسن هتما منه.
توفي بالطاعون عام عمواس كما تقدم سياقه في سنة ست عشرة عن سيف بن عمر.
والصحيح: أن عمواس كانت في هذه السنة - سنة ثماني عشرة - بقرية فحل، وقيل: بالجابية.
وقد اشتهر في هذه الأعصار قبر بالقرب من عقبة ينسب إليه والله أعلم.
وعمره يوم مات: ثمان وخمسون سنة.
الفضل بن عباس بن عبد المطلب
كان حسنا وسيما جميلا، أردفه رسول الله ﷺ وراءه يوم النحر من حجة الوداع، وهو شاب حسن، وقد شهد فتح الشام، واستشهد بطاعون عمواس في قول محمد بن سعد، والزبير بن بكار، وأبي حاتم، وابن الرقي وهو الصحيح.
وقيل: يوم مرج الصفر، وقيل: بأجنادين.
ويقال: باليرموك سنة ثمان وعشرين.
ابن عمرو بن أوس بن عابد بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن المدني، صحابي جليل كبير القدر.
معاذ بن جبل
قال الواقدي: كان طوالا حسن الشعر والثغر، براق الثنايا، لم يولد له.
وقال غيره: بل ولد له ولد وهو عبد الرحمن.
شهد معه اليرموك. وقد شهد معاذ العقبة.
ولما هاجر الناس آخى رسول الله ﷺ بينه وبين ابن مسعود.
وحكى الواقدي الإجماع على ذلك.
وقد قال محمد بن إسحاق: آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب.
وشهد بدرا وما بعدها. وكان أحد الأربعة من الخزرج الذين جمعوا القرآن في حياة النبي ﷺ وهم: أُبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد عمر بن أنس بن مالك.
وصح في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من حديث حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن الصنابحي، عن معاذ: أن رسول الله ﷺ قال له: « يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ».
وفي المسند، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا: « وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ».
وقد بعثه رسول الله ﷺ إلى اليمن وقال له: « بم تحكم؟ »
فقال: بكتاب الله، وبالحديث.
وكذلك أقره الصديق على ذلك يعلم الناس الخير باليمن.
ثم هاجر إلى الشام فكان بها حتى مات بعد ما استخلفه أبو عبيدة حين طعن ثم طعن بعده في هذه السنة.
وقد قال عمر بن الخطاب: إن معاذا يبعث أمام العلماء بربوة.
ورواه محمد بن كعب مرسلا.
وقال ابن مسعود: كنا نشبهه بإبراهيم الخليل.
وقال ابن مسعود: إن معاذا كان قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين.
وكانت وفاته شرقي غور بيسان، سنة ثماني عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.
وقيل: سبع عشرة، عن ثمان وثلاثين سنة على المشهور.
وقيل غير ذلك والله أعلم.
يزيد بن أبي سفيان
أبو خالد صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أخو معاوية، وكان يزيد أكبر وأفضل.
وكان يقال له: يزيد الخير، أسلم عام الفتح، وحضر حنينا وأعطاه رسول الله ﷺ مائة من الإبل وأربعين أوقية.
واستعمله الصديق على ربع الجيش إلى الشام، وهو أول أمير وصل إليها، ومشى الصديق في ركابه يوصيه، وبعث معه أبا عبيدة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فهؤلاء أمراء الأرباع.
ولما افتتحوا دمشق دخل هو من باب الجابية الصغير عنوة كخالد في دخوله من الباب الشرقي عنوة، وكان الصديق قد وعده بإمرتها، فوليها عن أمر عمر وأنفذ له ما وعده الصديق، وكان أول من وليها من المسلمين.
المشهور: أنه مات في طاعون عمواس كما تقدم.
وزعم الوليد بن مسلم: أنه توفي سنة تسع عشرة بعد ما فتح قيسارية.
ولما مات كان قد استخلف أخاه معاوية على دمشق، فأمضى عمر بن الخطاب له ذلك رضي الله عنهم، وليس في الكتب شيء.
وقد روى عنه أبو عبد الله الأشعري: أن رسول الله ﷺ قال: « مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده مثل الجائع الذي لا يأكل إلا التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئا ».
أبو جندل بن سهيل
ابن عمرو، وقيل: اسمه العاص.
أسلم قديما، وقد جاء يوم صلح الحديبية مسلما يوسف في قيوده لأنه كان قد استضعف فرده أبوه وأبى أن يصالح حتى يرد، ثم لحق أبو جندل بأبي بصير إلى سيف البحر، ثم هاجر إلى المدينة وشهد فتح الشام.
وقد تقدم أنه تأول آية الخمر ثم رجع، ومات بطاعون عمواس رحمه الله ورضي عنه.
أبو عبيدة بن الجراح هو عامر بن عبد الله تقدم.
أبو مالك الأشعري، قيل: اسمه كعب بن عاصم، قدم مهاجرا سنة خيبر مع أصحاب السفينة، وشهد ما بعدها، واستشهد بالطاعون عام عمواس هو وأبو عبيدة ومعاذ في يوم واحد رضي الله عنهم أجمعين.
ثم دخلت سنة تسع عشرة
قال الواقدي وغيره: كان فتح المدائن وجلولاء فيها.
والمشهور خلاف ما قال كما تقدم.
وقال محمد ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرها وحران ورأس العين ونصيبين في هذه السنة.
وقد خالفه غيره.
وقال أبو معشر وخليفة وابن الكلبي: كان فتح قيسارية في هذه السنة وأميرها معاوية، وقال غيره: يزيد بن أبي سفيان.
وقد تقدم أن معاوية افتتحها قبل هذا بسنتين.
وقال محمد بن إسحاق: كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين.
وقال سيف بن عمر: كان فتح قيسارية وفتح مصر في سنة ست عشرة.
قال ابن جرير: فأما فتح قيسارية فقد تقدم، وأما فتح مصر فإني سأذكره في سنة عشرين إن شاء الله تعالى.
قال الواقدي: وفي هذه السنة ظهرت نار من حرة ليلا فأراد عمر أن يخرج بالرجال إليها، ثم أمر المسلمين بالصدقة فطفئت ولله الحمد.
ويقال: كان فيها وقعة أرمينية، وأميرها عثمان بن أبي العاص، وقد أصيب فيها صفوان بن المعطل بن رخصة السلمي ثم الذكواني، وكان أحد الأمراء يومئذ.
وقد قال رسول الله ﷺ: « ما علمت عليه إلا خيرا » وهو الذي ذكره المنافقون في قصة الإفك فبرأ الله ساحته، وجناب أم المؤمنين زوجة رسول الله ﷺ مما قالوا.
وقد كان إلى حين قالوا: لم يتزوج ولهذا قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط.
ثم تزوج بعد ذلك، وكان كثير النوم ربما غلب عليه عن صلاة الصبح في وقتها، كما جاء في سنن أبي داود وغيره.
وكان شاعرا ثم حصلت له شهادة في سبيل الله.
قيل: بهذا البلد، وقيل: بالجزيرة، وقيل: بشمشاط. وقد تقدم بعض هذا فيما سلف.
وفيها: فتحت تكريت في قول والصحيح قبل ذلك.
وفيها فيما ذكرنا: أسرت الروم عبد الله بن حذافة.
وفيها: في ذي الحجة منها كانت وقعة بأرض العراق قتل فيها أمير المجوس شهرك، وكان أمير المسلمين يومئذ الحكم بن أبي العاص رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وفيها: حج بالناس عمر ونوابه في البلاد وقضاته هم المذكورون قبلها. والله أعلم.
ذكر من توفى فيها من الأعيان
وممن توفي فيها من الأعيان أُبيُّ بن كعب سيد القراء، وهو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو المنذر، وأبو الطفيل الأنصاري النجاري، سيد القراء، شهد العقبة وبدرا وما بعدهما، وكان سيدا جليل القدر.
وهو أحد القراء الأربعة الخزرجيين الذين جمعوا القرآن في حياة رسول الله ﷺ، وقد قال لعمر يوما: إني تلقيت القرآن ممن تلقاه منه جبريل وهو رطب.
وفي المسند، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا: « أقرأ أمتي أبي بن كعب ».
وفي الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال له: « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ».
قال: وسماني لك؟
قال: « نعم ».
فزرفت عيناه، وقد تكلما على ذلك في التفسير عند سورة: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [16].
قال الهيثم بن عدي: توفي أُبيُّ سنة تسع عشرة.
وقال يحيى بن معين: سنة سبع عشرة، أو عشرين.
وقال الواقدي عن غير واحد: توفي سنة ثنتين وعشرين.
وبه قال أبو عبيد وابن نمير وجماعة.
وقال الفلاس وخليفة: توفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفيها: مات خباب مولى عتبة بن غزوان من المهاجرين شهد بدرا وما بعدها، وهو صحابي من السابقين، وصلى عليه عمر.
ومات فيها صفوان بن المعطل في قول كما تقدم والله أعلم.
سنة عشرين من الهجرة
قال محمد بن إسحاق: فيها كان فتح مصر.
وكذا قال الواقدي: أنها فتحت هي والإسكندرية في هذه السنة.
وقال أبو معشر: فتحت مصر سنة عشرين، وإسكندرية في سنة خمس وعشرين.
وقال سيف: فتحت مصر وإسكندرية في سنة ست عشرة في ربيع الأول منها.
ورجح ذلك أبو الحسن بن الأثير في (الكامل) لقصة بعث عمرو الميرة من مصر عام الرمادة، وهو معذور فيما رجحه والله أعلم.
وفيها: كان فتح تستر في قول طائفة من علماء السير بعد محاصرة سنتين وقيل: سنة ونصف. والله أعلم.
صفة فتح مصر عن ابن إسحاق وسيف
قالوا: لما استكمل عمر والمسلمون فتح الشام بعث عمرو بن العاص إلى مصر.
وزعم سيف: أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزبير بن العوام وفي صحبته بشر بن أرطاة وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي. فاجتمعا على باب مصر فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف أبو مريام في أهل الثبات، بعثه المقوقس صاحب إسكندرية لمنع بلادهم، فلما تصافوا قال عمرو بن العاص: لا تعجلوا حتى نعذر، ليبرز إلى بومريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه.
فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا إن الله بعث محمدا ﷺ بالحق، وأمره به وأمرنا به محمد ﷺ، وأدى إلينا كل الذي أمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الأعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفاظا لرحمنا منكم، وإن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة.
ومما عهد إلينا أميرنا استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله ﷺ أوصانا بالقبطيين خيرا، لأن له رحما وذمة.
فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل منف، والملك فيهم فأديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا.
أمَّنَا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجزتكم.
قالا: زدنا، فزادهم يوما.
فقالا: زدنا، فزادهم يوما. فرجعا إلى المقوقس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم.
فقالا لأهل مصر: إما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام قاتلوا، وأشار عليهم بأن يبيتوا المسلمين.
فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم.
فألح الأرطبون في أن يبيتوا للمسلمين، ففعلوا فلم يظفروا بشيء، بل قتل منهم طائفة منهم الأرطبون، وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع. وارتقى الزبير عليهم سور البلد، فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه، واخترق الزبير البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو، فأمضوا الصلح، وكتب لهم عمرو كتاب أمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوبة.
وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم ما حق لصونهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبي بريئة.
وإن نقص نهرهم من غايته رفع عنهم بقدر ذلك.
ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا ي كل ثلث جباية ثلث ما عليهم.
على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول بمصر وعمروا الفسطاط، وظهر أبو مريم، وأبو مريام، فكلما عمرا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة فأبى عمرو أن يردها عليهما، وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أمر أن كل سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمنوها فيها أن يرد عليهم، وكل سبي أخذ ممن لم يقاتل، وكذلك من قاتل فلا يرد عليه سباياه.
وقيل: إنه أمره أن يخيروا من في أيديهم من السبي بين الإسلام وبين أن يرجع إلى أهله، فمن اختار الإسلام فلا يردوه إليهم، ومن اختارهم ردوه عليهم، وأخذوا منه الجزية.
وأما ما تفرق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما، فإنه لا يقدر على ردهم، ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر الوفاء به.
ففعل عمرو ما أمر به أمير المؤمنين، وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم فمنهم من اختار الإسلام، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصلح بينهم.
ثم أرسل عمرو جيشا إلى إسكندرية - وكان المقوقس صاحب إسكندرية قبل ذلك يؤدي خراج بلده وبلد مصر إلى ملك الروم - فلما حاصره عمرو بن العاص جمع أساقفتة وأكابر دولته وقال لهم: إن هؤلاء العرب غلبوا كسرى وقيصر وأزالوهم عن ملكهم ولا طاقة لنا بهم، والرأي عندي: أن نؤدي الجزية إليهم.
ثم بعث إلى عمرو بن العاص يقول: إني كنت أؤدي الخراج إلى من هو أبغض إلي منكم - فارس والروم - ثم صالحه على أداء الجزية، وبعث عمرو بالفتح والأخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر سيف: أن عمرو بن العاص لما التقى مع المقوقس جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف فجعل عمر يزمرهم ويحثهم على الثبات.
فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد.
فقال عمرو: اسكت، فإنما أنت كلب.
فقال له الرجل: فأنت إذا أمير الكلاب. فأعرض عنه عمرو، ونادى يطلب أصحاب رسول الله ﷺ، فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة قال لهم عمرو: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين.
فنهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم وظفروا أتم الظفر.
قال سيف: ففتحت مصر في ربيع الأول من سنة ست عشرة، وقام فيها ملك الإسلام ولله الحمد والمنة.
وقال غيره: فتحت مصر في سنة عشرين، وفتحت إسكندرية في سنة خمسٍ وعشرين، بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة، وقيل: صلحا على ثنتي عشر ألف دينار.
وقد ذكر أن المقوقس سأل من عمرو أن يهادنه أولا، فلم يقبل عمرو وقال له: قد علمتم ما فعلنا بملككم الأكبر هرقل.
فقال المقوقس لأصحابه: صدق فنحن أحق بالإذعان. ثم صالح على ما تقدم.
وذكر غيره: أن عمرا والزبير سارا إلى عين شمس فحاصراها، وأن عمرا بعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية.
فقال كل منهما لأهل بلده: إن نزلتم فلكم الأمان، فتربصوا ماذا يكون من أهل عين شمس، فلما صالحوا صالح الباقون.
وقد قال عوف بن مالك لأهل إسكندرية: ما أحسن بلدكم؟.
فقالوا: إن إسكندر لما بناها قال: لأبنين مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أقبح مدينتكم؟.
فقالوا: إن الفرما - وهو أخو الإسكندر - لما بناها قال: لأبنين مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس، فهي لا يزال ساقطا بناؤها فشوهت بذلك.
وذكر سيف: أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما ولي مصر بعد ذلك زاد في الخراج عليهم رءوسا من الرقيق يهدونها إلى المسلمين في كل سنة، ويعوضهم المسلمون بطعام مسمىً وكسوة.
وأقر ذلك عثمان بن عفان وولاة الأمور بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فأمضاه أيضا نظرا لهم، وإبقاءً لعهدهم.
قلت: وإنما سميت ديرا مصر بالفسطاط، نسبة إلى فسطاط عمرو بن العاص، وذلك أنه نصب خيمته وهي الفسطاط موضع مصر اليوم، وبنى الناس حوله وتركت مصر القديمة من زمان عمرو بن العاص وإلى اليوم، ثم رفع الفسطاط وبنى موضعه جامعا وهو المنسوب إليه اليوم.
وقد غزا المسلمون بعد فتح مصر النوبة فنالهم جراحات كثيرة، وأصيبت أعين كثيرة لجودة رمي النوبة فسموهم جند الحدق، ثم فتحها الله بعد ذلك وله الحمد والمنة.
وقد اختلف في بلاد مصر، فقيل: فتحت صلحا إلا الإسكندرية، وهو قول يزيد بن أبي حبيب.
وقيل: كلها عنوة، وهو قول ابن عمر وجماعة.
وعن عمرو بن العاص: أنه خطب الناس فقال: ما قعدت مقعدي هذا، ولأحد من القبط عندي عهد إن شئت.
قلت: وإن شئت بعت، وإن شئت خمست إلا لأهل الطابلس فإن لهم عهدا نوفي به.
قصة نيل مصر
روينا من طريق ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال: لما افتتحت مصر آتى أهلها عمرو بن العاص - حين دخل بؤنة من أشهر العجم - فقالوا: أيها الأمير، لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها.
قال: وما ذلك؟.
قالوا: إذا كانت اثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل.
فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله.
قال: فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى والنيل لا يجري قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل.
فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك.
قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم.
قال سيف بن عمرو: وفي ذي القعدة من هذه السنة - وهي عنده سنة ست عشرة - جعل عمرو المسالح على أرجاء مصر، وذلك لأن هرقل أغزا الشام ومصر في البحر.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة غزا أرض الروم أبو بحرية عبد الله بن قيس العبدي - وهو أول من دخلها فيما قيل - فسلم وغنم، وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي.
قال الواقدي: وفيها عزل عمر قدامة بن مظعون عن البحرين، وحده في الشراب. وولي على البحرين واليمامة أبا هريرة الدوسي رضي الله عنه.
قال: وفيها: شكا أهل الكوفة سعدا في كل شيء، حتى قالوا: لا يحسن يصلي، فعزله عنها، وولي عليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان - وكان نائب سعد -.
وقيل: بل ولاها عمرو بن ياسر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن عبد الملك سمعه من جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن يصلي.
قال الأعاريب: والله ما آلو بهم صلاة رسول الله ﷺ في الظهر والعصر، أردد في الأوليين وأصرف في الأخيرين.
فسمعت عمر يقول: كذا الظن بك يا أبا إسحاق.
وفي صحيح مسلم: أن عمر بعث من يسأل عنه أهل الكوفة فأثنوا خيرا إلا رجلا يقال له: أبو سعدة قتادة بن أسامة قام فقال: أما إذا أنشدتنا فإن سعدا لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السرية.
فقال سعد: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء سمعه فأطل عمره وأدم فقره وعرضه للفتن. فأصابته دعوة سعد فكان شيخا كبيرا يرفع حاجبيه عن عينيه، ويتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن.
فيقال له في ذلك فيقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
وقد قال عمر في وصيته: - وذكره في الستة - فإن أصابت الإمرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.
قال: وفيها: أجلى عمر يهود خيبر عنها إلى أذرعات وغيرها.
وفيها: أجلى عمر يهود نجران منها أيضا إلى الكوفة، وقسم خيبر، ووادي القرى، ونجران بين المسلمين.
قال: وفيها دون عمر الدواوين، وزعم غيره أنه دونها قبل ذلك فالله أعلم.
قال: وفيها: بعث عمر علقمة بن مجزر المدجلي إلى الحبشة في البحر فأصيبوا فآلى عمر على نفسه أن لا يبعث جيشا في البحر بعدها.
وقد خالف الواقدي في هذا أبو معشر فزعم أن غزوة الحبشة إنما كانت في سنة إحدى وثلاثين - يعني: في خلافة عثمان بن عفان - والله أعلم.
قال الواقدي: وفيها: تزوج عمر فاطمة بنت الوليد بن عتبة. التي مات عنها الحارث بن هشام في الطاعون. وهي: أخت خالد بن الوليد.
قال: وفيها: مات هلال بدمشق، وأسيد بن الحضير في شعبان، وزينب بنت جحش أم المؤمنين. وهي أول من مات من أمهات المؤمنين رضي الله عنها.
قال: وفيها: مات هرقل وقام بعده ولده قسطنطين.
قال: وحج بالناس في هذه السنة عمرو ونوابه وقضاته ومن تقدم في التي قبلها. سوى من ذكرنا أنه عزل وولي غيره.
ذكر المتوفين من الأعيان
أسيد بن الحضير
أسيد بن الحضير بن سماك النصاري الأشهلي من الأوس، أبو يحيى أحد النقباء ليلة العقبة، وكان أبوه رئيس الأوس يوم بعاث، وكان قبل الهجرة بست سنين وكان يقال: حضير الكتائب.
يقال: أنه أسلم على يدي مصعب بن عمير. ولما هاجر الناس آخى رسول الله ﷺ بينه وبين زيد بن حارثة، ولم يشهد بدرا.
وفي الحديث الذي صححه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله ص قال: « نِعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أسيد بن الحضير » وذكر جماعة.
وقدم الشام مع عمر، وأثنت عليه عائشة، وعلى سعد بن معاذ، وعباد بن بشر رضي الله عنهم.
وذكر ابن بكير: أنه توفي بالمدينة سنة عشرين، وأن عمر حمل بين عموديه وصلى عليه، ودفن بالبقيع، وكذا أرخ وفاته سنة عشرين الواقدي وأبو عبيد وجماعة.
أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي
هو وأبوه وجده صحابة، وكان أنيس هذا عينا لرسول الله يوم حنين، يقال: إنه الذي قال له رسول الله ﷺ: « اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ».
والصحيح: أنه غيره فإن في الحديث.
فقال لرجل من أسلم فقيل: أنه أنيس بن الضحاك الأسلمي.
وقد مال ابن الأثير إلى ترجيحه والله أعلم.
له حديث في الفتنة.
قال إبراهيم بن المنذر: توفي في ربيع الأول سنة عشرين.
بلال بن أبي رباح الحبشي المؤذن مولى أبي بكر
ويقال له: بلال بن حمامة وهي: أمه.
أسلم قديما فعذب في الله فصبر، فاشتراه الصديق فأعتقه شهد بدرا وما بعدها.
وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا. رواه البخاري.
ولما شرع الأذان بالمدينة كان هو الذي يؤذن بين يدي رسول الله ﷺ وابن مكتوم يتناوبان، تارة هذا وتارة هذا، وكان بلال ندي الصوت حسنه، فصيحا. وما يروى: أن سين بلال عند الله شينا فليس له أصل. وقد أذن يوم الفتح على ظهر الكعبة.
ولما توفي رسول الله ﷺ ترك الأذان، ويقال: أذن للصديق أيام خلافته، ولا يصح.
ثم خرج إلى الشام مجاهدا، ولما قدم عمر إلى الجابية أذن بين يديه بعد الخطبة لصلاة الظهر، فانتحب الناس بالبكاء.
وقيل: أنه زار المدينة في غضون ذلك فأذن فبكى الناس بكاء شديدا ويحق لهم ذلك، رضي الله عنهم.
وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال لبلال: « إني دخلت الجنة فسمعت خشف نعليك أمامي فأخبرني بأرجى عمل عملته.
فقال: ما توضأت إلا وصليت ركعتين.
فقال: بذاك ».
وفي رواية: ما أحدثت إلا توضأت، وما توضأت إلا رأيت أن علي أني أصلي ركعتين.
قالوا: وكان بلال آدم شديد الأدمة طويلا نحيفا كثير الشعر خفيف العارضين.
قال ابن بكير: توفي بدمشق في طاعون عمواس، سنة ثماني عشرة.
وقال محمد بن إسحاق وغير واحد: توفي سنة عشرين.
قال الواقدي: ودفن بباب الصغير، وله بضع وستون سنة.
وقال غيره: مات بداريا، ودفن بباب كيسان.
وقيل: دفن بداريا.
وقيل: إنه مات بحلب والأول أصح. والله أعلم.
سعيد بن عامر بن خذيم
من أشراف بني جمح، شهد خيبر وكان من الزهاد والعباد، وكان أميرا لعمر على حمص بعد أبي عبيدة، بلغ عمر أنه قد أصابته جراحة شديدة فأرسل إليه بألف دينار، فتصدق بها جميعها، وقال لزوجته: أعطيناها لمن يتجر لنا فيها رضي الله عنه.
قال خليفة: فتح هو ومعاوية قيسارية، كل منهما أمير على من معه.
عياض بن غُنم
أبو سعد الفهري من المهاجرين الأولين، شهد بدرا وما بعدها، وكان سمحا، جوادا، شجاعا، وهو الذي افتتح الجزيرة، وهو أول من جاز درب الروم غازيا، واستنابه أبو عبيدة بعده على الشام فأقره عمر عليها إلى أن مات سنة عشرين عن ستين سنة.
أبو سفيان بن الحارث
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ﷺ، قيل: اسمه المغيرة.
أسلم عام الفتح فحسن إسلامه جدا، وكان قبل ذلك من أشد الناس على رسول الله ﷺ وعلى دينه ومن تبعه، وكان شاعرا مطيقا يهجو الإسلام وأهله، وهو الذي رد عليه حسان بن ثابت رضي الله عنه في قوله:
ألا أبلغ أبا سفيان عني * مغلغلة فقد برح الخفاء
هجوت محمدا وأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء
ولما جاء هو وعبد الله بن أبي أمية ليسلما لم يأذن لهما عليه السلام، حتى شفعت أم سلمة لأخيها فأذن له، بلغه أن أبا سفيان هذا قال: والله لئن لم يأذن لي لآخذن بيد بني هذا - لولد معه صغير - فلأذهبن فلا يدري، وأذن له ولزم رسول الله ﷺ أين أذهب فَرَقَّ حينئذ له رسول الله ﷺ أحبه يوم حنين، وكان آخذا بلجام بغلته يومئذٍ.
وقد روي: أن رسول الله ﷺ أحبه، وشهد له بالجنة، وقال: « أرجو أن تكون خلفا من حمزة ».
وقد رثى رسول الله ﷺ حين توفي بقصيدة ذكرناها فيما سلف وهي التي يقول فيها:
أرقت فبات ليلي لا يزول * وليل أخ المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك فيما * أصيب المسلمون به قليل
فقد عظمت مصيبتنا وجلت * عشية قيل قد قبض الرسول
فقدنا الوحي والتنزيل فينا * بروح به ويغدو جبرئيل
ذكروا أن أبا سفيان حج، فلما حلق رأسه قطع الحالق ثؤلولا له في رأسه فتمرض منه فلم يزل كذلك حتى مات بعد مرجعه إلى المدينة، وصلى عليه عمر بن الخطاب.
وقد قيل: إن أخاه نوفلا توفي قبله بأربعة أشهر والله أعلم.
أبو الهيثم بن التيهان
هو: مالك بن مالك بن عسل بن عمرو وبن عبد الأعلم بن عامر بن دعورا بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، شهد العقبة نقيبا، وشهد بدرا وما بعدها، ومات سنة عشرين.
وقيل: إحدى وعشرين.
وقيل: إنه شهد صفين مع علي.
قال ابن الأثير وهو الأكثر: وقد ذكره شيخنا هنا. فالله أعلم.
زينب بنت جحش
زينب بنت جحش بن رباب الأسدية من أسد خزيمة أول أمهات المؤمنين، وفاة أمها أميمة بنت عبد المطلب، وكان اسمها برة، فسماها رسول الله زينب، وتكنى: أم الحكم، وهي التي زوجه الله بها وكانت تفتخر بذلك على سائر أزواج النبي ﷺ.
فتقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله من السماء.
قال الله تعالى: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَاكَهَا } الآية [17].
وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فلما طلقها تزوجها رسول الله ﷺ.
قيل: كان ذلك في سنة ثلاث.
وقيل: أربع وهو الأشهر.
وقيل: سنة خمس، وفي دخوله عليه السلام بها نزل الحجاب، كما ثبت في الصحيحين عن أنس.
وهي التي كانت تسمى عائشة بنت الصديق في الجمال والحظوة، وكانت دينة ورعة عابدة كثيرة الصدقة. وذاك الذي أشار إليه رسول الله ﷺ
بقوله: « أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا » أي: بالصدقة، وكانت امرأة صناعا تعمل بيديها، وتتصدق على الفقراء.
قالت عائشة: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم أمانة، وصدقة من زينب بن جحش.
ولم تحج بعد حجة الوداع لا هي ولا سودة، لقوله عليه السلام لأزواجه: « هذه ثم ظهور الحصر ».
وأما بقية أزواج النبي ﷺ فكن يخرجن إلى الحج، وقالتا زينب وسودة، والله لا تحركنا بعده دابة.
قالوا: وبعث عمر إليها فرضها اثني عشر ألفا فتصدقت به في أقاربها، ثم قالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد هذا، فماتت في سنة عشرين وصلى عليها عمر. وهي أول من صنع لها النعش ودفنت بالبقيع.
صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول
وهي: أم الزبير بن العوام، وهي: شقيقة حمزة والمقوم وحجل، أمهم هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة.
لا خلاف في إسلامها وقد حضرت يوم أحد ووجدت على أخيها حمزة وجدا كثيرا، وقتلت يوم الخندق رجلا من اليهود جاء فجعل يطوف بالحصن التي هي فيه، وهو فارع حصن حسان، فقالت لحسان: أنزل فاقتله فأبى، فنزلت إليه فقتلته، ثم قالت: انزل فاسلبه، فلولا أنه رجل لاستلبته.
فقال: لا حاجة لي فيه، وكانت أول امرأة قتلت رجلا من المشركين، وقد اختلف في إسلام من عداها من عمات النبي ﷺ.
فقيل: أسلمت أروى وعاتكة.
قال ابن الأثير وشيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ: والصحيح: أنه لم يسلم منهن غيرها، وقد تزوجت أولا بالحارث بن حرب بن أمية. ثم خلف عليها العوام بن خويلد، فولدت له الزبير، وعبد الكعبة.
وقيل: تزوج بها العوام بكرا، والصحيح الأول.
توفيت بالمدينة سنة عشرين عن ثلاث وسبعين سنة، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها، وقد ذكر ابن إسحاق، من توفي غيرها.
عويم بن ساعدة الأنصاري
شهد العقبتين والمشاهد كلها وهو أول من استنجى بالماء، وفيه نزل قوله تعالى: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [18] وله روايات.
توفي هذه السنة بالمدينة: بشر بن عمرو بن حنش يلقب: بالجاورد، أسلم في السنة العاشرة، وكان شريفا مطاعا في عبد القيس، وهو الذي شهد على قدامة بن مظعون: أنه شرب الخمر، فعزله عمر عن اليمن وحده قتل الجاورد شهيدا.
أبو خراشة خويلد بن مرة الهذلي، كان شاعرا مجيدا مخضرما، أدرك الجاهلية والإسلام وكان إذا جرى سبق الخيل.
لهشته حية فمات بالمدينة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وكانت وقعة نهاوند
وهي وقعة عظيمة جدا لها شأن رفيع، ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح.
قال ابن إسحاق والواقدي: كانت وقعة نهاوند في سنة إحدى وعشرين.
وقال سيف: كانت في سنة سبع عشرة.
وقيل: في سنة تسع عشرة والله أعلم.
وإنما ساق أبو جعفر بن جرير قصتها في هذه السنة فتبعناه في ذلك وجمعنا كلام هؤلاء الأئمة في هذا الشأن سياقا واحدا، حتى دخل سياق بعضهم في بعض.
قال سيف وغيره: وكان الذي هاج هذه الوقعة أن المسلمين لما افتتحوا الأهواز ومنعوا جيش العلاء من أيديهم واستولوا على دار الملك القديم من اصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثا، وهي المدائن، وأخذ تلك المدائن والأقاليم والكور والبلدان الكثيرة، فحموا عند ذلك واستجاشهم يزدجرد الذي تقهقر من بلد إلى بلد حتى صار إلى أصبهان مبعدا طريدا، لكنه في أسرة من قومه وأهله وماله، وكتب إلى ناحية نهاوند وما ولاها من الجبال والبلدان، فتجمعوا وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم قبل ذلك.
فبعث سعد إلى عمر يعلمه بذلك، وثار أهل الكوفة على سعد في غضون هذا الحال، فشكوه في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي كان الذي نهض بهذه الشكوى رجل يقال له: الجراح بن سنان الأسدي في نفر معه، فلما ذهبوا إلى عمر فشكوه، قال لهم عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الحال عليه، وهو مستعد لقتال أعداء الله، وقد جمعوا لكم، ومع هذا لا يمنعني أن أنظر في أمركم.
ثم بعث محمد بن مسلمة - وكان رسول العمال - فلما قدم محمد بن مسلمة الكوفة طاف على القبائل والعشائر والمساجد بالكوفة، فكل يثني على سعد خيرا إلا ناحية الجراح بن سنان، فإنهم سكتوا فلم يذموا، ولم يشكروا حتى انتهى إلى بني عبس.
فقام رجل يقال له: أبو سعدة أسامة بن قتادة، فقال: أما إذ ناشدتنا فإن سعدا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية.
فدعا عليه سعد فقال: اللهم إن كان قالها كذبا ورياءا وسمعة فأعم بصره، وكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن.
فعمى، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيجسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك.
ثم دعا سعد على الجراح وأصحابه فكل أصابته فارعة في جسده، ومصيبة في ماله بعد ذلك.
واستنفر محمد بن مسلمة أهل الكوفة لغزو أهل نهاوند في غضون ذلك عن أمر عمر بن الخطاب.
ثم سار سعد، ومحمد بن مسلمة، والجراح، وأصحابه حتى جاءوا عمر، فسأله عمر: كيف يصلي؟
فأخبره أنه يطول في الأوليين، ويخفف في الأخريين، وما آلوا ما اقتديت به من صلاة رسول الله ﷺ.
فقال له عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق.
وقال سعد في هذه القصة: لقد أسلمت خامس خمسة، ولقد كنا ومالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى تقرحت أشداقنا، وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله، ولقد جمع لي رسول الله ﷺ أبويه وما جمعهما لأحد قبلي، ثم أصبحت بنو أسد يقولون: لا يحسن يصلي.
وفي رواية: يغرر بي على الإسلام، لقد خبت إذا ضل عملي.
ثم قال عمر لسعد: من استخلفت على الكوفة؟
فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره عمر على نيابته الكوفة - وكان شيخا كبيرا من أشراف الصحابة حليفا لبني الحبلى من الأنصار - واستمر سعد معزولا من غير عجز ولا خيانة ويهدد أولئك النفر، وكان يوقع بهم بأسا، ثم ترك ذلك خوفا من أن لا يشكو أحدا أميرا.
والمقصود: أن أهل فارس اجتمعوا من كل فج عميق بأرض نهاوند.
حتى اجتمع منهم مائة ألف وخمسون ألف مقاتل، وعليهم الفيرزان، ويقال: بندار، ويقال: ذو الحاجب.
وتذامروا فيما بينهم، وقالوا: إن محمدا الذي جاء العرب لم يتعرض لبلادنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده تعرض لنا في دار ملكنا، وإن عمر بن الخطاب هذا لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى أغزانا في عقر دارنا، وأخذ بيت المملكة، وليس بمنته حتى يخرجكم من بلادكم.
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن يقصدوا البصرة والكوفة ثم يشغلوا عمر عن بلاده، وتواثقوا من أنفسهم وكتبوا بذلك عليهم كتابا.
فأما كتب سعد بذلك إلى عمر - وكان قد عزل سعدا في غضون ذلك - شافه سعد عمر بما تمالؤا عليه وتصدوا إليه، وأنه قد اجتمع منهم مائة وخمسون ألفا.
وجاء كتاب عبد الله بن عبد الله بن عتبان من الكوفة إلى عمر مع قريب بن ظفر العبدي: بأنهم قد اجتمعوا وهم منحرفون متذامرون على الإسلام وأهله، وأن المصلحة يا أمير المؤمنين أن نقصدهم فنعالجهم عما هموا به وعزموا عليه من المسير إلى بلادنا.
فقال عمر لحامل الكتاب: ما اسمك؟
قال: قريب.
قال: ابن من؟
قال: ابن ظفر.
فتفاءل عمر بذلك، وقال: ظفر قريب، ثم أمر فنودي للصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وكان أول من دخل المسجد لذلك سعد بن أبي وقاص فتفاءل عمر أيضا بسعد، فصعد عمر المنبر حتى اجتمع الناس فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، إني قد رأيت أن أسير بمن قبلي حتى أنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين فاستنفر الناس، ثم أكون لهم ردءا، حتى يفتح الله عليهم.
فقام عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف في رجال من أهل الرأي، فتكلم كل منهم بانفراده، فأحسن وأجاد، واتفق رأيهم: على أن لا يسير من المدينة، ولكن يبعث البعوث ويحصرهم برأيه ودعائه.
وكان من كلام علي رضي الله عنه أن قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعزه وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكانك منهم يا أمير المؤمنين مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحل تفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلا، فهم كثير عزيز بالإسلام، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان ويقيم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم أيضا. - وكان عثمان قد أشار في كلامه أن يمدهم في جيوش من أهل اليمن والشام. ووافق عمر على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة - فرد علي على عثمان في موافقته على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة كما تقدم.
ورد رأي عثمان فيم أشار به من استمداد أهل الشام خوفا على بلادهم إذا قل جيوشها من الروم.
ومن أهل اليمن خوفا على بلادهم من الحبشة.
فأعجب عمر قول علي وسرَّ به - وكان عمر إذا استشار أحدا لا يبرم أمرا حتى يشاور العباس - فلما أعجبه كلام الصحابة في هذا المقام عرضه على العباس، فقال: يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنما اجتمع هؤلاء الفرس لنقمة تنزل عليهم.
ثم قال عمر: أشيروا علي بمن أوليه أمر الحرب وليكن عراقيا.
فقالوا: أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين.
فقال: ما والله لأولين رجلا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدا.
قالوا: من يا أمير المؤمنين؟
قال: النعمان بن مقرن.
فقالوا: هو لها - وكان النعمان قد كتب إلى عمر وهو على كسكر وسأله أن يعزله عنها ويوليه قتال أهل نهاوند - فلهذا أجابه إلى ذلك وعينه له.
ثم كتب عمر إلى حذيفة: أن يسير من الكوفة بجنود منها، وكتب إلى أبي موسى: أن يسير بجنود البصرة، وكتب إلى النعمان - وكان بالبصرة - أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نهاوند، وإذا اجتمع الناس فكل أمير على جيشه، والأمير على الناس كلهم النعمان بن مقرن.
فإذا قتل فحذيفة بن اليمان، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فقيس بن مكشوح، فإن قتل قيس، ففلان ثم فلان، حتى عد سبعة أحدهم المغيرة بن شعبة، وقيل: لم يسم فيهم. والله أعلم.
وصورة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضةً، فإن رجلا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار، والسلام عليك.
فسر في وجهك ذلك حتى تأتي ماه فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب عمر إلى نائب الكوفة - عبد الله بن عبد الله - أن يعين جيشا، ويبعثهم إلى نهاوند، وليكن الأمير عليهم حذيفة بن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، فإن قتل النعمان فحذيفة، فإن قتل فنعيم بن مقرن.
وولى السائب بن الأقرع قسم الغنائم.
فسار حذيفة في جيش كثيف نحو النعمان بن مقرن ليوافوه بماه، وسار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، وقد أرصد في كل كورة ما يكفيها من المقاتلة، وجعل الحرس في كل ناحية، واحتاطوا احتياطا عظيما، ثم انتهوا إلى النعمان بن مقرن حيث اتعدوا، فدفع حذيفة بن اليمان إلى النعمان كتاب عمر وفيه الأمر له بما يعتمده في هذه الوقعة، فكل جيش المسلمين في ثلاثين ألفا من المقاتلة فيما رواه سيف عن الشعبي، فمنهم: من سادات الصحابة ورءوس العرب خلق كثير وجم غفير.
منهم: عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، وجرير بن عبد الله البجلي، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وطليحة بن خويلد الأسدي، وقيس بن مكشوح المرادي.
فسار الناس نحو نهاوند وبعث النعمان بن مقرن الأمير بين يديه طليعة ثلاثة:
وهم: طليحة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وعمرو بن أبي سلمة.
ويقال له: عمرو بني ثبى أيضا، ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه.
فسارت الطليعة يوما وليلة فرجع عمرو بن ثبى فقيل له: ما رجعك؟
فقال: كنت في أرض العجم، وقتلت أرض جاهلها، وقتل أرض عالمها.
ثم رجع بعده عمرو بن معدي كرب وقال: لم نر أحدا وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ونفذ طليحة ولم يحفل برجوعهما فسار بعد ذلك نحوا من بضعة عشر فرسخا حتى انتهى إلى نهاوند، ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحب، ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك، وأنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه.
فسار النعمان على تعبئته، وعلى المقدمة نعيم بن مقرن، وعلى المجنبتين حذيفة وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، حتى انتهوا إلى الفرس وعليهم الفيرزان، ومعه من الجيش كل من غاب عن القادسية في تلك الأيام المتقدمة، وهو في مائة وخمسين ألفا، فلما تراءى الجمعان كبر النعمان وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات، فزلزلت الأعاجم ورعبوا من ذلك رعبا شديدا.
ثم أمر النعمان بحط الأثقال وهو واقف، فحط الناس أثقالهم، وتركوا رحالهم، وضربوا خيامهم وقبابهم.
وضربت خيمة للنعمان عظيمة، وكان الذين ضربوا أربعة عشر من أشراف الجيش، وهم: حذيفة بن اليمان، وعتبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وابن الهوبر، وربعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والأقرع بن عبد الله الحميري، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر، فلم ير بالعراق خيمة عظيمة أعظم من بناء هذا الخيمة.
وحين حطوا الأثقال، أمر النعمان بالقتال، وكان يوم الأربعاء، فاقتتلوا ذلك اليوم والذي بعده والحرب سجال، فلما كان يوم الجمعة انحجزوا في حصنهم، وحاصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله، والأعاجم يخرجون إذا أرادوا ويرجعون إلى حصونهم إذا أرادوا.
وقد بعث أمير الفرس يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطول الناس جوعا، وأقلهم دارا وقدرا.
وقال: ما يمنع هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا مجا من جيفكم، فإن تذهبوا نخل عنكم، وإن تأبوا نزركم مصارعكم.
قال: فتشهدت، وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت، حتى بعث الله رسوله فوعدنا النصر في الدنيا، والخير في الآخرة، وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا، وقد جئناكم في بلادكم وإنا لن نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم أونقتل بأرضكم.
فقال: أما والله إن الأعور لقد صدقكم ما في نفسه.
فلما طال على المسلمين هذا الحال واستمر، جمع النعمان بن مقرن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك وكيف يكون من أمرهم، حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيد واحد، فتكلم عمرو بن أبي سلمة أولا - وهو أسن من كان هناك - فقال: إن بقاءهم على ما هم عليه أضر عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين.
فرد الجميع عليه وقالوا: إنا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا.
وتكلم عمرو بن معدي كرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم.
فردوا جميعا عليه، وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران أعوان لهم علينا.
وتكلم طليحة الأسدي، فقال: إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن تبعث سرية فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم، فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابا فإذا استطردوا وراءهم وانتموا إلينا عزمنا أيضا على الفرار كلنا، فإنهم حينئذ لا يشكون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرة أبيهم، فإذا تكامل خروجهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضي الله بيننا.
فاستجاد الناس هذا الرأي، وأمر النعمان على المجردة القعقاع بن عمرو، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم.
ففعل القعقاع ذلك، فلما برزوا من حصونهم نكص القعقاع بمن معه ثم نكص، ثم نكص، فاغتنمها الأعاجم ففعلوا ما ظن طليحة، وقالوا: هي هي، فخرجوا بأجمعهم، ولم يبق بالبلد من المقاتلة إلا من يحفظ لهم الأبواب حتى انتهوا إلى الجيش، والنعمان بن مقرن على تعبئته، وذلك في صدر نهار جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم فنهاهم النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وتهب الأرواح، وينزل النصر كما كان رسول الله ﷺ يفعل.
وألح الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل - وكان رجلا ثابتا - فلما حان الزوال صلى بالمسلمين، ثم ركب برذونا له أحوى قريبا من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، ويقدم إلى المسلمين أنه يكبر الأولى فيتأهب الناس للحملة، ويكبر الثانية فلا يبقى لأحد أهبة، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة.
ثم رجع إلى موقفه. وتعبئت الفرس تعبئة عظيمة واصطفوا صفوفا هائلة في عَدَدٍ وعُدَدٍ لم ير مثله، وقد تغلغل كثير منهم بعضهم في بعض وألقوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهرب ولا الفرار، ولا التحيز.
ثم إن النعمان بن مقرن رضي الله عنه كبر الأولى وهز الراية فتأهب الناس للحملة، ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهبوا أيضا، ثم كبر الثالثة وحمل وحمل الناس على المشركين، وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس كانقضاض العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة، ولا سمع السامعون بوقعة مثلها، قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الأرض دما، بحيث أن الدواب كانت تطبع فيه، حتى قيل: أن الأمير النعمان بن مقرن زلق به حصانه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله، ولم يشعر به أحد سوى أخيه سويد، وقيل: نعيم، وقيل: غطاه بثوبه وأخفى موته ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، فأقام حذيفة أخاه نعيما مكانه، وأمر بكتم موته حتى ينفصل الحال لئلا ينهزم الناس.
فلما أظلم الليل انهزم المشركون مدبرين، وتبعهم المسلمون، وكان الكفار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقا، فلما انهزموا وقعوا في الخندق، وفي تلك الأودية نحو مائة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة، ولم يفلت منهم إلا الشريد.
وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة، فانفلت وانهزم واتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع بين يديه وقصد الفيرزان همدان، فلحقه القعقاع وأدركه عند ثنية همدان، وقد أقبل منها بغال كثير، وحمر تحمل عسلا فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجل وتعلق في الجبل فاتبعه القعقاع حتى قتله.
وقال المسلمون يومئذ: إن لله جنودا من عسل، ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال، وسميت تلك الثنية: ثنية العسل.
ثم لحق القعقاع بقية المنهزمين منهم إلى همدان وحاصرها وحوى ما حولها، فنزل إليه صاحبها - وهو خسرشنوم - فصالحه عليها.
ثم رجع القعقاع إلى حذيفة ومن معه من المسلمين، وقد دخلوا بعد الوقعة نهاوند عنوة، وقد جمعوا الأسلاب والمغانم إلى صاحب الأقباض وهو: السائب بن الأقرع.
ولما سمع أهل ماه بخبر أهل همدان بعثوا إلى حذيفة وأخذوا لهم منه الأمان.
وجاء رجل يقال له: الهرند - وهو صاحب نارهم - فسأل من حذيفة الأمان ويدفع إليهم وديعة عنده لكسرى، ادخرها لنوائب الزمان، فأمنه حذيفة وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءتين جوهرا ثمينا لا يقوم، غير أن المسلمين لم يعبأوا به.
واتفق رأيهم على بعثه لعمر خاصة، وأرسلوه صحبة الأخماس السائب بن الأرقع، وأرسل قبله بالفتح مع طريف بن سهم، ثم قسم حذيفة بقية الغنيمة في الغانمين، ورضخ ونفل لذوي النجدات، وقسم لمن كان قد أرصد من الجيوش لحفظ ظهور المسلمين من ورائهم، ومن كان رداءا لهم، ومنسوبا إليهم.
وأما أمير المؤمنين فإنه كان يدعو الله ليلا ونهارا، لهم دعاء الحوامل المقربات، وابتهال ذوي الضرورات، وقد استبطأ الخبر عنهم فبينا رجل من المسلمين ظاهر المدينة إذا هو براكب فسأله: من أين أقبل؟.
فقال: من نهاوند.
فقال: ما فعل الناس؟.
قال: فتح الله عليهم وقتل الأمير، وغنم المسلمون غنيمةً عظيمةً أصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفان.
ثم فاته وقدم ذلك الرجل المدينة فأخبره الناس وشاع الخبر حتى بلغ أمير المؤمنين، فطلبه فسأله عمن أخبره
فقال: راكب.
فقال: إنه لم يجئني، وإنما هو رجل من الجن بريدهم، واسمه: عثيم.
ثم قدم طريف بالفتح بعد ذلك بأيام، وليس معه سوى الفتح، فسأله عمن قتل النعمان فلم يكن معه علم حتى قدم الذين معهم الأخماس فأخبروا بالأمر على جليته، فإذا ذلك الجني قد شهد الوقعة، ورجع سريعا إلى قومه نذيرا.
ولما أخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل السائب عمن قتل من المسلمين، فقال: فلان، وفلان، وفلان لأعيان الناس وأشرافهم.
ثم قال: وآخرون من أفناد الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين، فجعل يبكي ويقول: وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين؟ لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر.
ثم أمر بقسمة الخمس على عادته، وحملت ذانك السفطان إلى منزل عمر، ورجعت الرسل، فلما أصبح عمر طلبهم فلم يجدهم، فأرسل في إثرهم البُرُد فما لحقهم البريد إلا بالكوفة.
قال السائب بن الأقرع: فلما أنخت بعيري بالكوفة، أناخ البريد على عرقوب بعيري، وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت: لماذا؟
فقال: لا أدري، فرجعنا على أثرنا حتى انتهيت إليه.
قال: مالي ولك يا ابن أم السائب، بل ما لابن أم السائب ومالي؟.
قال فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟.
فقال: ويحك، والله إن هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة الله تسحبني إلى ذينك السفطين وهما يشتعلان نارا، ويقولون: لنكوينك بهما.
فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فاذهب بهما لا أبالك فبعهما فاقسمهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فإنهم لا يدرون ما وهبوا ولم تدر أنت معهم.
قال السائب: فأخذتهما حتى جئت بهما مسجد الكوفة، وغشيتني التجار فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف.
ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف. فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد ذلك.
قال سيف: ثم قسم ثمنهما بين الغانمين، فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين.
قال الشعبي: وحصل للفارس من أصل الغنيمة ستة آلاف، وللراجل ألفان وكان المسلمون ثلاثين ألفا.
قال: وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة لسبع سنين من إمارة عمر.
رواه سيف عن، عمرو بن محمد عنه.
وبه عن الشعبي قال: لما قدم سبي نهاوند إلى المدينة جعل أبو لؤلؤة - فيروز غلام المغيرة بن شعبة - لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى، وقال: أكل عمر كبدي - وكان أصل أبي لؤلؤة من نهاوند فأسرته الروم أيام فارس وأسرته المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبى -.
قالوا: ولم تقم للأعاجم بعد هذه الوقعة قائمة، وأتحف عمر الذين أبلوا فيها بألفين تشريفا لهم، وإظهارا لشأنهم.
وفي هذه السنة: افتتح المسلمون أيضا بعد نهاوند مدينة جَيّ، وهي - مدينة أصبهان - بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين، وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح، وفر منهم ثلاثون نفرا إلى كرمان لم يصالحوا المسلمين.
وقيل: إن الذي فتح أصبهان هو النعمان بن مقرن، وإنه قتل بها، ووقع أمير المجوس وهو ذو الحاجبين عن فرسه فانشق بطنه ومات، وانهزم أصحابه.
والصحيح: أن الذي فتح أصبهان: عبد الله بن عبد الله بن عتبان - الذي كان نائب الكوفة -.
وفيها: افتتح أبو موسى قم وقاشان، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كرمان.
وذكر ابن جرير عن الواقدي: أن عمرو بن العاص سار في جيش معه إلى طرابلس قال: وهي برقة فافتتحها صلحا على ثلاثة عشر ألف دينار في كل سنة.
قال: وفيها: بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري إلى زويلة ففتحها بصلح، وصار ما بين برقة إلى زويلة سِلما للمسلمين.
قال: وفيها: ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة بدل زياد بن حنظلة الذي ولاه بعد عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وجعل عبد الله بن مسعود على بيت المال فاشتكى أهل الكوفة من عمار، فاستعفي عمار من عمله فعزله، وولى جبير بن مطعم، وأمره أن لا يعلم أحدا.
وبعث المغيرة بن شعبة امرأته إلى امرأة جبير يعرض عليها طعاما للسفر.
فقالت: اذهبي فأتيني به.
فذهب المغيرة إلى عمر فقال: بارك الله يا أمير المؤمنين فيمن وليت على الكوفة.
فقال: وما ذاك؟.
وبعث إلى جبير بن مطعم فعزله وولي المغيرة بن شعبة ثانية، فلم يزل عليها حتى مات عمر رضي الله عنهم.
قال: وفيها: حج عمر واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وكان عما له على البلدان المتقدمون في السنة التي قبلها سوى الكوفة.
قال الواقدي: وفيها: توفي خالد بن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
وقال غيره: توفي سنة ثلاث وعشرين.
وقيل: بالمدينة، والأول أصح وقال غيره.
وفيها: توفي العلاء بن الحضرمي فولى عمر مكانه أبا هريرة، وقد قيل أن العلاء توفي قبل هذا كما تقدم. والله أعلم.
وقال ابن جرير فيما حكاه عن الواقدي: وكان أمير دمشق في هذه السنة عمير بن سعيد، وهو أيضا على حمص وحوران وقنسرين والجزيرة، وكان معاوية على البلقاء، والأردن، وفلسطين، والسواحل، وإنطاكية، وغير ذلك.
ذكر من توفي إحدى وعشرين
خالد بن الوليد
خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي أبو سليمان المخزومي، سيف الله، أحد الشجعان المشهورين، لم يقهر في جاهلية ولا إسلام.
وأمه عصماء بنت الحارث، أخت لبابة بنت الحارث، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين.
قال الواقدي: أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة، وانتهت إليه الإمارة يومئذٍ عن غير إمرة، فقاتل يومئذٍ قتالا شديدا لم ير مثله، اندقت في يده تسعة أسياف، ولم تثبت في يده إلا صفيحة يمانية.
وقد قال رسول الله ﷺ: « أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه ».
وقد رُوي: أن خالدا سقطت قلنسوته يوم اليرموك وهو في الحرب فجعل يستحث في طلبها، فعوتب في ذلك فقال: إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله ﷺ، وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها.
وقد روينا في مسند أحمد: من طريق الوليد بن مسلم، عن وحشي بن حرب، عن أبيه، عن جده وحشي بن حرب، عن أبي بكر الصديق: أنه لما أمر خالدا على حرب أهل الردة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« فنعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين ».
وقال أحمد: حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير قال: استعمل عمر بن الخطاب أبا عبيدة على الشام، وعزل خالد بن الوليد، فقال خالد: بعث إليكم أمين هذه الأمة، سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح »، فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة ».
وقد أورده ابن عساكر من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة، ومن طرق مرسلة يقوي بعضها بعضا.
وفي الصحيح: « وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله ».
وشهد الفتح وشهد حنينا وغزا بني جذيمة، أميرا في حياته عليه السلام.
واختلف في شهوده خيبر، وقد دخل مكة أميرا على طائفة من الجيش وقتل خلقا كثيرا من قريش، كما قدمنا ذلك مبسوطا في موضعه. ولله الحمد والمنة.
وبعثه رسول الله ﷺ إلى العزى - وكانت لهوازن - فكسر قمتها أولا ثم دعثرها وجعل يقول:
يا عزى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك
ثم حرقها، وقد استعمله الصديق بعد رسول الله ﷺ على قتال أهل الردة وما نعي الزكاة، فشفي واستشفى.
ثم وجهه إلى العراق ثم أتى الشام، فكانت له من المقامات ما ذكرناها، مما تقربها القلوب والعيون، وتتشنف بها الأسماع.
ثم عزله عمر عنها وولي أبا عبيدة وأبقاه مستشارا في الحرب، ولم يزل بالشام حتى مات على فراشه رضي الله عنه.
وقد روى الواقدي: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: لما حضرت خالدا الوفاة بكى، ثم قال: لقد حضرت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
وقال أبو يعلى: ثنا شريح بن يونس، ثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: قال خالد بن الوليد: ما ليلة يُهدى إلي فيها عروس، أو أبشر فيها بغلام بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو.
وقال أبو بكر بن عياش: عن الأعمش، عن خيثمة قال: أتي خالد برجل معه زق خمر، فقال: اللهم اجعله عسلا، فصار عسلا وله طرق.
وفي بعضها: مر عليه رجل معه زق خمر فقال له خالد: ما هذا؟
فقال: عسل.
فقال: اللهم اجعله خلا، فلما رجع إلى أصحابه قال: جئتكم بخمر لم يشرب العرب مثله، ثم فتحه فإذا هو خل.
فقال: أصابته والله دعوة خالد رضي الله عنه.
وقال حماد بن سلمة: عن ثمامة عن أنس قال: لقي خالد عدوا له، فولى عنه المسلمون منهزمين، وثبت هو وأخو البراء بن مالك، وكنت بينهما واقفا، قال: فنكس خالد رأسه ساعة إلى الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء ساعة - قال: وكذلك كان يفعل إذا أصابه مثل هذا - ثم قال لأخي البراء: قم فركبا، واختطب خالد من معه من المسلمين، وقال: ما هو إلا الجنة، وما إلى المدينة سبيل. ثم حمل بهم فهزم المشركين.
وقد حكى مالك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر: اكتب إلى خالد أن لا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمرك، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك.
فكتب إليه خالد: أما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله.
فقال أبو بكر: فمن يجزي عني جزاء خالد؟.
قال عمر: أنا.
قال: فأنت. فتجهر عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، ثم جاء الصحابة فأشاروا على الصديق بإبقاء عمر بالمدينة، وإبقاء خالد بالشام.
فلما ولي عمر كتب إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد بمثل ذلك فعزله، وقال: ما كان الله ليراني آمر أبا بكر بشيء لا أنفذه أنا.
وقد روى البخاري في (التاريخ) وغيره من طريق علي بن رباح، عن ياسر بن سمي البرني، قال: سمعت عمر يعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد، فقال: أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف واللسان، فأمرت أبا عبيدة.
فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: ما اعتذرت يا عمر، لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله ﷺ، ووضعت لواء رفعه رسول الله ﷺ، وأغمدت سيفا سلة الله، ولقد قطعت الرحم، وحسدت ابن العم.
فقال عمر: إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك.
قال الواقدي رحمه الله: ومحمد بن سعيد، وغير واحد: مات سنة إحدى وعشرين بقرية على ميل من حمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
وقال دحيم وغيره: مات بالمدينة، والصحيح الأول، وقدمنا فيما سلف تعزير عمر له حين أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف، وأخذه من ماله عشرين ألفا أيضا.
وقدمنا عتبة عليه لدخوله الحمام، وتدلكه بعد النورة بدقيق عصفر معجون بخمر، واعتذار خالد إليه بأنه صار غسولا.
وروينا عن خالد: أنه طلق امرأة من نسائه، وقال: إني لم أطلقها عن ريبة، ولكنها لم تمرض عندي، ولم يصبها شيء في بدنها، ولا رأسها، ولا في شيء من جسدها.
وروى سيف وغيره: أن عمر قال حين عزل خالدا عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق: إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعا.
وروى سيف أيضا: أن عمر قال حين عزل خالدا عن قنسرين، وأخذ منه ما أخذ: إنك علي لكريم، وإنك عندي لعزيز، ولن يصل إليك من أمر تكرهه بعد ذلك.
وقد قال الأصمعي: عن سلمة، عن بلال، عن مجالد، عن الشعبي قال: اصطرع عمر وخالد وهما غلامان - وكان خالد ابن خال عمر - فكسر خالد ساق عمر، فعولجت وجبرت، وكان ذلك سبب العداوة بينهما.
وقال الأصمعي: عن ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: دخل خالد على عمر وعليه قميص حرير فقال عمر: ما هذا يا خالد؟
فقال: وما بأس يا أمير المؤمنين، أليس قد لبسه عبد الرحمن بن عوف؟
فقال: وأنت مثل ابن عوف؟ ولك مثل ما لابن عوف؟ عزمت على من في البيت إلا أخذ كل واحد منهم بطائفة مما يليه.
قال: فمزقوه حتى لم يبق منه شيء.
وقال عبد الله بن المبارك: عن حماد بن زيد، حدثنا عبد الله بن المختار، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل - ثم شك حماد في أبي وائل - قال: ولما حضرت خالد بن الوليد الوفاة قال: لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي.
وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني تمطر إلى الصبح، حتى نغير على الكفار.
ثم قال: إذا أنا مت فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله.
فلما توفي خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل نساء الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعا أو لقلقة.
قال ابن المختار: النقع التراب على الرأس، واللقلقة الصوت.
وقد علق البخاري في صحيحه بعض هذا فقال: وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة.
وقال محمد بن سعد، ثنا وكيع، وأبو معاوية، وعبد الله بن نمير قالوا: حدثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه، فقيل لعمر: إنهن قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهن خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره. فأرسل إليهن فانههنَّ.
فقال عمر: وما عليهن أن ينزفن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقعا أو لقلقة.
ورواه البخاري في (التاريخ) من حديث الأعمش بنحوه.
وقال إسحاق بن بشر: وقال محمد: مات خالد بن الوليد بالمدينة، فخرج عمر في جنازته، وإذا أمه تندبه وتقول:
أنت خير من ألف ألف من القو * م إذا ما كبت وجوه الرجال
فقال: صدقت، والله إن كان لكذلك.
وقال سيف بن عمر: عن شيوخه، عن سالم قال: فأقام خالد في المدينة، حتى إذا ظن عمر أنه قد زال ما كان يخشاه من افتتان الناس به، وقد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، واشتكى خالد بعده وهو خارج من المدينة زائرا لأمه فقال لها: احدروني إلى مهاجري، فقدمت به المدينة ومرضته، فلما ثقل وأظل قدوم عمر لقيه لاق على مسيرة ثلاث صادرا عن حجة فقال: له عمر بهم. فقال: خالد بن الوليد ثقيل لما به.
فطوى عمر ثلاثا في ليلة فأدركه حين قضى، فرق عليه واسترجع، وجلس ببابه حتى جهز وبكته البواكي، فقيل لعمر: ألا تسمع ألا تنهاهن؟
فقال: وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان؟ ما لم يكن نقع ولا لقلقة.
فلما خرج لجنازته رأى عمر امرأة محرمة تبكيه، وتقول:
أنت خير من ألف ألف من النا * س إذا ما كبت وجوه الرجال
أشجاع فأنت أشجع من ليث * ضمر بن جهم أبي أشبال
أجواد فأنت أجود من سيل * دياس يسيل بين الجبال
فقال عمر: من هذه؟
فقيل له: أمه.
فقال: أمه، وإلا له ثلاثا، وهل قامت النساء عن مثل خالد.
قال: فكان عمر يتمثل في طيه تلك الثلاث في ليلة وفي قدومه:
تبكي ما وصلت به الندامى * ولا تبكي فوارس كالجبال
أولئك إن بكيت أشد فقدا * من الأذهاب والعكر الجلال
تمنى بعدهم قوم مداهم * فلم يدنوا لأسباب الكمال
وفي رواية: أن عمر قال لأم خالد: أخالدا أو أجره ترزئين؟ عزمت عليك أن لا تبيني حتى تسود يداك من الخضاب.
وهذا كله مما يقتضي موته بالمدينة النبوية، وإليه ذهب دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي.
ولكن المشهور عن الجمهور، وهم الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإبراهيم بن المنذر، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو عبد الله العصفري، وموسى بن أيوب، وأبو سليمان بن أبي محمد وغيرهم، أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين.
زاد الواقدي: وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
وقد روى محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وغيره قالوا: قدم خالد بالمدينة بعد ما عزله عمر فاعتمر، ثم رجع إلى الشام فلم يزل بها حتى مات في سنة إحدى وعشرين.
وروى الواقدي: أن عمر رأى حجاجا يصلون بمسجد قباء فقال: أين نزلتم بالشام؟
قال: بحمص.
قال: فهل من معرفة خبر؟
قالوا: نعم مات خالد بن الوليد.
قال: فاسترجع عمر وقال: كان والله سدادا لنحور العدو، ميمون النقيبة.
فقال له علي: فلم عزلته؟
قال: لبذله المال لذوي الشرف واللسان.
وفي رواية أن عمر قال لعلي: ندمت على ما كان مني.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا عبد الله بن الزبير الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا إسماعيل بن أبي خالد سمعت قيس بن أبي حازم يقول: لما مات خالد بن الوليد قال عمر: رحم الله أبا سليمان لقد كنا نظن به أمورا ما كانت.
وقال جويرية، عن نافع قال: لما مات خالد لم يوجد له إلا فرسه وغلامه وسلاحه.
وقال القاضي المعافا بن زكريا الحريري: ثنا أحمد بن العباس العسكري، ثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثني عبد الرحمن بن حمزة اللخمي، ثنا أبو علي الحرنازي قال: دخل هشام بن البحتري في ناس من بني مخزوم على عمر بن الخطاب فقال له: يا هشام أنشدني شعرك في خالد.
فأنشده، فقال: قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب أن يذل الشرك وأهله، وإن كان الشامت به لمتعرضا لمقت الله.
ثم قال عمر: قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره.
وقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدي.
فما عيش من قد عاش بعدي بنافعي * ولا موت من قد مات يوما بمخلدي.
ثم قال عمر: رحم الله أبا سليمان ما عند الله خير له مما كان فيه، ولقد مات سعيدا وعاش حميدا ولكن رأيت الدهر ليس بقائل.
طليحة بن خويلد
ابن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمر بن قعير بن الحارث بن ثعلبة بن داود بن أسد بن خزيمة الأسدي الفقعسي، كان ممن شهد الخندق من ناحية المشركين، ثم أسلم سنة تسع، ووفد على رسول الله ﷺ إلى المدينة ثم ارتد بعد وفاة رسول الله ﷺ في أيام الصديق، وادعى النبوة كما تقدم.
وروى ابن عساكر: أنه ادعى النبوة في حياة رسول الله ﷺ، وأن ابنه خيال قدم على رسول الله ﷺ: « فسأله ما اسم الذي يأتي إلى أبيك؟
فقال: ذو النون الذي لا يكذب ولا يخون، ولا يكون كما يكون.
قال: لقد سمي ملكا عظيم الشأن.
ثم قال لابنه: قتلك الله وحرمك الشهادة ورده كما جاء ».
فقتل خيال في الردة في بعض الوقائع، قتله عكاشة بن محصن، ثم قتل طليحة عكاشة، وله مع المسلمين وقائع.
ثم خذله الله على يدي خالد بن الوليد، وتفرق جنده فهرب حتى دخل الشام، فنزل على آل جفنة فأقام عندهم حتى مات الصديق حياءً منه.
ثم رجع إلى الإسلام واعتمر، ثم جاء يسلم على عمر، فقال له: أغرب عني، فإنك قاتل الرجلين الصالحين عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم.
فقال: يا أمير المؤمنين هما رجلان أكرمهما الله على يدي ولم يهني بأيديهما، فأعجب عمر كلامه ورضي عنه.
وكتب له بالوصاة إلى الأمراء أن يشاور ولا يولي شيئا من الأمر، ثم عاد إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك وبعض حروب كالقادسية ونهاوند الفرس، وكان من الشجعان المذكورين والأبطال المشهورين، وقد حسن إسلامه بعد هذا كله.
وذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة وقال: كان يعد بألف فارس لشدته، وشجاعته، وبصره بالحرب.
وقال أبو نصر بن ماكولا: أسلم ثم ارتد، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان يعدل بألف فارس.
ومن شعره أيام ردته وادعائه النبوة في قتل المسلمين أصحابه:
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم * أليسوا وإن لم يسلموا برجال
فإن يكن أزاد أصبىً ونسوة * فلم يذهبوا فرعا بقتل خيال
نصبت لهم صدر الحمالة إنها * معاودة قتل الكماة نزال
فيوما تراها في الجلال مصونة * ويوما تراها غير ذات جلال
ويوما تراها تضيء المشرفية نحوها *ويوما تراها في ظلالِ عوالي
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة العمي عند مجال
وقال سيف بن عمر، عن مبشر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله قال: بالله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كما هجمنا عليهم من أمانتهم وزهدهم، طليحة بن خويلد الأسدي، وعمر بن معدي كرب، وقيس بن المكشوح.
قال ابن عساكر: ذكر أبو الحسين محمد بن أحمد بن الفراس الوراق: أن طليحة استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النعمان بن مقرن، وعمرو بن معدي كرب رضي الله عنهم.
عمرو بن معدي كرب
ابن عبد الله بن عمر بن عاصم بن عمرو بن زبيد الأصعر بن ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن شيبة، وهو زبيد الأكبر بن الحارث بن ضعف بن سعد العشيرة بن مذحج الزبيدي المدحجي أبو ثور، أحد الفرسان المشاهير الأبطال، والشجعان المذاكير، قدم على رسول الله ﷺ سنة تسع، وقيل: عشر مع وفد مراد، وقيل: في وفد مراد، وقيل: في وفد زبيد قومه.
وقد ارتد مع الأسود العنسي، فسار إليه خالد بن سعيد بن العاص فقاتله فضربه خالد بن سعيد بالسيف على عاتقه فهرب وقومه، وقد استلب خالد سيفه الصمصامة، ثم أسر ودفع إلى أبي بكر فأنبه وعاتبه واستتابه، فتاب وحسن إسلامه بعد ذلك.
فسيره إلى الشام فشهد اليرموك، ثم أمره عمر بالمسير إلى سعد وكتب بالوصاة به، وأن يشاور ولا يولي شيئا، فنفع الله به الإسلام وأهله، وأبلى بلاءً حسنا يوم القادسية.
وقيل: إنه قتل بها، وقيل: بنهاوند، وقيل: مات عطشا في بعض القرى يقال لها: روذة فالله أعلم.
وذلك كله في إحدى وعشرين.
فقال بعض من رثاه من قومه:
لقد غادر الركبان يوم تحملوا * بروذة شخصا لا جبانا ولا غمرا
فقل لزبيد بلٍ لمذحج كلها * رزئتم أبا ثور قريع الوغى عمرا
وكان عمرو بن معدي كرب رضي الله عنه من الشعراء المجيدين فمن شعره:
أعاذل عدتي بدني ورمحي * وكل مقلص سلس القياد
أعاذل إنما أفني شبابي * إجابتي الصريخ إلى المنادي
مع الأبطال حتى سل جسمي * وأقرع عاتقي حمل النجاد
ويبقى بعد حلم القوم حلمي * ويفنى قبل زاد القوم زادي
تمنى أن يلاقيني قييس * وددت وأينما مني ودادي
فمن ذا عاذري من ذي سفاه * يرود بنفسه مني المرادي
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مرادي
له حديث واحد في التلبية رواه شراحيل بن القعقاع عنه، قال: كنا نقول في الجاهلية إذا لبينا: لبيك تعظيما إليك عذرا، هذي زبيد قد أتتك قسرا، يعدو بها مضمرات شزرا، يقطعن خبتا وجبالا وعرا، قد تركوا الأوثان خلوا صفرا.
قال عمرو: فنحن نقول الآن ولله الحمد ما علمنا رسول الله ﷺ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
العلاء بن الحضرمي
أمير البحرين لرسول الله ﷺ.
وأقره عليها أبو بكر، ثم عمر، تقدم أنه توفي: سنة أربع عشرة.
ومنهم من يقول: إنه تأخر إلى سنة إحدى وعشرين، وعزله عمر عن البحرين وولى مكانه أبا هريرة، وأمره عمر على الكوفة فمات قبل أن يصل إليها منصرفه من الحج، كما قدمنا ذلك والله أعلم.
وقد ذكرنا في (دلائل النبوة) قصته في سيره بجيشه على وجه الماء وما جرى له من خرق العادات والله الحمد.
النعمان بن مقرن بن عائذ المزني
أمير وقعة نهاوند، صحابي جليل، قدم مع قومه من مزينة في أربعمائة راكب، ثم سكن البصرة وبعثه الفاروق أميرا على الجنود إلى نهاوند، ففتح الله على يديه فتحا عظيما، ومكن الله له في تلك البلاد، ومكنه من رقاب أولئك العباد، ومكن به للمسلمين هناك إلى يوم التناد، ومنحه النصر في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأتاح له بعد ما أراه ما أحب شهادة عظيمة وذلك غاية المراد، فكان ممن قال الله تعالى في حقه في كتابه المبين وهو صراطه المستقيم: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [19].
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وفيها كانت فتوحات كثيرة
منها: فتح همدان ثانية ثم الري وما بعدها ثم أذربيجان.
قال الواقدي وأبو معشر: كانت في سنة ثنتين وعشرين.
وقال سيف: كانت في سنة ثماني عشرة بعد فتح همدان والري وجرجان.
وأبو معشر يقول: بأن أذربيجان كانت بعد هذه البلدان، ولكن عنده أن الجميع كان في هذه السنة.
وعند الواقدي: أن فتح همدان والري في سنة ثلاث وعشرين، فهمدان افتتحها المغيرة بعد مقتل عمر بستة أشهر، قال: ويقال: كان فتح الري قبل وفاة عمر سنتين، إلا أن الواقدي وأبا معشر متفقان على أن أذربيجان في هذه السنة، وتبعهما ابن جرير وغيره.
وكان السبب في ذلك أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند وما وقع من الحرب المتقدم، فتحوا حلوان وهمذان بعد ذلك. ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقاع بن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان، وأن يجعل على مقدمته أخاه سويد بن مقرن، وعلى مجنبتيه ربعي بن عامر الطائي، ومهلهل بن زيد التميمي.
فسار حتى نزل على ثنية العسل ثم تحدر على همذان، واستولى على بلادها وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم، ودخلها فبينما هو فيها ومعه اثني عشر ألفا من المسلمين، إذ تكاتف الروم والديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فعلى الديلم ملكهم واسمه: موتا، وعلى أهل الري أبو الفَرُّخان، وعلى أذربيجان أسفندياذ أخو رستم.
فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له: واج الروذ، فاقتتلوا قتالا شديدا وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند، ولم تك دونها فقتلوا من المشركين جمعا كثيرا وجمعا صغيرا لا يحصون كثرة، وقتل ملك الديلم موتا وتمزق شملهم، وانهزموا بأجمعهم، مد من قتل بالمعركة منهم، فكان نعيم بن مقرن أول من قاتل الديلم من المسلمين.
وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمه ذلك واغتم له. فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة فحمد الله وأثنى عليه، وأمر بالكتاب فقرئ على ناس، ففرحوا وحمدوا الله عز وجل.
ثم قدم عليه بالأخماس ثلاثة من الأمراء وهم: سماك بن خرشة، ويعرف: بأبي دجانة، وسماك بن عبيد، وسماك بن مخرمة، فلما استسماهم عمر قال: اللهم اسمك بهم الإسلام، وأمد بهم الإسلام.
ثم كتب إلى نعيم بن مقرن بأن يستخلف على همذان ويسير إلى الري فامتثل نعيم. وقد قال نعيم في هذه الوقعة:
ولما أتاني أن موتا ورهطه * بني باسل جروا جنود الأعاجمِ
نهضت إليهم بالجنود مساميا * لأمنع منهم ذمتي بالقواصمِ
فجئنا إليهم بالحديد كأننا * جبال تراءى من فروع القلاسمِ
فلما لقيناهم بها مستفيضة * وقد جعلوا يسمعون فعل المساهمِ
صدمناهم في واج روذ بجمعنا * غداة رميناهم بإحدى العظائمِ
فما صبروا في حومة الموت ساعة * لحد الرماح والسيوف الصوارمِ
كأنهم عند انبثاث جموعهم * جدار تشظى لَبْنُهُ للهادمِ
أصبنا بها موتا ومن لف جمعة * وفيها نهاب قسمه غير عاتمِ
تبعناهم حتى أووا في شعابهم * فنقتلهم قتل الكلاب الجواحمِ
كأنهم في واج روذ وجوه * ضئين أصابتها فروج المخارمِ
فتح الري
استخلف نعيم بن مقرن على همذان يزيد بن قيس الهمداني، وسار بالجيوش حتى لحق الري فلقي هناك جمعا كثيرا من المشركين، فاقتتلوا عند سفح جبل الري، فصبروا صبرا عظيما ثم انهزموا، فقتل منهم النعيم بن مقرن مقتلة عظيمة، بحيث عدوا بالقصب فيها، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريبا مما غنم المسلمون من المدائن.
وصالح أبو الفرخان على الري، وكتب له أمانا بذلك، ثم كتب نعيم إلى عمر بالفتح ثم بالأخماس ولله الحمد والمنة.
فتح قومس
ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها، كتب عمر إلى نعيم بن مقرن: أن يبعث أخاه سويد بن مقرن إلى قومس. فسار إليها سويد، فلم يقم له شيء حتى أخذها سلما وعسكر بها وكتب لأهلها كتاب أمان وصلح.
فتح جرجان
لما عسر سويد بقومس بعث إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وطبرستان وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح.
وحكى المدائني: أن جرجان فتحت في سنة ثلاثين أيام عثمان فالله أعلم.
وهذا فتح أذربيجان
لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثم الري، وكان قد بعث بين يديه بكير بن عبد الله، من همذان إلى أذربيجان، وأردفه بسماك بن خرشة، فلقي أسفندياذ بن الفرخزاذ بكيرا وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بكير أسفندياذ.
فقال له أسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟
قال: بل الصلح.
قال: فأمسكني عندك، فأمسكه، ثم جعل يفتح بلدا بلدا، وعتبة بن فرقد أيضا، يفتح معه بلدا بلدا في مقابلته من الجانب الآخر.
ثم جاء كتاب عمر بأن يتقد بكير إلى الباب وجعل سماك موضعه نائبا لعبته بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وسلم إليه بكير أسفندياذ.
وسار كما أمره عمر إلى الباب.
قالوا: وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب بهرام، فلما بلغ ذلك أسفندياذ وهو في الأسر عند بكير قال: الآن تم الصلح، وطفئت الحرب. فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم. وعادت أذربيجان سلما.
وكتب بذلك عتبة وبكير إلى عمر، وبعثوا بالأخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لأهلها كتاب أمان وصلح.
فتح الباب
قال ابن جرير: وزعم سيف: أنه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب كتابا بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو - الملقب: بذي النور - وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، - ويقال له: ذو النور أيضا - وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان قد تقدمهم إلى الباب - وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة.
فساروا كما أمرهم عمر وعلى تعبئته، فلما انتهى مقدم العساكر - وهو عبد الرحمن بن ربيعة - إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهربراز ملك أرمينية، وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل، وغزا الشام في قديم الزمان، فكتب شهربراز لعبد الرحمن واستأمنه، فأمنه عبد الرحمن بن ربيعة.
فقدم عليه الملك فأنهى إليه أنّ صغوه إلى المسلمين، وأنه مناصح للمسلمين. فقال له: إن فوقي رجلا فاذهب إليه.
فبعثه إلى سراقة بن عمرو وأمير الجيش، فسأل من سراقة الأمان، فكتب إلى عمر فأجاز ما أعطاه من الأمان، واستحسنه، فكتب له سراقة كتابا بذلك.
ثم بعث سراقة بكيرا، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، جبال اللان وتفليس وموقان، فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان، ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هناك، وهو: سراقة بن عمرو.
واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة، فلما بلغ عمر ذلك أقره على ذلك، وأمره بغزو الترك.
أول غزو الترك
وهو تصديق الحديث المتقدم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة وعمر بن تغلب أن رسول الله ﷺ قال: « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما عراض الوجوه، دلف الأنوف، حمر الوجوه، كأن وجوهم المجان المطرقة ».
وفي رواية: « ينتلعون الشعر ».
لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك، سار حتى قطع الباب قاصدا لما أمره عمر، فقال له شهربراز: أين تريد؟.
قال: أريد ملك الترك بلنجر.
فقال له شهربراز: إنا لنرضى منهم الموادعة ونحن من وراء الباب.
فقال له عبد الرحمن: إن الله بعث إلينا رسولا، ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في بلاد بلنجر مائتي فرسخ، وغزا مرات متعددة.
ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال سيف بن عمر: عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة بلادهم، حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت. فتحصنوا منه، وهربوا بالغنم والظفر.
ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان فظفر بهم كما كان يظفر بغيرهم. فلما ولي عثمان على الكوفة بعض من كان ارتد، غزاهم فتذامرت الترك، وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون.
قال: انظروا وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرةٍ فقتله وهرب عنه أصحابه، فخرجوا على المسلمين بعد ذلك حتى عرفوا أن المسلمين يموتون، فاقتتلوا قتالا شديدا، ونادى مناد من الجو صبرا آل عبد الرحمن موعدكم الجنة.
فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس وأخذ الراية سلمان بن ربيعة فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو صبرا آل سلمان بن ربيعة، فقاتل قتالا شديدا.
ثم تحيز سلمان، وأبو هريرة بالمسلمين، وفروا من كثرة الترك، ورميهم الشديد السديد على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأت الترك بعدها، ومع هذا أخذت الترك عبد الرحمن بن ربيعة فدفنوه في بلادهم، فهم يستسقون بقبره إلى اليوم، وسيأتي تفصيل ذلك كله.
قصة السد
ذكر ابن جرير بسنده: أن شهربراز قال لعبد الرحمن بن ربيعة لما قدم عليه حين وصل إلى الباب وأراه رجلا فقال شهربراز: أيها الأمير، إن هذا الرجل كنت بعثته نحو السد، وزودته مالا جزيلا وكتبت له إلى الملوك الذين يولوني، وبعثت لهم هدايا، وسألت منهم أن يكتبوا له إلى من يليهم من الملوك حتى ينتهي إلى سد ذي القرنين، فينظر إليه ويأتينا بخبره.
فسار حتى انتهى إلى الملك الذي السد في أرضه، فبعثه إلى عامله مما يلي السد، فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فلما انتهوا إلى السد إذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده، فنظر إلى ذلك كله وتفرس فيه، ثم لما هم بالانصراف، قال له البازيار: على رسلك، ثم شرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء، وانقض عليها العقاب.
فقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء.
قال: فلم تدركها حتى وقعت في أسفله واتبعها العقاب فأخرجها، فإذا فيها ياقوتة وهي هذه، ثم ناولها الملك شهربراز لعبد الرحمن بن ربيعة فنظر إليها عبد الرحمن ثم ردها إليه، فلما ردها إليه فرح، وقال: والله لهذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني: مدينة باب الأبواب التي هو فيها - وهي هذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني: مدينة باب الأبواب التي خبرها - ووالله لأنتم أحب إلي اليوم من مملكة آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم وبلغهم خبرها لانتزعوها مني.
وأيم الله، لا يقوم لكم شيء ما وفيتم وفي ملككم، الأكبر.
ثم أقبل عبد الرحمن بن ربيعة على الرسول الذي ذهب على السد فقال: ما حال هذا الردم؟ - يعني: ما صفته - فأشار إلى ثوب في زرقه وحمرة فقال: مثل هذا.
فقال رجل لعبد الرحمن: صدق والله لقد نفذ ورأى.
فقال: أجل وصف صفة الحديد والصفر.
قال الله تعالى: { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا } [20] وقد ذكرت صفة السد في التفسير، وفي أوائل هذا الكتاب.
وقد ذكر البخاري في صحيحه تعليقا: أن رجلا قال للنبي ﷺ رأيت السد.
فقال: « كيف رأيته؟ »
قال: مثل البرد المحبر رأيته.
قالوا: ثم قال عبد الرحمن بن ربيعة لشهربراز: كم كانت هديتك؟
قال: قيمة مائة ألف في بلادي وثلاثة آلاف ألف في تلك البلدان.
بقية من خبر السد
أورد شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في هذه السنة ما ذكره صاحب كتاب (مسالك الممالك) عما أملاه عليه سلام الترجمان، حين بعثه الواثق بأمر الله بن المعتصم - وكان قد رأى في النوم كأن السد قد فتح -فأرسل سلاما هذا، وكتب له إلى الملوك بالوصاة به، وبعث معه ألفي بغل تحمل طعاما فساروا بين سامرا إلى إسحاق بتفليس، فكتب لهم إلى صاحب السرير، وكتب لهم صاحب السرير إلى ملك اللان، فكتب لهم إلى قبلان شاه، فكتب لهم إلى ملك الخزر، فوجه معه خمسة أولاد فساروا ستة وعشرين يوما.
