الرئيسيةبحث

البداية والنهاية/الجزء الحادي عشر/صفحة واحدة


☰ جدول المحتويات

خلافة المستعين بالله

وهو أبو العباس، أحمد بن محمد المعتصم.

بويع له بالخلافة يوم مات المنتصر، بايعه عموم الناس، ثم خرجت عليه شرذمة من الأتراك يقولون: يا معتز يا منصور.

فالتف عليهم خلق، وقام بنصر المستعين جمهور الجيش، فاقتتلوا قتالا شديدا أياما، فقتل منهم خلق من الفريقين، وانتهبت أماكن كثيرة من بغداد، وجرت فتن منتشرة كثيرة جدا، ثم استقر الأمر للمستعين، فعزل وولي وقطع ووصل، وأمر ونهى أياما ومدة غير طويلة.

وفيها مات بغا الكبير، في جمادى الآخرة منها، فولي الخليفة مكانه ولده موسى بن بغا.

وقد كانت له همم عالية، وآثار سامية، وغزوات في المشارق والمغارب متوالية، وكان له من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار.

وترك عشر حبات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار، وثلاث حبات سلا ذهبا وورق.

وفيها عدا أهل حمص على عاملهم، فأخرجوه من بين أظهرهم، فأخذ منهم المستعين مائة رجل من سراتهم، وأمر بهدم سورهم.

وفيها حج بالناس محمد بن سليمان الزينبي.

وفيها توفي من الأعيان

أحمد بن صالح.

والحسين بن علي الكرابيسي.

وعبد الجبار بن العلاء.

وعبد الملك بن شعيب.

وعيسى بن حماد.

ومحمد بن حميد الرازي.

ومحمد بن زنبور.

ومحمد بن العلاء أبو كريب.

ومحمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي.

وأبو حاتم السجستاني.

واسمه سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي أبو حاتم النحوي اللغوي، صاحب المصنفات الكثيرة، وكان بارعا في اللغة.

اشتغل فيها على أبي عبيد والأصمعي، وأكثر الرواية عن أبي زيد الأنصاري.

وأخذ عنه المبرد وابن دريد وغيرهما.

وكان صالحا، كثير الصدقة والتلاوة، كان يتصدق كل يوم بدينار، ويقرأ في كل أسبوع بختمة، وله شعر كثير، منه قوله:

أبرزوا وجهه الجميل ** ولاموا من افتتن

لو أرادوا صيانتي ** ستروا وجهه الحسن

كانت وفاته في المحرم، وقيل في رجب من هذه السنة.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين

في يوم الجمعة للنصف من رجب، التقى جمع من المسلمين وخلق من الروم، بالقرب من ملطية، فاقتتلوا قتالا شديدا، قتل من الفريقين خلق كثير، وقتل أمير المسلمين عمر بن عبيد الله بن الأقطع، وقتل معه ألفا رجل من المسلمين، وكذلك قتل علي بن يحيى الأرمني، وكان أميرا في طائفة من المسلمين أيضا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد كان هذان الأميران من أكبر أنصار الإسلام.

ووقعت فتنة عظيمة ببغداد في أول يوم من صفر منها، وذلك أن العامة كرهوا جماعة من الأمراء، الذين قد تغلبوا على أمر الخلافة، وقتلوا المتوكل واستضعفوا المنتصر والمستعين بعده، فنهضوا إلى السجن، فأخرجوا من كان فيه، وجاؤوا إلى أحد الجسرين فقطعوه، وضربوا الآخر بالنار، وأحرقوا، ونادوا بالنفير، فاجتمع خلق كثير وجم غفير، ونهبوا أماكن متعددة، وذلك بالجانب الشرقي من بغداد.

ثم جمع أهل اليسار أموالا كثيرة من أهل بغداد لتصرف إلى من ينهض إلى ثغور المسلمين، لقتال العدو عوضا عن من قتل من المسلمين هناك، فأقبل الناس من نواحي الجبال وأهواز وفارس وغيرها لغزو الروم، وذلك أن الخليفة والجيش لم ينهضوا إلى بلاد الروم وقتال أعداء الإسلام، وقد ضعف جانب الخلافة واشتغلوا بالقيان والملاهي، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك وفعلوا ما ذكرنا.