انتهوا إلى أرض سوداء منتنة حتى جعلوا يشمون الخل، فساروا فيها عشرة أيام، فانتهوا إلى مدائن خراب مدة سبعة وعشرين يوما، وهي التي كانت يأجوج و مأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين و إلى الآن، ثم انتهوا إلى حصن قريب من السد، فوجدوا قوما يعرفون بالعربية و بالفارسية و يحفظون القرآن، ولهم مكاتب و مساجد، فجعلوا يعجبون منهم و يسألونهم من أين أقبلوا؟
فذكروا لهم أنهم من جهة أمير المؤمنين الواثق، فلم يعرفوه بالكلية.
ثم انتهوا إلى جبل أملس ليس عليه خضرا، و إذا السد هنالك من لبن حديد مغيب في نحاس، و هو مرتفع جدا لا يكاد البصر ينتهي إليه، وله شرفات من حديد، وفي وسطه باب عظيم بمصراعين مغلقين، عرضهما مائة ذراع، في طول مائة ذراع، في ثخانة خمسة أذرع، و عليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع - وذكر أشياء كثيرة - و عند ذلك المكان حرس يضربون عند القفل في كل يوم فيسمعون بعد ذلك صوتا عظيما مزعجا، ويقال: أن وراء هذا الباب حرس وحفظة، وقريب من هذا الباب حصنان عظيمان بينهما عين ماء عذبة، وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف ولبن من حديد وغير ذلك، وإذا طول اللبنة ذراع ونصف في مثله، في سمك شبر.
وذكروا: أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج؟
فأخبروهم أنهم رأوا منهم يوما أشخاصا فوق الشرفات فهبت الريح فألقتهم إليهم، فإذا طول الرجل منهم شبر أو نصف شبر. والله أعلم.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا معاوية الصائفة من بلاد الروم، وكان معه حماد والصحابة فسار وغنم ورجع سالما.
وفيها: ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان.
وفيها: حج بالناس عمر بن الخطاب، وكان عماله فيها على البلاد، وهم الذين كانوا في السنة قبلها.
وذكر: أن عمر عزل عمارا في هذه السنة عن الكوفة اشتكاه أهلها وقالوا: لا يحسن السياسة، فعزله وولى أبا موسى الأشعري، فقال أهل الكوفة: لا نريده، وشكوا من غلامه.
فقال: دعوني حتى أنظر في أمري، وذهب إلى طائفة من المسجد ليفكر من يولي. فنام من الهم، فجاءه المغيرة فجعل يحرسه حتى استيقظ.
فقال له: إن هذا الأمر عظيم يا أمير المؤمنين الذي بلغ بك هذا.
قال: وكيف وأهل الكوفة مائة ألف لا يرضون أمير المؤمنين، ولا يرضى عنهم أمير.
ثم جمع الصحابة واستشارهم هل يولي عليهم قويا مشددا أو ضعيفا مسلما؟
فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن القوي قوته لك وللمسلمين وتشديده لنفسه، وأما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وإسلامه لنفسه.
فقال عمر للمغيرة - واستحسن ما قال له -: اذهب فقد وليتك الكوفة.
فرده إليها بعد ما كان عزله عنها بسبب ما كان شهد عليه الذين تقدم حدهم بسبب قذفه، والعلم عند الله عز وجل.
وبعث أبا موسى الأشعري إلى البصرة فقيل لعمار: أساءك العزل؟
فقال: والله ما سرتني الولاية، ولقد ساءني العزل.
وفي رواية: أن الذي سأله عن ذلك عمر رضي الله عنه، ثم أراد عمر أن يبعث سعد بن أبي وقاص على الكوفة بدل المغيرة فعاجلته المنية سنة ثلاث وعشرين على ما سيأتي بيانه، ولهذا أوصى لسعد به.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس بلاد خراسان، وقصد البلد الذي فيه يزدجرد ملك الفرس.
قال ابن جرير: وزعم سيف أن هذا كان في سنة ثماني عشرة.
قلت: والأول هو المشهور والله أعلم.
قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى
لما استلب سعد من يديه مدينة ملكه، ودار مقره، وإيوان سلطانه، وبساط مشورته وحواصله، تحول من هناك إلى حلوان، ثم جاء المسلمون ليحاصروا حلوان فتحول إلى الري، وأخذ المسلمون حلوان ثم أخذت الري فتحول منها إلى أصبهان فأخذت أصبهان.
فسار إلى كرمان فقصد المسلمون كرمان فافتتحوها، فانتقل إلى خراسان فنزلها.
هذا كله والنار التي يعبدها من دون الله يسير بها معه من بلد إلى بلد، ويبني لها في كل بيت توقد فيهم على عادتهم، وهو يحمل في الليل في مسيره إلى هذا البلدان على بعير عليه هودج ينام فيه.
فبينما هو ذات ليلة في هودجه وهو نائم فيه، إذا مروا به على مخاضة، فأرادوا أن ينبهوه قبلها لئلا ينزعج إذا استيقظ في المخاضة، فلما أيقظوه تغضب عليهم شديدا وشتمهم، وقال: حرمتموني أن أعلم مدة بقاء هؤلاء في هذه البلاد وغيرها، إني رأيت في منامي هذا أني ومحمدا عند الله، فقال له: ملككم مائة سنة.
فقال: زدني.
فقال: عشرا ومائة.
فقال: زدني.
فقال: عشرين ومائة سنة.
فقال: زدني.
فقال: لك، وأنبهتموني فلو تركتموني لعلمت مدة هذه الأمة.
خراسان مع الأحنف بن قيس
وذلك أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيقوا على كسرى يزدجرد فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين.
فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمر الأحنف، وأمره بغزو بلاد خراسان.
فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدا حرب يزدجرد، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد.
وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس.
ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان، فنزلها.
وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده، وكتب إلى ملك الصفد يستمده، وكتب إلى ملك الصين يستعينه.
وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان، وقد وفدت إلى الأحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء، فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد، ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل، وهرب هو ومن بقي معه من جيشه، فعبر النهر، واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميرا، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها.
فقال عمر: وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار.
فقال له علي: ولم يا أمير المؤمنين؟
فقال: إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فقال: يا أمير المؤمنين، لأن يكون ذلك بأهلها، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين.
وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر.
وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان.
ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان، فوصل إلى بلخ واسترجعها، وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة، والجميع عشرون ألفا، فسمع رجلا يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقا حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة.
فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيبا فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير، فلا يهولنكم { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [21] فكانت الترك يقاتلون بالنهار، ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل.
فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز:
إن على كل رئيس حقا * أن يخضب الصعدة أو يندقا
إن لها شيخا بها ملقى * بسيف أبي حفص الذي تبقى
قال: ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر علم طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضا واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله، وأخذ طوقه.
ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية.
وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم، يضرب الأول بطبله، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم يخرجون بعد الثالث.
فلما خرجت الترك ليلتئذٍ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير، وقال لعسكره: قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله.
ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا.
فرجعوا إلى بلادهم، وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحدا منهم، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم، وقد كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها، واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه.
وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟
فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.
وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث: « اتركوا الترك ما تركوكم ».
وقد « وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا ». [22]
ورجع كسرى خاسرا الصفقة، لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ولا انتصر، كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } [23] وتحير في أمره ماذا يصنع؟ وإلى أين يذهب؟.
وقد أشار عليه بعض أولي النهي من قومه حين قال: قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده.
فقالوا: إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإن لهم ذمة ودينا يرجعون إليه، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا، فهم خير لنا من غيرهم. فأبى عليهم كسرى ذلك.
ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده، فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل؟ وماذا يصنعون؟ وكيف يصلون؟.
فكتب معه إلى يزدجرد: أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ماداموا على ما وصف لي رسولك، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة.
فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين. ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في موضعه.
ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك، ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتله عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث محمدا بالهدى ووعد على أتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة.
فقال: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فالحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية، فرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضير بمسلم.
ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل، يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ولا تغيروا يستبدل قوما غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في تاريخ هذه السنة - أعني سنة ثنتين وعشرين - وفيها: فتحت أذربيجان على يدي المغيرة بن شعبة قاله ابن إسحاق. فيقال: أنه صالحهم على ثمانمائة ألف درهم.
وقال أبو عبيدة: فتحها حبيب بن سلمة الفهري بأهل الشام عنوة، ومعه أهل الكوفة فيهم حذيفة، فافتتحها بعد قتال شديد والله أعلم.
وفيها: افتتح حذيفة الدينور عنوة - بعدما كان سعد افتتحها فانتقضوا عهدهم -.
وفيها: افتتح حذيفة ماه سندان عنوة - وكانوا نقضوا أيضا عهد سعد - وكان مع حذيفة أهل البصرة فلحقهم أهل الكوفة فاختصموا في الغنيمة، فكتب عمر: أن الغنيمة لمن شهد الوقعة.
قال أبو عبيدة: ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهى فتوح حذيفة. قال: ويقال: افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة.
ويقال: افتتحها المغيرة سنة أربع وعشرين.
وفيها: افتتحت جرجان.
قال خليفة: وفيها: افتتح عمرو بن العاص طرابلس المغرب.
ويقال: في السنة التي بعدها.
قلت: وفي هذا كله غرابة لنسبته إلى ما سلف والله أعلم.
قال شيخنا: وفيها: توفي أبي بن كعب في قول الواقدي وابن نمير والذهلي والترمذي، وقد تقدم في سنة تسع عشرة، ومعضد بن يزيد الشيباني استشهد بأذربيجان، ولا صحبه له.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وفيها وفاة عمر بن الخطاب
قال الواقدي وأبو معشر: فيها: كان فتح اصطخر وهمذان.
وقال سيف: كان فتحها بعد فتح تَوَّج الآخرة.
ثم ذكر أن الذي افتتح تَوَّج مجاشع بن مسعود، بعد ما قتل من الفرس مقتله عظيمة وغنم منهم غنائم جمة، ثم ضرب الجزية على أهلها، وعقد لهم الذمة، ثم بعث بالفتح وخمس الغنائم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم ذكر: أن عثمان بن أبي العاص افتتح جور بعد قتال شديد كان عندها، ثم افتتح المسلمون اصطخر - وهذه المرة الثانية - وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضرمي افتتحوها حين جاز في البحر - من أرض البحرين - والتقوا هم والفرس في مكان يقال له: طاوس، كما تقدم بسط ذلك في موضعه.
ثم صالحه الهربد على الجزية، وأن يضرب لهم الذمة، ثم بعث بالأخماس والبشارة إلى عمر.
قال ابن جرير: وكانت الرسل لها جوائز، وتقضي لهم حوائج، كما كان رسول الله ﷺ يعاملهم بذلك.
ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشط الفرس، فنقضوا، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم، فاقتلوا مع الفرس، فهزم الله جيوش المشركين، وقتل الحكم بن أبي العاص شهرك، وقتل ابنه معه أيضا.
وقال أبو معشر: كانت فارس الأولى واصطخر الآخرة سنة ثمان وعشرين في إمارة عثمان، وكانت فارس الآخرة، ووقعه جور، في سنة تسع وعشرين.
فتح فسا ودار أبجرد وقصة سارية بن زنيم
ذكر سيف عن مشايخه: أن سارية بن زنيم قصد فسا ودار أبجرد، فاجتمع له جموع - من الفرس والأكراد - عظيمة، ودهم المسلمين منهم أمر عظيم وجمع كثير، فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء وهناك جبل إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كانت الساعة التي رأى أنهم اجتمعوا فيها، خرج إلى الناس وصعد المنبر، فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى، ثم قال: يا سارية الجبلَ الجبلَ، ثم أقبل عليهم، وقال: إن لله جنودا ولعل بعضها أن يبلغهم.
قال: ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم الله على عدوهم، وفتحوا البلد.
وذكر سيف في رواية أخرى عن شيوخه: أن عمر بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قال: يا سارية بن زُنَيم، الجبلَ الجبلَ.
فلجأ المسلمون إلى جبل هناك فلم يقدر العدو عليهم إلا من جهة واحدة فأظفرهم الله بهم، وفتحوا البلد.
وغنموا شيئا كثيرا، فكان من جملة ذلك سفط من جوهر فاستوهبه سارية من المسلمين لعمر، فلما وصل إليه مع الأخماس قدم الرسول بالخمس، فوجد عمر قائما في يده عصا وهو يطعم المسلمين سماطهم، فلما رآه عمر قال له: اجلس - ولم يعرفه - فجلس الرجل فأكل مع الناس، فلما فرغوا انطلق عمر إلى منزله واتبعه الرجل، فاستأذن فأذن له وإذا هو قد وضع له خبز وزيت وملح، فقال: ادن فكل.
قال: فجلست فجعل يقول لامرأته: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟
فقالت: إني اسمع حس رجل عندك.
فقال: أوما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت عمر على وامرأة عمر.
فقالت: ما أقل غناء ذلك عني.
ثم قال للرجل: ادن فكل، فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى. فـأكلا فلما فرغا قال: أنا رسول سارية بن زُنَيْم يا أمير المؤمنين.
فقال: مرحبا وأهلا، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم فأخبره، ثم ذكر له شأن السفط من الجوهر، فأبى أن يقبله، وأمر برده إلى الجند.
وقد سأل أهل المدينة رسول سارية عن الفتح فأخبرهم فسألوه: هل سمعوا صوتا يوم الوقعة؟
قال: نعم. سمعنا قائلا يقول: يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه، ففتح الله.
ثم رواه سيف: عن مجالد، عن الشعبي بنحو هذا.
وقال عبد الله بن وهب: عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر وجه جيشا، ورأس عليهم رجلا يقال له: سارية، قال: فبينما عمر يخطب فجعل ينادي: يا ساري الجبل يا ساري الجبل، ثلاثا.
ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك إذا سمعنا مناديا: يا سارية الجبل ثلاثا، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله.
قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك.
وهذا إسناد جيد حسن.
وقال الواقدي: حدثني نافع بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر أن عمر قال على المنبر: يا سارية بن زنيم الجبل، فلم يدر الناس ما يقول حتى قدم سارية بن زنيم المدينة على عمر فقال: يا أمير المؤمنين، كنا محاصري العدو فكنا نقيم الأيام لا يخرج علينا منهم أحد، نحن في خفض من الأرض وهم في حصن عال، فسمعت صائحا ينادي بكذا وكذا: يا سارية بن زنيم الجبل، فعلوت بأصحابي الجبل، فما كان إلا ساعة حتى فتح الله علينا.
وقد رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي: من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه، وفي صحته من حديث مالك نظر.
وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم، عن أبيه، وأبو سليمان، عن يعقوب بن زيد قالا: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة إلى الصلاة، فصعد المنبر ثم صاح: يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، ثم خطب حتى فرغ.
فجاء كتاب سارية إلى عمر: أن الله قد فتح علينا يوم الجمعة ساعة كذا وكذا - لتلك الساعة التي خرج فيها عمر فتكلم على المنبر - قال سارية:
فسمعت صوتا: يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، فعلوت بأصحابي الجبل، ونحن قبل ذلك في بطن واد، ونحن محاصروا العدو، ففتح الله علينا.
فقيل لعمر بن الخطاب: ما ذلك الكلام؟.
فقال: والله ما ألقيت له إلا بشيء ألقي علي لساني.
فهذه طرق يشد بعضها بعضا.
فتح كرمان وسجستان ومكران
ثم ذكر ابن جرير طريق سيف عن شيوخه فتح كرمان على يدي سهيل بن عدي، وأمده عبد الله بن عبد الله بن عتبان.
وقيل: على يدي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكر فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد وكانت ثغورها متسعة، وبلادها متنائية، ما بين السند إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُنْدُهار، والترك من ثغورها وفروجها.
وذكر فتح مكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمده بشهاب بن المخارق بن شهاب، وسهيل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله، واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند، وغنم المسلمون منهم غنيمة كثيرة، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي.
فلما قدم على عمر سأله عن أرض مكران فقال: يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وثمرها دَقَلْ، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وماوراءها شر منها.
فقال عمر: أسَجَّاعٌ أنت أم مخبر؟.
فقال: لا بل مخبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو أن لا يغزو بعد ذلك مكران، وليقتصروا على مادون النهر.
وقد قال الحكم بن عمر في ذلك:
لقد شبع الأرامل غير فخر * بفيء جاءهم من مكرانِ
أتاهم بعد مسغبة وجهد * وقد صَفَر الشتاء من الدخانِ
فإني لا يذم الجيش فعلي * ولا سيفي يذم ولا لساني
غداة أدافع الأوباش دفعا * إلى السند العريضة والمداني
ومهران لنا فيما أردنا * مطيع غير مسترخي العناني
فلولا ما نهى عنه أميري * قطعناه إلى البدد الزواني
غزة الأكراد
ثم ذكر ابن جرير بسنده عن سيف، عن شيوخه: أن جماعة من الأكراد، والتف إليهم طائفة من الفرس اجتمعوا، فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيروذ قريب من نهر تيري، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان، وقد استخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد، فتسلم الحرب وحنق عليهم، فهزم الله العدو، وله الحمد والمنة، كما هي عادته المستمرة، وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، من أتباع سيد المرسلين.
ثم خمست الغنيمة، وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه، وقد سار ضبة بن محصن العنزي فاشتكى أبا موسى إلى عمر، وذكر عنه أمورا لا ينقم عليه بسببها، فاستدعاه عمر فسأله عنها، فاعتذر منها بوجوه مقبولة فسمعها عمرو وقبلها، ورده إلى عمله، وعذر ضبه فيما تأوله، ومات عمر وأبو موسى على صلاة البصرة.
خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد
بعثه عمر على سرية ووصاه بوصايا كثيرة بمضمون حديث بريدة في صحيح مسلم: « اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله » الحديث إلى آخره.
فساروا فلقوا جمعا من المشركين، فدعوهم إلى إحدى ثلاث خلال، فأبوا أن يقبلوا واحدة منها، فقاتلوهم فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم.
ثم بعث سلمة بن قيس رسولا إلى عمر بالفتح وبالغنائم، فذكروا وروده على عمر، وهو يطعم الناس، وذهابه معه إلى منزله، كنحو ما تقدم من قصة أم كلثوم بنت علي، وطلبها الكسوة كما يكسي طلحة وغيرة أزواجهم.
فقال: ألا يكفيك أن يقال: بنت علي، وامرأة أمير المؤمنين، ثم ذكر طعامه الخشن وشرابه من سلت، ثم شرع يستعمله عن أخبار المهاجرين، وكيف طعامهم وأشعارهم، وهل يأكلون اللحم الذي هو شجرتهم، ولا بقاء للعرب دونه شجرتهم، وذكر عرضه عليه ذلك السفط من الجوهر، فأبى أن يأخذه، وأقسم على ذلك، وأمره بأن يرده فيقسم بين الغانمين.
وقد أورده ابن جرير مطولا جدا.
وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى
وقال ابن جرير: وفي هذه السنة حج عمر بأزواج النبي ﷺ، وهي آخر حجة حجها رضي الله عنه.
قال: وهي هذه السنة كانت وفاته، ثم ذكر صفة قتله مطولا أيضا، وقد ذكرت ذلك مستقصى في آخر سيرة عمر، فليكتب من هناك إلى هنا.
وهو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي، أبو حفص العدوي، الملقب: بالفاروق.
قيل: لقبه بذلك أهل الكتاب، وأمه: حنتمة بنت هشام أخت أبي جهل بن هشام.
أسلم عمر وعمره سبع وعشرين سنة، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي ﷺ، وخرج في عدة سرايا، وكان أميرا على بعضها، وهو أول من دعي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وجمع الناس على التراويح.
وأول من عس بالمدينة، وحمل الدرة وأدب بها، وجلد في الخمر ثمانين، وفتح الفتوح، ومصر الأمصار، وجند الأنجاد، ووضع الخراج، ودون الدواوين، وعرض الأعطية، واستقضى القضاة، وكور الكور، مثل: السواد والآهواز والجبال وفارس وغيرها، وفتح الشام كله، والجزيرة، والموصل، وميافارقين، وأرمينية، ومصر، وإسكندرية.
ومات عساكره على بلاد الري. فتح من الشام اليرموك وبصرى ودمشق والأردن وبيسان وطبرية والجابية، وفلسطين والرملة وعسقلان، وغزة، والسواحل، والقدس، وفتح مصر، وإسكندرية، وطرابلس الغرب، وبرقة.
ومن مدن الشام: بعلبك وحمص وقنسرين وحلب وأنطاكية، وفتح الجزيرة وحران والرها والرقة ونصيبين ورأس عين وشمشاط وعين وردة وديار بكر وديار ربيعة وبلاد الموصل وأرمينية جميعها.
وبالعراق: القادسية والحيرة ونهرسير وساباط ومدائن كسرى وكورة الفرات ودجلة والأبلة والبصرة والأهواز وفارس ونهاوند وهمذان والري وقومس وخراسان، واصطخر، وأصبهان، والسوس، ومرو، ونيسابور، وجرجان، وأذربيجان، وغير ذلك.
وقطعت جيوشه النهر مرارا، وكان متواضعا في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديدا في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفه مع عظم هيبته، ويركب الحمار عريا، والبعير مخطوما بالليف، وكان قليل الضحك لا يمازح أحدا، وكان نقش خاتمه: كفى بالموت واعظا يا عمر.
وقال النبي ﷺ: « أشد أمتي في دين الله عمر ».
وعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: « إن لي وزيرين من أهل السماء، ووزيرين من أهل الأرض، فوزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر، وإنهما السمع والبصر ».
وعن عائشة أن النبي ﷺ قال: « إن الشيطان يفرق من عمر ».
وقال: « أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر ».
وقيل لعمر: إنك قضاء.
فقال: الحمد لله الذي ملأ له قلبي رحما، وملأ قلوبهم لي رعبا.
وقال عمر: لا يحل لي من مال الله إلا حلتان: حلة للشتاء وحلة للصيف، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم، ثم أنا رجل من المسلمين.
وكان عمر إذا استعمل عاملا: كتب له عهدا وأشهد عليه رهطا من المهاجرين، واشترط عليه أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات.
فإن فعل شيئا من ذلك، حملت عليه العقوبة.
وقيل: أنه كان إذا حدثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين فيقول عمر: احبس هذه، احبس هذه، فيقول الرجل: والله كلما حدثتك به حق غير ما أمرتني أن أحبسه.
وقال معاوية بن أبي سفيان: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا، وأما عمر فأرادته فلم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن.
وعوتب عمر فقيل له: لو أكلت طعاما طيبا كان أقوى لك على الحق؟.
فقال: إني تركت صاحبي على جادة، فإن أدركت جادتهما فلم أدركهما في المنزل، وكان يلبس وهو خليفة جبة صوف مرقوعة بعضها بأدم، ويطوف بالأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس، وإذا مر بالنوى وغيره يلتقطه ويرمي به في منازل الناس ينتفعون به.
قال أنس: كان بين كتفي عمر أربع رقاع، وإزاره بأدم. وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثني عشر رقعة، وأنفق في حجته ستة عشر دينارا، وقال لابنه: قد أسرفنا.
وكان لا يستظل بشيء غير أنه كان يلقي كساءه على الشجرة ويستظل تحته، وليس له خيمة ولا فسطاط.
ولما قدم الشام لفتح بيت المقدس كان على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، قد طبق رجليه بين شعبي الرحل بلا ركاب، ووطاؤه كبش صوف، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته محشوة ليفا، وهي وسادته إذا نام.
وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جيبه، فلما نزل قال: ادعوا لي رأس القرية، فدعوه.
فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه، وأعيروني قميصا، فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟
فقيل: كتان.
فقال: فما الكتان؟.
فأخبروه، فنزع قميصه فغسلوه وخاطوه ثم لبسه.
فقال له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح فيها ركوب الإبل. فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فلما سار جعل البرذون يهملج به.
فقال لمن معه: احبسوا، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي. ثم نزل وركب الجمل.
وعن أنس قال: كنت مع عمر، فدخل حائطا لحاجته، فسمعته يقول - بيني وبينه جدار الحائط - عمر بن الخطاب أمير المؤمنين: بخ بخ، والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك.
وقيل: أنه حمل قربة على عاتقه، فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها؟
وكان يصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر.
وما مات حتى سرد الصوم، وكان في عام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى أسود جلده، ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع.
وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه، فيحمل صريعا إلى منزله فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف.
وقال طلحة بن عبد الله: خرج عمر ليلة في سواد الليل فدخل بيتا، فلما أصبحت ذهبت إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيكي؟
فقالت: إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى.
فقلت لنفسي: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟.
وقال أسلم مولى عمر: قدم المدينة رفقة من تجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة؟.
قال: نعم!.
فباتا يحرسانهم ويصليان، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتق الله تعالى وأحسني إلى صبيك.
ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه.
فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتى إلى أمه، فقال لها: ويحك إنك أم سوء مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء؟!
فقالت: يا عبد الله إن أشغله عن الطعام فيأبى ذلك.
قال: ولم؟.
قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم.
قال: وكم عمر ابنك هذا؟.
قالت: كذا وكذا شهرا.
فقال: ويحك، لا تعجليه عن الفطام.
فلما صلى الصبح وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء، قال: بؤسا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين.
ثم أمر مناديه فنادى: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق.
وقال أسلم: خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاح لنا بيت شعر فقصدناه، فإذا فيه امرأة تمخض وتبكي، فسألها عمر عن حالها فقالت: أنا امرأة عربية، وليس عندي شيء، فبكى عمر، وعاد يهرول إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في أجرٍ ساقه الله إليك؟ وأخبرها الخبر.
فقالت: نعم، فحمل على ظهره دقيقا وشحما، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها - وهو لا يعرفه - يتحدث، فوضعت المرأة غلاما فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام.
فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك، وأخذ يعتذر إلى عمر.
فقال عمر: لا بأس عليك، ثم أوصلهم بنفقة وما يصلحهم وانصرف.
وقال أسلم: خرجت ليلة مع عمر إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار إذا بنار، فقال: يا أسلم، ههنا ركب قد قصر بهم الليل انطلق بنا إليهم، فأتيناهم فإذا امرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون.
فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء.
قالت: وعليك السلام.
قال: ادنو.
قالت: ادن أو دع، فدنا.
فقال: ما بالكم؟
قالت: قصر بنا الليل والبرد.
قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟
قالت: من الجوع.
فقال: وأي شيء على النار.
قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر.
فبكى عمر ورجع يهرول إلى دار الدقيق، فأخرج عدلا من دقيق وجراب شحم.
وقال: يا أسلم، احمله على ظهري.
فقلت: أنا أحمله عنك.
فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟.
فحمله على ظهره، وانطلقنا إلى المرأة، فألقي عن ظهره، وأخرج من الدقيق في القدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، ثم أنزلها عن النار، وقال: ايتني بصحفة فأتي بها فغرفها، ثم تركها بين يدي الصبيان، وقال: كلوا فأكلوا حتى شبعوا - والمرأة تدعوا له وهي لا تعرفه - فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم، الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم.
وقيل: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عمر وهو يعدو إلى ظاهر المدينة، فقال له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟.
فقال: قد ند بعير من إبل الصدقة، فأنا أطلبه.
فقال: قد أتعبت الخلفاء من بعدك.
وقيل: أنه رأى جارية تتمايل من الجوع.
فقال: من هذه؟.
فقالت: ابنة عبد الله هذه ابنتي.
قال: فما بالها؟.
فقالت: إنك تحبس عنا ما في يدك، فيصيبنا ما ترى.
فقال: يا عبد الله، بيني وبينكم كتاب الله، والله أعطيكم إلا ما فرض الله لكم، أتريدون مني أن أعطيكم ما ليس لكم؟ فأعود خائنا؟
روي ذلك عن الزهري.
وقال الواقدي: حدثنا أبو حمزة يعقوب بن مجاهد عن محمد بن إبراهيم عن أبي عمر قال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق أمير المؤمنين؟.
قالت: النبي ﷺ. قال: « أمير المؤمنين هو ».
وأول من حياه بها المغيرة بن شعبة، وقيل: غيره. والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، حدثتني أم عمر وبنت حسان الكوفية - وكان قد أتى عليها مائة وثلاثون سنة -، عن أبيها قال: لما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله؟.
فقال عمر: هذا أمر يطول، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين.
وملخص ذلك: أنه رضي الله عنه لما فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين ونزل بالأبطح، دعا الله عز وجل، وشكا إليه أنه قد كبرت سنه وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمن عليه بالشهادة في بلد النبي ﷺ.
كما ثبت عنه في الصحيح: أنه كان يقول: اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك، وموتا في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء، وجمع له بين هذين الأمرين الشهادة في المدينة النبوية، وهذا عزيز جدا.
ولكن الله لطيف بمن يشاء تبارك وتعالى، فاتفق له أن ضربه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الأصل، الرومي الدار، وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات.
وقيل: ست ضربات، إحداهن تحت سرته قطعت السفاق، فخر من قامته.
واستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلا مات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن عوف برنسا فانتحر نفسه، لعنه الله.
وحمل عمر إلى منزله والدم يسيل من جرحه - وذلك قبل طلوع الشمس - فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق، ويقول: نعم.
ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها.
ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو؟
فقالوا له: أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة.
فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يدي رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة.
ثم قال: قبحه الله، لقد كنا أمرنا به معروفا - وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه فإنه نجار نقاش حداد، فزاد في خراجه إلى مائة في كل شهر -.
وقال له: لقد بلغني أنك تحسن أن تعمل رحا تدور بالهواء؟
فقال أبو لؤلؤة: أما والله لأعملن لك رحا يتحدث عنها الناس في المشارق والمغارب - وكان هذا يوم الثلاثاء عشية - وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة.
وأوصى عمر: أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله ﷺ وهو راضٍ عنهم وهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
ولم يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي فيهم، لكونه من قبيلته، خشية أن يراعي في الإمارة بسببه، وأوصى من يستخلف بعده بالناس خيرا على طبقاتهم ومراتبهم، ومات رضي الله عنه بعد ثلاث، ودفن يوم الأحد، مستهل المحرم من سنة أربع وعشرين بالحجرة النبوية إلى جانب الصديق، عن إذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ذلك، وفي ذلك اليوم حكم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال الواقدي رحمه الله: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه قال: طعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم، سنة أربع وعشرين، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين يوما، وبويع لعثمان يوم الاثنين، لثلاث مضين من المحرم.
قال: فذكرت ذلك لعثمان الأخنس، فقال: ما أراك إلا وهللت.
توفي عمر لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان لليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين.
وقال أبو معشر: قتل عمر لأربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وبويع عثمان بن عفان.
وقال ابن جرير: حدثت عن هشام بن محمد قال: قتل عمر لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام.
وقال سيف: عن خليد بن وفرة ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث من المحرم، فخرج فصلى بالناس صلاة العصر.
وقال علي بن محمد المدائني: عن شريك، عن الأعمش - أو جابر الجعفي - عن عوف بن مالك الأشجعي، وعامر بن أبي محمد، عن أشياخ من قومه، وعثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال: طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة، والقول الأول هو الأشهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
صفته رضي الله عنه
كان رجلا طوالا أصلع أعسر أيسر أحور العينين، آدم اللون، وقيل: كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة أشنب الأسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء.
واختلف في مقدار سنه يوم مات رضي الله عنه على أقوال عدتها - عشرة -.
فقال ابن جرير: حدثنا زيد بن أحزم، ثنا أبو قتيبة، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قتل عمر بن الخطاب، وهو ابن خمس وخمسين سنة.
ورواه الدرواردي عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر.
وقاله عبد الرزاق عن، ابن جريج، عن الزهري.
ورواه أحمد، عن هشيم، عن علي بن زيد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع رواية أخرى ست وخمسون سنة.
قال ابن جرير، وقال آخرون: كان عمره ثلاث وخمسين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد.
ثم روى عن عامر الشعبي: أنه توفي وله ثلاث وستون سنة.
قلت: وقد تقدم في عمر الصديق مثله، وروي عن قتادة أنه قال: توفي عمر وهو ابن إحدى وستين سنة.
وعن ابن عمر والزهري: خمس وستون.
وعن ابن عباس: ست وستون.
وروى ابن جرير عن أسلم مولى عمر أنه قال: توفي وهو ابن ستين سنة.
قال الواقدي: وهذا أثبت الأقاويل عندنا.
وقال المدائني: توفي عمر، وهو ابن سبع وخمسين سنة.
ذكر زوجاته وأبنائه وبناته
قال الواقدي، وابن الكلبي، وغيرهما: تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة رضي الله عنهم.
وتزوج مليكة بنت جرول فولدت له عبيد الله فطلقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفة، قاله المدائني.
وقال الواقدي: هي أم كلثوم بنت جرول فولدت له عبيد الله، وزيدا الأصغر.
قال المدائني: وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي ففارقها في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر.
قالوا: وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها - حين قتل في الشام - فولدت له فاطمة.
ثم طلقها قال المدائني، وقيل: لم يطلقها.
قالوا: وتزوج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح من الأوس.
وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي مليكة، ولما قتل عمر تزوجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنهم، ويقال: هي أم ابنه عياض فالله أعلم.
قال المدائني: وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق وهي صغيرة وراسل فيها عائشة.
فقالت أم كلثوم: لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟.
قالت: نعم، إنه خشن العيش.
فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فصده عنها ودله على أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ومن فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وقال: تعلق منها بسبب من رسول الله ﷺ فخطبها من علي فزوجه إياها، فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفا، فولدت له زيدا ورقية.
قالوا: وتزوج لهية - امرأة من اليمن - فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل: الأوسط.
وقال الواقدي: هي أم ولد وليست زوجة.
قالوا: وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب.
قال الواقدي: وهي أصغر ولده.
قال الواقدي: وخطب أم أبان بنت عتبة بن شيبة فكرهته وقالت: يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابسا ويخرج عابسا.
قلت: فجملة أولاده رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة عشر ولدا، وهم: زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط قال الزبير بن بكار: وهو أبو شحمة، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة رضي الله عنهم.
ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والإسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع، وهن: جميلة بنت عاصم بن ثابت بن الأقلح، وزينب بنت مظعون، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقريبة بنت أبي أمية، ومليكة بنت جرول، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأم كلثوم أخرى وهي: مليكة بنت جرول.
وكانت له أمتان له منهما أولاد، هما: فكيهة، ولهية، وقد اختلف في لهية هذه، فقال بعضهم: كانت أم ولد وقال بعضهم: كان أصلها من اليمن وتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فالله أعلم.
ذكر بعض ما رثي به
قال علي بن محمد المدائني: عن ابن داب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المغيرة بن شعبة قال: لما مات عمر بكته ابنة أبي خيثمة فقالت: واعمراه، أقام الأود وأبرَّ العهد، أمات الفتن وأحيا السنن، خرج نقي الثوب بريا من العيب.
قال: فقال علي بن أبي طالب: والله لقد صدقت، ذهب بخيرها، ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت.
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في زوجها عمر:
فجعني فيروز لا در دره * بأبيض تال للكتاب منيب
رؤوف على الأدنى غليظ على العدى * أخى ثقة في النائبات نجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله * سريع إلى الخيرات غير قطوب
وقالت أيضا:
عين جودي بعبرة ونحيب * لا تملي على الإمام النجيب
فجعتنا المنون بالفارس العيـ * ـلم يوم الهياج والتلبيب
عصمة الناس والمعين على الدهـ * ـر وغيث المنتاب والمحروب
قل لأهل السراء والبؤس موتوا * قد سقته المنون كأس سغوب
وقالت امرأة من المسلمين تبكيه:
سيبكيك نساء الحـ * ـي يبكين شجيات
ويخمشن وجوها * كالدنانير نقيات
ويلبسن ثياب الحز * ن بعد القصبيات
وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في (تاريخه)، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا لما أسنده وروي عنه من الأحكام مجلدا آخر كبيرا مرتبا على أبواب الفقه ولله الحمد.
أحداث وقعت في هذه السنة
قال ابن جرير: وفي هذه السنة توفي قتادة بن النعمان.
وفيها: غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية ومعه من الصحابة عبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وأبو ذر، وشداد بن أوس.
وفيها: فتح معاوية عسقلان صلحا.
قال: وفيها: كان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سوار، قال: وأما مصعب الزبيري، فإنه ذكر أن مالكا روى عن الزهري أن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاضٍ.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في (تاريخه) في سنة ثلاث وعشرين.
فيها: كانت قصة سارية بن زنيم.
وفيها: فتحت كرمان، وأميرها سهيل بن عدي.
وفيها: فتحت سجستان، وأميرها عاصم بن عمرو.
وفيها: فتحت مكران، وأميرها الحكم بن أبي العاص أخو عثمان، وهي من بلاد الجبل.
وفيها: رجع أبو موسى الأشعري من بلاد أصبهان، وقد افتتح بلادها.
وفيها: غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية.
ثم ذكر وفاة من مات فيها
فمنهم: قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي الظفري أخو أبي سعيد الخدري لأمه، وقتادة أكبر منه، شهد بدرا وأصيبت عينه في يوم أحد حتى وقعت على خده فردها رسول الله ﷺ فصارت أحسن عينيه، وكان من الرماة المذكورين، وكان على مقدمة عمر حين قدم إلى الشام، توفي في هذه السنة على المشهور عن خمس وستين سنة.
ونزل عمر في قبره، وقيل: أنه توفي في التي قبلها.
ثم ذكر ترجمة عمر بن الخطاب فأطال فيها، وأكثر وأطنب، وأتى بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة.
ذكر من توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الأقرع بن حابس
ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي المجاشعي.
قال ابن دريد: واسمه فراس بن حابس، ولقب: بالأقرع، لقرع في رأسه، وكان أحد الرؤساء، قدم على رسول الله ﷺ مع وفد بني تميم، وهو الذي نادى من وراء الحجرات: يا محمد إن مدحي زين، وذمي شين، وهو القائل - وقد رأى رسول الله ﷺ يقبل الحسن - أتقبله؟! والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم.
فقال: « من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ ».
وفي رواية: « ما أملك إن نزع الله الرحمة من قلبك ».
وكان ممن تألفه رسول الله ﷺ فأعطاه يوم حنين مائة من الإبل، وكذلك لعيينة بن حصن الفزاري، وأعطى عباس بن مرداس خمسين من الإبل فقال:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما * ومن يخفض اليوم لا يرفع
فقال له رسول الله ﷺ: « أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع ».
رواه البخاري قال السهيلي: إنما قدم رسول الله ﷺ ذكر الأقرع قبل عيينة لأن الأقرع كان خيرا من عيينة، ولهذا لم يرتد بعد النبي ﷺ كما ارتد عيينة، فبايع طليحة وصدقه، ثم عاد.
والمقصود: أن الأقرع كان سيدا مطاعا، وشهد مع خالد وقائعه بأرض العراق، وكان على مقدمته يوم الأنبار.
ذكره شيخنا فيمن توفي في خلافة عمر بن الخطاب.
والذي ذكره ابن الأثير في الغابة: أنه استعمله عبد الله بن عامر على جيش، وسيره إلى الجوزجان فقتل وقتلوا جميعا، وذلك في خلافة عثمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
حباب من المنذر
ابن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عمر، ويقال: أبو عمرو الأنصاري الخزرجي السلمي.
ويقال له: ذو الرأي لأنه أشار يوم بدر أن ينزل رسول الله ﷺ على أدنى ماء يكون إلى القوم، وأن يغور ما وراءهم من القلب، فأصاب في هذا الرأي، ونزل الملك بتصديقه.
وأما قوله يوم السقيفة: إنا جذيلها المحكك، ومزيجها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. فقد رده عليه الصديق والصحابة.
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
عتبة بن مسعود الهذلي، هاجر مع أخيه لأبويه، عبد الله إلى الحبشة شهد أحدا وما بعدها.
قال الزهري: ما كان عبد الله بأفقه منه، ولكن مات عتبة قبله، وتوفي زمن عمر على الصحيح، ويقال: في زمن معاوية سنة أربع وأربعين.
علقمة بن علاثة
ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، أسلم عام الفتح، وشهد حنينا وأعطي يومئذ مائة من الإبل تأليفا لقلبه.
وكان يكون بتهامة وكان شريفا مطاعا في قومه، وقد ارتد أيام الصديق، فبعث إليه سرية فانهزم ثم أسلم وحسن إسلامه، ووفد على عمر في خلافته، وقدم دمشق في طلب ميراث له ثَمَّ، ويقال: استعمله عمر على حوران فمات بها، وقد كان الحطيئة قصده ليمتدحه فمات قبل مقدمه بليالٍ، فقال:
فما كان بيني لو لقيتك سالما * وبين الغنى إلا ليال قلائل
علقمة بن مجزز
ابن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، أحد أمراء رسول الله ﷺ، على بعض السرايا، وكانت فيه دعابة، فأجج نارا، وأمر أصحابه أن يدخلوا فيها، فامتنعوا.
فقال النبي ﷺ: « لو دخلوا فيها ما خرجوا منها » وقال: « إنما الطاعة في المعروف ».
وقد كان علقمة جوادا ممدحا، رثاه جواس العذري، فقال:
إن السلام وحسن كل تحية * تغدو على ابن مجزز وتروحُ
عويم بن ساعدة
ابن عباس، أبو عبد الرحمن الأنصاري الأوسي، أحد بني عمرو بن عوف، شهد العقبة، وبدرا وما بعدها.
له حديث عند أحمد، وابن ماجة في الاستنجاء بالماء.
قال ابن عبد البر: توفي في حياة النبي ﷺ.
وقيل: في خلافة عمر، وقال: وهو واقف على قبره لا يستطيع أحد أن يقول: أنا خير من صاحب هذا القبر، ما نصبت راية للنبي ﷺ إلا وهو واقف تحتها.
وقد روى هذا الأثر ابن أبي عاصم كما أورده ابن الأثير من طريقه.
غيلان بن سلمة الثقفي
أسلم عام الفتح على عشر نسوة، فأمره رسول الله ﷺ أن يختار منهن أربعا، وقد وفد قبل الإسلام على كسرى، فأمره أن يبني له قصرا بالطائف.
وقد سأله كسرى: أي ولدك أحب إليك؟.
قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.
فقال له كسرى: أنى لك هذا؟ هذا كلام الحكماء.
قال: فما غذائك؟.
قال: البر.
قال: نعم، هذا من البر لا من التمر واللبن.
معمر بن الحارث
ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، أخو حاطب وحطاب.
أمهم: قيلة بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون.
أسلم معمر قبل دخول النبي ﷺ دار الأرقم، وشهد بدرا وما بعدها، وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين معاذ بن عفراء.
ميسرة بن مسروق العبسي
شيخ صالح قيل: إنه صحابي شهد اليرموك، ودخل الروم أميرا على جيش ستة آلاف، وكانت له همة عالية، فقتل وسبي وغنم وذلك في سنة عشرين.
وروى عن أبي عبيدة، وعنه أسلم مولى عمر لم يذكره ابن الأثير في (الغابة).
واقد بن عبد الله
بن عبد مناف بن عرين الحنظلي اليربوعي حليف بني عدي بن كعب، أسلم قبل دخول النبي دار الأرقم، وشهد بدرا وما بعدها، وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين بشر من البراء بن معرور، وهو أول من قتل في سبيل الله عز وجل ببطن نخلة، مع عبد الله بن جحش حين قتل عمرو بن الحضرمي، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه.
أبو خراش الهذلي الشاعر
واسمه خويلد بن مرة، كان يسبق الخيل على قدميه، وكان فَتاكا في الجاهلية، ثم أسلم وحسن إسلامه.
وتوفي في زمن عمر، أتاه حجاج فذهب يأتيهم بماء فنهشته حية، فرجع إليهم بالماء وأعطاهم شاة وقدرا، ولم يعلمهم بما جرى له، فأصبح فمات فدفنوه.
ذكره ابن عبد البر وابن الأثير في (أسماء الصحابة).
والظاهر: أنه ليست له وفادة، وإنما أسلم في حياة النبي فهو مخضرم والله أعلم.
أبو ليلى عبد الرحمن
ابن كعب بن عمرو الأنصاري شهد أحدا وما بعدها، إلا تبوك فإنه تخلف لعذر الفقر، وهو أحد البكائين المذكورين.
سودة بنت زمعة
القرشية العامرية أم المؤمنين، أول من دخل بها رسول الله ﷺ بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت صوامة قوامة.
ويقال: كان في خلقها حدة، وقد كبرت، فأراد رسول الله ﷺ أن يفارقها - ويقال: بل فارقها - فقالت: يا رسول الله لا تفارقني وأنا أجعل يومي لعائشة، فتركها رسول الله ﷺ، وصالحها على ذلك.
وفي ذلك أنزل الله عز وجل: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزا أَوْ إِعْرَاضا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } الآية [24].
قالت عائشة: نزلت في سودة بنت زمعة. توفيت في خلافة عمر بن الخطاب.
هند بنت عتبة
يقال: ماتت في خلافة عمر.
وقيل: توفيت قبل ذلك كما تقدم فالله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ثم استهلت سنة أربع وعشرين
ففي أول يوم منها: دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قول، وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر، وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين.
وقال: لا أتحمل أمرهم حيا وميتا، وإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم ﷺ.
ومن تمام ورعة لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه.
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه: أنه استثناه من بينهم، وقال: لست مدخله فيهم.
وقال لأهل الشورى: يحضركم عبد الله - يعني: ابنه - وليس إليه من الأمر شيء - يعني: بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولي شيئا - وأوصى أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلا من المسلمين، وجعل عليهم مستحثا أبا طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود الكندي.
وقد قال عمر بن الخطاب: ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحدا، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله ﷺ بما ينزل به جبريل عليه.
قالوا: فلما مات عمر رضي الله عنه، وأحضرت جنازته تبادر إليها علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف: لستما من هذا في شيء، إنما هذا إلى صهيب الذي أمره عمر أن يصلي بالناس.
فتقدم صهيب وصلى عليه، ونزل في قبره مع ابنه عبد الله أهل الشورى سوى طلحة فإنه كان غائبا، فلما فرغ من شأن عمر جمعهم المقداد بن الأسود في بيت المسور بن مخرمة.
وقيل: في حجرة عائشة.
وقيل: في بيت المال.
وقيل: في بيت فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، والأول أشبه والله أعلم.
فجلسوا في البيت وقام أبو طلحة يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة فجلسا من وراء الباب، فحصبهم سعد بن أبي وقاص وطردهما، وقال: جئتما لتقولا حضرنا أمر الشورى؟
رواه المدائني عن مشايخه والله أعلم بصحته.
والمقصود: أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم فكثر القول وعلت الأصوات، وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها، ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم مالهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين.
فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك والله علي الإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق، فقالا: نعم!.
ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن.
فقال كل منهما: نعم!. ثم تفرقوا.
ويروى: أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به عليَّ؟.
قال: بعثمان.
وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟.
قال: بعلي بن أبي طالب.
والظاهر: أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها ينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه.
ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا مثنى وفرادى ومجتمعين، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب.
وحتى سأل من يرد بمن الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره.
فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءا واستخارةً، وسؤالا من ذوي الرأي عنهم، فلم يجدا أحدا يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب، جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور، والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث اذهب فادع إليَّ عليا وعثمان.
قال المسور: فقلت: بأيهما أبدأ؟
فقال: بأيهما شئت.
قال: فذهبت إلى علي فقلت: أجب خالي، فقال: أمرك أن تدعو معي أحدا؟
قلت: نعم!.
قال: من؟
قلت: عثمان بن عفان.
قال: بأينا بدأ؟
قلت: لم يأمرني بذلك، بل قال: ادع لي أيهما شئت أولا، فجئت إليك، قال: فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس عليَّ حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان، فقال: إني قد سألت الناس عنكما، فلم أجد أحدا يعدل بكما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عمه رسول الله ﷺ، وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلا حييا رضي الله عنه -.
ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله ﷺ فوقف وقوفا طويلا، ودعا دعاءً طويلا لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرا وجهرا بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي وأما عثمان، فقم إلي يا علي فقام إليه فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ وفعل أبي بكر وعمر؟
قال: اللهم نعم!
قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.
قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي ﷺ وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال: آخرا.
وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن: { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما } إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح، فهي مردودة على قائليها وناقلها والله أعلم.
والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تميز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها، ومستقيمها وسقيمها، ومبادها وقويمها، والله الموفق للصواب.
وقد اختلف علماء السير في اليوم الذي بويع فيه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فروى الواقدي عن شيوخه: أنه بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وهذا غريب جدا.
وقد روى الواقدي أيضا، عن ابن جرير، عن ابن أبي مليكة قال: بويع لعثمان بن عفان لعشر خلون من المحرم بعد مقتل عمر بثلاث ليال، وهذا أغرب من الذي قبله.
وكذا روى سيف بن عمر، عن عامر الشعبي أنه قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وعشرين، وقد دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمع الناس بين الأذان والإقامة فخرج فصلى بهم العصر.
وقال سيف: عن خليفة بن زفر ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس - يعني: في أعطياتهم مائة - ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك.
قلت: ظاهر ما ذكرناه من سياق بيعته يقتضي أن ذلك كان قبل الزوال، لكنه لما بايعه الناس في المسجد ذهب به إلى دار الشورى على ما تقدم فيها من الخلاف، فبايعه بقية الناس، وكأنه لم يتم البيعة إلا بعد الظهر وصلى صهيب يومئذ الظهر في المسجد النبوي وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالمسلمين صلاة العصر، كما ذكره الشعبي وغيره.
وأما أول خطبة خطبها بالمسلمين، فروى سيف بن عمر، عن بدر بن عثمان، عن عمه قال: لما بايع أهل الشورى عثمان خرج وهو أشدهم كآبه، فأتى منبر النبي ﷺ فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ وقال: إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم.
أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلا، بالذي هو خير، فقال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابا وَخَيْرٌ أَمَلا } [25].
قال: وأقبل الناس يبايعونه.
قلت: وهذه الخطبة: إما بعد صلاة العصر يومئذٍ، أو قبل الزوال، وعبد الرحمن بن عوف جالس في رأس المنبر وهو الأشبه والله أعلم.
وما يذكره بعض الناس من أن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها.
فهو شيء يذكره صاحب (العقد) وغيره، ممن يذكر طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه والله أعلم.
وأما قول الشعبي: إنه زاد الناس مائة مائة - يعني: في عطاء كل واحد من جند المسلمين - زاده على ما فرض له عمر مائة درهم من بيت المال، وكان عمر قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهما من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين درهمين، فلما ولي عثمان أقر ذلك وزاده، واتخذ سماطا في المسجد أيضا للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل، والفقراء، والمساكين رضي الله عنه.
وقد كان أبو بكر إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله ﷺ يقف عليها، فلما ولي عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلما ولي عثمان قال: إن هذا يطول فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله ﷺ، وزاد الأذان الأول يوم الجمعة، قبل الأذان الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله ﷺ إذا جلس على المنبر.
وأما أول حكومة حكم فيها، فقضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلا نصرانيا يقال له: جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر فقتله، وكان قد قيل: إنهما مالآ أبا لؤلؤة على قتل عمر. فالله أعلم.
وقد كان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي: ما من العدل تركه، وأمر بقتله.
وقال بعض المهاجرين: أيقتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم؟
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله، لأن أمرهم إليه، إذ لا وارث لهم إلا بيت المال، والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلى سبيل عبيد الله.
قالوا: فكان زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر يقول:
ألا يا عبيد الله مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دما والله في غير حله * حراما وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه والحوادث جمة * نعم اتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
قال: فشكا عبيد الله بن عمر زيادا إلى عثمان فاستدعى عثمان زياد بن لبيد، فأنشأ زياد يقول في عثمان:
أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان
أتعفوا إذ عفوت بغير حق * فمالك بالذي يخلى يدان
قال: فنهاه عثمان عن ذلك وزبره فسكت زياد بن لبيد عما يقول.
ثم كتب عثمان بن عفان إلى عماله على الأمصار أمراء الحرب، والأئمة على الصلوات، والأمناء على بيوت المال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويحرضهم على الاتباع وترك الابتداع.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولى عليها سعد بن أبي وقاص فكان أول عامل ولاه لأن عمر قال: فإن أصابت الإمرة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.
فاستعمل سعدا عليها سنة وبعض أخرى، ثم رواه ابن جرير من طريق سيف، عن مجالد، عن الشعبي.
وقال الواقدي فيما ذكره: عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر أوصى أن تقرَّ عماله سنة، فلما ولي عثمان أقر المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله واستعمل سعدا، ثم عزله وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
قال ابن جرير: فعلى ما ذكره الواقدي تكون ولاية سعد على الكوفة سنة خمس وعشرين.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة - أعني: سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام في أيام عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف.
وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير ههنا هذه الوقعة وملخصها: أن الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية حين نقضوا العهد، فوطئ بلادهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبى وأخذ أموالا جزيلة، فلما أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان ثمانمائة ألف درهم في كل سنة، فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالما غانما إلى الكوفة، فمر بالموصل.
وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمد أهل الشام على حرب أهل الروم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خاف أهل الشام، وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة: أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلا أمينا كريما شجاعا في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام.
فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيبا حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمر به أمير المؤمنين، وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمَّرَ سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام، فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام، وعلى جند المسلمين حبيب بن مسلم الفهري، فلما اجتمع الجيشان شنوا الغارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئا كثيرا وفتحوا حصونا كثيرة ولله الحمد.
وزعم الواقدي: أن الذي أمد أهل الشام بسلمان بن ربيعة إنما هو سعيد بن العاص عن كتاب عثمان رضي الله عنه، فبعث سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة في ستة آلاف فارس حتى انتهى إلى حبيب بن مسلمة، وقد أقبل إليه الموريان الرومي في ثمانين ألفا من الروم والترك، وكان حبيب بن مسلمة شجاعا شهما فعزم على أن يبيت جيش الروم، فسمعته امرأته يقول للأمراء ذلك، فقالت له: فأين موعدي معك؟ - تعني: أين اجتمع بك غدا؟ -، فقال لها: موعدك سرادق الموريان، أو الجنة.
ثم نهض إليهم في ذلك الليل بمن معه من المسلمين فقتل من أشرف له وسبقته امرأته إلى سرادق الموريان فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق وقد مات عنها حبيب بن مسلمة بعد ذلك، فخلف عليها بعده الضحاك بن قيس الفهري، فهي أم ولده.
قال ابن جرير: واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي، وأبو معشر: حج بهم عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان.
وقال آخرون: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
والأول هو الأشهر فإن عثمان لم يتمكن من الحج في هذه السنة لأجل رعاف أصابه مع الناس في هذه السنة حتى خشي عليه، وكان يقال لهذه السنة: سنة الرعاف.
وفيها: افتتح أبو موسى الأشعري الري بعد ما نقضوا العهد الذي كان واثقهم عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
وفيها: توفي سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ويكنى: بأبي سفيان، وكان ينزل قديدا وهو الذي اتبع رسول الله ﷺ، وأبا بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط الديلي حين خرجوا من غار ثور قاصدين المدينة فأراد أن يردهم على أهل مكة لما جعلوا في كل واحد من النبي ﷺ وأبي بكر مائة مائة من الإبل، فطمع أن يفوز بهذا الجعل فلم يسلطه الله عليهم، بل لما اقترب منهم وسمع قراءة رسول الله ﷺ ساخت قوائم فرسه في الأرض حتى ناداهم بالأمان فأعطوه الأمان، وكتب له أبو بكر كتاب أمان عن إذن رسول الله ﷺ، ثم قدم به بعد غزوة الطائف فأسلم وأكرمه رسول الله ﷺ وهو القائل: يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟
فقال له: « بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ».
ثم دخلت سنة خمس وعشرين
فيها نقض أهل الإسكندرية العهد، وذلك أن ملك الروم بعث إليهم معويل الخصي في مراكب من البحر، فطمعوا في النصرة، ونقضوا ذمتهم، فغزاهم عمرو بن العاص في ربيع الأول، فافتتح الأرض عنوة، وافتتح المدينة صلحا.
وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفيها: في قول سيف عزل عثمان سعدا عن الكوفة وولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط مكانه، فكان هذا مما نقم على عثمان.
وفيها: وجه عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح لغزو بلاد المغرب، واستأذنه ابن أبي سرح في غزو إفريقية فأذن له، ويقال فيها أيضا: عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقيل: بل كان هذا في سنة سبع وعشرين، كما سيأتي والله أعلم.
وفيها: فتح معاوية الحصون.
وفيها: ولد ابنه يزيد بن معاوية.
ثم دخلت سنة ست وعشرين
قال الواقدي: فيها أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم.
وفيها: وسع المسجد الحرام.
وفيها: عزل سعدا عن الكوفة، وولاها الوليد بن عقبة، وكان سبب عزل سعد أنه اقترض من ابن مسعود مالا من بيت المال، فلما تقاضاه به ابن مسعود ولم يتيسر قضاؤه تقاولا، وجرت بينهما خصومة شديدة، فغضب عليهما عثمان فعزل سعدا واستعمل الوليد بن عقبة - وكان عاملا لعمر على عرب الجزيرة - فلما قدمها أقبل عليه أهلها فأقام بها خمس سنين، وليس على داره باب، وكان فيه رفق برعيته.
قال الواقدي: وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقال غيره: وفيها: افتتح عثمان بن أبي العاص سابور صلحا على ثلاثة آلاف ألف وثلاثمائة ألف.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين
قال الواقدي، وأبو معشر: وفيها: عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وكان أخا عثمان لأمه - وهو الذي شفع له يوم الفتح حين كان أهدر رسول الله ﷺ دمه.
غزوة إفريقية
أمر عثمان عبد الله بن أبي سرح أن يغزو بلاد إفريقية، فإذا افتتحها الله عليه فله خمس الخمس من الغنيمة نفلا، فسار إليها في عشرة آلاف، فافتتحها سهلها وجبلها، وقتل خلقا كثيرا من أهلها، ثم اجتمعوا على الطاعة والإسلام، وحسن إسلامهم.
وأخذ عبد الله بن سعد خمس الخمس من الغنيمة، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الجيش، فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار، والراجل ألف دينار.
قال الواقدي: وصالحه بطريقها على ألفي ألف دينار، وعشرين ألف دينار، فأطلقها كلها عثمان في يوم واحد لآل الحكم، ويقال: لآل مروان.
لما افتتحت إفريقية بعث عثمان إلى عبد الله بن نافع بن عبد قيس، وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريين من فورهما إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى الذين خرجوا إليها يقول: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتتح قسطنطينية في الأجر آخر الزمان والسلام.
غزوة الأندلس
قال: فساروا إليها فافتتحوها، ولله الحمد والمنة.
وقعة جرجير والبربر مع المسلمين
لما قصد المسلمون وهم عشرون ألفا إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف، وقيل: في مائتي ألف.
فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه، ولا أخوف عليهم منه.
قال عبد الله بن الزبير: فنظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف، وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح فسألته: أن يبعث معي من يحمي ظهري، وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان.
قال: فأمر بهم فحموا ظهري، وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه - وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك - فلما اقتربت منه أحس مني الشر، ففر على برذونه، فلحقته فطعنته برمحي، وذففت عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت.
فلما رأى ذلك البربر فرقوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فغنموا غنائم جمة وأموالا كثيرة، وسبيا عظيما، وذلك ببلد يقال له: سبيطلة -على يومين من القيروان -، فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعن أبيه، وأصحابهما أجمعين.
قال الواقدي: وفي هذه السنة: افتتحت اصطخر ثانية على يدي عثمان بن أبي العاص.
وفيها: غزا معاوية قنسرين.
وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان.
قال ابن جرير: قال بعضهم: وفي هذه السنة غزا معاوية قبرص.
وقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثمان وعشرين.
وقال أبو معشر: غزاها معاوية سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين فتح قبرص
ففيها: ذكر ابن جرير فتح قبرص تبعا للواقدي
وهي: جزيرة غربي بلاد الشام في البحر مخلصة وحدها، ولها ذنب مستطيل إلى نحو الساحل مما يلي دمشق، وغربيها أعرضها، وفيها فواكه كثيرة، ومعادن.
وهي بلد جيد، وكان فتحها على يدي معاوية بن أبي سفيان، ركب إليها في جيش كثيف من المسلمين ومعه عبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام بنت ملحان التي تقدم حديثها في ذلك حين نام رسول الله ﷺ في بيتها ثم استيقظ يضحك، فقالت: ما أضحكك يا رسول الله؟
فقال: « ناس من أمتي عُرضوا عليَّ يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة.
فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: أنت منهم.
ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، فقال مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: أنت من الأولين ».
فكانت في هذه الغزوة، وماتت بها.
وكانت الثانية عبارة عن غزوة قسطنطينية بعد هذا كما سنذكره.
والمقصود: أن معاوية ركب البحر في مراكب فقصد الجزيرة المعروفة بقبرص، ومعه جيش عظيم من المسلمين، وذلك بأمر من عثمان بن عفان رضي الله عنه، له في ذلك بعد سؤاله إياه.
وقد كان سأل في ذلك عمر بن الخطاب فأبى أن يمكنه من حمل المسلمين على هذا الخلق العظيم الذي لو اضطرب لهلكوا عن آخرهم، فلما كان عثمان لحَّ معاوية عليه في ذلك فأذن له فركب في المراكب فانتهى إليها، ووافاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح إليها من الجانب الآخر، فالتقيا على أهلها فقتلوا خلقا كثيرا، وسبوا سبايا كثيرة، وغنموا مالا جزيلا جدا.
ولما جيء بالأسارى جعل أبو الدرداء يبكي، فقال له جبير بن نفير: أتبكي وهذا يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟.
فقال: ويحك، إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيعوا أمر الله صيرهم إلى ما ترى، سلط الله عليهم السبي، وإذا سلط على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة.
وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره؟!
ثم صالحهم معاوية على سبعة آلاف دينار في كل سنة، وهادنهم، فلما أرادوا الخروج منها، قُدِمت لأم حرام بغلة لتركبها، فسقطت عنها، فاندقت عنقها فماتت هناك فقبرها هنالك يعظمونه ويستسقون به، ويقولون قبر المرأة الصالحة.
قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
وتزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة الكلبية - وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل بها -.
وفيها: بنى عثمان داره بالمدينة الزوراء.
وفيها: حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين
ففيها: عزل عثمان بن عفان أبا موسى الأشعري عن البصرة بعد عمله ست سنين، وقيل: ثلاث.
وأمر عليها عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان بن عفان، وجمع له بين جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص، وله من العمر خمس وعشرون سنة، فأقام بها ست سنين.
وفي هذه السنة: افتتح عبد الله بن عامر فارس في قول الواقدي وأبي معشر.
زعم سيف: أنه كان قبل هذه السنة. فالله أعلم.
وفيها: وسع عثمان بن عفان مسجد النبي ﷺ، وبناه بالقَصَّة - وهي الكلس - كان يؤتى به من بطن نخل والحجارة المنقوشة، وجعل عمده حجارة مرصعة، وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ستة، على ما كانت عليه في زمان عمر بن الخطاب، ابتدأ بناءه في ربيع الأول منها.
وفيها: حج بالناس عثمان بن عفان، وضرب له بمنى فسطاطا، فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة عامه هذا، فأنكر ذلك عليه غير واحد من الصحابة كعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، حتى قال ابن مسعود: ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
وقد ناظره عبد الرحمن بن عوف فيما فعله، فروى ابن جرير أنه قال: تأهلت بمكة.
فقال له: ولك أهل بالمدينة، وإنك تقوم حيث أهلك بالمدينة.
قال: وإن لي مالا بالطائف أريد أن أطلعه بعد الصدر.
قال: إنك بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث.
فقال: وإن طائفة من أهل اليمن قالوا: إن الصلاة بالحضر ركعتان، فربما رأوني أصلي ركعتين فيحتجون بي.
فقال له: قد كان رسول الله ﷺ ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، وكان يصلي ههنا ركعتين، وكان أبو بكر يصلي ههنا ركعتين، وكذلك عمر بن الخطاب، وصليت أنت ركعتين صدرا من إمارتك.
قال: فسكت عثمان، ثم قال: إنما هو رأي رأيته.
سنة ثلاثين من الهجرة النبوية
فيها: افتتح سعيد بن العاص طبرستان في قول الواقدي وأبي معشر والمدائني، وقال: هو أول من غزاها.
وزعم سيف: أنهم كانوا صالحوا سويد بن مقرن قبل ذلك على أن لا يغزوها، على مال بذله له أصبهبذها فالله أعلم.
فذكر المدائني: أن سعيد بن العاص ركب في جيش فيه الحسن والحسين، والعبادلة الأربعة، وحذيفة بن اليمان، في خلق من الصحابة، فسار بهم فمر على بلدان شتى يصالحونه على أموال جزيلة، حتى انتهى إلى بلد معاملة جرجان، فقاتلوه حتى احتاجوا إلى صلاة الخوف، فسأل حذيفة كيف صلى رسول الله ﷺ؟
فأخبره، فصلى كما أخبره، ثم سأله أهل ذلك الحصن الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا، ففتحوا الحصن فقتلهم إلا رجلا واحدا، وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطا مقفولا، فاستدعى به سعيد، ففتحوه، فإذا فيه خرقة سوداء مدرجة فنشروها، فإذا فيها خرفة حمراء فنشروها، وإذا داخلها خرقة صفراء، وفيها: إيران كميت وورد.
فقال شاعر يهجو بهما بني نهد:
آبَ الكرام بالسبايا غنيمة * وفاز بنو نهد بأيرين في سفطْ
كميتٍ ووردٍ وافرين كلاهما * فظنوهما غنما فناهيك من غلطْ
قالوا: ثم نقض أهل جرجان ما كان صالحهم عليه سعيد بن العاص، وامتنعوا عن أداء المال الذي ضربه عليهم - وكان مائة ألف دينار، وقيل: مائتي ألف دينار وقيل: ثلاثمائة ألف دينار -، ثم وجه إليهم يزيد بن المهلب بعد ذلك، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة: عزل عثمان بن عفان الوليد بن عقبة عن الكوفة، وولى عليها سعيد بن العاص، وكان سبب عزلة أنه صلى بأهل الكوفة الصبح أربعا، ثم التفت فقال: أزيدكم؟
فقال قائل: مازلنا منك منذ اليوم في زيادة.
ثم أنه تصدى له جماعة يقال: كان بينهم وبينه شنآن، فشكوه إلى عثمان، وشهد بعضهم عليه أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقاياها، فأمر عثمان بإحضاره وأمر بجلده.
فيقال: أن عليا نزع عنه حلته، وأن سعيد بن العاص جلده بين يدي عثمان بن عفان، وعزله وأمر مكانه على الكوفة سعيد بن العاص.
وفي هذه السنة: سقط خاتم النبي ﷺ من يد عثمان في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وهي من أقل الآبار ماء، فلم يدرك خبره بعد بذل مال جزيل، والاجتهاد في طلبه حتى الساعة، فاستخلف عثمان بعده خاتما من فضة، ونقش عليه محمد رسول الله، فلما قتل عثمان ذهب الخاتم، فلم يدر من أخذه.
وقد روى ابن جرير هاهنا حديثا طويلا في اتخاذ النبي ﷺ خاتما من ذهب، ثم من فضة، وبعثه عمر بن الخطاب إلى كسرى، ثم دحية إلى قيصر، وأن الخاتم الذي كان في يد النبي ﷺ، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم في يد عثمان ست سنين، ثم إنه وقع في بئر أريس، وقد تقدم بعض هذا في الصحيح.
وفي هذه السنة: وقع بين معاوية وأبي ذر بالشام، وذلك أن أبا ذر أنكر على معاوية بعض الأمور، وكان ينكر على من يقتني مالا من الأغنياء، ويمنع أن يدخر فوق القوت، ويوجب أن يتصدق بالفضل، ويتأول قول الله سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [26] فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع. فبعث يشكوه إلى عثمان. فكتب عثمان إلى أبي ذر: أن يقدم عليه المدينة فقدمها، فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه، فلم يرجع، فأمره بالمقام بالربذة - وهي شرقي المدينة - ويقال: أنه سأل عثمان أن يقيم بها.
وقال: أن رسول الله ﷺ قال لي: « إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها » وقد بلغ البناء سلعا، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة، وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان، حتى لا يرتد أعرابيا بعد هجرته. ففعل فلم يزل مقيما بها حتى مات على ما سنذكره رضي الله عنه.
وفي هذه السنة: زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء.
فصل ذكر الذهبي وفاة أبي بن كعب
وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي: أنه توفي في هذه السنة - أعني: سنة ثلاثين - أبي بن كعب، فيما صححه الواقدي.
جبار بن صخر
ابن أمية بن خنساء، أبو عبد الرحمن الأنصاري، عقبي بدري، وقد بعثه رسول الله ﷺ إلى خيبر خارصا، وقد توفي عن ستين سنة.
حاطب بن أبي بلتعة
ابن عمرو بن عمير اللخمي، حليف بني أسد بن عبد العزى.
شهد بدرا وما بعدها، وهو الذي كان كتب إلى المشركين يعلمهم بعزم رسول الله ﷺ على فتح مكة، فعذره رسول الله ﷺ بما اعتذر به، ثم بعثه بعد ذلك برسالة إلى المقوقس ملك الإسكندرية.
الطفيل بن الحارث
ابن المطلب، أخو عبيدة، وحصين، شهد بدرا.
قال سعيد بن عمير: توفي في هذه السنة.
عبد الله بن كعب
ابن عمر المازني، أبو الحارث، وقيل: أبو يحيى الأنصاري، شهد بدرا، وكان على الخمس يومئذ.
عبد الله بن مظعون
أخو عثمان بن مظعون، هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا.
عياض بن زهير
ابن أبي شداد بن ربيعة بن هلال، أبو سعيد القرشي الفهري، شهد بدرا وما بعدها.
مسعود بن ربيعة
وقيل: ابن الربيع، أبو عمر القاري، شهد بدرا وما بعدها. توفي عن نيف وستين سنة.
معمر بن أبي سرح
ابن ربيعة بن هلال القرشي، أبو سعد الفهري.
وقيل: اسمه عمرو، بدري قديم الصحبة.
أبو أسيد
مالك بن ربيعة.
قال الفلاس: مات في هذه السنة، و الأصح: أنه مات سنة أربعين، و قيل: سنة ستين فالله أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين
ففيها: كانت غزوة الصواري، وغزوة الأساودة في البحر فيما ذكره الواقدي.
وقال أبو معشر: كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين.
وملخص ذلك فيما ذكره الواقدي وسيف وغيرهما: أن الشام كان قد جمعها لمعاوية بن أبي سفيان لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أحرزه غاية الحفظ وحمى حوزته، ومع هذا له في كل سنة غزوة في بلاد الروم في زمن الصيف - ولهذا يسمون هذه الغزوة الصائفة - فيقتلون خلقا، ويأسرون آخرين، ويفتحون حصونا، ويغنمون أموالا، ويرعبون الأعداء، فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح من أصاب من الفرنج والبربر، ببلاد إفريقية والأندلس، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لم ير مثله منذ كان الإسلام، خرجوا في خمسمائة مركب، وقصدوا عبد الله بن أبي سرح في أصحابه من المسلمين الذين ببلاد المغرب.
فلما تراءى الجمعان، بات الروم يقسقسون ويصلبون، وبات المسلمون يقرأون ويصلون، فلما أصبحوا صف عبد الله بن سعد أصحابه صفوفا في المراكب، وأمرهم بذكر الله وتلاوة القرآن.
قال بعض من حضر ذلك: فأقبلوا إلينا في أمر لم ير مثله من كثرة المراكب، وعقدوا صواريها، وكانت الريح لهم وعلينا فأرسينا، ثم سكنت الريح عنا، فقلنا لهم: إن شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر، فمات الأعجل منا ومنكم.
قال: فنخروا نخرة رجل واحد، وقالوا: الماء الماء.
قال: فدنونا منهم، وربطنا سفننا بسفنهم، ثم اجتلدنا وإياهم بالسيوف، يثب الرجال على الرجال بالسيوف والخناجر، وضربت الأمواج في عيون تلك السفن حتى ألجأتها إلى الساحل وألقت الأمواج جثث الرجال إلى الساحل حتى صارت مثل الجبل العظيم، وغلب الدم على لون الماء، وصبر المسلمون يومئذ صبرا لم يعهد مثله قط، وقتل منهم بشر كثير، ومن الروم أضعاف ذلك، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فهرب قسطنطين وجيشه - وقد قلوا جدا - وبه جراحات شديدة مكينة، مكث حينا يداوي منها بعد ذلك، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري أياما، ثم رجع مؤيدا منصورا مظفرا.
قال الواقدي: فحدثني معمر، عن الزهري قال: كان في هذه الغزوة محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر، فأظهرا عيب عثمان وما غير وما خالف أبا بكر وعمر، ويقولان: دمه حلال لأنه استعمل عبد الله بن سعد - وكان قد ارتد - وكفر بالقرآن العظيم وأباح رسول الله ﷺ دمه، وأخرج رسول الله ﷺ أقواما واستعملهم عثمان، ونزع أصحاب رسول الله ﷺ، واستعمل سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر.
فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين ولقوا العدو فكانا أنكل المسلمين قتالا، فقيل لهما في ذلك فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكمه؟
فأرسل إليهما عبد الله بن سعد فنهاهما أشد النهي، وقال: والله لولا لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما.
قال الواقدي: وفي هذه السنة فتحت أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة.
وفي هذه السنة قتل كسرى ملك الفرس
كيفية قتل كسرى ملك الفرس وهو يزدجرد
قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل من بعض أهلها مالا فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى الترك يستفزونهم عليه، فأتوه فقتلوا أصحابه وهرب هو حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحية على شط، فأوى إليه ليلا، فلما نام قتله.
وقال المدائني: لما هرب بعد قتل أصحابه انطلق ماشيا عليه تاجه ومنطقته وسيفه، فانتهى إلى منزل هذا الرجل الذي ينقر على الأرحية، فجلس عنده فاستغفله وقتله وأخذ ما كان عليه، وجاءت الترك في طلبه فوجدوه وقد قتله، وأخذ حاصله فقتلوا ذلك الرجل وأهل بيته وأخذوا ما كان مع كسرى، ووضعوا كسرى في تابوت وحملوه إلى اصطخر.
وقد كان يزدجرد وطئ امرأة من أهل مرو قبل أن يقتل فحملت منه ووضعت بعد قتله غلاما ذاهب الشق، وسمى ذلك: الغلام المخدج.
وكان له نسل وعقب في خراسان، وقد سبى قتيبة بن مسلم في بعض غزواته بتلك البلاد جاريتان من نسله، فبعث بإحداهما إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك فولدت له ابنه يزيد بن الوليد الملقب: بالناقص.
وقال المدائني وفي رواية عن بعض شيوخه: أن يزدجرد لما انهزم عنه أصحابه عقر جواده وذهب ماشيا حتى دخل رحى على شط نهر يقال له: المرغاب، فمكث فيه ليلتين والعدو في طلبه فلم يدر أين هو، ثم جاء صاحب الرحى فرأى كسرى وعليه أبهته، فقال له: ما أنت؟ إنسي أم جني؟
قال: إنسي، فهل عندك طعام؟
قال: نعم! فأتاه بطعام.
فقال: إني مزمزم، فأتني بما أزمزم به.
قال: فذهب الطحان إلى أسوار من الأساورة فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به؟
قال: عندي رجل لم أر مثله قط وقد طلب مني هذا، فذهب به الأسوار إلى ملك البلد - مرو واسمه ماهويه بن باباه - فأخبره خبره، فقال: هو يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فذهبوا مع الطحان، فلما دنوا من دار الرحى، هابوا أن يقتلوه وتدافعوا، وقالوا للطحان: ادخل أنت فاقتله، فدخل فوجده نائما، فأخذ حجرا فشدخ به رأسه، ثم احتزه فدفعه إليهم وألقى جسده في النهر، فخرجت العامة إلى الطحان فقتلوه.
وخرج أسقف فأخذ جسده من النهر وجعله في تابوت، وحمله إلى اصطخر فوضعه في ناووس، ويروى أنه مكث في منزل ذلك الطحان ثلاثة أيام لا يأكل حتى رق له، وقال له: ويحك يا مسكين ألا تأكل، وأتاه بطعام.
فقال: إني لا أستطيع أن آكل إلا بزمزمة.
فقال له: كل وأنا أزمزم لك، فسأل أن يأتيه بمزمزم، فلما ذهب يطلب له من بعض الأساورة شموا رائحة المسك من ذلك الرجل، فأنكروا رائحة المسك منه، فسألوه فأخبرهم.
فقال: إن عندي رجلا من صفته كيت وكيت.
فعرفوه وقصدوه مع الطحان، وتقدم الطحان فدخل عليه وهم بالقبض عليه، فعرف يزدجرد ذلك، فقال له: ويحك خذ خاتمي وسواري ومنطقتي ودعني أذهب من ههنا؟
فقال: لا، أعطني أربعة دراهم وأنا أطلقك فزاده إحدى قرطيه من أذنه فلم يقبل حتى يعطيه أربعة دراهم أخرى، فهم في ذلك إذ دهمهم الجند، فلما أحاطوا به أرادوا قتله، قال: ويحكم، لا تقتلوني فإنا نجد في كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى الملك أو إلى العرب فإنهم يستحيون من قتل الملوك، فأبوا عليه ذلك فسلبوه ما كان عليه من الحلي فجعلوه في جراب وخنقوه بوتر وألقوه في النهر فتعلق بعود، فأخذه أسقف - واسمه إيليا - فحن عليه مما كان من أسلافه من الإحسان إلى النصارى الذين كانوا ببلادهم، فوضعه في تابوت، ودفنه في ناووس، ثم حمل ما كان عليه من الحلي إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ففقد قرط من حليه فبعث إلى دهقان تلك البلاد فأغرمه ذلك.
وكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وباقي ذلك هاربا من بلد إلى بلد، خوفا من الإسلام وأهله، وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الإطلاق لقول رسول الله ﷺ: « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفق كنوزهما في سبيل الله » رواه البخاري.
وثبت في الحديث الصحيح: أنه لما جاء كتاب النبي ﷺ مزقه، فدعا النبي ﷺ عليه أن يمزق كل ممزق، فوقع الأمر كذلك.
وفي هذه السنة فتح ابن عامر فتوحات كثيرة كان قد نقض أهلها ما كان لهم من الصلح، فمن ذلك ما فتح عنوة، ومن ذلك ما فتح صلحا، فكان في جملة ما صالح عليه بعض المدائن وهي مرو على ألفي ألف ومائتي ألف.
وقيل: على ستة آلاف ألف ومائتي ألف.
وفي هذه السنة: حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين
وفيها: غزا معاوية بلاد الروم، حتى بلغ المضيق - مضيق القسطنطينية - ومعه زوجته عاتكة، ويقال: فاطمة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
قاله أبو معشر والواقدي.
وفيها: استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على جيش وأمره أن يغزو الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة نائب تلك الناحية بمساعدته، فسار حتى بلغ بلنجر فحصروها ونصبت عليها المجانيق والعرادات.
ثم أن أهل بلنجر خرجوا إليهم وعاونهم الترك فاقتتلوا قتالا شديدا - وكانت الترك تهاب قتال المسلمين ويظنون أنهم لا يموتون - حتى اجترأوا عليهم بعد ذلك، فلما كان هذا اليوم التقوا معهم فاقتتلوا، فقتل يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة - وكان يقال له ذو النون - وانهزم المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بلاد الخزر، وفرقة سلكوا ناحية جيلان وجرجان، وفي هؤلاء أبو هريرة، وسلمان الفارسي.
وأخذت الترك جسد عبد الرحمن بن ربيعة - وكان من سادات المسلمين وشجعانهم - ودفنوه في بلادهم، فهم يستسقون عنده إلى اليوم.
ولما قتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيد بن العاص على ذلك الفرع سلمان بن ربيعة، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتنازع حبيب وسلمان في الإمرة حتى اختلفا، فكان أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة وأهل الشام، حتى قال في ذلك رجل من أهل الكوفة وهو أوس:
فإن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم * وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا * وهذا أمير في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كنا حماته * ليالي نرمي كل ثغر وننكل
وفيها: فتح ابن عامر مرو الروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان.
فأما مرو الروذ، فبعث إليهم ابن عامر الأحنف بن قيس فحصرها فخرجوا إليه فقاتلهم حتى كسرهم فاضطرهم إلى حصنهم، ثم صالحوه على مال جزيل وعلى أن يضرب على أراضي الرعية الخراج، ويدع الأرض التي كان اقتطعها كسرى لوالد المرزبان، صاحب مرو، حين قتل الحية التي كانت تقطع الطريق على الناس وتأكلهم، فصالحهم الأحنف على ذلك، وكتب لهم كتاب صلح بذلك.
ثم بعث الأحنف الأقرع بن حابس إلى الجوزجان ففتحها بعد قتال وقع بينهم، قتل فيه خلق من شجعان المسلمين، ثم نصروا فقال في ذلك أبو كثير النهشلي قصيدة طويلة فيها:
سقى مزن السحاب إذا استهلت * مصارع فتية بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوط * أبادهم هناك الأقرعان
ثم سار الأحنف من مرو الروذ إلى بلخ فحاصرهم حتى صالحوه على أربعمائة ألف، واستناب ابن عمه أسيد بن المشمس على قبض المال، ثم ارتحل يريد الجهاد، وداهمه الشتاء فقال لأصحابه ما تشاؤون؟
فقالوا: قد قال عمرو بن معد يكرب:
إذا لم تستطع شيئا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع
فأمر الأحنف بالرحيل إلى بلخ فأقام بها مدة الشتاء، ثم عاد إلى عامر فقيل لابن عامر: ما فتح على أحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وعامر خراسان.
فقال: لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أحرم بعمرة من موقفي هذا مشمرا، فأحرم بعمرة من نيسابور، فلما قدم على عثمان لأمه على إحرامه من خراسان.
وفيها: أقبل قارن في أربعين ألفا فالتقاه عبد الله بن خازم في أربعة آلاف، وجعل لهم مقدمة ستمائة رجل، وأمر كلا منهم أن يحمل على رأس رمحه نارا، وأقبلوا إليهم في وسط الليل فبيتوهم، فثاروا إليهم فناوشتهم المقدمة فاشتغلوا بهم، وأقبل عبد الله بن خازم بمن معه من المسلمين فاتفقوا هم وإياهم، فولى المشركون مدبرين، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤوا كيف شاؤوا، وغنموا سبيا كثيرا وأموالا جزيلة.
ثم بعث عبد الله بن خازم بالفتح إلى ابن عامر فرضي عنه وأقره على خراسان - وكان قد عزله عنها - فاستمر بها عبد الله بن خازم إلى ما بعد ذلك.
ذكر من توفي من الأعيان في هذا السنة
العباس بن عبد المطلب
ابن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أبو الفضل المكي عم رسول الله ﷺ ووالد الخلفاء العباسيين، وكان أسن من رسول الله ﷺ بسنتين أو ثلاث، أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بمال، وافتدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث.
وقد ذكرنا أنه لما أسر وشد في الوثاق وأمسى الناس، أرق رسول ﷺ، فقيل: « يا رسول الله، مالك؟
فقال: إني أسمع أنين العباس في وثاقه فلا أنام ».
فقام رجل من المسلمين فحل من وثاق العباس حتى سكن أنينه فنام رسول الله ﷺ، ثم أسلم عام الفتح، وتلقى رسول الله ﷺ إلى الجحفة، فرجع معه وشهد الفتح، ويقال: أنه أسلم قبل ذلك، ولكنه أقام بمكة بإذن النبي ﷺ له في ذلك، كما ورد به الحديث فالله أعلم.
وقد كان رسول الله ﷺ يجله ويعظمه، وينزله منزلة الوالد من الولد، ويقول: « هذا بقية آبائي » وكان من أوصل الناس لقريش، وأشفقهم عليهم، وكان ذا رأي وعقل تام واف، وكان طويلا جميلا، أبيض بضا ذا طفرتين، وكان له من الولد: عشرة ذكور، سوى الإناث، وهم تمام - وكان أصغرهم - والحارث، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعون، والفضل، وقثم، وكثير، ومعبد.
وأعتق سبعين مملوكا من غلمانه.
وقال الإمام أحمد: ثنا علي بن عبد الله قال: حدثني محمد بن طلحة التميمي من أهل المدينة، حدثني أبو سهيل نافع بن مالك، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله ﷺ للعباس: « هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا، وأوصلها ».
تفرد به.
وثبت في الصحيحين: أن رسول الله ﷺ قال لعمر حين بعثه على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله ﷺ.
فقال له رسول الله ﷺ: « ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها، ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه؟ ».
وثبت في صحيح البخاري عن أنس: أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي به، وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قال: فيسقون.
ويقال: إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا مرا بالعباس وهما راكبان ترجلا إكراما له.
قال الواقدي وغير واحد: توفي العباس في يوم الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل: من رمضان سنة ثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة.
وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع، وقيل: توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين، وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.
عبد الله بن مسعود
ابن غافل بن حبيب بن سمح بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن حليف بني زهرة.
أسلم قديما قبل عمر، وكان سبب إسلامه حين مر به رسول الله ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه وهو يرعى غنما فسألاه لبنا.
فقال: إني مؤتمن.
قال: فأخذ رسول الله ﷺ عناقا لم ينزل عليها الفحل فاعتقلها، ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.
فقلت: علمني من هذا الدعاء.
فقال: « إنك غلام معلم »، الحديث.
وروى محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه: أن ابن مسعود كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد النبي ﷺ عند البيت، وقريش في أنديتها، قرأ سورة الرحمن علم القرآن، فقاموا إليه فضربوه، ولزم رسول الله ﷺ، وكان يحمل نعليه وسواكه، وقال له: إذنك على أن تسمع سوادي، ولهذا كان يقال له: صاحب السواك والوساد، وهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا، وهو الذي قتل أبا جهل بعد ما أثبته ابنا عفراء، وشهد بقية المشاهد، وقال له رسول الله ﷺ يوما: « اقرأ علي ».
فقلت: اقرأ عليك وعليك أنزل.
فقال: « إني أحب أن أسمعه من غيري »، فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدا } [27] فبكى رسول الله ﷺ.
وقال: « حسبك ».
وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي ﷺ لكثرة دخولهم بيت النبي ﷺ.
وقال حذيفة: ما رأيت أحدا أشبه برسول الله ﷺ في هديه ودله وسمته من ابن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد ﷺ أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى.
وفي الحديث: « وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ».
وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد: عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أم حرسي، عن علي: أن ابن مسعود صعد شجرة يجتني الكبات، فجعل الناس يعجبون من دقة ساقيه، فقال رسول الله ﷺ: « والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد ».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وقد نظر إلى قصره وكان يوازي بقامته الجلوس - فجعل يتبعه بصره ثم قال: هو كنيف مليء علما.
وقد شهد ابن مسعود بعد النبي ﷺ مواقف كثيرة منها اليرموك وغيرها، وكان قدم من العراق حاجا فمر بالربذة فشهد وفاة أبي ذر، ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها، فجاءه عثمان بن عفان عائدا، فيروى: أنه قال له ما تشتكي؟
قال: ذنوبي.
قال: فما تشتهي؟
قال: رحمة ربي.
قال: ألا آمر لك بطبيب؟
فقال: الطبيب أمرضني.
قال: ألا آمر لك بعطائك؟ - وكان قد تركه سنتين - فقال: لا حاجة لي فيه.
فقال: يكون لبناتك من بعدك.
فقال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا ».
وأوصى عبد الله بن مسعود إلى الزبير بن العوام، فيقال: أنه هو الذي صلى عليه ليلا، ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك، وقيل: بل صلى عليه عثمان، وقيل: عمار فالله أعلم.
ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة.
عبد الرحمن بن عوف
ابن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي الزهري.
أسلم قديما على يدي أبي بكر وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا وما بعدها.
وأمره رسول الله ﷺ حين بعثه إلى بني كلب وأرخى له عذبة بين كتفية لتكون أمارة عليه للإمارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثم أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا.
ثم كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ قال: « لا تسبوا أصحابي، فوالدي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ».
وهو في الصحيح.
وقال معمر، عن الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبي ﷺ بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفا، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمسمائة راحله في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، فأما الحديث الذي قال عبد بن حميد في (مسنده): ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك: أن عبد الرحمن بن عوف لما هاجر آخى رسول الله ﷺ بينه وبين عثمان بن عفان، فقال له: إن لي حائطين فاختر أيهما شئت؟
فقال: بارك الله لك في حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلني على السوق.
قال: فدله فكان يشتري السمنة والأقيطة والإهاب، فجمع فتزوج فأتى النبي ﷺ فقال: « بارك الله لك أولم ولو بشاة ».
قال: فكثر ماله حتى قدمت له سبعمائة راحله تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام، قال: فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رجه، فقالت عائشة: ما هذه الرجه؟
فقيل لها: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة تحمل البر والدقيق والطعام.
فقالت عائشة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبوا ».
فلما بلغ عبد الرحمن ذلك قال: أشهدك يا أمة أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - هو ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا في المدينة، قالت: ما هذا؟
قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء - قال: وكانت سبعمائة بعير - قال: فارتجت المدينة من الصوت.
فقالت عائشة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ».
فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف قال: لئن استطعت لأدخلها قائما فجعلها فأقتابها وأحمالها في سبيل الله.
فقد تفرد به عمارة بن زاذان الصيدلاني، وهو ضعيف.
وأما قوله في سياق عبد بن حميد: أنه آخى بينه وبين عثمان بن عفان فغلط محض مخالف لما في صحيح البخاري من أن الذي آخى بينه وبينه إنما هو سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنهما.
وثبت في الصحيح: أن رسول الله ﷺ صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الأسفار، وهذه منقبة عظيمة لا تبارى.
ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار - وكانوا مائة - فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل.
وأعتق خلقا من مماليكه ثم ترك بعد ذلك كله مالا جزيلا، من ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال، وترك ألف بعير ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع.
وكان نساؤه أربعا فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفا.
ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة.
وكان أبيض مشربا حمرة حسن الوجه، دقيق البشرة، أعين أهدب الأشفار، أقنى له جمة، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، لا يغير شيبه رضي الله عنه.
أبو ذر الغفاري
واسمه جندب بن جنادة على المشهور، أسلم قديما بمكة، فكان رابع أربعة أو خامس خمسة.
وقصة إسلامه تقدمت قبل الهجرة، وهو أول من حيا رسول الله ﷺ بتحية الإسلام، ثم رجع إلى بلاده وقومه فكان هناك حتى هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة فهاجر بعد الخندق، ثم لزم رسول الله ﷺ حضرا وسفرا.
وروى عنه أحاديث كثيرة، وجاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها: ما رواه الأعمش، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله ﷺ قال: « ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر » وفيه ضعف.
ثم لما مات رسول الله ﷺ ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين
فيها: كان فتح قبرص في قول أبي معشر، وخالفه الجمهور فذكروها قبل ذلك كما تقدم.
وفيها: غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية ثانية حين نقض أهلها العهد.
وفيها: سير أمير المؤمنين جماعة من قراء أهل الكوفة إلى الشام وكان سبب ذلك أنهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر، فكتب إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يجليهم عن بلده إلى الشام، وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشام: أنه قد أخرج إليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم.
فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من إتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد.
فأجابه متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش - وكانوا قد نالوا منهم - وأخذ في المدح لرسول الله ﷺ والثناء عليه والصلاة والتسليم.
وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال: وأظن أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد إلا حازما.
فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت، قد ولد الناس كلهم لمن هو خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيس.
ثم بذل لهم النصح مرة أخرى فإذا هم يتمادون في غيهم، ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام، لئلا يشوشوا عقول الطغام، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش، كونهم فرطوا وضيعوا ما يجب عليهم من القيام فيه من نصرة الدين وقمع المفسدين.
وإنما يريدون بهذا التنقيص والعيب ورجم الغيب، وكانوا يشتمون عثمان وسعيد بن العاص.
وكانوا عشرة، وقيل: تسعة وهو الأشبه، منهم: كميل بن زياد، والأشتر النخعي - واسمه مالك بن يزيد - وعلقمة بن قيس النخعيان، وثابت بن قيس النخعي، وجندب بن زهير العامري، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي.
فلما خرجوا من دمشق آووا إلى الجزيرة فاجتمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان نائبا على الجزيرة.
ثم ولي حمص بعد ذلك - فهددهم وتوعدهم، فاعتذروا إليه وأنابوا إلى الإقلاع عما كانوا عليه، فدعا لهم وسير مالكا الأشتر النخعي إلى عثمان بن عفان ليعتذر إليه عن أصحابه بين يديه، فقبل ذلك منهم وكف عنهم وخيرهم أن يقيموا حيث أحبوا، فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقدموا عليه حمص فأمرهم بالمقام بالساحل، وأجرى عليهم الرزق، ويقال: بل لما مقتهم معاوية كتب فيهم إلى عثمان فجاءه كتاب عثمان أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم إليه، فلما رجعوا كانوا أزلق ألسنة، وأكثر شرا، فضج منهم سعيد بن العاص إلى عثمان فأمره أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص، وأن يلزموا الدروب.
وفي هذه السنة: سير عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام وإلى مصر بأسباب مسوغة لما فعله رضي الله عنه فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالئ الأعداء في الحط والكلام فيه، وهم الظالمون في ذلك، وهو البار الراشد رضي الله عنه.
وفي هذه السنة: حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وتقبل الله منه.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين
قال أبو معشر: فيها: كانت وقعة الصواري.
والصحيح في قول غيره: أنها كانت قبل ذلك كما تقدم.
وفي هذه السنة: تكاتب المنحرفون عن طاعة عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة، وهم في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص منفيون عن الكوفة، وثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وتألبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان من يناظره فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثير من الصحابة وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول.
وطلبوا منه أن يعزل عماله، ويستبدل أئمة غيرهم من السابقين ومن الصحابة، حتى شق ذلك عليه جدا، وبعث إلى أمراء الأجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص أمير مصر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله بن عامر أمير البصرة فاستشارهم فيما حدث من الأمر وافتراق الكلمة.
فأشار عبد الله بن عامر: أن يشغلهم بالغزو عما هم فيه من الشر، فلا يكون هم أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته، فإن غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا واشتغلوا بما لا يغني، وتكلموا بما لا يرضي، وإذا تفرقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم.
وأشار سعيد بن العاص بأن يستأصل شأفة المفسدين ويقطع دابرهم، وأشار معاوية بأن يرد عماله إلى أقاليمهم، وأن لا يلتفت إلى هؤلاء، وما تألبوا عليه من الشر فإنهم أقل وأضعف جندا.
وأشار عبد الله بن سعد بن أبي سرح بأن يتألفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكف به شرهم، ويأمن غائلتهم، ويعطف به قلوبهم إليه.
وأما عمرو بن العاص فقام فقال: أما بعد يا عثمان، فإنك قد ركبت الناس ما يكرهون، فأما أن تعزل عنهم ما يكرهون، وإما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه، وقال له كلاما فيه غلظة، ثم اعتذر إليه في السر بأنه إنما قال هذا ليبلغ عنه من كان حاضرا من الناس إليهم ليرضوا من عثمان بهذا، فعند ذلك قرر عثمان عماله على ما كانوا عليه، وتألف قلوب أولئك بالمال، وأمر بأن يبعثوا إلى الغزو إلى الثغور، فجمع بين المصالح كلها، ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص، ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولي عليهم أبا موسى الأشعري، وكان اجتماعهم بمكان يقال له الجرعة - وقد قال يومئذٍ الأشتر النخعي: والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا - وتواقف الناس بالجرعة.
وأحجم سعيد عن قتالهم، وصمموا على منعه، وقد اجتمع في مسجد الكوفة في هذا اليوم حذيفة وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فجعل أبو مسعود يقول: والله لا يرجع سعيد بن العاص حتى يكون دماء.
فجعل حذيفة يقول: والله ليرجعن ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم اليوم شيئا إلا وقد علمته ومحمد ﷺ حي.
والمقصود: أن سعيد بن العاص كرَّ راجعا إلى المدينة وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري بذلك فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعا لعللهم.
وذكر سيف بن عمر أن سبب تألب الأحزاب على عثمان: أن رجلا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديا، فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاما اخترعه من عند نفسه، مضمونه: أنه يقول للرجل أليس قد ثبت أن عيسى بن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟
فيقول الرجل: نعم!
فيقول له: فرسول الله ﷺ أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو أشرف من عيسى بن مريم عليه السلام؟
ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم يقول: فهو أحق بالإمرة من عثمان، وعثمان معتد في ولايته ما ليس له.
فأنكروا عليه، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة فتمالأوا على ذلك وتكاتبوا فيه، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة، فدخل هذا في قلوب كثير من الناس، فجمع عثمان بن عفان نوابه من الأمصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم، ذكرنا له فالله أعلم.
وقال الواقدي: فيما رواه عن عبد الله بن محمد، عن أبيه قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس بالمقالة على عثمان بن عفان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، فكلم الناس علي بن أبي طالب أن يدخل على عثمان فدخل عليه، فقال له: إن الناس ورائي، وقد كلموني فيك، ووالله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بأمور خفي عنك إدراكها، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله ﷺ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله ﷺ رحما، ولقد نلت من صهر رسول الله ﷺ ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمي، ولا تعلم من جهل.
وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة، تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة معلومة، فوالله إن كلا لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل به، فأمات سنة معلومة، وأحيا بدعة متروكة، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحا، ثم يرتطم في غمرة جهنم ».
وإني أحذرك الله، وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، واحذر أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركون شيعا لا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا، ويمرحون فيها مرحا.
فقال عثمان: قد والله علمت لتقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرا، إني وصلت رحما، وسددت خلة، وآويت ضائعا، ووليت شبيها بمن كان عمر يولي، أنشدك الله يا علي، هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟
قال: نعم!
قال: فتعلم أن عمر ولاه؟
قال: نعم!
قال: فلم تلوموني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟.
فقال علي: سأخبرك أن عمر كان كلما ولى أميرا فإنما يطأ على صماخيه؟ وأنه إن بلغه حرف جاء به، ثم بلغ به أقصى الغاية في العقوبة، وأنت لا تفعل ضعفت ورفقت على أقربائك.
فقال عثمان: هم أقرباؤك أيضا.
فقال علي: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.
قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها، فقد وليته.
فقال علي: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟
قال: نعم!
قال علي: فإن معاوية يقطع الأمور دونك، وأنت تعلمها، ويقول للناس: هذا أمر عثمان، فليبلغك فلا تنكر ولا تغير على معاوية.
ثم خرج علي من عنده، وخرج عثمان على إثره فصعد المنبر فوعظ وحذر وأنذر، وتهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، فكان فيما قال: ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم به لابن الخطاب، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي.
أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا، وأقمن أن قلت هلم إلي، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولا، وكشرت لكم عن نابي، فأخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه، ومنطقا لم أنطق به، فكفوا ألسنتكم وطعنكم، وعيبكم على ولاتكم فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يليكم لرضيتم منه دون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم؟ فوالله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي.
ثم اعتذر عما كان يعطي أقرباءه بأنه من فضل ماله.
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم والله حكمنا بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم، كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم * مغارسكم تبنون في دِمِنِ الثرى
فقال عثمان: اسكت لا سكت، دعني وأصحابي ما منطقك في هذا، ألم أتقدم إليك أن لا تنطق.
فسكت مروان ونزل عثمان رضي الله عنه.
وذكر سيف بن عمر وغيره: أن معاوية لما ودعه عثمان حين عزم على الخروج إلى الشام عرض عليه أن يرحل معه إلى الشام فإنهم قوم كثيرة طاعتهم للأمراء.
فقال: لا أختار بجوار رسول الله ﷺ سواه.
فقال: أجهز لك جيشا من الشام يكونون عندك ينصرونك؟.
فقال: إني أخشى أن أضيق بهم بلد رسول الله ﷺ على أصحابه من المهاجرين والأنصار.
قال معاوية: فوالله يا أمير المؤمنين لتغتالن - أو قال: لتغزين -.
فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
ثم خرج معاوية من عنده وهو متقلد السيف وقوسه في يده، فمر على ملأ من المهاجرين والأنصار فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، فوقف عليهم واتكأ على قوسه، وتكلم بكلام بليغ يشتمل على الوصاة بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والتحذير من إسلامه إلى أعدائه، ثم انصرف ذاهبا.
فقال الزبير: ما رأيت أهيب في عيني من يومه هذا.
وذكر ابن جرير: أن معاوية استشعر الأمر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة، وذلك أنه سمع حاديا يرتجز في أيام الموسم في هذا العام، وهو يقول:
قد علمت ضوامر المطي * وضمرات عوج القسي
أن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلف رضي
وطلحة الحامي لها ولي
فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه، حتى كان ما كان على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبير بالمدينة وهو بدري.
ومات أيضا مسطح بن أثاثة. وغافل بن البكير.
وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ففيها مقتل عثمان
وكان السبب في ذلك: أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر، ولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وكان سبب ذلك: أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص، مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلموا بسوء في خليفة ولا أمير، فما زالوا حتى شكوه إلى عثمان لينزعه عنهم، ويولي عليهم من هو ألين منه.
فلم يزل ذلك دأبهم حتى عزل عمرا عن الحرب، وتركه على الصلاة، وولى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
ثم سعوا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما، حتى كان بينهما كلام قبيح. فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر، خراجها وحربها وصلاتها.
وبعث إلى عمرو يقول له: لا خير لك في المقام عند من يكرهك، فأقدم إليّ، فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمرٌ عظيم وشرٌ كبير، فكلمه فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على عثمان، وأنه كان أعز منه.
فقال له عثمان: دع هذا، فإنه من أمر الجاهلية.
وجعل عمرو بن العاص يؤلب الناس على عثمان.
وكان بمصر جماعة يبغضون عثمان ويتكلمون فيه بكلام قبيح على ما قدمنا، وينقمون عليه في عزله جماعة من عِلية الصحابة، وتوليته من دونهم، أو من لا يصلح عندهم للولاية.
وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد عمرو بن العاص، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب، وفتحه بلاد البربر والأندلس وإفريقية.
وأنشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلبون الناس على حربه، والإنكار عليه، وكان عظم ذلك مسندا إلى محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة حتى استنفرا نحوا من ستمائة راكب، يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب، لينكروا على عثمان، فساروا إليها تحت أربع رفاق.
وأمر الجميع إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التيجي، وسودان بن حمران السكوني.
وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حذيفة يؤلب الناس ويدافع عن هؤلاء، وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء القوم إلى المدينة منكرين عليه في صفة المعتمرين.
فلما اقتربوا من المدينة أمر عثمان علي بن أبي طالب أن يخرج إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة.
ويقال: بل ندب الناس إليهم، فانتدب علي لذلك فبعثه، وخرج معه جماعة الأشراف وأمره أن يأخذ معه عمار بن ياسر.
فقال علي لعمار، فأبى عمار أن يخرج معه، فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمار ليحرضه على الخروج مع علي إليهم، فأبى عمار كل الإباء وامتنع أشد الامتناع، وكان متعصبا على عثمان بسبب تأديبه له فيما تقدم على أمرٍ وضربه إياه في ذلك.
وذلك بسبب شتمه عباس بن عتبة بن أبي لهب فأدبهما عثمان فتأمر عمار عليه لذلك، وجعل يحرّض الناس عليه، فنهاه سعد بن أبي وقاص عن ذلك ولامه عليه، فلم يقلع عنه، ولم يرجع ولم ينزع، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم، وهم بالجُحفة، وكانوا يعظمونه ويبالغون في أمره فردهم، وانبهم وشتمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة.
وقالوا: هذا الذي تحاربون الأمير بسببه، وتحتجون عليه به.
ويقال: أنه ناظرهم في عثمان، وسألهم ماذا ينقمون عليه، فذكروا أشياء.
منها: أنه حمى الحمى، وأنه حرق المصاحف، وأنه أتم الصلاة، وأنه أولى الأحداث الولايات، وترك الصحابة الأكابر، وأعطى بني أمية أكثر من الناس.
فأجاب علي عن ذلك، أما الحمى فإنما حماه لا بل الصدقة لتسمن، ولم يحمه لإبله ولا لغنمه، وقد حماه عمر من قبله.
وأما المصاحف فإنما حرق ما وقع فيه اختلاف، وأبقى لهم المتفق عليه، كما ثبت في العرضة الأخيرة، وأما إتمامه الصلاة بمكة فإنه كان قد تأهل بها ونوى الإقامة فأتمها.
وأما توليته الأحداث فلم يول إلا رجلا سويا عدلا، وقد ولى رسول الله ﷺ عتاب بن أسيد على مكة، وهو ابن عشرين سنة، وولى أسامة بن زيد بن حارثة.
وطعن الناس في أمارته فقال: إنه لخليق بالإمارة، وأما إيثاره قومه بني أمية، فقد كان رسول الله ﷺ يؤثر قريشا على الناس، ووالله لو أن مفتاح الجنة بيدي لأدخلت بني أمية إليها.
ويقال: أنهم عتبوا عليه في عمار، ومحمد بن أبي بكر فذكر عثمان عذره في ذلك، وأنه أقام فيهما ما كان يجب عليهما.
وعتبوا عليه في إيوائه الحكم بن أبي العاص وقد نفاه إليها، قال: فقد نفاه رسول الله صلى إلى الطائف، فذكر أن رسول الله ﷺ كان قد نفاه إلى الطائف، ثم رده، ثم نفاه إليها.
قال: فقد نفاه رسول الله ﷺ ثم رده، ورُوي أن عثمان خطب الناس بهذا كله بمحضر الله عليه وسلم من الصحابة، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما فيه شهادة له.
ويروى: أنهم بعثوا طائفة منهم فشهدوا خطبة عثمان هذه، فلما تمهدت الأعذار، وانزاحت عللهم ولم يبق لهم شبهة، أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم، فصفح عنهم رضي الله عنه.
وردهم إلى قومهم فرجعوا خائبين من حيث أتوا، ولم ينالوا شيئا مما كانوا أملوا وراموا، ورجع علي إلى عثمان فأخبره برجوعهم عنه وسماعهم منه.
وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبة يعتذر إليهم فيها مما وقع من الأثرة لبعض أقاربه، ويشهدهم عليه بأنه تاب من ذلك، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله، وأنه لا يحيد عنها كما كان الأمر أولا في مدة ست سنين الأول.
فاستمع عثمان هذه النصيحة، وقابلها بالسمع والطاعة، ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس رفع يديه في أثناء الخطبة وقال:
اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، وأرسل عينيه بالبكاء، فبكى المسلمون أجمعون، وحصل للناس رقة شديدة على إمامهم، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنه قد سبل بابه لمن أراد الدخول عليه لا يمنع أحد من ذلك، ونزل فصلى بالناس. ثم دخل منزله، وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال لا يمنع أحد من ذلك مدة.
قال الواقدي: فحدثني علي بن عمر، عن أبيه قال: ثم إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له: تكلم كلاما تسمعه الناس منكم، ويشهدون عليك، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا آمن رِكْبا آخرين يقدمون من قبل الكوفة، فتقول: يا علي اركب إليهم، ويقدم آخرون من البصرة، فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل قطعت رحمك، واستخففت بحقك.
قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعلم الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله.
ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب شيئا أجهله، وما جئت شيئا إلا وأنا أعرفه، ولكن ضل رشدي، ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من زل فليتب، ومن أخطأ فليتب، ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور كان أبعد عن الطريق ».
فأنا أول اتعظ استغفر الله مما فعلت، وأتوب فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم، فوالله لأكونن كالمرقوق إن مُلك صبر، وإن عُتق شكر، وما عن الله مذهب إلا إليه.
قال: فرق الناس له، وبكى من بكى.
وقام إليه سعيد بن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين! ألله الله في نفسك! فأتمم على ما قلت.
فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعة من أكابر الناس، وجاءه مروان بن الحكم فقال: أتكلم يا أمير المؤمنين، أم أصمت؟.
فقالت امرأة عثمان - نائلة بنت الفرافصة الكلبية - من وراء الحجاب: بل اصمت، فوالله إنهم لقاتلوه، ولقد قال مقالة لا ينبغي النزوع عنها.
فقال لها: وما أنت وذاك!؟فوالله لقد مات أبوك وما يحسن أن يتوضأ.
فقالت له: دع ذكر الآباء، ونالت من أبيه الحكم، فأعرض عنها مروان، وقال لعثمان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت؟.
فقال له عثمان: بل تكلم.
فقال مروان: بأبي أنت وأمي، لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت مُمنع منيع، فكنت أول من رضي بها، وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت حين جاوز الحزام الطبيين، وبلغ السيل الزبا، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل.
والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها خير من توبة خوف عليها، وإنك لو شئت لعزمت التوبة، ولم تقرر لنا بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس.
فقال عثمان: قم فاخرج إليهم فكلمهم، فإني استحي أن أكلمهم.
قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضا.
فقال: ما شأنكم كأنكم قد جئتم لنهبٍ، شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه، ألا من أريد جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر يسؤكم ولا تحمدوا غبه، ارجعوا إلى منازلكم، فوالله ما نحن مغلوبين على ما بأيدينا.
قال: فرجع الناس، وخرج بعضهم حتى أتى عليا فأخبره الخبر، فجاء علي مغضبا حتى دخل على عثمان.
فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك؟! وإن مثلك مثل جمل الظعينة سار حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم والله إني لأراه سيوردك، ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت سوقك، وغلبت أمرك.
فلما خرج علي، دخلت نائلة على عثمان فقالت: أتكلم أو أسكت؟.
فقال: تكلمي.
فقالت: سمعت قول علي إنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان حيث شاء.
قال: فما أصنع؟.
قالت: تتقي الله وحده لا شريك له، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك، وهو لا يُعصى.
قال: فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه، وقال: لقد أعلمته أني لست بعائد.
قال: وبلغ مروان قول نائلة فيه، فجاء إلى عثمان فقال: أتكلم أو أسكت؟.
فقال: تكلم.
فقال: إن نائلة بنت الفرافصة.
فقال عثمان: لا تذكرها بحرف فأسوء إلى وجهك، فهي والله أنصح لي منك.
قال: فكف مروان.
ذكر مجيء الأحزاب إلى عثمان للمرة الثانية من مصر
وذلك أن أهل الأمصار لما بلغهم خبر مروان، وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الأمر على ما كان عليه لم يتغير ولم يسلك سيرة صاحبيه، كاتب تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة أهل البصرة وتراسلوا، وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم.
وذكر سيف بن عمر التميمي: عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضا، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، وخرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء المقلل لهم يقول: ستمائة، والمكثر يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني، وعلى القوم جميعا الغافقي بن حرب العكي.
وخرجوا فيما يظهرون للناس حجاجا ومعهم ابن السوداء - وكان أصله ذميا، فأظهر الإسلام وأحدث بدعا قولية وفعلية قبحه الله -، وخرج أهل الكوفة في عدتهم من أربع رفاق، وأمراؤهم زيد بن صوحان، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وعلى الجميع عمرو بن الأصم.
وخرج الله البصرة في عدتهم أيضا في أربع رايات مع حُكيم بن جبلة العبدي، وبشر بن شريح بن ضبيعة القيسي، وذريح بن عباد العبدي، وعليهم كلهم حرقوص بن زهير السعدي.
وأهل مصر مصرون على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة.
لا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم، فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة، كما تواعدوا في كتبهم، في شهر شوال فنزل طائفة منهم بذي خشب، وطائفة بالأعوص، والجمهور بذي المروة، وهم على وجل من أهل المدينة.
فبعثوا قصّادا وعيونا بين أيديهم ليخبروا الناس أنهم إنما جاؤا للحج لا لغيره، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوا للدخول فكل الناس أبى دخولهم ونهى عنه، فتجاسروا واقتربوا من المدينة وجاءت طائفة من المصريين إلى علي، وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أصواف معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلدا السيف، وليس عليه قميص.
وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه فسلم عليه المصريون، فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد ﷺ فارجعوا لا صبحكم الله. قالوا: نعم!.
وانصرفوا من عنده على ذلك، وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي - وقد أرسل ابنيه إلى عثمان - فسلموا عليه فصاح بهم وطردهم وقال لهم كما قال علي لأهل مصر، وكذلك كان رد الزبير على أهل الكوفة.
فرجع كل فريق منهم إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أياما راجعين، ثم كروا عائدين إلى المدينة فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير، وإذا القوم قد زحفوا على المدينة، وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان. وقالوا للناس: من كف يده فهو آمن، فكف الناس ولزموا بيوتهم، وأقام الناس على ذلك أياما.
هذا كله ولا يدري الناس ما القوم صانعون، ولا على ما هم عازمون، وفي كل ذلك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان يخرج من داره فيصلي بالناس فيصلي وراءه أهل المدينة، وأولئك الآخرون، وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم.
حتى قال علي لأهل مصر: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟.
فقالوا: وجدنا مع بريد كتابا بقتلنا، وكذلك قال البصريون لطلحة، والكوفيون للزبير.
وقال أهل كل مصر: إنما جئنا لننصر أصحابنا.
فقال لهم الصحابة: كيف علمتم بذلك من أصحابكم وقد افترقتم وصار بينكم مراحل؟ إنما هذا أمر اتفقتم عليه.
فقالوا: ضعوه على ما أردتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله - يعنون: أنه إن نزل عن الخلافة تركوه آمنا -.
وكان المصريون فيما ذكر، لما رجعوا إلى بلادهم وجدوا في الطريق بريدا يسير، فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إدواة كتابا على لسان عثمان فيه الأمر بقتل طائفة منهم، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان وعلى جمله.
فلما رجعوا جاؤوا بالكتاب وداروا به على الناس، فكلم الناس أمير المؤمنين في ذلك، فقال: بينة علي بذلك، وإلا فوالله لا كتبت، ولا أمليت، ولا دريت بشيء من ذلك، والخاتم قد يزور على الخاتم، فصدقه الصادقون في ذلك، وكذبه الكاذبون.
ويقال: إن أهل مصر كانوا قد سألوا من عثمان أن يعزل عنهم ابن أبي سرح، ويولي محمد بن أبي بكر.
فأجابهم إلى ذلك، فلما رجعوا وجدوا ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر وآخرين معه، فرجعوا وقد حنقوا عليه حنقا شديدا، وطافوا بالكتاب على الناس، فدخل ذلك في أذهان كثير من الناس.
وروى ابن جرير: من طريق محمد بن إسحاق، عن عمه عبد الرحمن بن يسار، أن الذي كان معه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الأعور السلمي، على جمل لعثمان.
وذكر ابن جرير من هذه الطريق: أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه، وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتبا مزورة عليهم أنكروها، وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به أيضا.
واستمر عثمان يصلي بالناس في تلك الأيام كلها، وهم أحقر في عينه من التراب، فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر وفي يده العصا التي كان يعمد إليها رسول الله ﷺ في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه، وأنزله عن المنبر، فطمع الناس فيه من يومئذ.
كما قال الواقدي: حدثني أسامة بن يزيد، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان على عصا النبي ﷺ التي يخطب عليها وأبو بكر وعمر، فقال له: جهجاه، قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها فيها فبقى الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه، وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل.
قال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عبد الله ابن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن الجهجاه الغفاري أخذ عصا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بأكلة.
وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن ابن أبي حبيبة قال: خطب عثمان الناس في بعض أيامه.
فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنك ركبت بهاتير، وركبناها معك، فتب نتب معك.
فاستقبل عثمان القبلة وشمر يديه، وقال ابن أبي حبيبة: فلم أر يوما أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ.
ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس، فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح إليه: يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة، فانزل فلندرجك في العباة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان.
فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم نزل عثمان.
قال ابن أبي حبيبة: وكان آخر يوم رأيته فيه.
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالنطق السيء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان وهو في نادي قومه، وفي يد جبلة جامعة، فلما مر عثمان سلم فرد القوم.
فقال جبلة: لم تردون عليه؟ رجل قال كذا وكذا، ثم أقبل على عثمان فقال: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك، أو لتتركن بطانتك هذه.
فقال عثمان: أي بطانة؟ فوالله لأتخير الناس، فقال مروان تخيرته، ومعاوية تخيرته، وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرته، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح تخيرته، منهم من نزل القرآن بذمه، وأباح رسول الله ﷺ دمه، قال: فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عبيد الله بن رافع بن نقاخة، عن عثمان بن الشريد.
قال: مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره، ومعه جامعة، فقال: يا نعثل! والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء، ولأخرجنك إلى حرة النار.
ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه.
وذكر سيف بن عمر: أن عثمان بعد أن صلى بالناس يوم الجمعة، صعد المنبر فخطبهم أيضا فقال في خطبته: يا هؤلاء الغرباء! الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ﷺ، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السيء إلا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حُكَيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال: إنه في الكتاب.
فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي مريرة فأقعده.
وقال: يا نطع، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع من المنبر مغشيا عليه، فاحتمل وأدخل داره.
وكان المصريون لا يطمعون في أحد من الناس أن يساعدهم إلا محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.
وأقبل علي وطلحة والزبير إلى عثمان في أناس يعودونه ويشكون إليه بثهم وما حل بالناس، ثم رجعوا إلى منازلهم، واستقبل جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وابن عمر، وزيد بن ثابت في المحاربة عن عثمان، فبعث إليهم يقسم عليهم لما كفوا أيديهم وسكنوا حتى يقضى الله ما يشاء.
ذكر حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان
لما وقع ما وقع يوم الجمعة، وشج أمير المؤمنين عثمان، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشيا عليه واحتمل إلى داره وتفاقم الأمر، وطمع فيه أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، وألجاؤه إلى داره، وضيقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثير من الصحابة بيوتهم.
وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة عن أمر آبائهم، منهم: الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير - وكان أمير الدار - وعبد الله بن عمرو، وصاروا يحاجون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، ولم يقع في خلد أحد أن القتل كان في نفس الخارجين.
وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلا في أوائل الأمر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلي بالناس في هذه الأيام الغافقي بن حرب.
وقد استمر الحصر أكثر من شهر، وقيل: أربعين يوما حتى كان آخر ذلك أن قتل شهيدا رضي الله عنه، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
والذي ذكره ابن جرير: أن الذي كان يصلي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور، طلحة بن عبيد الله.
وفي صحيح البخاري عن، وروى الواقدي: أن عليا صلى أيضا، وصلى أبو أيوب، وصلى بهم سهل بن حنيف، وكان يجمع بهم علي، وهو الذي صلى بهم بعد، وقد خاطب الناس في غبوب ذلك بأشياء، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر. وبالله المستعان.
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، ثنا أبو عوانة، ثنا حصين عن عمرو بن جاوان قال: قال الأحنف: انطلقنا حجاجا، فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آت فقال: الناس في المسجد، فانطلقت أنا وصاحبي، فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد، قال: فتخللتهم، حتى قمت عليهم، فإذا علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، قال: فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي.
فقال: ههنا علي؟
قالوا: نعم!
قال: ههنا الزبير؟
قالوا: نعم!
قال: ههنا طلحة؟
قالوا: نعم!
قال: ههنا سعد بن أبي وقاص؟
قالوا: نعم!
فقال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: « من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له » فابتعته، فأتيت رسول الله فقلت: إني قد ابتعته، فقال: « اجعله في مسجدنا وأجره لك ».
قالوا: نعم!
قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: « من يبتاع بئر رومة » فابتعتها بكذا وكذا.
فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: إني قد ابتعتها - يعني: بئر رومة -.
قال: « اجعلها سقاية للمسلمين، ولك أجرها ».
قالوا: نعم!
قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله ﷺ نظر في وجوه القوم يوم جيش العسرة، فقال: « من يجهز هؤلاء غفر الله له » فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا؟
قالوا: اللهم نعم!
فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف.
ورواه النسائي من حديث حصين وعنده جاء رجل وعليه ملاءة صفراء.
طريق أخرى
قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القواريري، حدثني القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدثني أبو عبادة الدرقي الأنصاري، من أهل الحديبية، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز، ولو ألقى حجر لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال: أيها الناس! أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس، أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس، أفيكم طلحة؟
فقام طلحة بن عبيد الله، فقال له عثمان: ألا أراك ههنا، ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي إلى آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني، أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت وأنا وأنت مع رسول الله ﷺ في موضع كذا وكذا، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك؟
فقال: نعم!
قال: فقال لك رسول الله ﷺ: « يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني - رفيقي في الجنة ».
فقال طلحة: اللهم نعم! ثم انصرف. لم يخرجوه.
طريق أخرى
قال عبد الله بن أحمد: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هلال بن إسحاق، عن الجريري، عن ثمامة بن جزء القشيري. قال: شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فاطلع عليه اطلاعه فقال: ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألباكم علي، فدعيا له، فقال: أنشدكما الله، تعلمان أن رسول الله ﷺ لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: « من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خير منها في الجنة »؟ فاشتريتها من خالص مالي فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين.
ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ﷺ لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة.
فقال رسول الله ﷺ: « من يشتريها من خالص ماله، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة »؟
فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها.
ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟
قالوا: اللهم نعم!
وقد رواه الترمذي: عن عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي، وعباس الدوري وغير واحد.
أخرجه النسائي، عن زياد بن أيوب كلهم، عن سعيد بن عامر، عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري، عن أبي مسعود الجريري به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا القاسم - يعني: ابن المفضل - ثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: دعا عثمان رجالا من أصحاب رسول الله ﷺ، فيهم عمار بن ياسر، فقال: إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله ﷺ كان يؤثر قريش على الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم.
فقال: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم.
فبعث إلى طلحة والزبير فقال عثمان: ألا أحدثكما عنه - يعني: عمارا - أقبلت مع رسول الله ﷺ.
أخذ بيدي يمشي في البطحاء، حتى أتى على أبيه وأمه وهم يعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا.
فقال له النبي ﷺ: « اصبر » ثم قال: « اللهم اغفر لآل ياسر » وقد فعلت، تفرد به أحمد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان، سمعت معاوية بن سلم أن سلمة يذكر عن مطرف، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان أشرف على أصحابه، وهو محصور، فقال: على مَ تقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمدا فعليه القتل، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل »، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده رسوله. ورواه النسائي عن أحمد بن الأزهر عن إسحاق بن سليمان به.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كنت مع عثمان في الدار وهو محصور، قال: وكنا ندخل مدخلا إذا دخلناه سمعنا كلام من على البلاط.
قال: فدخل عثمان يوما لحاجته فخرج إلينا منتقعا لونه، فقال: إنهم ليتواعدوني بالقتل آنفا.
قال: قلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين.
قال: ولم يقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس »، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا تمنيت بدلا بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفسا، فبم يقتلونني؟.
وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، حدثني أبو أسامة.
زاد النسائي وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا: كنا مع عثمان فذكره. وقال الترمذي: حسن.
وقد رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا قطن، ثنا يونس - يعني: ابن أبي إسحاق - عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. قال: أشرف عثمان من القصر وهو محصور، فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله ﷺ يوم حراء إذا اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: « اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد » وأنا معه فانتشد له الرجال، ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة، فقال: « هذه يدي، وهذه يد عثمان ». ووضع يديه إحداهما على الأخرى فبايع لي فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله قال: « من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد بنيت له بيتا في الجنة » فابتعته من مالي فوسعت به المسجد، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال: « من ينفق اليوم نفقة متقبلة » فجهزت نصف الجيش من مالي، فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رومة يباع ماؤها ابن السبيل فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل، قال فانتشد له رجال.
ورواه النسائي، عن عمران بن بكار، عن حطاب بن عثمان، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده أبي إسحاق السبيعي به.
وقد ذكر ابن جرير: أن عثمان رضي الله عنه لما رأى ما فعل هؤلاء الخوارج من أهل الأمصار، من محاصرته في داره، ومنعه الخروج إلى المسجد، كتب إلى معاوية بالشام، وإلى ابن عامر بالبصرة، وإلى أهل الكوفة يستنجدهم في بعث جيش يطردون هؤلاء من المدينة، فبعث معاوية مسلمة بن حبيب، وانتدب يزيد بن أسد القشيري في جيش، وبعث أهل الكوفة جيشا، وأهل البصرة جيشا.
فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمموا في الحصار، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتل عثمان رضي الله عنه كما سنذكره.
وذكر ابن جرير: أن عثمان استدعى الأشتر النخعي ووضعت لعثمان وسادة في كوة من داره، فأشرف على الناس، فقال له عثمان: يا أشتر ماذا يريدون؟
فقال: إنهم يريدون منك، إما أن تعزل نفسك عن الإمرة، وإما أن تفتدي من نفسك من قد ضربته، أو جلدته، أو حبسته، وإما أن يقتلوك.
وفي رواية: أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابه عن الأمصار ويولي عليها من يريدون هم، وإن لم يعزل نفسه أن يسلم لهم مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زور على عثمان كتابه إلى مصر، فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه، فيكون سببا في قتل امرئ مسلم، وما فعل من الأمر ما يستحق بسببه القتل، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن.
وأما ما سألوه من خلعه نفسه فإنه لا يفعل ولا ينزع قميصا قمصه الله إياه: يترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض، ويولي السفهاء من الناس من يختاروه هم فيقع الهرج ويفسد الأمر بسبب ذلك.
ووقع الأمر كما ظنه فسدت الأمة ووقع الهرج، وقال لهم فيما قال: وأي شيء إلى من الأمر إن كنت كلما كرهتم أميرا عزلته، وكلما رضيتم عنه وليته؟
وقال لهم فيما قال: والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعا أبدا، ولا تقاتلوا بعدي عدوا جميعا أبدا، وقد صدق رضي الله عنه فيما قال.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن أبي قيس، حدثني النعمان بن بشير قال: كتب معي عثمان إلى عائشة كتابا فدفعت إليها كتابه، فحدثتني أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول لعثمان: « إن الله لعله يقمصك قميصا فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه، ثلاث مرات ».
قال النعمان: فقلت يا أم المؤمنين! فأين كنت عن هذا الحديث؟
فقالت: يا بني والله أنسيته.
وقد رواه الترمذي من حديث الليث، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان، عن عائشة به.
ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
ورواه ابن ماجه، من حديث الفرج بن فضالة، عن ربيعة بن يزيد، عن النعمان فأسقط عبد الله بن عامر.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس، عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: « ادع لي بعض أصحابي ».
قلت: أبو بكر؟
قال: « لا ».
قلت: عمر؟
قال: « لا ».
قلت: ابن عمك علي؟
قال: « لا »!
قالت قلت: عثمان؟
قال: « نعم! ».
فلما جاء قال: « تنحى »، فجعل يساره ولون عثمان يتغير.
فلما كان يوم الدار وحصر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟
قال: لا! إن رسول الله ﷺ عهد إلي عهدا، وإني صابر نفسي عليه ». تفرد به أحمد.
وقال محمد بن عائد الدمشقي: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفقيمي يقول: قدمت على عثمان فبينا أنا عنده فخرجت فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلت على عثمان فأعلمته، قال: فكيف رأيتهم؟
فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عديس البلوي، فصعد ابن عديس منبر رسول الله ﷺ فصلى بهم الجمعة، وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت على عثمان فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عديس، ولولا ما ذكر ما ذكرت، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله ﷺ ابنته ثم توفيت، فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت، ولا سرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ﷺ، ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله ﷺ، ولا أتت علي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية.
ورواه يعقوب بن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن لهيعة قال: لقد اختبأت عند ربي عشرا، فذكرهن.
فصل استمرار حصار عثمان بن عفان
كان الحصار مستمرا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة.
فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار - وكانوا قريبا من سبعمائة - فيهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين، ومروان، وأبو هريرة، وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله، وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جم غفير.
وقال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر، فبرد القتال من داخل وحمي من خارج واشتد الأمر، وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده، وشوقا إلى رسول الله ﷺ، وليكون خيرا بني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله: { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }. [28].
وروي أن آخر من خرج من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج: الحسن بن علي، وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.
وروى موسى بن عقبة، عن سالم أو نافع: أن ابن عمر لم يلبس سلاحه بعد رسول الله ﷺ إلا يوم الدار ويوم نجرة الحروري.
قال أبو جعفر الداري، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدث الناس، قال: رأيت النبي ﷺ في المنام، فقال: يا عثمان أفطر عندنا، فأصبح صائما وقتل من يومه.
وقال سيف بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن رجل قال: دخل عليه كثير بن الصلت، فقال: يا أمير المؤمنين اخرج فاجلس بالفناء فيرى الناس وجهك فإنك إن فعلت ارتدعوا.
فضحك وقال: يا كثير رأيت البارحة وكأني دخلت على نبي الله وعنده أبو بكر وعمر فقال: ارجع فإنك مفطر عندي غدا.
ثم قال عثمان: ولن تغيب الشمس والله غدا أو كذا وكذا إلا وأنا من أهل الآخرة، قال: فوضع سعد وأبو هريرة السلاح، وأقبلا حتى دخلا على عثمان.
وقال موسى بن عقبة، حدثني أبو علقمة - مولى لعبد الرحمن بن عوف - حدثني ابن الصلت قال: أغفى عثمان بن عفان في اليوم الذي قتل فيه فاستيقظ فقال: لولا أن يقول الناس تمنى عثمان أمنية لحدثتكم.
قال قلنا: أصلحك الله، حدثنا فلسنا نقول ما يقول الناس.
فقال: إني رأيت رسول الله ﷺ في منامي هذا فقال: إنك شاهد معنا الجمعة.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي، ثنا خلف بن تميم، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البجلي، ثنا عبد الله بن عمير، حدثني كثير بن الصلت قال: دخلت على عثمان وهو محصور فقال لي: يا كثير ما أراني إلا مقتولا يومي هذا.
قال: قلت ينصرك الله على عدوك يا أمير المؤمنين.
قال: ثم أعاد علي.
فقلت: وقت لك في هذا اليوم شيء؟ أو قيل لك شيء؟
قال: لا! ولكني سهرت في ليلتي هذا الماضية فلما كان وقت السحر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر ورسول الله ﷺ يقول لي: يا عثمان إلحقنا لا تحبسنا فإنا ننتظرك، قال: فقتل من يومه ذلك.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا يزيد بن هارون، عن فرج بن فضالة، عن مروان بن أبي أمية، عن عبد الله بن سلام. قال: أتيت عثمان لأسلم عليه وهو محصور فدخلت عليه فقال: مرحبا بأخي، رأيت رسول الله ﷺ الليلة في هذه الخوخة - قال: وخوخة في البيت - فقال: « يا عثمان حصروك؟
قلت: نعم!
قال: عطشوك؟
قلت: نعم، فأدلى دلوا فيه ماء فشربت حتى رويت، إني لأجد برده بين ثديي وبين كتفي، وقال لي: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا » فاخترت أن أفطر عنده، فقتل ذلك اليوم.
وقال محمد بن سعد: أنا عفان بن مسلم، ثنا وهيب، ثنا داود، عن زياد بن عبد الله، عن أم هلال بنت وكيع، عن امرأة عثمان - قال: وأحسبها بنت الفرافصة - قالت: أغفى عثمان، فلما استيقظ قال: إن القوم يقتلونني.
قلت: كلا يا أمير المؤمنين.
قال: إني رأيت رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر، فقالوا: أفطر عندنا الليلة، أو إنك مفطر عندنا الليلة.
وقال الهيثم بن كليب: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، ثنا شبابة، ثنا يحيى بن أبي راشد مولى عمر بن حريث، عن محمد بن عبد الرحمن الجرشي.
وعقبة بن أسد، عن النعمان بن بشير، عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية - امرأة عثمان - قالت: لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان فيه قتله صائما، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه، وقالوا: دونك ذلك الركي. وركي في الدار الذي يلقى فيه النتن قالت: فلم يفطر، فرأيت جارا على أحاجير متواصلة - وذلك في السحر - فسألتهم الماء العذب فأعطوني كوزا من ماء فأتيته، فقلت: هذا ماء عذب أتيتك به، قالت فنظر فإذا الفجر قد طلع فقال: إني أصبحت صائما، قالت: فقلت: ومن أين أكلت، ولم أر أحدا أتاك بطعام ولا شراب؟
فقال: إني رأيت رسول الله ﷺ اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال: « اشرب يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد فشربت حتى نهلت، ثم قال: أما أن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا ».
قالت: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.
وقال أبو يعلى الموصلي، وعبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عثمان بن أبي شيبة، ثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبيه، عن مسلم، عن أبي سعيد مولى عثمان بن عفان: أن عثمان أعتق عشرين مملوكا، ودعا بسراويل فشدها ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله ﷺ في المنام وأبا بكر وعمر وإنهم قالوا لي: « اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة » ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه فقتل وهو بين يديه.
قلت: إنما لبس السراويل رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورته إذا قتل فإنه كان شديد الحياء، كانت تستحي منه ملائكة السماء، كما نطق بذلك النبي ﷺ، ووضع بين يديه المصحف يتلو فيه، واستسلم لقضاء الله عز وجل، وكف يده عن القتال، وأمر الناس وعزم عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه ولكن كان أمر الله قدرا مقدورا.
وقال هشام بن عروة: عن أبيه: إن عثمان رضي الله عنه أوصى إلى الزبير.
وقال الأصمعي: عن العلاء بن الفضل، عن أبيه. قال: لما قتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقا مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها هذه وصية عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله تعالى.
وروى ابن عساكر: أن عثمان رضي الله عنه قال يوم دخلوا عليه فقتلوه:
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع * لعاذ ملاذا في البلاد ومرتعا
وقال أيضا:
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق * ويأتي الجبال الموت في شماريخها العلا
صفة قتله رضي الله عنه
وقال خليفة بن خياط: حدثنا ابن علية، ثنا ابن عوف، عن الحسن قال: أنبأني رباب، قال: بعثني عثمان فدعوت له الأشتر فقال: ما يريد الناس؟
قال: ثلاث ليس من إحداهن بد.
قال: ما هن؟.
قال: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا من شئتم، وبين أن تقتص من نفسك، فأن أبيت فإن القوم قاتلوك.
فقال: أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله، وأما أن اقتص لهم من نفسي، فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي، ولا تصلون بعدي جميعا، ولا تقاتلون بعدي جميعا عدوا أبدا.
قال: وجاء رويجل كأنه ذئب فاطلع من باب ورجع، وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا، فأخذ بلحيته فعالَّ بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر، وما أغنت عنك كتبك.
قال: أرسل لحيتي يا ابن أخي.
قال: فأنا رأيته استعدى رجلا من القوم بعينه - يعني أشار إليه - فقام إليه بمشقص فوجئ به رأسه.
قلت: ثم مه؟
قال: ثم تعاوروا عليه حتى قتلوه.
قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله: عن العيص بن القاسم، عن رجل، عن خنساء مولاة أسامة بن زيد - وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان -: أنها كانت في الدار، ودخل محمد بن أبي بكر وأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فيجأ بها في حلقه.
فقال: مهلا يا ابن أخي، فوالله لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذ به، فتركه وانصرف مستحييا نادما، فاستقبله القوم على باب الصفة فردهم طويلا حتى غلبوه فدخلوا، وخرج محمد راجعا.
فأتاه رجل بيده جريدة يقدمهم حتى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجه، فقطر دمه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا عليه، فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف.
ووثبت نائلة بنت الفرافصة الكلبية فصاحت وألقت نفسها عليه وقالت: يا بنت شيبة، أيقتل أمير المؤمنين؟
وأخذت السيف فقطع الرجل يدها، وانتهبوا متاع الدار.
ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله، ونحاه عن المصحف، وقال: ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن، ولا مضجع كافر أكرم.
قال: والله ما تركوا في داره شيئا حتى الأقداح إلا ذهبوا به.
وروى الحافظ ابن عساكر: أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله، تسوروا عليه الدار، وأحرقوا الباب، ودخلوا عليه، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم، إلا محمد بن أبي بكر، وسبقه بعضهم فضربوه حتى غشي عليه، وصاح النسوة: فانزعروا، وخرجوا.
ودخل محمد بن أبي بكر وهو يظن أنه قد قتل، فلما رآه قد أفاق قال: على أي دين أنت يا نعثل؟.
قال: على دين الإسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين.
فقال: غيرت كتاب الله؟.
فقال: كتاب الله بيني وبينكم، فتقدم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [29]، وشطحه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول: يا ابن أخي، ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي.
وجاء رجل من كندة من أهل مصر يلقب: حمارا، ويكنى: بأبي رومان.
وقال قتادة: اسمه رومان.
وقال غيره: كان أزرق أشقر.
وقيل: كان اسمه سودان بن رومان المرادي.
وعن ابن عمر قال: كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتا.
قال: ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه، ثم وضع ذباب السيف في بطنه، واتكى عليه وتحامل حتى قتله، وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها.
ويروى: أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت حلقه.
والصحيح: أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها، فتذمم من ذلك وغطى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان ذلك في الكتاب مسطورا.
وروى ابن عساكر، عن ابن عون: أن كنانة بن بشر ضرب جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد، فخر لجنبيه، وضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في صدري عليه.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، وإسحاق بن داود الصواف التستري، قالا: ثنا محمد بن خالد بن خداش، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا مبارك، عن الحسن قال: حدثني سياف عثمان: أن رجلا من الأنصار دخل على عثمان فقال: ارجع يا ابن أخي فلستَ بقاتلي.
قال: وكيف علمت ذلك؟.
قال: لأنه أتى بك النبي ﷺ يوم سابعك فحنكك ودعا لك بالبركة.
ثم دخل عليه رجل آخر من الأنصار فقال له مثل ذلك سواء، ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي.
قال: وما يدريك يا نعثل؟
قال: لأنه أُتي بك رسول الله ﷺ يوم سابعك ليحنكك ويدعو لك بالبركة، فخريت على رسول الله ﷺ.
قال: فوثب على صدره وقبض على لحيته، ووجأه بمشاقص كانت في يده هذا.
هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة.
وثبت من غير وجه: أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [30].
ويروى: أنه كان قد وصل إليها في التلاوة أيضا حين دخلوا عليه، وليس ببعيد فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن.
وروى ابن عساكر: أنه لما طعن قال: بسم الله توكلت على الله، فلما قطر الدم قال: سبحان الله العظيم.
وقد ذكر ابن جرير في (تاريخه) بأسانيده: أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر فيه الأمر بقتل بعضهم، وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم.
وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان متأولا قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [31].
وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من جملة المفسدين في الأرض، ولا شك أنهم كذلك، لكن لم يكن له أن يفتات على عثمان، ويكتب على لسانه بغير علمه، ويزور على خطه وخاتمه، ويبعث غلامه على بعير بعد ما وقع الصلح بين عثمان وبين المصريين، على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر، بخلاف ذلك كله.
ولهذا لما وجدوا هذا الكتاب على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، وظنوا أنه من عثمان أعظموا ذلك، مع ما هم مشتملون عليه من الشر، فرجعوا إلى المدينة فطافوا به على رؤس الصحابة، وأعانهم على ذلك قوم آخرون، حتى ظن بعض الصحابة أن هذا عن أمر عثمان رضي الله عنه.
فلما قيل لعثمان رضي الله عنه في أمر هذا الكتاب بحضرة جماعة من أعيان الصحابة وجمهور المصريين، حلف بالله العظيم، وهو الصادق البار الراشد أنه لم يكتب هذا الكتاب، ولا أملاه على من كتبه، ولا علم به.
فقالوا له: فإن عليه خاتمك؟
فقال: إن الرجل قد يزور على خطه وخاتمه.
قالوا: فإنه مع غلامك وعلى جملك؟
فقال: والله لم أشعر بشيء من ذلك.
فقالوا له - بعد كل مقالة -: إن كنت قد كتبته فقد خنت، وإن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت، ومثلك لا يصلح للخلافة، إما لخيانتك، وإما لعجزك.
وهذا الذي قالوا باطل على كل تقدير، فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب، وهو لم يكتبه في نفس الأمر، لا يضره ذلك لأنه قد يكون رأى ذلك مصلحة للأمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الإمام، وأما إذا لم يكن قد علم به فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد اطلع عليه وزور على لسانه؟
وليس هو بمعصوم، بل الخطأ والغفلة جائزان عليه رضي الله عنه، وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة، ظلمة مفترون، ولهذا صمموا بعد هذا على حصره والتضييق عليه، حتى منعوه الميرة والماء، والخروج إلى المسجد، وتهددوه بالقتل.
ولهذا خاطبهم بما خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومة على المسلمين، وهو أول من منع ماءها، ومن أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ».
وذكر أنه لم يقتل نفسا، ولا ارتد بعد إيمانه، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام، بل ولا مس فرجه بيمينه بعد أن بايع بها رسول الله ﷺ.
وفي رواية: بعد أن كتب بها المفصل.
ثم ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر منهم، فأبوا إلا الاستمرار على ما هم عليه من البغي والعدوان، ومنعوا الناس من الدخول إليه والخروج من عنده، حتى اشتد عليه الحال، وضاق المجال، ونفذ ما عنده من الماء.
فاستغاث بالمسلمين في ذلك فركب علي بنفسه وحمل معه قربا من الماء، فبالجهد حتى أوصلها إليه بعد ما ناله من جهله أولئك كلام غليظ، وتنفير لدابته، وإخراق عظيم بليغ؛ وكان قد زجرهم أتم الزجر حتى قال لهم فيما قال: والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيطعمون ويسقون، فأبوا أن يقبلوا منه حتى رمى بعمامته في وسط الدار، وجاءت أم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها، فقالوا: ما جاء بك؟.
فقالت: إن عنده وصايا بني أمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك، ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة وندَّت بها وكادت أو سقطت عنها، وكادت تقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير جدا.
ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما وقع هذا أعظمه الناس جدا، ولزم أكثر الناس بيوتهم، وجاء وقت الحج فخرجت أم المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح، لعل هؤلاء القوم يهابونك.
فقالت: إني أخشى أن أشير عليهم برأي فينالني منهم من الأذية ما نال أم حبيبة، فعزمت على الخروج.
واستخلف عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على الحج عبد الله بن عباس.
فقال له عبد الله بن عباس: إن مقامي على بابك أحاجف عنك أفضل من الحج، فعزم عليه فخرج بالناس إلى الحج، واستمر الحصار بالدار حتى مضت أيام التشريق، ورجع اليسير من الحج، فأُخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك بأن أهل الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوكم عن أمير المؤمنين.
وبلغتهم أيضا: أن معاوية قد بعث جيشا مع حبيب بن مسلمة، وأن عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد نفذ آخر مع معاوية بن خديج، وأن أهل الكوفة قد بعثوا القعقاع بن عمرو في جيش، وأن أهل البصرة بعثوا مجاشعا في جيش.
فعند ذلك صمموا على أمرهم وبالغوا فيه وانتهزوا الفرصة بقلة الناس وغيبتهم في الحج، وأحاطوا بالدار، وجدوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوروا من الدار المتاخمة للدار كدار عمرو بن حزم وغيرها، وحاجف الناس عن عثمان أشد المحاجفة، واقتتلوا على الباب قتالا شديدا، وتبارزوا وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم.
وجعل أبو هريرة يقول: هذا يوم طاب في الضراب فيه.
وقتل طائفة من أهل الدار، وآخرين من أولئك الفجار، وجرح عبد الله بن الزبير جراحات كثيرة، وكذلك جرح الحسن بن علي، ومروان بن الحكم فقطع إحدى علباويه، فعاش أوقص حتى مات.
ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان: زياد بن نعيم الفهري، والمغيرة بن الأخنس بن شريق، ونيار بن عبد الله الأسلمي، في أناس وقت المعركة.
ويقال: إنه انهزم أصحاب عثمان ثم رجعوا.
ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحد سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران، وفزع عثمان إلى الصلاة، وافتتح سورة طه - وكان سريع القراءة - فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة التي عنده، وخافوا أن يصل الحريق إلى بيت المال، ثم فرغ عثمان من صلاته، وجلس وبين يديه المصحف وجعل يتلو هذه الآية: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [32].
فكان أول من دخل عليه رجل يقال له: الموت الأسود، فخنقه خنقا شديدا حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه فتركه، وهو يظن أنه قد قتله، ودخل ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ند وخرج، ثم دخل عليه آخر ومعه سيف فضربه به فاتقاه بيده فقطعها، فقيل: إنه أبانها.
وقيل: بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال: والله إنها أول يد كتبت المفصل، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [33].
ثم جاء آخر شاهرا سيفه، فاستقبلته نائلة بنت الفرافصة لتمنعه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها، ثم إنه تقدم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه، رضي الله عن عثمان.
وفي رواية: أن الغافقي بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في فيه، ورفس المصحف الذي بين يديه برجله، فاستدار المصحف، ثم استقر بين يدي عثمان رضي الله عنه، وسالت عليه الدماء.
ثم تقدم سودان بن حمران بالسيف فما نعته نائلة فقطع أصابعها فولت، فضرب عجيزتها بيده، وقال: إنها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله، فجاء غلام عثمان فضرب سودان فقتله، فضرب الغلام رجل يقال له: قترة فقتله.
وذكر ابن جرير: أنهم أرادوا حز رأسه بعد قتله، فصاح النساء، وضربن وجوههن، فيهن امرأتاه: نائلة وأم البنين، وبناته.
فقال ابن عديس: اتركوه، فتركوه.
ثم مال هؤلاء الفجرة على ما في البيت فنهبوه، وذلك أنه نادى مناد منهم: أيحل لنا دمه، ولا يحل لنا ماله، فانتهبوه، ثم خرجوا فأغلقوا الباب على عثمان وقتيلين معه.
فلما خرجوا إلى صحن الدار، وثب غلام لعثمان على قترة فقتله، وجعلوا لا يمرون على شيء إلا أخذوه حتى استلب رجل يقال له: كلثوم التجيبي، ملاءة نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وقتل الغلام أيضا.
ثم تنادى القوم أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه، فسمعهم حفظه بيت المال فقالوا:
يا قوم النجا النجا، فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما ادعوا أنهم إنما قاموا لأجله، وكذبوا إنما قصدهم الدنيا، فانهزموا، وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال، وكان فيه شيء كثير جدا.
فصل مقتل عثمان رضي الله عنه
ولما وقع هذا الأمر العظيم، الفظيع الشنيع، أسقط في أيدي الناس فأعظموه جدا، وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج بما صنعوا، وأشبهوا تقدمهم ممن قصَّ الله علينا خبرهم في كتابة العزيز من الذين عبدوا العجل.
في قوله تعالى: { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [34].
ولما بلغ الزبير مقتل عثمان - وكان قد خرج من المدينة - قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ترحم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا.
فقال: تبا لهم، ثم تلا قوله تعالى: { مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } [35].
وبلغ عليا قتله فترحم عليه. وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [36].
ولما بلغ سعد بن أبي وقاص قتل عثمان استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا } [37] ثم قال سعد: اللهم اندمهم ثم خذهم.
وقد أقسم بعض السلف بالله: أنه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا. رواه ابن جرير.
وهكذا ينبغي أن يكون لوجوه منها: دعوة سعد المستجابة، كما ثبت في الحديث الصحيح، وقال بعضهم: ما مات أحد منهم حتى جن.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث قال: الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتاب التُجيبي.
وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول: خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالمرج سمعنا رجلا يغني تحت الليل:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
ولما رجع الحج، وجدوا عثمان رضي الله عنه قد قتل، وبايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أن عثمان قد قتل رجعن إلى مكة، فأقمن بها نحوا من أربعة أشهر كما سيأتي.
فصل مدة حصاره أربعون يوما
كانت مدة حصار عثمان رضي الله عنه في داره أربعين يوما على المشهور، وقيل: كانت بضعا وأربعين يوما.
وقال الشعبي: كانت ثنتين وعشرين ليلة.
ثم كان قتله رضي الله عنه في يوم الجمعة بلا خلاف.
قال سيف بن عمر عن مشايخه: في آخر ساعة منها، ونص عليه مصعب بن الزبير وآخرون.
وقال آخرون: ضحوة نهارها، وهذا أشبه، وكان ذلك لثماني عشر ليلة خلت من ذي الحجة على المشهور.
وقيل: في أيام التشريق.
ورواه ابن جرير حدثني أحمد بن زهير، ثنا أبو خيثمة، ثنا وهب بن جرير سمعت يونس، عن يزيد، عن الزهري قال: قُتل عثمان، فزعم بعض الناس أنه قتل في أيام التشريق، وقال بعضهم: قتل يوم الجمعة لثلاثٍ خلت من ذي الحجة.
وقيل: قتل يوم النحر، حكاه ابن عساكر، ويستشهد له بقول الشاعر:
ضحَّوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
قال: والأول هو الأشهر.
وقيل: إنه قتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور.
وقيل: سنة ست وثلاثين.
قال مصعب بن الزبير وطائفة: وهو غريب فكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما، لأنه بويع له في مستهل المحرم سنة أربع وعشرين.
فأما عمره رضي الله عنه، فإنه جاوز ثنتين وثمانين سنة.
وقال صالح بن كيسان: توفي عن ثنتين وثمانين سنة وأشهر.
وقيل: أربع وثمانون سنة.
وقال قتادة: توفي عن ثمان وثمانين أو تسعين سنة.
وفي رواية عنه: توفي عن ست وثمانين سنة.
وعن هشام بن الكلبي: توفي عن خمس وسبعين سنة، وهذا غريب جدا.
وأغرب منه ما رواه سيف بن عمر عن مشايخه وهم محمد، وطلحة، وأبو عثمان، وأبو حارثة أنهم قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة.
وأما موضع قبره: فلا خلاف أنه دفن بحش كوكب -شرقي البقيع - وقد بنى عليه زمان بني أمية قبة عظيمة، وهي باقية إلى اليوم.
قال الإمام مالك رضي الله عنه: بلغني أن عثمان رضي الله عنه كان يمر بمكان قبره من حش كوكب فيقول: إنه سيدفن ههنا رجل صالح.
وقد ذكر ابن جرير: أن عثمان رضي الله عنه بقي بعد أن قُتل ثلاثة أيام لا يدفن، قلت: وكأنه اشتغل الناس عنه بمبايعة علي رضي الله عنه حتى تمت.
وقيل: أنه مكث ليلتين.
وقيل: بل دفن من ليلته، ثم كان دفنه ما بين المغرب والعشاء خيفة من الخوارج.
وقيل: بل استؤذن في ذلك بعض رؤسائهم، فخرجوا به في نفر قليل من الصحابة، فيهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير بن مطعم، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وطلحة، والزبير، وعلي بن أبي طالب، وجماعة من أصحابه، ونسائه منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان.
وهذا مجموع من كلام الواقدي، وسيف بن عمر التميمي، وجماعة من خدمه حملوه على باب بعد ما غسلوه وكفنوه.
وزعم بعضهم: أنه لم يغسل ولم يكفن، والصحيح الأول. وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: الزبير بن العوام، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان بن الحكم، وقيل: المسور بن مخرمة.
وقد عارضه بعض الخوارج وأرادوا رجمه وإلقاءه عن سريره، وعزموا على أن يدفن بمقبرة اليهود بدير سلع، حتى بعث علي رضي الله عنه إليهم من نهاهم عن ذلك، وحمل جنازته حكيم بن حزام.
وقيل: مروان بن الحكم.
وقيل: المسور بن مخرمة، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم، وجبير بن مطعم.
وذكر الواقدي: أنه لما وُضع ليُصلى عليه - عند مصلى الجنائز - أراد بعض الأنصار أن يمنعهم من ذلك، فقال أبو جهم بن حذيفة: ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته.
ثم قالوا: لا يدفن في البقيع، ولكن ادفنوه وراء الحائط، فدفنوه شرقي البقيع تحت نخلات هناك.
وذكر الواقدي: أن عمير بن ضابي نزل على سريره وهو موضوع للصلاة عليه، فكسر ضلعا من أضلاعه، وقال: أحبست ضابيا حتى مات في السجن.
وقد قتل الحجاج فيما بعد عمير بن ضابي هذا.
وقال البخاري في (التاريخ): حدثنا موسى بن إسماعيل، عن عيسى بن منهال، ثنا غالب، عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة وإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي.
فقلت: يا عبد الله، ما سمعت أحدا يقول ما تقول؟.
قال: كنت أعطيت لله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت والناس يجيئون يصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه ولحيته ولطمته، وقد يبست يميني.
قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود.
ثم أخرجوا بعبدي عثمان اللذين قتلا في الدار، وهما صبيح ونجيح، رضي الله عنهما، فدفنا إلى جانبه بحش كوكب.
وقيل: إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما، بل جروهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط فأكلتهما الكلاب.
وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله حتى اتصلت بمقابر المسلمين.
ذكر صفته رضي الله عنه
كان رضي الله عنه حسن الوجه دقيق البشرة، كبير اللحية، معتدل القامة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، حسن الثغر، فيه سمرة، وقيل: كان في وجهه شيء من آثار الجدري، رضي الله عنه.
وعن الزهري: كان حسن الوجه والثغر، مربوعا، أصلع، أروح الرجلين، يخضب بالصفرة، وكان قد شد أسنانه بالذهب، وقد كسى ذراعيه الشعر.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة، عن سعيد بن أبي زيد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة قال: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، ومائة ألف دينار، فانتهبت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان تصدق بها، بئر أريس، وخيبر، ووادي القرى، فيه مائتا ألف دينار.
وبئر رومة كان اشتراها في حياة النبي ﷺ وسبلها.
فصل قتل عثمان أول الفتن وآخر الفتن الدجال
قال الأعمش: عن زيد بن وهب، عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق شبابه، عن حفص بن مورق الباهلي، عن حجاج بن أبي عمار الصواف، عن زيد بن وهب، عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حُبِّ قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه، آمن به في قبره.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره: أنا محمد بن سعد، أنا عمرو بن عاصم الكلابي، ثنا أبو الأشهب، حدثني عوف، عن محمد بن سيرين، أن حذيفة بن اليمان قال: اللهم إن كان قتل عثمان بن عفان خيرا، فليس لي فيه نصيب، وإن كان قتله شرا فأنا منه بريء، والله لئن كان قتله خيرا ليحلبنه لبنا، وإن كان قتله شرا ليمتص به دما.
وقد ذكره البخاري في صحيحه.
طريق أخرى عنه
قال محمد بن عائذ: ذكر محمد بن حمزة، حدثني أبو عبد الله الحراني: أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه كان عنده رجل من إخوانه وهو يناجي امرأته ففتح عينيه فسألهما فقالا خيرا.
فقال: شيئا تسرانه دوني ما هو بخير.
قال: قتل الرجل - يعني: عثمان - قال: فاسترجع، ثم قال: اللهم إني كنت من هذا الأمر بمعزل، فإن كان خيرا فهو لمن حضره وأنا منه بريء، وإن كان شرا فهو لمن حضره وأنا منه بريء، اليوم تغيرت القلوب يا عثمان، الحمد لله الذي سبق بي الفتن، قادتها وعلوجها الخطى، من تردى بغيره، فشبع شحما وقبل عمله.
وقال الحسن بن عرفة: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي موسى الأشعري قال: لو كان قتل عثمان هدى لاحتلبت به الأمة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الأمة دما.
وهذا منقطع.
وقال محمد بن سعد: أنا عارم بن الفضل، أنا الصعق بن حزن، ثنا قتادة، عن زهدم الجرمي. قال: خطب ابن عباس فقال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء.
وقد روي من غير هذا الوجه عنه.
وقال الأعمش وغيره: عن ثابت بن عبيد، عن أبي جعفر الأنصاري قال: لما قتل عثمان جئت عليا وهو جالس في المسجد، وعليه عمامة سوداء، فقلت له: قتل عثمان.
فقال: تبا لهم آخر الدهر. وفي رواية: خيبة لهم.
وقال أبو القاسم البغوي: أنبأنا علي بن الجعد، أنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن ابن أبي ليلى قال: سمعت عليا وهو بباب المسجد أو عند أحجار الزيت رافعا صوته يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.
وقال أبو هلال: عن قتادة، عن الحسن قال: قتل عثمان وعلي غائب في أرض له، فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ.
وروى الربيع بن بدر، عن سيار بن سلامة، عن أبي العالية: أن عليا دخل على عثمان فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنوا أنه سيلحق به.
وقال الثوري وغيره: عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل عثمان: والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت.
ورواه غير ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، عن علي نحوه.
وقال حبيب بن أبي العالية: عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال علي: إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم بالله ما قتلت عثمان، ولا أمرت بقتله، ولقد نهيتهم فعصوني.
وقد روي من غير وجه عن علي بنحوه.
وقال محمد بن يونس الكديمي: ثنا هارون بن إسماعيل، ثنا قره بن خالد، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله ﷺ: « إني لأستحيي ممن تستحي منه الملائكة » وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني أشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزمة فبايعت.
فلما قالوا: أمير المؤمنين كان صدع قلبي، وأسكت نفرة من ذلك.
وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي: أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه.
ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ولله الحمد والمنة.
وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [38].
وثبت عنه أيضا من غير وجه أنه قال: كان من الذين { وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا } [39].
وفي رواية أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه خيرنا، وأوصلنا للرحم، وأشدنا حياء، وأحسننا طهورا، وأتقانا للرب عز وجل.
وروى يعقوب بن سفيان، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن مجالد عن عمير ابن رودى كذا أبي كثير. قال: خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته، فنزل فقال: إن مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة، أحمر وأبيض وأسود، ومعهم في أجمة أسد، فكان كلما أراد قتل أحدهم منعه الآخران، فقال للأسود والأحمر: إن هذا الأبيض قد فضحنا في هذه الأجمة فخليا عنه حتى آكله، فخليا عنه فأكله، ثم كان كلما أراد أحدهما منعه الآخر فقال للأحمر: إن هذا الأسود قد فضحنا في هذه الأجمة وإن لوني على لونك فلو خليت عنه أكلته، فخلى عنه الأحمر فأكله، ثم قال للأحمر: إني آكلك، فقال: دعني حتى أصيح ثلاث صيحات، فقال: دونك، فقال: ألا إني إنما أكلت يوم أكل البيض ثلاثا، فلو أني نصرته لما أكلت.
ثم قال علي: وإنما أنا وهنت يوم قتل عثمان، ولو أني نصرته لما وهنت قالها ثلاثا.
وروى ابن عساكر من طريق محمد بن هارون الحضرمي، عن سويد بن عبد الله القشيري القاضي، عن ابن مهدي، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: كانت المرأة تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل وقرها، وتقول: اللهم بدل اللهم غير.
فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان رضي الله عنه:
قلتم بدل فقد بدلكم * سنة حرى وحربا كاللهب
ما نقمتم من ثياب خلفة * وعبيد وإماء وذهب
قال: وقال أبو حميد أخو بني ساعدة - وكان ممن شهد بدرا، وكان ممن جانب عثمان - فلما قتل قال: والله ما أردنا قتله، ولا كنا نرى أن يبلغ منه القتل، اللهم إن لك علي أن لا أفعل كذا وكذا، ولا أضحك حتى ألقاك.
وقال محمد بن سعد: أنا عبد الله بن إدريس، أنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال: لقد رأيتني وأن عمر موثقي وأخته على الإسلام، ولو أرفض أحد فيما صنعتم بابن عفان لكان حقيقا.
وهكذا رواه البخاري في صحيحه، وروى محمد بن عائذ، عن إسماعيل بن عباس، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمع عبد الله بن سلام رجلا يقول لآخر: قتل عثمان بن عفان فلم ينتطح فيه عنزان.
فقال ابن سلام: أجل! إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة، ولكن ينتطح فيه الرجال بالسلاح، والله لنقتلن به أقوام إنهم لفي أصلاب آبائهم ما ولدوا بعد.
وقال ليث: عن طاووس قال: قال ابن سلام: يحكّم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل.
وقال أبو عبد الله المحاملي: ثنا أبو الأشعث، ثنا حزم بن أبي حزم، سمعت أبا الأسود يقول: سمعت أبا بكرة يقول: لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أشرك في قتل عثمان.
وقال أبو يعلى: ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، ثنا محمد بن عباد الهباني، ثنا البراء بن أبي فضال، ثنا الحضرمي، عن أبي مريم رضيع الجارود قال: كنت بالكوفة فقام الحسن بن علي خطيبا فقال: أيها الناس! رأيت البارحة في منامي عجبا، رأيت الرب تبارك وتعالى فوق عرشه، فجاء رسول الله ﷺ حتى قام عند قائمة من قوائم العرش، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي ﷺ، ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر، ثم جاء عثمان فكان بيده - يعني: رأسه - فقال: رب سل عبادك فيم قتلوني؟
فانبعث من السماء ميزابان من دم في الأرض، قال فقيل لعلي: ألا ترى ما يحدث به الحسن؟!
فقال: حدث بما رأى.
ورواه أبو يعلى أيضا، عن سفيان بن وكيع، عن جميع بن عمير، عن عبد الرحمن بن مجالد، عن حرب العجلي: سمعت الحسن بن علي يقول: ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت العرش ورأيت رسول الله ﷺ متعلق بالعرش، ورأيت أبا بكر واضعا يده على منكب رسول الله، وكان عمر واضعا يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعا يده على منكب عمر ورأيت دما دونهم، فقلت: ما هذا؟
فقيل: دم عثمان يطلب الله به.
وقال مسلم بن إبراهيم: ثنا سلام بن مسكين، عن وهب بن شبيب، عن زيد بن صوحان أنه قال: يوم قتل عثمان نفرت القلوب منافرها، والذي نفسي بيده لا تتألف إلى يوم القيامة.
وقال محمد بن سيرين: قالت عائشة: مصصتموه مص الإناء ثم قتلتموه؟
وقال خليفة بن خياط: ثنا أبو قتيبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن عون بن عبد الله ابن عتبة قال: قالت عائشة: غضبت لكم من السوط، ولا أغضب لعثمان من السيف، استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالعقب المصفى قتلتموه.
وقال أبو معاوية: عن الأعمش، عن خيثمة، عن مسروق. قال: قالت عائشة: حين قتل عثمان تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قتلتموه.
وفي رواية: ثم قربتموه، ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش؟.
فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه.
فقالت: لا، والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون؛ ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها.
وهذا إسناد صحيح إليها.
وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه ولله الحمد والمنة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حزم القطعي، ثنا أبو الأسود بن سوادة، أخبرني طلق بن حسان قال: قال: قتل عثمان، فتفرقنا في أصحاب محمد ﷺ نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة تقول: قتل مظلوما لعن الله قتلته.
وروى محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة، عن أنس قال: قالت أم سليم: لما سمعت بقتل عثمان رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دما.
وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له، فمن ذلك:
قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله: إنكم مثلهم أو أعظم جرما، أما مررتم ببلاد ثمود؟
قالوا: نعم!
قال: فأشهد إنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته.
وقال ابن علية: عن يونس بن عبدي، عن الحسن قال: لو كان قتل عثمان هدىً لاحتلبت به الأمة لبنا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به الأمة دما.
وقال أبو جعفر الباقر: كان قتل عثمان على غير وجه الحق.
وهذا ذكر بعض ما رثي به رضي الله عنه
قال مجالد: عن الشعبي ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك:
فكف يديه ثم أغلق بابه * وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم * عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله صب عليهم * العداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده * عن الناس إدبار النعام الجوافل
وقد نسب هذه الأبيات سيف بن عمر إلى أبي المغيرة الأخنس بن شريق.
وقال سيف بن عمر: وقال حسان بن ثابت:
ماذا أردتم من أخي الدين باركت * يد الله في ذاك الأديم المقدد
قتلتم ولي الله في جوف داره * وجئتم بأمر جائر غير مهتد
فهلا رعيتم ذمة الله بينكم * وأوفيتم بالعهد عهد محمد
ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق * وأوفاكم عهدا لدى كل مشهد
فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا * على قتل عثمان الرشيد المسدد
وقال ابن جرير: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
من سره الموت صرفا لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثمانا
مستحقبي حلق الماذي قد سفعت * فوق المخاطم بيض زان أبدانا
ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
صبرا فدى لكم أمي وما ولدت * قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
فقد رضينا بأرض الشام نافرة * وبالأمير وبالإخوان إخوانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا * ما دمت حيا وما سميت حسانا
لتسمعن وشيكا في ديارهم * الله أكبر يا ثارات عثمانا
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني * ما كان شأن علي وابن عفانا
وهو القائل أيضا:
إن تُمْسِ الدار ابن أروى منه خاوية * باب صريع وباب محرق خرب
فقد يصادف باغي العرف حاجته * فيها ويأوي إليها المجد والحسب
يا معشر الناس أبدوا ذات أنفسكم * لا يستوي الصدق عند الله والكذب
وقال الفرزدق:
إن الخلافة لما أظعنت ظعنت * عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا
صارت إلى أهلها منهم ووارثها * لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا
السافكي دمه ظلما ومعصيةً * أي دم لا هدوا من غيتهم سفكوا
وقال راعي الإبل النميري في ذلك:
عشية يدخلون بغير إذن * على متوكل أوفى وطابا
خليل محمد ووزير صدق * ورابع خير من وطئ الترابا
فصل كيفية قتله في المدينة وفيها كثير من الصحابة.
إن قال قائل كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم
فجوابه من وجوه:
(أحدها): أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة، إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة.
وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع الله والله أعلم.
(الثاني): أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية.
(الثالث): أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم.
(الرابع): أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان رضي الله عنه، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان رضي الله عنه، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجئ الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها وتسوروا عليه حتى قتلوه.
وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق، وغيرهم.
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سهم بن خنش أو خنيش أو خنش الأزدي - وكان قد شهد الدار -.
ورواه محمد بن عائذ، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن يزديد الرجي عنه: وكان قد استعاده عمر بن عبد العزيز إلى دير سمعان فسأله عن مقتل عثمان، فذكر ما ملخصه: أن وفد السبائية وفد مصر كانوا قد قدموا على عثمان فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا راجعين، ثم كروا إلى المدينة فوافقوا عثمان قد خرج لصلاة الغداة أو الظهر فحصبوه بالحصا والنعال والخفاف، فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير وابنه عبد الله وطلحة ومروان والمغيرة بن الأخنس في ناس، وطاف وفد مصر بداره، فاستشار الناس، فقال عبد الله بن الزبير: يا أمير المؤمنين، إني أشير بإحدى ثلاث خصال: إما أن تحرم بعمرة فيحرم عليهم دماؤنا، وإما أن نركب معك إلى معاوية بالشام، وإما أن نخرج فنضرب بالسيف إلى أن يحكم الله بيننا وبينهم، فإنا على الحق وهم على الباطل.
فقال عثمان: أما ما ذكرت من الإحياء بعمرة فتحرم دماؤنا فإنهم يرونا ضلالا الآن وحال الإحرام وبعد الإحرام، وأما الذهاب إلى الشام، فإني أستحيي أن أخرج من بينهم خائفا، فيراني أهل الشام، وتسمع الأعداء من الكفار ذلك.
وأما القتال: فإني أرجو أن ألقى الله وليس يهراق بسببي محجمة دم.
قال: ثم صلينا معه صلاة الصبح ذات يوم، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة، فقالا لي: صم يا عثمان فإنك تفطر عندنا، وإني أشهدكم إني قد أصبحت صائما، وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالما مسلوما منه.
فقلنا: يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمن منهم علينا فأذن لنا أن نكون معه في بيت من الدار تكون لنا فيه جماعة ومنعة، ثم أمر بباب الدار ففتح ودعا بالمصحف فأكب عليه، وعنده امرأتاه بنت الفرافصة وابنه شيبة، فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال: دعها يا ابن أخي، فوالله لقد كان أبوك يتلهف لها بأدنى من هذا، فاستحيى فخرج.
فقال للقوم: قد أشعرته لكم، وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير محدد عداده من مراد معه حرف من حديد فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟
فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين.
فقال: كذبت، وضربه بالحرف على صدغه الأيسر فقتله، فخر فأدخلته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت جسيمة ضليعة، فألقت نفسها عليه، وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقي من جسده.
ودخل رجل من أهل مصر بالسيف مصلتا، فقال: والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة عنه فغلبته فكشف عنها درعها من خلفها حتى نظر إلى متنها فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها فقبضت على السيف فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، لغلام عثمان أسود، يا غلام ادفع عني هذا الرجل، فمشى إليه الغلام فضربه فقتله وخرج أهل البيت يقاتلون عن أنفسهم، فقتل المغيرة بن الأخنس، وجرح مروان.
قال: فلما أمسينا قلنا: إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مَثّلوا به، فاحتملناه إلى بقيع الفرقد في جوف الليل، وغشينا سواد من خلفنا فهبناهم، وكدنا أن نتفرق عنه، فنادى مناديهم: أن لا روع عليكم البثوا إنما جئنا لنشهده معكم - وكان أبو حبيش يقول: هم ملائكة الله - فدفناه، ثم هربنا إلى الشام من ليلتنا، فلقينا الجيش بوادي القرى عليه حبيب بن مسلمة قد أتوا في نصرة عثمان، فأخبرناهم بقتله ودفنه.
قال أبو عمر بن عبد البر: دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب - وكان قد اشتراه وزاده في البقيع - ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله - بعد حكايته هذا الكلام -: الذين قتلوه أو ألبوا عليه، قتلوا إلى عفو الله ورحمته، والذين خذلوه خذلوا وتنغص عيشهم، وكان الملك بعده في نائبه، ومعاوية وبنيه، ثم في وزيره مروان، وثمانية من ذريته استطالوا حياته وملوه مع فضله وسوابقه، فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعا وثمانين سنة، فالحكم لله العلي الكبير. وهذا لفظه بحروفه.
بعض الأحاديث الواردة في فضائل عثمان بن عفان
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي، الأموي، أمير المؤمنين، ذو النورين وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين. وأمه: أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس.
وأمها أم حكيم، وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ.
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم. أسلم عثمان رضي الله عنه قديما على يدي أبي بكر الصديق، وكان سبب إسلامه عجيبا فيما ذكره الحافظ ابن عساكر، وملخص ذلك: أنه لما بلغه أن رسول الله ﷺ زوج ابنته رقية - وكانت ذات جمال - من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهموما، فوجد عندهم خالته سعدى بنت كريز - وكانت كاهنة -
فقالت له: أبشر وحييت ثلاثا تترا، ثم ثلاثا وثلاثا أخرى، ثم بأخرى كي تتم عشرا، أتاك خير، ووقيت شرا، أنكحت والله حصانا زهرا، وأنت بكر، ولقيت بكرا، وافيتها بنت عظيم قدرا، بنيت أمرا قد أشاد ذكرا.
قال عثمان: فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة قد تزوجت بغيري، فقلت: يا خالة! ما تقولين؟.
فقالت: عثمان لك الجمال، ولكِ اللسان، هذا النبي معه البرهان. أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فاتبعه لا تغتالك الأوثان.
قال: فقلت: إنك لتذكرين أمرا ما وقع ببلدنا.
فقالت: محمد بن عبد الله رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله يدعو به إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلَّت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح ومدت الرماح.
قال عثمان: فانطلقت مفكرا، فلقيني أبو بكر فأخبرته، فقال: ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومنا؟ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟.
قال: قلت بلى! والله إنها لكذلك.
فقال: والله لقد صدقتك خالتك هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه؟.
فاجتمعنا برسول الله، فقال: يا عثمان، أجب الله إلى حقه، فأنا رسول الله إليك وإلى خلقه.
قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله ﷺ أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله ﷺ، فكان يقال:
أحسن زوج رآه إنسان * رقية وزوجها عثمانُ
فقالت في ذلك سُعدى بنت كريز:
هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى * وأرشده والله يهدي إلى الحقِ
فتابع بالرأي السديد محمدا * وكان برأي لا يصد عن الصدقِ
وأنكحه المبعوث بالحق بنته * فكانا كبدر مازج الشمس في الأفقِ
فداؤك يا ابن الهاشميين مُهجتي * وأنت أمين الله أرسلت للخلقِ
قال: ثم جاء أبو بكر من الغد بعثمان بن مظعون، وبأبي عبيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا، وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله ثمانية وثلاثون رجلا.
وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة.
فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله ﷺ، وأقام بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله ﷺ بسهمه منها، وأجره فيها فهو معدود فيمن شهدها.
فلما توفيت زوَّجه رسول الله ﷺ بأختها أم كلثوم فتوفيت أيضا في صحبته، وقال رسول الله ﷺ: « لو كان عندنا أخرى لزوجناها بعثمان ».
وشهد أحدا، وفر يومئذ فيمن تولى، وقد نص الله على العفو عنهم، وشهد الخندق والحديبية، وبايع عنه رسول الله ﷺ يومئذٍ بإحدى يديه، وشهد خيبر وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش العسرة.
وتقدم عن عبد الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذٍ بثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن سمرة: أنه جاء يومئذٍ بألف دينار فصبها في حجر رسول الله ﷺ، فقال ﷺ: « ماضر عثمان ما فعل بعد هذا اليوم مرتين ».
وحج مع رسول الله ﷺ حجة الوداع، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب أبا بكر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب عمر فأحسن صحبته، وتوفي وهو عنه راضٍ.
ونص عليه في أهل الشورى الستة، فكان خيرهم كما سيأتي.
فولي الخلافة بعده ففتح الله على يديه كثيرا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا } [40].
وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [41].
وقوله ﷺ: « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطد زمان عثمان رضي الله عنه.
وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه، كريم الأخلاق، ذا حياء كثير، وكرم غزير، يُؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفا لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي ﷺ يعطي أقواما ويدع آخرين، يعطي أقواما خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، ويكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدى والإيمان.
وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله ﷺ في الإيثار، وقد قدمنا ذلك غزوة حنين حيث قسم غنائمها.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان رضي الله عنه، نذكر ما تيسر منها إن شاء الله وبه الثقة، وهي قسمان:
الأول فيما ورد في فضائله مع غيره
فمن ذلك الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة أن أنسا حدثهم قال: « صعد النبي ﷺ أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف، فقال: اسكن أحد - أظنه ضربه برجله - فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان ». تفرد به دون مسلم.
وقال الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: « أن رسول الله ﷺ كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال النبي ﷺ: اهدئي فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد ».
ثم قال في الباب: عن عثمان وسعيد بن زيد، وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبريدة الأسلمي، وهذا حديث صحيح.
قلت: ورواه أبو الدرداء، ورواه الترمذي، عن عثمان في خطبته يوم الدار، وقال: على ثبير.
حديث آخر
وهو عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري قال: « كنت مع رسول الله ﷺ في حائط، فأمرني بحفظ الباب، فجاء رجل يستأذن فقلت: من هذا؟
قال: أبو بكر.
فقال رسول الله ﷺ: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عمر، فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عثمان، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فدخل وهو يقول: اللهم صبرا.
وفي رواية: - الله المستعان - ».
رواه عنه قتادة وأيوب السختياني.
وقال البخاري: وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم الأحول، وعلي بن الحكم، سمعا أبا عثمان يحدث عن أبي موسى الأشعري بنحوه.
وزاد عاصم: « أن رسول الله ﷺ كان قاعدا في مكان قد انكشف عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها ».
وهو في الصحيحين أيضا من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي موسى، وفيه: « أن أبا بكر وعمر دليا أرجلهما مع رسول الله في باب القف وهو في البئر، وجاء عثمان فلم يجد له موضعا »، قال سعيد: فأولت ذلك قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن مروان، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة. قال: قال نافع بن الحارث: « خرجت مع رسول الله ﷺ حتى دخل حائطا، فقال: امسك علي الباب، فجاء حتى جلس على القف ودلى رجليه فضرب الباب فقلت: من هذا؟
فقال: أبو بكر، فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر.
قال: ائذن له وبشره بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله ﷺ على القف، ودلى رجليه في البئر، ثم ضرب الباب.
فقلت من هذا؟
قال: عمر، قلت: يا رسول الله هذا عمر.
قال: ائذن لي وبشره بالجنة، ففعلت فجاء فجلس مع رسول الله على القف، ودلى رجليه في البئر.
ثم ضرب الباب، فقلت: من هذا؟
قال: عثمان.
قلت: يا رسول الله هذا عثمان.
قال: ائذن له وبشره بالجنة معها بلاء، فأذنت له وبشرته بالجنة، فجلس مع رسول الله صلى الله ﷺ على القف ودلى رجليه في البئر ».
هكذا وقع في هذه الرواية.
وقد أخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي سلمة، فيحتمل أن أبا موسى، ونافع بن عبد الحارث كانا موكلين بالباب، أو إنها قصة أخرى.
وقد رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن وهيب، عن موسى بن عقبة، سمعت أبا سلمة ولا أعلمه إلا عن نافع بن عبد الحارث: « أن رسول الله ﷺ دخل حائطا فجلس على قف البئر، فجاء أبو بكر فاستأذن، فقال لأبي موسى: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عثمان، فقال: ائذن له وبشره بالجنة وسيلقى بلاء ».
وهذا السياق أشبه من الأول، على أنه قد رواه النسائي من حديث صالح بن كيسان، عن أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث، عن أبي موسى الأشعري. فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أنا همام، عن قتادة، عن ابن سيرين، ومحمد بن عبيد، عن عبد الله ابن عمر وقال: « كنت مع رسول الله ﷺ فجاء أبو بكر فاستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عمر، فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
ثم جاء عثمان فاستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
قال قلت: فأين أنا؟
قال: أنت مع أبيك ».
تفرد به أحمد.
وقد رواه البزار، وأبو يعلى، من حديث أنس بن مالك بنحو ما تقدم.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد بن العاص: أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي ﷺ وعثمان حدثاه: « أن أبا بكر استأذن على النبي ﷺ وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، فاستأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحالة فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس، وقال: اجمعي عليك ثيابك فقُضِيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله مالي لا أراك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟
فقال رسول الله ﷺ: إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلي حاجته ».
قال الليث: وقال جماعة الناس: إن رسول الله ﷺ قال لعائشة: « ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة ».
ورواه مسلم من حديث محمد بن أبي حرملة، عن عطاء، وسليمان بن يسار، عن أبي سلمة، عن عائشة.
ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث سهيل، عن أبيه، عن عائشة.
ورواه جبير بن نفير، وعائشة بنت طلحة عنها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان، ثنا عبد الله بن يسار: سمعت عائشة بنت طلحة تذكر عن عائشة أم المؤمنين: « أن رسول الله ﷺ كان جالسا كاشفا عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه.
فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك؟
فقال: يا عائشة ألا نستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه؟ ».
تفرد به أحمد من هذا الوجه عنها.
طريق أخرى عن حفصة
رواه الحسن بن عرفة، وأحمد بن حنبل، عن روح بن عبادة، عن ابن جريج، أخبرني أبو خالد عثمان بن خالد، عن عبد الله بن أبي سعيد المدني، حدثتني حفصة، فذكر مثل حديث عائشة، وفيه فقال: « ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة؟ ».
طريق أخرى عن ابن عباس
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو كريب، ثنا يونس بن بكير، ثنا النضر - هو ابن عبد الرحمن أبو عمر الخزاز الكوفي -، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: قال رسول الله ﷺ: « ألا نستحي ممن تستحي منه الملائكة عثمان بن عفان؟ ».
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، قلت: هو على شرط الترمذي ولم يخرجوه.
طريق أخرى عن ابن عمر
قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا أبو معشر، حدثني إبراهيم بن عمر بن أبان، حدثني أبي عمر بن أبان، عن أبيه. قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: « بينما رسول الله ﷺ جالس وعائشة وراءه إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن عمر فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان فدخل ورسول الله ﷺ يتحدث كاشفا عن ركبته، فرد ثوبه على ركبته حين استأذن عثمان، وقال لامرأته: استأخري فتحدثوا ساعة ثم خرجوا.
فقالت عائشة: يا نبي الله! دخل أبي وأصحابه فلم تصلح ثوبك على ركبتك ولم تؤخرني عنك؟
فقال النبي ﷺ: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة، والذي نفسي بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله، ولو دخل وأنت قريب مني لم يتحدث ولم يرفع رأسه حتى يخرج ».
هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه زيادة على ما قبله، وفي سنده ضعف.
قلت: وفي الباب عن علي، وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد بن ثابت: وروى أبو مروان القرشي، عن أبيه، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: « عثمان حيي تستحي من الملائكة ».
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: « أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأشدها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله أُبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ».
وهكذا رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث خالد الحذاء.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي صحيح البخاري، ومسلم آخره: « ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ».
وقد روى هشيم، عن كريز بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر مثل حديث أبي قلابة، عن أنس أو نحوه.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا محمد بن حرب، حدثني الزبيدي، عن ابن شهاب، عن عمرو بن أبان بن عثمان، عن جابر بن عبد الله: أنه كان يحدث أن رسول الله ﷺ قال: « أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر.
فلما قمنا من عند رسول الله ﷺ قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله ﷺ، وأما ما ذكره رسول الله ﷺ من نوط بعضهم ببعض، فهؤلاء ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه ﷺ ».
ورواه أبو داود، عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن حرب، ثم قال: ورواه يونس، وشعيب، عن الزهري فلم يذكرا عمرا.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو داود - عمر بن سعد -، ثنا بدر بن عثمان، عن عبيد الله بن مروان، عن أبي عائشة، عن ابن عمر قال: « خرج علينا رسول الله ﷺ ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: رأيت قبل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهي التي يوزن بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة، فوزنت بهم فرجحت، ثم جيء بأبي بكر فَوُزِنَ، فَوَزَنَ بهم، ثم جيء بعمر فَوُزِنَ، فَوَزَنَ بهم، ثم جيء بعثمان فَوُزِنَ فَوَزَنَ بهم، ثم رفعت ».
تفرد به أحمد.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا هشام بن عمار، ثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: « إني رأيت أني وضعت في كفة وأمتي في كفة فعدلتها، ثم وضع أبو بكر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عمر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عثمان في كفة وأمتي في كفة فعدلها ».
حديث آخر
قال أبو يعلى: حدثنا عبد الله بن مطيع، ثنا هشيم، عن العوام، عمن حدثه عن عائشة قالت: « لما أسس رسول الله ﷺ مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه، وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه.
قالت: فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك؟
فقال: هم أمراء الخلافة من بعدي ».
وقد تقدم هذا الحديث في بناء مسجده أول مقدمه المدينة عليه الصلاة والسلام، وكذلك تقدم في (دلائل النبوة) من حديث الزهري، عن رجل، عن أبي ذر في تسبيح الحصا في يده عليه السلام، ثم في كف أبي بكر، ثم في كف عمر، ثم في كف عثمان رضي الله عنهم ».
وفي بعض الروايات: فقال رسول الله ﷺ: « هذه خلافة النبوة ».
وسيأتي حديث سفينة أن رسول الله ﷺ قال: « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا »، فكانت ولاية عثمان ومدتها ثنتي عشرة سنة، من جملة هذه الثلاثين بلا خلاف بين العلماء العاملين، كما أخبر به سيد المرسلين ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حديث آخر
وهو ما روي من طرق متعددة عن رسول الله ﷺ: أنه شهد للعشرة بالجنة، وهو أحدهم بنص النبي ﷺ.
حديث آخر
قال البخاري: حدثنا محمد بن حازم بن بزيغ، ثنا شاذان، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: « كنا في زمن النبي ﷺ لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نذر أصحاب النبي ﷺ لا نفاضل بينهم ».
تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز، تفرد به البخاري ورواه إسماعيل بن عياش، والفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر.
ورواه أبو يعلى: عن أبي معشر، عن يزيد بن هارون، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن عمر به.
طريق أخرى عن ابن عمر
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن عمر قال: « كنا نعد رسول الله ﷺ وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر وعثمان، ثم نسكت ».
طريق أخرى عن ابن عمر بلفظ آخر
قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، وعقبة بن مكرم قالا، ثنا أبو عاصم، عن عمر بن محمد عن سالم، عن أبيه. قال: « كنا نقول في عهد النبي ﷺ أبو بكر وعمر وعثمان - يعني: في الخلافة - » وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجوه.
لكن قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه:
« كنا نقول: أبو بكر وعمر وعثمان، ثم لا نفاضل بعد ».
وعمر بن محمد لم يكن بالحافظ، وذلك: يتبين في حديثه إذا روى عن غير سالم فلم يقل شيئا.
وقد رواه غير واحد من الضعفاء، عن الزهري، عن سالم عن أبيه به.
وقد اعتنى الحافظ بن عساكر بجمع طرقه عن ابن عمر فأفاد وأجاد.
فأما الحديث الذي قال الطبراني: حدثنا سعيد بن عبد ربه الصفار البغدادي، حدثنا علي بن جميل الرقي، أنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال: قال رسول الله ﷺ: « في الجنة شجرة - أو ما في الجنة شجرة شك على بن حنبل - ما عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين »، فإنه حديث ضعيف في إسناده من تكلم فيه، ولا يخلو من نكارة. والله أعلم.
القسم الثاني فيما ورد من فضائله وحده
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، ثنا عثمان بن موهب. قال: « جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القوم؟
قالوا: قريش.
قال: فمن الشيخ فيهم؟
قالوا: عبد الله بن عمر.
قال: يا ابن عمر! إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟
قال: نعم!.
قال: تعلم أنه تغيب يوم بدر ولم يشهدها؟
قال: نعم!.
قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان ولم يشهدها؟
قال: نعم!.
قال: الله أكبر.
قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له.
وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله وكانت مريضة، فقال له رسول الله: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه.
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله ﷺ عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي ﷺ بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان.
فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك ».
تفرد به دون مسلم.
طريق أخرى
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن عاصم، عن سفيان قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة، فقال له الوليد: مالي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان؟
فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين.
قال عاصم: يقول - يوم أحد - ولم أتخلف عن يوم بدر، ولم أترك سنة عمر.
قال: فانطلق فخبر بذلك عثمان.
فقال: أما قوله: إني لم أفر يوم حنين، فكيف يعيرني بذلك وقد عفا الله عني، فقال: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [42].
وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر، فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله ﷺ، وقد ضرب لي رسول الله ﷺ، ومن ضرب له رسول الله ﷺ بسهم فقد شهد.
وأما قوله: ولم أترك سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو، فإنه يحدثه بذلك.
حديث آخر
قال البخاري: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، ثنا أبي، عن يونس، قال ابن شهاب: أخبرني عروة أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد، فقد أكثر الناس فيه؟ فقصدت لعثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت: إن لي إليك حاجة، وهي نصيحة لك.
فقال: يا أيها المرء منك.
قال: أبو عبد الله، قال معمر: أعوذ بالله منك - فانصرفت فرجعت إليهم إذ جاء رسول عثمان فأتيته.
فقال: ما نصيحتك؟.
فقلت: إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكنتَ ممن استجاب لله ولرسوله، وهاجرتَ الهجرتين، وصحبتَ رسول الله ﷺ، ورأيتَ هديه، وقد أكثر الناس في شأن الوليد.
فقال: أدركتَ رسول الله ﷺ؟.
فقلت: لا! ولكن خلص إليَّ من علمه ما يخلص إلى العذراء في سِتْرها.
قال: أما بعد! فإن الله بعث محمدا بالحق، وكنت ممن استجاب لله ولرسوله فآمنت بما بعث به، وهاجرتُ الهجرتين كما قلتَ، وصحبتُ رسول الله ﷺ وبايعته، فوالله ما عصيته، ولا غششته حتى توفاه الله عز وجل، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفتُ، أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟.
قلت: بلى!.
قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أمَّا ما ذكرت من شأن الوليد فسآخذ فيه بالحق إن شاء الله.
ثم دعا عليا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا الوليد بن مسلم، حدثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: « أرسل رسول الله ﷺ إلى عثمان بن عفان فجاء، فأقبل عليه رسول الله ﷺ، فلما رأينا إقبال رسول الله ﷺ على عثمان أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه وقال: يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني. ثلاثا ».
فقلت لها يا أم المؤمنين: فأين كان هذا عنك؟
قالت: نسيته والله ما ذكرته.
قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان، فلم يرض بالذي أخبرته، حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به، فكتبت إليه به كتابا.
وقد رواه أبو عبد الله الجيري: عن عائشة وحفصة بنحو ما تقدم.
ورواه قيس بن أبي حازم، وأبو سلمة عنها.
ورواه أبو سهلة عن عثمان: « إن رسول الله ﷺ عهد إليَّ عهدا، فأنا صابر نفسي عليه ».
ورواه فرج بن فضالة: عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة فذكره.
قال الدارقطني: تفرد به الفرج بن فضالة.
ورواه أبو مروان محمد: عن عثمان بن خالد العماني، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ورواه ابن عساكر: من طريق المنهال بن عمر، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عنها.
ورواه ابن أسامة: عن الجريري، حدثني أبو بكر العدوي. قال: سألت عائشة، وذكر عنها نحو ما تقدم، تفرد به الفرج بن فضالة.
ورواه حصين: عن مجاهد، عن عائشة بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كنانة الأسدي، أبو يحيى، ثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه. قال:
بلغني أن عائشة قالت: « ما استمعت رسول الله ﷺ إلا مرة، فإن عثمان جاءه في حرِّ الظهيرة فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعته يقول: إن الله ملبسك قميصا تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه ».
فلما رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلا خلعه، علمت أنه عهد من رسول الله ﷺ الذي عهد إليه.
طريق أخرى
قال الطبراني: حدثنا مطلب بن سعيد الأزدي، ثنا عبد الله بن صالح، ثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف قال: كنا عند شفى الأصبحي فقال: حدثنا عبد الله بن عمر قال: التفت رسول الله ﷺ فقال: « يا عثمان إن الله كساك قميصا فأرادك الناس على خلعه فلا تخلعه، فوالله لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ».
وقد رواه أبو يعلى من طريق عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أم المؤمنين.
وفي سياق متنه غرابة والله أعلم.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثتني فاطمة بنت عبد الرحمن. قالت: حدثتني أمي أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال: قولي إن أحد بنيك يقرئك السلام، ويسألك عن عثمان بن عفان، فإن الناس قد شتموه، فقالت: « لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعدا عند رسول الله ﷺ، وإن رسول الله لمسند ظهره إليّ، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: اكتب يا عثيم.
قالت عائشة: فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريما على الله ورسوله ».
ثم رواه الإمام أحمد: عن يونس، عن عمر بن إبراهيم اليشكري، عن أمه، عن أمها: أنها سألت عائشة عند الكعبة عن عثمان، فذكرت مثله.
حديث آخر
قال البزار: حدثنا عمر بن الخطاب قال: ذكر أبو المغيرة، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي، عن جابر: « أن رسول الله ﷺ ذكر فتنة، فقال أبو بكر: أنا أدركها؟
فقال: لا!
فقال عمر: أنا يا رسول الله أدركها؟
قال: لا!
فقال عثمان: يا رسول الله فأنا أدركها؟
قال: بك يبتلون ».
قال البزار: وهذا لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عمر، ثنا سنان بن هارون، ثنا كليب بن واصل، عن ابن عمر. قال: « ذكر رسول الله ﷺ فتنة، فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذٍ مظلوما، فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان ».
ورواه الترمذي: عن إبراهيم بن سعيد، عن شاذان به، وقال: حسن غريب.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة، حدثني أبو أمي أبو حنيفة: أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا - أو قال اختلافا وفتنة - فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟
قال: عليكم بالأمين وأصحابه وهو يشير إلى عثمان بذلك ».
تفرد به أحمد وإسناده جيد حسن، ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام: أحمد حدثنا، أبو أسامة، ثنا حماد بن أسامة، ثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن شقيق، حدثني هرم بن الحارث وأسامة بن خزيم - وكانا يغازيان - فحدثاني حديثا، ولم يشعر كل واحد منهما أن صاحبه حدثنيه عن مُرَّة البهزي قال: « بينما نحن مع رسول الله ﷺ في طريق من طرق المدينة فقال: كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر؟.
قالوا: نصنع ماذا يا رسول الله؟
قال: عليكم هذا وأصحابه - أو اتبعوا هذا وأصحابه -. قال: فأسرعت حتى عييت فأدركت الرجل، فقلت: هذا يا رسول الله؟
قال: هذا، فإذا هو عثمان بن عفان ».
فقال: هذا وأصحابه فذكره.
طريق أخرى
وقال الترمذي في جامعه: حدثنا محمد بن بشار، ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني: أن خطباء قامت بالشام، وفيهم رجال من أصحاب النبي ﷺ رجل يقال له مُرَّة بن كعب، فقال: « لولا حديث سمعته من رسول الله ﷺ ما تكلمت، وذكر الفتن فقرَّبها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذٍ على الهدى، فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه، فقلت: هذا.
قال: نعم! ».
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب: عن ابن عمر، وعبد الله بن حوالة، وكعب بن عجرة. قلت: وقد رواه أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، حدثني سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن مرة بن كعب البهزي، فذكر نحوه.
وقد رواه الإمام أحمد: عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية، عن صالح، عن سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن كعب بن مرة البهزي.
الصحيح مرة بن كعب كما تقدم، وأما حديث ابن حوالة، فقال حماد بن سلمة: عن سعيد الجريري، عن عبد الله بن سفيان، عن عبد الله بن شقيق عن، عبد الله بن حوالة. قال: قال رسول الله ﷺ: « كيف أنت وفتنة تكون في أقطار الأرض؟.
قلت: ما خار الله لي ورسوله.
قال: اتبع هذا الرجل فإنه يومئذٍ ومن اتبعه على الحق.
قال: فاتبعته، فأخذت بمنكبه ففتلته، فقلت: هذا يا رسول الله؟
فقال: نعم، فإذا هو عثمان بن عفان ».
وقال حرملة: عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن ابن حوالة قال: قال رسول الله ﷺ: « ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتي، وخروج الدجال، وقتل خليفة مصطبر قوَّام بالحق يعطيه ».
وأما حديث كعب بن عجرة، فقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، أخبرني معاوية بن مسلم، عن مطر الوراق، عن ابن سيرين، عن كعب بن عجرة قال: « ذكر رسول الله ﷺ فتنة فقرَّبها وعظمها قال: ثم مر رجل مقنع في ملحفة، فقال: هذا يومئذ على الحق.
قال: فانطلقت مسرعا أو محضرا وأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله؟
قال: هذا، فإذا هو عثمان بن عفان ».
ثم رواه أحمد: عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عجرة فذكر مثله.
ورواه أبو يعلى: عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عجرة.
وكذا رواه أبو عون: عن ابن سيرين، عن كعب.
وقد تقدم حديث أبي ثور التميمي عنه في قوله في الخطبة التي خاطب بها الناس من داره: والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله ﷺ، وأنه كان يعتق كل يوم جمعة عتيقا فإن تعذر عليه أعتق في الجمعة الأخرى عتيقين.
وقال مولاه حمران: كان عثمان يغتسل كل يوم منذ أسلم. رضي الله عنه.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عياش، ثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الأوزاعي، عن محمد بن عبد الملك بن مروان أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة: أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى وإني أعرض عليك خصالا ثلاثا اختر إحداهن، إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابا سوى الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق مكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية.
فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله ﷺ في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني بها، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم »، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله ﷺ.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا أرطأة - يعني: ابن المنذر - حدثني أبو عون الأنصاري: أن عثمان قال لابن مسعود: هل أنت منته عما بلغني عنك؟ فاعتذر بعض العذر، فقال عثمان: ويحك! إني قد سمعت وحفظت - وليس كما سمعت - أن رسول الله ﷺ قال: « سيقتل أمير، ويتبرى متبرئ »، وإني أنا المقتول، وليس عمر، إنما قتل عمر واحد، وأنه يجتمع علي، وهذا الذي قاله لابن مسعود قبل مقتله بنحو من أربع سنين، فإنه مات قبله بنحو ذلك.
حديث آخر
قال عبد الله بن أحمد: ثنا عبيد الله بن عمر الفربري، ثنا القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدثني أبو عبادة الزرقي الأنصاري - من أهل المدينة - عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز ولو ألقي حجر لم يقع إلا على رأس رجل فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي باب مقام جبريل، فقال: أيها الناس! أفيكم طلحة؟
فسكتوا، ثم قال: أيها الناس! أفيكم طلحة بن عبيد الله؟
فسكتوا، ثم قال: أيها الناس! أفيكم طلحة؟
فقام طلحة بن عبيد الله فقال له عثمان: ألا أراك ههنا؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع نداي آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيئني؟ أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله في موضع كذا وكذا ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك؟
فقال: نعم!
قال: فقال لك رسول الله ﷺ: « إنه ما من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا - يعني: نفسه - رفيقي في الجنة؟ ».
فقال طلحة: اللهم نعم!
تفرد به أحمد.
حديث آخر عن طلحة
قال الترمذي: حدثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا يحيى بن اليمان، عن شريح بن زهرة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان ».
ثم قال: هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي، وإسناده منقطع.
ورواه: أبو عثمان محمد بن عثمان، عن أبيه، عن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة: وقال الترمذي: حدثنا الفضل بن أبي طالب البغدادي، وغير واحد قالوا: حدثنا عثمان بن زفر، حدثنا محمد بن زياد، عن محمد بن عجلان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: « أتي النبي ﷺ بجنازة رجل ليصلي عليه فلم يصل عليه، فقيل: يا رسول الله ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا؟
فقال: إنه كان يبغض عثمان فأبغضه الله عز وجل ».
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب، ومحمد بن زياد هذا صاحب ميمون بن مهران ضعيف الحديث جدا، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة بصري ثقة، يكنى أبا الحارث، ومحمد بن زياد الألهاني صاحب أبي أمامة ثقة شامي يكنى أبا سفيان.
حديث آخر
روى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي مروان العثماني، ثنا أبي عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة: « أن رسول الله ﷺ لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال: يا عثمان! هذا جبريل يخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل مصاحبتها ».
وقد روى ابن عساكر أيضا من حديث ابن عباس، وعائشة، وعمارة بن روبية، وعصمة بن مالك، الخطمي، وأنس بن مالك، وابن عمر، وغيرهم وهو غريب ومنكر من جميع طرقه.
وروي بإسناد ضعيف عن علي: أن رسول الله ﷺ قال: « لو كان لي أربعون ابنة لزوجتهن بعثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة ».
وقال محمد بن سعيد الأموي: عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن المهلب بن أبي صفرة قال: سألت أصحاب رسول الله ﷺ لم قلتم في عثمان أعلانا فوقا؟
قالوا: لأنه لم يتزوج رجل من الأولين والآخرين ابنتي نبي غيره.
رواه ابن عساكر.
وقال إسماعيل بن عبد الملك: عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: « ما رأيت رسول الله ﷺ رافعا يديه حتى يبدو ضبعيه إلا لعثمان بن عفان إذا دعا له ».
وقال مسعر: عن عطية، عن أبي سعيد قال: « رأيت رسول الله ﷺ من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعا يديه يدعو لعثمان، يقول: اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه ».
وفي رواية: يقول لعثمان: « غفر الله لك ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما كان منك وما هو كائن إلى يوم القيامة ».
ورواه الحسن بن عرفة، عن محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن النبي ﷺ مرسلا.
وقال ابن عدي: عن أبي يعلى، عن عمار بن ياسر المستملي، عن إسحاق بن إبراهيم المستملي، عن أبي إسحاق عن أبي وائل عن حذيفة: « أن رسول الله ﷺ بعث إلى عثمان يستعينه في غزاة غزاها، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار فوضعها بين يديه، فجعل يقلبها بين يديه ويدعو له: غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة ما يبالي عثمان ما فعل بعدها.
حديث آخر
وقال ليث بن أبي سليم: أول من خبص الخبيص عثمان خلط بين العسل والنقي، ثم بعث به إلى رسول الله ﷺ إلى منزل أم سلمة، فلم يصادفه فلما جاء وضعوه بين يديه، فقال: « من بعث هذا؟
قالوا: عثمان.
قالت: فرفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إن عثمان يترضّاك فارض عنه ».
حديث آخر
روى أبو يعلى: عن سنان بن فروخ، عن طلحة بن يزيد، عن عبيدة بن حسان، عن عطاء الكيخاراني، عن جابر: « أن رسول الله ﷺ اعتنق عثمان وقال: أنت وليي في الدنيا ووليي في الآخرة ».
حديث آخر
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن الجريري، عن عبيد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله ﷺ: « تهجمون على رجل معتجر ببرده من أهل الجنة يبايع الناس ».
قال: فهجمنا على عثمان بن عفان فرأيناه معتجرا يبايع الناس.
ذكر شيء من سيرته وهي دالة على فضيلته
قال ابن مسعود: لما توفي عمر بايعنا خيرنا ولم نأل.
وفي رواية: بايعوا خيرهم ولم يألوا.
وقال الأصمعي: عن أبي الزناد، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم عثمان آمنت بالذي خلق فسوى.
وقال محمد بن المبارك: بلغني أنه كان نقش خاتم عثمان آمن عثمان بالله العظيم.
وقال البخاري في (التاريخ): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قل ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا، يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل الأعطيات جارية، والأرزاق دارة، والعدو متقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنا، ومن لقيه فهو أخوه، قد كان من إلفته ونصيحته ومودته قد عهد إليهم أنها ستكون أثره، فإذا كانت فاصبروا.
قال الحسن: فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، بل قالوا: لا والله ما نصابرها: فوالله ما وردوا وما سلموا والأخرى كان السيف مغمدا عن أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولا إلى يوم الناس، هذا وأيم الله إني لأراه سيفا مسلولا إلى يوم القيامة.
وقال غير واحد عن الحسن البصري قال: سمعت عثمان يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب.
وروى سيف ابن عمر: أن أهل المدينة اتخذ بعضهم الحمام ورمى بعضهم بالجلاهقات، فوكل عثمان رجلا من بني ليث يتبع ذلك فيقص الحمام ويكسر الجلاهقات - وهي قسي البندق -.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا القعنبي وخالد بن مخلد، ثنا محمد بن هلال، عن جدته - وكانت تدخل على عثمان وهو محصور - فولدت هلالا ففقدها يوما فقيل له: إنها قد ولدت هذه الليلة غلاما، قالت: فأرسل إلي بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية، وقال: هذا عطاء ابنك وكسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة.
وروى الزبير بن أبي بكر: عن محمد بن سلام، عن ابن بكار قال: قال ابن سعيد بن يربوع بن عتكة المخزومي: انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد، والمسجد بيننا، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم، تحت رأسه لبنة أو بعض لبنة، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله، ففتح عينيه فقال: من أنت يا غلام؟
فأخبرته، فإذا غلام نائم قريبا منه فدعاه فلم يجبه، فقال لي: ادعه! فدعوته فأمره بشيء، وقال لي: اقعد! فذهب الغلام فجاء بحلة وجاء بألف درهم، ونزع ثوبي وألبسني الحلة، وجعل الألف درهم فيها، فرجعت إلى أبي فأخبرته، فقال: يا بني من فعل هذا بك؟
فقلت: لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قط أحسن منه، قال: ذاك أمير المؤمنين عثمان بن عفان.
وقال عبد الرزاق: عن ابن جرير، أخبرني يزيد بن خصيفة، عن أبي السائب بن يزيد: أن رجلا سأل عبد الرحمن بن عثمان التميمي، أهي صلاة طلحة بن عبيد الله عن صلاة عثمان؟
قال: نعم!
قال: قلت لأغلبن الليلة النفر على الحجر - يعني: المقام - فلما قمت فإذا رجل يرجمني مقنعا، قال: فالتفت، فإذا بعثمان يزحمني فتأخرت عنه فصلى فإذا هو يسجد بسجود القرآن، حتى إذا قلت هذا هو أذان الفجر أوتر بركعة لم يصل غيرها ثم انطلق.
وقد روي هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود، أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه رضي الله عنه.
ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدا وَقَائِما يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [43] قال: هو عثمان بن عفان.
وقال ابن عباس: في قوله تعالى: { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [44] قال: هو عثمان.
وقال حسان:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقال سفيان بن عيينة: ثنا إسرائيل بن موسى، سمعت الحسن يقول: قال عثمان: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف.
وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه.
وقال أنس ومحمد بن سيرين: قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي بالقرآن في ركعة.
وقال غير واحد: أنه رضي الله عنه كان لا يوقظ أحدا من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه، إلا أن يجده يقظانا، وكان يصوم الدهر، وكان يُعَاتَبُ فيقال: لو أيقظت بعض الخدم؟
فيقول: لا! الليل لهم يستريحون فيه.
وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه، ولا يرفع صلبه جيدا من شدة حيائه رضي الله عنه.
شيء من خطبه
قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، عن أبيه: أن عثمان لما بويع خرج إلى الناس فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، أول كل مركب صعب، وإن بعد اليوم أياما، وإن أعِش تأتكم الخطب على وجهها، وما كنا خطباء، وسيعلمنا الله.
وقال الحسن: خطب عثمان فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس! اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لظلمة القبر، وليخشَ عبد أن يحشره الله أعمى، وقد كان بصيرا، وقد يلقى الحكيم جوامع الكلم، والأصم ينادي من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله له لم يخف شيئا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده؟.
وقال مجاهد: خطب عثمان فقال: ابن آدم! أعلم أن ملك الموت الذي وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك منذ أنت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك، فخذ حذرك واستعد له، ولا تغفل فإنه لا يغفل عنك، واعلم ابن آدم إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها لم يستعد لها غيرك، ولا بد من لقاء الله فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك، والسلام.
وقال سيف بن عمر: عن بدر بن عثمان، عن عمه. قال: آخر خطبة خطبها عثمان في جماعة:
إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى وإن الآخرة تبقى، لا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله، اتقوا الله فإن تقواه جُنَّة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا } إلى آخر الآيتين [45].
فصل من مناقبه رضي الله عنه
قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، ثنا محمد بن قيس الأسدي، عن موسى بن طلحة. قال: سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم، وأسفارهم.
وقال أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا يونس - يعني: ابن عبيد -، حدثني عطاء بن فروخ مولى القرشيين أن عثمان اشترى من رجل أرضا، فأبطأ عليه فلقيه، فقال: ما منعك من قبض مالك؟.
قال: إنك غبنتني، فما ألقى من الناس أحدا إلا وهو يلومني.
قال: أذلك يمنعك؟
قال: نعم!.
قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله ﷺ: « أدخَلِ الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا ».
وروى ابن جرير: أن طلحة لقي عثمان وهو خارج إلى المسجد فقال له طلحة: إن الخمسين ألفا التي تلك عندي قد حصلت فأرسل من يقبضها.
فقال له عثمان: إنا قد وهبناكها لمروءتك.
وقال الأصمعي: استعمل ابن عامر قطن بن عوف الهلالي على كرمان، فأقبل جيش من المسلمين - أربعة آلاف - وجرى الوادي فقطعهم عن طريقهم، وخشي قطن الفوت.
فقال: من جاز الوادي؟ فله ألف درهم، فحملوا أنفسهم على العوم، فكان إذا جاز الرجل منهم قال: قطن أعطوه جائزته، حتى جازوا جميعا، وأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يحسبها له، فكتب بذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب عثمان: أن احسبها له فإنه إنما أعان المسلمين في سبيل الله، فمن ذلك اليوم سميت الجوائز لإجازة الوادي.
فقال الكناني ذلك:
فَدىً للأكرمين بني هلال * على عِلاتهم أهلي ومالي
همَّوا سنَّوا الجوائز في معدٍّ * فعادت سنَّةً أخرى الليالي
رماحهمُ تزيد على ثمان * وعشرٍ قبل تركيب النصالِ
فصل ومن مناقبه أيضا
ومن مناقبة الكبار وحسناته العظيمة: أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على الفرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله ﷺ في آخر سني حياته.
وكان سبب ذلك: أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خطّأ الآخر أو كفره.
فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيء بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم.
وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف، فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت يجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر.
فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان، وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش.
فكتب لأهل الشام مصحفا، ولأهل مصر آخر، بعث إلى البصرة مصحفا، وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفا، وإلى اليمين مثله، وأقر بالمدينة مصحفا.
ويقال لهذه المصاحف: الأئمة، وليست كلها بخط عثمان بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت.
وإنما يقال لها المصاحف: العثمانية، نسبة إلى أمره وزمانه وإمارته، كما يقال: دينار هرقلي، أي: ضرب في زمانه ودولته.
قال الواقدي: حدثنا ابن أبي سبرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
ورواه غيره من وجه آخر: عن أبي هريرة قال: « لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت، أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أشد أمتي حبَّا لي، قوم يأتون من بعدي يؤمنون ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق.
فقلت: أي ورق؟
حتى رأيت المصاحف، قال: فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمت أنك لتحبس علينا حديث نبينا ﷺ ».
ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف.
فقال أبو بكر بن أبي داود في (كتاب المصاحف): حدثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن قالا: ثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن رجل، عن سويد بن غفلة. قال: قال لي علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته.
وهكذا رواه أبو داود الطيالسي: وعمرو بن مرزوق عن شعبة مثله.
وقد رواه البيهقي وغيره من حديث محمد بن أبان - زوج أخت حسين -، عن علقمة بن مرثد قال: سمعت العيزار بن جرول، سمعت سويد بن غفلة قال:
قال علي: أيها الناس! إياكم والغلو في عثمان، تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأٍ من أصحاب محمد ﷺ، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل الذي فعل.
وقد رُوي عن ابن مسعود: أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [46].
فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى إتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة، وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال أبو إسحاق: عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال: كم صلى أمير المؤمنين الظهر؟.
قالوا: أربعا.
فصلى ابن مسعود أربعا.
فقالوا: ألم تحدثنا أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر صلوا ركعتين؟.
فقال: نعم، وأنا أحدثكموه الآن، ولكني أكره الاختلاف.
وفي الصحيح: أن ابن مسعود قال: ليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.
وقال الأعمش: حدثني معاوية بن قرة - بواسط -، عن أشياخه قالوا: صلى عثمان الظهر بمنى أربعا، فبلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصر في رحله أربعا، فقيل له: عتبتَ على عثمان وصليت أربعا؟ فقال: إني أكره الخلاف. وفي رواية: الخلاف شر.
فإذا كان هذا متابعة من ابن مسعود إلى عثمان في هذا الفرغ، فكيف بمتابعته إياه في أصل القرآن؟ والاقتداء به في التلاوة التي عزم على الناس أن يقرؤا بها لا بغيرها؟.
وقد حكى الزهري وغيره: أن عثمان إنما أتم خشية على الأعراب أن يعتقدوا أن فرض الصلاة ركعتان، وقيل: بل قد تأهل بمكة.
فروى يعلى وغيره: من حديث عكرمة بن إبراهيم، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذباب، عن أبيه: أن عثمان صلى بهم بمنى أربع ركعات، ثم أقبل عليهم فقال: « إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا تزوج الرجل ببلد فهو من أهله، » وإني أتممت لأني تزوجت بها منذ قدمتها.
وهذا الحديث لا يصح، وقد تزوج رسول الله ﷺ في عمرة القضاء بميمونة بنت الحارث ولم يتم الصلاة.
وقد قيل: إن عثمان تأول أنه أمير المؤمنين حيث كان وهكذا تأولت عائشة فأتمت، وفي هذا التأويل نظر فإن رسول الله ﷺ هو رسول الله حيث كان، ومع هذا ما أتم الصلاة في الأسفار.
ومما كان يعتمده عثمان بن عفان أنه كان يلزم عماله بحضور الموسم كل عام، ويكتب إلى الرعايا: من كانت له عند أحد منهم مظلمة فليواف إلى الموسم فإني آخذ له حقه من عامله.
وكان عثمان قد سمح لكثير من كبار الصحابة في المسير حيث شاءوا من البلاد، وكان عمر يحجر عليهم في ذلك حتى ولا في الغزو، ويقول: إني أخاف أن تروا الدنيا، وأن يراكم أبناؤها.
فلما خرجوا في زمان عثمان اجتمع عليهم الناس، وصار لكل واحد أصحاب، وطمع كل قوم في تولية صاحبهم الإمارة العامة بعد عثمان، فاستعجلوا موته واستطالوا حياته حتى وقع ما وقع من بعض أهل الأمصار كما تقدم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم.
تزوج برقية بنت رسول الله ﷺ، فولد له منها عبد الله، وبه كان يكنى، بعد ما كان يكنى في الجاهلية: بأبي عمرو.
ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم
ثم لما توفيت تزوج بأختها أم كلثوم.
ثم توفيت فتزوج بفاختة بنت غزوان بن جابر، فوِلد له منها عبيد الله الأصغر.
وتزوج بأم عمرو بنت جندب بن عمرو الأزدية، فولدت له عمرا، وخالدا، وأبانا، وعمر، ومريم.
وتزوج بفاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية، فولدت له الوليد، وسعيدا.
وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، فولدت له عبد الملك، ويقال: عتبة.
وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، فولدت له عائشة، وأم أبان، وأم عمرو، بنات عثمان.
وتزوج نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن حصن بن ضمضم بن عدي بن حيان بن كليب، فولدت له مريم، ويقال: وعنبسة.
وقتل رضي الله عنه وعنده أربع: نائلة، ورملة، وأم البنين، وفاختة.
ويقال: إنه طلق أم البنين وهو محصور.
فصل ذكر حديث تدور رحا الإسلام
تقدم في (دلائل النبوة) الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود: من حديث سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله ﷺ: « إن رحا الإسلام ستدور لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن تهلك فسبيل ما هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما ».
قال: فقال عمر: يا رسول الله أبما مضى أم بما بقي؟.
قال: بل بما بقي ».
وفي لفظ له ولأبي داود: « تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين » الحديث.
وكأن هذا الشك من الراوي، والمحفوظ في نفس الأمر خمس وثلاثين، فإن فيها قتل أمير المؤمنين عثمان على الصحيح.
وقيل: ست وثلاثين، والصحيح الأول، وكانت أمور شنيعة، ولكن الله سلّم ووقى بحوله وقوته فلم يكن بأسرع من أن بايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتظم الأمر، واجتمع الشمل، ولكن جرت بعد ذلك أمور في يوم الجمل، وأيام صفين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
في ذكر من توفي زمان عثمان ممن لا يعرف وقت وفاته على التعيين
أنس بن معاذ بن أنس بن قيس الأنصاري النجاري، ويقال له: أنيس أيضا، شهد المشاهد كلها رضي الله عنه.
أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت الأنصاريان، شهد بدرا، وأوس هو زوج المجادلة المذكور في قوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [47]، وامرأته خولة بنت ثعلبة.
أوس بن خولى الأنصاري من بني الحبلى، شهد بدرا وهو المنفرد من بين الأنصار بحضور غسل النبي ﷺ، والنزول مع أهله في قبره عليه الصلاة والسلام.
الحر بن قيس، كان سيدا في الأنصار، ولكن كان بخيلا ومتهما بالنفاق، يقال: إنه شهد بيعة الرضوان فلم يبايع، واستتر ببعير له وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } الآية [48].
وقد قيل: إنه تاب وأقلع فالله أعلم.
الحطيئة الشاعر المشهور.
قيل: اسمه جرول، ويكنى بأبي مليكة من بني عبس، أدرك أيام الجاهلية، وأدرك صدرا من الإسلام، وكان يطوف في الآفاق يمتدح الرؤساء من الناس ويستجديهم.
ويقال: كان بخيلا مع ذلك، سافر مرة فودع امرأته فقال لها:
عدي السنين إذا خرجت لغيبة * ودعي الشهور فإنهن قصار
وكان مداحا هجاء، وله شعر جيد، ومن شعره ما قاله بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فاستجاد منه قوله:
من يفعل الخير لم يعدم جوائزه * لا يذهب العرف بين الله والناس
خبيب بن يساف بن عتبة الأنصاري، أحد من شهد بدرا.
سلمان بن ربيعة الباهلي، يقال: له صحبه، كان من الشجعان الأبطال المذكورين، والفرسان المشهورين، ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي في زمن عثمان إمرة على قتال الترك، فقتل ببلنجر، فقبره هناك في تابوت يستسقى به الترك إذا قحطوا.
عبد الله بن حذافة بن قيس القرشي السهمي، هاجر هو وأخوه قيس إلى الحبشة وكان من سادات الصحابة، وهو القائل: « يا رسول الله من أبي؟ - وكان إذا لاحى الرجال دعى لغير أبيه -.
فقال: أبوك حذافة ».
وكان رسول الله ﷺ أرسله إلى كسرى، فدفع كتابه إلى عظيم بصرى، فبعث معه من يوصله إلى هرقل كما تقدم.
وقد أسرته الروم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي جملة ثمانين من المسلمين، فأرادوه على الكفر فأبى عليهم.
فقال له الملك: قبل رأسي وأنا أطلقك ومن معك من المسلمين، فقبل رأسه فأطلقهم.
فلما قدم على عمر قال له: حق على كل مسلم أن يقبل رأسك، ثم قام عمر فقبل رأسه قبل الناس رضي الله عنه.
عبد الله بن سراقة بن المعتمر، العدوي صحابي أحدي.
وزعم الزهري: أنه شهد بدرا فالله أعلم.
عبد الله بن قيس بن خالد الأنصاري، شهد بدرا.
عبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري الحارثي، شهد أحدا وما بعدها.
وقال ابن عبد البر: شهد بدرا، استعمله عمر على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان، وقد نهشته حية فرقاه عمارة بن حزم، وهو القائل لأبي بكر: - وقد جاءته جدتان فأعطى السدس أم الأم، وترك الأخرى وهي أم الأب - فقال له: أعطيت التي لو ماتت لم يرثها، وتركت التي لو ماتت لورثها، فشرك بينهما.
عمرو بن سراقة بن المعتمر العدوي، أخو عبد الله بن سراقة، وهو بدري كبير، روي: أنه جاع مرة فربط حجرا على بطنه من شدة الجوع، ومشى يومه ذلك إلى الليل، فأضافه قوم من العرب ومن معه، فلما شبع قال لأصحابه: كنت أحسب الرجلين يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرجلين.
عمير بن سعد الأنصاري الأوسي، صحابي جليل القدر، كبير المحل، كان يقال له: نسيج وحده لكثرة زهادته وعبادته.
شهد فتح الشام مع أبي عبيدة، وناب بحمص وبدمشق أيضا في زمان عمر، فلما كانت خلافة عثمان عزله وولى معاوية الشام بكماله وله أخبار يطول ذكرها.
عروة بن حزام أبو سعيد العدوي، كان شاعرا مغرما في ابنة عم له، وهي: عفراء بنت مهاجر، يقول فيها الشعر، واشتهر بحبها، فارتحل أهلها من الحجاز إلى الشام، فتبعهم عروة فخطبها إلى عمه، فامتنع من تزويجه لفقره وزوجها بابن عمها الآخر، فهلك عروة هذا في محبتها، وهو مذكور في كتاب (مصارع العشاق)، ومن شعره فيها قوله:
وما هي إلا أن أراها فجاءة * فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتأي * وأنسى الذي أعددت حين تغيب
قطبة بن عامر أبو زيد الأنصاري عقبي بدري.
قيس بن مهدي بن قيس بن ثعلبة الأنصاري النجاري، له حديث في الركعتين قبل الفجر.
وزعم ابن ماكولا: أنه شهد بدرا.
قال مصعب الزبيري: هو جد يحيى بن سعيد الأنصاري.
وقال الأكثرون: بل هو جد أبي مريم عبد الغفار بن القاسم الكوفي فالله أعلم.
لبيد بن ربيعة أبو عقيل العامري الشاعر المشهور، صح أن رسول الله ﷺ قال: « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل »
وتمام البيت: وكل نعيم لا محالة زائل.
فقال عثمان بن مظعون: إلا نعيم الجنة.
وقد قيل: أنه توفي سنة إحدى وأربعين فالله أعلم.
المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، شهد بيعة الرضوان، وهو والد سعيد بن المسيب، سيد التابعين.
معاذ بن عمرو بن الجموح الأنصاري، شهد بدرا، وضرب يومئذ أبا جهل بسيفه فقطع رجله، وحمل عكرمة بن أبي جهل على معاذ هذا فضربه بالسيف فحل يده من كتفه، فقاتل بقية يومه وهي معلقة يسحبها خلفه، قال معاذ: فلما انتهيت وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها رضي الله عنه.
وعاش بعد ذلك إلى هذه السنة سنة خمس وثلاثين.
محمد بن جعفر بن أبي طالب، القرشي الهاشمي، ولد لأبيه وهو بالحبشة، فلما هاجر إلى المدينة سنة خيبر وتوفي يوم مؤتة شهيدا، جاء رسول الله ﷺ إلى منزلهم، فقال لأمهم أسماء بنت عميس: إيتيني ببني وأخي، فجيء بهم كأنهم أفرخ فجعل يقبلهم ويشمهم ويبكي، فبكت أمهم فقال: « أتخافين عليهم العيلة وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ » ثم أمر الحلاق فحلق رؤوسهم.
وقد مات محمد وهو شاب في أيام عثمان كما ذكرنا. وزعم ابن عبد البر: أنه توفي في تستر فالله أعلم.
معبد بن العباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ﷺ، قتل شابا بإفريقية من بلاد المغرب.
معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، صاحب خاتم النبي ﷺ.
قيل: توفي في أيام عثمان، وقيل: قبل ذلك، وقيل: سنة أربعين والله أعلم.
منقذ عمرو الأنصاري، أحد بني مازن بن النجار، كان قد أصابته آفة في رأسه، فكسرت لسانه، وضعف عقله، وكان يكثر من البيع والشراء، فقال له النبي ﷺ: « من بايعت فقل لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل ما تشتريه ثلاثة أيام ».
قال الشافعي: كان مخصصا بإثبات الخيار ثلاثة في كل بيع سواء اشترط الخيار أم لا؟
نعيم بن مسعود، أبو سلمة الغطفاني وهو الذي خذل بين الأحزاب وبين بني قريظة كما قدمناه، فله بذلك اليد البيضاء والراية العليا.
أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، الشاعر، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي ﷺ، وشهد يوم السقيفة وصلى على النبي ﷺ، وكان أشعر هذيل، وهذيل أشعر العرب، وهو القائل:
وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع
توفي غازيا بإفريقية في خلافة عثمان.
أبو رهم سبرة بن عبد العزى القرشي الشاعر، ذكره في هذا الفصل محمد بن سعد وحده.
أبو زبيد الطائي، الشاعر، اسمه حرملة بن المنذر كان نصرانيا وكان يجالس الوليد بن عقبة فأدخله على عثمان فاستنشده شيئا من شعره فأنشده قصيدة له في الأسد بديعة، فقال له عثمان: تفتأ تذكر الأسد ما حييت إني لأحسبك جبابا نصرانيا.
أبو سبرة بن أبي رهم العامري، أخو أبي سلمة بن عبد الأسد، أمهما: برة بنت عبد المطلب، هاجر إلى الحبشة وشهد بدرا وما بعدها.
قال الزبير: لا نعلم بدريا سكن مكة بعد النبي ﷺ سواه، قال: وأهله ببدر في ذلك.
أبو لبابة بن عبد المنذر، أحد نقباء ليلة العقبة، وقيل: أنه توفي في خلافة علي والله أعلم.
أبو هاشم بن عتبة، تقدم وفاته في سنة إحدى وعشرين، وقيل: في خلافة عثمان والله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب، واسمه: شيبة بن هاشم، واسمه: عمرو بن عبد مناف، واسمه: المغيرة بن قصي، واسمه: زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو الحسن والحسين، ويكنى: بأبي تراب، وأبي القسم الهاشمي، ابن عم رسول الله ﷺ، وختنه على ابنته فاطمة الزهراء.
وأمه: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي.
ويقال: إنها أول هاشمية ولدت هاشميا، وكان له من الأخوة طالب، وعقيل، وجعفر، وكانوا أكبر منه، بين كل واحد منهم وبين الآخر عشر سنين، وله أختان: أم هانئ، وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وقد أسلمت وهاجرت.
كان علي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان ممن توفي ورسول الله ﷺ راضٍ عنهم، وكان رابع الخلفاء الراشدين.
وكان رجلا آدم شديدا الأدمة أشكل العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، وهو إلى القصر أقرب، وكان عظيم اللحية، قد ملأت صدره ومنكبيه، أبيضها، وكان كثير شعر الصدر والكتفين، حسن الوجه، ضحوك السن، خفيف المشي على الأرض.
أسلم علي قديما، وهو ابن سبع، وقيل: ابن ثمان، وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: أحد عشر، وقيل: اثني عشر، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: أربع عشرة، وقيل: ابن خمس عشرة، أو ست عشرة سنة، قاله عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن.
ويقال: إنه أول من أسلم.
والصحيح: أنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلمت من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار.
وكان سبب إسلام علي صغيرا: أنه كان في كفالة رسول الله ﷺ لأنه كان قد أصابتهم سنة مجاعة، فأخذه من أبيه، فكان عنده، فلما بعثه الله بالحق آمنت خديجة وأهل البيت ومن جملتهم علي، وكان الإيمان النافع المتعدي نفعه إلى الناس إيمان الصديق رضي الله عنه.
وقد ورد عن علي أنه قال: أنا أول من أسلم. ولا يصح إسناده إليه.
وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة لا يصح شيء منها والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد: من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت أبا حمزة - رجلا من موالي الأنصار - قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله ﷺ علي.
وفي رواية: أول من صلى.
قال عمرو: فذكرت ذلك للنخعي فأنكره.
وقال: أبو بكر أول من أسلم.
وقال محمد بن كعب القرظي: أول من آمن من النساء خديجة، وأول رجلين آمنا أبو بكر وعلي، ولكن كان أبو بكر يظهر إيمانه وعلي يكتم إيمانه قلت: يعني خوفا من أبيه، ثم أمره أبوه بمتابعة ابن عمه ونصرته، وهاجر علي بعد خروج رسول الله ﷺ من مكة، وكان قد أمره بقضاء ديونه ورد ودائعه، ثم يلحق به، فامتثل ما أمره به، ثم هاجر، وآخى النبي ﷺ بينه وبين سهل بن حنيف.
وذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي: أن رسول الله ﷺ آخى بينه وبين نفسه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة لا يصح شيء منها لضعف أسانيدها، وركة بعض متونها فإن في بعضها: « أنت أخي، ووارثي، وخليفتي، وخير من أمر بعدي ».
وهذا الحديث موضوع مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما والله أعلم.
وقد شهد علي بدرا، وكانت له اليد البيضاء فيها، بارز يومئذٍ فغلب وظهر، وفيه وفي عمه حمزة وابن عمه عبيدة بن الحارث وخصومهم الثلاثة - عتبة وشيبة والوليد بن عتبة - نزل قوله تعالى: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } الآية [49].
وقال الحكم وغيره: عن مقسم، عن ابن عباس قال: « دفع النبي ﷺ الراية يوم بدر إلى علي، وهو ابن عشرين سنة ».
وقال الحسن بن عرفة: حدثني عمار بن محمد، عن سعيد بن محمد الحنظلي، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: « نادى مناد في السماء يوم بدر يقال له رضوان: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي ».
قال ابن عساكر: وهذا مرسل وإنما تنفل رسول الله ﷺ سيفه ذا الفقار يوم بدر، ثم وهبه من علي بعد ذلك.
وقال يونس بن بكير: عن مسعر، عن أبي عوف، عن أبي صالح، عن علي قال: قيل لي يوم بدر ولأبي بكر قيل لأحدنا معك جبريل ومع الآخر ميكائيل، قال: وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل ويكون في الصف.
وشهد علي أحدا وكان على الميمنة ومعه الراية بعده مصعب بن عمير، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الأنصاري، وحمزة بن عبد المطلب، على القلب وعلى الرجالة الزبير بن العوام، وقيل: المقداد بن الأسود، وقد قاتل علي يوم أحد قتالا شديدا، وقتل خلقا كثيرا من المشركين، وغسل عن وجه النبي ﷺ الدم الذي كان أصابه من الجراح حين شج في وجهه وكسرت رباعتيه وشهد يوم الخندق فقتل يومئذ فارس العرب، وأحد شجعانهم المشاهير، عمرو بن عبدود العامري، كما قدمنا ذلك في غزوة الخندق.
وشهد الحديبية وبيعة الرضوان، وشهد خيبر، وكانت له بها مواقف هائلة، ومشاهد طائلة، منها: أن رسول الله ﷺ قال: « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله » فبات الناس يذكرون أيهم يعطاها، فدعا عليا - وكان أرمد - فدعا له، وبصق في عينه فلم يرمد بعدها، فبرأ وأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وقتل مرحبا اليهودي.
وذكر محمد بن إسحاق: عن عبد الله بن حسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع: أن يهوديا ضرب عليا فطرح ترسه، فتناول بابا عند الحصن فتترس به، فلم يزل في يده حتى فتح الله على يديه ثم ألقاه من يده.
قال أبو رافع: فلقد رأيتني أنا وسبعة معي نجتهد أن نقلب ذلك الباب على ظهره يوم خيبر فلم نستطع.
وقال ليث: عن أبي جعفر، عن جابر: أن عليا حمل الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، فلم يحملوه إلا أربعون رجلا.
ومنها: أنه قتل مرحبا فارس يهود وشجعانهم.
وشهد علي عمرة القضاء، وفيها قال له النبي ﷺ: « أنت مني، وأنا منك ».
وما يذكره كثير من القصاص في مقاتلته الجن في بئر ذات العلم - وهو بئر قريب من الجحفة - فلا أصل له، وهو من وضع الجهلة من الأخباريين فلا يغتر به.
وشهد الفتح وحنينا والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالا كثيرا، واعتمر من الجعرانة مع رسول الله ﷺ، ولما خرج رسول الله ﷺ إلى تبوك واستخلفه على المدينة، قال له: « يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟
فقال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ».
وبعثه رسول الله ﷺ أميرا وحاكما على اليمن، ومعه خالد بن الوليد، ثم وافى رسول الله ﷺ عام حجة الوداع، إلى مكة، وساق معه هديا، وأهل كأهلال النبي ﷺ، فأشركه في هديه، واستمر على إحرامه، ونحرا هديهما بعد فراغ نسكهما كما تقدم، ولما مرض رسول الله ﷺ قال له العباس: سل رسول الله ﷺ فيمن الأمر بعده؟
فقال: والله لا أسأله، فإنه إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا.
والأحاديث الصحيحة الصريحة دالة على أن رسول الله ﷺ لم يوص إليه ولا إلى غيره بالخلافة، بل لوح بذكر الصديق، وأشار إشارة مفهمة ظاهرة جدا إليه، كما قدمنا ذلك ولله الحمد.
وأما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء، من أنه أوصى إلى علي بالخلافة، فكذب وبهت وافتراء عظيم يلزم منه خطأ كبير، من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره، لا لمعنى ولا لسبب، وكل مؤمن بالله ورسوله يتحقق أن دين الإسلام هو الحق، يعلم بطلان هذا الافتراء، لأن الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء، وهم خير قرون هذه الأمة، التي هي أشرف الأمم بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف، في الدنيا والآخرة، ولله الحمد.
وما قد يقصه بعض القصاص من العوام وغيرهم في الأسواق وغيرها من الوصية لعلي في الآداب والأخلاق في المأكل والمشرب والملبس، مثل ما يقولون: يا علي لا تعتم وأنت قاعد، يا علي لا تلبس سراويلك وأنت قائم، يا علي لا تمسك عضادتي الباب، ولا تجلس على أسكفة الباب، ولا تخيط ثوبك وهو عليك، ونحو ذلك، كل ذلك من الهذيانات فلا أصل لشيء منه، بل هو اختلاق بعض السفلة الجهلة، ولا يعول على ذلك ويغتر به إلا غبي عيي.
ثم لما مات رسول الله ﷺ كان علي من جملة من غسله وكفنه وولي دفنه كما تقدم ذلك مفصلا ولله الحمد والمنة.
وسيأتي في باب فضائله ذكر تزويج رسول الله ﷺ له من فاطمة بعد وقعة بدر فولد له منها حسن وحسين ومحسن كما قدمنا.
وقد وردت أحاديث في ذلك لا يصح شيء منها بل أكثرها من وضع الروافض والقصاص.
ولما بويع الصديق يوم السقيفة كان علي من جملة من بايع بالمسجد كما قدمنا.
وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يرى طاعته فرضا عليه، وأحب الأشياء إليه، ولما توفيت فاطمة - بعد ستة أشهر - وكانت قد تغضبت بعض الشيء على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه السلام، ولم تكن اطلعت على النص المختص بالأنبياء وأنهم لا يورثون، فلما بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظرا على هذه الصدقة، فأبى ذلك عليها، فبقي في نفسها شيء كما قدمنا.
واحتاج علي أن يداريها بعض المداراة، فلما توفيت جدد البيعة مع الصديق رضي الله عنهما، فلما توفي أبو بكر وقام عمر في الخلافة بوصية أبي بكر إليه بذلك، كان علي من جملة من بايعه، وكان معه يشاوره في الأمور، ويقال: إنه استقضاه في أيام خلافته، وقدم معه من جملة سادات أمراء الصحابة إلى الشام، وشهد خطبته بالجابية، فلما طعن عمر وجعل الأمر شورى في ستة أحدهم علي، ثم خلص منهم بعثمان وعلي كما قدمنا، فقدم عثمان على علي، فسمع وأطاع، فلما قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين على المشهور.
عدل الناس إلى علي فبايعوه، قبل أن يدفن عثمان، وقيل بعد دفنه كما تقدم، وقد امتنع علي من إجابتهم إلى قبول الإمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول، وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاؤوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب.
ذكر بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة
يقال: أن أول من بايعه طلحة بيده اليمنى وكانت شلاء من يوم أحد - لما وقى بها رسول الله ﷺ - فقال بعض القوم: والله إن هذا الأمر لا يتم، وخرج علي إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وعمامة خز ونعلاه في يده، توكأ على قوسه، فبايعه عامة الناس، وذلك يوم السبت التاسع عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
ويقال: إن طلحة والزبير إنما بايعاه بعد أن طلبهما وسألاه أن يؤمرهما على البصرة والكوفة.
فقال لهما: بل تكونا عندي أستأنس بكما، ومن الناس من يزعم أنه لم يبايعه طائفة من الأنصار، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، ذكره ابن جرير من طريق المدائني، عن شيخ من بني هاشم، عن عبد الله بن الحسن.
قال المدائني: حدثني من سمع الزهري يقول: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم بايعوا عليا، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة.
قلت: وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلى الشام.
وقال الواقدي: بايع الناس عليا بالمدينة، وتربص سبعة نفر لم يبايعوا، منهم ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد بن أبي مسلمة، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلف أحد من الأنصار إلا بايع فيما نعلم.
وذكر سيف بن عمر، عن جماعة من شيوخه قالوا: بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر.
والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا: فيما بينهم لا نولي أحدا من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص، فقالوا: إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم.
ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم، فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس، وأهل الكوفة يقولون: أول من بايعه الأشتر النخعي وذلك يوم الخميس الرابع والعشرون من ذي الحجة، وذلك بعد مراجعة الناس لهم في ذلك، وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد علي المنبر بايعه من لم يبايعه بالأمس، وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم الزبير، ثم قال الزبير: إنما بايعت عليا واللج على عنقي والسلام، ثم راح إلى مكة فأقام أربعة أشهر، وكانت هذه البيعة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، وكان أول خطبة خطبها أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، إن الله حرم حرما غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل لمسلم أذى مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصةُ أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم، وإنما خلفكم الساعة تحدو بكم فتخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بالناس أخراهم، اتقوا الله عباده في عباده وبلاده.
فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، ثم أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ } [50] الآية.
فلما فرغ من خطبته قال المصريون:
خذها إليك واحذرن أبا الحسن * إنما نُمِرُّ الأمر إمرار الرسن
صولة آساد كآساد السفن * بمشرفيات كغدران اللبن
ونطعن الملك بلين كالشطن * حتى يمرن على غير عنن
فقال علي مجيبا لهم:!
إن عجزت عجزة لا أعتذر * سوف أكيس بعدها وأستمر
أرفع من ذيلي ما كنت أجر * وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
إن لم يشاغبني العجول المنتصر * أو يتركوني والسلاح يبتدر
وكان على الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، ونوابه على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنسرين حبيب بن سلمة، وعلى الأردن أبو الأعور، وعلى فلسطين حكيم بن علقمة، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله البجلي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى قيسارية مالك بن حبيب، وعلى همذان حبيش.
هذا ما ذكره ابن جرير من نواب عثمان الذين توفي وهم نواب الأمصار، وكان على بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت، ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين حاجفت عنه بيدها، فقطعت مع بعض الكف فورد به على معاوية بالشام فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص، وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه، فتباكى الناس حول المنبر، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله سنة، وحث بعضهم بعضا على الأخذ بثأره، واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج.
منهم: عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة، وغيرهم من الصحابة.
ومن التابعين: شريك بن حباشة، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم، وغيرهم من التابعين.
ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤس الصحابة رضي الله عنهم، وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه بالجنود، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة ليأتيه منها بالجنود ليقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج، وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه، فقال لهما: مهلا علي، حتى أنظر في هذا الأمر.
ودخل عليه المغيرة بن شعبة على إثر ذلك فقال له: إني أرى أن تقر عمالك على البلاد، فإذا أتتك طاعتهم استبدلت بعد ذلك بمن شئت وتركت من شئت، ثم جاءه من الغد فقال له: إني أرى أن تعزلهم لتعلم من يطيعك ممن يعصيك، فعرض ذلك علي على ابن عباس فقال: لقد نصحك بالأمس، وغشك اليوم، فبلغ ذلك المغيرة، فقال: نعم نصحته، فلما لم يقبل غششته.
ثم خرج المغيرة فلحق بمكة، ولحقه جماعة منهم: طلحة والزبير، وكانوا قد استأذنوا عليا في الاعتمار فأذن لهم.
ثم إن ابن عباس أشار على علي باستمرار نوابه في البلاد إلى أن يتمكن الأمر، وأن يقر معاوية خصوصا على الشام وقال له: إني أخشى إن عزلته عنها أن يطلبك بدم عثمان ولا آمن طلحة والزبير أن يتكلما عليك بسبب ذلك، فقال علي: إني لا أرى هذا، ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها.
فقال ابن عباس لعلي: إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان، أو يحبسني لقرابتي منك ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنه وعده.
فقال علي: والله إن هذا ما لا يكون أبدا، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين الحرب خدعة كما قال رسول الله ﷺ، فوالله لئن أطعتني لأوردنهم بعد صدرهم، ونهى ابن عباس عليا فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسنون إليه الرحيل إلى العراق، ومفارقة المدينة، فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الأمراء من أولئك الخوارج من أهل الأمصار.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة قصد قسطنطين بن هرقل بلاد المسلمين في ألف مركب، فأرسل الله عليه قاصفا من الريح فغرقه الله بحوله وقوته، ومن معه، ولم ينج منهم أحد إلا الملك في شرذمة قليلة من قومه، فلما دخل صقلية عملوا له حماما فقتلوه فيه، وقالوا: أنت قتلت رجالنا.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة
استهلت هذه السنة وقد تولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الخلافة، وولي على الأمصار نوابا، فولى عبد الله بن عباس على اليمن، وولى سمرة بن جندب على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية فسار حتى بلغ تبوك فتلقه خيل معاوية فقالوا: من أنت؟
فقال: أمير.
قالوا: على أي شيء؟
قال: على الشام.
فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحي هلا بك، وإن كان غيره فارجع.
فقال: أو ما سمعتم الذي كان؟
قالوا: بلى.
فرجع إلى علي.
وأما قيس بن سعد فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميرا على الكوفة فصده عنها طلحة بن خويلد غضبا لعثمان، فرجع إلى علي فأخبره وانتشرت الفتنة، وتفاقم الأمر، واختلفت الكلمة.
وكتب أبو موسى إلى علي بطاعة أهل الكوفة ومبايعتهم إلا القليل منهم، وبعث علي إلى معاوية كتبا كثيرة فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طومارا مع رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟
قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور، تركت سبعين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق.
فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ثم خرج رسول معاوية من بين يدي علي فهم به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد.
وعزم علي رضي الله عنه على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم.
وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حنيف بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك.
وعزم على التجهز، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي، فقال: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمرو بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل: جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح بن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصدا إلى الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك كله، وهو ما سنورده.
ابتداء وقعة الجمل
لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق، كان أزواج النبي ﷺ أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارا من الفتنة، فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل، أقمن بمكة بعد ما خرجوا منها، ورجعوا إليها وأقاموا بها، وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ويتجسسون الأخبار.
فلما بويع لعلي وصار حظ الناس عنده بحكم الحال وغلبة الرأي، لا عن اختيار منه لذلك رؤس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان مع أن عليا في نفس الأمر يكرههم، ولكنه تربص بهم الدوائر، ويود لو تمكن منهم ليأخذ حق الله منهم، ولكن لما وقع الأمر هكذا واستحوذوا عليه، وحجبوا عنه علية الصحابة فر جماعة من بني أمية وغيرهم إلى مكة، واستأذنه طلحة والزبير في الاعتمار، فأذن لهما فخرجا إلى مكة، وتبعهم خلق كثير وجم غفير.
وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه، فطلب عبد الله بن عمر بن الخطاب وحرضه على الخروج معه.
فقال: إنما أنا رجل من أهل المدينة، إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة، وقدم إلى مكة أيضا في هذا العام يعلى بن أمية من اليمن - وكان عاملا عليها لعثمان - ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وقدم لها عبد الله بن عامر من البصرة، وكان نائبها لعثمان، فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة وأمهات المؤمنين.
فقامت عائشة رضي الله عنها في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان، وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام، ولم يراقبوا جوار رسول الله ﷺ وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها، وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة، وقالوا لها: حيثما ما سرت سرنا معك.
فقال قائل: نذهب إلى الشام.
فقال بعضهم: إن معاوية قد كفاكم أمرها، ولو قدموها لغلبوا، واجتمع الأمر كله لهم، لأن أكابر الصحابة معهم.
وقال آخرون: نذهب إلى المدينة فنطلب من علي أن يسلم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا.
وقال آخرون: بل نذهب إلى البصرة فنتقوى من هنالك بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان.
فاتفق الرأي على ذلك، وكان بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على المسير إلى المدينة.
فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك، وقلن لا نسير إلى غير المدينة، وجهز الناس يعلى بن أمية فأنفق فيهم ستمائة بعير وستمائة ألف درهم وجهزهم ابن عامر أيضا بمال كثير.
وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله من ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس صحبة عائشة في ألف فارس.
وقيل: تسعمائة فارس من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فصاروا في ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين عائشة تحمل في هودج على جمل اسمه عسكر اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمائتي دينار، وقيل: بثمانين دينارا، وقيل: غير ذلك.
وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع، وتباكى الناس، وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب.
وسار الناس قاصدين البصرة، وكان الذي يصلي بالناس عن أمر عائشة ابن أختها عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم يؤذن للناس في أوقات الصلوات، وقد مروا في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عائشة قالت: ما اسم هذا المكان؟
قالوا: الحوأب، فضربت بإحدى يديها على الأخرى، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظنني إلا راجعة.
قالوا: ولم؟
قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لنسائه: « ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب ».
ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب.
وقد أوردنا هذا الحديث بطرقه وألفاظه في (دلائل النبوة) كما سبق، فأناخ الناس حولها يوما وليلة.
وقال لها عبد الله بن الزبير: إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب، ثم قال الناس: النجا النجا، هذا جيش علي بن أبي طالب قد أقبل، فارتحلوا نحو البصرة، فلما اقتربت من البصرة، كتبت إلى الأحنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس: أنها قد قدمت، فبعث عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي إليها ليعلما ما جاءت له، فلما قدما عليها سلما عليها واستعلما منها ما جاءت له، فذكرت لهما ما الذي جاءت له من القيام بطلب دم عثمان، لأنه قتل مظلوما في شهر حرام وبلد حرام.
وتلت قوله تعالى: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما } [51] فخرجا من عندها فجاءا إلى طلحة، فقالا له: ما أقدمك؟
فقال: الطلب بدم عثمان.
فقالا: ما بايعت عليا؟
قال: بلى والسيف على عنقي، ولا أستقبله إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان.
فذهبا إلى الزبير فقال: مثل ذلك.
قال: فرجع عمران وأبو الأسود إلى عثمان بن حنيف، فقال أبو الأسود:
يا ابن الأحنف قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر واخرج لهم مستلثما وشمر *
فقال عثمان بن حنيف: إنا لله وإنا إليه راجعون دارت رحا الإسلام ورب الكعبة، فانظروا بأي زيفان نزيف.
فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركا طويلا، يشير عثمان بن حنيف إلى حديث ابن مسعود مرفوعا: « تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين » الحديث كما تقدم.
ثم قال عثمان بن حنيف لعمران بن حصين: أشر علي.
فقال: اعتزل، فإني قاعد في منزلي، أو قال قاعد على بعيري فذهب، فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين، فنادى في الناس يأمرهم بلبس السلاح، والاجتماع في المسجد فاجتمعوا، فأمرهم بالتجهز، فقام رجل وعثمان على المنبر فقال:
أيها الناس، إن كان هؤلاء القوم جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلته، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا.
فقام الأسود بن سريع السعدي فقال: إنما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا، فحصبه الناس، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان بالبصرة أنصارا، فكره ذلك، وقدمت أم المؤمنين بمن معها من الناس، فنزلوا المربد من أعلاه قريبا من البصرة، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، وخرج عثمان بن حنيف بالجيش فاجتمعوا بالمربد، فتكلم طلحة - وكان على الميمنة - فندب إلى الأخذ بثأر عثمان، والطلب بدمه، وتابعه الزبير فتكلم بمثل مقالته فرد عليهما ناس من جيش عثمان بن حنيف، وتكلمت أم المؤمنين فحرضت وحثت على القتال، فتناور طوائف من أطراف الجيش فتراموا بالحجارة.
ثم تحاجز الناس ورجع كل فريق إلى حوزته، وقد صارت طائفة من جيش عثمان بن حنيف إلى جيش عائشة فكثروا، وجاء حارثة بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين! والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك، وإن كنت أتيتينا مكرهة، فاستعيني بالناس في الرجوع.
وأقبل حكيم بن جبلة - وكان على خيل عثمان بن حنيف - فأنشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال، وجعل حكيم يقتحم عليهم فاقتتلوا على فم السكة.
وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، وحجز الليل بينهم، فلما كان اليوم الثاني قصدوا للقتال، فاقتتلوا قتالا شديدا، إلى أن زال النهار، وقتل خلقٌ كثير من أصحاب ابن حنيف، وكثرت الجراح في الفريقين، فلما عضتهم الحرب تداعوا إلى الصلح على أن يكتبوا بينهم كتابا، ويبعثوا رسولا إلى أهل المدينة يسأل أهلها، إن كان طلحة والزبير أكرها على البيعة.
خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها، وإن لم يكونا أكرها على البيعة خرج طلحة والزبير عنها وأخلوها لهم، وبعثوا بذلك كعب بن سور القاضي، فقدم المدينة يوم الجمعة، فقام في الناس فسألهم:
هل بايع طلحة والزبير طائعين أو مكرهين؟ فسكت الناس فلم يتكلم إلا أسامة بن زيد.
فقال: بل كانا مكرهين، فثار إليه بعض الناس، فأرادوا ضربه فحاجف دونه صهيب، وأبو أيوب، وجماعة حتى خلصوه، وقالوا له: ما وسعك ما وسعنا من السكوت؟.
فقال: لا والله ما كنت أرى أن الأمر ينتهي إلى هذا، وكتب علي إلى عثمان بن حنيف، يقول له: إنهما لم يكرها على فرقة، ولقد أكُرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرا ونظرنا، وقد كعب بن سور على عثمان بكتاب علي، فقال عثمان: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه.
وبعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى، فجمعا الرجال في ليلة مظلمة وشهدا بهم صلاة العشاء في المسجد الجامع، ولم يخرج عثمان بن حنيف تلك الليلة، فصلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب، فقُتل منهم نحوا من أربعين رجلا، ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه إلى طلحة والزبير، ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها، فاستعظما ذلك.
وبعثا إلى عائشة، فأعلماها الخبر، فأمرت أن تخلي سبيله فأطلقوه، وولوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر، وقسم طلحة والزبير أموال بيت المال في الناس، وفضلوا أهل الطاعة وأكب عليهم الناس يأخذون أرزاقهم وأخذوا الحرس، واستبدوا في الأمر بالبصرة، فحمى لذلك جماعة من قوم قتلة عثمان وأنصارهم.
فركبوا في جيش قريب من ثلاثمائة، ومقدمهم حكيم بن جبلة، وهو أحد من باشر قتل عثمان، فبارزوا وقاتلوا، فضرب رَجل رجل حكيم بن جبلة فقطعها فزحف حتى أخذها وضرب بها ضاربه فقتله، ثم اتكأ عليه، وجعل يقول:
يا ساق لن تراعي * إن لك ذراعي
أحمى بها كراعي
وقال أيضا:
ليس على أن أموت عار * والعار في الناس هو الفرارُ
والمجد لا يفضحه الدمار
فمر عليه رجل وهو متكئ برأسه على ذلك الرجل، فقال له: من قتلك؟
فقال له: وسادتي.
ثم مات حكيم قتيلا، هو ونحوا من سبعين من قتلة عثمان، وأنصارهم أهل المدينة، فضعف جأش من خالف طلحة والزبير من أهل البصرة.
ويقال: إن أهل البصرة بايعوا طلحة والزبير، وندب الزبير ألف فارس يأخذها معه ويلتقي بها عليا قبل أن يجيء فلم يجبه أحد، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام يبشرونهم بذلك، وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليال يقين من ربيع الآخرة سنة ست وثلاثين.
وقد كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان تدعوه إلى نصرتها والقيام معها، فإن لم يجيء فليكف يده، وليلزم منزله، أي: لا يكون عليها ولا لها، فقال: أنا في نصرتك ما دمت في منزلك، وأبى أن يطيعها في ذلك.
وقال: رحم الله أم المؤمنين، أمرها الله أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فخرجت من منزلها، وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحق بذلك منا.
وكتبت عائشة إلى أهل اليمامة والكوفة بمثل ذلك.
مسير علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلا من الشام
بعد أن كان قد تجهز قاصدا الشام كما ذكرنا، فلما بلغه قصد طلحة والزبير البصرة، خطب الناس وحثهم على المسير إلى البصرة ليمنع أولئك من دخولها إن أمكن، أو يطردهم عنها إن كانوا قد دخلوها، فتثاقل عنه أكثر أهل المدينة، واستجاب له بعضهم.
قال الشعبي: مما نهض معه في هذا الأمر غير ستة نفر من البدريين ليس لهم سابع، وقال غيره: أربعة.
وذكر ابن جرير وغيره قال: كان ممن استجاب له من كبار الصحابة: أبو الهيثم بن التيهان، وأبو قتادة الأنصاري، وزياد بن حنظلة، وخزيمة بن ثابت.
قالوا: وليس بذي الشهادتين، ذاك مات في زمن عثمان رضي الله عنه.
وسار على من المدينة نحو البصرة على تعبئته المتقدم ذكرها، غير أنه استخلف على المدينة تمام بن عباس وعلى مكة قثم بن عباس، وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
وخرج علي من المدينة في نحو من تسعمائة مقاتل، وقد لقي عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليا وهو بالربذة فأخذ بعنان فرسه.
وقال: يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا، فسبه بعض الناس.
فقال علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي ﷺ، وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق.
فقال: لقد نهيتك فعصيتني تقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك.
فقال له علي: إنك لا تزال تحن على حنين الجارية، وما الذي نهيتني عنه فعصيتك؟.
فقال: ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل: أو يتحدث متحدث، ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فعصيتني في ذلك كله؟.
فقال له علي: أما قولك أن أخرج قبل مقتل عثمان، فلقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار، فكرهت أن يضيع هذا الأمر، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه، فتريد مني أن أكون كالضبع التي يحاط بها، ويقال: ليست هاهنا حتى يشق عرقوبها فتخرج، فإذا لم أنظر فيما يلزمني في هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ فكف عني يا بني.
ولما انتهى إليه خبر ما صنع القوم بالبصرة من الأمر الذي قدمنا، كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر: إني قد اخترتكم على الأمصار، فرغبت إليكم وفزغت لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا، وأيدونا وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا.
فمضيا، وأرسل إلى المدينة فأخذ ما أراد من سلاح ودواب، وقام في الناس خطيبا، فقال:
إن الله أعزنا بالإسلام ورفعنا به، وجعلنا به إخوانا، بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم، والحق قائم بينهم، والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا وإن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن.
ثم عاد ثانية فقال: إنه لا بد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تحبني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم، واهتدوا بهديي فإنه هدى نبيكم، واتبعوا سنته وأعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه الكتاب، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه، وارضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن حكما وإماما.
قال: فلما عزم على المسير من الربذة قام إليه ابن أبي رفاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟ وأين تذهب بنا؟.
فقال: أما الذي نريد وننوي، فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه.
قال: فإن لم يجيبوا إليه؟.
قال: ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا؟.
قال: ندعهم ما تركونا.
قال: فإن لم يتركونا؟.
قال: امتنعنا منهم.
قال: فنعم إذا.
فقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري.
فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرني الله كما سمانا أنصارا.
قال: وأتت جماعة من طيء، وعلي الربذة.
فقيل له: هؤلاء جماعة جاؤوا من طيء منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد السلام عليك.
فقال: جزى الله كلا خيرا، { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرا عَظِيما } [52].
قالوا: فسار علي من الربذة على تعبئته، وهو راكب ناقة حمراء يقود فرسا كميتا، فلما كان بفيد جاءه جماعة من أسد وطيء، فعرضوا أنفسهم عليه.
فقال: فيمن معي كفاية، وجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: عامر بن مطر الشيباني.
فقال له علي: ما وراءك؟.
فأخبره الخبر، فسأله عن أبي موسى، فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه.
فقال علي: والله ما أريد إلا الصلح ممن تمرد علينا، وسار.
فلما اقترب من الكوفة وجاءه الخبر بما وقع من الأمر على جليته، من قتل ومن إخراج عثمان بن حنيف من البصرة وأخذهم أموال بيت المال، جعل يقول: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير.
فلما انتهى إلى ذي قار أتاه عثمان بن حنيف مهشما وليس في وجهه شعرة.
فقال: يا أمير المؤمنين، بعثتني إلى البصرة، وأنا ذو لحية، وقد جئتك أمردا.
فقال: أصبت خيرا وأجرا.
وقال عن طلحة والزبير: اللهم احلل ما عقدا، ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما، وأرهما المساءة فيما قد عملا - يعني: في هذا الأمر - وأقام علي بذي قار ينتظر جواب ما كتب به مع محمد بن أبي بكر، وصاحبه محمد بن جعفر - وكانا قد قدما بكتابه على أبي موسى وقاما في الناس بأمره - فلم يجابا في شيء.
فلما أمسوا دخل أناس من ذوي الحجبى على أبي موسى يعرضون عليه الطاعة لعلي، فقال: كان هذا بالأمس فغضب محمد ومحمد فقالا له قولا غليظا.
فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحدا حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا، فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر:
أنت صاحب أبي موسى، والمعرض في كل شيء، فاذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت، فخرجا فقدما الكوفة وكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من الكوفة، فقام في الناس.
فقال: أيها الناس، إن أصحاب محمد ﷺ الذين صحبوه أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقا وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على أمره.
وهذه فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فاغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة، واقطعوا الأوتار، وأووا المضطهد والمظلوم حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة.
فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي، فأخبراه الخبر، فأرسل الحسن وعمار بن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت فانطلقا حتى دخلا المسجد، فكان أول من سلم عليهما مسروق بن الأجدع.
فقال لعمار: علام قتلتم عثمان؟
فقال: على شتم أعراضنا، وضرب أبشارنا.
فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولو صبرتم لكان خيرا للصابرين.
قال: وخرج أبو موسى، فلقي الحسن بن علي فضمه إليه، وقال لعمار: يا أبا اليقظان، أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته؟.
فقال: لم أفعل، ولم يسؤني ذلك، فقطع عليهما الحسن بن علي.
فقال لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا، فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء.
فقال: صدقت بأبي وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت من النبي ﷺ يقول: « إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب » وقد جعلنا الله إخوانا، وحرم علينا دماءنا وأموالنا.
فغضب عمار وسبه، وقال: يا أيها الناس، إنما قال له رسول الله ﷺ وحده أنت فيها قاعدا خير منك قائما.
فغضب رجل من بني تميم لأبي موسى ونال من عمار، وثار آخرون وجعل أبو موسى يكفكف الناس، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، وقال أبو موسى:
أيها الناس أطيعوني، وكونوا خير قوم من خير أمم العرب، يأوي إليهم المظلوم، ويأمن فيهم الخائف، وإن الفتنة إذا أقبلت شبهت، وإذ أدبرت تبينت، ثم أمر الناس بكف أيديهم، ولزوم بيوتهم.
فقام زيد بن صوحان فقال: أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، سيروا إليه أجمعون.
فقام القعقاع بن عمرو فقال: إن الحق ما قاله الأمير، ولكن لا بد للناس من أمير يردع الظالم، ويعدي المظلوم، وينتظم به شمل الناس، وأمير المؤمنين علي وليَ بما وليَ وقد أنصف بالدعاء، وإنما يريد الإصلاح، فانفروا إليه.
وقام عبد خير، فقال: الناس أربع فرق، علي بمن معه في ظاهر الكوفة، وطلحة، والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقه بالحجاز لا تقاتل ولا عناء بها.
فقال أبو موسى: أولئك خير الفرق، وهذه فتنة.
ثم تراسل الناس في الكلام ثم قام عمار، والحسن بن علي في الناس علي المنبر يدعوان الناس إلى النفير إلى أمير المؤمنين، فإنه إنما يريد الإصلاح بين الناس.
وسمع عمار رجلا يسب عائشة فقال: اسكت مقبوحا منبوحا، والله إنها لزوجة رسول الله ﷺ في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعوه أو إياها، رواه البخاري.
وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين: { انْفِرُوا خِفَافا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [53] وجعل الناس كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر، وعمار، والحسن معه على المنبر، حتى قال له الحسن بن علي: ويحك! اعتزلنا لا أم لك، ودع منبرنا.
ويقال: إن عليا بعث الأشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة، وأخرجه من قصر الإمارة من تلك الليلة، واستجاب الناس للنفير، فخرج مع الحسن تسعة آلاف في البر، وفي دجلة.
ويقال: سار معه اثني عشر ألف رجل ورجل واحد، وقدموا على أمير المؤمنين فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة، منهم: ابن عباس فرحب بهم، وقال:
يا أهل الكوفة! أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى.
فاجتمعوا عنده بذي قار، وكان من المشهورين من رؤساء من انضاف إلى علي: القعقاع بن عمرو، وسعد بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وزيد بن صوحان، والأشتر، وعدي بن حاتم، والمسيب بن نجية، ويزيد بن قيس، وحجر بن عدي وأمثالهم.
وكانت عبد القيس بكمالها بين علي وبين البصرة ينتظرونه وهم ألوف، فبعث علي القعقاع رسولا إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الألفة والجماعة، ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف.
فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين فقال: أي أماه! ما أقدمك هذا البلد؟
فقالت: أي بني! الإصلاح بين الناس.
فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها فحضرا، فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت: إنما جئت للإصلاح بين الناس.
فقالا: ونحن كذلك.
قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ وعلى أي شيء يكون؟ فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن.
قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن.
فقال: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم.
وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم، وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه - يعني: أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها - وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقا من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟
قال: أقول: إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر وائتنافه كانت علامة شر، وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولا، ولا تعرضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم.
وأيم الله: إني لأقول قولي هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.
فقالوا: قد أصبت وأحسنت، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر.
قال: فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه.
وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبا: فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه ﷺ على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان، ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الأمة، أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي من الله بها، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره.
ثم قال: ألا إني مرتحل غدا فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحد أعان على قتل عثمان بشيء من أمور الناس.
فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وغلاب بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد.
فقالوا: ما هذا الرأي وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غدا يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟
فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليا بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت.
فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، لا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم.
فقال غلاب بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها.
فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذا والله كان يتخطفكم الناس.
ثم قال ابن السوداء: قبحه الله يا قوم، إن عيركم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بدا من أي يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه، وأصبح علي مرتحلا، ومر بعبد القيس فساروا من معه حتى نزلوا بالزاوية، وسار منها يريد البصرة وسار طلحة والزبير ومن معهما للقائه، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل الناس كل في ناحية.
وقد سبق علي جيشه وهم يتلاحقون به، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم، فكان ذلك للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، فأشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة، من قتلة عثمان فقالا: إن عليا أشار بتسكين هذا الأمر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك.
وقام علي في الناس خطيبا، فقام إليه الأعور بن نيار المنقري، فسأله عن إقدامه على أهل البصرة، فقال: الإصلاح وإطفاء الثائرة ليجتمع الناس على الخير، ويلتئم شمل هذه الأمة.
قال: فإن لم يجيبونا؟
قال: تركناهم ما تركونا.
قال: فإن لم يتركونا؟
قال: دفعناهم عن أنفسنا.
قال: فهل لهم في هذا الأمر مثل الذي لنا؟
قال: نعم!.
وقام إليه أبو سلام الدالاني فقال: هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟
قال: نعم!
قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟
قال: نعم!
قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟
قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الله الجنة.
وقال في خطبته: أيها الناس أمسكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم، وإياكم أن يسبقونا غدا، فإن المخصوم غدا مخصوم اليوم.
وجاء في غضون ذلك الأحنف بن قيس في جماعة فانضاف إلى علي، وكان قد منع حرقوص بن زهير من طلحة والزبير، وكان قد بايع عليا بالمدينة، وذلك أنه قدم المدينة وعثمان محصور، فسأل عائشة وطلحة والزبير إن قتل عثمان من أبايع؟
فقالوا: بايع عليا، فلما قتل عثمان بايع عليا.
قال: ثم رجعت إلى قومي فجاءني بعد ذلك ما هو أفظع، حتى قال الناس: هذه عائشة جاءت لتأخذ بدم عثمان، فحرت في أمري لمن أتبع، فمنعني الله بحديث سمعته من أبي بكر قال قال رسول الله ﷺ وقد بلغه أن الفرس قد ملكوا عليهم ابنة كسرى فقال: « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ».
وأصل هذا الحديث في (صحيح البخاري).
والمقصود: أن الأحنف لما انحاز إلى علي ومعه ستة آلاف قوس، فقال لعلي: إن شئت قاتلت معك، وإن شئت كففت عنك عشرة آلاف سيف، فقال: اكفف عنا عشرة آلاف سيف.
ثم بعث علي إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر، فأرسلا إليه في جواب رسالته: إنا على ما فارقنا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس، فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين، فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا إليه محمد بن طليحة السجاد، وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم، فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم.
وقام الناس من منامهم إلى السلاح فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلا، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب علي، فبلغ الأمر عليا فقال: ما للناس؟
فقالوا: بيتنا أهل البصرة فثار كل فريق إلى سلاحه، ولبسوا اللأمة، وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان فنشبت الحرب، وتوافق الفريقان، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفا، وألتف على عائشة ومن معها نحوا من ثلاثين ألفا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والسابئة أصحاب ابن السوداء قبحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي علي ينادي: ألا كفوا إلا كفوا، فلا يسمع أحد.
وجاء كعب بن سوار قاضي البصرة، فقال: يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس، فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع، وجاءت فوقفت بحيث تنظر إلى الناس عند حركاتهم، فتصاولوا وتجاولوا، وكان في جملة من تبارز الزبير وعمار، فجعل عمار ينخره بالرمح والزبير كاف عنه، ويقول له: أتقتلني يا أبا اليقظان؟
فيقول: لا يا أبا عبد الله، وإنما تركه الزبير لقول رسول الله ﷺ: « تقتلك الفئة الباغية »، وإلا فالزبير أقدر عليه منه عليه، فلهذا كف عنه.
وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح، ولا يتبع مدبر، وقد قتل مع هذا خلق كثير جدا، حتى جعل علي يقول لابنه الحسن: يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاما.
فقال له: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا.
قال سعيد بن أبي عجرة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال: قال علي يوم الجمل: يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة.
فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا.
قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا.
وقال مبارك بن فضالة: عن الحسن بن أبي بكرة: لما اشتد القتال يوم الجمل، ورأى علي الرؤوس تندر، أخذ علي ابنه الحسن فضمه إلى صدره ثم قال: إنا لله يا حسن! أي: خير يرجى بعد هذا، فلما ركب الجيشان وترآى الجمعان وطلب علي طلحة والزبير ليكلمهما فاجتمعوا حتى التفت أعناق خيولهم فيقال: إنه قال لهما إني أراكما قد جمعتما خيلا ورجالا وعددا، فهل أعددتما عذرا يوم القيامة؟ فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ألم أكن حاكما في دمكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حديث أحل لكما دمي؟
فقال طلحة: ألبت على عثمان.
فقال علي: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } [54].
ثم قال: لعن الله قتلة عثمان، ثم قال: يا طلحة! أجئت بعرس رسول الله ﷺ تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت، أما بايعتني؟
قال: بايعتك والسيف على عنقي.
وقال للزبير: ما أخرجك؟
قال: أنت، ولا أراك بهذا الأمر أولى به مني.
فقال له علي: أما تذكر يوم مررت مع رسول الله ﷺ في بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله ﷺ: « إنه ليس بمتمرد لتقاتلنه وأنت ظالم له ».
فقال الزبير: اللهم نعم! ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك.
وفي هذا السياق كله نظر.
والمحفوظ منه الحديث فقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي فقال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الدوري، حدثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي، عن جده عبد الملك، عن أبي جرو المازني قال: شهدت عليا والزبير حين تواقفا، فقال له علي: يا زبير! أنشدك الله أسمعت رسول الله ﷺ يقول: « إنك تقاتلني وأنت ظالم؟ ».
قال: نعم! لم أذكره إلا في موقفي هذا، ثم انصرف.
وقد رواه البيهقي: عن الحاكم، عن أبي الوليد الفقيه، عن الحسن بن سفيان، عن قطن بن بشير، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي، عن جده، عن أبي جرو المازني، عن علي والزبير به.
وقال عبد الرزاق: أنا معمر، عن قتادة قال: لما ولي الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان ابن صفية يعلم أنه على حق ما ولي، وذلك أن رسول الله ﷺ لقيهما في سقيفة بني ساعدة فقال: « أتحبه يا زبير؟
فقال: وما يمنعني؟
قال: فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له؟ »
قال: فيرون أنه إنما ولي لذلك.
قال البيهقي: وهذا مرسل وقد روي موصولا من وجه آخر.
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن القاضي، أنا أبو عامر بن مطر، أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشمي الكوفي، أنا منجاب بن الحارث، ثنا عبد الله بن الأجلح، ثنا أبي، عن مرثد الفقيه، عن أبيه. قال: وسمعت فضل بن فضالة يحدث، عن حرب بن أبي الأسود الدؤلي - دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه - قال: لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج علي وهو على بغلة رسول الله ﷺ فنادى: ادعوا لي الزبير بن العوام فإني علي، فدعي له الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي: يا زبير! نشدتك الله أتذكر يوم مر بك رسول الله ﷺ ونحن في مكان كذا وكذا فقال: « يا زبير ألا تحب عليا؟
فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلي ديني؟
فقال: يا زبير أما والله لتقاتلنه وأنت ظالم له؟ ».
فقال الزبير: بلى والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله ﷺ ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله بن الزبير فقال: مالك؟
فقال: ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله ﷺ، سمعته يقول: « لتقاتلنه وأنت ظالم له » فقال: أو للقتال جئت؟ إنما جئت لتصلح بين الناس ويصلح الله بك هذا الأمر، قال: قد حلفت أن لا أقاتله، قال: اعتق غلامك سرجس وقف حتى تصلح بين الناس، فأعتق غلامه ووقف، فلما اختلف أمر الناس ذهب على فرسه.
قالوا: فرجع الزبير إلى عائشة فذكر أنه قد آلى أن لا يقاتل عليا.
فقال له ابنه عبد الله: إنك جمعت الناس فلما ترآى بعضهم لبعض خرجت من بينهم، كفر عن يمينك واحضر.
فأعتق غلاما، وقيل: غلامه سرجس.
وقد قيل: إنه إنما رجع عن القتال لما رأى عمارا مع علي، وقد سمع رسول الله ﷺ يقول لعمار: « تقتلك الفئة الباغية » فخشي أن يقتل عمار في هذا اليوم.
وعندي أن الحديث الذي أوردناه إن كان صحيحا عنه فما رجعه سواه، ويبعد أن يكفر عن يمينه ثم يحضر بعد ذلك لقتال علي والله أعلم.
والمقصود: أن الزبير لما رجع يوم الجمل سار فنزل واديا يقال له: وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له: عمرو بن جرموز فجاءه وهو نائم فقتله غيلة كما سنذكر تفصيله.
وأما طلحة: فجاءه في المعركة سهم غرب يقال: رماه به مروان بن الحكم فالله أعلم، فانتظم رجله مع فرسه فجمحت به الفرس، فجعل يقول: إلي عباد الله إلي عباد الله، فاتبعه مولى له فأمسكها، فقال له: ويحك! أعدل بي إلى البيوت وامتلأ خفه دما، فقال لغلامه: أردفني، وذلك أنه نزفه الدم وضعف، فركب وراءه وجاء به إلى بيت في البصرة فمات فيه رضي الله عنه.
وتقدمت عائشة رضي الله عنها في هودجها، وناولت كعب بن سوار قاضي البصرة مصحفا وقالت: دعهم إليه - وذلك أنه حين اشتد الحرب وحمي القتال، ورجع الزبير، وقتل طلحة رضي الله عنهما - فلما تقدم كعب بن سوار بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين، وكان عبد الله بن سبأ - وهو ابن السوداء - وأتباعه بين يدي الجيش، يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة، لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سوار رافعا المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه، ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجعلت تنادي: الله الله! يا بني اذكروا يوم الحساب، ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا؟
فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم.
فقال: اللهم ألعن قتلة عثمان، وجعل أولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى لقي مثل القنفذ، وجعلت تحرض الناس على منعهم وكفهم، فحملت معه الحفيظة فطردوهم حتى وصلت الحملة إلى الموضع الذي فيه علي بن أبي طالب، فقال لابنه محمد بن الحنفية: ويحك! تقدم بالراية فلم يستطع، فأخذها علي من يده فتقدم بها، وجعلت الحرب تأخذ وتعطي، فتارة لأهل البصرة، وتارة لأهل الكوفة، وقتل خلق كثير، وجم غفير، ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة.
وجعلت عائشة تحرض الناس على أولئك النفر من قتلة عثمان، ونظرت عن يمينها فقالت: من هؤلاء القوم؟
فقالوا: نحن بكر بن وائل.
فقالت لكم يقول القائل:
وجاؤوا إلينا بالحديد كأنهم * من الغرة القعساء بكر بن وائل
ثم لجأ إليها بنو ناجية، ثم بنو ضبة، فقتل عنده منهم خلق كثير، ويقال: إنه قطعت يد سبعين رجلا وهي آخذة بخطام الجمل، فلما اثخنوا تقدم بنو عدي بن عبد مناف فقاتلوا قتالا شديدا، ورفعوا رأس الجمل، وجعل أولئك يقصدون الجمل، وقالوا: لا يزال الحرب قائما ما دام هذا الجمل واقفا، ورأس الجمل في يد عمرة بن يثربي، وقيل: أخوه عمرو بن يثربي.
ثم صمد عليه علباء بن الهيثم وكان من الشجعان المذكورين، فتقدم إليه عمرو الجملي فقتله ابن يثربي، وقتل زيد بن صوحان، وأرتث صعصعة بن صوحان، فدعاه عمار إلى البراز، فبرز له فتجاولا بين الصفين وعمارا ابن تسعين سنة عليه فروة قد ربط وسطه بحبل ليف.
فقال الناس: إنا لله وإنا إليه راجعون الآن يلحق عمارا بأصحابه، فضربه ابن يثربي بالسيف فاتقاه عمار بدرقته، فغصَّ فيها السيف ونشب، وضربه عمار فقطع رجليه، وأخذ أسيرا إلى بين يدي علي.
فقال: استبقني يا أمير المؤمنين؟
فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم؟ ثم أمر به فقتل، واستمر زمام الجمل بعده بيد رجل كان قد استنابه فيه من بني عدي، فبرز إليه ربيعة العقيلي فتجاولا حتى قتل كل واحد صاحبه، وأخذ الزمام الحارث الضبي، فما رؤي أشد منه وجعل يقول:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل * نبارز القرن إذا القرن نزل
ننعي ابن عفان بأطراف الأسل * الموت أحلى عندنا من العسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجسل
وقيل: إن هذه الأبيات لوسيم بن عمرو الضبي.
فكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل يقوم غيره حتى قتل منهم أربعون رجلا.
قالت عائشة: ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبة، ثم أخذ الخطام سبعون رجلا من قريش، وكل واحد يقتل بعد صاحبه، فكان منهم محمد بن طلحة المعروف: بالسجاد.
فقال لعائشة: مريني بأمرك يا أمه؟
فقالت: آمرك أن تكون كخير ابني آدم، فامتنع أن ينصرف وثبت في مكانه، وجعل يقول: حم لا ينصرون، فتقدم إليه نفر فحملوا عليه فقتلوه، وصار لكل واحد منهم بعد ذلك يدعي قتله، وقد طعنه بعضهم بحربة فأنفذه وقال:
وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلمِ
هتكتُ له بالريح جيبَ قميصه * فخر صريعا لليدين وللفمِ
يناشدني حم والمرح شاجن * فهلا تلا حم قبل التقدمِ
على غير شيء غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يندمِ
وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف، فجعل لا يدنو منه أحد إلا حطّه بالسيف، فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول:
يا أمنا يا خير أم نعلم * أما ترين كمَ شجاع يكلمُ
وتجتلى هامته والمعصمُ
واختلفا ضربتين فقتل كل واحد صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الراية ولا بخطام الجمل إلا شجاع معروف، فيقتل من قصده، ثم يقتل بعد ذلك، وقد فقأ بعضهم عين عدي بن حاتم ذلك اليوم.
ثم تقدم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل وهو لا يتكلم، فقيل لعائشة: إنه ابنك ابن أختك، فقالت: واثكل أسماء!
وجاء مالك بن الحارث الأشتر النخعي فاقتتلا فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا، وضربه عبد الله ضربة خفيفة، ثم اعتنقا وسقطا إلى الأرض يعتركان، فجعل عبد الله بن الزبير يقول:
اقتلوني ومالكا * واقتلوا مالكا معي
فجعل الناس لا يعرفون مالكا من هو، وإنما هو معروف بالأشتر، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما، وقد جرح عبد الله بن الزبير يوم الجمل بهذه الجراحة سبعا وثلاثين جراحة، وجرح مروان بن الحكم أيضا.
ثم جاء رجل فضرب الجمل على قوائمه فعقره، وسقط إلى الأرض فسمع له عجيج ما سمع أشد ولا أنفذ منه، وآخر من كان الزمام بيده زفر بن الحارث فعقر الجمل وهو في يده.
ويقال: إنه اتفق هو وبجير بن دلجة على عقره.
ويقال: إن الذي أشار بعقر الجمل علي.
وقيل: القعقاع بن عمرو لئلا تصاب أم المؤمنين، فإنها بقيت غرضا للرماة، ومن يمسك بالزمام برجاسا للرماح، ولينفصل هذا الموقف الذي قد تفانى فيه الناس.
ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس، وحمل هودج عائشة وإنه لكالقنفذ من السهام، ونادى منادي علي في الناس: إنه لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يدخلوا الدور.
وأمر علي نفرا أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر وعمارا أن يضربا عليها قبة، وجاء إليها أخوها محمد، فسألها هل وصل إليك شيء من الجراح؟.
فقالت: لا! وما أنت ذاك يا ابن الخثعمية.
وسلم عليها عمّار فقال: كيف أنت يا أم؟
فقالت: ليس لك بأم.
قال: بلى! وإن كرهت.
وجاء إليها علي بن أبي طالب أمير المؤمنين مسلما فقال: كيف أنت يا أمه؟
قالت: بخير.
فقال: يغفر الله لك.
وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون على أم المؤمنين رضي الله عنها، ويقال: إن أعين بن ضبيعة المجاشعي اطلع في الهودج، فقالت: إليك لعنك الله.
فقال: والله ما أرى إلا حميراء.
فقالت: هتك الله سترك، وقطع يدك، وأبدى عورتك، فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي عريانا في خربة من خرابات الأزد.
فلما كان الليل دخلت أم المؤمنين البصرة - ومعها أخوها محمد بن أبي بكر - فنزلت في دار عبد الله بن خلف الخزاعي وهي أعظم دار بالبصرة على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وهي أم طلحة، الطلحات عبد الله بن خلف.
وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة، وقد طاف علي بين القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحم عليه ويقول: يعز علي أن أرى قريشا صرعى.
وقد مر على ما ذكر على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول، فقال: لهفي عليك يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت كما قال الشاعر:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه * إذا ما هو استغنى ويبعده الفقرُ
وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثا، ثم صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريشا بصلاة من بينهم، ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئا هو لأهلهم فليأخذه، إلا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان.
وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله، ورضي عن الصحابة منهم.
وقد سأل بعض أصحاب علي عليا أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير، فأبى عليه فطعن فيه السبائية وقالوا: كيف يحلُّ لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟
فبلغ ذلك عليا، فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه؟
فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فضَّ في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال: لكم مثلها من الشام، فتكلم فيه السبائية أيضا، ونالوا منه من وراء وراء.
فصل فراغ علي رضي الله عنه من أمر الجمل
ولما فرغ علي من أمر الجمل، أتاه وجوه الناس يسلمون عليه، فكان ممن جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد - وكانوا قد اعتزلوا القتال - فقال له علي: تربعت - يعني بنا - فقال: ما كنت أراني إلا قد أحسنت وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت إلي غدا أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستبق مودتي لغدٍ، ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحا.
قالوا: ثم دخل علي البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم، حتى الجرحى والمستأمنة.
وجاءه عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي فبايعه، فقال له علي: أين المريض؟ - يعني: أباه -.
فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص.
فقال: امش أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكر فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع.
وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد، - وكان زياد معتزلا -.
ثم جاء علي إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة فاستأذن ودخل، فسلم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على من قتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له: صفية امرأة عبد الله، أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها علي شيئا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضا فسكت.
فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟
فقال: ويحك! إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟.
فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما من ثيابهما.
وقد سألت عائشة عمن قتل معها من المسلمين، ومن قتل من عسكر علي، فجعلت كلما ذكر لها واحد منهم ترحمت عليه ودعت له.
ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة، بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر.
فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس، وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس، ودعت لهم، وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي لمن الأخيار.
فقال علي: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة.
وسار علي معها ودعا ومشيعا أميالا، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم - وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين - وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك، ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها.
وأما مروان بن الحكم فإنه لما فر استجار بمالك بن مسمع فأجاره ووفى له، ولهذا كان بنو مروان يكرمون مالكا ويشرفونه، ويقال: إنه نزل دار بني خلف، فلما خرجت عائشة خرج معها، فلما سارت هي إلى مكة سار إلى المدينة.
قالوا: وقد علم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة يوم الوقعة، وذلك مما كانت النسور تخطفه من الأيدي والأقدام فيسقط منها هنالك، حتى أن أهل المدينة علموا بذلك يوم الجمل قبل أن تغرب الشمس، وذلك أن نسرا مر بهم ومعه شيء فسقط، فإذا هو كف فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب.
هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، وليس فيما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلفة على الصحابة، والأخبار الموضوعة التي ينقلونها بما فيها. وإذا دعوا إلى الحق الواضح اعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم، فنحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
فصل في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل
في ذكر أعيان من قتل يوم الجمل من السادة النجباء من الصحابة من الفريقين رضي الله عنهم أجمعين، وقد قدَّمنا أن عدة القتلى نحو من عشرة آلاف، وأما الجرحى فلا يحصون كثرة، فممن قتل يوم الجمل في المعركة:
طلحة بن عبيد الله
ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو محمد القرشي التيمي، ويعرف: بطلحة الخير، وطلحة الفياض لكرمه ولكثرة جوده.
أسلم قديما على يدي أبي بكر الصديق، فكان نوفل بن خويلد بن العدوية يشدهما في حبل واحد، ولا تستطيع بنو تميم أن تمنعهما منه، فلذلك كان يقال لطلحة وأبي بكر القرينان.
وقد هاجر وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ إلا بدرا - فإنه كان بالشام لتجارة - وقيل: في رسالة، ولهذا ضرب له رسول الله ﷺ بسهمه وأجره من بدر.
وكانت له يوم أحد اليد البيضاء، وشلت يده يوم أحد وقى بها رسول الله ﷺ، واستمرت كذلك إلى أن مات، وكان الصديق إذا حدث عن يده أحد يقول: ذاك يوم كان كله لطلحة.
وقد قال له رسول الله ﷺ يومئذ: « أوجب طلحة »، وذلك أنه كان على رسول الله ﷺ درعان، فأراد أن ينهض وهما عليه ليصعد صخرة هنالك فما استطاع، فطأطأ له طلحة فصعد على ظهره حتى استوى عليها وقال: « أوجب طلحة ».
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وقد صحب رسول الله ﷺ فأحسن صحبته، حتى توفي وهو عنه راض، وكذلك أبو بكر وعمر.
فلما كانت قضية عثمان اعتزل عنه، فنسبه بعض الناس إلى تحامل فيه، فلهذا لما حضر يوم الجمل واجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف، فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته، وقيل: في رقبته، والأول أشهر.
وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس، فجمح به حتى كاد يلقيه، وجعل يقول: إليَّ عباد الله، فأدركه مولى له فركب وراءه، وأدخله البصرة فمات بدار فيها.
ويقال: إنه مات بالمعركة، وإن عليا لما دار بين القتلى رآه، فجعل يمسح عن وجهه التراب، وقال: رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولا تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجزي وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ويقال: إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقال لأبان بن عثمان: قد كفيتك رجالا من قتلة عثمان.
وقد قيل: إن الذي رماه غيره، وهذا عندي أقرب، وإن كان الأول مشهورا والله أعلم.
وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ودفن طلحة إلى جانب الكلأ، وكان عمره ستين سنة.
وقيل: بضعا وستين سنة، وكان آدم، وقيل: أبيض، حسن الوجه، كثير الشعر، إلى القصر أقرب وكانت غلته في كل يوم ألف درهم.
وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبيه: أن رجلا رأى طلحة في منامه وهو يقول: حولوني عن قبري فقد آذاني الماء، ثلاث ليال، فأتى ابن عباس فأخبره - وكان نائبا على البصرة - فاشتروا له دارا بالبصرة بعشرة آلاف درهم، فحولوه من قبره إليها، فإذا قد اخضر من جسده ما يلي الماء، وإذا هو كهيئة يوم أصيب.
وقد وردت له فضائل كثيرة.
فمن ذلك: ما رواه أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا الحسن بن علي بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي، عن جده، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: سماني رسول الله ﷺ يوم أحد طلحة الخير، ويوم العسرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود.
وقال أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو كريب، ثنا يونس، عن ابن بكر، عن طلحة بن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما: أن ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا لأعرابي جاء يسأل عمن قضى نحبه فقالوا: سل رسول الله ﷺ، فسأله في المسجد فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه ثم اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فقال رسول الله: « أين السائل؟
قال: ها أنا ذا.
فقال: هذا ممن قضى نحبه ».
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن رشيد، ثنا مكي، ثنا علي بن إبراهيم، ثنا الصلت بن دينار، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ».
وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو عبد الرحمن بن منصور العنزي - اسمه النضر -، ثنا عقبة بن علقمة اليشكري: سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت أذناي رسول الله ﷺ يقول: « طلحة والزبير جاراي في الجنة ».
وقد روي من غير وجه عن علي أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [55].
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب: أن رجلا كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فجعل سعد ينهاه، ويقول: لا تقع في إخواني فأبى، فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطا لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرة.
فخرج الرجل فإذا ببختي يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله.
قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا ويقولون: هنيئا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك.
والزبير بن العوام بن خويلد
ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، أبو عبد الله القرشي الأسدي، وأمه: صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ.
أسلم قديما، وعمره خمس عشرة سنة، وقيل: أقل.
وقيل: أكثر، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فآخى رسول الله ﷺ بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش، وقد شهد المشاهد كلها، وقد قال رسول الله ﷺ يوم الأحزاب: « من يأتينا بخبر القوم؟
فقال: أنا، ثم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال رسول الله ﷺ: إن لكل نبي حورايا وحواري الزبير ».
ثبت ذلك من رواية زر، عن علي.
وثبت عن الزبير أنه قال: « جمع لي رسول الله ﷺ أبويه يوم بني قريظة ».
وروي: أنه أول من سل سيفا في سبيل الله، وذلك بمكة حين بلغ الصحابة أن رسول الله قد قتل فجاء شاهرا سيفه حتى رأى رسول الله ﷺ فشام سيفه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض.
وصحب الصديق فأحسن صحبته، وكان ختنه على ابنته أسماء بنت الصديق، وابنه عبد الله منها أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة.
وخرج مع الناس إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك فتشرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين من أولهم إلى آخرهم، وكان من جملة من دافع عن عثمان وحاجف عنه، فلما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعا إلى المدينة، فمر بقوم الأحنف بن قيس - وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين - فقال قائل يقال له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعا إلى بيته؟ من رجل يكشف لنا خبره؟
فاتبعه عمرو بن جرموز، وفضالة بن حابس، ونفيع في طائفة من غواة بني تميم، فيقال: إنهم لما أدركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه.
ويقال: بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة؟
فقال: ادن!
فقال مولى الزبير - واسمه عطية -: إن معه سلاحا.
فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة، فقال له الزبير: الصلاة.
فقال: الصلاة، فتقدم الزبير ليصلي بهما فطعنه عمرو بن جرموز فقتله.
ويقال: بل أدركه عمرو بواد يقال له: وادي السباع، وهو نائم في القائله فهجم عليه فقتله.
وهذا القول هو الأشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت آخر من تزوجها، وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها، وكانت قبله تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق فقتل عنها، فلما قتل الزبير رثته بقصيدة محكمة المعنى فقالت:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غر معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمك أن ظفرت بمثله * ممن بقي ممن يروح ويغتدي
كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طرادك يا بن فقع العردد
والله ربي إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد
ولما قتله عمرو بن جرموز فاجتز رأسه، وذهب به إلى علي، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده، فاستأذن، فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار.
وفي رواية: أن عليا قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « بشر قاتل ابن صفية بالنار ».
ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير، فقال علي: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله ﷺ.
فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه.
وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز ها هنا وهو مختف، فهل لك فيه؟
فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لأقيد للزبير منه، فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير.
وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله، فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتا ألف فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به، ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم، فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف، والثلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف، فتلك الجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف، والدين المخرج قبل ذلك ألفا ألف ومائتا ألف.
فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف، وإنا نبهنا على هذا لأنه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي أن ينبه له والله أعلم.
وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة والمآثر الغزيرة مما أفاء الله عليه من الجهاد، ومن خمس الخمس ما يخص أمه منه، ومن التجارة المبرورة من الخلال المشكورة، وقد قيل: إنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدق في بعض الأيام بخراجهم كلهم رضي الله عنه وأرضاه.
وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وقد نيف على الستين بست أو سبع، وكان أسمر ربعة من الرجال معتدل اللحم خفيف اللحية رضي الله عنه.
وفي هذه السنة أعني سنة ست وثلاثين
ولى علي بن أبي طالب نيابة الديار المصرية لقيس بن سعد بن عبادة، وكان على نيابتها في أيام عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلما توجه أولئك الأحزاب من خوارج المصريين إلى عثمان وكان الذي جهزهم إليه مع عبد الله بن سبأ المعروف: بابن السوداء محمد بن أبي حذيفة بن عتبة.
وكان لما قتل أبوه باليمامة أوصى به إلى عثمان، فكفله ورباه في حجره ومنزله وأحسن إليه إحسانا كثيرا، ونشأ في عبادة وزهادة، وسأل من عثمان أن يوليه عملا، فقال له: متى ما صرت أهلا لذلك وليتك.
فتعتب في نفسه على عثمان، فسأل من عثمان أن يخرج إلى الغزو فأذن له، فقصد الديار المصرية وحضر مع أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزوة الصواري كما قدمنا، وجعل ينتقص عثمان رضي الله عنه، وساعده على ذلك محمد بن أبي بكر.
فكتب بذلك ابن أبي سرح إلى عثمان يشكوهما إليه، فلم يعبأ بهما عثمان ولم يزل ذلك دأب محمد بن أبي حذيفة حتى استنفر أولئك إلى عثمان، فلما بلغه أنهم قد حصروا عثمان تغلب على الديار المصرية، وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وصلى بالناس فيها، فلما كان ابن أبي سرح ببعض الطريق جاءه الخبر بقتل أمير المؤمنين عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وبلغه أن عليا قد بعث على إمرة مصر قيس بن سعد بن عبادة، فشمت بمحمد بن أبي حذيفة، إذ لم يمتع بملك الديار المصرية سنة، وسار عبد الله بن سعد إلى الشام إلى معاوية فأخبره بما كان من أمره بديار مصر، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها، فسار معاوية وعمرو بن العاص ليخرجاه منها لأنه من أكبر الأعوان على قتل عثمان، مع أنه كان قد رباه وكفله وأحسن إليه، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا فلم يزالا يخدعانه حتى خرج إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها.
وجاء عمرو بن العاص فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا، ذكره محمد بن جرير.
ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بولاية من علي، فدخل مصر في سبعة نفر، فرقي المنبر وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
بسم الله الرحمن الرحيم! من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين.
سلام عليكم، فإني أحمد الله كثيرا الذي لا إله إلا هو.
أما بعد، فإن الله بحسن صنيعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده، وخص به من انتخب من خلقه.
فكان مما أكرم الله به هذه الآمة، وخصهم به من الفضيلة أن بعث محمدا ﷺ يعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما يتفرقوا، وزكاهم لكي يتطهروا، ووفقهم لكيلا يجوروا.
فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه، صلوات الله وسلامه عليه وبركاته ورحمته، ثم إن المسلمين استخلفوا بعده أميرين صالحين، عملا بالكتاب و السنة، وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة، ثم توفاهما الله فرحمهما الله.
ثم ولى بعدهما والٍ أحدث أحداثا، فوجدت الأمة عليه مقالا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيروا ﷺ ثم جاؤوني فبايعوني، فأستهدي الله بهداه، وأستعينه على التقوى، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، والقيام عليكم بحقه والنصح لكم بالغيب، والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة أميرا فوازروه، وكاتفوه، وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان على محسنكم، والشدة على مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم.
وهو ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته، أسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين قال: ثم قام قيس بن سعد فخطب الناس ودعاهم إلى البيعة لعلي، فقام الناس فبايعوه.
واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها: خربتا، فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان - وكانوا سادة الناس ووجوههم، وكانوا في نحو من عشرة آلاف وعليهم رجل يقال له: يزيد بن الحارث المدلجي -.
وبعثوا إلى قيس بن سعد فوادعهم، وكذلك مسلمة بن مدلج الأنصاري تأخر عن البيعة فتركه قيس بن سعد ووادعه، ثم كتب معاوية بن أبي سفيان - وقد استوثق له أمر الشام بحذافيره - إلى أقصى بلاد الروم والسواحل، وجزيرة قبرص أيضا تحت حكمه، وبعض بلاد الجزيرة كالرها وحران وقرقيسيا وغيرها، وقد ضوى إليها الذين هربوا يوم الجمل من العثمانية، وقد أراد الأشتر انتزاع هذه البلاد من يد نواب معاوية، فبعث إليه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ففر منه الأشتر.
واستقر أمر معاوية على تلك البلاد، فكتب إلى قيس بن سعد يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان، وأن يكون مؤازرا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تم له الأمر ما دام سلطانا.
فلما بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازما - لم يخالفه ولم يوافقه، بل بعث يلاطف معه الأمر وذلك لبعده عن علي، وقربه من بلاد الشام وما مع معاوية من الجنود، فسالمه قيس وتاركه ولم يواقعه على ما دعاه إليه ولا وافقه عليه.
فكتب إليه معاوية: إنه لا يسعك معي تسويتك بي وخديعتك لي، ولا بد أن أعلم أنك سلم أو عدو - وكان معاوية حازما أيضا - فكتب إليه بما صمم عليه: إني مع علي إذ هو أحق بالأمر منك، فلما بلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان يئس منه ورجع، ثم أشاع بعض أهل الشام أن قيس بن سعد يكاتبهم في الباطن ويمالئهم على أهل العراق.
وروى ابن جرير: أنه جاء من جهته كتاب مزور بمبايعته معاوية، والله أعلم بصحته.
ولما بلغ ذلك عليا فاتهمه وكتب له أن يغزو أهل خربتا الذين تخلفوا عن البيعة، فبعث إليه يعتذر إليه بأنهم عدد كثير، وهم وجوه الناس.
وكتب إليه: إن كنت إنما أمرتني بهذا لتختبرني لأنك اتهمتني، فابعث على عملك بمصر غيري، فبعث علي على إمرة مصر الأشتر النخعي، فسار إليها الأشتر النخعي.
فلما بلغ القلزم شرب شربة من عسل فكان فيها حتفه، فبلغ ذلك أهل الشام فقالوا: إن لله جندا من عسل، فلما بلغ عليا مهلك الأشتر، بعث محمد بن أبي بكر على إمرة مصر.
وقد قيل وهو الأصح: إن عليا ولى محمد بن أبي بكر بعد قيس بن سعد، فارتحل قيس إلى المدينة، ثم ركب هو وسهل بن حنيف إلى علي فاعتذر إليه قيس بن سعد فعذره علي، وشهدا معه صفين كما سنذكره، فلم يزل محمد بن أبي بكر بمصر قائم الأمر مهيبا بالديار المصرية حتى كانت وقعة صفين.
وبلغ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق، وصاروا إلى التحكيم، فطمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر واجترأوا عليه وبارزوه بالعداوة، فكان من أمره ما سنذكره.
وكان عمر بن العاص قد بايع معاوية على القيام بطلب دم عثمان، وكان قد خرج من المدينة حين أرادوا حصره لئلا يشهد مهلكه، مع أنه كان متعتبا عليه بسبب عزله له عن ديار مصر، وتوليته بدله عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فتسرح عن المدينة علي تغضب فنزل قريبا من الأردن، فلما قتل عثمان صار إلى معاوية فبايعه على ما ذكرنا.
فصل في وقعة صفين بين أهل العراق وبين أهل الشام
قد تقدم ما رواه الإمام أحمد: عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، أنه قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ عشرات الألوف، فلم يحضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أمية بن خلد، قال لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال كذب أبو شيبة، والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت؟.
وقد قيل: أنه شهدها من أهل بدر سهل بن حنيف، وكذا أبو أيوب الأنصاري.
قاله شيخنا العلامة ابن تيمية في كتاب (الرد على الرافضة).
وروى ابن بطة بإسناده: عن بكير بن الأشج أنه قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم.
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه لما فرغ من وقعة الجمل، ودخل البصرة، وشيع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة، سار من البصرة إلى الكوفة.
قال أبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد: فدخلها علي يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين.
فقيل له: انزل بالقصر الأبيض.
فقال: لا! إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكرهه لذلك.
فنزل في الرحبة، وصلى في الجامع الأعظم ركعتين، ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه.
ثم بعث إلى جرير بن عبد الله - وكان على همذان ممن زمان عثمان - وإلى الأشعث بن قيس - وهو على نيابة أذربيجان من زمان عثمان - أن يأخذا البيعة على من هنالك من الرعايا ثم يقبلا إليه، ففعلا ذلك.
فلما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى بيعته قال جرير بن عبد الله: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين، فإن بيني وبينه ودَّا، فآخذ لك منه البيعة.
فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه.
فقال علي: دعه، وبعثه وكتب معه كتابا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس.
فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب، فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام، فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يُسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم.
فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين ألم أنهك أن تبعث جريرا، فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية بابا إلا أغلقته.
فقال له جرير: لو كنت ثَمَّ لقتلوك بدم عثمان.
فقال الأشتر: والله لو بعثني لم يعيني جواب معاوية، ولأعجلنه عن الفكرة، ولو أطاعني قبل لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمة.
فقام جرير مُغضبا، وأقام بقرقيسيا، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وما قيل له.
فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه، وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الكوفة عازما على الدخول إلى الشام، فعسكر بالنخيلة، واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر البدري الأنصاري، وكان قد أشار عليه جماعة بأن يقيم بالكوفة، ويبعث الجنود، وأشار آخرون أن يخرج فيهم بنفسه.
وبلغ معاوية أن عليا قد خرج بنفسه، فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضا بنفسك.
وقام عمرو بن العاص في الناس فقال: إن صناديد أهل الكوفة والبصرة قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا شرذمةٌ قليلةٌ من الناس ممن قتل.
وقد قتل الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تطلبوه، وكتب إلى أجناد الشام فحضروا، وعقدت الألوية والرايات للأمراء، وتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضا إلى نحو الفرات من ناحية صفين - حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصدا أرض الشام.
قال أبو إسرائيل عن الحكم بن عيينة: وكان في جيشه ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة. رواه ابن ديزيل.
وقد اجتاز في طريقه براهب فكان من أمره ما ذكره الحسين بن ويزيل في كتابه فيما رواه عن يحيى بن عبد الله الكرابيسي عن نصر بن مزاحم، عن عمر بن سعد، حدثني مسلم الأعور، عن حبة العرني قال: لما أتى علي الرقة نزل بمكان يقال له البلبخ على جانب الفرات، فنزل إليه راهب من صومعته فقال لعلي: إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا، كتبه أصحاب عيسى بن مريم عليهما السلام أعرضه عليك؟
فقال علي: نعم! فقرأ الراهب الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما سطر، وكتب فيما كتب أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويدلهم على سبيل الله، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شرف، وفي كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وينصره الله على كل من ناوأه، فإذا توفاه الله اختلفت أمته، ثم اجتمعت، فلبثت بذلك ما شاء الله، ثم اختلفت ثم يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق، ولا ينكس الحكم.
الدنيا أهون عليه من الرماد أو قال التراب - في يوم عصفت فيه الريح - والموت أهون عليه من شرب الماء، يخاف الله في السر، وينصح في العلانية، ولا يخاف في الله لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة.
ثم قال لعلي: فأنا أصاحبك فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك.
فبكى علي ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعلني عنده نسيا منسيا، والحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار.
فمضى الراهب معه وأسلم، فكان مع علي حتى أصيب يوم صفين، فلما خرج الناس يطلبون قتلاهم قال علي: اطلبوا الراهب، فوجدوه قتيلا، فلما وجدوه صلّى عليه ودفنه واستغفر له.
وقد بعث علي بين يديه زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، ومعه شريح بن هانئ، في أربعة آلاف، فساروا في طريق بين يديه غير طريقه، وجاء علي فقطع دجلة من جسر منبج وسارت المقدمتان.
فبلغهم أن معاوية ركب في أهل الشام ليلتقي أمير المؤمنين عليا فهموا بلقياه فخافوا من قلة عددهم بالنسبة إليه، فعدلوا عن طريقهم وجاؤا ليعبروا من عانات فمنعهم أهل عانات فساروا فعبروا من هيت ثم لحقوا عليا - وقد سبقهم - فقال علي: مقدمتي تأتي من ورائي؟
فاعتذروا إليه بما جرى لهم، فعذرهم ثم قدمهم أمامه إلى معاوية بعد أن عبر الفرات فتلقاهم أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي في مقدمة أهل الشام فتواقفوا، ودعاهم زياد بن النضر أمير مقدمة أهل العراق إلى البيعة، فلم يجيبوه بشيء فكتب إلى علي بذلك فبعث إليهم عليٌّ الأشتر النخعي أميرا، وعلى ميمنته زياد، وعلى ميسرته شريح.
وأمره أن لا يتقدم إليهم بقتال حتى يبدأوه بالقتال، ولكن ليدعهم إلى البيعة مرة بعد مرة، فإن امتنعوا فلا يقاتلهم حتى يقاتلوه، ولا يقرب منهم قرب من يريد الحرب، ولا يبتعد منهم ابتعاد من يهاب الرجال، ولكن صابرهم حتى آتينك، فأنا حثيث السير وراءك إن شاء الله.
فتحاجزوا يومهم ذلك، فلما كان آخر النهار حمل عليهم أبو الأعور السلمي، وبعث معه بكتاب الإمارة على المقدمة مع الحارث بن جهمان الجعفي، فلما قدم الأشتر على المقدمة امتثل ما أمره به علي، فتواقف هو ومقدمة معاوية وعليها أبو الأعور السلمي فثبتوا له واصطبروا لهم ساعة.
ثم انصرف أهل الشام عند المساء، فلما كان الغد تواقفوا أيضا وتصابروا، فحمل الأشتر فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي - وكان من فرسان أهل الشام - قتله رجل من أهل العراق يقال له: ظبيان بن عمارة التميمي.
فعند ذلك حمل عليهم أبو الأعور بمن معه، فتقدموا إليهم وطلب الأشتر من أبي الأعور أن يبارزه فلم يجبه أبو الأعور إلى ذلك، وكأنه رآه غير كفء له في ذلك والله أعلم.
وتحاجز القوم عن القتال عند إقبال الليل من اليوم الثاني، فلما كان صباح اليوم الثالث أقبل علي رضي الله عنه في جيوشه، وجاء معاوية رضي الله عنه في جنوده فتواجه الفريقان وتقابل الطائفتان فبالله المستعان، فتواقفوا طويلا.
وذلك بمكان يقال له: صفين، وذلك في أوائل ذي الحجة، ثم عدل علي رضي الله عنه فارتاد لجيشه منزلا، وقد كان معاوية سبق بجيشه فنزلوا على مشرعة الماء في أسهل موضع وأفسحه، فلما نزل علي نزل بعيدا من الماء، وجاء سرعان أهل العراق ليردوا من الماء فمنعهم أهل الشام فوقع بينهم مقاتلة بسبب ذلك.
وقد كان معاوية وكل على الشريعة أبا الأعور السلمي، وليس هناك مشرعة سواها، فعطش أصحاب علي عطشا شديدا فبعث علي الأشعث بن قيس الكندي في جماعة ليصلوا إلى الماء فمنعهم أولئك وقال: موتوا عطشا كما منعتم عثمان الماء.
فتراموا بالنبل ساعة، ثم تطاعنوا بالرماح أخرى، ثم تقاتلوا بالسيوف بعد ذلك كله، وأمد كل طائفة أهلها حتى جاء الأشتر النخعي من ناحية العراقيين، وعمرو بن العاص من ناحية الشاميين، واشتدت الحرب بينهم أكثر مما كانت، وقد قال رجل من أهل العراق - وهو عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي - وهو يقاتل:
خلّوا لنا ماء الفرات الجاري * أو أثبتوا بجحفل جرار
لكل قرم مشرب تيار * مطاعنٍ برمحه كرار
ضراب هامات العدي مغوار
ثم ما زال أهل العراق يكشفون الشاميين عن الماء حتى أزاحوهم وخلوا بينهم وبينه، ثم اصطلحوا على الورود حتى صاروا يزدحمون في تلك الشريعة لا يكلم أحد أحدا، ولا يؤذي إنسان إنسانا.
وفي رواية: أن معاوية لما أمر أبا الأعور بحفظ الشريعة وقف دونها برماح مشرعة، وسيوف مسللة، وسهام مفرقة، وقسي موترة، فجاء أصحاب علي عليا فشكوا إليه ذلك فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية يقول له: إنا جئنا كافين عن قتالكم حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدمتك فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه أخرى قد منعونا الماء، فلما بلغه ذلك قال معاوية للقوم: ماذا يريدون؟
فقال عمرو: خل بينهم وبينه، فليس من النصف أن نكون ريانين وهم عطاش.
وقال الوليد: دعهم يذوقوا من العطش ما أذاقوا أمير المؤمنين عثمان حين حصروه في داره، ومنعوه طيب الماء والطعام أربعين صباحا.
وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل فلعلهم يرجعون إلى بلادهم.
فسكت معاوية فقال له صعصعة بن صوحان: ماذا جوابك؟
فقال: سيأتيكم رأيي بعد هذا، فلما رجع صعصعة فأخبر الخبر ركب الخيل والرجال، فما زالوا حتى أزاحوهم عن الماء ووردوه قهرا، ثم اصطلحوا فيما بينهم على ورود الماء، ولا يمنع أحد أحدا منه.
وأقام علي يومين لا يكاتب معاوية ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمذاني، وشبيث بن ربعي السهمي فقال: إيتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة، واسمعوا ما يقول لكم.
فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية! إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك، ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله أن تفرق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية: هلا أوصيت بذلك صاحبكم؟
فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بالأمر في فضله ودينه وسابقته وقرابته، وإنه يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في آخرتك.
فقال معاوية: ويظل دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا.
ثم أراد سعيد بن قيس الهمداني أن يتكلم فبدره شبيث بن ربعي فتكلم قبله بكلام فيه غلظة وجفاء في حق معاوية، فزجره معاوية وزبره في افتياته على من هو أشرف منه، وكلامه بما لا علم له به.
ثم أمر بهم فأخرجوا من بين يديه، وصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوما، فعند ذلك نشبت الحرب بينهم، وأمر علي بالطلائع والأمراء أن تتقدم للحرب، وجعل علي يؤمر على كل قوم من الحرب أميرا، فمن أمرائه على الحرب الأشتر النخعي - وهو أكبر من كان يخرج للحرب - وحجر بن عدي، وشبيث بن ربعي، وخالد بن المعتمر، وزياد بن النضر، وزياد بن حفصة، وسعيد بن قيس، ومعقل بن قيس، وقيس بن سعد.
وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميرا، فمن أمرائه: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلم، وذو الكلاع الحميري، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وشرحبيل بن السمط، وحمزة بن مالك الهمداني، وربما اقتتل الناس في اليوم مرتين، وذلك في شهر ذي الحجة بكماله.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عباس عن أمر علي له بذلك، فلما انسلخ ذو الحجة ودخل المحرم تداعى الناس للمتاركة، لعل الله أن يصلح بينهم على أمر يكون فيه حقن دمائهم، فكان ما سنذكره.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
استهلت هذه السنة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه متواقف هو ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كل منهما في جنوده بمكان يقال له: صفين بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها.
والمقصود: أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس، وحقن دمائهم.
فذكر ابن جرير: من طريق هشام، عن أبي مخنف مالك، حدثني سعيد بن المجاهد الطائي، عن محل بن خليفة أن عليا بعث عدي بن حاتم، ويزيد بن قيس الأرحبي، وشبيث بن ربعي، وزياد بن حفصة إلى معاوية، فلما دخلوا عليه - وعمرو بن العاص إلى جانبه - قال عدي بعد حمد الله والثناء عليه:
أما بعد يا معاوية فإنا جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمرنا، وتحقن به الدماء، ويأمن به السبل، ويصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرا وقد استجمع له الناس وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فلم يبق أحد غيرك وغير من معك من شيعتك، فأنت يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك مثل يوم الجمل.
فقال له معاوية: كأنك إنما جئت مهددا ولم تأت مصلحا، هيهات والله يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، لا يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به.
وتكلم شبيث بن ربعي وزياد بن حفصة فذكرا من فضل علي وقالا: اتق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فتكلم معاوية: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتموني إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة فكيف أطيع رجلا أعان على قتل عثمان وهو يزعم أنه لم يقتله؟ ونحن لا نرد ذلك عليه ولا نتهمه به، ولكنه آوى قتلته، فيدفعهم إلينا حتى نقتلهم ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبيث بن ربعي: أنشدك الله يا معاوية، لو تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان؟
قال معاوية: لو تمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكني كنت قتلته بغلام عثمان.
فقال له شبيث بن ربعي: وإله الأرض والسماء لا تصل إلى قتل عمار حتى تندر الرؤوس عن كواهلها، ويضيق فضاء الأرض ورحبها عليك.
فقال معاوية: ولو قد كان ذلك كانت عليك أضيق.
وخرج القوم من بين يديه فذهبوا إلى علي فأخبروه بما قال.
وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الأخنس إلى علي، فدخلوا عليه فبدأ حبيب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا عمل بكتاب الله وثبت لأمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، فيولي الناس أمرهم من جمع عليه رأيهم.
فقال له علي: وما أنت لا أم لك وهذا الأمر وهذا العزل، فاسكت فإنك لست هناك ولا بأهل لذاك.
فقال له حبيب: أما والله لتريني حيث تكره.
فقال له علي: وما أنت؟ ولو أجلبت بخيلك ورجلك لا أبقى الله عليك إن أبقيت، اذهب فصعد وصوّب ما بدا لك.
ثم ذكر أهل السير كلاما طويلا جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقض فيه معاوية وأباه، وإنهم إنما دخلوا في الإسلام ولم يزالا في تردد فيه، وغير ذلك وإنه قال في غبون ذلك: لا أقول إن عثمان قتل مظلوما ولا ظالما.
فقالوا: نحن نبرأ ممن لم يقل إن عثمان قتل مظلوما، وخرجوا من عنده، فقال علي: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } [56].
ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم، وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه.
وروى ابن ديزيل، من طريق عمرو بن سعد بإسناده: أن قراء أهل العراق وقراء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريبا من ثلاثين ألفا، وأن جماعة من قراء العراق منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم جاؤوا معاوية فقالوا له: ما تطلب؟
قال: أطلب بدم عثمان.
قالوا: فمن تطلب به؟
قال: عليا.
قالوا: أهو قتله؟
قال: نعم! وآوى قتلته.
فانصرفوا إلى علي فذكروا له ما قال فقال: كذب!لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله.
فرجعوا إلى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالا.
فرجعوا إلى علي فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت.
فرجعوا فقال معاوية: فإن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان، فإنهم في عسكره وجنده.
فرجعوا فقال علي: تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لأجلها وقتلوه في سلطانه، وليس لي عليهم سبيل.
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن كان الأمر على ما يقول، فماله أنفذ الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن هاهنا؟
فرجعوا إلى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، ورضوا وبايعوني، ولست أستحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الأمة، ويشق عصاها.
فرجعوا إلى معاوية فقال: ما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟
فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم.
قال: فأقاموا يتراسلون في ذلك شهر ربيع الآخر وجماديين ويقرعون في غبون ذلك القرعة بعد القرعة ويزحف بعضهم على بعض، ويحجز بينهم القراء، فلا يكون قتال.
قال: فقرعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين قرعة.
قال: وخرج أبو الدرداء، وأبو أمامة فدخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية على مَ تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاما، وأقرب منك إلى رسول الله ﷺ، وأحق بهذا الأمر منك.
فقال: أقاتله على دم عثمان، وإنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا من قتلة عثمان، ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام.
فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان، فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان، فمن شاء فليرمنا.
قال: فرجع أبو الدرداء وأبو أمامة فلم يشهدا لهم حربا.
وقال عمرو بن سعد بإسناده: حتى إذا كان رجب، وخشي معاوية أن تبايع القراء كلهم عليا كتب في سهم من عبد الله الناصح: يا معشر أهل العراق! إن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات ليغرقكم فخذوا حذركم، ورمى به في جيش أهل العراق.
فأخذه الناس فقرؤه وتحدثوا به، وذكروه لعلي فقال: إن هذا ما لا يكون ولا يقع.
وشاع ذلك، وبعث معاوية مائتي فاعل يحفرون في جنب الفرات وبلغ الناس ذلك فتشوش أهل العراق من ذلك وفزعوا إلى علي فقال: ويحكم! إنه يريد خديعتكم ليزيلكم عن مكانكم هذا وينزل فيه لأنه خير من مكانه.
فقالوا: لا بد من أن نخلي عن هذا الموضع فارتحلوا منه، وجاء معاوية فنزل بجيشه - وكان علي آخر من ارتحل - فنزل بهم، وهو يقول:
فلو أني أطعت عصمت قومي * إلى ركن اليمامة أوشآم
ولكني إذا أبرمت أمرا * يخالفه الطغام بنو الطغام
قال: فأقاموا إلى شهر ذي الحجة ثم شرعوا في المقاتلة فجعل علي يؤمر على الحرب كل يوم رجلا، وأكثر من كان يؤمر الأشتر.
وكذلك معاوية يؤمر كل يوم أميرا فاقتتلوا شهر ذي الحجة بكماله، وربما اقتتلوا في بعض الأيام مرتين.
قال ابن جرير رحمه الله: ثم لم تزل الرسل تتردد بين علي ومعاوية والناس كافّون عن القتال حتى انسلخ المحرم من هذه السنة ولم يقع بينه صلح، فأمر علي بن أبي طالب يزيد بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد أستأنيتكم لتراجعوا الحق، وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا، وإني قد نبذت إليك على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
ففزع أهل الشام إلى أمرائهم فأعلموهم بما سمعوا المنادي ينادي، فنهض عند ذلك معاوية وعمرو فعبيا الجيش ميمنة وميسرة، وبات علي يعبي جيشه من ليلته، فجعل على خيل أهل الكوفة الأشتر النخعي، وعلى رجالتهم عمار بن ياسر، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالتهم قيس بن سعد وهاشم بن عتبة، وعلى قرائهم سعد بن فدكي التميمي.
وتقدم علي إلى الناس أن لا يبدأوا واحدا بالقتال حتى يبدأ أهل الشام، وأنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبر ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحائهم.
وبرز معاوية صبح تلك الليلة وقد جعل على الميمنة ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى الميسرة حبيب بن مسلم الفهري، وعلى المقدمة أبا الأعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالتهم الضحاك بن قيس. ذكره ابن جرير.
وروى ابن ديزيل، من طريق جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر، ويزيد بن الحسن بن علي، وغيرهما، قالوا: لما بلغ معاوية سير علي سار معاوية نحو علي واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو أبا الأعور السلمي، وعلى الساقة بسر بن أبي أرطأة حتى توافوا جميعا سائرين إلى جانب صفين.
وزاد ابن الكلبي فقال: جعل على المقدمة أبا الأعور السلمي، وعلى الساقة بسرا، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر، ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن الوليد، وجعل على الميمنة حبيب بن مسلمة، وعلى رجالتها يزيد بن زحر العنسي، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى رجالتها حابس بن سعد الطائي، وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس وعلى رجالتهم يزيد بن لبيد بن كرز البجلي، وجعل على أهل حمص ذا الكلاع، وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مخلد.
وقام معاوية في الناس خطيبا: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! والله ما أصبت الشام إلا بالطاعة، ولا أضبط حرب أهل العراق إلا بالصبر ولا أكابد أهل الحجاز إلا باللطف، وقد تهيأتم وسرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق.
وسار القوم ليمنعوا العراق ويأخذوا الشام، ولعمري ما للشام رجال العراق ولا أموالها، ولا للعراق خبرة أهل الشام ولا بصائرها، مع أن القوم وبعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم فإن غلبتموهم لم تغلبوا إلا من أناتكم، وإن غلبوكم غلبوا من بعدكم والقوم لاقوكم بكيد أهل العراق، ورقة أهل اليمن وبصائر أهل الحجاز، وقسوة أهل مصر، وإنما ينصر غدا من ينصر اليوم { اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا } [57]، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }. [58]
وقد بلغ عليا خطبة معاوية فقام في أصحابه فحرضهم على الجهاد، ومدحهم بالصبر، وشجعهم بكثرتهم بالنسبة إلى أهل الشام.
قال جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر وزيد بن أنس وغيرهما قالوا: سار علي في مائة وخمسين ألفا من أهل العراق وأقبل معاوية في نحو منهم من أهل الشام.
وقال غيرهم: أقبل علي في مائة ألف أو يزيدون، وأقبل معاوية في مائة ألف وثلاثين ألفا - رواها ابن ديزيل في كتابه - وقد تعاقد جماعة من أهل الشام على أن لا يفروا فعقلوا أنفسهم بالعمائم.
وكان هؤلاء خمسة صفوف ومعهم ستة صفوف آخرين، وكذلك أهل العراق كانوا أحد عشر صفا أيضا فتواقفوا على هذه الصفة أول يوم من صفر وكان ذلك يوم الأربعاء، وكان أمير الحرب يومئذٍ للعراقيين الأشتر النخعي، وأمير الحرب يومئذ للشاميين حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد انتصف بعضهم من بعض، وتكافؤا في القتال.
ثم أصبحوا من الغد يوم الخميس وأمير حرب أهل العراق هاشم بن عتبة، وأمير الشاميين يومئذٍ أبا الأعور السلمي فاقتتلوا قتالا شديدا تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال، ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد صبر كل من الفريقين للآخر وتكافؤا.
ثم خرج في اليوم الثالث - وهو يوم الجمعة - عمار بن ياسر من ناحية أهل العراق وخرج إليه عمرو بن العاص في الشاميين، فاقتتل الناس قتالا شديدا، وحمل على عمار عمرو بن العاص فأزاله عن موقفه وبارز زياد بن النضر الحارثي وكان على الخيالة رجلا فلما توقفا تعارفا فإذا هما أخوان من أم، فانصرف كل واحد منهما إلى قومه وترك صاحبه.
وتراجع الناس من العشي وقد صبر كل فريق لصاحبه، وخرج في اليوم الرابع - وهو يوم السبت -محمد بن علي - وهو ابن الحنفية - ومعه جمع عظيم فخرج إليه في كثير من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر، فاقتتل الناس قتالا شديدا.
وبرز عبيد الله بن عمر فطلب من ابن الحنفية أن يبرز إليه فبرز إليه.
فلما كادا أن يقتربا قال علي: من المبارز؟
قالوا: محمد ابنك وعبيد الله.
فيقال: إن عليا حرك دابته وأمر ابنه أن يتوقف وتقدم إلى عبيد الله فقال له: تقدم إلي.
قال له: لا حاجة لي في مبارزتك.
فقال: بلى.
فقال: لا.
فرجع عنه علي، وتحاجز الناس يومهم ذلك.
ثم خرج في اليوم الخامس - وهو يوم الأحد - في العراقيين عبد الله بن عباس، وفي الشاميين الوليد بن عقبة، واقتتل الناس قتالا شديدا، وجعل الوليد ينال من ابن عباس فيما ذكره أبو مخنف ويقول: قتلتم خليفتكم ولم تنالوا ما طلبتم، ووالله إن الله ناصرنا عليكم.
فقال له ابن عباس: فابرز إلي، فأبى عليه.
ويقال: إن ابن عباس قاتل يومئذ قتالا شديدا بنفسه رضي الله عنه.
ثم خرج في اليوم السادس - وهو يوم الاثنين - وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد، ومن جهة أهل الشام ابن ذي الكلاع فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا، وتصابروا ثم تراجعوا.
ثم خرج الأشتر النخعي في اليوم السابع - وهو يوم الثلاثاء - وخرج إليه قرنه حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا، ولم يغلب أحد أحدا في هذه الأيام كلها.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب أن عليا قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟
ثم قام في الناس عشية الأربعاء بعد العصر فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، وألقت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء لعجل النقمة وكان منه التعسير حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [59].
ألا وأنكم لاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وأسالوا الله النصر والصبر والقوة بالجد والحزم وكونوا صادقين.
قال: فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها قال: ومر بالناس وهم كذلك كعب بن جعيل التغلبي، فرأى ما يصفون فجعل يقول:
أصبحت الأمة في أمر عجب * والملك مجموع غدا لمن غلب
فقلت قولا غير كذب * إن غدا تهلك أعلام العرب
قال: ثم أصبح علي في جنوده قد عبأهم كما أراد، وركب معاوية في جيشه قد عبأهم كما أراد، وقد أمر علي كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام، فتقاتل الناس قتالا عظيما لا يفر أحد من أحد ولا يغلب أحد أحدا، ثم تحاجزوا عند العشي، وأصبح علي فصل الفجر بغلس وباكر القتال.
ثم استقبل أهل الشام فاستقبلوه بوجوههم فقال علي فيما رواه ابن مخنف عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب: اللهم رب السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته سقفا لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت فيه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة.
ورب الأرض التي جعلتها قرارا للأنام والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما نرى وما لا نرى من خلقك العظيم، ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحبط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا وللخلق متاعا إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي والفساد وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة وجنب بقية أصحابي من الفتنة.
ثم تقدم علي وهو في القلب في أهل المدينة وعلى ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى القراء عمار بن ياسر وقيس بن سعد، والناس على راياتهم فزحف بهم إلى القوم.
وأقبل معاوية - وقد بايعه أهل الشام على الموت - فتواقف الناس في موطن مهول وأمر عظيم وحمل عبد الله بن بديل أمير ميمنة على علي ميسرة أهل الشام وعليها حبيب بن مسلمة فاضطره حتى ألجأه إلى القلب، وفيه معاوية.
وقام عبد الله بن بديل خطيبا في الناس يحرضهم على القتال، ويحثهم على الصبر والجهاد.
وحرض أمير المؤمنين علي الناس على الصبر والثبات والجهاد، وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم وتلا عليهم آيات القتال من أماكن متفرقة من القرآن، فمن ذلك قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [60].
ثم قال: قدموا المدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس، فإنه أنكى للسيوف عن الهام وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه أفوق للأسنة وغضوا الأبصار فإنه أربط للجاش وأسكن للقلب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا نزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم.
وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم: أن عليا رضي الله عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقا حتى ذكر بعضهم: أنه قتل خمسمائة فمن ذلك أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هل من مبارز؟
فبرز إليه علي فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قال علي: هل من مبارز؟
فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله ثم برز إليه راود بن الحارث الكلاعي فقتله، ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله. فتلا علي قوله تعالى: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [61].
ثم نادى: ويحك يا معاوية ابرز إلي ولا تفتن العرب بيني وبينك.
فقال له عمرو بن العاص: اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة.
فقال له معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي، اذهب إليك فليس مثلي يخدع.
وذكروا أن عليا حمل على عمرو بن العاص يوما فضربه بالريح فألقاه إلى الأرض فبدت سوءته فرجع عنه.
فقال له أصحابه: مالك يا أمير المؤمنين رجعت عنه؟ فقال: أتدرون ما هو؟
قالوا: لا.
قال: هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحم، فرجعت عنه.
فلما رجع عمرو إلى معاوية قال له: أحمد الله، وأحمد إستك.
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، ثنا يحيى، ثنا نصر، ثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن نمير الأنصاري قال: والله لكأني أسمع عليا وهو يقول لأصحابه يوم صفين:
أما تخافون مقت الله حتى متى، ثم انفتل إلى القبلة يدعو ثم قال: والله ما سمعنا برئيس أصاب بيده ما أصاب علي يومئذ إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة رجل، يخرج فيضرب بالسيف حتى ينحني ثم يجيء فيقول: معذرة إلى الله وإليكم والله لقد هممت أن أقلعه، ولكن يحجزني عنه، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي ».
قال: فيأخذه فيصلحه ثم يرجع به، وهذا إسناد ضعيف وحديث منكر.
وحدثنا يحيى ثنا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يزيد بن حبيب: أنه أخبره من حضر صفين مع علي ومعاوية قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط قال: شهدنا صفين مع علي ومعاوية قال: فمطرت السماء علينا دما عبيطا.
قال الليث في حديثه: حتى أن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية.
قال ابن لهيعة: فتمتلئ ونهريقها.
وقد ذكرنا: أن عبد الله بن بديل كسر الميسرة التي فيها حبيب بن مسلمة حتى أضافها إلى القلب فأمر معاوية الشجعان أن يعاونوا حبيبا على الكرة وبعث إليه معاوية يأمره بالحملة والكرة على ابن بديل، فحمل حبيب بمن معه من الشجعان على ميمنة أهل العراق فأزالوهم عن أماكنهم وانكشفوا عن أميرهم حتى لم يبق معه إلا زهاء ثلاثمائة.
وانجفل بقية أهل العراق ولم يبق مع علي من تلك القبائل إلا أهل مكة وعليهم سهل بن حنيف، وثبت ربيعة مع علي رضي الله عنه واقترب أهل الشام منه حتى جعلت نبالهم تصل إليه.
وتقدم إليه مولى لبني أمية فاعترضه مولى لعلي فقتله الأموي وأقبل يريد عليا وحوله بنوه الحسن، والحسين، ومحمد بن حنفية، فلما وصل إلى علي أخذه علي بيده فرفعه ثم ألقاه على الأرض فكسر عضده ومنكبه وابتدره الحسين ومحمد بأسيافهما فقتلاه.
فقال علي للحسن ابنه وهو واقف معه: ما منعك أن تصنع كما صنعا؟
فقال: كفيان أمره يا أمير المؤمنين.
وأسرع إلى علي أهل الشام فجعل علي لا يزيده قربهم منه سرعة في مشيته بل هو سائر على هينته فقال له ابنه الحسن: يا أبة لو سعيت أكثر من مشيتك هذه؟
فقال: يا بني إن لأبيك يوما لن يعدوه ولا يبطىء به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي إن أباك والله ما يبالي وقع على الموت أو وقع عليه.
ثم إن عليا أمر الأشتر النخعي: أن يلحق المنهزمين فيردهم فسار فأسرع حتى استقبل المنهزمين من العراق فجعل يؤنبهم ويوبخهم ويحرض القبائل والشجعان منهم على الكرة فجعل طائفة تتابعه وآخرون يستمرون في هزيمتهم، فلم يزل ذلك دأبه حتى اجتمع عليه خلق عظيم من الناس، فجعل لا يلقى قبيلة إلا كشفها، ولا طائفة إلا ردها، حتى انتهى إلى أمير الميمنة وهو عبد الله بن بديل ومعه نحو في ثلاثمائة قد ثبتوا في مكانهم، فسألوا عن أمير المؤمنين فقالوا: حي صالح، فالتفوا إليه، فتقدم بهم حتى تراجع كثير من الناس وذلك ما بين صلاة العصر إلى الغروب.
وأراد ابن بديل: أن يتقدم إلى أهل الشام، فأمره الأشتر أن يثبت مكانه فإنه خير له، فأبى عليه ابن بديل.
وحمل نحو معاوية، فلما انتهى إليه وجده واقفا أمام أصحابه، وفي يده سيفان، وحوله كتائب أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بديل تقدم إليه جماعة منهم فقتلوه وألقوه إلى الأرض قتيلا، وفر أصحابه منهزمين وأكثرهم مجروح.
فلما انهزم أصحابه، قال معاوية لأصحابه: انظروا إلى أميرهم، فجاؤوا إليه فلم يعرفوه، فتقدم معاوية إليه فإذا هو عبد الله بن بديل.
فقال معاوية: هذا والله كما قال الشاعر وهو حاتم الطائي:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت يوما به الحرب شمرا
ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه * كذلك ذو الأشبال يحمي إذا ما تأمرا
كليث هزبر كان يحمي ذماره * رمته المنايا سهمها فتقطرا
ثم حمل الأشتر النخعي بمن رجع معه من المنهزمين فصدق الحملة حتى خالط الصفوف الخمسة الذين تعاقدوا أن لا يفروا، وهم حول معاوية فخرق منهم أربعة وبقي بينه وبين معاوية صف.
قال الأشتر: فرأيت هولا عظيما، وكدت أن أفر فما ثبتني إلا قول ابن الأطنابة وهي أمه من بلقين وكان هو من الأنصار وهو جاهلي:
أبت لي عفتي وأبي بلائي * وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة الرجل السميح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فهذا الذي ثبتني في ذلك الموقف.
والعجب أن ابن ديزيل روى في كتابه أن أهل العراق حملوا حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه، حتى أفضوا إلى معاوية فدعى بفرسه لينجو عليه، قال معاوية: فلما وضعت رجلي في الركاب تمثلت بأبيات عمرو بن الإطناب:
أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمل بالثمن البيح
وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فثبت ونظر معاوية إلى عمرو بن العاص فقال: اليوم صبر وغدا فخر.
فقال له عمرو: صدقت.
قال معاوية: فأصبت خير الدنيا، وأنا أرجو أن أصيب خير الآخرة.
ورواه محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن حاطب، عن معاوية، وبعث معاوية إلى خالد بن المعتمر وهو أمير الخيالة لعلي فقال له: اتبعني على ما أنت عليه، ولك إمرة العراق، فطمع فيه.
فلما ولي معاوية ولاه العراق فلم يصل إليها خالد رحمه الله.
ثم إن عليا لما رأى الميمنة قد اجتمعت رجع إلى الناس فأنب بعضهم وعذر بعضهم وحرض الناس وثبتهم ثم تراجع أهل العراق فاجتمع شملهم ودارت رحى الحرب بينهم، وجالوا في الشاميين وصالوا، وتبارز الشجعان فقتل خلق كثير من الأعيان من الفريقين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقيل: ممن قتل في هذا اليوم عبيد الله بن عمر بن الخطاب من الشاميين، واختلفوا فيمن قتله من العراقيين.
وقد ذكر إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: أن عبيد الله لما خرج يومئذ أميرا على الحرب أحضر امرأتيه أسماء بنت عطارد بن حاجب التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني فوقفتا وراءه في راحلتين لينظرا إلى قتاله وشجاعته وقوته، فواجهته من جيش العراقيين ربيعة الكوفة وعليهم زياد بن حفصة التميمي، فشدوا عليه شدة رجل واحد فقتلوه بعد ما انهزم عنه أصحابه، ونزلت ربيعة فضربوا لأميرهم خيمة فبقي طنب منها لم يجدوا له وتدا فشدوه برجل عبيد الله.
وجاءت امرأتاه يولولان حتى وقفتا عليه وبكتا عنده، وشفعت امرأته بحرية إلى الأمير فأطلقه لهما فاحتملتاه معهما في هودجهما، وقتل معه أيضا ذو الكلاع.
قال الشعبي: ففي مقتل عبيد الله بن عمر يقول كعب بن جعل التغلبي:
ألا إنما تبكي العيون لفارس * بصفين ولت خيله وهو واقف
تبدل من أسماء أسياف وائل * وكان فتى لو أخطأته المتالف
تركن عبيد الله بالقاع ثاويا * تسيل دماه والعروق نوازف
ينوء ويغشاه شآبيب من دم * كما لاح من جيب القميص الكفائف
وقد صبرت حول ابن عم محمد * لدى الموت أرباب المناقب شارف
فما برحوا حتى رأى الله صبرهم * وحتى رقت فوق الأكف المصاحف
وزاد غيره فيها:
معاويَ لا تنهض بغير وثيقة * فإنك بعد اليوم بالذل عارف
وقد أجابه أبو جهم الأسدي بقصيدة فيها أنواع من الهجاء تركناها قصدا.
وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله أهل الشام وبان وظهر بذلك سر ما أخبر به الرسول ﷺ من أنه تقتله الفئة الباغية وبان بذلك أن عليا محقٌ وأن معاوية باغٍ، وما في ذلك من دلائل النبوة.
ذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف، حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني: أن عمارا قال يومئذ: من يبتغي رضوان ربه ولا يلوي إلى مال ولا ولد؟
قال: فأتته عصابة من الناس.
فقال: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما والله ما قصدهم الأخذ بدمه ولا الأخذ بثأره ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلوها واستمروا الآخرة فقلوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم ولا الولاية عليهم، ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات، وتعقله عن إرادة الدنيا، وطلب العلو فيها، وتحمله على إتباع الحق والميل إلى أهله.
فخدعوا أتباعهم بقولهم: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجل ولكانوا أذل وأخس وأقل، ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين، فسيروا إلى الله سيرا جميلا، واذكروا ذكرا كثيرا.
ثم تقدم فلقيه عمرو بن العاص، وعبيد الله بن عمر، فلامهما وأنبهما ووعظمها، وذكروه من كلامه لهما ما فيه غلظة، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت عبد الله بن سلمة يقول: رأيت عمارا يوم صفين شيخا كبيرا آدم طوالا أخذ الحربة بيده ويده ترعد فقال: والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله ﷺ ثلاث مرات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أن مصلحينا على الحق، وأنهم على الضلالة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة وحجاج، حدثني شعبة، سمعت قتادة يحدث، عن أبي نضرة، قال حجاج: سمعت أبا نضرة، عن قيس بن عباد قال: قلت لعمار بن ياسر: أرأيت قتالكم مع علي رأيا رأيتموه؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهد عهده إليكم رسول الله ﷺ؟
فقال: ما عهد إلينا رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس كافة.
وقد رواه مسلم، من حديث شعبة، وله تمام عن عمار، عن حذيفة في المنافقين.
وهذا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن جماعة من التابعين، منهم: الحارث بن سويد، وقيس بن عبادة، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الأجرد وغيرهم، أن كلا منهم قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء عهده إليكم رسول الله ﷺ لم يعهده إلى الناس؟
فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرم ما بين ثبير إلى ثور.
وثبت في الصحيحين أيضا من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن سفيان بن مسلم، عن سهل بن حنيف، أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس؟ اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددت على رسول الله ﷺ أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا، فإنا لا نسد منه خصما إلا انفتح لنا غيره، لا ندري كيف نبالي له.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال: قام عمار يوم صفين، فقال: إيتوني بشربة لبن، فإن رسول الله ﷺ قال: « آخر شربة تشربها من الدنيا تشربها يوم تقتل ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري: أن عمارا أتي بشربة لبن فضحك، وقال: إن رسول الله قال لي: « آخر شراب أشربه لبن حين أموت ».
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: ثنا يحيى بن نصر، ثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي قال: سمعت الشعبي، عن الأحنف بن قيس قال: ثم حمل عمار بن ياسر عليهم، فحمل عليه ابن جوى السكسكي، وأبو الغادية الفزاري، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جوى فاحتز رأسه.
وقد كان ذو الكلاع سمع قول عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله ﷺ لعمار بن ياسر: « تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها صاع لبن »، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ويحك! ما هذا يا عمرو؟!
فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا.
قال: فلما أصيب عمار بعد ذو الكلاع.
قال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا بقتل عمار أو ذي الكلاع؟ والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام، ولأفسد علينا جندنا.
قال: وكان لا يزال يجيء رجل فيقول لمعاوية وعمرو: أنا قتلت عمارا.
فيقول له عمرو: فما سمعته يقول؟
فيخلطون حتى جاء جوى، فقال: أنا سمعته يقول:
اليوم ألقى الأحبة * محمدا وحزبه
فقال له عمرو: صدقت، أنت إنك لصاحبه.
ثم قال له: رويدا، أما والله ما ظفرت يداك، ولقد أسخطت ربك.
وقد روى ابن ديزيل، من طريق أبي يوسف، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن الكندي، عن أبيه، عن عمرو بن العاص: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
ورواه أيضا من حديث جماعة من التابعين أرسلوه، منهم: عبد الله بن أبي الهذيل، ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت، وحبة العرني، وساقه من طريق إبان، عن أنس مرفوعا.
ومن حديث عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي الزبير، عن حذيفة مرفوعا: « ما خُير عمار بين شيئين إلا اختار أرشدهما ».
وبه عن عمرو بن شمر، عن السري، عن يعقوب بن راقط قال: اختصم رجلان في سلب عمار وفي قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ليتحاكما إليه، فقال لهما: ويحكما اخرجا عني، فإن رسول الله ﷺ قال - ولعبت قريش بعمار -: « ما لهم ولعمار؟ عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار ».
قال: فبلغني أن معاوية قال: إنما قتله من أخرجه، يخدع بذلك أهل الشام.
وقال إبراهيم بن الحسين: حدثنا يحيى، ثنا عدي بن عمر، ثنا هشيم، ثنا العوام بن حوشب بن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد - وكان ناس عند علي ومعاوية - قال: بينا هو عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في قتل عمار، فقال لهما عبد الله بن عمرو: ليطب كل واحد منكما نفسا لصاحبه بقتل عمار، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « تقتله الفئة الباغية ».
فقال معاوية لعمرو: ألا تنهي عنا مجنونك هذا؟ ثم أقبل معاوية على عبد الله فقال له: فلم تقاتل معنا؟
فقال له: إن رسول الله ﷺ أمرني بطاعة والدي ما كان حيا، وأنا معكم، ولست أقاتل.
وحدثنا يحيى بن نصر، ثنا حفص بن عمران البرجمي، حدثني نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة: أن عبد الله بن عمر قال لأبيه: لولا أن رسول الله ﷺ أمرني بطاعتك ما سرت معك هذا المسير، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار بن ياسر: « تقتلك الفئة الباغية ».
وحدثنا يحيى، ثنا عبد الرحمن بن زياد، ثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي قال: جاء قاتل عمار يستأذن على معاوية وعنده عمرو، فقال: ائذن له، وبشره بالنار.
فقال الرجل: أو ما تسمع ما يقول عمرو؟
قال: صدق؟ إنما قتله الذين جاؤوا به!.
وهذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، عن جماعة من التابعين منهم: الحارث بن سويد، وقيس بن عبادة، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الأجرد، وغيرهم: أن كلا منهم قال: قلت لعلي هل عندكم شيء عهده إليكم رسول الله ﷺ لم يعهده إلى الناس؟
فقال: لا! والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟
فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرام ما بين ثبير إلى ثور.
وثبت في الصحيحين أيضا، من حديث الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين:
أيها الناس، اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أقدر أن أرد على رسول الله ﷺ أمره لرددته، والله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا.
وقال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن محمد، ثنا الوليد بن صالح، ثنا عطاء بن مسلم، عن الأعمش قال: قال أبو عبد الرحمن السلمي قال: كنا مع علي بصفين، وكنا قد وكلنا بفرسه نفسين يحفظانه يمنعانه أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلة حمل فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم، وقال: لولا أنه انثنى ما رجعت.
قال: ورأيت عمارا لا يأخذ واديا من أودية صفين إلا اتبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله ﷺ، ورأيته جاء إلى هاشم بن عتبة، وهو صاحب راية علي، فقال: يا هاشم تقدم! الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسنة، وقد فتحت أبواب الجنة، وتزينت الحور العين:
اليوم ألقى الأحبة * محمدا وحزبه
ثم حملا هو وهاشم فقتلا رحمهما الله تعالى، قال: وحمل حينئذ علي وأصحابه على أهل الشام حملة رجل واحد كأنهما - كان يعني عمارا وهاشما - علما لهم.
قال: فلما كان الليل قلت: لأدخلن الليلة إلى العسكر الشاميين حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا؟ - وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم -فركبت فرسي وقد هدأت الرجل، ثم دخلت عسكرهم فإذا أنا بأربعة يتسامرون معاوية، وأبو الأعور السلمي، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله بن عمرو، وهو خير الأربعة.
قال: فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول بعضهم لبعض، فقال عبد الله لأبيه: يا أبة قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله ما قال.
قال: وما قال؟
قال: ألم يكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنةً لبنةً، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين فغشي عليه؟ فأتاه رسول الله ﷺ فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: « ويحك يا ابن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا ولبنةً لبنةً، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين، رغبة منك في الأجر، وكنت مع ذلك، ويحك تقتلك الفئة الباغية ».
قال: فرجع عمرو، وصدر فرسه، ثم جذب معاوية إليه فقال: يا معاوية، أما تسمع ما يقول عبد الله؟
قال: وما يقول؟
قال: يقول وأخبره الخبر.
فقال معاوية: إنك شيخ أخرق، ولا تزال تحدث بالحديث، وأنت تدحض في بولك، أو نحن قتلنا عمارا؟ إنما قتل عمارا من جاء به.
قال: فخرج الناس من عند فساطيطهم، وأخبيتهم، وهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب هو أو هم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد قال: إني لأسير مع معاوية منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص.
فقال عبد الله بن عمرو: يا أبة، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار: « ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ».
قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول عبد الله هذا؟
فقال معاوية: لا يزال يأتينا بهنة بعد هنة، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به.
ثم رواه أحمد عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن الأعمش به نحوه.
تفرد به أحمد بهذا السياق من هذا الوجه، وهذا التأويل الذي سلكه معاوية رضي الله عنه بعيد، ثم لم ينفرد عبد الله بن عمرو بهذا الحديث، بل قد روي من وجوه أخر.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن خالد، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن المختار، وعبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبي سعيد في قصة بناء المسجد: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « يا ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ».
قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
وفي بعض نسخ البخاري: « يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ».
وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا شعبة، ثنا عمرو بن دينار، عن أبي هشام، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
وروى مسلم من حديث شعبة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني - يعني أبا قتادة - أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
وروى مسلم أيضا من حديث شعبة، عن خالد الحذاء، عن الحسن وسعيد ابني أبي الحسن، عن أمهما حرة، عن أم سلمة: أن رسول الله ﷺ قال لعمار: « تقتلك الفئة الباغية ».
ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، عن أبيه، عن أم سلمة به.
وفي رواية: « وقاتله في النار ».
وروى البيهقي، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصنعاني، عن أبي الجواب، عن عمار بن زريق، عن عمار الذهبي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار: « إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ».
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل - في سيرة علي - ثنا يحيى بن عبيد الله الكرابيسي، ثنا أبو كريب، ثنا أبو معاوية، عن عمار بن زريق، عن عمار الذهبي، عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إن الله قد أمننا أن يظلمنا، ولم يؤمنا أن يفتننا، أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع؟
قال: عليك بكتاب الله.
قلت: أرأيت إن جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله؟
فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ».
وروى ابن ديزيل، عن عمرو بن العاص نفسه حديثا في ذكر عمار، وأنه مع فرقة الحق، وإسناده غريب.
وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الله الصفار، ثنا الأسقاطي، ثنا أبو مصعب، ثنا يوسف بن الماجشون، عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر، عن مولاة لعمار قالت: اشتكى عمار شكوى أرق منها فغشي عليه، فأفاق ونحن نبكي حوله، فقال: ما تبكون؟ أتخشون أن أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي ﷺ أنه تقتلني الفئة الباغية، وأن آخر زادي من الدنيا مذقة من لبن.
وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا رسول الله ﷺ ببناء المسجد، فجعلنا ننقل لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فتترب رأسه قال: فحدثني أصحابي ولم أسمعه من أن رسول الله أنه جعل ينفض رأسه ويقول: « ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ». تفرد به أحمد.
وما زاده الروافض في هذا الحديث بعد قوله الباغية، لا أنالها والله شفاعتي يوم القيامة، فهو كذب وبهت على رسول الله ﷺ، فإنه قد ثبتت الأحاديث عنه صلوات الله عليه وسلامه بتسمية الفريقين مسلمين، كما سنورده قريبا إن شاء الله.
قال ابن جرير: وقد ذكر أن عمارا لما قتل، قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي.
فانتدب له نحو من اثني عشر ألفا، وتقدمهم علي ببغلته، فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية، وعلي يقاتل ويقول:
أضربهم ولا أرى معاوية * الجاحظ العين عظيم الحاوية
قال: ثم دعى علي معاوية إلى أن يبارزه، فأشار عليه بالخروج إليه عمرو بن العاص، فقال له معاوية: إنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، ولكنك طمعت فيها بعدي.
ثم قدم على ابنه محمد في عصابة كثيرة من الناس فقاتلوه قتالا شديدا، ثم تبعه علي في عصابة أخرى، فحمل بهم فقتل في هذا الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله، وقتل من العراقيين خلق كثير أيضا، وطارت أكف ومعاصم ورؤوس عن كواهلها رحمهم الله.
ثم حانت صلاة المغرب فما صلى بالناس إلا إيماء صلاتي العشاء واستمر القتال في هذه الليلة كلها، وهي من أعظم الليالي شرا بين المسلمين، وتسمى هذه الليلة: ليلة الهرير.
وكانت ليلة الجمعة تقصفت الرماح، ونفذت النبال، وصار الناس إلى السيوف، وعلي رضي الله عنه يحرض القبائل ويتقدم أيهم يأمر بالصبر والثبات، وهو أمام الناس في قلب الجيش، وعلى الميمنة الأشتر تولاها بعد قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة - وعلى الميسرة ابن عباس، والناس يقتتلون من كل جانب، فذكر غير واحد من علمائنا علماء السير - أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت، وبالنبال حتى فنيت، وبالسيوف حتى تحطمت.
ثم صاروا إلى أن تقاتلوا الأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه، وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلّى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام، وذلك أن الأشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة، فجعل بمن فيها على أهل الشام، وتبعه علي فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: هذا بيننا وبينكم وقد فني الناس فمن للثغور؟ ومن لجهاد المشركين والكفار؟
وذكر ابن جرير وغيره من أهل التاريخ: أن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص، وذلك لما رأى أن أهل العراق قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وأن يتأخر الأمر فإن كلا من الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون.
فقال إلى معاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك بَرَدَ القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي بالنهروان فيما استجابوا له، وفيما فارقوه، وفيما استحل قتالهم؟
فقال: كنا بصفين فلما استحر القتال بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف فادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك.
فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [62].
فقال علي: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله.
قال: فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ القراء، وسيوفهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ينتظر هؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم سيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟
فتكلم سهل بن حنيف فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني: الصلح الذي كان بين رسول الله وبين المشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟
وذكر تمام الحديث كما تقدم في موضعه.
رفع أهل الشام المصاحف
فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق: نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه أن عليا قال: عباد الله أمضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح، والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله إنهم ما رفعوها إنهم يقرأونها ولا يعملون بما فيها وما رفعوها إلا خديعة ودهاء ومكيدة.
فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.
فقال لهم: إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به، وتركوا عهده، ونبذوا كتابه.
فقال له مسعر بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، ثم السبائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك.
قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم وأحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم.
قالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك ويكف عن القتال.
فبعث إليه علي ليكف عن القتال.
وقد ذكر الهيثم بن عدي في كتابه الذي صنفه في الخوارج فقال قال ابن عباس: فحدثني محمد بن المنتشر الهمداني عن من شهد صفين وعن ناس من رؤوس الخوارج ممن لا يتهم على كذب: أن عمار بن ياسر كره ذلك وأبى وقال في علي بعض ما أكره ذكره ثم قال: من رائح إلى الله قبل أن يبتغي غير الله حكما؟ فحمل فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه.
وكان ممن دعا إلى ذلك سادات الشاميين: عبد الله بن عمرو بن العاص قام في أهل العراق فدعاهم إلى الموادعة والكف وترك القتال والائتمار بما في القرآن وذلك عن أمر معاوية له بذلك رضي الله عنهما.
وكان ممن أشار على علي بالقبول والدخول في ذلك: الأشعث بن قيس الكندي رضي الله عنه.
فروى أبو مخنف من وجه آخر: أن عليا لما بعث إلى الأشتر قال: قل له إنه ليس هذه ساعة ينبغي أن لا تزيلني عن موقفي فيها، إني قد رجوت أن يفتح الله علي فلا تعجلني، فرجع الرسول - وهو يزيد بن هانئ - إلى علي فأخبره عن الأشتر بما قال، وصمم الأشتر على القتال لينتهز الفرصة، فارتفع الهرج وعلت الأصوات.
فقال أولئك القوم لعلي: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل.
فقال: أرأيتموني ساررته؟ ألم أبعث إليه جهر وأنتم تسمعون؟
فقالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك.
فقال علي ليزيد بن هانئ: ويحك!
قال له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت، فلما رجع إليه يزيد بن هانئ فأبلغه عن أمير المؤمنين أنه ينصرف عن القتال ويقبل إليه، جعل يتململ ويقول: ويحك ألا ترى إلى ما نحن فيه من النصر، ولم يبق إلا القليل؟
فقلت: أيهما أحب إليك أن تقبل أو يقتل أمير المؤمنين كما قتل عثمان؟
ثم ماذا يغني عنك نصرتك هاهنا؟
قال: فأقبل الأشتر إلى علي وترك القتال.
فقال: يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح.
قالوا: لا.
قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر.
قالوا: إذا ندخل معك في خطيئتك.
ثم أخذ الأشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله: إن كان أول قتالكم هؤلاء حقا فاستمروا عليه وإن كان باطلا فاشهدوا لقتلاكم بالنار.
فقالوا: دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبدا ونحن قاتلنا هؤلاء في الله وتركنا قتالهم لله.
فقال لهم الأشتر: خدعتم والله فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب السوء كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم بربانيين بعدها، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.
فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم، وجرت بينهم أمور طويلة، ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تفانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير.
كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم يفر أحد عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفا خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق.
قاله غير واحد منهم ابن سيرين، وسيف، وغيره.
وزاد أبو الحسن ابن البراء - وكان من أهل العراق -خمسة وعشرون بدريا قال: وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفا واختلفا في مدة المقام بصفين.
فقال سيف: سبعة أشهر أو تسعة أشهر.
وقال أبو الحسن بن البراء: مائة وعشرة أيام.
قلت: ومقتضى كلام أبي مخنف أنه كان من مستهل ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من صفر، وذلك سبعة وسبعون يوما فالله أعلم.
وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسا هذا كله ملخص من كلام ابن جرير وابن الجوزي في المنتظم.
وقد روى البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان، عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو: كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفا، فقتل منهم أربعون ألفا.
وحمل البيهقي هذه الوقعة على الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.
ورواه البخاري من حديث شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
ومن حديث شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: « لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يقتل بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة ».
ورواه مجالد، عن أبي الحواري، عن أبي سعيد مرفوعا مثله.
ورواه الثوري، عن ابن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: « لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرق منهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ».
وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، عن مهدي، وإسحاق، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي بن خراش، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « إن رحى الإسلام ستزول لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما ».
فقال عمر: يا رسول الله، أمما مضى؟ أم مما بقي؟
قال: « بل مما بقي ».
وقد رواه إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتاب جمعه في سيرة علي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن شريك، عن منصور به مثله.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم، ثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله ﷺ: « إن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين سنة فإن يصطلحوا فيما بينهم يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من كان قبلهم ».
وقال ابن ديزيل: حدثنا عبد الله بن عمر، ثنا عبد الله بن خراش الشيباني، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التميمي قال: قال رسول الله ﷺ: « تدور رحى الإسلام عند قتل رجل من بني أمية » - يعني: عثمان رضي الله عنه -.
وقال أيضا: حدثنا الحكم عن نافع، عن صفوان بن عمرو، عن الأشياخ: أن رسول الله ﷺ دعي إلى جنازة رجل من الأنصار فقال - وهو قاعد ينتظرها -: « كيف أنتم إذا راعيتم حبلين كذا في الإسلام؟ ».
قال أبو بكر: أو يكون ذلك في أمة إلهها واحد ونبيها واحد؟
قال: « نعم ».
قال: أفأدرك ذلك يا رسول الله؟
قال: « لا ».
قال عمر: أفأدرك ذلك يا رسول الله؟
قال: « لا ».
قال: عثمان أفأدرك ذلك يا رسول الله؟
قال: « نعم بك يفتنون ».
وقال أيضا عمر لابن عباس: كيف يختلفون وإلههم واحد وكتابهم واحد وملتهم واحدة؟
فقال: إنه سيجيء قوم لا يفهمون القرآن كما نفهمه، فيختلفون فيه فإذا اختلفوا فيه اقتتلوا، فأقر عمر بن الخطاب بذلك.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم، ثنا سعيد بن عبد الرحمن - أخو أبي حمزة - ثنا محمد بن سيرين قال: لما قتل عثمان قال عدي بن حاتم: لا ينتطح في قتله عنزان.
فلما كان يوم صفين فقئت عينه فقيل: لا ينتطح في قتله عنزان فقال: بلى وتفقأ عيون كثيرة.
وروي عن كعب الأحبار: أنه مر بصفين فرأى حجارتها فقال: لقد اقتتل في هذا الموضع بنو إسرائيل تسع مرات وإن العرب ستقتتل فيها العاشرة حتى يتقاذفوا بالحجارة التي تقاذف فيها بنو إسرائيل ويتفانوا كما تفانوا.
وقد ثبت في الحديث: أن رسول الله ﷺ قال: « سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من سواهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يسلط بعضهم على بعض فمنعنيها ».
ذكرنا ذلك عند تفسير قوله تعالى: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [63].
قال رسول الله: « هذا أهون ».
قصة التحكيم
ثم تراوض الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات يطول ذكرها على التحكيم، وهو أن يحكِّم كل واحد من الأميرين - علي ومعاوية - رجلا من جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة للمسلمين.
فوكل معاوية عمرو بن العاص، وأراد علي أن يوكل عبد الله بن عباس - وليته فعل - ولكنه منعه القراء ممن ذكرنا، وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري.
وذكر الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج له: أن أول من أشار بأبي موسى الأشعري الأشعث بن قيس، وتابعه أهل اليمن، ووصفوه أنه كان ينهى الناس عن الفتنة والقتال.
وكان أبو موسى قد اعتزل في بعض أرض الحجاز، قال علي: فإني أجعل الأشتر حكما.
فقالوا: وهل سعر الحرب وشعر الأرض إلا الأشتر؟
قال: فاصنعوا ما شئتم.
فقال الأحنف لعلي: والله لقد رميت بحجر، إنه لا يصلح هؤلاء القوم إلا رجل منهم يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبتعد حتى يصير بمنزلة النجم، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا وثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا أحلها، ولا يحل عقدة عقدتها إلا عقدت لك أخرى مثلها أو أحكم منها.
قال: فأبوا إلا أبا موسى الأشعري فذهبت الرسل إلى أبي موسى الأشعري - وكان قد اعتزل - فلما قيل له: إن الناس قد اصطلحوا.
قال: الحمد لله.
قيل له: وقد جعلت حكما.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أخذوه حتى أحضروه إلى علي رضي الله عنه.
وكتبوا بينهم كتابا هذه صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه هو أميركم وليس بأميرنا.
فقال الأحنف: لا تكتب إلا أمير المؤمنين.
فقال علي: امح أمير المؤمنين واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب ثم استشهد علي بقصة الحديبية حين امتنع أهل مكة هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فامتنع المشركون من ذلك وقالوا: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
فكتب الكاتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل العراق ومن معهم من شيعتهم والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معه من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ونحيي ما أحيى الله، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص - عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله، فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.
ثم أخذ الحكمان من علي، ومعاوية، ومن الجندين، العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كليهما عهد الله وميثاقه أنهما على ما في هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك على تراض منهما.
وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.
وقد ذكر الهيثم في كتابه في (الخوارج): أن الأشعث بن قيس لما ذهب إلى معاوية بالكتاب وفيه: هذا ما قاضى عبد الله علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان.
قال معاوية: لو كان أمير المؤمنين لم أقاتله، ولكن ليكتب اسمه وليبدأ به قبل اسمي لفضله وسابقته.
فرجع إلى علي فكتب كما قال معاوية.
وذكر الهيثم: أن أهل الشام أبوا أن يبدأ باسم علي قبل معاوية وباسم أهل العراق قبلهم حتى كتب كتابان كتاب لهؤلاء فيه تقديم معاوية على علي وكتاب آخر لأهل العراق بتقديم اسم علي وأهل العراق على معاوية وأهل الشام.
وهذه تسمية من شهد على هذا التحكيم من جيش علي: عبد الله بن عباس، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، وعبد الله بن الطفيل المعافري، وحجر بن يزيد الكندي، وورقاء بن سمي العجلي، وعبد الله بن بلال العجلي، وعقبة بن زياد الأنصاري، ويزيد بن جحفة التميمي، ومالك بن كعب الهمداني، فهؤلاء عشرة.
وأما من الشاميين فعشرة آخرون وهم: أبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ومخارق بن الحارث الزبيدي، ووائل بن علقمة العدوي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وحمزة بن مالك الهمداني، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، ويزيد بن الحر العبسي.
وخرج الأشعث بن قيس بذلك الكتاب يقرؤه على الناس، ويعرضه على الطائفتين، ثم شرع الناس في دفن قتلاهم.
قال الزهري: بلغني أنه دفن في كل قبر خمسون نفسا، وكان علي قد أسر جماعة من أهل الشام.
فلما أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية وكان قد عزم على قتلهم لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أولئك الذين أطلقهم أطلق معاوية الذين في يده.
ويقال: إن رجلا يقال له عمرو بن أوس - من الأزد -كان من الأسارى فأراد معاوية قتله فقال: امنن عليّ فإنك خالي.
فقال: ويحك! من أين أنا خالك؟
فقال: إن أم حبيبة زوجة رسول الله ﷺ، وهي أم المؤمنين وأنا ابنها وأنت أخوها وأنت خالي.
فأعجب ذلك معاوية وأطلقه.
وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وذكر أهل صفين - فقال: كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنوهم.
قال الشعبي: هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضا فلم يفر أحد من أحد.
خروج الخوارج
وذلك أن الأشعث بن قيس مر على ملأ من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه عروة بن أذينة وهي أمه وهو عروة بن جرير من بني ربيعة بن حنظلة، وهو أخو أبي بلال بن مرداس بن جرير فقال: أتحكمون في دين الله الرجال؟
ثم ضرب بسيفه عجز دابة الأشعث بن قيس، فغضب الأشعث وقومه، وجاء الأحنف بن قيس وجماعة من رؤسائهم يعتذرون إلى الأشعث بن قيس من ذلك.
قال الهيثم بن عدي: والخوارج يزعمون أن أول من حكم عبد الله بن وهب الراسبي.
قلت: والصحيح الأول وقد أخذ هذه الكلمة من هذا الرجل طوائف من أصحاب علي من القراء وقالوا: لا حكم إلا الله، فسموا المحكمية وتفرق الناس إلى بلادهم من صفين، وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه، ورجع علي إلى الكوفة على طريق هيت فلما دخل الكوفة سمع رجلا يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء.
فقال علي: للذين فارقناهم خير من هؤلاء وأنشأ يقول:
أخوك الذي إن أحرجتك ملمةٌ * من الدهر لم يبرح لبثك راحما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت * عليك أمورٌ ظل يلحاك لائما
ثم مضى فجعل يذكر الله حتى دخل قصر الإمارة من الكوفة، ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل من جيشه قريب من - اثني عشر ألفا - وهم الخوارج، وأبوا أن يساكنوه في بلده، ونزلوا بمكان يقال له حروراء وأنكروا عليه أشياء فيما يزعمون أنه ارتكبها.
فبعث إليهم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع أكثرهم وبقي بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه كما سيأتي بيانه وتفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن هؤلاء الخوارج هم المشار إليهم في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله ﷺ قال: « تمرق مارقة على حين فرقة من الناس - وفي رواية: من المسلمين، وفي رواية: من أمتي - فيقتلها أولى الطائفتين ».
وهذا الحديث له طرق متعددة، وألفاظ كثيرة، قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، وعفان بن القاسم بن الفضل، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.. قال: قال رسول الله ﷺ: « تمرق مارقة عند فُرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ».
رواه مسلم، عن شيبان بن فروخ، عن القاسم بن محمد به.
وقال أحمد: حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ: « تكون أمتي فرقتين تخرج بينهما مارقة تلي قتلها أولاهما ».
ورواه مسلم من حديث قتادة وداود بن أبي هند، عن أبي نضرة به.
وقال أحمد: حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، أن رسول الله ﷺ « ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق هم شر الخلق - أو من شر الخلق - يقتلهم أدنى الطائفتين من الحق ».
قال أبو سعيد: فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا عوف، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ﷺ: « تفترق أمتي فرقتين فتمرق بينهما مارقة فيقتلها أولى الطائفتين بالحق ».
ورواه عن يحيى القطان، عن عوف وهو الأعرابي به مثله.
فهذه طرق متعددة عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وهو أحد الثقات الرفعاء، ورواه مسلم أيضا من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن الضحاك الشرقي، عن أبي سعيد بنحوه.
فهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام، من تكفيرهم أهل الشام.
وفيه: أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن عليا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدا، وهو مأجور إن شاء الله، ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في (صحيح البخاري) من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال: « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ».
وسيأتي بيان كيفية قتال علي رضي الله عنه للخوارج، وصفة المخدج الذي أخبر عنه عليه السلام فوجد كما أخبر ففرح بذلك علي رضي الله عنه وسجد للشكر.
فصل قد تقدم أن عليا رضي الله عنه لما رجع من الشام بعد وقعة صفين
ذهب إلى الكوفة، فلما دخلها انعزل عنه طائفة من جيشه، قيل: ستة عشر ألفا وقيل: اثني عشر ألفا، وقيل: أقل من ذلك، فباينوه وخرجوا عليه، وأنكروا أشياء.
فبعث إليهم عبد الله بن عباس فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه شبهة، ولم يكن له حقيقة في نفس الأمر، فرجع بعضهم واستمر بعضهم على ضلالهم حتى كان منهم ما سنورده قريبا.
ويقال: إن عليا رضي الله عنه ذهب إليهم فناظرهم فيما نقموا عليه حتى استرجعهم عما كانوا عليه، ودخلوا معه الكوفة، ثم إنهم عاهدوا فنكثوا ما عاهدوا عليه وتعاهدوا فيما بينهم على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام على الناس في ذلك، ثم تحيزوا إلى موضع يقال له: النهروان، وهناك قاتلهم علي كما سيأتي.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع، حدثني يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القارئ قال: جاء عبد الله بن شداد فدخل على عائشة ونحن عند مرجعه من العراق ليالي قتل علي، فقالت له: يا عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسالك عنه؟
فحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي.
فقال: ومالي لا أصدقك؟
قالت: فحدثني عن قصتهم.
قال: فإن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمان، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها: حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، واسم سمّاك به الله.
ثم انطلقت فحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ عليا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر فأذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلا قد حمل القرآن.
فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف! حدث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه فماذا تريد؟
قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَما مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } [64].
فأمة محمد ﷺ أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا عليّ أن كاتبت معاوية كتبت علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله ﷺ بالحديبية حين صالح قومه قريشا، فكتب رسول الله ﷺ: « بسم الله الرحمن الرحيم ».
فقال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
قال: « كيف تكتب؟ »
قال: أكتب باسمك اللهم!
فقال رسول الله ﷺ: « اكتب » فكتب.
فقال: « اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ».
فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك.
فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشا.
يقول الله تعالى في كتابه: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } [65].
فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطت عسكرهم فقام ابن الكوا فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه، هذا ممن نزل فيه وفي قومه { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [66].
فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله.
فقال بعضهم: والله لنواضعنه فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطله، فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، فيهم ابن الكوا، حتى أدخلهم على عليّ الكوفة.
فبعث علي إلى بقيتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد ﷺ بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما، أو تقطعوا سبيلا، أو تظلموا ذمة، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } [67].
فقالت له عائشة: يا ابن شداد فقتلهم.
فقالوا: والله ما بعثت إليهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدماء، واستحلوا أهل الذمة.
فقالت: الله.
قال: الله لا إله إلا هو، قد كان ذلك.
قالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق يقولون ذو الثدي وذو الثدية؟
قال: قد رأيته وكنت مع علي في القتلى فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا؟
فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك.
قالت: فما قول علي حيث قام عليه كما يزعم أهل العراق؟
قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله.
قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك؟
قال: اللهم لا!
قالت: أجل! صدق الله ورسوله، يرحم الله عليا إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله.
فيذهب أهل العراق يكذبون عليه و يزيدون عليه في الحديث تفرد به أحمد وإسناده صحيح، واختاره الضياء ففي هذا السياق ما يقتضي أن عدتهم كانوا ثمانية آلاف، لكن من القراء، وقد يكون واطأهم على مذهبهم آخرون من غيرهم حتى بلغوا اثني عشر ألفا، أو ستة عشر ألفا.
ولما ناظرهم ابن عباس رجع منهم أربعة آلاف وبقي بقيتهم على ما هم عليه، وقد رواه يعقوب بن سفيان، عن موسى بن مسعود، عن عكرمة بن عمار، عن سماك أبي زميل، عن ابن عباس فذكر القصة وأنهم عتبوا عليه في كونه حكم الرجال، وأنه محى اسمه من الأمرة، وأنه غزا يوم الجمل فقتل الأنفس الحرام، ولم يقسم الأموال والسبي، فأجاب عن الأولين بما تقدم.
وعن الثالث بما قال: قد كان في السبي أم المؤمنين فإن قلتم لست لكم بأمٍ فقد كفرتم، وإن استحللتم سبي أمهاتكم فقد كفرتم.
قال: فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فتقاتلوا.
وذكر غيره: أن ابن عباس لبس حلة لما دخل عليهم، فناظروه في لبسه إياها، فاحتج بقوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } الآية [68].
وذكر ابن جرير أن عليا خرج بنفسه إلى بقيتهم، فلم يزل يناظرهم حتى رجعوا معه إلى الكوفة، وذلك يوم عيد الفطر أو الأضحى شك الراوي في ذلك، ثم جعلوا يعرضون له في الكلام ويسمعونه شتما ويتأولون بتأويل في قوله.
قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لعلي وهو في الصلاة: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [69].
فقرأ علي: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [70].
وقد ذكر ابن جرير أن هذا كان وعلي في الخطبة.
وذكر ابن جرير أيضا أن عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال: يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلا لله، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله.
فجعل علي يقول: هذه كلمة حق يراد بها باطل، ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم فيئا ما دامت أيديكم معنا، وأن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدؤنا.
ثم إنهم خرجوا بالكلية عن الكوفة وتحيزوا إلى النهروان وأن على ما سنذكره بعد حكم الحكمين.
اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص بدومة الجندل
وذلك في شهر رمضان كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين.
وقال الواقدي: اجتمعوا في شعبان وذلك أن عليا رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ، ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومنهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح - وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام، بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل - وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي.
وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبي جهم بن حذيفة.
وزعم بعض الناس أن سعد بن أبي وقاص شهدهم أيضا، وأنكر حضوره آخرون.
وقد ذكر ابن جرير أن عمر بن سعد خرج إلى أبيه وهو على ماء لبني سليم بالبادية معتزل: فقال يا أبة: قد بلغك ما كان الناس بصفين، وقد حكم الناس أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وقد شهدهم نفر من قريش، فأشهدهم فإنك صاحب رسول الله ﷺ، وأحد أصحاب الشورى ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة فاحضر إنك أحق الناس بالخلافة.
فقال: لا أفعل! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إنه ستكون فتنة خير الناس فيها الخفي البقي » والله لا أشهد شيئا من هذا الأمر أبدا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، ثنا بكر بن سمار، عن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجا من المدينة فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب.
فلما أتاه قال: يا أبة أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟
فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي »، وهكذا رواه مسلم في صحيحه.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا كثير بن زيد الأسلمي، عن المطلب، عن عمر بن سعد، عن أبيه أنه جاءه ابنه عامر فقال: يا أبة: الناس يقاتلون على الدنيا وأنت ههنا؟
فقال: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا؟ لا والله حتى أعطي سيفا إن ضربت به مؤمنا نبا عنه، وإن ضربت به كافرا قتلته، سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن الله يحب الغني الخفي التقي ».
وهذا السياق كان عكس الأول، والظاهر أن عمر بن سعد استعان بأخيه عامر على أبيه ليشير عليه أن يحضر أمر التحكيم لعلهم يعدلون عن معاوية وعلي ويولونه فامتنع سعد من ذلك وأباه أشد الأباء وقنع بما هو فيه من الكفاية والخفاء.
كما ثبت في (صحيح مسلم) أن رسول الله ﷺ قال: « قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ».
وكان عمر بن سعد هذا يحب الإمارة، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه في موضعه، ولو قنع بما كان أبوه عليه لم يكن شيء من ذلك.
والمقصود أن سعدا لم يحضر أمر التحكيم، ولا أراد ذلك، ولاهم به، وإنما حضره من ذكرنا.
فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين، ونظرا في تقدير أمور، ثم اتفقا على أن يعزلا عليا ومعاوية، ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم منهما أو من غيرهما.
وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له عمرو: فولِّ ابن عبد الله فإنه يقاربه في العلم والعمل والزهد.
فقال له أبو موسى: إنك قد غمست ابنك في الفتن معك، وهو مع ذلك رجل صدق.
قال أبو مخنف: فحدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمرو بن العاص: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم.
وكان ابن عمر فيه غفلة، فقال له ابن الزبير: افطن وانتبه.
فقال ابن عمر: لا والله لا أرشو عليها شيئا أبدا، ثم قال: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتشاكت بالرماح، فلا تردنهم في فتنة مثلها أو أشد منها ثم إن عمرو بن العاص حاول أبا موسى على أن يقر معاوية وحده على الناس فأبى عليه، ثم حاوله ليكون ابنه عبد الله بن عمرو هو الخليفة، فأبى أيضا.
وطلب أبو موسى من عمرو أن يوليا عبد الله بن عمر فامتنع عمرو أيضا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية وعليا ويتركا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على من يختاروه لأنفسهم.
ثم جاءا إلى المجمع الذي فيه الناس - وكان عمرو لا يتقدم بين يدي أبي موسى بل يقدّمه في كل الأمور أدبا وإجلالا - فقال له: يا أبا موسى قم فأعلم الناس بما اتفقنا عليه.
فخطب أبو موسى الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على رسول الله صلى لله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أمرا أصلح لها ولا ألم لشعثها، من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أنا نخلع عليا ومعاوية ونترك الأمر شورى، وتستقبل الأمة هذا الأمر فيولوا عليهم من أحبوه، وإني قد خلعت عليا ومعاوية.
ثم تنحى وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه - وكان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف، فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة، والاجتهاد يخطئ ويصيب.
ويقال: إن أبا موسى تكلم معه بكلام فيه غلظة ورد عليه عمرو بن العاص مثله.
وذكر ابن جرير أن شريح بن هانئ - مقدم جيش علي - وثب على عمرو بن العاص فضربه بالسوط، وقام إليه ابنٌ لعمر فضربه بالسوط، وتفرق الناس في كل وجه إلى بلادهم، فأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية فسلموا عليه بتحية الخلافة.
وأما أبو موسى فاستحيى من علي فذهب إلى مكة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي فأخبراه بما فعل أبو موسى وعمرو، فاستضعفوا رأي أبي موسى وعرفوا أنه لا يوازن عمرو بن العاص.
فذكر أبو مخنف عن أبي جناب الكلبي أن عليا لما بلغه ما فعل عمرو كان يلعن في قنوته معاوية، وعمرو بن العاص، وأبا الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، والضحاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والوليد بن عتبة.
فلما بلغ ذلك معاوية كان يلعن في قنوته عليا، وحسنا وحسينا، وابن عباس، والأشتر النخعي، ولا يصح هذا والله أعلم.
فأما الحديث الذي قال البيهقي في (الدلائل): أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا قتيبة بن سعيد، عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد وحبيب بن يسار، عن سويد بن غفلة قال: إني لأمشي مع علي بشط الفرات.
فقال: قال رسول الله ﷺ: « إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين، فضلا وأضلا، وإن هذه الأمة ستختلف، فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين، فيضلاّن ويضلاّن من اتبعهما ».
فإنه حديث منكر ورفعه موضوع والله أعلم.
إذ لو كان هذا معلوما عند علي لم يوافق على تحكيم الحكمين حتى لا يكون سببا لإضلال الناس، كما نطق به هذا الحديث.
وآفة هذا الحديث هو: زكريا بن يحيى وهو الكندي الحميري الأعمى، قال ابن معين: ليس بشيء.
خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا
لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على عليّ وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا: لا حكم إلا لله.
فقال علي: لا حكم إلا لله.
فقال له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودا وقد قال الله تعالى: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } الآية [71].
فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.
فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه.
فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه.
فقال علي: تبا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح.
فقال: وددت أن قد كان ذلك.
فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم.
فخرجا من عنده يحكمان وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه.
فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع إصبعه في أذنيه يقول: « ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين » [72].
فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: حكم الله ننتظر فيكم.
ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.
وقال أبو محنف، عن عبد الملك، عن أبي حرّة: أن عليا لما بعث أبا موسى لأنفاذ الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة.
ثم قام حرقوص بن زهير فقال: بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [73].
فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها.
فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي - وكان من رؤوسهم - فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت.
واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [74].
وقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [75].
وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن سخبرة السلمي.
ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟
قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم.
وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنا } [76].
والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطأوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم - ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها - فيوافوهم إليها، ويكون اجتماعهم عليها.
فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم.
فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليه ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات.
ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسؤول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات.
وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنه من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة.
وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان، وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة، وعندهم أنهم متقربون بذلك.
فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان.
وقال أبو مخنف، عن أبي روق، عن الشعبي: أن عليا لما خرجت الخوارج إلى النهروان، وهرب أبو موسى إلى مكة، ورد ابن عباس إلى البصرة، قام في الناس بالكوفة خطيبا فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل الكادح، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدا رسول الله، أما بعد.
فإن المعصية تشين وتسوء وتورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري، ونحلتكم رأيي، فأبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد عليهما ما حكما به وأنبهما، وقال ما فيه حط عليهما، ثم ندب الناس إلى الخروج إلى الجهاد في أهل الشام، وعين لهم يوم الاثنين يخرجون فيه، وندب إلى ابن عباس والي البصرة يستنفر له الناس إلى الخروج إلى أهل الشام.
وكتب إلى الخوارج يعلمهم أن الذي حكم به الحكمان مردود عليهما، وأنه قد عزم على الذهاب إلى الشام فهلموا حتى نجتمع على قتالهم.
فكتبوا إليه: أما بعد.
فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك وإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } [77].
فلما قرأ علي كتابهم يئس منهم، وعزم على الذهاب إلى أهل الشام ليناجزهم، وخرج من الكوفة إلى النخيلة في عسكر كثيف - خمسة وستين ألفا - وبعث إليه ابن عباس بثلاثة آلاف ومائتي فارس من أهل البصرة مع جارية بن قدامة ألف وخمسمائة.
ومع أبي الأسود الدؤلي ألف وسبعمائة، فكمل جيش علي في ثمانية وستين ألف فارس ومائتي فارس وقام علي أمير المؤمنين خطيبا: فحثهم على الجهاد والصبر عند لقاء العدو، وهو عازم على الشام، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادا، وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم.
وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ﷺ، أسروه وامرأته معه وهي حامل، فقالوا: من أنت؟
قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ﷺ، وإنكم قد روعتموني.
فقالوا: لا بأس عليك، حدثنا ما سمعت من أبيك.
فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي » فاقتادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرا لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم فشق جلده.
فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي؟
فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه وبينا هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه.
فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟
فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاؤوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله؟
فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها.
فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهؤلاء.
ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضا، فأرسل علي إلى الخوارج رسولا من جهته وهو الحرث بن مرة العبدي.
فقال: اخبر لي خبرهم، وأعلم لي أمرهم، واكتب إليّ به على الجلية.
فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه.
فلما بلغ ذلك عليا عزم على الذهاب إليهم أولا قبل أهل الشام.
مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج
لما عزم علي ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج، نادى مناديه في الناس بالرحيل فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده.
ثم سلك على دير عبد الرحمن، ثم دير أبي موسى، ثم على شاطئ الفرات، فلقيه هنالك منجم فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره، فإنه يخشى عليه فخالفه علي فسار على خلاف ما قال فأظفره الله.
وقال علي: إنما أردت أن أبين للناس خطأه وخشيت أن يقول جاهل، إنما ظفر لكونه وافقه.
وسلك عليُّ ناحية الأنبار وبعث بين يديه قيس بن سعد، وأمره أن يأتي المدائن وأن يتلقاه بنائبها سعد بن مسعود - وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي - في جيش المدائن فاجتمع الناس هنالك على علي.
وبعث إلى الخوارج: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم، ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب - يعني أهل الشام - ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه.
فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم.
فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم، والخطب الجسيم، فلم ينفع وكذلك أبو أيوب الأنصاري أنبهم ووبخهم فلم ينجع.
وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وتوعدهم.
وقال: إنكم أنكرتم عليّ أمرا أنتم دعوتموني إليه فنهيتكم عنه فلم تقبلوا، وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيما عند الله، فكيف بدماء المسلمين؟
فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة.
وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائي السنبسي، وعلى الميسرة شُريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي.
ووقفوا مقاتلين لعلي وأصحابه.
وجعل علي على ميمنته حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبيث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وكانوا في سبعمائة - قيس بن سعد بن عبادة.
وأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرون - وكانوا في أربعة آلاف - فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي.
فزحفوا إلى علي، فقدمّ علي بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصف الرجاله وراء الخيالة.
وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤكم.
وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدّمهم علي، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلهم الرماة بالنبل.
فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم عبد الله بن وهب، وحرقوص بن زهير، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سخبرة السلمي، قبحهم الله.
قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار.
فقال: ستعلم أينا أولى بها صليا.
قالوا: ولم يقتل من أصحاب عليّ إلا سبعة نفر وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول: بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم.
فقالوا: يا أمير المؤمنين ومن غرهم؟
قال: الشيطان وأنفسٍ بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.
ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم.
وقال الهيثم بن عدي في كتاب (الخوارج): وحدثنا محمد بن قيس الأسدي، ومنصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة: أن عليا لم يخمس ما أصاب من الخوارج يوم النهروان ولكن رده إلى أهله كله حتى كان آخر ذلك مرجل أُتي به فرده.
وقال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة: أن عليا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو حرة والريان بن صبرة بن هوذة فوجده الرياني في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلا.
قال: فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعرات سود.
فإذا مدت امتدت حتى تحاذى يده الأخرى، ثم تنزل فتعود إلى منكبه كثدي المرأة.
فلما رآه علي قال: أما والله ما كذبت لولا أن تتكلوا على العمل لأخبرتكم بما قضى الله في قتالهم عارفا للحق.
وقال الهيثم بن عدي في كتابه في (الخوارج): وحدثني محمد بن ربيعة الأخنسي؛ عن نافع بن مسلمة الأخنسي، قال: كان ذو الثدية رجلا من عرنة من بجيلة، وكان أسود شديد السواد، له ريح منتنة معروف في العسكر، وكان يرافقنا قبل ذلك وينازلنا وننازله.
وحدثني أبو إسماعيل الحنفي عن الريان بن صيرة الحنفي.
قال: شهدنا النهروان مع علي، فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.
وحدثني سفيان الثوري، عن محمد بن قيس الهمداني، عن رجل من قومه يكنى أبا موسى: أن عليا لما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.
وحدثني يونس بن أبي إسحاق، حدثني إسماعيل، عن حبة العرني.
قال: لما أقبل أهل النهروان جعل الناس يقولون: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم.
فقال علي: وكلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فإذا خرجوا من بين الشرايين فقل ما يلقون أحدا إلا ألبوا أن يظهروا عليه.
قال: وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له: ذو البينات.
وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال: ما كان عبد الله بن وهب من بغضه عليا يسميه إلا الجاحد.
وقال الهيثم بن عدي: ثنا إسماعيل، عن خالد، عن علقمة بن عامر، قال: سئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟
فقال: من الشرك فروا.
قيل: أفمنافقون؟
قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.
فقيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟
قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا.
فهذا ما أورده ابن جرير وغيره في هذا المقام.
ما ورد فيهم من الأحاديث الشريفة
الحديث الأول: عن علي رضي الله عنه، ورواه عنه زيد بن وهب، وسويد بن غفلة، وطارق بن زياد، وعبد الله بن شداد، وعبيد الله بن أبي رافع، وعبيدة بن عمرو السلماني، وكليب أبو عاصم، وأبو كثير وأبو مريم، وأبو موسى، وأبو وائل الوضي فهذه اثنتا عشرة طريقا إليه ستراها بأسانيدها وألفاظها ومثل هذا يبلغ حد التواتر.
الطريق الأولى
قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا عبد بن حميد، ثنا عبد الرزاق، عن همام، ثنا عبد الملك بن أبي سليمان، ثنا سلمة بن كهيل.
حدثني زيد بن وهب الجهني: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم.
يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضي لهم على لسان نبيهم ﷺ لا تكلوا على العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضدٌ ليس لها ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض، فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم.
وإني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله.
قال سلمة: فذكر زيد بن وهب منزلا منزلا حتى مروا على قنطرة فلما التقينا - وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي - فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم وكسروا جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا.
فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف فشجرهم الناس برماحهم.
قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان.
قال علي: التمسوا فيهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي بنفسه حتى آتى ناسا بعضهم إلى بعض، فقال: أخروه فوجدوه مما يلي الأرض فقال: أخروهم فوجدوهم مما يلي الأرض فكبر.
ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله.
قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين، والله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا من رسول الله ﷺ، إني والله الذي لا إله إلا هو، فاستحلفه ثلاثا وهو يحلف له أنه سمعه من رسول الله ﷺ »، هذا لفظ مسلم.
وقد رواه أبو داود عن الحسن بن علي الخلال، عن عبد الرزاق بنحوه.
طريق أخرى عن علي
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا الأعمش، وعبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش بن خيثمة، عن سويد بن غفلة قال: قال علي: إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ فَلَأن أَخِرَّ من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، سمعت رسول الله ﷺ يقول:
« يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم - قال عبد الرحمن: لا يجاوز إيمانهم حناجرهم - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قاتلهم عند الله يوم القيامة ».
وأخرجاه في الصحيحين من طرق عن الأعمش به.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا الوليد بن القاسم الهمداني، ثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن طارق بن زياد قال: سار علي إلى النهروان.
قال الوليد في روايته: وخرجنا معه قتل الخوارج.
فقال: اطلبوا المخدج فإن رسول الله ﷺ قال: « سيجيء قوم يتكلمون بكلمة الحق لا تجاوز حلوقهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم أو فيهم رجل أسود مخدج اليد في يده شعرات سود، إن كان فيهم فقد قتلتم شر الناس، وإن لم يكن فيهم فقد قتلتم خير الناس.
قال الوليد، في روايته: فبكينا قال: إنا وجدنا المخدج فخررنا سجودا وخرّ علي ساجدا معنا ».
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
طريق أخرى
رواه عبد الله بن شداد عن علي كما تقدم قريبا إيراده بطوله.
طريق أخرى عن علي
قال مسلم: حدثني أبو الطاهر ويونس بن عبد الأعلى، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن بشر بن سعيد، عن عبيد الله بن أبي رافع، مولى رسول الله: أن الحرورية لما خرجت - وهو مع علي بن أبي طالب - قالوا: لا حكم إلا لله.
قال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله وعليه سلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون: الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق الله منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي ».
فلما قتلهم علي بن أبي طالب قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئا.
فقال: ارجعوا فانظروا، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبتُ -مرتين أو ثلاثا - فوجدوه في خربة فأتوا به عليا حتى وضعوه بين يديه.
قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم، وقول علي فيهم.
زاد يونس في روايته: قال بكير: وحدثني رجل عن ابن حنين أنه قال: رأيت ذلك الأسود.
تفرد به مسلم.
طريق أخرى
قال أحمد: حدثنا إسماعيل، ثنا أيوب، عن محمد، عن عبيدة، عن علي قال: ذكرت الخوارج عند علي فقال: فيهم مخدج اليد أو مثدون اليد؟- أو قال: مودن اليد - ولولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد ﷺ.
قال: قلت: أنت سمعته من محمد؟
قال: إي ورب الكعبة، أي ورب الكعبة.
وقال أحمد: ثنا وكيع، ثنا جرير بن حازم، وأبو عمرو بن العلاء، عن ابن سيرين سمعاه عن عبيدة، عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: « يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد، ولولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان نبيه ﷺ ».
قال عبيدة: قلت لعلي: أنت سمعته من رسول الله ﷺ؟
قال: أي ورب الكعبة، أي ورب الكعبة.
وقال أحمد: ثنا يزيد، ثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة قال: قال علي لأهل النهروان: فيهم رجل مثدون اليد أو مخدوج اليد، ولولا أن تبطروا لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه ﷺ لمن قتلهم.
قال عبيدة: فقلت لعلي: أنت سمعته؟
قال: إي ورب الكعبة، يحلف عليها ثلاثا.
وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي، عن أبي بن عون، عن محمد قال: قال عبيدة: لا أحدثك إلا ما سمعت منه.
قال محمد: فحلف لنا عبيدة ثلاث مرات، وحلف له علي قال قال: لولا أن تبطروا لأنبأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد ﷺ.
قال: قلت: أنت سمعته؟
قال: أي ورب الكعبة، أي ورب الكعبة، أي ورب الكعبة، فيهم رجل مخدج اليد أو مثدون اليد أحسبه قال: أو مودن اليد.
وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن علية، وحماد بن زيد، كلاهما عن أيوب، وعن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن ابن عون، كلاهما عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي، وقد ذكرناه من طرق متعددة تفيد القطع عند كثيرين عن محمد بن سيرين.
وقد حلف علي أنه سمعه من عبيدة وحلف عبيدة أنه سمعه من علي أنه سمعه من رسول الله ﷺ.
وقد قال علي: لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب على رسول الله ﷺ.
طريق أخرى
قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: حدثني إسماعيل أبو معمر، ثنا عبد الله بن إدريس، ثنا عاصم بن كليب، عن أبيه قال: كنت جالسا عند علي إذ دخل رجل عليه ثياب السفر، فاستأذن على علي وهو يكلم الناس فشغل عنه.
فقال علي: إني دخلت على رسول الله ﷺ وعنده عائشة فقال: « كيف أنت ويوم كذا وكذا؟
فقلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فقال: قوم يخرجون من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فيهم رجل مخدج اليد كأن يديه يدي حبشية، أنشدكم بالله هل أخبرتكم أنه فيهم »، فذكر الحديث بطوله.
ثم رواه عبد الله بن أحمد، عن أبي خيثمة زهير بن حرب، عن القاسم بن مالك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه عن علي.
فذكر نحوه إسناد جيد.
طريق أخرى
قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أخبرنا أبو القاسم الأزهري، أنا علي بن عبد الرحمن الكناني أنا محمد بن عبد الله بن عطاء، عن سليمان الحضرمي، أنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، أنا خالد بن عبيد الله، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة قال: قال أبو جحيفة:
قال علي حين فرغنا من الحرب: إن فيهم رجلا ليس في عضده عظم ثم عضده كحلمة الثدي عليها شعرات طوال عقف، فالتمسوه فلم يجدوه.
قال: فما رأيت عليا جزع جزعا أشد من جزعه يومئذ.
فقالوا: ما نجده يا أمير المؤمنين.
فقال: ويلكم ما اسم هذا المكان؟
قالوا: النهروان.
قال: كذبتم إنه لفيهم، فثورنا القتلى فلم نجده فعدنا إليه فقلنا: يا أمير المؤمنين ما نجده.
قال: ما اسم هذا المكان؟
قلنا: النهروان.
قال: صدق الله ورسوله وكذبتم، إنه لفيهم فالتمسوه فالتمسناه فوجدناه في ساقيه فجئنا به فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم، وعليها كحلمة ثدي المرأة عليها شعرات طوال عقف.
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، ثنا أبو كثير مولى الأنصار قال:
كنت مع سيدي مع علي بن أبي طالب حيث قتل أهل النهروان، فكأن الناس وجدوا في أنفسهم من قتلهم.
فقال علي: يا أيها الناس إن رسول الله ﷺ:
« قد حدثنا بأقوام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون فيه أبدا حتى يرجع السهم على فوقه، وإن آية ذلك إن فيهم رجلا أسود مخدج اليد إحدى يديه كثدي المرأة، لها حلمة كحلمة ثدي المرأة، حوله سبع هلبات فالتمسوه فإني أراه فيهم، فالتمسوه فوجدوه إلى شفير النهر تحت القتلى فأخرجوه فكبر علي، فقال: الله أكبر! صدق الله ورسوله.
وإنه لمتقلد قوسا له عربية فأخذها بيده فجعل يطعن بها في مخدجته، ويقول: صدق الله ورسوله، وكبر الناس حين رأوه واستبشروا، وذهب عنهم ما كانوا يجدون ».
تفرد به أحمد.
طريق أخرى
قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبو خيثمة، ثنا شبابة بن سوار، حدثني نعيم بن حكيم، حدثني أبو مريم، ثنا علي بن أبي طالب:
أن رسول الله ﷺ قال: « إن قوما يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، علامتهم رجل مخدج ».
وقال أبو داود في (سننه): حدثنا بشر بن خالد، ثنا شبابة بن سوار، عن نعيم بن حكيم، عن أبي مريم قال: إن كان ذاك المخدج لمعنا يومئذٍ في المسجد نجالسه الليل والنهار، وكان فقيرا، ورأيته مع المساكين يشهد طعام علي مع الناس وقد كسوته برنسا لي.
قال أبو مريم: وكان المخدج يسمى: نافعا ذا الثدية، ودان في يده مثل ثدي المرأة، على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي، عليه شعرات مثل سبالة السنور.
طريق أخرى
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في (الدلائل): أخبرنا أبو علي الروزباري، أنا أبو محمد عبد الله بن عمرو بن شوذب المقري الواسطي بها، ثنا شعيب بن أيوب، ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان - هو الثوري - عن محمد بن قيس، عن أبي موسى رجل من قومه قال:
كنت مع علي فجعل يقول: التمسوا المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه.
قال: فأخذ يعرق ويقول: والله ما كَذَبتُ ولا كُذبتُ، فوجدوه في نهرٍ أو داليةٍ فسجد.
طريق أخرى
قال أبو بكر البزار: حدثني محمد بن مثنى ومحمد بن معمر، ثنا عبد الصمد، ثنا سويد بن عبيد العجلي، ثنا أبو مؤمن، قال: شهدت علي بن أبي طالب يوم قتل الحرورية وأنا مع مولاي.
فقال: انظروا فإن فيهم رجلا إحدى يديه مثل ثدي المرأة، وأخبرني النبي ﷺ أني صاحبه، فقلبوا القتلى فلم يجدوه، وقالوا: سبعة نفر تحت النخلة لم نقلبهم بعد.
قال: ويلكم انظروا.
قال أبو مؤمن: فرأيت في رجليه حبلين يجرونه بهما حتى ألقوه بين يديه فخر علي ساجدا وقال: أبشروا قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار.
ثم قال البزار: لا نعلم روى أبو موسى عن علي غير هذا الحديث.
طريق أخرى
قال البزار: حدثنا يوسف بن موسى، ثنا إسحاق بن سليمان الرازي، سمعت أبا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: قلت لشقيق بن سلمة - يعني أبا وائل - حدثني عن ذي الثدية.
قال: لما قاتلناهم قال علي: اطلبوا رجلا علامته كذا وكذا، فطلبناه فلم نجده، فبكى وقال: اطلبوه، فوالله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ.
قال: فطلبناه فلم نجده فبكى.
وقال: اطلبوه فوالله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ.
قال: فطلبناه فلم نجده.
قال: وركب بغلته الشهباء فطلبناه فوجدناه تحت بردى فلما رآه سجد.
ثم قال البزار: لا نعلم روى حبيب، عن شقيق، عن علي إلا هذا الحديث.
طريق أخرى
قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبيد الله بن عمر والقواريري، ثنا حماد بن زيد، ثنا جميل بن مرة، عن أبي الوضي قال: شهدت عليا حين قتل أهل النهروان قال: التمسوا المخدج فطلبوه في القتلى فقالوا: ليس نجده.
فقال: ارجعوا فالتمسوه فوالله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ.
فرجعوا فطلبوه فردد ذلك مرارا، كل ذلك يحلف بالله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ، فانطلقوا فوجدوه تحت القتلى في طين، فاستخرجوه فجيء به.
قال أبو الوضي: فكأني أنظر إليه حبشي عليه ثدي قد طبق، إحدى يديه مثل ثدي المرأة، عليها شعرات مثل شعرات تكون على ذنب اليربوع.
وقد رواه أبو داود، عن محمد بن عبيد بن حساب، عن حماد بن زيد، ثنا جميل بن مرة، ثنا أبو الوضي - واسمه عباد بن نسيب - ولكنه اختصره.
وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثنا حجاج بن يوسف الشاعر، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا يزيد بن أبي صالح: أن أبا الوضي عبادا حدثه أنه قال: كنا عائدين إلى الكوفة مع علي بن أبي طالب.
فلما بلغنا مسيرة ليلتين أو ثلاثا من حروراء شذّ منا ناس كثيرون فذكرنا ذلك لعلي فقال: لا يهولنّكم أمرهم فإنهم سيرجعون فذكر الحديث بطوله.
قال: فحمد الله علي بن أبي طالب وقال: إن خليلي أخبرني: أن قائد هؤلاء رجل مخدج اليد على حلمة ثديه شعرات كأنهن ذنب اليربوع، فالتمسوه فلم يجدوه فأتيناه فقلنا: إنا لم نجده، فجعل يقول: اقلبوا ذا، اقلبوا ذا؟ حتى جاء رجل من أهل الكوفة فقال: هو هذا؟
فقال علي: الله أكبر، لا يأتيكم أحد يخبركم من أبوه، فجعل الناس يقولون: هذا مالك، هذا مالك.
فقال علي: ابن من؟
وقال عبد الله بن أحمد أيضا: حدثني حجاج بن الشاعر، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا يزيد بن أبي صالح: أن أبا الوضي عبادا حدثه قال: كنا عائدين إلى الكوفة مع علي فذكر حديث المخدج قال علي:
فوالله ما كَذبتُ ولا كُذبتُ ثلاثا، ثم قال علي: أما أن خليلي أخبرني بثلاثة إخوة من الجن هذا أكبرهم، والثاني له جمع كثير، والثالث فيه ضعف.
وهذا السياق فيه غرابة جدا.
وقد يمكن أن يكون ذو الثدية من الجن؟
بل هو من الشياطين إما شياطين الأنس أو شياطين الجن، إن صح هذا السياق والله تعالى أعلم.
والمقصود أن هذه طرق متواترة عن علي إذ قد روي من طرق متعددة عن جماعة متباينة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فأصل القصة محفوظ وإن كان بعض الألفاظ وقع فيها اختلاف بين الرواة ولكن معناها وأصلها الذي تواطأت الروايات عليه صحيح لا يشك فيه عن علي أنه رواه عن رسول الله ﷺ، أنه أخبر عن صفة الخوارج وذي الثدية الذي هو علامة عليهم.
وقد روي ذلك من طريق جماعة من الصحابة غير علي كما تراها بأسانيدها وألفاظها وبالله المستعان.
وقد رواه جماعة من الصحابة منهم: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، ورافع بن عمرو الغفاري، وسعد بن أبي وقاص، وأبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، وسهل بن حنيف، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وعلي، وأبو ذر، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قدمنا حديث علي بطرقه لأنه أحد الخلفاء الأربعة وأحد العشرة، وصاحب القصة.
ولنذكر بعده حديث ابن مسعود لتقدم وفاته على وقعة الخوارج.
الحديث الثاني عن ابن مسعود رضي الله عنه
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن ذر، عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « يخرج قوم في آخر الزمان سفهاء الأحلام، أحداث - أو حدثاء - الأسنان، يقولون من خير قول الناس يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن أدركهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجر عظيما عند الله لمن قتلهم ».
وقد رواه الترمذي عن أبي كريب، وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن عامر بن زرارة، ثلاثتهم عن أبي بكر بن عياش به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ابن مسعود مات قبل ظهور الخوارج بنحو من خمس سنين، فخبره في ذلك من أقوى الأسانيد.
الحديث الثالث عن أنس بن مالك
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، ثنا سليمان التميمي، ثنا أنس قال: ذكر لي أن نبي الله ﷺ قال - ولم أسمعه منه -: « إن فيكم فرقة يتعبدون ويدينون حتى يعجبوا الناس وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ».
طريق أخرى
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، ثنا الأوزاعي، حدثني قتادة، عن أنس بن مالك، وأبي سعيد، قال أحمد: وقد حدثنا أبو المغيرة فقال: عن أنس، عن أبي سعيد، ثم رجع أن النبي ﷺ قال:
« سيكون في أمتي اختلاف وفرقة قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون حتى يرتد السهم على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم.
قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟
قال: التحليق ».
وقد رواه أبو داود في (سننه) عن نصر بن عاصم الأنطاكي، عن الوليد بن مسلم، وقيس بن إسماعيل الحلبي كلاهما عن الأوزاعي، عن قتادة، وأبي سعيد، عن أنس به.
وأخرجه أبو داود، وابن ماجه من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس وحده.
وقد روى البزار من طريق أبي سفيان، وأبو يعلى من طريق يزيد الرقاشي كلاهما عن أنس بن مالك حديثا في الخوارج قريبا من حديث أبي سعيد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الحديث الرابع عن جابر بن عبد الله
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، ثنا ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع رسول الله ﷺ عام الجعرانة وهو يقسم فضة في ثوب بلال للناس، فقال رجل: يا رسول الله اعدل.
فقال: « ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبتُ إن لم أكن أعدل ».
فقال عمر: يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق.
فقال: « معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ».
وقال أحمد: حدثنا علي بن عياش، ثنا إسماعيل بن عياش، حدثني يحيى بن سعيد، أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابرا يقول: بصر عيني وسمع أذني رسول الله ﷺ بالجعرانة وفي ثوب بلال فضة ورسول الله ﷺ يقبضها للناس يعطيهم، فقال رجل: اعدل.
فقال: « ويلك من يعدل إذا لم أكن أعدل؟ ».
فقال عمر بن الخطاب: دعني أقتل هذا المنافق الخبيث.
فقال رسول الله ﷺ: « معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ».
ثم رواه أحمد، عن أبي المغيرة، عن معاذ بن رفاعة، ثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: لما قسم رسول الله ﷺ غنائم هوازن بالجعرانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدل يا محمد.
فقال: « ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ».
قال: فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟
قال: « معاذ الله أن يتسامع الأمم أن محمدا يقتل أصحابه ».
ثم قال رسول الله ﷺ: « إن هذا وأصحابا له يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ».
قال معاذ: فقال لي أبو الزبير: فعرضت هذا الحديث على الزهري فما خالفني فيه إلا أنه قال: النضو، وقلت: القدح، قال: ألست رجلا عربيا؟
وقد رواه مسلم: عن محمد بن رمح، عن الليث، وعن محمد بن مثنى، عن عبد الوهاب الثقفي.
وأخرجه النسائي من حديث الليث ومالك بن أنس كلهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري به بنحوه حديث رافع بن عمرو الأنصاري مع حديث أبي ذر رضي الله عنهما.
الحديث الخامس عن سعد بن أبي وقاص
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا الحميدي، ثنا سفيان - هو ابن عيينة - حدثني العلاء بن أبي عياش أنه سمع أبا الطفيل يحدث عن بكر بن قرواش، عن سعد بن أبي وقاص قال: ذكر رسول الله ﷺ ذا الثدية فقال: « شيطان الردهة كراعي الخيل يحتذره رجل من بجيلة يقال له: الأشهب أو ابن الأشهب علابة في قوم ظلمة ».
قال سفيان: فأخبرني عمار الذهبي أنه جاء رجل يقال له: الأشهب.
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة به مختصرا، ولفظه: « شيطان الردهة يحتذره رجل من بجيلة »، تفرد به أحمد.
وحكى البخاري عن علي بن المديني قال: لم أسمع بذكر بكر بن قرواش إلا في هذا الحديث.
وروى يعقوب بن سفيان، عن عبد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حامد الهمداني قال: سمعت سعيد بن أبي وقاص يقول: قتل علي شيطان الردهة.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: يريد والله أعلم قتله أصحاب علي بأمره.
وقال الهيثم بن عدي: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن رجل قال: بلغ سعد بن أبي وقاص أن عليا بن أبي طالب قتل الخوارج، فقال: قتل علي بن أبي طالب شيطان الردهة.
الحديث السادس عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الأنصاري
وله طرق عنه
الطريقة الأولى منها:
قال الإمام أحمد: حدثنا بكر بن عيسى، ثنا جامع بن قطر الحبطي، ثنا أبو روية شداد بن عمر العنسي، عن أبي سعيد الخدري: أن أبا بكر جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا، فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي.
فقال له رسول الله ﷺ: « اذهب إليه فاقتله ».
قال: فذهب إليه أبو بكر، فلما رآه على تلك الحالة كره أن يقتله، فجاء إلى رسول الله ﷺ فقال النبي ﷺ لعمر: « اذهب إليه فاقتله ».
قال: فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع.
فقال: يا رسول الله، إني رأيته متخشعا فكرهت أن أقتله.
قال: « يا علي اذهب فاقتله ».
فذهب علي فلم يره فرجع.
فقال: يا رسول الله إني لم أره.
فقال رسول الله ﷺ: « هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شر البرية ».
تفرد به أحمد.
وقد روى البزار في (مسنده) من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك، وأبو يعلى، عن أبي خيثمة، عن عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار، وعن يزيد الرقاشي، عن أنس من هذه القصة وأطول منها، وفيها زيادات أخرى.
الطريق الثاني
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن الضحاك المشرقي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ في حديث: « ذكر قوما يخرجون على فرقة من الناس مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق ».
أخرجاه في الصحيحين كما سيأتي في ترجمة أبي سلمة عن أبي سعيد.
الطريق الثالث
قال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا عاصم بن شميخ، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله ﷺ إذا حلف فاجتهد في اليمين، قال: « والذي نفس أبي القاسم بيده ليخرجن قوم من أمتي تحقرون أعمالكم عند أعمالهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ».
قالوا: فهل من علامة يعرفون بها؟
قال: « فيهم رجل ذو يدية أو ثدية محلقي رؤوسهم ».
قال أبو سعيد: فحدثني عشرون أو بضع وعشرون من أصحاب النبي ﷺ: أن عليا ولي قتلهم قال: فرأيت أبا سعيد بعد ما كبر ويديه ترتعش ويقول: قتالهم عندي من أَحلّ من قتال عدتهم من الترك.
وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به.
الطريق الرابع
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي وهو باليمن إلى رسول الله ﷺ بذهيبة في تربتها، فقسمها رسول الله ﷺ بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة، أو عامر بن الطفيل أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان.
قال: فغضبت قريش والأنصار قالوا: تعطي صناديد أهل نجد وتدعنا؟
قال: إنما أتألفهم.
قال: فأقبل رجل غائر العينين ناتئ الجبين كث اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس.
فقال: يا محمد اتق الله.
فقال: « من يطيع الله إذا عصيته؟ يأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني ».
قال: فسأل رجل من القوم قتله النبي ﷺ - أراه خالد بن الوليد - فمنعه، فلما ولي قال: « إن من ضئضئ هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ».
رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به.
ثم رواه أحمد، عن محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن عبد الرحمن بن أبي نُعم، عن أبي سعيد وفيه الجزم بأن خالدا سأل أن يقتل ذلك الرجل، ولا ينافي سؤال عمر بن الخطاب.
وهو في (الصحيحين) من حديث عمارة بن القعقاع من سيرته: وقال فيه إنه سيخرج من صلبه ونسله، لأن الخوارج الذين ذكرنا لم يكونوا من سلالة هذا، بل ولا أعلم أحدا منهم من نسله وإنما أراد من ضئضئ هذا أي من شكله وعلى صفته فالله أعلم.
وهذا الرجل هو ذو الخويصرة التميمي وسماه بعضهم حرقوصا، فالله أعلم.
الطريق الخامس
قال الإمام أحمد: ثنا عفان، ثنا مهدي بن ميمون، ثنا محمد بن سيرين، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: « يخرج أناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم على فوقه ».
قيل: ما سيماهم؟
قال: « سيماهم التحليق أو التسبيد ».
ورواه البخاري: عن أبي النعمان محمد بن الفضل، عن مهدي بن ميمون به.
الطريق السادس
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا سويد بن نجيح، عن يزيد الفقير قال: قلت لأبي سعيد: إن منا رجالاهم أقرؤنا للقرآن، وأكثرنا صلاة، وأوصلنا للرحم، وأكثرنا صوما، خرجوا علينا بأسيافهم.
فقال أبو سعيد: سمعت النبي ﷺ يقول: « يخرج قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ».
تفرد به أحمد ولم يخرجوه في الكتب الستة ولا واحد منهم، وإسناده لا بأس به رجاله كلهم ثقات، وسويد بن نجيح هذا مستور.
الطريق السابع
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد قال: بينا رسول الله ﷺ يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله.
فقال: « ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ ».
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب عنقه؟
فقال: « دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر في قذذه فلا يوجد في شيء، ثم ينظر في نضبه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فترة من الناس ».
فنزلت فيه: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآية [78].
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله ﷺ، وأشهد أن عليا حين قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله ﷺ.
ورواه البخاري: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن هشام بن يوسف، عن معمر.
ورواه البخاري من حديث شعبة.
ومسلم من حديث يونس بن يزيد، عن الزهري به.
لكن في رواية مسلم عن حرملة، وأحمد بن عبد الرحمن، كلاهما عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، والضحاك الهمداني، عن أبي سعيد به.
ثم رواه أحمد: عن محمد بن مصعب، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة والضحاك المشرقي، عن أبي سعيد فذكر نحو ما تقدم من هذا السياق.
وفيه: أن عمر هو استأذن في قتله.
وفيه: يخرجون على حين فرقة من الناس يقتلهم أولى الطائفتين بالله.
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله ﷺ، وأني شهدت عليا حين قتلهم، فالتمس في القتلى فوجد على النعت الذي نعته رسول الله ﷺ.
ورواه البخاري: عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي كذلك.
وقال أحمد: قرأت على عبد الرحمن بن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، ثم ينظر في القدح فلا يرى شيئا، ثم ينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق ».
قال عبد الرحمن: حدثنا به مالك - يعني: هذا الحديث -.
ورواه البخاري، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به.
ورواه البخاري ومسلم، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، وعطاء بن يسار، عن أبي سعيد به.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، أنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة قال: جاء رجل إلى أبي سعيد فقال: هل سمعت رسول الله ﷺ يذكر في الحرورية شيئا؟
فقال: سمعته يذكر قوما يتعمقون في الدين يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وصومه عند صومهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أخذ سهمه فينظر في نصله فلم ير شيئا ثم ينظر في رصافه فلم ير شيئا، ثم ينظر في القذذ فيماري هل يرى شيئا أم لا.
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون به.
الطريق الثامن
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: أن رسول الله ﷺ « ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق، ثم هم شر الخلق، ومن شر الخلق تقتلهم أولى الطائفتين بالحق.
قال: فضرب النبي ﷺ لهم مثلا - أو قال قولا - الرجل يرمي الرمية - أو قال الغرض - فينظر في النصل فلا يرى بصيرة وينظر في النضى فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة ».
فقال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.
وقد رواه عن محمد بن المثنى، عن محمد بن أبي عدي، عن سليمان - وهو ابن طرخان التيمي - عن أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة، عن أبي سعيد الخدري بنحوه.
الحديث الثامن عن سلمان الفارسي
قال الهيثم بن عدي: ثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: جاء رجل إلى قوم فقال: لمن هذه الخباء؟
قالوا: لسلمان الفارسي.
قال: أفلا تنطلقون معي فيحدثنا ونسمع منه؟
فانطلق معه بعض القوم فقال: يا أبا عبد الله، لو أدنيت خباك، وكنت منا قريبا فحدثتنا وسمعنا منك؟
فقال: ومن أنت؟
قال: فلان بن فلان.
قال سلمان: قد بلغني عنك معروف.
بلغني أنك تخف في سبيل الله، وتقاتل العدو، وتخدم أصحاب رسول الله ﷺ، فإن أخطأتك واحدة أن تكون من هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول الله ﷺ.
قالوا: فوجد ذلك الرجل قتيلا في أصحاب النهروان.
الحديث التاسع عن سهل بن حنيف الأنصاري
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، ثنا حزام بن إسماعيل العامري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن بسر بن عمرو قال: دخلت على سهل بن حنيف فقلت: حدثني ما سمعت من رسول الله ﷺ، قال: في الحرورية.
قال: أحدثك ما سمعت من النبي ﷺ لا أزيدك عليه شيئا، سمعت رسول الله ﷺ: « يذكر قوما يخرجون من هاهنا - وأشار بيده نحو العراق - يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ».
قال: قلت هل ذكر لهم علامة؟
قال: هذا ما سمعت لا أزيدك عليه.
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الواحد بن زياد.
ومسلم من حديث علي بن مسهر، والعوام بن حوشب.
والنسائي من حديث محمد بن فضيل، كلهم عن أبي إسحاق الشيباني به.
وقد رواه مسلم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن بسر بن عمرو قال: سألت سهل بن حنيف، سمعت رسول الله ﷺ يذكر الخوارج؟
فقال: سمعته - وأشار بيده نحو المشرق - قوم يقرأون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
حدثناه أبو كامل، ثنا عبد الواحد، ثنا سليمان الشيباني بهذا الإسناد، وقال: يخرج منه أقوام.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق جميعا، عن يزيد قال أبو بكر: حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن بسر بن عمرو، عن سهل بن حنيف، عن النبي ﷺ قال: « فتنة قوم قبل المشرق محلقة رؤوسهم ».
الحديث العاشر عن ابن عباس
قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا يوسف بن موسى، ثنا الحسن بن الربيع، ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله ﷺ: « يقرأ القرآن أقوام من أمتي يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ».
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وسويد بن سعيد، كلاهما عن أبي الأحوص بإسناده مثله.
الحديث الحادي عشر عن ابن عمر
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، ثنا أبو حساب يحيى بن أبي حبة، عن شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: « يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ».
قال يزيد: لا أعلمه إلا قال: « يحقر أحدكم عمله مع عملهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله، كلما طلع منهم قرن قطعه الله، كلما طلع منهم قرن قطعه الله ».
فردد ذلك رسول الله ﷺ عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقد ثبت من حديث سالم ونافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: « الفتنة من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان - وأشار بيده نحو المشرق - ».
الحديث الثاني عشر عن عبد الله بن عمرو
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي، فجئته فجاء رجل فانتبذ الناس عليه خميصة فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فلما رآه نوف أمسك عن الحديث، فقال عبد الله سمعت: رسول الله ﷺ يقول: « إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم، لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها، تلفظهم أرضهم، تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تخلف ».
قال: وسمعت رسول الله ﷺ يقول: « سيخرج ناس من أمتي قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قطع حتى عدها زيادة على عشر مرات، كلما خرج منهم قرن قطع حتى يخرج الدجال في بقيتهم ».
وقد روى أبو داود أوله في كتاب الجهاد من (سننه) عن القواريري، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة.
وقد تقدم حديث عبد الله بن مسعود وحديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
الحديث الثالث عشر عن أبي ذر
قال مسلم بن الحجاج: حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا سليمان بن المغيرة، ثنا حبيب بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: « إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لا يعودون في شر الخلق والخليقة ».
قال ابن الصامت: فلقيت زلفع بن عمرو الغفاري أخا الحاكم الغفاري قال: ما حديث سمعت من أبي ذر كذا كذا؟
فقال: وأنا سمعته من رسول الله ﷺ.
لم يروه البخاري.
الحديث الرابع عشر عن أم المؤمنين عائشة
قال الحافظ البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا السري، عن يحيى، ثنا أحمد بن يونس، ثنا علي بن عياش، عن حبيب بن مسلمة قال: قال علي: لقد علمت عائشة أن جيش المروة، وأهل النهروان، وأن ملعونون على لسان محمد ﷺ.
قال ابن عياش: جيش المشرق قتله عثمان رضي الله عنه.
وقال الهيثم بن عدي: حدثني إسرائيل، عن يونس، عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن رجل، عن عائشة قال: بلغها قتل علي الخوارج فقالت: قتل علي بن أبي طالب شيطان الردهة - تعني: المخدج -.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح، ثنا سهل بن عامر البجلي، ثنا أبو خالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: ذكر رسول الله ﷺ الخوارج فقال: « شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي ».
قال: وحدثناه إبراهيم بن سعيد، ثنا حسين بن محمد، ثنا سليمان بن قرم، ثنا عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة، عن النبي ﷺ فذكر نحوه.
قال: فرأيت عليا قتلهم وهم أصحاب النهروان.
ثم قال البزار: لا نعلم رُوي عن عطاء، عن أبي الضحى، عن مسروق إلا هذا الحديث، ولا نعلم رواه عن عطاء إلا سليمان بن قرم وسليمان بن قرم قد تكلموا فيه، لكن الإسناد الأول يشهد لهذا كما أن هذا يشهد للأول فيها متعاضدان، وهو غريب من حديث أم المؤمنين.
وقد تقدم في حديث عبد الله بن شهاب، عن علي ما يدل على أن عائشة استغربت حديث الخوارج ولا سيما خبر ذي الثدية كما تقدم، وإنما أوردنا هذه الطرق كلها ليعلم الواقف عليها أن ذلك حق وصدق، وهو من أكبر دلالات النبوة، كما ذكره غير واحد من الأئمة فيها والله تعالى أعلم.
وقال: سألت عائشة رضي الله عنها بعد ذلك عن خبر ذي الثدية فتيقنته من طرق متعددة.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي في (الدلائل): أنا أبو عبد الله، أنا الحسين بن الحسن بن عامر الكندي بالكوفة من أصل سماعه، ثنا محمد بن صدقة الكاتب، حدثني أحمد بن أبان فقرأت فيه، حدثني الحسن بن عيينة، وعبد الله بن أبي السفر بن عامر الشعبي، عن مسروق، قالت عائشة: عندك علم عن ذي الثدية الذي أصابه علي في الحرورية؟
قلت: لا.
قالت: فاكتب لي بشهادة من شهدهم، فرجعت إلى الكوفة وبها يومئذ أسباع، فكتبت شهادة عشرة من كل سبع، ثم أتيتها بشهادتهم فقرأتها عليها.
قالت: أكلُّ هؤلاء عاينوه؟
قلت: لقد سألتهم فأخبروني بأن كلهم قد عاينوه.
فقالت: لعن الله فلانا، فإنه كتب إلي أنه أصابهم بليل مصر، ثم أرخت عينيها فبكت، فلما سكنت عبرتها، قالت: رحم الله عليا لقد كان على الحق، وما كان بيني وبينه إلا كما يكون بين المرأة و أحمائها.
حديث آخر عن رجلين من الصحابة
قال الهيثم بن عدي في كتاب (الخوارج): حدثني سليمان بن المغيرة، عن حبيب بن هلال قال: أقبل رجلان من أهل الحجاز حتى قدما العراق، فقيل لهما: ما أقدمكما العراق؟
قالا: رجونا أن ندرك هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول الله ﷺ، فوجدنا علي بن أبي طالب قد سبقنا إليهم - يعنيان: أهل النهروان -.
حديث في مدح علي رضي الله عنه على قتال الخوارج
قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، ثنا فطر، عن إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي، عن أبيه قال: سمعت أبا سعيد يقول: كنا جلوسا ننتظر رسول الله ﷺ فخرج علينا من بيوت بعض نسائه قال: فقمنا معه، فانقطعت نعله فتخلف عليها علي يخصفها، فمضى رسول الله ﷺ ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: « إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».
فاستشرف لها وفيهم أبو بكر وعمر.
فقال: « لا ولكنه خاصف النعل ».
قال: فجئنا نبشره.
قال: فكأنه قد سمعه.
ورواه أحمد: عن وكيع وأبي أسامة، عن فطر بن خليفة، فأما الحديث الذي قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسماعيل بن موسى، ثنا الربيع بن سهل، عن سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة قال: سمعت عليا على منبركم هذا يقول: عهد إلى النبي ﷺ أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
وقد رواه أبو بكر بن المقرئ، عن الجد بن عبادة البصري، عن يعقوب بن عباد، عن الربيع بن سهل الفزاري به، فإنه حديث غريب ومنكر، على أنه قد روي من طرق عن علي وعن غيره ولا تخلو واحدة منها عن ضعف.
والمراد بالناكثين يعني: أهل الجمل، وبالقاسطين أهل الشام، وأما المارقون فالخوارج لأنهم مرقوا من الدين.
وقد رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي في (كامله): عن أحمد بن حفص البغدادي، عن سليمان بن يوسف، عن عبيد الله بن موسى، عن فطر، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن علقمة، عن علي قال: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أخبرني الأزهري، ثنا محمد بن المظفر، ثنا محمد بن أحمد بن ثابت قال: وجدت في كتاب جدي محمد بن ثابت، ثنا شعيب بن الحسن السلمي، عن جعفر الأحمر، عن يونس بن الأرقم، عن أبان، عن خليد المصري قال:
سمعت عليا أمير المؤمنين يقول يوم النهروان: أمرني رسول الله ﷺ بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين.
وقد رواه الحافظ أبو القاسم بن عساكر من حديث محمد بن فرج الجنديسابوري، أنا هارون بن إسحاق، ثنا أبو غسان، عن جعفر - أحسبه الأحمر - عن عبد الجبار الهمداني، عن أنس بن عمرو، عن أبيه، عن علي قال: أمرت بقتال ثلاثة المارقين والقاسطين والناكثين.
وقال الحاكم أو عبد الله: أنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن غنم الحنظلي بقنطرة بردان، ثنا محمد الحسن بن عطية بن سعد العوفي، حدثني أبي، حدثني عمي، عن عمرو بن عطية بن سعد، عن أخيه الحسن بن عطية، حدثني جدي بن جنادة، عن علي رضي الله عنه قال: أمرت بقتال ثلاثة؛ القاسطين والناكثين والمارقين.
فأما القاسطون فأهل الشام، وأما الناكثون فذكرهم، وأما المارقون فأهل النهروان - يعني: الحرورية -.
وقال الحافظ ابن عساكر: أنا أبو القسم زاهر بن طاهر، أنا أبو سعد الأديب، أنا السيد أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين، ثنا محمد بن أحمد الصوفي، ثنا محمد بن عمرو الباهلي، ثنا كثير بن يحيى، ثنا أبو عوانة، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: أمرني رسول الله ﷺ بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين.
حديث ابن مسعود في ذلك
قال الحافظ: حدثنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسن الفقيه، أنا الحسن بن علي، ثنا زكريا بن يحيى الخراز المقرئ، ثنا إسماعيل بن عباد المقرىء، ثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: خرج رسول الله ﷺ فأتى منزل أم سلمة فجاء علي، فقال رسول الله ﷺ: « يا أم سلمة هذا والله قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعدي ».
حديث أبي سعيد في ذلك
قال الحاكم: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، ثنا الحسين بن الحكم الحيري، ثنا إسماعيل بن أبان، ثنا إسحاق بن إبراهيم الأزدي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا رسول الله ﷺ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
فقلت: يا رسول الله! أمرتنا بقتال هؤلاء، فمع من؟
فقال: « مع علي بن أبي طالب معه يقتل عمار بن ياسر ».
حديث أبي أيوب في ذلك
قال الحاكم: أنا أبو الحسن علي بن حماد المعدل، ثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، ثنا عبد العزيز بن الخطاب، ثنا محمد بن كثير، عن الحرث بن خضيرة، عن أبي صادق، عن مخنف بن سليمان قال: أتينا أبا أيوب فقلنا: قاتلت بسيفك المشركين مع رسول الله ﷺ، ثم جئت تقاتل المسلمين؟
فقال: أمرني رسول الله ﷺ بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين.
قال الحاكم: وحدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا الحسن بن علي بن شبيب العمري، ثنا محمد بن حميد، ثنا سلمة بن الفضل، حدثني أبو زيد الأموي، عن عتاب بن ثعلبة في خلافة عمر بن الخطاب قال: أمرني رسول الله ﷺ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مع علي بن أبي طالب.
وقال الخطيب البغدادي: حدثنا الحسن بن علي بن عبد الله المقرئ، ثنا أحمد بن محمد بن يوسف، ثنا محمد بن جعفر المطيري، ثنا أحمد بن عبد الله المؤدب بسر من رأى، ثنا المعلى بن عبد الرحمن ببغداد، ثنا شريك، عن سليمان بن مهران، عن الأعمش، عن علقمة والأسود قالا:
أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقلنا له: يا أبا أيوب! إن الله أكرمك بنزول محمد ﷺ وبمجيء ناقته تفضلا من الله وإكراما لك حين أناخت ببابك دون الناس.
ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله؟
فقال: يا هذا، إن الرائد لا يكذب أهله، وإن رسول الله ﷺ أمرنا بقتال ثلاثة مع علي، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.
فأما الناكثون: فقد قاتلناهم وهم أهل الجمل، طلحة والزبير، وأما القاسطون: فهذا منصرفنا من عندهم - يعني: معاوية وعمرا - وأما المارقون: فهم أهل الطرقات، وأهل السعيفات، وأهل النخيلات، وأهل النهروان، والله ما أدري أين هم ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله.
قال: وسمعت رسول الله ﷺ يقول لعمار: « يا عمار تقتلك الفئة الباغية، وأنت مذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار بن ياسر إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس غيره فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردىً ولن يخرجك من هدىً، يا عمار من تقلد سيفا أعان به عليا على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار ».
فقلنا: يا هذا! حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله، هذا السياق الظاهر أنه موضوع، وآفته من جهة المعلى بن عبد الرحمن، فإنه متروك الحديث.
فصل خطبة علي رضي الله عنه بعد انصرافه من النهروان
قال الهيثم بن عدي في كتابه الذي جمعه في الخوارج وهو من أحسن ما صنف في ذلك قال: وذكر عيسى بن دآب قال: لما انصرف علي رضي الله عنه من النهروان قام في الناس خطيبا، فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ﷺ.
أما بعد فإن الله قد أعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام.
فقاموا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين نفذت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنتنا، فانصرف بنا إلى مصرنا حتى نستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من فارقنا وهلك منا، فإنه أقوى لنا على عدونا - وكان الذي تكلم بهذا الأشعث بن قيس الكندي - فبايعهم وأقبل بالناس حتى نزل بالنخيلة، وأمرهم أن يلزموا معسكرهم ويوطنوا أنفسهم على جهاد عدوهم، ويقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم، فأقاموا معه أياما متمسكين برأيه وقوله، ثم تسللوا حتى لم يبق منهم أحد إلا رؤوس أصحابه.
فقام علي فيهم خطيبا فقال: الحمد لله فاطر الخلق وفالق الأصباح وناشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وأوصيكم بتقوى الله، فإن أفضل ما توسل به العبد الإيمان، والجهاد في سبيله، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقام الصلاة، فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها من فريضته، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من عذابه، وحج البيت فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنب.
وصلة الرحم فإنها مثراة في المال، منسأة في الأجل، محبة في الأهل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، وصنع المعروف فإنه يدفع ميتة السوء ويقي مصارع الهول.
أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقون فإن وعد الله أصدق الوعد، واقتدوا بهدي نبيكم ﷺ فإنه أفضل الهدى، واستسنوا بسنته فإنها أفضل السنن.
وتعلموا كتاب الله فإنه أفضل الحديث، وتفقهوا في الدين فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص.
وإذا قرىء عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الجائر الذي لا يستقيم عن جهله.
بل قد رأيت أن الحجة أعظم، والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه على هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما مضلل مثبور.
لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا، ولا تذهلوا في الحق فتخسروا.
ألا وإن من الحزم أن تثقوا، ومن الثقة أن لا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه، من يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخف ويندم.
ثم سلوا الله اليقين وارغبوا إليه في العافية، وخير ما دام في القلب اليقين، إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها، وكل محدث بدعة، وكل محدث مبتدع، ومن ابتدع فقد ضيع.
وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة المغبون من غبن دينه، والمغبون من خسر نفسه.
وإن الريا من الشرك، وإن الإخلاص من العمل والإيمان، ومجالس اللهو تنسي القرآن ويحضرها الشيطان، وتدعو إلى كل غي، ومجالسة النساء تزيغ القلوب وتطمح إليه الأبصار، وهي مصائد الشيطان.
فأصدقوا الله فأن الله مع من صدق، وجانبوا الكذب فإن الكذب مجانب للإيمان، ألا إن الصدق على شرف منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف رديء وهلكه.
ألا وقولوا الحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم.
وإذا عاهدتم فأوفوا، وإذا حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا تمازحوا، ولا يغضب بعضكم بعضا.
وأعينوا الضعيف، والمظلوم، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب، وارحموا الأرملة واليتيم، وأفشوا السلام، وردوا التحية على أهلها بمثلها أو بأحسن منها.
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [79] وأكرموا الضيف، وأحسنوا إلى الجار، وعودوا المرضى، وشيعوا الجنائز، وكونوا عباد الله إخوانا.
أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أظلت وأشرفت بإطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق، وإن السبقة الجنة والغاية النار.
ألا وإنكم في أيام مهل من ورائها أجل يحثه عجل، فمن أخلص لله عمله في أيام مهله قبل حضور أجله فقد أحسن عمله ونال أمله، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وخاب أمله، وضره أمله، فاعملوا في الرغبة والرهبة، فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة.
وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة، فإن الله قد تأذن المسلمين بالحسنى، ولمن شكر بالزيادة.
وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ولا أكثر مكتسبا من شيء كسبه ليوم تدخر فيه الدخائر، وتبلى فيه السرائر، وتجتمع في الكبائر، وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم به الهدى يجر به الضلال، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك، ومن لا ينفعه حاضره فعازبه عنه أعور، وغائبه عنه أعجز، وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد.
ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل، واتباع الهوى.
فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم، ولا تكونوا من بني الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.
وهذه خطبة بليغة نافعة جامعة للخير، ناهية عن الشر.
وقد روي لها شواهد من وجوه أخر متصلة، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر ابن جرير: أن عليا رضي الله عنه لما نكل أهل العراق عن الذهاب إلى الشام خطبهم فوبخهم وأنبهم وتوعدهم وهددهم وتلا عليهم آيات في الجهاد من سور متفرقة، وحث على المسير إلى عدوهم فأبوا من ذلك وخالفوا ولم يوافقوه، واستمروا في بلادهم، وتفرقوا عنه هاهنا وهاهنا، فدخل على الكوفة.
فصل ما جرى من أحداث في قصة التحكيم
وقد ذكر الهيثم بن عدي: أنه خرج على علي بعد النهروان يقال له الحارث بن راشد الناجي، قدم مع أهل البصرة.
فقال لعلي: إنك قد قاتلت أهل النهروان في كونهم أنكروا عليك قصة التحكيم، وتزعم أنك قد أعطيت أهل الشام عهودك ومواثيقك، وأنك لست بناقضها، وهذان الحكمان قد اتفقا على خلعك ثم اختلفا في ولاية معاوية فولاه عمر وامتنع أبو موسى من ذلك، فأنت مخلوع باتفاقهما وأنا قد خلعتك وخلعت معاوية معك.
وتبع الحارث هذا بشر كثير من قومه - بني ناجية وغيرهم - وتحيزوا ناحية، فبعث إليهم على معقل بن قيس الرماحي في جيش كثيف فقتلهم معقل قتلا ذريعا.
وسبى من بني ناجية خمسمائة أهل بيت فقدم بهم ليقدم بهم على علي فتلقاه رجل يقال له: مصقلة بن هبيرة أبو المغلس - وكان عاملا لعلي على بعض الأقاليم - فتضرروا إليه وشكوا ما هم فيه من السبي.
فاشتراهم مصقلة من معقل بخمسمائة ألف درهم وأعتقهم، فطالبه بالثمن فهرب منه إلى ابن عباس بالبصرة.
فكتب معقل إلى ابن عباس فقال له مصقلة: إني إنما جئت لأدفع ثمنهم إليك، ثم هرب منه إلى علي، فكتب ابن عباس ومعقل إلى علي فطالبه علي فدفع من الثمن مائتي ألف ثم انشمر هاربا فلحق بمعاوية بن أبي سفيان بالشام.
فأمضى علي عتقهم وقال: ما بقي من المال في ذمة مصقلة؟ وأمر بداره في الكوفة فهدمت.
وقد روى الهيثم، عن سفيان الثوري وإسرائيل، عن عمار الدهني، عن أبي الطفيل: أن بني ناجية ارتدوا فبعث إليهم: معقل بن قيس فسباهم، فاشتراهم مصقله من علي بثلاثمائة ألف فأعتقهم ثم هرب إلى معاوية.
قال الهيثم: وهذا قول الشيعة، ولم يسمع بحي من العرب ارتدوا بعد الردة التي كانت في أيام الصديق.
وقال الهيثم: حدثني عبد الله بن تميم بن طرفة الطائي، حدثني أبي: أن عدي بن حاتم قال مرة لعلي بن أبي طالب وهو يخطب: قتلت أهل النهروان على إنكار الحكومة، وقتلت الحريث بن راشد على مسألتهم إياك أيضا الحكومة، والله ما بينهما موضع قدم.
فقال له علي: اسكت إنما كنت أعرابيا تأكل الضبع بجبل طيء بالأمس.
فقال له عدي: وأنت والله قد رأيناك بالأمس تأكل البلح بالمدينة.
قال الهيثم: ثم خرج على علي رجل من أهل البصرة فقتل، فأمر أصحابه عليهم الأشرس بن عوف الشيباني، فقتل هو وأصحابه.
قال: ثم خرج على علي الأشهب بن بشر البجلي، ثم أحد عرينة من أهل الكوفة فقتل هو وأصحابه.
قال: ثم خرج على علي سعيد بن نغد التميمي، ثم من بني ثعلبة من أهل الكوفة فقتل بقنطرة درربجان فوق المدائن.
قال الهيثم: أخبرني بذلك عبد الله بن عياش عن مشيخته.
فصل قتاله للخوارج كان سنة سبع وثلاثين
ذكر ابن جرير، عن أبي مخنف لوط بن يحيى - وهو أحد أئمة هذا الشأن - أن قتال علي للخوارج يوم النهروان، كان في هذه السنة - أعني: سنة سبع وثلاثين -.
قال ابن جرير: وأكثر أهل السير على أن ذلك كان في سنة ثمان وثلاثين، وصححه ابن جرير.
قلت: وهو الأشبه كما سننبه عليه في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة - يعني: سنة سبع وثلاثين - عبيد الله بن عباس نائب علي على اليمن ومخالفيها.
وكان نائب مكة قثم بن العباس، وعلى المدينة تمام بن عباس، وقيل: سهل بن حنيف، وعلى البصرة عبد الله بن عباس، وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي، وعلى مصر محمد بن أبي بكر، وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين مقيم بالكوفة، ومعاوية بن أبي سفيان مستحوذ على الشام.
قلت: ومن نيته أن يأخذ مصر من محمد بن أبي بكر.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة، كان قد أصابه سبي في الجاهلية فاشترته أنمار الخزاعية التي كانت تختن النساء، وهي أم سباع بن عبد العزى الذي قتله حمزة يوم أحد وحالف بني زهرة.
أسلم خباب قديما قبل دار الأرقم، وكان ممن يؤدي في الله فيصبر ويحتسب، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد.
قال الشعبي: دخل يوما على عمر فأكرم مجلسه وقال: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا بلال.
فقال: يا أمير المؤمنين إن بلالا كان يؤذى وكان له من يمنعه، وإني كنت لا ناصر لي والله لقد سلقوني يوما في نار أججوها ووضع رجل على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، ثم كشف عن ظهره فإذا هو برص رضي الله عنه.
ولما مرض دخل عليه أناس من الصحابة يعودونه فقالوا: أبشر غدا تلقى الأحبة محمدا وحزبه.
فقال: والله إن إخواني مضوا ولم يأكلوا من دنياهم شيئا، وإنا قد أينعت لنا ثمرتها فنحن نهدبها، فهذا الذي يهمني.
قال: وتوفي بالكوفة في هذه السنة عن ثلاث وستين سنة وهو أول من دفن بظاهر الكوفة.
خزيمة بن ثابت
ابن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة الأنصاري ذو الشهادتين وكانت راية بني حطمة معه يوم الفتح، وشهد صفين مع علي، وقتل يومئذٍ رضي الله عنه.
سفينة
مولى رسول الله ﷺ قد قدمنا ترجمته في الموالي المنسوبين إليه صلوات الله وسلامه عليه.
عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم
أسلم عام الفتح وكتب بين يدي رسول الله ﷺ. وقد تقدم مع كتاب الوحي.
عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، قتل يوم صفين وكان أمير الميمنة لعلي فصارت إمرتها للأشتر النخعي.
عبد الله بن خباب بن الأرت. ولد في حياة النبي ﷺ، وكان موصوفا بالخير، قتله الخوارج كما قدمنا بالنهروان في هذه السنة، فلما جاء علي قال لهم: أعطونا قتلته ثم أنتم آمنون.
فقالوا: كلنا قتله، فقاتلهم.
عبد الله بن سعد بن أبي سرح: أحد كتّاب الوحي أيضا، أسلم قديما وكتب الوحي ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام عام الفتح واستأمن له عثمان - وكان أخاه لأمه - وحسن إسلامه وقد ولاه عثمان نيابة مصر بعد موت عمرو بن العاص، فغزا إفريقية وبلاد النوبة، وفتح الأندلس وغزا ذات الصواري مع الروم في البحر فقتل منهم ما صبغ وجه الماء من الدماء.
ثم لما حصر عثمان تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة وأخرجه من مصر فمات في هذه السنة وهو معتزل عليا ومعاوية، في صلاة الفجر بين التسليمتين رضي الله عنه.
عمار بن ياسر أبو اليقظان العبسي
من عبس اليمن، وهو حليف بني مخزوم، أسلم قديما وكان ممن يعذب في الله هو وأبوه وأمه سمية.
ويقال: إنه أول من اتخذ مسجدا في بيته يتعبد فيه، وقد شهد بدرا وما بعدها وقد قدمنا كيفية مقتله يوم صفين وأن رسول الله ﷺ قال: « تقتلك الفئة الباغية ».
وروى الترمذي من حديث الحسن عن أنس: أن رسول الله ﷺ قال:
« إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة، علي وعمار وسلمان ».
وفي الحديث الآخر الذي رواه الثوري وقيس بن الربيع، وشريك القاضي وغيرهم عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ عن علي: أن عمارا استأذن على رسول الله ﷺ فقال: « مرحبا بالطيب المطيب ».
وقال إبراهيم بن الحسين: حدثنا يحيى، حدثني نصر، ثنا سفيان الثوري، عن أبي الأعمش، عن أبي عمار، عن عمرو بن شرحبيل، عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ قال:
« لقد ملئ عمار إيمانا من قدمه إلى مشاشه ».
وحدثنا يحيى بن معلى، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: ما من أحد من أصحاب رسول الله ﷺ أشاء أن أقول فيه إلا عمار بن ياسر، فقال رسول الله ﷺ: « إن عمار بن ياسر حُشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا ».
وحدثنا يحيى، ثنا عمرو بن عون أنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة قال: أتيت أهل الشام فلقيت خالد بن الوليد فحدثني قال: كان بيني وبين عمار بن ياسر كلام في شيء فشكاني إلى رسول الله ﷺ فقال:
« يا خالد! لا تؤذ عمارا فإنه من يبغض عمارا يبغضه الله ومن يعاد عمارا يعاده الله » قال: فعرضت له بعد ذلك فسللت ما في نفسه.
وله أحاديث كثيرة في فضائله رضي الله عنه قتل بصفين عن إحدى، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع وتسعين سنة طعنه أبو الغادية فسقط ثم أكب عليه رجل فاحتز رأسه، ثم اختصما إلى معاوية أيهما قتله فقال لهما عمرو بن العاص: اندرا فوالله إنكما لتختصمان في النار، فسمعها منه معاوية فلامه على تسميعه إياهما ذلك.
فقال له عمرو: والله إنك لتعلم ذلك، ولوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
قال الواقدي: حدثني الحسن بن الحسين بن عمارة عن أبي إسحاق، عن عاصم: أن عليا صلى عليه ولم يغسله وصلى مع علي هاشم بن عتبة، فكان عمار مما يلي عليا، وهاشم إلى نحو القبلة.
قالوا: وقبر هنالك، وكان آدم اللون، طويلا بعيدا ما بين المنكبين: أشهل العينين، رجلا لا يغير شيبه رضي الله عنه.
الربيع بن معوذ بن عفراء
أسلمت قديما وكانت تخرج مع رسول الله ﷺ إلى الغزوات فتداوي الجرحى، وتسقي الماء للكلمى، وروت أحاديث كثيرة.
وقد قتل في هذه السنة في أيام صفين خلق كثير وجم غفير، فقيل: قتل من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفا.
وقيل: قتل من أهل العراق أربعون ألفا - من مائة وعشرين ألفا - وقيل من أهل الشام عشرون ألفا من ستين ألفا وبالجملة فقد كان فيهم أعيان ومشاهير يطول استقصاؤهم وفيما ذكرنا كفاية والله تعالى أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين
فيها: بعث معاوية عمرو بن العاص إلى ديار مصر فأخذها من محمد بن أبي بكر واستناب معاوية عمرا عليها، وذلك كما سنبينه.
وقد كان علي رضي الله عنه استناب عليها قيس بن سعد بن عبادة وانتزعها من يد محمد بن أبي حذيفة حين كان استحوذ عليها ومنع عبد الله بن سعد بن أبي سرح من التصرف فيها، حين حصر عثمان - وقد كان عثمان استخلفه عليها وعزل عنها عمرو بن العاص - وعمرو كان هو الذي افتتحها كما قدمنا ذكر ذلك.
ثم إن عليا عزل قيس بن سعد عنها وولى عليها محمد بن أبي بكر وقد ندم علي على عزل قيس بن سعد عنها، وذلك أنه كان كفوا لمعاوية وعمرو، ولما ولي محمد بن أبي بكر لم يكن فيه قوة تعادل معاوية وعمرا، وحين عزل قيس بن سعد عنها رجع إلى المدينة ثم سار إلى علي بالعراق فكان معه.
وكان معاوية يقول: والله لقيس بن سعد عند علي أبغض إليّ من مائة ألف مقاتل بدله عنده، فشهد معه صفين فلما فرغ علي من صفين وبلغه أن أهل مصر قد استخفوا بمحمد بن أبي بكر لكونه شاب ابن ست وعشرين سنة أو نحو ذلك عزم على رد مصر إلى قيس بن سعد، وكان قد جعله على شرطته أو إلى الأشتر النخعي وقد كان نائبه على الموصل ونصيبين، فكتب إليه بعد صفين فاستقدمه عليه ثم ولاه مصر.
فلما بلغ معاوية تولية علي للأشتر النخعي ديار مصر بدل محمد بن أبي بكر عظم ذلك عليه، وذلك أنه كان قد طمع في مصر واستنزاعها من يد محمد ابن أبي بكر، وعلم أن الأشتر سيمنعها منه لحزمه وشجاعته.
فلما سار الأشتر إليها وانتهى إلى القلزم استقبله الخانسار وهو مقدم على الخراج فقدم إليه طعاما وسقاه شرابا من عسل فمات منه، فلما بلغ ذلك معاوية وعمرا وأهل الشام قالوا: إن لله جنودا من عسل.
وقد ذكر ابن جرير في (تاريخه): أن معاوية كان قد تقدم إلى هذا الرجل في أن يحتال على الأشتر ليقتله ووعده على ذلك بأمور ففعل ذلك، وفي هذا نظر.
وبتقدير صحته فمعاوية يستجيز قتل الأشتر لأنه من قتلة عثمان رضي الله عنه.
والمقصود: أن معاوية وأهل الشام فرحوا فرحا شديدا بموت الأشتر النخعي، ولما بلغ ذلك عليا تأسف على شجاعته وغنائه، وكتب إلى محمد بن أبي بكر باستقراره واستمراره بديار مصر، غير أنه ضعف جأشه مع ما كان فيه من الخلاف عليه من العثمانية الذين ببلد خربتا.
وقد كانوا استفحل أمرهم حين انصرف علي من صفين، وحين كان من أمر التحكيم ما كان، وحين نكل أهل العراق عن قتال أهل الشام، وقد كان أهل الشام حين انقضت الحكومة بدومة الجندل سلموا على معاوية بالخلافة وقوي أمرهم جدا.
فعند ذلك جمع معاوية أمراءه عمرو بن العاص، وشرحبيل بن السمط، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والضحاك بن قيس، وبسر بن أبي أرطاة، وأبا الأعور السلمي، وحمزة بن سنان الهمداني وغيرهم.
فاستشارهم في المسير إلى ديار مصر فاستجابوا له وقالوا: سر حيث شئت فنحن معك، وعين معاوية نيابتها لعمرو بن العاص إذا فتحها ففرح بذلك عمرو بن العاص، ثم قال عمرو لمعاوية: أرى أن تبعث إليهم رجالا مع رجل مأمون عارف بالحرب، فإن بها جماعة ممن يوالي عثمان فيساعدونه على حرب من خالفهم.
فقال معاوية: لكن أرى أن أبعث إلى شيعتنا ممن هنالك كتابا يعلمهم بقدومهم عليهم، ونبعث إلى مخالفينا كتابا ندعوهم فيه إلى الصلح.
وقال معاوية: إنك يا عمرو رجل بورك لك في العجلة وإني امرؤ بورك لي في التؤدة.
فقال عمرو: افعل ما أراك الله، فوالله ما أمرك وأمرهم إلا سيصير إلى الحرب العوان.
فكتب عند ذلك معاوية إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري، وإلى معاوية بن خديج السكوني - وهما: رئيسا العثمانية ببلاد مصر ممن لم يبايع عليا ولم يأتمر بأمر نوابه بمصر في نحو من عشرة آلاف - يخبرهم بقدوم الجيش عليهم سريعا، وبعث به مع مولى له يقال له: سبيع.
فلما وصل الكتاب إلى مسلمة ومعاوية بن خديج فرحا به وردا جوابه بالاستبشار والمعاونة والمناصرة له ولمن يبعثه من الجيوش والجند والمدد إن شاء الله تعالى.
فعند ذلك جهز معاوية عمرو بن العاص في ستة آلاف، وخرج معاوية مودعا وأوصاه بتقوى الله والرفق والمهل والتؤدة، وأن يقتل من قاتل ويعفو عمن أدبر، وأن يدعو الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك.
فسار عمرو بن العاص إلى مصر، فلما قدمها اجتمعت عليه العثمانية فقادهم.
وكتب عمرو بن العاص إلى محمد بن أبي بكر: أما بعد فتنح فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، فإن الناس قد اجتمعوا بهذه البلاد على خلافك ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان، فاخرج منها فإني لك لمن الناصحين والسلام.
وبعث إليه عمرو أيضا بكتاب معاوية إليه: أما بعد فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا والتبعة الموبقة في الآخرة وإنا لا نعلم أحدا كان أشد خلافا على عثمان منك حين تطعن بمشاقصك بين خششائه وأوداجه، ثم إنك تظن أني عنك نائم أو ناسٍ ذلك لك، حتى تأتي فتأمر على بلاد أنت بها جاري وجل أهلها أنصاري، وقد بعثت إليك بجيوش يتقربون إلى الله بجهادك ولن يسلمك الله من القصاص أينما كنت والسلام.
قال: فطوى محمد بن أبي بكر الكتابين وبعث بهما إلى علي وأعلمه بقدوم عمرو إلى مصر في جيش من قبل معاوية، فإن كانت لك بأرض مصر حاجة فابعث إليّ بأموال ورجال والسلام.
فكتب إليه يأمره بالصبر وبمجاهدة العدو، وأنه سيبعث إليه الرجال والأموال، ويمده بما أمكنه من الجيوش.
وكتب محمد بن أبي بكر كتابا إلى معاوية في جواب ما قال وفيه غلظة، وكذلك كتب إلى عمرو بن العاص وفيه كلام غليظ، وقام محمد بن أبي بكر في الناس فخطبهم وحثهم على الجهاد ومناجزة من قصدهم من أهل الشام، وتقدم عمرو بن العاص إلى مصر في جيوشه، ومن لحق به من العثمانية المصريين، والجميع في قريب من ستة عشر ألفا.
وركب محمد بن أبي بكر في ألفي فارس الذين انتدبوا معه من المصريين، وقدم على جيشه بين يديه كنانة بن بشر فجعل لا يلقاه أحد من الشاميين إلا قاتلهم حتى يلحقهم مغلوبين إلى عمرو بن العاص.
فبعث عمرو بن العاص إليه معاوية بن خديج فجاءه من ورائه وأقبل إليه الشاميون حتى أحاطوا به من كل جانب، فترجل عند ذلك كنانة وهو يتلو: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابا مُؤَجَّلا } الآية [80].
ثم قاتل حتى قتل وتفرق أصحاب محمد بن أبي بكر عنه ورجع يمشي فرأى خربة فآوى إليها ودخل عمرو بن العاص فسطاط مصر وذهب معاوية بن خديج في طلب محمد بن أبي بكر فمر بعلوج في الطريق فقال لهم: هل مر بكم أحد تستنكرونه؟
قالوا: لا!.
فقال رجل منهم: إني رأيت رجلا جالسا في هذه الخربة.
فقال: هو هو ورب الكعبة: فدخلوا عليه فاستخرجوه منها - وقد كاد يموت عطشا - فانطلق أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص - وكان قد قدم معه إلى مصر - فقال: أيقتل أخي صبرا؟
فبعث عمرو بن العاص إلى معاوية بن خديج أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر ولا يقتله.
فقال معاوية: كلا والله، أيقتلون كنانة بن بشر وأترك محمد بن أبي بكر، وقد كان ممن قتل عثمان وقد سألهم عثمان الماء، وقد سألهم محمد بن أبي بكر أن يسقوه شربة من الماء.
فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة من الماء أبدا، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما محرما فتلقاه الله بالرحيق المختوم.
وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن محمد بن أبي بكر نال من معاوية بن خديج هذا ومن عمرو بن العاص، ومن معاوية، ومن عثمان بن عفان أيضا، فعند ذلك غضب معاوية بن خديج فقدمه فقتله ثم جعله في جيفة حمار فأحرقه بالنار.
فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعا شديدا وضمت عياله إليها، وكان فيهم ابنه القاسم وجعلت تدعو على معاوية وعمرو بن العاص دبر الصلوات.
وذكر الواقدي أن عمرو بن العاص قدم مصر في أربعة آلاف فيهم أبو الأعور السلمي فالتقوا مع المصريين بالمسناة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى قتل كنانة بن بشر بن عتاب التجيببي، فهرب عند ذلك محمد بن أبي بكر فاختبأ عند رجل يقال له: جبلة بن مسروق، فدل عليه فجاء معاوية بن خديج وأصحابه فأحاطوا به فخرج إليهم محمد بن أبي بكر فقاتل حتى قتل.
قال الواقدي: وكان ذلك في صفر من هذه السنة.
قال الواقدي: ولما قتل محمد بن أبي بكر بعث علي الأشتر النخعي إلى مصر فمات في الطريق فالله أعلم.
قال: وكانت أذرح في شعبان في هذه السنة أيضا، وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية يخبره بما كان من الأمر وأن الله قد فتح عليه بلاد مصر ورجعوا إلى السمع والطاعة واجتماع الجماعة، وبما عهد لهم من الأمر.
وقد زعم هشام بن محمد الكلبي أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة مسك بعد مقتل محمد بن أبي بكر - وكان من جملة المحرضين على قتل عثمان - فبعثه عمرو بن العاص إلى معاوية ولم يبادر إلى قتله لأنه ابن خال معاوية، فحبسه معاوية بفلسطين فهرب من السجن، فلحقه رجل يقال له عبد الله بن عمر بن ظلام بأرض البلقاء.
فاختفى محمد بغار فجاءت حمر وحش لتأوي إليه فلما رأته فيه نفرت فتعجب من نفرها جماعة من الحصادين هنالك، فذهبوا إلى الغار فوجدوه فيه، فجاء أولئك إليه فخشي عبد الله بن عمرو بن ظلام أن يرده إلى معاوية فيعفو عنه، فضرب عنقه، هكذا ذكر ذلك ابن الكلبي.
وقد ذكر الواقدي وغيره أن محمد بن أبي حذيفة قتل في سنة ست وثلاثين كما قدمنا. فالله أعلم.
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتابه: ثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطي من قبط مصر لأنه استقر عنده أنه كان يظهر الروم على عورات المسلمين - يكتب إليهم بذلك - فاستخرج منه بضعا وخمسين أردبا دنانير.
قال أبو صالح: والأردب ست ويبات الويبة مثل القفيز واعتبرنا الويبة فوجدناها تسعا وثلاثين ألف دينار.
قلت: فعلى هذا يكون يبلغ ما كان أخذ من القبطي ما يقارب ثلاثة عشر ألف ألف دينار.
قال أبو مخنف بإسناده: ولما بلغ علي بن أبي طالب مقتل محمد بن أبي بكر وما كان بمصر من الأمر، وتملك عمرو لها، واجتماع الناس عليه وعلى معاوية قام في الناس خطيبا فحثهم على الجهاد والصبر والمسير إلى أعدائهم من الشاميين والمصريين، وواعدهم الجرعة بين الكوفة والحيرة.
فلما كان الغد خرج يمشي إليها حتى نزلها فلم يخرج إليه أحد من الجيش، فلما كان العشي بعث إلى أشراف الناس فدخلوا عليه وهو حزين كئيب فقام فيهم خطيبا فقال: الحمد لله على ما قضى من أمر وقدر من فعل وابتلاني بكم و بمن لا يطيع إذا أمرتُ، ولا يجيب إذا دعوتُ، أو ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه بغير عطاء ولا معونة، ويجيبونه في السنة مرتين والثلاث إلى أي وجه شاء؟
وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهي وبقية الناس على المعونة وطائفة من العطاء فتفرقون عني وتعصونني وتختلفون عليّ؟
فقام إليه مالك بن كعب الأوسي فندب الناس إلى امتثال أمر علي والسمع والطاعة فانتدب ألفان فأمر عليهم مالك بن كعب هذا فسار بهم خمسا، ثم قدم على علي جماعة ممن كان مع محمد بن أبي بكر بمصر فأخبروه كيف وقع الأمر وكيف قتل محمد بن أبي بكر وكيف استقر أمر عمرو بها.
فبعث إلى مالك بن كعب فرده من الطريق - وذلك أنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر واستقر أمر العراقيين على مخالفة علي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، والخروج عليه والبعد عن أحكامه وأقواله وأفعاله، لجهلهم وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم وفجور كثير منهم.
فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس - وهو نائبه على البصرة - يشكو إليه ما يلقاه من الناس من المخالفة والمعاندة، فرد عليه ابن عباس يسليه في ذلك، ويعزيه في محمد بن أبي بكر ويحثه على تلافي الناس والصبر على مسيئهم، فإن ثواب الله خير من الدنيا.
ثم ركب ابن عباس من البصرة إلى علي وهو بالكوفة واستخلف ابن عباس على البصرة زيادا.
وفي هذا الحين بعث معاوية بن أبي سفيان كتابا مع عبد الله بن عمرو الحضرمي إلى أهل البصرة يدعوهم إلى الإقرار بما حكم له عمرو بن العاص.
فلما قدمها نزل على بني تميم فأجاروه فنهض إليه زياد وبعث إليه أعين بن ضبيعة في جماعة من الناس فساروا إليهم فاقتتلوا فقتل أعين بن ضبيعة، فكتب زياد إلى علي يعلمه بما وقع بالبصرة بعد خروج ابن عباس منها.
فبعث عند ذلك علي جارية بن قدامة التميمي في خمسين رجلا إلى قومه بني تميم، وكتب معه كتابا إليهم فرجع أكثرهم عن ابن الحضرمي وقصده جارية فحصره في دار هو وجماعة معه.
قيل: كان عددهم أربعين، وقيل: سبعين، فحرقهم بالنار بعد أن أعذر إليهم وأنذرهم فلم يقبلوا ولم يرجعوا عما جاؤوا له.
فصل قتال علي رضي الله عنه لأهل النهروان سنة ثمان وثلاثين
وقد صحح ابن جرير أن قتال علي لأهل النهروان كان في هذه السنة، وكذلك خروج الحريث بن راشد الناجي كان في هذه السنة أيضا.
وكان مع الحريث ثلاثمائة رجل من قومه بني ناجية - وكان مع علي بالكوفة - فجاء إلى علي فقام بين يديه وقال: والله يا علي لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، إني لك غدا لمفارق.
فقال له علي: ثكلتك أمك إذا تعصي ربك وتنقض عهدك ولا تضر إلا نفسك، ولم تفعل ذلك؟
قال: لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن قيام الحق إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الظالمين، فأنا عليك زاري وعليك ناقم، وإنا لكم جميعا مباينون.
ثم رجع إلى أصحابه فسار بهم نحو بلاد البصرة فبعث إليهم معقل بن قيس ثم أردفه بخالد بن معدان الطائي - وكان من أهل الصلاح والدين والبأس والنجدة - وأمره أن يسمع له ويطيع.
فلما اجتمعوا صاروا جيشا واحدا، ثم خرجوا في آثار الحريث وأصحابه فلحقوهم - وقد أخذوا في جبال رامهرمز -.
قال: فصففنا لهم ثم أقبلنا إليهم فجعل معقل على ميمنته يزيد بن معقل، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي، ووقف الحريث فيمن معه من العرب فكانوا ميمنة، وجعل من اتبعه من الأكراد والعلوج ميسرة.
قال: وسار فينا معقل بن قيس فقال: عباد الله! لا تبدؤا القوم وغضوا أبصاركم، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب، وأبشروا في قتالكم بالأجرة إنما تقاتلون مارقة مرقت من الدين، وعلوجا كسروا الخراج، ولصوصا وأكرادا، فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد.
ثم تقدم فحرك دابته تحريكتين ثم حمل عليهم في الثالثة وحملنا معه جميعنا، فوالله ما صبروا لنا ساعة واحدة حتى ولوا منهزمين، وقتلنا من العلوج والأكراد نحوا من ثلثمائة، وفر الحريث منهزما حتى لحق بأساف - وبها جماعة من قومه كثيرة - فاتبعوه فقتلوه مع جماعة من أصحابه بسيف البحر، قتله النعمان بن صهبان، وقتل معه في المعركة مائة وسبعون رجلا.
ثم ذكر ابن جرير وقعات كثيرة كانت بين أصحاب علي والخوارج فيها أيضا.
ثم قال: حدثني عمر بن شيبة ثنا أبو الحسن - يعني: المدائني - علي بن محمد بن علي بن مجاهد قال:
قال الشعبي: لما قتل علي أهل النهر خالفه قوم كثير، وانتقضت أطرافه وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمي إلى البصرة، وانتقض أهل الجبال، وطمع أهل الخراج في كسره وأخرجوا سهل بن حُنيف من فارس - وكان عاملا عليها - فأشار عليه ابن عباس بزياد بن أبيه أن يوليه إياها فولاه إياها فسار إليها في السنة الآتية في جمع كثير، فوطئهم حتى أدوا الخراج.
قال ابن جرير وغيره: وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس، نائب علي على مكة، وأخوه عبيد الله بن عباس نائب اليمن، وأخوهما عبد الله نائب البصرة، وأخوهم تمام بن عباس نائب المدينة، وعلى خراسان خالد بن قرة اليربوعي.
وقيل: ابن أبزي، وأما مصر فقد استقرت بيد معاوية فاستناب عليها عمرو بن العاص.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
سهل بن حُنيف
ابن واهب بن العليم بن ثعلبة الأنصاري الأوسي، شهد بدرا، وثبت يوم أُحُد، وحضر بقية المشاهد، وكان صاحبا لعلي بن أبي طالب، وقد شهد معه مشاهده كلها أيضا غير الجمل فإنه كان قد استخلفه على المدينة، ومات سهل بن حُنيف في سنة ثمان وثلاثين بالكوفة، وصلى عليه علي فكبر خمسا وقيل: ستا.
وقال: إنه من أهل بدر رضي الله عنه.
صنوان بن بيضاء أخو سهيل بن بيضاء
شهد المشاهد كلها وتوفي في هذه السنة في رمضانها وليس له عقب.
صهيب بن سنان بن مالك
الرومي وأصله من اليمن أبو يحيى بن قاسط، وكان أبوه أو عمه عاملا لكسرى على الأيلة، وكانت منازلهم على دجلة عند الموصل.
وقيل: على الفرات، فأغارت على بلادهم الروم فأسرته وهو صغير، فأقام عندهم حينا ثم اشترته بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبد الله بن جدعان فأعتقه وأقام بمكة حينا.
فلما بعث رسول الله ﷺ آمن به، وكان ممن أسلم قديما هو وعمار في يوم واحد بعد بضعة وثلاثين رجلا، وكان من المستضعفين الذين يعذبون في الله عز وجل.
ولما هاجر رسول الله ﷺ هاجر صهيب بعده بأيام فلحقه قوم من المشركين يريدون أن يصدوه عن الهجرة.
فلما أحس بهم نثل كنانته فوضعها بين يديه وقال: والله لقد علمتم أني مِنْ أرماكم، ووالله لا تصلون إليّ حتى أقتل بكل سهم من هذه رجلا منكم، ثم أقاتلكم بسيفي حتى أقتل.
وإن كنتم تريدون المال فأنا أدلكم على مالي هو مدفون في مكان كذا وكذا، فانصرفوا عنه فأخذوا ماله.
فلما قدم قال له رسول الله ﷺ: « ربح البيع أبا يحيى »، وأنزل الله: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ».
ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب.
وشهد بدرا وأُحدا وما بعدهما، ولما جعل عمر الأمر شورى كان هو الذي يصلي بالناس حتى تعين عثمان، وهو الذي وليّ الصلاة على عمر - وكان له صاحبا - وكان أحمر شديد الحمرة ليس بالطويل ولا بالقصير، أقرن الحاجبين، كثير الشعر، وكان لسانه فيه عجمة شديدة.
وكان مع فضله ودينه فيه دعابة وفكاهة وانشراح، رُوي أن رسول الله ﷺ رآه يأكل بقثاء رطبا وهو أرمد إحدى العينين.
فقال: « أتأكل رطبا وأنت أرمد؟ »
فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة، فضحك رسول الله ﷺ.
وكانت وفاته بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، وقيل: سنة تسع وثلاثين، وقد نيف على السبعين.
محمد بن أبي بكر الصدّيق
ولد في حياة النبي ﷺ في حجة الوداع تحت الشجرة عند الحرم وأمه أسماء بنت عميس، ولما احتضر الصديق أوصى أن تغسله فغسلته، ثم لما انقضت عدتها تزوجها علي فنشأ في حجره.
فلما صارت إليه الخلافة استنابه على بلاد مصر بعد قيس بن سعد بن عُبادة كما قدمنا.
فلما كانت هذه السنة بعث معاوية عمر بن العاص فاستلب منه بلاد مصر وقتل محمد بن أبي بكركما تقدم، وله من العمر دون الثلاثين، رحمه الله ورضي الله عنه.
أسماء بنت عميس
ابن معبد بن الحارث الخثعمية، أسلمت بمكة وهاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة وقدمت معه إلى خيبر، ولها منه عبد الله، ومحمد، وعون.
ولما قتل جعفر بمؤتة تزوجها بعده أبو بكر الصديق فولدت منه محمد بن أبي بكر أمير مصر، ثم لما مات الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب فولدت له يحيى وعونا، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها.
وكذلك هي أخت أم الفضل امرأة العباس لأمها، وكان لها من الأخوات لأمها تسع أخوات، وهي أخت سلمى بنت عميس امرأة العباس التي له منها بنت اسمها عمارة.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين
فيها: جهز معاوية بن أبي سفيان جيوشا كثيرة ففرقها في أطراف معاملات علي بن أبي طالب، وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع أبي موسى على عزل علي، أن ولايته وقعت الموقع، فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقده، ولأن جيوش علي من أهل العراق لا تطيعه في كثير من الأمر ولا يأتمرون بأمره.
فلا يحصل بمباشرته المقصود من الإمارة والحالة هذه، فهو يزعم أنه أولى منه إذ كان الأمر كذلك.
وكان ممن بعث في هذه السنة النعمان بن بشير في ألفي فارس إلى عين التمر، وعليها مالك بن كعب الأرحبي في ألف فارس مسلحة لعلي، فلما سمعوا بقدوم الشاميين أرفضوا عنه فلم يبق مع مالك بن كعب إلا مائة رجل.
فكتب عند ذلك إلى علي يعلمه بما كان من الأمر، فندب علي الناس إلى مالك بن كعب فتثاقلوا ونكلوا عنه ولم يجيبوا إلى الخروج، فخطبهم علي عند ذلك فقال في خطبته:
يا أهل الكوفة! كلما سمعتم بمنسرٍ من مناسر أهل الشام انجحر كل منكم في بيته، وغلق عليه بابه، انجحار الضـب في جحره، والضبع في وجاره، المغرورُ والله من غررتموه، ولمن فارقكم فاز بالسهم الأصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقةٍ عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيتُ به منكم، عميُّ لا تبصرون، وبكْم لا تنطقون، وصمُّ لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ودهمهم النعمان بن بشير فاقتتلوا قتالا شديدا، وليس مع مالك بن كعب إلا مائة رجل قد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، فبينا هم كذلك إذ جاءهم نجدة من جهة مخنف بن سليم مع ابنه عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا، فلما رآهم الشاميون ظنوا أنهم مدد عظيم ففروا هرابا، فاتبعهم مالك بن كعب فقتل منهم ثلاثة أنفس وذهب الباقون على وجوههم ولم يتم لهم أمر من هذا الوجه.
وفيها: بعث معاوية سفيان بن عوف في ستة آلاف وأمره بأن يأتي هيت فيغير عليها، ثم يأتي الأنبار والمدائن، فسار حتى انتهى إلى هيت فلم يجد بها أحدا، ثم إلى الأنبار وفيها مسلحة لعلي نحو من خمسمائة، فتفرقوا ولم يبق منهم إلا مائة رجل.
فقاتلوا مع قلتهم وصبروا حتى قتل أميرهم - وهو أشرس بن حسان البلوي - في ثلاثين رجلا من أصحابه، واحتملوا ما كان بالأنبار من الأموال وكروا راجعين إلى الشام.
فلما بلغ الخبر عليا رضي الله عنه ركب بنفسه فنزل بالنخيلة فقال له الناس: نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال: والله ما تكفونني ولا أنفسكم. وسرح سعد بن قيس في أثر القوم فسار وراءهم حتى بلغ هيت فلم يلحقهم فرجع.
وفيها: بعث معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة إلى تيماء وأمره أن يصدق أهل البوادي ومن امتنع من إعطائه فليقتله ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز.
فسار إلى تيماء واجتمع عليه بشر كثير، فلما بلغ عليا بعث المسيب بن نجيبة الفزاري في ألفي رجل فالتقوا بتيماء فاقتتلوا قتالا شديدا عند زوال الشمس.
وحمل المسيب بن نجية على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات وهو لا يريد قتله بل يقول له: النجا النجا، فانحاز ابن مسعدة في طائفة من قومه إلى حصن هناك فتحصنوا به وهرب بقيتهم إلى الشام، وانتهبت الأعراب ما كان جمعه ابن نجية من إبل الصدقة، وحاصرهم المسيب بن نجية ثلاثة أيام ثم ألقى الحطب على الباب وألهب فيه النار.
فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا من الحصن، ومتوا إليه بأنهم من قومه فَرَقَ لهم وأطفأ النار، فلما كان الليل فتح باب الحصن وخرجوا هرابا إلى الشام، فقال عبد الرحمن بن شبيب للمسيب بن نجية: سر حتى ألحقهم!
فقال: لا!
فقال: غششت أمير المؤمنين داهنت في أمرهم.
وفيها: وجَّه معاوية الضحاك بن قيس في ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أطراف جيش علي، فجهز علي حجر بن عدي في أربعة آلاف، وأنفق فيهم خمسين درهما خمسين درهما، فالتقوا بتدمر فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا، ومن أصحاب حجر بن عدي رجلان، وغشيهم الليل فتفرقوا، واستمر الضحاك بأصحابه فارا إلى الشام.
وفيها: سار معاوية بنفسه في جيش كثيف حتى بلغ دجلة ثم كر راجعا.
ذكره محمد بن سعد عن الواقدي بإسناده وأبو معشر أيضا.
وفي هذه السنة: ولى علي بن أبي طالب زياد بن أبيه على أرض فارس، وكانوا قد منعوا الخراج والطاعة.
وسبب ذلك حين قتل ابن الحضرمي وأصحابه بالنار حين حرقهم جارية بن قدامة في تلك الدار كما قدمنا، فلما اشتهر هذا الصنيع في البلاد تشوش قلوب كثير من الناس على علي، واختلفوا على علي، ومنع أكثر أهل تلك النواحي خراجهم، ولا سيما أهل فارس فإنهم تمردوا وأخرجوا عاملهم سهل بن حُنيف - كما تقدم في العام الماضي - من بين أظهرهم.
فاستشار علي الناس فيمن يوليه عليهم، فأشار ابن عباس وجارية بن قدامة أن يولي عليهم زياد بن أبيه، فإنه صليب الرأي، عالم بالسياسة.
فقال علي: هو لها، فولاه فارس وكرمان وجهزه إليهما في أربعة آلاف فارس، فسار إليها في هذه السنة فدوخ أهلها وقهرهم حتى استقاموا وأدوا الخراج وما كان عليهم من الحقوق، ورجعوا إلى السمع والطاعة، وسار فيهم بالمعدلة والأمانة، حتى كان أهل تلك البلاد يقولون:
ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي، وصفت له تلك البلاد بعدله وعلمه وصرامته، واتخذ للمال قلعة حصينة، فكانت تعرفه بقلعة زياد، ثم لما تحصن فيها منصور اليشكري فيما بعد ذلك عرفت به فكان يقال لها: قلعة منصور.
قال الواقدي: وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس على الموسم وبعث معاوية يزيد بن سخبرة الرهاوي ليقيم للناس الحج، فلما اجتمعا بمكة تنازعا وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي فحج بالناس وصلى بهم في أيام الموسم.
قال أبو الحسن المدائني: لم يشهد عبد الله بن عباس الموسم في أيام علي حتى قتل، والذي نازعه يزيد بن سخبرة إنما هو قثم بن العباس حتى اصطلحا على شيبة بن عثمان.
قال ابن جرير: وكما قال أبو الحسن المدائني قال أبو مصعب: قال ابن جرير: وأما عمال علي على الأمصار فهم الذين ذكرنا في السنة الماضية غير أن ابن عباس كان قد سار من البصرة إلى الكوفة واستخلف على البصرة زياد بن أبيه ثم سار زياد في هذه السنة إلى فارس وكرمان كما ذكرنا.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
سعد القرظي
مؤذن مسجد قبا، في زمان رسول الله ﷺ، فلما وَليَّ عمر الخلافة ولاه أذان المسجد النبوي وكان أصله مولى لعمار بن ياسر، وهو الذي كان يحمل العنزة بين يدي أبي بكر وعمر وعلي إلى المصلى يوم العيد وبقي الأذان في ذريته مدة طويلة.
عقبة بن عمرو بن ثعلبة
أبو مسعود البدري سكن ماء بدر ولم يشهد الوقعة بها على الصحيح، وقد شهد العقبة، وهو من سادات الصحابة وكان ينوب لعلي بالكوفة إذا خرج لصفين وغيرها.
سنة أربعين من الهجرة
قال ابن جرير: فممَّا كان في هذه السنة من الأمور الجليلة توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فذكر عن زياد بن عبد الله البكائي عن عوانة قال:
أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة -هو رجل من بني عامر بن لؤي - في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة - وعامل علي عليها يومئذ أبو أيوب - ففر منهم أبو أيوب فأتى عليا بالكوفة، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادى على المنبر: يا دينار، ويا نجار، ويا رزيق شيخي شيخي عهدي به ها هنا بالأمس فأين هو؟ - يعني: عثمان بن عفان - ثم قال:
يا أهل المدينة والله لولا ما عهد إليَّ معاوية ما تركتُ بها محتلما إلا قتلته، ثم بايع أهل المدينة وأرسل إلى بني سلمة فقال: والله مالكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله - يعني حتى يبايعه -.
فانطلق جابر إلى أم سلمة فقال لها: ماذا ترين إني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة؟
فقالت: أرى أن تبايع فإني قد أمرت ابني عمر وختني عبد الله بن زمعة - وهو زوج ابنتها زينب - أن يبايعا فأتاه جابر فبايعه.
قال: وهدم بسر دورا بالمدينة ثم مضى حتى أتى مكة فخافه أبو موسى الأشعري أن يقتله فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله ﷺ ذلك، فخلى عنه.
وكتب أبو موسى قبل ذلك إلى أهل اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من أبى أن يقر بالحكومة، ثم مضى بسر إلى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس ففر إلى الكوفة حتى لحق بعلي، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد الله بن المدان الحاوي.
فلما دخل بسر اليمن قتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثقل عبيد الله ابن عباس وفيه ابنان صغيران له فقتلهما وهما: عبد الرحمن، وقثم.
ويقال: إن بسرا قتل خلقا من شيعة علي في مسيره هذا، وهذا الخبر مشهور عند أصحاب المغازي والسير، وفي صحته عندي نظر والله تعالى أعلم.
ولما بلغ عليا خبر بسر وجه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار جارية حتى بلغ نجران فخرق بها وقتل ناسا من شيعة عثمان، وهرب بسر وأصحابه فاتبعهم حتى بلغ مكة، فقال لهم جارية: بايعوا فقالوا: لمن نبايع وقد هلك أمير المؤمنين فلمن نبايع؟
فقال: بايعوا لمن بايع له أصحاب علي، فتثاقلوا ثم بايعوا من خوف.
ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه فقال جارية: والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه، ثم قال لأهل المدينة: بايعوا للحسن بن علي، فبايعوا وأقام عندهم ثم خرج منصرفا إلى الكوفة، وعاد أبو هريرة يصلي بهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات يطول ذكرها على وضع الحرب بينهما، وأن يكون ملك العراق لعلي، ولمعاوية الشام، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزوة.
ثم ذكر عن زياد عن ابن إسحاق ما هذا مضمونه أن معاوية كتب إلى علي: أما بعد فإن الأمة قد قتل بعضها بعضا - يعني: فلك العراق ولي الشام - فأقر بذلك علي رضي الله عنه.
وأمسك كل واحد منهما عن قتال الآخر، وبعث الجيوش إلى بلاده، واستقر الأمر على ذلك.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة خرج ابن عباس من البصرة إلى مكة وترك العمل في قول عامة أهل السير، وقد أنكر ذلك بعضهم وزعم أنه لم يزل عاملا على البصرة حتى صالح علي معاوية، وأنه كان شاهدا للصلح، ممن نص على ذلك أبو عبيدة كما سيأتي.
ثم ذكر ابن جرير سبب خروج ابن عباس عن البصرة وذلك أنه كلم أبا الأسود الدؤلي القاضي بكلام فيه غض من أبي الأسود فكتب أبو الأسود إلى علي يشكو إليه ابن عباس وينال من عرضه فإنه تناول شيئا من أموال بيت المال.
فبعث علي إلى ابن عباس فعاتبه في ذلك وحرر عليه التبعة فغضب ابن عباس من ذلك وكتب إلى علي: ابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام.
ثم سار ابن عباس إلى مكة مع أخواله بني هلال وتبعهم قيس كلها، وقد أخذ شيئا من بيت المال مما كان اجتمع له من العمالة والفيء، ولما سار تبعه أقوام أخر فلحقهم بنو غنم وأرادوا منعهم من المسير فكان بينهم قتال، ثم تحاجزوا ودخل ابن عباس مكة.
ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وما ورد من الأحاديث النبوية من الأخبار بمقتله وكيفيته:
كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد تنغصت عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه.
واستفحل أمر أهل الشام، وصالوا وجالوا يمينا وشمالا، زاعمين أن الإمرة لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين في خلعهما عليا وتولية عمرو بن العاص معاوية عند خلو الإمرة عن أحد، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير.
وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها، أي ما ينتظر؟ ماله لا يقتل؟ ثم يقول: والله لتخضبن هذه ويشير إلى لحيته من هذه ويشير إلى هامته.
كما قال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا أبو الحراب الأحوص بن جواب، ثنا عمار بن زريق، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد قال:
قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه للحيته من رأسه فما يحبس أشقاها؟
فقال عبد الله بن سبع: والله يا أمير المؤمنين لو أن رجلا فعل ذلك لأبدنا عترته.
فقال: أنشدكم بالله أن يقتل بي غير قاتلي.
فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا تستخلف؟
فقال: لا ولكن أترككم كما ترككم رسول الله ﷺ.
قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته وقد تركتنا هملا؟.
أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.
طريق أخرى
قال أبو داود الطيالسي في (مسنده): ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة عن زيد بن وهب.
قال: جاءت الخوارج إلى علي فقالوا له: اتق الله فإنك ميت.
قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكن مقتول من ضربةٍ على هذه تخضب هذه - وأشار بيده إلى لحيته - عهد معهود وقضى مقضي، وقد خاب من افترى.
طريق أخرى عنه
قال الحافظ أبو يعلى: ثنا سويد بن سعيد، ثنا رشدين بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة، عن عثمان بن صهيب، عن أبيه قال:
قال علي: قال لي رسول الله ﷺ: « من أشقى الأولين؟ ».
قلت: عاقر الناقة.
قال: « صدقت فمن أشقى الآخرين؟ »
قلت: لا علم لي يا رسول الله ﷺ.
قال: « الذي يضربك على هذه - وأشار بيده - على يافوخه فيخضب هذه من هذه » يعني لحيته من دم رأسه قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم.
طريق أخرى عن علي
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن سبع قال: سمعت عليا يقول: لتخضبن هذه من هذه فما ينتظر بي إلا شقي.
فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا نبد عترته.
قال: إذا تقتلون بي غير قاتلي.
قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟.
قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن عبد الله بن سبعٍ قال: خطبنا علي فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه.
قال: فقال الناس: فأعلمنا من هو والله لنبيدنه أو لنبيدن عترته.
قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلي.
قالوا: إن كنت علمت ذلك فاستخلف.
قال: لا، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله ﷺ. تفرد به أحمد.
طريق أخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال الإمام أحمد: حدثنا هشم بن القاسم، ثنا محمد - يعني: ابن راشد - عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري - وكان أبو فضالة من أهل بدر -، وقال:
خرجت مع أبي عائدا لعلي بن أبي طالب من مرض أصابه ثقل منه.
قال فقال له أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا لو أصابك أجلك لم يلك إلا أعراب جهينة؟ تحمل إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك.
فقال علي: إن رسول الله ﷺ عهد إلي أن لا أموت حتى أؤمر ثم تخضب هذه - يعني لحيته - من دم هذه - يعني هامته -.
قال: فقتل أبو فضالة يوم صفين، تفرد به أحمد أيضا.
وقد رواه البيهقي في (الدلائل) عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن مكرم، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.
طريق أخرى عنه
قال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): حدثنا أحمد بن أبان القرشي، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا كوفي يقال له: عبد الملك بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول:
قال لي عبد الله بن سلام وقد وضعت رجلي في غرز الركاب لا تأتي العراق فإنك إن أتيتها أصابك بها ذباب السيف.
قال: وأيم الله لقد قالها ولقد قالها النبي ﷺ لي قبله.
قال أبو الأسود: فقلت: تالله ما رأيت رجلا محاربا يحدث بهذا قبلك غيرك.
ثم قال البزار: ولا نعلم رواه إلا علي بن أبي طالب بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه إلا عبد الملك بن أعين عن أبي حرب، ولا رواه عنه إلا ابن عيينة. هكذا قال.
قال: وقد رأيت من الطرق المتعددة خلاف ذلك.
وقال البيهقي بعد ذكره طرفا من هذه الطرق: وقد رويناه في كتاب (السنن) بإسناد صحيح عن زيد بن أسلم، عن أبي سنان الدؤلي، عن علي في إخبار النبي ﷺ بقتله.
حديث آخر في ذلك
قال الخطيب البغدادي: أخبرني علي بن القاسم البصري، ثنا علي بن إسحاق المارداني، أنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا إسماعيل بن أبان الوراق، ثنا ناصح بن عبد الله المحلمي، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ لعلي: « من أشقى الأولين؟ ».
قال: عاقر الناقة.
قال: « فمن أشقى الآخرين؟ ».
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: « قاتلك ».
حديث آخر في معنى ذلك
وروى البيهقي من طريق فطر بن خليفة وعبد العزيز بن سياه كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة الحماني قال: سمعت عليا على المنبر وهو يقول: والله إنه لعهد النبي الأمي إليّ إن الأمة ستغدر بك بعدي.
قال البخاري: ثعلبة بن زيد الحماني في حديثه هذا نظر.
قال البيهقي: وقد رويناه بإسناد آخر عن علي إن كان محفوظا.
أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو محمد بن شوذب الواسطي بها، ثنا شعيب بن أيوب، ثنا عمرو بن عون، عن هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الأزدي، عن علي قال: إن مما عهد إليّ رسول الله ﷺ أن الأمة ستغدر بك بعدي.
قال البيهقي: فإن صح فيحتمل أن يكون المراد به والله أعلم في خروج من خرج عليه ثم في قتله.
وقال الأعمش: عن عمرو بن مرة بن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأرقم.
قال: خطبنا علي يوم جمعة فقال: نبئت أن بسرا قد طلع اليمن، وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخيانتكم وأمانتهم، وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم.
قد بعثت فلانا فخان وغدر، وبعثت فلانا فخان وغدر، وبعث المال إلى معاوية لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته، اللهم سئمتهم وسئموني، وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحهم مني وأرحني منهم.
قال: فما صلى الجمعة الأخرى حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
صفة مقتله رضي الله عنه
ذكر ابن جرير، وغير واحد من علماء التاريخ والسير وأيام الناس: أن ثلاثة من الخوارج وهم: عبد الرحمن بن عمرو المعروف: بابن ملجم الحميري ثم الكندي، حليف بني حنيفة من كندة المصري، وكان أسمر حسن الوجه، أبلح شعره مع شحمة أذنيه، وفي وجهه أثر السجود.
والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي أيضا - اجتمعوا فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم.
وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم؟ كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا؟
فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب.
وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية.
وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم فسمّوها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يبيت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه.
فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها، فبينما هو جالس في قوم من بني الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت امرأة منهم يقال: قطام بنت الشجنة.
قد قتل علي يوم النهروان أباها وأخاها، وكانت فائقة الجمال مشهورة به، وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه.
فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله ونسي حاجته التي جاء لها، وخطبها إلى نفسها فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادما وقينة، وأن يقتل لها علي بن أبي طالب.
قال: فهو لك ووالله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل علي، فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرضه على ذلك وندبت له رجلا من قومها، من تيم الرباب يقال له: وردان، ليكون معه ردءا، واستمال عبد الرحمن بن ملجم رجلا آخر يقال له: شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري قال له ابن ملجم: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟
فقال: وما ذاك: قال؟ قتل علي.
فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئا إذا كيف تقدر عليه؟
قال: أكمن له في المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا.
فقال: ويحك لو غير علي كان أهون عليّ؟ قد عرفت سابقته في الإسلام وقرابته من رسول الله ﷺ، فما أجدني أنشرح صدرا لقتله.
فقال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان؟
فقال: بلى.
قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا.
فأجابه إلى ذلك بعد لأي ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت.
وقال: هذه الليلة التي واعدت أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص فجاء هؤلاء الثلاثة - وهم: ابن ملجم، ووردان، وشبيب، وهم مشتملون على سيوفهم فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة.
ويقول: الصلاة الصلاة فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه.
ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لأصحابك، وجعل يتلو قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [81].
ونادى علي: عليكم به، وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس، وُمسك ابن ملجم وقدم على جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر، وحمل علي إلى منزله، وحمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف - قبحه الله - فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟
قال: بلى.
قال: فما حملك على هذا؟
قال: شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه.
فقال له علي: لا أراك إلا مقتولا به، ولا أراك إلا من شر خلق الله.
ثم قال: إن مت فاقتلوه وإن عشت فأنا أعلم كيف أصنع به.
فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن؟
فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر.
ولما احتضر علي جعل يكثر من قول لا إله إلا الله، لا يتلفظ بغيرها.
وقد قيل: إن آخر ما تكلم به: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ } [82].
وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة، والزكاة، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عن الجاهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش.
ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية، ووصاه بما وصاهما به، وأن يعظمهما ولا يقطع أمرا دونهما وكتب ذلك كله في كتاب وصيته رضي الله عنه وأرضاه.
وصورة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم!
هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
أوصيك يا حسن وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا فإني سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: « إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام » انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوا ليهوِّن الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام فلا تعفو أفواهم ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم.
والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار.
والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم لا تظلمن بين ظهرانيكم.
والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله ﷺ أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ أن قال: « أوصيكم بالضعيفين نسائكم وما ملكت أيمانكم ».
الصلاة الصلاة لا تخافن في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله.
ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولي الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الآثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ عليكم نبيكم، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله.
ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض، في شهر رمضان سنة أربعين.
وقد غسله ابناه الحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر، وصلى عليه الحسن فكبر عليه تسع تكبيرات.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا شريك، عن عمران بن ظبيان، عن أبي يحيى قال: لما ضرب ابن ملجم عليا قال لهم: افعلوا به كما أراد رسول الله ﷺ أن يفعل برجل أراد قتله فقال: اقتلوه ثم حرقوه.
وقد روي أن أم كلثوم قالت لابن ملجم وهو واقف: ويحك!لم ضربت أمير المؤمنين؟
قال: إنما ضربت أباك.
فقالت: إنه لا بأس عليه.
فقال: لم تبكين؟ والله لقد ضربته ضربة لو أصابت أهل المصر لماتوا أجمعين، والله لقد سمعت هذا السيف شهرا، ولقد اشتريته بألف وسممته بألف.
قال الهيثم بن عدي: حدثني رجل من بجيلة عن مشيخة قومه: أن عبد الرحمن بن ملجم رأى امرأة من تيم الرباب يقول لها: قطام، كانت من أجمل النساء ترى رأي الخوارج.
قد قتل علي قومها على هذا الرأي فلما أبصرها عشقها فخطبها فقالت: لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف وعبد وقينة، فتزوجها على ذلك.
فلما بنى بها قالت له: يا هذا قد فرعت فأفرع فخرج ملبسا سلاحه وخرجت معه فضربت له قبة في المسجد وخرج علي يقول: الصلاة الصلاة، فاتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه.
فقال الشاعر: قال ابن جرير: هو ابن مياس المرادي.
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام بينّا غير معجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينةٌ * وقتل علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلا من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وقد عزى ابن جرير هذه الأبيات إلى ابن شاس المرادي وأنشد له ابن جرير في قتلهم عليا:
ونحن ضربنا مالك الخير حيدرا * أبا حسنٍ مأمومة فتقطرا
ونحن خلعنا ملكه من نظامه * بضربة سيفٍ إذ علا وتجبرا
ونحن كرامٌ في الهياج أعزةٌ * إذا الموتُ بالموتِ ارتدى وتأزرا
وقد امتدح ابن ملجم بعض الخوارج المتأخرين في زمن التابعين وهو عمران بن حطان وكان أحد العباد ممن يروي عن عائشة في (صحيح البخاري) فقال فيه:
يا ضربةً من تقيٍ ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا
وأما صاحب معاوية - وهو البرك - فإنه حمل عليه وهو خارج إلى صلاة الفجر في هذا اليوم فضربه بالسيف، وقيل: بخنجر مسموم، فجاءت الضربة في وركه فجرحت إليته ومسك الخارجي فقتل.
وقد قال لمعاوية: اتركني فإني أبشرك ببشارة.
فقال: وما هي؟
فقال: إن أخي قد قتل في هذا اليوم علي بن أبي طالب.
قال: فلعله لم يقدر عليه
قال: بلى إنه لا حرس معه، فأمر به فقتل، وجاء الطبيب فقال لمعاوية: إن جرحك مسموم، فإما أن أكويك، وأما أن أسقيك شربة فيذهب السم ولكن ينقطع نسلك.
فقال معاوية: أما النار فلا طاقة لي بها، وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما تقر به عيني.
فسقاه شربة فبرأ من ألمه وجراحه واستقل وسلم رضي الله عنه.
ومن حينئذ عملت المقصورة في المسجد الجامع وجعل الحرس حولها في حال السجود، فكان أول من اتخذها معاوية لهذه الحادثة.
وأما صاحب عمرو بن العاص - وهو عمرو بن بكر - فإنه كمن له ليخرج إلى الصلاة، فاتفق أن عرض لعمرو بن العاص مغص شديد في ذلك اليوم فلم يخرج إلا نائبه إلى الصلاة، وهو خارجة بن أبي حبيبة من بني عامر بن لؤي، وكان على شرطة عمرو بن العاص فحمل عليه الخارجي فقتله وهو يعتقده عمرو بن العاص.
فلما أخذ الخارجي قال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فأرسلها مثلا، وقتل قبحه الله.
وقد قيل: إن الذي قالها عمرو بن العاص، وذلك حين جيء بالخارجي فقال: ما هذا؟
قالوا: قتل نائبك خارجة، ثم أمر به فضربت عنقه.
والمقصود: أن عليا رضي الله عنه لما مات صلى عليه ابنه الحسن فكبر عليه تسع تكبيرات، ودفن بدار الإمارة بالكوفة خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوا عن جثته، هذا هو المشهور.
ومن قال: إنه حمل على راحلته فذهبت به فلا يدري أين ذهب فقد أخطأ وتكلف ما لا علم له به ولا يسيغه عقل ولا شرع.
وما يعتقده كثير من جهلة الروافض من أن قبره بمشهد النجف فلا دليل على ذلك ولا أصل له، ويقال: إنما ذاك قبر المغيرة بن شعبة، حكاه الخطيب البغدادي، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي بكر الطلحي، عن محمد بن عبد الله الحضرمي الحافظ، عن مطر أنه قال: لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة.
قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر كم كان سن علي يوم قتل؟
قال: ثلاثا وستين سنة.
قلت: أين دفن؟
قال: دفن بالكوفة ليلا وقد غبي عن دفنه.
وفي رواية عن جعفر الصادق: أنه كان عمره ثمانية وخمسين سنة.
وقد قيل: إن عليا دفن قبلي المسجد الجامع من الكوفة.
قاله الواقدي: والمشهور بدار الإمارة.
وقد حكى الخطيب البغدادي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين: أن الحسن والحسين حولاه فنقلاه إلى المدينة فدفناه بالبقيع عند قبر فاطمة.
وقيل: إنهم لما حملوه على البعير ضل منهم فأخذته طيء يظنونه مالا، فلما رأوا أن الذي في الصندوق ميت ولم يعرفوه دفنوا الصندوق بما فيه فلا يعلم أحد أين قبره، حكاه الخطيب أيضا.
وروى الحافظ ابن عساكر، عن الحسن قال: دفنت عليا في حجرة من دور آل جعدة.
وعن عبد الملك بن عمير قال: لما حفر خالد بن عبد الله أساس دار ابنه يزيد استخرجوا شيخا مدفونا أبيض الرأس واللحية كأنما دفن بالأمس فهّم بإحراقه، ثم صرفه الله عن ذلك فاستدعى بقباطي فلفه فيها وطيبه وتركه مكانه.
قالوا: وذلك المكان بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد في بيت إسكاف وما يكاد يقر في ذلك الموضع أحد إلا انتقل منه.
وعن جعفر بن محمد الصادق:
قال: صلّي على علي ليلا ودفن بالكوفة، وعميَ موضع قبره ولكنه عند قصر الإمارة.
وقال ابن الكلبي: شهد دفنه في الليل الحسن، والحسين، وابن الحنفية، وعبد الله بن جعفر وغيرهم من أهل بيتهم، فدفنوه في ظاهر الكوفة وعموا قبره خيفة عليه من الخوارج وغيرهم، وحاصل الأمر أن عليا قتل يوم الجمعة سَحَرا وذلك لسبع عشرة خلت من رمضان من سنة أربعين.
وقيل: إنه قتل في ربيع الأول والأول هو الأصح الأشهر والله أعلم.
ودفن بالكوفة عن ثلاث وستين سنة وصححه الواقدي، وابن جرير وغير واحد.
وقيل: عن خمس وستين.
وقيل: عن ثمان وستين سنة رضي الله عنه، وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر.
فلما مات علي رضي الله عنه استدعى الحسن بابن ملجم فقال له ابن ملجم: إني أعرض عليك خصلة.
قال: وما هي؟
قال: إني كنت عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن خليتني ذهبت إلى معاوية على أني لم أقتله أو قتلته وبقيت فلله علي أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك.
فقال له الحسن: كلا والله حتى تعاين النار، ثم قدمه فقتله، ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري ثم أحرقوه بالنار.
وقد قيل: إن عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه وكحلت عيناه، وهو مع ذلك يقرأ سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى آخرها، ثم جاؤوا ليقطعوا لسانه فجزع وقال: إني أخشى أن تمر علي ساعة لا أذكر الله فيها، ثم قطعوا لسانه، ثم قتلوه، ثم حرقوه في قوصرة والله أعلم.
وروى ابن جرير قال: حدثني الحارث، ثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر قال: ضرب علي يوم الجمعة فمكث يوم الجمعة، وليلة السبت، وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين عن ثلاث وستين سنة.
قال الواقدي: وهو المثبت عندنا والله أعلم بالصواب.
ذكر زوجاته وبنيه وبناته
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال: لما ولد الحسن جاء رسول الله ﷺ فقال: « أروني ابني، ما سميتموه؟ »
فقلت: سميته حربا.
فقال: « بل هو حسن ».
فلما ولد الحسين قال: « أروني ابني، ما سميتموه؟ »
فقلت: سميته حربا.
قال: « بل هو حسين ».
فلما ولد الثالث، جاء النبي ﷺ فقال: « أروني ابني، ما سميتموه؟ »
فقلت: حربا.
فقال: « بل هو محسن، ثم قال: إني سميتهم اسم ولد هارون شبر وشبير ومشبر ».
وقد رواه محمد بن سعد، عن يحيى بن عيسى التيمي، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال:
قال علي: كنت رجلا أحب الحرب، فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربا، فذكر الحديث بنحو ما تقدم، لكن لم يذكر الثالث.
وقد ورد في بعض الأحاديث: أن عليا سمى الحسن أولا بحمزة، وحسينا بجعفر فغير اسميهما رسول الله ﷺ.
فأول زوجة تزوجها علي رضي الله عنه فاطمة بنت رسول الله ﷺ، بنى بها بعد وقعة بدر، فولدت له الحسن وحسينا ويقال: ومحسنا ومات وهو صغير.
وولدت له زينب الكبرى، وأم كلثوم، وهذه تزوج بها عمر بن الخطاب كما تقدم.
ولم يتزوج علي على فاطمة حتى توفيت بعد رسول الله ﷺ بستة أشهر.
فلما ماتت تزوج بعدها بزوجات كثيرة، منهن من توفيت في حياته، ومنهن من طلقها، وتوفي عن أربع كما سيأتي.
فمن زوجاته: أم البنين بنت حرام، وهو المحل بن خالد بن ربيعة بن كعب بن عامر بن كلاب، فولدت له العباس، وجعفرا، وعبد الله، وعثمان.
وقد قتل هؤلاء مع أخيهم الحسين بكربلاء ولا عقب لهم سوى العباس.
ومنهن: ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك من بني تميم، فولدت له عبيد الله، وأبا بكر، قال هشام بن الكلبي: وقد قتلا بكربلاء أيضا.
وزعم الواقدي: أن عبيد الله قتله المختار بن أبي عبيد يوم الدار.
ومنهن: أسماء بنت عميس الخثعمية، فولدت له يحيى ومحمدا الأصغر قاله الكلبي.
وقال الواقدي: ولدت له يحيى وعونا.
قال الواقدي: فأما محمد الأصغر فمن أم ولد.
ومنهن: أم حبيبة بنت زمعة بن بحر بن العبد بن علقمة، وهي أم ولد، من السبي الذين سباهم خالد من بني تغلب حين أغار على عين التمر، فولدت له عمر - وقد عمر خمسا وثلاثين سنة - ورقية.
ومنهن: أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالك الثقفي، فولدت له أم الحسن، ورملة الكبرى.
ومنهن: ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن كلب الكلبية، فولد له جارية فكانت تخرج مع علي إلى المسجد وهي صغيرة، فيقال لها: من أخوالك؟
فتقول: وه وه تعني: بني كلب.
ومنهن: أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأمها زينب بنت رسول الله ﷺ، وهي التي كان رسول الله ﷺ، يحملها وهو في الصلاة إذا قام حملها وإذا سجد وضعها، فولدت له محمدا الأوسط.
وأما ابنه محمد الأكبر فهو ابن الحنفية وهي: خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، سباها خالد أيام الصديق أيام الردة من بني حنيفة، فصارت لعلي بن أبي طالب فولدت له محمدا هذا.
ومن الشيعة من يدّعي فيه الأمامة والعصمة، وقد كان من سادات المسلمين ولكن ليس بمعصوم، ولا أبوه معصوم، بل ولا من هو أفضل من أبيه من الخلفاء الراشدين قبله ليسوا بواجبي العصمة كما هو مقرر في موضعه والله أعلم.
وقد كان لعلي أولاد كثيرة آخرون من أمهات أولاد شتى فإنه مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سرية رضي الله عنه.
فمن أولاده رضي الله عنهم مما لا يعرف أسماء أمهاتهم: أم هانئ، وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الكبرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم جعفر، وأم سلمة، وجمانة.
قال ابن جرير: فجميع ولد علي أربعة عشر ذكرا وسبع عشرة أنثى.
قال الواقدي: وإنما كان النسل من خمسة: وهو الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، والعباس بن الكلابية، وعمر بن التغلبية رضي الله عنهم أجمعين.
وقد قال ابن جرير: حدثني ابن سنان القزاز، حدثنا أبو عاصم، حدثنا مسكين بن عبد العزيز أنا حفص بن خالد حدثني أبي خالد بن جابر قال: سمعت الحسن لما قتل علي قام خطيبا.
فقال: لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة نزل فيها القرآن، ورفع فيها عيسى بن مريم، وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسى.
والله ما سبقه أحد من قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، والله أن كان رسول الله ﷺ ليبعثه في السرية جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة أو تسعمائة أرصدها لحادثة، وهذا غريب جدا وفيه نكارة والله أعلم.
وهكذا رواه أبو يعلى، عن إبراهيم بن الحجاج، عن مسكين به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن هبيرة قال:
خطبنا الحسن بن علي قال: لقد فارقكم رجل بالأمس لم يسبقه الأولون بعلم ولا يدركه الآخرون، وكان رسول الله ﷺ يبعثه بالراية جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، لا ينصرف حتى يفتح له.
ورواه زيد العمي، وشعيب بن خالد، عن أبي إسحاق به وقال: ما ترك إلا سبعمائة كان أرصدها يشتري بها خادما.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شريك، عن عاصم بن كريب، عن محمد بن كعب القرظي: أن عليا قال: لقد رأيتني مع رسول الله وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وأن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفا.
ورواه عن أسود، عن شريك به وقال: إن صدقتي لتبلغ أربعين ألف دينار.
شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
من ذلك أنه أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة نسبا من رسول الله ﷺ فإنه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أبو الحسن القرشي الهاشمي فهو ابن عم رسول الله ﷺ وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
قال الزبير بن بكار: وهي أول هاشمية ولدت هاشميا.
وقد أسلمت وهاجرت، وأبوه هو العم الشقيق الرفيق أبو طالب، واسمه عبد مناف كذا نص على ذلك الإمام أحمد بن حنبل هو وغير واحد من علماء النسب وأيام الناس.
وزعمت الروافض أن اسم أبي طالب عمران وأنه المراد من قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [83].
وقد أخطأوا في ذلك خطا كثيرا، ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا البهتان من القول في تفسيرهم له على غير مراد الله تعالى، فإنه قد ذكر بعد هذه قوله تعالى: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [84].
فذكر ميلاد مريم بنت عمران عليها السلام وهذا ظاهر ولله الحمد.
وقد كان أبو طالب كثير المحبة الطبيعية لرسول الله ﷺ، ولم يؤمن به إلى أن مات على دينه كما ثبت ذلك في (صحيح البخاري) من رواية سعيد بن المسيب، عن أبيه في عرضه عليه السلام على عمه أبي طالب، وهو في السياق أن يقول: لا إله إلا الله.
فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟
فقال: كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فخرج رسول الله وهو يقول: « أما لأستغفرن لك ما لم أنه عنك »، فنزل ذلك قوله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [85].
ثم نزل بالمدينة قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [86].
وقد قررنا ذلك في أوائل المبعث ونبهنا على خطأ الرافضة في دعواهم أنه أسلم وافترائهم ذلك بلا دليل على مخالفة النصوص الصريحة.
وأما علي رضي الله عنه فإنه أسلم قديما، وهو دون البلوغ على المشهور، ويقال: إنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلم من النساء، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي.
وقد روى الترمذي، وأبو يعلي، عن إسماعيل بن السدي، عن علي بن عياش، عن مسلم الملائي، عن حبة بن جوين، عن علي - وحبة لا يساوي حبة - عن أنس بن مالك قال: بعث رسول الله يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء.
ورواه بعضهم عن مسلم الملائي، عن حبة بن جوين، عن علي - وحبة لا يساوي حبة - وقد روى سلمة بن كهيل، عن حبة، عن علي قال: عبدت الله مع رسول الله سبع سنين قبل أن يعبده أحد. وهذا لا يصح أبدا وهو كذب.
وروى سفيان الثوري، وشعبة، عن سلمة، عن حبة، عن علي قال: أنا أول من أسلم. وهذا لا يصح أيضا وحبة ضعيف.
وقال سويد بن سعيد: حدثنا نوح بن قيس بن سليمان بن عبد الله، عن معاذة العدوية قالت: سمعت علي بن أبي طالب على منبر البصرة يقول: أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم. وهذا لا يصح قاله البخاري.
وقد ثبت عنه بالتواتر أنه قال على منبر الكوفة: أيها الناس! إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميت.
وقد تقدم ذلك في فضائل الشيخين رضي الله عنهما وأرضاهما.
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: أول من صلى - وفي رواية أسلم - مع رسول الله بعد خديجة علي بن أبي طالب.
ورواه الترمذي من حديث شعبة عن أبي بلج به.
وقد روي عن زيد بن أرقم، وأبي أيوب الأنصاري أنه صلى قبل الناس بسبع سنين، وهذا لا يصح من أي وجه كان روي عنه.
وقد ورد في أنه أول من أسلم من هذه الأمة أحاديث كثيرة لا يصح منها شيء، وأجود ما في ذلك ما ذكرنا.
على أنه قد خولف فيه وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في (تاريخه) بتطريق هذه الروايات، فمن أراد كشف ذلك فعليه بكتابه (التاريخ)، والله الموفق للصواب.
وقد روى الترمذي، والنسائي، عن عمرو بن مرة، عن طلحة بن زيد، عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم علي.
قال الترمذي: حسن صحيح.
وصحب علي رسول الله ﷺ مدة مقامه بمكة، وكان عنده في المنزل وفي كفالته في حياة أبيه لفقرٍ حصل لأبيه في بعض السنين مع كثرة العيال، ثم استمر في نفقة رسول الله ﷺ بعد ذلك إلى زمن الهجرة، وقد خلفه رسول الله ﷺ ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من ودائع الناس، فإنه كان يعرف في قومه بالأمين، فكانوا يودعونه الأموال والأشياء النفيسة.
ثم هاجر علي بعد رسول الله ﷺ، وصحب رسول الله ﷺ إلى أن توفي وهو راضٍ عنه وحضر معه مشاهده كلها، وجرت له مواقف شريفة بين يديه في مواطن الحرب كما بينا ذلك في السيرة بما أغنى عن إعادته ها هنا، كيوم بدر وأُحد والأحزاب وخيبر وغيرها.
ولما استخلفه عام تبوك على أهله بالمدينة قال: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي » وقد ذكرنا تزويجه فاطمة بنت رسول الله ﷺ، ودخوله بها بعد وقعة بدر بما أغنى عن إعادته.
ولما رجع عليه السلام من حجة الوداع فكان بين مكة والمدينة بمكان يقال له: غدير خم خطب الناس هنالك في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة فقال في خطبته: « من كنت مولاه فعلي مولاه »
وفي بعض الروايات: « اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ».
والمحفوظ الأول، وإنما كان سبب هذه الخطبة والتنبيه على فضله ما ذكره ابن إسحاق من أن عليا لما بعثه رسول الله ﷺ إلى اليمن أميرا هو وخالد بن الوليد، ورجع علي فوافى رسول الله ﷺ بمكة في حجة الوداع.
وقد كثرت فيه المقالة، وتكلم فيه بعض من كان معه بسبب استرجاعه منهم خلعا كان خلعها نائبة عليهم لما تعجل السير إلى رسول الله ﷺ.
فلما تفرغ رسول الله من حجة الوداع أحب أن يبرئ ساحة علي بما نسب إليه من القول الذي لا أصل له، وقد اتخذت الروافض هذا اليوم عيدا، فكانت تضرب فيه الطبول ببغداد في أيام بني بويه في حدود الأربعمائة كما سننبه عليه إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
ثم بعد ذلك بنحو من عشرين يوما تعلق المسوح على أبواب الدكاكين ويذر التبن والرماد، وتدور الذراري والنساء في سكك البلد تنوح على الحسين بن علي يوم عاشوراء صبيحة قراءتهم المصرع المكذوب في قتله، وسنبين الحق في صفة قتله كيف وقع الأمر على الجلية إن شاء الله تعالى.
وقد كان بعض بني أمية يعيب عليا بتسميته أبا تراب، وهذا الاسم إنما سماه به رسول الله ﷺ كما ثبت في (الصحيحين)، عن سهل بن سعد أن عليا غاضب فاطمة فراح إلى المسجد فجاءه رسول الله ﷺ فوجده نائما وقد لصق التراب بجلده فجعل ينفض عنه التراب ويقول: « اجلس أبا تراب ».
حديث المؤآخاة
قال الحاكم: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجنيد، حدثنا الحسين بن جعفر القرشي، حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا أيوب بن مدرك، عن مكحول، عن أبي أمامة قال: لما آخى رسول الله ﷺ بين الناس آخى بينه وبين علي.
ثم قال الحاكم: لم نكتبه من حديث مكحول إلا من هذا الوجه، وكان المشايخ يعجبهم هذا الحديث لكونه من رواية أهل الشام.
قلت: وفي صحة هذا الحديث نظر، وورد من طريق أنس وعمر: أن رسول الله ﷺ قال: « أنت أخي في الدنيا والآخرة ».
وكذلك من طريق زيد بن أبي أوفى، وابن عباس، ومحدوج بن زيد الذهلي، وجابر بن عبد الله، وعامر بن ربيعة، وأبي ذر، وعلي نفسه نحو ذلك وأسانيدها كلها ضعيفة لا يقوم بشيء منها حجة و الله أعلم.
و قد جاء من غير وجه أنه قال: أنا عبد الله، وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب.
وقال الترمذي: ثنا يوسف بن موسى القطان البغدادي، ثنا علي بن قادم، ثنا علي بن صالح بن حيي، عن حكيم بن جبير، عن جُميع بن عمير التيمي، عن ابن عمر قال: آخى رسول الله بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تواخي بيني و بين أحد.
فقال رسول الله ﷺ: « أنت أخي في الدنيا والآخرة ».
ثم قال: هذا حديث حسن غريب وفيه: عن زيد بن أبي أوفى، وقد شهد بدرا.
وقد قال رسول الله لعمر: « وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ »
وبارز يومئذ كما تقدم، وكانت له اليد البيضاء، ودفع إليه رسول الله ﷺ الراية يومئذٍ وهو ابن عشرين سنة قاله الحكم عن مقسم، عن ابن عباس.
قال: وكانت تكون معه راية المهاجرين في المواقف كلها، وكذلك قال سعيد بن المسيب وقتادة.
وقال خيثمة بن سليمان الأطرابلسي الحافظ: حدثنا أحمد بن حازم عن ابن أبي غرزة، ثنا إسماعيل بن أبان، ثنا ناصح بن عبد الله المحملي، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال:
قالوا يا رسول الله من يحمل رايتك يوم القيامة؟
قال: « ومن عسى أن يحملها يوم القيامة إلا من كان يحملها في الدنيا علي بن أبي طالب؟ » وهذا إسناد ضعيف.
ورواه ابن عساكر، عن أنس بن مالك ولا يصح أيضا.
وقال الحسن بن عرفة: حدثني عمار بن محمد، عن سعيد بن محمد الحنظلي، عن أبي جعفر بن علي قال: نادى منادٍ في السماء يوم بدر: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.
قال الحافظ ابن عساكر: وهذا مرسل وإنما تنفل عن رسول الله ﷺ سيفه ذا الفقار يوم بدر ثم وهبه لعلي بعد ذلك.
وقال الزبير بن بكار: حدثني علي بن المغيرة، عن معمر بن المثنى قال: كان لواء المشركين يوم بدر مع طلحة بن أبي طلحة فقتله علي بن أبي طالب ففي ذلك يقول الحجاج بن علاط السلمي:
لله أي مذنبٍ عن حربه * أعني ابن فاطمة المعم المخولا
جادت يداك له بعاجل طعنةٍ * تركت طليحة للجبين مجندلا
وشددت شدة باسلٍ فكشفتهم * بالحق إذ يهوون أخول أخولا
وعللت سيفك بالدماء ولم تكن * لترده حران حتى ينهلا
وشهد بيعة الرضوان، وقد قال الله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا } [87].
وقال رسول الله ﷺ: « لن يدخل أحد بايع تحت الشجرة النار ».
وقد ثبت في (الصحاح) وغيرها أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفّرار يفتح الله على يديه ».
فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها حتى قال عمر: ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ، فلما أصبح أعطاها عليا ففتح الله على يديه.
ورواه جماعة منهم مالك، والحسن، ويعقوب بن عبد الرحمن، وجرير بن عبد الحميد، وحماد بن سلمة، وعبد العزيز بن المختار، وخالد بن عبد الله بن سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة أخرجه مسلم.
ورواه ابن أبي حازم، عن سهل بن سعد أخرجاه في (الصحيحين)، وقال في حديثه: فدعا به رسول الله وهو أرمد فبصق في عينه فبرأ.
ورواه إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، ويزيد بن أبي عبيد، عن مولاه سلمة أيضا، وحديثه عنه في (الصحيحين).
وقال محمد بن إسحاق: حدثني بريدة، عن سفيان، عن أبي فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع قال: بعث رسول الله ﷺ إلى أبي بكر الصديق برايته إلى بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد.
ثم بعث عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد.
فقال رسول الله ﷺ: « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفّرار ».
قال سلمة: فدعا رسول الله ﷺ عليا وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: « خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك ».
قال سلمة: فخرج والله بها يهرول هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رجم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن.
فقال: من أنت؟
قال: علي بن أبي طالب.
قال اليهودي: غلبتم ومن أنزل التوراة على موسى.
قال: فما رجع حتى فتح الله علي يديه.
وقد رواه عكرمة بن عمار، عن عطاء مولى السائب، عن سلمة بن الأكوع، وفيه أنه هو الذي جاء به يقوده وهو أرمد حتى بصق رسول الله في عينيه فبرأ.
رواية بريدة بن الحصيب
وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، ثنا الحسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة، حدثني بريدة بن الحصيب قال: حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له.
ثم أخذه من الغد عمر فخرج فرجع ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذٍ شدة وجهد.
فقال رسول الله ﷺ: « إني دافع اللواء غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له » - وبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدا -.
قال: فلما أصبح رسول الله ﷺ صلى الغداة، ثم قام قائما فدعا باللواء والناس على مصافهم فدعا عليا وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللواء ففتح له.
قال بريدة: وأنا فيمن تطاول لها، ورواه النسائي من حديث الحسين بن واقد به أطول منه، ثم رواه أحمد، عن محمد بن جعفر وروح كلاهما عن عوف، عن ميمون أبي عبد الله الكردي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه به نحوه، وأخرجه النسائي عن بندار، وغندر به وفيه الشعر.
رواية عبد الله بن عمر
ورواه هشيم، عن العوام بن حوشب، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر فذكر سياق حديث بريدة ورواه كثير من النواء عن جميع بن عمير، عن ابن عمر نحوه وفيه قال علي: فما رمدت بعد يومئذٍ.
ورواه أحمد عن وكيع، عن هشام بن سعيد، عن عمر بن أسيد، عن ابن عمر كما سيأتي.
رواية ابن عباس
وقال أبو يعلى: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا أبو عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال:
قال رسول الله ﷺ: « لأعطين الراية غدا رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فقال: أين علي؟ »
قالوا: يطحن.
قال: وما أحد منهم يرضى أن يطحن، فأتي به فدفع إليه الراية فجاء بصفية بنت حيي بن أخطب.
وهذا غريب من هذا الوجه وهو مختصر من حديث طويل.
ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس فذكره بتمامه.
فقال الإمام أحمد عن يحيى بن حماد: حدثنا أبو عوانة، حدثنا أبو بلج، ثنا عمر بن ميمون قال: إني لجالس إلى عن ابن عباس، إذا أتاه تسعة رهط فقالوا: يا بن عباس إما أن تقوم معنا، وإما أن تخلونا هؤلاء؟
فقال: بل أقوم معكم - وهو يومئذٍ صحيح قبل أن يعمى - قال: ابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا.
قال: فجاء ينفض ثوبه ويقول: أف وتف، وقعوا في رجل له عشر وقعوا في رجل قال له النبي ﷺ: « لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله ».
قال: فاستشرف لها من استشرف.
قال: « أين علي؟ »
قالوا: في الرحا يطحن.
قال: « وما كان أحدكم ليطحن ».
قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر فنفث في عينيه، ثم هز الراية ثلاثا فأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حيي بن أخطب قال: ثم بعث فلانا بسورة التوبة فبعث عليا خلفه فأخذها، ثم قال: « لا يذهب بها إلا رجل مني وأنا منه ».
قال: وقال لبني عمه: « أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ »، فأبوا.
فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة.
فقال: « أنت وليي في الدنيا والآخرة »
قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة.
قال: وأخذ رسول الله ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين فقال: « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ».
قال: وشرى علي نفسه لبس ثوب رسول الله ﷺ ثم نام مكانه، قال: وكان المشركون يرمون رسول الله ﷺ فجاء أبو بكر وعلي نائم وأبو بكر يحسب أنه نبي الله.
فقال: يا نبي الله!.
فقال له علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمونة فأدركه.
قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، قال: وجعل علي يُرمي بالحجارة كما كان يرمى رسول الله ﷺ وهو يتضرر، وقد لف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه فقالوا: إنك لئيم كان صاحبك ترميه فلا يتضرر، وأنت تتضرر وقد استنكرنا ذلك.
قال: وخرج - يعني: رسول الله ﷺ في غزوة تبوك - فقال له علي: أخرج معك؟
فقال له النبي ﷺ: « لا! »
فبكى علي فقال: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنك لست بنبي؟ إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي ».
قال: وقال له رسول الله ﷺ: « أنت ولي كل مؤمن بعدي ».
قال: وسد أبواب المسجد غير باب علي فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره.
قال: وقال: « من كنت مولاه فإن عليا مولاه ».
قال: وأخبرنا الله في القرآن أنه قد رضي عن أصحاب الشجرة فعلم ما في قلوبهم فهل حدثنا أنه سخط عليهم بعد.
قال: وقال نبي الله ﷺ لعمر حين قال: ائذن لي أن أضرب عنق هذا المنافق - يعني: حاطب بن أبي بلتعة - قال: « وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: « اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ».
وقد روى الترمذي بعضه من طريق شعبة، عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم واستغربه.
وأخرج النسائي بعضه أيضا، عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن حماد به.
وقال البخاري في (التاريخ): حدثنا عمر بن عبد الوهاب الرماحي، حدثنا معمر بن سليمان، عن أبيه، عن منصور، عن ربعي، عن عمران بن حصين.
قال: قال رسول الله ﷺ: « لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله » فبعث إلى علي وهو أرمد فتفل في عينيه وأعطاه الراية فما رد وجهه وما اشتكاهما بعد.
، ورواه أبو القاسم البغوي، عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي موسى الهروي، عن علي بن هاشم، عن محمد بن علي عن منصور، عن ربعي عن عمران فذكره.
وأخرجه النسائي بعد عن عباس العنبري، عن عمر بن عبد الوهاب به.
رواية أبي سعيد في ذلك
قال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام، وحجين بن المثنى قالا: ثنا إسرائيل، حدثنا عبد الله بن عصمة قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: أن رسول الله ﷺ أخذ الراية فهزها ثم قال: « من يأخذها بحقها ».
فجاء فلان فقال: أنا.
فقال: « امض ».
ثم جاء رجل آخر، فقال: أنا.
فقال: « امض ».
ثم قال النبي ﷺ: « والذي أكرم وجه محمد لأعطينها رجلا لا يفر »، فجاء علي فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتهما وقديدههما.
ورواه أبو يعلي، عن حسين بن محمد، عن إسرائيل وقال في سياقه: فجاء الزبير فقال: أنا.
فقال: « امض ».
ثم جاء آخر.
فقال: « امض »، وذكره تفرد به أحمد.
رواية علي بن أبي طالب في ذلك
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان أبي يسير مع علي، وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف.
فقيل له: لو سألته
فسأله فقال: إن رسول الله ﷺ بعث إليّ وأنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله إني أرمد العين، فتفل في عيني فقال: « اللهم أذهب عنه الحر والبرد » فما وجدت حرا ولا بردا منذ يومئذ.
وقال: « لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار » فتشرف لها أصحاب النبي ﷺ فأعطانيها.
تفرد به أحمد وقد رواه غير واحد عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن علي به مطولا.
وقال أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أم موسى قالت: سمعت عليا يقول: ما رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول الله وجهي، وتفل في عيني يوم خيبر وأعطاني الراية.
رواية سعد بن أبي وقاص في ذلك
وثبت في (الصحيحين) من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله ﷺ قال لعلي: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي؟ ».
قال أحمد، ومسلم، والترمذي: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال له: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟
فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله ﷺ؟
لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله ﷺ يقول - وخلفه في بعض مغازيه - فقال له علي: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟
فقال رسول الله ﷺ: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ ».
وسمعته يقول يوم خيبر: « لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ».
قال: فتطاولت لها، قال: « ادعوا لي عليا » فأُتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه.
ولما نزلت هذه الآية { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } [88].
دعا رسول الله ﷺ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ثم قال: « اللهم هؤلاء أهلي ».
وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث سعيد بن المسيب، عن سعد أن رسول الله ﷺ قال لعلي: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى ».
وقال الترمذي: ويستغرب من رواية سعيد عن سعد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد الزبيري، حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه - يعني: عبد الله بن عمر - عن سعد قال: لما خرج رسول الله ﷺ إلى تبوك خلف عليا فقال: أتخلفني؟
قال: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي »، وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا محمد بن حازم أبو معاوية الضرير، عن موسى بن مسلم الشيباني، عن عبد الرحمن بن سابط، عن سعد بن أبي وقاص قال: قدم معاوية في بعض حجاته فأتاه سعد بن أبي وقاص فذكروا عليا.
فقال سعد: له ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من الدنيا وما فيها.
سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
وسمعته يقول: « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ».
وسمعته يقول: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي »، لم يخرجوه، وإسناده حسن.
وقال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أحمد بن خالد الذهبي أبو سعيد، ثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن أبيه قال: لما حج معاوية أخذ بيد سعد بن أبي وقاص.
فقال: يا أبا إسحاق إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو عن الحج حتى كدنا أن ننسى بعض سننه فطف نطف بطوافك.
قال: فلما فرغ أدخله دار الندوة فأجلسه معه على سريره، ثم ذكر علي بن أبي طالب فوقع فيه.
فقال: أدخلتني دارك وأجلستني على سريرك، ثم وقعت في علي تشتمه؟
والله لأن يكون في إحدى خلاله الثلاث أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، ولأن يكون لي ما قال حين غزا تبوكا « إلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ »
أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن يكون لي ما قال له يوم خيبر: « لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، ليس بفرار »
أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ولأن أكون صهره على ابنته ولي منها الولد ماله أحب إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، لا أدخل عليك دارا بعد هذا اليوم، ثم نفض رداءه ثم خرج.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص قال: خلف رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟
قال: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ » إسناده على شرطهما، ولم يخرجاه.
وهكذا رواه أبو عوانة، عن الأعمش، عن الحكم بن مصعب، عن أبيه، ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن عاصم، عن مصعب، عن أبيه فالله أعلم.
وقال أحمد: ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، ثنا سليمان بن بلال، حدثنا الجعد بن عبد الرحمن الجعفي، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها: أن عليا خرج مع رسول الله ﷺ حتى جاء ثنية الوداع وعلي يبكي يقول: تخلفني مع الخوالف؟.
فقال: « أوما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة؟ ».
وهذا إسناد صحيح أيضا ولم يخرجوه.
وقد رواه غير واحد، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها.
قال الحافظ ابن عساكر: وقد روى هذا الحديث عن رسول الله ﷺ جماعة من الصحابة منهم عمر، وعلي، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، ومعاوية، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة، وأبو سعيد، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن أبي أوفى، ونبيط بن شريط، وحبشي بن جنادة، ومالك بن الحويرث، وأنس بن مالك، وأبو الفضل، وأم سلمة، وأسماء بنت عميس، وفاطمة بنت حمزة.
وقد تقصى الحافظ ابن عساكر هذه الأحاديث في ترجمة علي في (تاريخه) فأجاد وأفاد وبرز على النظراء والأشباه والأنداد. رحمه رب العباد يوم التناد.
رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك
قال أبو يعلى: حدثنا عبد الله بن عمر، ثنا عبد الله بن جعفر، أخبرني سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:
قال عمر: لقد أُعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إليّ من حمر النعم.
قيل: وما هن يا أمير المؤمنين؟
قال: تزويجه فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وسكناه المسجد مع رسول الله ﷺ يحل له فيه ما يحل له، والراية يوم خيبر.
وقد روى عن عمر من غير وجه.
رواية ابن عمر رضي الله عنهما
وقد رواه الإمام أحمد: عن وكيع، عن هشام بن سعد، عن عمر بن أسيد، عن ابن عمر قال: كنا نقول في زمان رسول الله ﷺ خير الناس أبو بكر ثم عمر، ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث لأن أكون أعطيتهن أحب إليّ من حمر النعم. فذكر هذه الثلاث.
وقد روى أحمد، والترمذي، من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر أن رسول الله ﷺ قال لعلي: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ ».
ورواه أحمد من حديث عطية، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال: « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».
ورواه الطبراني من طريق عبد العزيز بن حكيم، عن ابن عمر مرفوعا.
ورواه سلمة بن كهيل، عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن أم سلمة أن رسول الله قال لعلي: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ». قال سلمة: وسمعت مولى لبني موهب يقول: سمعت ابن عباس يقول: قال النبي ﷺ مثله.
تزويجه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما
قال سفيان الثوري: عن ابن نجيح، عن أبيه، سمع رجل عليا على منبر الكوفة يقول: أردت أن أخطب إلى رسول الله ﷺ ابنته، ثم ذكرت أن لا شيء لي، ثم ذكرت عائدته وصلته فخطبتها.
فقال: « هل عندك شيء؟ »
قلت: لا!.
قال: « فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ ».
قلت: عندي.
قال: « فأعطها »
فأعطيتها فزوجني، فلما كان ليلة دخلت عليها.
قال: « لا تحدثا شيئا حتى آتيكما ».
قال: فأتانا وعلينا قطيفة أو كساء فتحثثنا.
فقال: « مكانكما »، ثم دعا بقدح من ماء فدعا فيه، ثم رشه عليّ وعليها.
فقلت: يا رسول الله، أنا أحب إليك أم هي؟
قال: « هي أحب إليّ وأنت أعز عليّ منها ».
وقد روى النسائي من طريق عبد الكريم بن سليط، عن ابن بريدة، عن أبيه فذكره بأبسط من هذا السياق.
وفيه: أنه أولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من الذرة من عند جماعة من الأنصار، وأنه دعا لهما بعد ما صب عليهما الماء.
فقال: « اللهم بارك لهما في شملهما » - يعني: الجماع - وقال محمد بن كثير: عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: لما خطب علي فاطمة دخل عليها رسول الله ﷺ، فقال لها: « أي بنية! إن ابن عمك عليا قد خطبك فماذا تقولين؟
فبكت ثم قالت: كأنك يا أبت إنما دخرتني لفقير قريش؟
فقال: والذي بعثني بالحق ما تكلمت فيه حتى أذن الله لي فيه من السموات.
فقالت فاطمة: رضيت بما رضي الله ورسوله.
فخرج من عندها واجتمع المسلمون إليه ثم قال: « يا علي أخطب لنفسك ».
فقال علي: الحمد الله الذي لا يموت، وهذا محمد رسول الله زوجني ابنته على صداق مبلغه أربعمائة درهم، فاسمعوا ما يقول واشهدوا.
قالوا: ما تقول يا رسول الله؟
قال: « أشهدكم أني قد زوجته ».
رواه ابن عساكر وهو منكر، وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة، ضربنا عنها لئلا يطول الكتاب بها.
وقد أورد منها طرفا جيدا الحافظ ابن عساكر في (تاريخه).
وقال وكيع: عن أبي خالد، عن الشعبي قال: قال علي: ما كان لنا إلا إهاب كبش ننام على ناحيته، وتعجن فاطمة على ناحيته.
وفي رواية مجالد، عن الشعبي: ونعلف عليه الناضح بالنهار وما لي خادم عليها غيرها.
حديث آخر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله ﷺ أبواب شارعة في المسجد.
قال: فقال يوما: « سدوا هذه الأبواب إلا باب علي ».
قال: فتكلم في ذلك أناس، فقام رسول الله ﷺ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال: فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا إلا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته ».
وقد رواه أبو الأشهب: عن عوف، عن ميمون، عن البراء بن عازب فذكره.
وقد تقدم ما رواه أحمد، والنسائي من حديث أبي عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس الحديث الطويل وفيه سد الأبواب غير باب علي.
وكذا رواه شعبة، عن أبي بلج.
ورواه سعد بن أبي وقاص قال أبو يعلى، ثنا موسى بن محمد بن حسان، ثنا محمد بن إسماعيل بن جعفر الطحان ثنا غسان بن بسر الكاهلي، عن مسلم، عن خيثمة، عن سعد أن رسول الله ﷺ سد أبواب المسجد وفتح باب علي، فقال الناس في ذلك: فقال: « ما أنا فتحته، ولكن الله فتحه ».
وهذا لا ينافي ما ثبت في (صحيح البخاري) من أمره عليه السلام في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر الصديق، لأن نفي هذا في حق علي كان في حال حياته لاحتياج فاطمة إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها، فجعل هذا رفقا بها.
وأما بعد وفاته فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالناس إذ كان الخليفة عليهم بعد موته عليه السلام، وفيه إشارة إلى خلافته.
وقال الترمذي: ثنا علي بن المنذر، حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله ﷺ لعلي: « يا علي لا يحل لأحد يجنب في المسجد غيري وغيرك ».
قال علي بن المنذر: قلت لضرار بن صُرَدَ: ما معنى هذا الحديث؟
قال: لا يحل لأحد يستطرقه جُنبا غيري وغيرك.
ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد سمع محمد بن إسماعيل هذا الحديث.
وقد رواه ابن عساكر من طريق كثير النواء، عن عطية، عن أبي سعيد به.
ثم أورده من طريق أبي نعيم: حدثنا عبد الملك بن أبي عيينة، عن أبي الخطاب عمر الهروي، عن محدوج، عن جسرة بنت دجاجة أخبرتني أم سلمة قالت: خرج النبي ﷺ في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد فنادى بأعلى صوته: « أنه لا يحل لجنب أو لحائض إلا لمحمد وأزواجه، وعلي، وفاطمة بنت محمد، ألا هل بينّت لكم الأسماء أن تضلوا ».
وهذا إسناد غريب وفيه ضعف، ثم ساقه من حديث أبي رافع بنحوه، وفي إسناده غرابة أيضا.
حديث آخر
قال الحاكم وغير واحد: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة بن الحصيب: قال: غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة، فقدمت على النبي ﷺ فذكرت عليا فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله ﷺ يتغير، فقال: « يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم »؟.
فقلت: بلى يا رسول الله.
فقال: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، ثنا الأجلح الكندي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة قال: بعث رسول الله ﷺ بعثتين إلى اليمن على إحداهما علي بن أبي طالب، وعلى الأخرى خالد بن الوليد.
وقال: « إذا التقيتما فعلي على الناس، وإذا افترقتما فكل واحد منكما على جنده ».
قال: فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا، فظهر المسلمون على المشركين فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، فاصطفى علي امرأة من السبي لنفسه.
قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله ﷺ يخبره بذلك، فلما أتيت رسول الله دفعت إليه الكتاب فقرئ عليه فرأيت الغضب في وجه رسول الله.
فقلت: يا رسول الله هذا مكان العائذ بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه فبلغت ما أرسلت به.
فقال رسول الله ﷺ: « لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه؛ وهو وليكم بعدي » هذه اللفظة منكرة والأجلح شيعي ومثله لا يقبل إذا تفرد بمثلها، وقد تابعه فيها من هو أضعف منه والله أعلم.
والمحفوظ في هذا رواية أحمد، عن وكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: « من كنت مولاه فعلي وليه »
ورواه أحمد أيضا: والحسن بن عرفة، عن الأعمش به.
ورواه النسائي عن أبي كريب، عن أبي معاوية به.
وقال أحمد: حدثنا روح بن علي بن سويد بن منجوف، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: بعث رسول الله ﷺ عليا إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس قال: فأصبح ورأسه تقطر.
فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما يصنع هذا؟.
قال: فلما رجعت إلى رسول الله أخبرته ما صنع علي. قال: - وكنت أبغض عليا -.
فقال: « يا بريدة أتبغض عليا؟ »
فقلت: نعم!.
قال: « لا تبغضه وأحبه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك ».
وقد رواه البخاري في (الصحيح) عن بندار، عن روح به مطولا.
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الجليل قال: انتهيت إلى حلقة فيها أبو مجلز وابنا بريدة فقال عبد الله بن بريدة: حدثني أبي بريدة قال: أبغضت عليا لم أبغضه أحدا، قال وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا، فبعث ذلك الرجل على خيل: قال: فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليا فأصبنا سبيا، فكتبنا إلى رسول الله ﷺ أن أبعث إلينا من يخمسه، فبعث إلينا عليا.
قال: وفي السبي وصيفة هي من أفضل السبي - فخمس وقسم فخرج ورأسه يقطر.
فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟
قال: ألم ترو إلى الوصيفة التي كانت في السبي؟ فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت في أهل بيت النبي ﷺ، ثم صارت في آل علي فوقعت بها.
قال: وكتب الرجل إلى نبي الله ﷺ، فقلت: ابعثني؟ فبعثني مصدّقا.
قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق.
قال: فأمسك النبي ﷺ بيدي والكتاب، قال: « أتبغض عليا؟ »
قال: قلت نعم!.
قال: « فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فوالذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة ».
قال: فما كان من الناس أحد بعد قول رسول الله ﷺ أحب إليّ من علي.
قال عبد الله: فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي ﷺ في هذا الحديث غير أبي بريدة، وتفرد به أحمد.
وقد روى غير واحد هذا الحديث عن أبي الجواب، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن البراء بن عازب نحو رواية بريدة بن الحصيب وهذا غريب.
وقد رواه الترمذي: عن عبد الله بن أبي زياد، عن أبي الجواب الأحوص بن جواب به، وقال: حسن غريب لا نعرفه، إلا من حديثه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثني يزيد الرشك، عن مطرف بن عبد الله، عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله سرية، وأمر عليها علي بن أبي طالب فأحدث شيئا في سفره فتعاقد أربعة من أصحاب محمد أن يذكروا أمره إلى رسول الله ﷺ.
قال عمران: وكنا إذا قدمنا من سفر بدأنا برسول الله ﷺ فسلمنا عليه.
قال: فدخلوا عليه فقام رجل منهم، فقال: يا رسول الله ﷺ إن عليا فعل كذا وكذا، فأعرض عنه، ثم قام الثاني، فقال: يا رسول الله ﷺ إن عليا فعل كذا وكذا، فأعرض عنه.
ثم قام الثالث فقال: يا رسول الله إن عليا فعل كذا وكذا.
ثم قام الرابع فقال: يا رسول الله إن عليا فعل كذا وكذا.
قال: فأقبل رسول الله ﷺ على الرابع وقد تغير وجهه، وقال: « دعوا عليا، دعوا عليا، دعوا عليا إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي ».
وقد رواه الترمذي، والنسائي عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، وسياق الترمذي مطول، وفيه: أنه أصاب جارية من السبي، ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان.
ورواه أبو يعلي الموصلي: عن عبد الله بن عمر القواريري، والحسن بن عمر بن شقيق الحرمي، والمعلى بن مهدي كلهم عن جعفر بن سليمان به.
وقال خيثمة بن سليمان: حدثنا أحمد بن حازم، أخبرنا عبيد الله بن موسى بن يوسف بن صهيب، عن دكين، عن وهب بن حمزة قال: سافرت مع علي بن أبي طالب من المدينة إلى مكة، فرأيت منه جفوة فقلت: لئن رجعت فلقيت رسول الله ﷺ لأنالن منه.
قال: فرجعت، فلقيت رسول الله ﷺ فذكرت عليا فنلت منه.
فقال لي رسول الله ﷺ: « لا تقولن هذا لعلي فإن عليا وليكم بعدي ».
وقال أبو داود الطيالسي: عن شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ قال لعلي: « أنت ولي كل مؤمن بعدي ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن أبي إسحاق، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد قالت: اشتكى عليا الناس، فقام رسول الله فينا خطيبا.
فسمعته يقول: « أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأجيش في ذات الله - أو في سبيل الله - ». تفرد به أحمد.
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، إنا أبو سهل بن زياد القطان، ثنا أبو إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي إدريس، حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد قال: بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب إلى اليمن.
قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه، فلما أحضر إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا - وكنا قد رأينا في إبلنا خللا - فأبى علينا وقال: إنما لكم منها سهم كما للمسلمين.
قال: فلما فرغ علي وانصرف من اليمن راجعا، أمّر علينا إنسانا فأسرع هو فأدرك الحج.
فلما قضى حجته قال له النبي ﷺ: « ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم ».
قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي منعنا إياه ففعل، فلما جاء علي عرف في إبل الصدقة أنها قد رُكبت - رأى أثر المراكب - فذم الذي أمّره ولامه.
فقلت: أما إن لله عليّ إن قدمت المدينة وغدوت إلى رسول الله ﷺ لأذكرن لرسول الله ﷺ ولأخبرته ما لقينا من الغلظة والتضييق.
قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله ﷺ أريد أن أذكر له ما كنت حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجا من عند رسول الله ﷺ.
فلما رآني وقف معي ورحب بي، وسألني وسألته.
وقال: متى قدمت؟
قلت: قدمت البارحة، فرجع معي إلى رسول الله ﷺ وقال: هذا سعد بن مالك بن الشهيد.
قال: « ائذن له ».
فدخلت فحييت رسول الله ﷺ وحياني، وسلمت عليه، وسألني عن نفسي وعن أهلي، فأخفى المسألة.
فقلت: يا رسول الله ﷺ لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق، فابتدر رسول الله وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول الله ﷺ على فخذي - وكنت منه قريبا - وقال: « سعد بن مالك بن الشهيد مه بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله ».
قال: فقلت في نفسي: ثكلتك أمك سعد بن مالك ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم، وما أدري لا جرم، والله لا أذكره بسوء أبدا سرا ولا علانية.
وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثني أبان بن صالح، عن عبد الله بن دينار الأسلمي، عن خاله عمرو بن شاش الأسلمي - وكان من أصحاب الحديبية - قال: كنت مع علي في خيله التي بعثه فيها رسول الله ﷺ إلى اليمن، فجفاني علي بعض الجفاء، فوجدت عليه في نفسي.
فلما قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وعند من لقيته، فأقبلت يوما ورسول الله ﷺ جالس في المسجد، فلما رآني أنظر إلى عينيه نظر إليّ حتى جلست إليه.
فلما جلست إليه قال: « أما إنه والله يا عمرو لقد آذيتني »
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله والإسلام أن أوذي رسول الله ﷺ.
فقال: « من آذى عليا فقد آذاني ».
وقد رواه أحمد، عن يعقوب، عن أبيه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الفضل بن معقل، عن عبد الله بن دينار، عن خاله عمرو بن شاش فذكره.
وكذا رواه غير واحد، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن الفضل، وكذلك رواه سيف بن عمر، عن عبد الله بن سعيد عن أبان بن صالح به ولفظه: فقال رسول الله ﷺ: « من آذى مسلما فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ».
وروى عباد بن يعقوب الرواجني، عن موسى بن عمير، عن عقيل بن نجدة بن هبيرة، عن عمرو بن شاش قال: قال رسول الله ﷺ: « يا عمرو، وإن من آذى عليا فقد آذاني ».
وقال أبو يعلى: ثنا محمود بن خداش، ثنا مروان بن معاوية، ثنا فنان بن عبد الله النهمي، ثنا مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: كنت جالسا في المسجد أنا ورجلان معي فنلنا من علي، فأقبل رسول الله ﷺ وفي وجهه الغضب فتعوذت بالله من غضبه.
فقال: « مالكم ومالي من آذى عليا فقد آذاني ».
حديث غدير خم
قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد وأبو نعيم المعنى قالا: ثنا فطّر، عن أبي الطفيل قال: جمع علي الناس في الرحبة.
ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله يقول: يوم غدير خم ما سمع لما قام فقام كثير من الناس.
قال أبو نعيم: - فقام ناس كثير - فشهدوا حين أخذ بيده، فقال للناس: « أتعلمون إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ».
قالوا: نعم يا رسول الله.
قال: « من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ».
قال: فخرجت كأن في نفسي شيئا، فلقيت زيد بن أرقم.
فقلت له: إني سمعت عليا يقول: كذا وكذا.
قال: فما تنكر؟ وقد سمعت رسول الله ﷺ، يقول ذلك له.
ورواه النسائي من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل عنه أتم من ذلك.
وقال أبو بكر الشافعي: ثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدثنا عبيد الله بن موسى، ثنا أبو إسرائيل الملائي، عن الحكم، عن أبي سليمان المؤذن، عن زيد بن أرقم أن عليا انتشد الناس:
من سمع رسول الله يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه ».
فقام ستة عشر رجلا فشهدوا بذلك وكنت فيهم.
وقال أبو يعلى، وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه: حدثنا القواريري، ثنا يونس بن أرقم، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهدت عليا في الرحبة يناشد الناس:
أنشد بالله من سمع رسول الله، يقول: يوم غدير خم: « من كنت مولاه فعلي مولاه » لما قام فشهد قال عبد الرحمن: فقام اثنا عشر بدريا كأني أنظر إلى أحدهم عليه سراويل.
فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله ﷺ يقول يوم غدير خم: « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم؟ ».
قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: « فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه ».
ثم رواه عبد الله بن أحمد، عن أحمد بن عمر الوكيعي، عن زيد بن الحباب، عن الوليد بن عقبة بن نيار، عن سماك بن عبيد بن الوليد العبسي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى فذكره.
قال: فقام اثنا عشر رجلا.
فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حين أخذ بيدك، يقول: « اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ».
وهكذا رواه أبو داود الطهوي - واسمه عيسى بن مسلم - عن عمرو بن عبد الله بن هند الجملي، وعبد الأعلى بن عامر التغلبي كلاهما، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى فذكره بنحوه.
قال الدار قطني: غريب تفرد به عنهما أبو داود الطهوي.
وقال الطبراني: ثنا أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن كيسان المديني سنة تسعين ومائتين.
حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا مسعر، عن طلحة بن مصرف، عن عميرة بن سعد قال: شهدت عليا على المنبر يناشد أصحاب رسول الله ﷺ.
من سمع رسول الله يوم غدير خم يقول: ما قال فقام اثنا عشر رجلا منهم أبو هريرة، وأبو سعيد، وأنس بن مالك فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ».
ورواه أبو العباس بن عقدة الحافظي الشيعي، عن الحسن بن علي بن عفان العامري، عن عبد الله بن موسى، عن قطن، عن عمرو بن مرة، وسعيد بن وهب، وعن زيد بن نتيع قالوا: سمعنا عليا يقول في الرحبة:
فذكر نحوه فقام ثلاثة عشر رجلا، فشهدوا أن رسول الله قال: « من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ».
قال أبو إسحاق: حين فرغ من هذا الحديث يا أبا بكر أي أشياخ هم؟.
وكذلك رواه عبد الله بن أحمد، عن علي بن حكيم الأودي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق فذكر نحوه.
وقال عبد الرزاق: عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، وعبد خير قالا: سمعنا عليا برحبة الكوفة يقول: أنشد الله رجلا سمع رسول الله ﷺ يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه »، فقام عدة من أصحاب رسول الله فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله ﷺ يقول ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق سمعت سعيد بن وهب قال: نشد علي الناس فقام خمسة أو ستة من أصحاب رسول الله، فشهدوا أن رسول الله ﷺ قال: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حسين بن الحرث بن لقيط الأشجعي، عن رباح بن الحرث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليكم يا مولانا.
فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟.
قالوا: سمعنا رسول الله ﷺ يوم غدير خم يقول: « من كنت مولاه فإن هذا علي مولاه ».
قال رباح: فلما مضوا اتبعتهم، فسألت من هؤلاء؟
قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا شريك، عن حنش عن رباح بن الحرث قال: بينا نحن جلوس في الرحبة مع علي إذ جاء رجل عليه أثر السفر.
فقال: السلام عليك يا مولاي.
قالوا: من هذا؟
فقال أبو أيوب: سمعت رسول الله يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
وقال أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا الربيع - يعني: ابن أبي صالح الأسلمي - حدثني زياد بن أبي زياد الأسلمي، سمعت علي بن أبي طالب ينشد الناس فقال: أنشد الله رجلا مسلما سمع رسول الله ﷺ يقول: يوم غدير خم ما قال، فقام اثنا عشر رجلا بدريا فشهدوا.
وقال أحمد: حدثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك، عن أبي عبد الرحمن الكندي، عن زاذان، أن ابن عمر قال: سمعت عليا في الرحبة وهو ينشد الناس: من شهد رسول الله يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟
فقام ثلاثة عشر رجلا، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
وقال أحمد: ثنا الحجاج بن الشاعر، ثنا شبابة، ثنا نعيم بن حكيم، حدثني أبو مريم ورجل من جلساء علي عن علي أن رسول الله ﷺ قال يوم غدير خم: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
قال: فزاد الناس بعد اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه.
وقد روي هذا من طرق متعددة، عن علي رضي الله عنه، وله طرق متعددة عن زيد بن أرقم.
وقال غندر: عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي مريم أو زيد بن أرقم - شعبة الشاك - قال: قال رسول الله ﷺ: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
قال سعيد بن جبير: وأنا قد سمعته قبل هذا من ابن عباس.
رواه الترمذي، عن بندار، عن غندر، وقال حسن غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي عبيد، عن ميمون بن أبي عبد الله قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول الله بوادٍ يقال له واد خُم، فأمر بالصلاة فصلاها بهجير.
قال: فخطبنا وظلل لرسول الله ﷺ بثوب على شجرة سمر من الشمس فقال: « ألستم تعلمون - أو لستم تشهدون - إني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ ».
قالوا: بلى!
قال: « فمن كنت مولاه، فإن عليا مولاه، اللهم عاد من عاداه ووالِ من والاه ».
وكذا رواه أحمد: عن غندر، عن شعبة، عن ميمون بن أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم.
وقد رواه عن زيد بن أرقم جماعة منهم أبو إسحاق السبيعي، و حبيب الأساف و عطية العوفي و أبو عبد الله الشامي، و أبو الطفيل عامر بن واثلة.
وقد رواه معروف بن حربوذ، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد قال: لما قفل رسول الله من حجة الوداع نهى أصحابه عن شجرات بالبطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهن، ثم بعث إليهن فصلى تحتهن.
ثم قام فقال: « أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، وإني لأظن أن يوشك أن ادعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤلون، فماذا أنتم قائلون؟ ».
قالوا: نشهد أنك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا.
قال: « ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ ».
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال: « اللهم أشهد ».
ثم قال: « يا أيها الناس، إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه ».
ثم قال: « أيها الناس إني فرطكم وإنكم واردون عليّ الحوض، حوض أعرض مما بين بصرى وصنعاء فيه آنية عدد النجوم قدحان من فضة، وإني سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله، وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».
رواه ابن عساكر بطوله من طريق معروف كما ذكرنا.
وقال عبد الرزاق: أنا معمر، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله حتى نزلنا غدير خم بعث مناديا ينادي.
فلما اجتمعنا قال: « ألست أولى بكم من أنفسكم؟ »
قلنا: بلى يا رسول الله!.
قال: « ألست أولى بكم من أمهاتكم؟ ».
قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: « ألست أولى بكم من آبائكم؟ ».
قلنا: بلى يا رسول الله!.
قال: « ألست ألست ألست؟ ».
قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: « من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه ».
فقال عمر بن الخطاب: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت اليوم ولي كل مؤمن.
وكذا رواه ابن ماجه من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، وأبي هارون العبدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء به.
وهكذا رواه موسى بن عثمان الحضرمي، عن أبي إسحاق، عن البراء به.
وقد روي هذا الحديث عن سعد، وطلحة بن عبيد الله، وجابر بن عبد الله وله طرق عنه، وأبي سعيد الخدري، وحبشي بن جنادة، وجرير بن عبد الله، وعمر بن الخطاب، وأبي هريرة.
وله عنه طرق منها - وهي: أغربها - الطريق الذي قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ثنا عبد الله بن علي بن محمد بن بشران، أنا علي بن عمر الحافظ، أنا أبو نصر حبشون بن موسى بن أيوب الخلال، ثنا علي بن سعيد الرملي، حدثنا ضمرة بن ربيعة القرشي.
عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشرة ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا، وهو يوم غدير خم، لما أخذ النبي ﷺ بيد علي بن أبي طالب.
فقال: « ألست ولي المؤمنين؟ ».
قالوا: بلى يا رسول الله!
قال: « من كنت مولاه فعلي مولاه ».
فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي، ومولى كل مسلم، فأنزل الله عز وجل: « اليوم أكملت لكم دينكم ».
ومن صام يوم سبعة وعشرين من رجب كتب له صيام ستين شهرا، وهو أول يوم نزل جبريل في الرسالة.
قال الخطيب: اشتهر هذا الحديث برواية حبشون، وكان يقال: إنه تفرد به.
وقد تابعه عليه أحمد بن عبيد الله بن العباس بن سالم بن مهران، المعروف: بابن النبري، عن علي بن سعيد الشامي.
قلت: وفيه نكارة من وجوه منها، قوله نزل فيه: « اليوم أكملت لك دينكم ».
وقد ورد مثله من طريق ابن هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري ولا يصح أيضا، وإنما نزل يوم عرفة كما ثبت في (الصحيحين) عن عمر بن الخطاب وقد تقدم.
وقد رُوي عن جماعة من الصحابة غير من ذكرنا في قوله عليه السلام « من كنت مولاه » والأسانيد إليهم ضعيفة.
حديث الطير
وهذا الحديث قد صنف الناس فيه، وله طرق متعددة، وفي كل منها نظر، ونحن نشير إلى شيء من ذلك.
قال الترمذي: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن عيسى بن عمر، عن السُّدي، عن أنس قال: كان عند النبي ﷺ طير.
فقال: « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير »، فجاء علي فأكل معه.
ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث السُّدي إلا من هذا الوجه.
قال: وقد رُوي من غير وجه عن أنس، وقد رواه أبو يعلى عن الحسين بن حماد، عن شهر بن عبد الملك، عن عيسى بن عمر به.
وقال أبو يعلى: ثنا قطن بن بشير، ثنا جعفر بن سليمان الضبعي، ثنا عبد الله بن مثنى، ثنا عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله ﷺ حجل مشوي بخبزه وضيافة.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام ».
فقالت عائشة: اللهم اجعله أبي.
وقالت حفصة: اللهم اجعله أبي.
وقال أنس: وقلت: اللهم اجعله سعد بن عبادة.
قال أنس: فسمعت حركة بالباب فقلت: إن رسول الله ﷺ على حاجة فانصرف، ثم سمعت حركة بالباب فخرجت فإذا علي بالباب.
فقلت: إن رسول الله ﷺ على حاجة فانصرف
ثم سمعت حركة بالباب فسلم عليَّ فسمع رسول الله ﷺ صوته فقال: « انظر من هذا؟ » فخرجت فإذا هو علي، فجئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته، فقال: « ائذن له يدخل عليَّ » فأذنت له فدخل.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم والِ من والاه ».
والى ورواه الحاكم في (مستدركه) عن أبي علي الحافظ، عن محمد بن أحمد الصفار، وحميد بن يونس الزيات، كلاهما عن محمد بن أحمد بن عياض، عن أبي غسان أحمد بن عياض، عن أبي ظبية، عن يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس فذكره، وهذا إسناد غريب.
ثم قال الحاكم: هذا الحديث على شرط البخاري ومسلم، وهذا فيه نظر، فإن أبا علاثة محمد بن أحمد بن عياض هذا معروف، لكن روى هذا الحديث عنه جماعة عن أبيه، وممن رواه عنه أبو القاسم الطبراني، ثم قال: تفرد به عن أبيه والله أعلم.
قال الحاكم: وقد رواه عن أنس أكثر من ثلاثين نفسا.
قال شيخنا الحافظ الكبير أبو عبد الله الذهبي: فصلهم بثقة يصح الإسناد إليه.
ثم قال الحاكم: وصحت الرواية عن علي، وأبي سعيد، وسفينة.
قال شيخنا أبو عبد الله: لا والله ما صح شيء من ذلك.
ورواه الحاكم من طريق إبراهيم بن ثابت القصار وهو مجهول، عن ثابت البناني، عن أنس قال: دخل محمد بن الحجاج فجعل يسب عليا فقال أنس: اسكت عن سب علي، فذكر الحديث مطولا وهو منكر سندا ومتنا.
لم يورد الحاكم في (مستدركه) غير هذين الحديثين وقد رواه ابن أبي حاتم عن عمار بن خالد الواسطي، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن أنس، وهذا أجود من إسناد الحاكم.
ورواه عبد الله بن زياد، أبو العلاء، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أنس بن مالك فقال: أُهدي لرسول الله ﷺ طير مشوي.
فقال: « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير » فذكره نحوه.
ورواه محمد بن مصفى، عن حفص بن عمر، عن موسى بن سعد، عن الحسن، عن أنس فذكره.
ورواه علي بن الحسن الشامي، عن خليل بن دعلج، عن قتادة، عن أنس بنحوه.
ورواه أحمد بن يزيد الورتنيس، عن زهير، عن عثمان الطويل، عن أنس فذكره.
ورواه عبيد الله بن موسى، عن مسكين بن عبد العزيز، عن ميمون أبي خلف، حدثني أنس بن مالك فذكره.
قال الدار قطني: من حديث ميمون أبي خلف تفرد به مسكين بن عبد العزيز، ورواه الحجاج بن يوسف بن قتيبة، عن بشر بن الحسين، عن الزبير بن عدي، عن أنس.
ورواه ابن يعقوب إسحاق بن الفيض، ثنا المضاء بن الجارود، عن عبد العزيز بن زياد: أن الحجاج بن يوسف دعا أنس بن مالك من البصرة، فسأله عن علي بن أبي طالب فقال: أهدي للنبي ﷺ طائر فأمر به فطبخ وصنع، فقال: « اللهم ائتني بأحب الخلق إليّ يأكل معي ». فذكره.
وقال الخطيب البغدادي: أنا الحسن بن أبي بكير، أنا أبو بكر محمد بن العباس بن نجيح، حدثنا محمد بن القاسم النحوي أبو عبد الله، ثنا أبو عاصم، عن أبي الهندي، عن أنس فذكره.
ورواه الحاكم بن محمد، عن محمد بن سليم، عن أنس بن مالك فذكره.
وقال أبو يعلى: حدثنا الحسن بن حماد الوراق، ثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع ثقة، ثنا عيسى بن عمر، عن إسماعيل السدي: أن رسول الله ﷺ كان عنده طائر.
فقال: « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير » فجاء أبو بكر فرده، ثم جاء عمر فرده، ثم جاء عثمان فرده، ثم جاء علي فأذن له.
وقال أبو القاسم بن عقدة: ثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا يوسف بن عدي، ثنا حماد بن المختار الكوفي، ثنا عبد الملك بن عمير، عن أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله ﷺ طائر فوضع بين يديه.
فقال: « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي »
قال: فجاء علي فدق الباب، فقلت: من ذا؟
فقال: أنا علي.
فقلت: إن رسول الله على حاجة حتى فعل ذلك ثلاثا، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل، فقال النبي ﷺ: « ما حبسك؟ »
فقال: جئت ثلاث مرات فيحبسني أنس.
فقال النبي ﷺ: « ما حملك على ذلك؟ »
قال: قلت: كنت أحب أن يكون رجلا من قومي.
وقد رواه الحاكم النيسابوري عن عبدان بن يزيد، عن يعقوب الدقاق، عن إبراهيم بن الحسن الشامي، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن حسين بن سليمان بن عبد الملك بن عمير، عن أنس فذكره.
ثم قال الحاكم: لم نكتبه إلا بهذا الإسناد.
وساقه ابن عساكر من حديث الحرث بن نبهان، عن إسماعيل - رجل من أهل الكوفة - عن أنس بن مالك فذكره.
ومن حديث حفص بن عمر المهرقاني، عن الحكم بن شبير بن إسماعيل أبي سليمان أخي إسحاق بن سليمان الرازي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن أنس فذكره.
ومن حديث سليمان بن قرم، عن محمد بن علي السلمي، عن أبي حذيفة العقيلي، عن أنس فذكره.
وقال أبو يعلى: ثنا أبو هشام، ثنا ابن فضيل، ثنا مسلم الملائي، عن أنس قال: أهدت أم أيمن إلى رسول الله ﷺ طيرا مشويا.
فقال: « اللهم ائتني بمن تحبه يأكل معي من هذا الطير ».
قال أنس: فجاء علي فاستأذن.
فقلت: هو على حاجته، فرجع ثم عاد فاستأذن.
فقلت: هو على حاجته فرجع، ثم عاد فاستأذن فسمع النبي ﷺ صوته فقال: « ائذن له »، فدخل وهو موضوع بين يديه، فأكل منه وحمد الله.
فهذه طرق متعددة عن أنس بن مالك، وكل منها فيه ضعف ومقال.
وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي - في جزء جمعه في هذا الحديث بعد ما أورد طرقا متعددة نحو مما ذكرنا -ويروى هذا الحديث من وجوه باطلة أو مظلمة عن حجاج بن يوسف، وأبي عاصم خالد بن عبيد، ودينار أبي كيسان، وزياد بن محمد الثقفي، وزياد العبسي، وزياد بن المنذر.
وسعد بن ميسرة البكري، وسليمان التيمي، وسليمان بن علي الأمير، وسلمة بن وردان، وصباح بن محارب، وطلحة بن مصرف، وأبي الزناد، وعبد الأعلى بن عامر، وعمر بن راشد، وعمر بن أبي حفص الثقفي الضرير، وعمر بن سليم البجلي، وعمر بن يحيى الثقفي، وعثمان الطويل.
وعلي بن أبي رافع، وعيسى بن طهمان، وعطية العوفي، وعباد بن عبد الصمد، وعمار الذهبي، وعباس بن علي، وفضيل بن غزوان، وقاسم بن جندب، وكلثوم بن جبر، ومحمد بن علي الباقر، والزهري، ومحمد بن عمرو بن علقمة.
ومحمد بن مالك الثقفي، ومحمد بن جحادة، وميمون بن مهران، وموسى الطويل، وميمون بن جابر السلمي، ومنصور بن عبد الحميد، ومعلى بن أنس، وميمون أبي خلف الجراف.
وقيل: أبو خالد، ومطر بن خالد، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر، وموسى بن عبد الله الجهني، ونافع مولى ابن عمر، والنضر بن أنس بن مالك، ويوسف بن إبراهيم، ويونس بن حيان، ويزيد بن سفيان، ويزيد بن أبي حبيب، وأبي المليح، وأبي الحكم، وأبي داود السبيعي، وأبي حمزة الواسطي، وأبي حذيفة العقيلي، وإبراهيم بن هدبة.
ثم قال بعد أن ذكر الجميع: الجميع بضعة وتسعون نفسا أقربها غرائب ضعيفة، وأردؤها طرق مختلفة مفتعلة، وغالبها طرق واهية.
وقد روي من حديث سفينة مولى رسول الله ﷺ، فقال أبو القاسم البغوي، وأبو يعلى الموصلي قالا:
حدثنا القواريري، ثنا يونس بن أرقم، ثنا مطير بن أبي خالد، عن ثابت البجلي، عن سفينة مولى رسول الله ﷺ.
قال: أهدت امرأة من الأنصار طائرين بين رغيفين - ولم يكن في البيت غيري وغير أنس - فجاء رسول الله ﷺ فدعا بغذائه.
فقلت: يا رسول الله قد أهدت لك امرأة من الأنصار هدية، فقدمت الطائرين إليه.
فقال رسول الله ﷺ: « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك ».
فجاء علي بن أبي طالب فضرب الباب خفيا، فقلت: من هذا؟
قال: أبو الحسن، ثم ضرب الباب ورفع صوته.
فقال رسول الله: « من هذا »؟
قلت: علي بن أبي طالب.
قال: « افتح له »، ففتحت له فأكل معه رسول الله ﷺ من الطيرين حتى فنيا.
وروي عن ابن عباس، فقال أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد: ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، ثنا حسين بن محمد، ثنا سليمان بن قرم، عن محمد بن شعيب، عن داود بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده ابن عباس.
قال: أن النبي ﷺ أُتي بطائر.
فقال: « اللهم ائتني برجل يحبه الله ورسوله »، فجاء علي فقال: « اللهم وإلي ».
وروى عن علي نفسه، فقال عباد بن يعقوب: ثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: أهدي لرسول الله ﷺ طير يقال له الحبارى، فوضعت بين يديه -.
وكان أنس بن مالك يحجبه - فرفع النبي ﷺ يده إلى الله ثم قال: « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير ».
قال: فجاء علي فاستأذن.
فقال له أنس: أن رسول الله يعني على حاجته.
فرجع ثم أعاد رسول الله ﷺ الدعاء فرجع، ثم دعا الثالثة فجاء علي فأدخله، فلما رآه رسول الله قال: « اللهم وإلي » فأكل معه.
فلما أكل رسول الله وخرج علي، قال أنس: سمعت عليا فقلت: يا أبا الحسن استغفر لي فإن لي إليك ذنب، وإن عندي بشارة، فأخبرته بما كان من النبي ﷺ، فحمد الله، واستغفر لي، ورضي عني أذهب ذنبي عنده بشارتي إياه.
ومن حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، أورده ابن عساكر من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن ابن لهيعة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر فذكره بطوله.
وقد روي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الحاكم، ولكن إسناده مظلم، وفيه ضعفاء.
وروي من حديث حبشي بن جنادة، ولا يصح أيضا.
ومن حديث يعلى بن مرة، والإسناد إليه مظلم، ومن حديث أبي رافع نحوه، وليس بصحيح.
وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة منهم: أبو بكر بن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي، ورأيت فيه مجلدا في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر بن جرير الطبري المفسر صاحب (التاريخ).
ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه سندا ومتنا للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلم.
وبالجملة ففي القلب من صحة الحديث هذا نظر، وإن كثرت طرقه والله أعلم.
حديث آخر في فضل علي
قال أبو بكر الشافعي: ثنا بشر بن موسى الأسدي، ثنا زكريا بن عدي، ثنا عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال:
خرجت مع رسول الله ﷺ إلى امرأة من الأنصار في نخل لها يقال له: الإسراف.
ففرشت لرسول الله ﷺ تحت صور لها مرشوش.
فقال رسول الله ﷺ: « الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة »، فجاءه أبو بكر.
ثم قال: « الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة »، فجاء عمر.
ثم قال: « الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة ».
قال: فلقد رأيته مطاطيا رأسه تحت الصور.
ثم يقول: « اللهم إن شئت جعلته عليا » فجاء علي.
ثم إن الأنصارية ذبحت لرسول الله ﷺ شاة وصنعتها فأكل وأكلنا، فلما حضرت الظهر قام يصلي وصلينا ما توضأ ولا توضأنا، فلما حضرت العصر صلى وما توضأ ولا توضأنا.
حديث آخر
قال أبو يعلى: حدثنا الحسن بن حماد الكوفي، ثنا ابن أبي عتبة، عن أبيه، عن الشيباني، عن جميع بن عمير قال: دخلت مع أبي على عائشة فسألتها عن علي
فقالت: ما رأيت رجلا كان أحب لرسول الله ﷺ منه، ولا امرأة كانت أحب إلى رسول الله ﷺ من امرأته.
وقد رواه غير واحد من الشيعة عن جميع بن عمير به.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن بكير، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الله الجدلي البجلي قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي:
أيسب رسول الله ﷺ فيكم؟
فقلت: معاذ الله - أو سبحان الله - أو كلمة نحوها.
قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من سب عليا فقد سبني ».
وقد رواه أبو يعلى، عن عبيد الله بن موسى، عن عيسى بن عبد الرحمن البجلي، من بجيلة من سليم، عن السدي، عن أبي عبد الله البجلي قال: قالت لي أم سلمة: أيسب رسول الله فيكم على المنابر؟.
قال: قلت وأنى ذلك؟.
قالت: أليس يسب علي ومن أحبه؟ فأشهد أن رسول الله ﷺ كان يحبه.
وقد روي من غير هذا الوجه عن أم سلمة.
وقد ورد من حديثها، وحديث جابر وأبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال لعلي: « كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك ».
ولكن أسانيدها كلها ضعيفة لا يحتج بها.
حديث آخر
قال عبد الرزاق: أنا الثوري، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش قال: سمعت عليا يقول: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنه لعهد النبي ﷺ إليّ « أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ».
ورواه أحمد، عن ابن عمير، ووكيع، عن الأعمش.
وكذلك رواه أبو معاوية، ومحمد بن فضيل، وعبد الله بن داود الحربي، وعبيد الله بن موسى، ومحاضر بن المورع، ويحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش به.
وأخرجه مسلم في (صحيحه)
ورواه غسان بن حسان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن علي فذكره.
وقد روي من غير وجه عن علي.
وهذا الذي أوردناه هو الصحيح من ذلك والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن فضيل، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، أبي نصر، حدثني مساور الحميري، عن أبيه قال:
سمعت أم سلمة تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول لعلي: « لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق ».
وقد روي من غير هذا الوجه عن أم سلمة بلفظ آخر ولا يصح.
وروى ابن عقدة، عن الحسن بن علي بن بزيغ، ثنا عمرو بن إبراهيم، ثنا سوار بن مصعب، عن الحكم، عن يحيى الخزار، عن عبد الله بن مسعود سمعت رسول الله ﷺ يقول: « من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليا فهو كاذب ليس بمؤمن ». وهذا الإسناد مختلق لا يثبت والله أعلم.
وقال الحسن بن عرفة: حدثني سعيد بن محمد الوراق، عن علي بن الحراز، سمعت أبا مريم الثقفي، سمعت عمار بن ياسر يقول:
سمعت النبي ﷺ يقول لعلي: « طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك ».
وقد روي في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة لا أصل لها.
وقال غير واحد: عن أبي الأزهر أحمد بن الأزهر: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن عبيد الله، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ نظر إلى علي فقال: « أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني، وبغيضك بغيض الله، وويل لمن أبغضك من بعدي ».
وروى غير واحد أيضا، عن الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن علي قال: دعاني رسول الله فقال: « إن فيك من عيسى ابن مريم مثلا أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبوه النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس هو له ».
قال علي: ألا وإنه يهلك في اثنان محب مطري مفرط يقرطني بما ليس فيّ.
ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا وإني لست بنبي، ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله حق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم.
لفظ عبد الله بن أحمد.
قال يعقوب بن سفيان: ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا مسهر، عن الأعمش، عن موسى بن طريف، عن عباية، عن علي قال: أنا قسيم النار، إذا كان يوم القيامة قلت: هذا لك وهذا لي.
قال يعقوب: وموسى بن طريف ضعيف يحتاج إلى من يعدله، وعباية أقل منه ليس بشيء حديثه.
وذكر أن أبا معاوية لام الأعمش على تحديثه بهذا.
فقال له الأعمش: إذا نسيت فذكروني.
ويقال: أن الأعمش إنما رواه على سبيل الاستهزاء بالروافض والتنقيص لهم في تصديقهم ذلك.
قلت: وما يتوهمه بعض العوام بل هو مشهور بين كثير منهم، أن عليا هو الساقي على الحوض فليس له أصل، ولم يجئ من طريق مرضي يعتمد عليه.
والذي ثبت أن رسول الله ﷺ هو الذي يسقي الناس.
وهكذا الحديث الوارد في أنه ليس أحد يأتي يوم القيامة راكبا إلا أربعة: رسول الله ﷺ على البراق، وصالح على ناقته، وحمزة على العضباء، وعلي على ناقة من نوق الجنة رافعا صوته بالتهليل.
وكذلك ما في أفواه الناس من اليمين بعلي، يقول أحدهم:
خذ بعلي، أعطني بعلي، ونحو ذلك كل ذلك لا أصل له بل ذلك من نزعات الروافض ومقالاتهم، ولا يصح من شيء من الوجوه، وهو من وضع الرافضة ويخشى على من اعتاد ذلك سلب الإيمان عند الموت، ومن حلف بغير الله فقد أشرك.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثني يحيى، عن شعبة، ثنا عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: مر بي رسول الله ﷺ وأنا وجع وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان آجلا فارفع عني، وإن كان بلاء فصبرني.
قال: « ما قلت »: فأعدت عليه فضربني برجله، وقال: « ما قلت؟ »
فأعدت عليه، فقال: « اللهم عافه أو اشفه ».
فما اشتكيت ذلك الوجع بعد.
حديث آخر
قال محمد بن مسلم بن داره: ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا أبو عمر الأزدي، عن أبي راشد الحراني، عن أبي الحمراء قال:
قال رسول الله ﷺ: « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب ».
وهذا منكر جدا ولا يصح إسناده.
حديث آخر في رد الشمس
قد ذكرناه في (دلائل النبوة) بأسانيده وألفاظه فأغنى له عن إعادته.
حديث آخر
قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا علي بن المنذر الكوفي، ثنا محمد بن فضيل، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر قال: دعا رسول الله ﷺ عليا يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال بخواه مع ابن عمه، فقال رسول الله ﷺ: « ما انتجيته ولكن الله انتجاه ».
ثم قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الأجلح.
وقد رواه غير ابن فضيل، عن الأجلح، ومعنى قوله « ولكن الله انتجاه »:
أن الله أمرني أن أنتجي معه.
حديث آخر
قال الترمذي: ثنا محمد بن بشار، ويعقوب بن إبراهيم، وغير واحد، ثنا أبو عاصم، عن أبي الجراح، عن جابر بن صبح، حدثتني أمي أم شراحيل، حدثتني أم عطية قالت: بعث رسول الله ﷺ جيشا فيهم علي.
قالت: سمعت رسول الله ﷺ رافعا يديه يقول: « اللهم لا تمتني حتى ترني عليا ».
ثم قال: هذا حديث حسن.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، قال حصين: أنا علي، عن هلال بن يساف، عن عبد الله بن ظالم المازني قال: لما خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة قال: فأقام خطباء يقعون في علي، قال:
وأنا إلى جنب سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل، قال: فغضب فقام وأخذ بيدي وتبعته.
فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم لنفسه الذي يأمر بلعن رجل من أهل الكوفة، وأشهد على التسعة أنهم من أهل الجنة، ولو شهدت على العاشر لم آثم.
قال: قلت: وما ذاك؟
قال: قال رسول الله ﷺ: « أثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد ».
قال: قلت: من هم؟
فقال: رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن مالك.
قال: قلت: ومن العاشر؟
قال: قال: أنا.
وينبغي أن يكتب هاهنا حديث أم سلمة المتقدم قريبا أنها قالت لأبي عبد الله الجدلي: أيسب رسول الله فيكم على المنابر؟ الحديث رواه أحمد.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، وابن أبي بكير قالا: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة السلولي - وكان قد شهد حجة الوداع - قال:
قال رسول الله ﷺ: « علي مني، وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي ».
ثم رواه أحمد، عن أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل.
حديث آخر
قال أحمد: حدثنا وكيع قال: قال إسرائيل: قال أبو إسحاق، عن زيد بن بثيغ، عن أبي بكر: أن رسول الله ﷺ بعثه ببراءة إلى أهل مكة لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، من كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله.
قال: فسار بها ثلاثا، ثم قال لعلي: الحقه وردّ علي أبا بكر وبلغها أنت.
قال: فلما قدم أبو بكر على رسول الله بكى.
وقال: يا رسول الله حدث فيّ شيء؟
قال: « ما حدث فيك إلا خير، ولكن أمرت أن لا يبلّغه إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ».
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني محمد بن سليمان لوين، حدثنا محمد بن جابر، عن سماك، عن حبشي، عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة دعا رسول الله أبا بكر، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني، فقال لي: أدرك أبا بكر فحيث لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر فقال:
يا رسول الله نزل فيّ شيء؟
قال: « لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل من بيتك ».
وقد رواه كثير النواء، عن جمُيع بن عمير، عن ابن عمر بنحوه، وفيه نكارة من جهة أمره برد الصديق، فإن الصديق لم يرجع بل كان هو أمير الحج في سنة تسع.
وكان علي هو وجماعة معه بعثهم الصديق يطوفون برحاب منى في يوم النحر وأيام التشريق ينادون ببراءة؟ وقد قررنا ذلك في حجة الصديق وفي أول تفسير سورة براءة.
حديث آخر
روي من حديث أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعمران بن حصين، وأنس، وثوبان، وعائشة، وأبي ذر، وجابر أن رسول الله ﷺ قال: « النظر إلى وجه علي عبادة ».
وفي حديث عائشة: ذكر علي عبادة.
ولكن لا يصح شيء منها، فإنه لا يخلو كل سند منها عن كذاب أو مجهول لا يعرف حاله، وهو شيعي.
حديث الصدقة بالخاتم وهو راكع
قال الطبراني: ثنا عبد الرحمن بن مسلم الرازي، ثنا محمد بن يحيى، عن ضريس العبدي، ثنا عيسى بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [89].
فخرج رسول الله ﷺ فدخل المسجد والناس يصلون بين راكع وقائم، وإذا سائل فقال: « يا سائل هل أعطاك أحد شيئا »
فقال: لا! إلا ها ذاك الراكع - لعلي - أعطاني خاتمه.
وقال الحافظ ابن عساكر: أنا خالي المعالي القاضي، أنا أبو الحسن الخلعي، أنا أبو العباس أحمد بن محمد الشاهد، ثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث الرملي، ثنا القاضي جملة بن محمد، ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو نعيم الأحول، عن موسى بن قيس.
عن سلمة قال: تصدق عليّ بخاتمه وهو راكع، فنزلت: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }.
وهذا لا يصح بوجه من الوجوه لضعف أسانيده، ولم ينزل في علي شيء من القرآن بخصوصيته، وكل ما يريدونه في قوله تعالى: { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [90].
وقوله: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينا وَيَتِيما وَأَسِيرا } [91].
وقوله: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [92].
وغير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في أنها نزلت في علي لا يصح شيء منها.
وأما قوله تعالى: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [93].
فثبت في (الصحيح) أنه نزل في علي، وحمزة، وعبيدة من المؤمنين، وفي عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة من الكافرين.
وما روي عن ابن عباس أنه قال: ما نزل في أحد من الناس ما نزل في علي.
وفي رواية عنه أنه قال: نزل فيه ثلثمائة آية، فلا يصح ذلك عنه لا هذا ولا هذا.
حديث آخر
قال أبو سعيد بن الأعرابي: ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا العباس بن بكار، أبو الوليد، ثنا عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس قال:
كان رسول الله ﷺ جالسا بالمسجد وقد أطاف به أصحابه إذ أقبل علي فسلم.
ثم وقف فنظر مكانا يجلس فيه، فنظر رسول الله ﷺ إلى وجوه أصحابه أيهم يوسع له - وكان أبو بكر عن يمين رسول الله ﷺ - فتزحزح أبو بكر عن مجلسه وقال: هاهنا يا أبا الحسن.
فجلس بين رسول الله ﷺ وبين أبي بكر، فرأينا السرور في وجه رسول الله ﷺ، ثم أقبل على أبي بكر فقال: « يا أبا بكر إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ».
فأما الحديث الوارد عن علي وحذيفة مرفوعا « علي خير البشر، من أبى فقد كفر ومن رضي فقد شكر »
فهو موضوع من الطريقين معا، قبح الله من وضعه واختلقه.
حديث آخر
قال أبو عيسى الترمذي: ثنا إسماعيل بن موسى بن عمر الرومي، ثنا شريك، عن كهيل، سويد بن غفلة، عن الصنابحي، عن علي قال:
قال رسول الله ﷺ: « أنا دار الحكمة وعلي بابها ».
ثم قال: هذا الحديث غريب.
قال: وروى بعضهم هذا الحديث عن ابن عباس.
قلت: رواه سويد بن سعيد، عن شريك، عن سلمة، عن الصنابحي، عن علي مرفوعا: « أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت باب المدينة ».
وأما حديث ابن عباس: فرواه ابن عدي من طريق أحمد بن سلمة أبي عمرو الجرحاني، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:
قال رسول الله ﷺ: « أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأتها من قبل بابها ».
قال ابن عدي: وهذا الحديث يعرف بأبي الصلت الهروي، عن أبي معاوية، سرقه منه أحمد بن سلمة هذا ومعه جماعة من الضعفاء، هكذا قال رحمه الله.
وقد روى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز، عن ابن معين أنه قال: أخبرني ابن أيمن أن أبا معاوية حدث بهذا الحديث قديما، ثم كف عنه قال:
وكان أبو الصلت رجلا موسرا يكرم المشايخ ويحدثونه بهذه الأحاديث.
وساقه ابن عساكر بإسناد مظلم، عن جعفر الصادق، عن أبيه، عن جده، عن جابر بن عبد الله فذكره مرفوعا.
ومن طريق أخرى، عن جابر قال ابن عدي: وهو موضوع أيضا.
وقال أبو الفتح الأودي: لا يصح في هذا الباب شيء.
حديث آخر
يقرب مما قبله، قال ابن عدي: حدثنا أحمد بن حبرون النيسابوري، ثنا ابن أيوب أبو أسامة - وهو جعفر بن هذيل - ثنا ضرار بن صرد، ثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش، عن ابن عباية، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: « على عيينة علي ».
حديث آخر
في معنى ما تقدم قال ابن عدي: ثنا أبو يعلى، حدثنا كامل بن طلحة، ثنا ابن لهيعة، ثنا يحيى بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن عبد الله بن عمرو بأن رسول الله ﷺ قال في مرضه: « ادعوا لي أخي ».
فدعوا له أبا بكر فأعرض عنه.
ثم قال: « ادعوا لي أخي ».
فدعوا له عمر فأعرض عنه.
ثم قال: « ادعوا لي أخي ».
فدعوا له عثمان فأعرض عنه.
ثم قال: « ادعوا لي أخي ».
فدعي له علي بن أبي طالب فستره بثوب، وأكب عليه فلما خرج من عنده قيل له: ما قال؟
قال: علمني ألف باب يفتح كل باب إلى ألف باب.
قال ابن عدي: هذا حديث منكر، ولعل البلاء فيه من ابن لهيعة فإنه شديد الإفراط في التشيع، وقد تكلم فيه الأئمة ونسبوه إلى الضعف.
حديث آخر
قال ابن عساكر: أنبأنا أبو يعلى، ثنا المقري، أنا أبو نعيم الحافظ، أنا أبو أحمد الغطريفي، ثنا أبو الحسين بن أبي مقاتل، ثنا محمد بن عبيد بن عتبة، حدثنا محمد بن علي الوهبي الكوفي، ثنا أحمد بن عمران بن سلمة - وكان ثقة عدلا مرضيا -.
ثنا سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنت عند النبي ﷺ فسئل عن علي.
فقال: « قسمت الحكمة عشرة أجزاء، أعطي علي تسعة والناس جزءا واحدا ».
وسكت الحافظ ابن عساكر على هذا الحديث ولم ينبه على أمره، وهو منكر بل موضوع مركب على سفيان الثوري بإسناده، قبح الله واضعه ومن افتراه واختلقه.
حديث آخر
قال أبو يعلى: ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا يحيى، عن سعيد، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن وأنا حديث السن ليس لي علم بالقضاء، قال: فضرب في صدري وقال: « إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ».
قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد.
وقد ثبت عن عمر أنه كان يقول: علي أقضانا، وأُبيّ أقرؤنا للقرآن.
وكان عمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن أم موسى، عن أم سلمة قالت: والذي أحلف به إن كان علي بن أبي طالب لأقرب الناس عهدا برسول الله.
عدنا رسول الله غداة بعد غداة يقول: « جاء علي »؟ مرارا - وأظنه كان بعثه في حاجة - قالت: فجاء بعد فظننت أن له إليه حاجة فخرجنا من البيت عند الباب فقعدنا عند الباب فكنت من أدناهم إلى الباب.
فأكب عليه علي فجعل يسارّه ويناجيه، ثم قبض من يومه ذلك فكان أقرب الناس به عهدا.
وهكذا رواه عبد الله بن أحمد، وأبو يعلى، عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
حديث آخر في معناه
قال أبو يعلى: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، ثنا أبو بكر بن عياش، عن صدقة، عن جمُيع بن عمير: أن أمه وخالته دخلتا على عائشة فقالتا: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن علي.
قالت: أي شيء تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله موضعا فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه ثم اختلفوا في دفنه.
فقال: إن أحب الأماكن إلى الله مكان قبض فيه نبيه ﷺ؟.
قالتا: فلم خرجت عليه؟
قالت: أمر قضي، لوددت أني أفديه بما على الأرض.
وهذا منكر جدا وفي (الصحيح) ما يرد هذا والله أعلم.
حديث آخر
قال الإمام أحمد: ثنا أسود بن عامر، حدثني عبد الحميد بن أبي جعفر - يعني: الفراء - عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيغ، عن علي قال: « قيل يا رسول الله من نؤمر بعدك؟
قال: أن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة.
وأن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم.
وأن تؤمروا عليا - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الطريق المستقيم ».
وقد روي هذا الحديث من طريق عبد الرزاق، عن النعمان بن أبي شيبة، وعن يحيى بن العلاء، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيغ، عن حذيفة، عن النبي ﷺ بنحوه.
ورواه أبو الصلت الهروي عبد السلام بن صالح، عن ابن نمير، عن الثوري، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيغ، عن حذيفة به.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: أنا أبو عبد الله محمد بن علي الآدمي بمكة، ثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، أنا عبد الرزاق بن همام، عن أبيه، عن ابن ميناء، عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي ﷺ ليلة وفد الجن. قال: فتنفس.
فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟.
قال: « نعيت إلىّ نفسي ».
قلت: فاستخلف.
قال: « من »؟
قلت أبا بكر؟
قال: فسكت ثم مضى ثم تنفس.
قلت: ما شأنك يا رسول الله؟
قال: « نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود ».
قلت: فاستخلف.
قال: « من »؟
قلت: عمر.
قال: فسكت ثم مضى ساعة ثم تنفس.
قال: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟
قال: « نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود ».
قلت: فاستخلف.
قال: « من »؟
قلت: علي بن أبي طالب.
قال: « أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين ».
قال ابن عساكر: همام وابن ميناء مجهولان.
حديث آخر
قال أبو يعلى: ثنا أبو موسى - يعني: محمد بن المثنى - حدثنا سهيل بن حماد، أبو غياث الدلال، ثنا مختار بن نافع الفهمي، ثنا أبو حيان التيمي، عن أبيه، عن علي قال:
قال رسول الله ﷺ: « رحم الله أبا بكر زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، واعتق بلالا من ماله.
رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مرا تركه الحق وماله من صديق.
رحم الله عثمان تستحيه الملائكة.
رحم الله عليا دار الحق معه حيث دار ».
وقد ورد عن أبي سعيد وأم سلمة أن الحق مع علي رضي الله عنه. وفي كل منهما نظر والله أعلم.
حديث آخر
قال أبو يعلى: ثنا عثمان بن جرير، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ».
فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله.
قال: « لا! »
فقال عمر: أنا هو يا رسول الله.
قال: « لا! » ولكنه خاصف النعل » - وكان قد أعطى عليا نعله يخصفه -.
ورواه الإمام البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش به.
ورواه الإمام أحمد: عن وكيع، وحسين بن محمد، عن فطر بن خليفة، عن إسماعيل بن رجاء به.
ورواه البيهقي أيضا: من حديث أبي نعيم، عن فطر بن خليفة، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه عن أبي سعيد به.
ورواه فضيل بن مرزوق: عن عطية، عن أبي سعيد.
وروي من حديث علي نفسه.
وقد قدمنا هذا الحديث في موضعه في قتال علي أهل البغي والخوارج ولله الحمد.
وقدمنا أيضا حديث علي للزبير: أن رسول الله ﷺ قال لك: « أنك تقاتلني وأنت ظالم ».
فرجع الزبير وذلك يوم الجمل، ثم قتل بعد مرجعه في وادي السباع.
وقدمنا صبره وصرامته وشجاعته في يومي الجمل وصفين، وبسالته وفضله في يوم النهروان، وما ورد في فضل طائفته الذين قتلوا الخوارج من الأحاديث، وذكرنا الحديث الوارد من غير طريق عن علي، وأبي سعيد، وأبي أيوب:
أن رسول الله ﷺ أمره بقتال المارقين، والقاسطين، والناكثين، وفسروا الناكثين بأصحاب الجمل، والقاسطين بأهل الشام، والمارقين بالخوارج، والحديث ضعيف.
(تم الجزء السابع من كتاب البداية والنهاية ويليه الجزء الثامن، وأوله فصل في ذكر شيء من سيرته العادلة، وسريرته الفاضلة، و خطبه الكاملة.)
هامش
- ↑ [التوبة: 123]
- ↑ [التوبة: 29]
- ↑ [يوسف: 67]
- ↑ [النور:55]
- ↑ [التوبة: 111]
- ↑ [الأنبياء: 105]
- ↑ [الأنبياء: 105]
- ↑ [الدخان: 25-28]
- ↑ [آل عمران: 140]
- ↑ [آل عمران: 145]
- ↑ [الدخان: 25-28]
- ↑ [النور: 13]
- ↑ [نوح: 10-11]
- ↑ [هود: 3]
- ↑ [الزمر: 53]
- ↑ [البينة: 1]
- ↑ [الأحزاب: 37]
- ↑ [التوبة: 108]
- ↑ [التوبة: 111]
- ↑ [الكهف: 96]
- ↑ [البقرة: 249]
- ↑ [الأحزاب: 25]
- ↑ [النساء: 88]
- ↑ [النساء: 128]
- ↑ [الكهف: 45-46]
- ↑ [التوبة: 34]
- ↑ [النساء: 41]
- ↑ [المائدة: 29]
- ↑ [الأحزاب: 67]
- ↑ [البقرة: 137]
- ↑ [المائدة: 33]
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [البقرة: 137]
- ↑ [الأعراف: 147]
- ↑ [يس: 49-50]
- ↑ [الحشر: 16]
- ↑ [الكهف: 103]
- ↑ [الحجر: 47]
- ↑ [المائدة: 93]
- ↑ [النور: 55]
- ↑ [التوبة: 33]
- ↑ [آل عمران: 155]
- ↑ [الزمر: 9]
- ↑ [النحل: 76]
- ↑ [آل عمران: 103]
- ↑ [آل عمران: 161]
- ↑ [المجادلة: 1]
- ↑ [التوبة: 49]
- ↑ [الحج: 19]
- ↑ [الأنفال: 26]
- ↑ [النساء: 114]
- ↑ [النساء: 95]
- ↑ [التوبة: 41]
- ↑ [النور: 25]
- ↑ [الحجر: 47]
- ↑ [النمل: 80]
- ↑ [الأعراف: 128]
- ↑ [البقرة: 153]
- ↑ [النجم: 31]
- ↑ [الصف: 4]
- ↑ [البقرة: 194]
- ↑ [آل عمران: 23]
- ↑ [الأنعام: 65]
- ↑ [النساء: 35]
- ↑ [الأحزاب: 21]
- ↑ [الزخرف: 58]
- ↑ [الأنفال: 58]
- ↑ [الأعراف: 32]
- ↑ [الزمر: 65]
- ↑ [الروم: 60]
- ↑ [النخل: 91]
- ↑ [الزمر: 65]
- ↑ [النحل: 128]
- ↑ [ص: 26]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [الكهف: 103-105]
- ↑ [الأنفال: 58]
- ↑ [التوبة: 58]
- ↑ [المائدة: 2]
- ↑ [آل عمران: 145]
- ↑ [البقرة: 207]
- ↑ [الزلزلة: 7]
- ↑ [آل عمران: 33]
- ↑ [آل عمران: 35]
- ↑ [القصص: 56]
- ↑ [التوبة: 113-114]
- ↑ [الفتح: 18]
- ↑ [آل عمران: 61]
- ↑ [المائدة: 55]
- ↑ [الرعد: 7]
- ↑ [الإنسان: 8]
- ↑ [التوبة: 19]
- ↑ [الحج: 19]