ولتسع بقين من ربيع الأول نهض عامة أهل سامرا إلى السجن فأخرجوا من فيه أيضا، كما فعل أهل بغداد وجاءهم قوم من الجيش يقال لهم الزرافة فهزمتهم العامة، فعند ذلك ركب وصيف وبغا الصغير وعامة الأتراك فقتلوا من العامة خلقا كثيرا، وجرت فتن طويلة ثم سكنت.

وفي منتصف ربيع الآخر وقعت فتنة بين الأتراك، وذلك أن المستعين قد فوض أمر الخلافة والتصرف في أموال بيت المال إلى ثلاثة وهم أتامش التركي، وكان أخص من عند الخليفة وهو بمنزلة الوزير، وفي حجره العباس بن المستعين يربيه ويعلمه الفروسية. وشاهك الخادم، وأم الخليفة.

وكان لا يمنعها شيئا تريده، وكان لها كاتب يقال له سلمة بن سعيد النصراني.

فأقبل أتامش فأسرف في أخذ الأموال حتى لم يبق ببيت المال شيئا، فغضب الأتراك من ذلك وغاروا منه فاجتمعوا وركبوا عليه وأحاطوا بقصر الخلافة وهو عند المستعين، ولم يمكنه منعه منهم ولا دفعهم عنه، فأخذوه صاغرا فقتلوه وانتهبوا أمواله وحواصله ودوره، واستوزر الخليفة بعده أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وولى بغا الصغير فلسطين، وولى وصيفا الأهواز، وجرى خبط كثير وشر كثير، ووهن الخليفة وضعف.

وتحركت المغاربة بسامرا في يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الآخرة، فكانوا يجتمعون فيركبون ثم يتفرقون.

وفي يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى، وهو اليوم السادس عشر من تموز، مطر أهل سامرا مطرا عظيما برعد شديد، وبرق متصل وغيم منعقد مطبق، والمطر مستهل كثير من أول النهار إلى اصفرار الشمس، وفي ذي الحجة أصاب أهل الري زلزلة شديدة جدا، وتبعتها رجفة هائلة تهدمت منها الدور ومات منها خلق كثير، وخرج بقية أهلها إلى الصحراء.

وفيها حج بالناس عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو والي مكة.

وفيها توفي من الأعيان أيوب بن محمد الوزان.

والحسن بن الصباح البزار صاحب كتاب السنن، ورجاء بن مرجا الحافظ، وعبد بن حميد صاحب التفسير الحافل.

وعمرو بن علي الفلاس.

علي بن الجهم

ابن بدر بن مسعود بن أسد القرشي السامي من ولد سامة بن لؤي الخراساني ثم البغدادي، أحد الشعراء المشهورين وأهل الديانة المعتبرين.

وله ديوان شعر فيه أشعار حسنة، وكان فيه تحامل على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكان له خصوصية بالمتوكل ثم غضب عليه فنفاه إلى خراسان، وأمر نائبه بها أن يضربه مجردا ففعل به ذلك، ومن مستجاد شعره:

بلاء ليس يعدله بلاء ** عداوة غير ذي حسب ودين

يبيحك منه عرضا لم يصنه ** ويرتع منك في عرض مصون

قال ذلك في مروان بن أبي حفصة حين هجاه، فقال في هجائه له

لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر ** وهذا علي بعده يدعي الشعرا

ولكن أبي قد كان جارا لأمه ** فلما ادعى الأشعار أوهمني أمرا

كان علي بن الجهم قد قدم الشام ثم عاد قاصدا العراق، فلما جاوز حلب ثار عليه أناس من بني كلب، فقاتلهم فجرح جرحا بليغا فكان فيه حتفه، فوجد في ثيابه رقعة مكتوب فيها:

يا رحمتا للغريب بالبلد النا ** زح ماذا بنفسه صنعا

فارق أحبابه فما انتفعوا ** بالعيش من بعده وما انتفعا

كانت وفاته لهذا السبب في هذه السنة.

ثم دخلت سنة خمسين ومائتين من الهجرة

فيها كان ظهور أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه أم الحسين فاطمة بنت الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

وذلك أنه أصابته فاقة شديدة، فدخل سامرا فسأل وصيفا أن يجري عليه رزقا، فأغلظ له القول.

فرجع إلى أرض الكوفة فاجتمع عليه خلق من الأعراب، وخرج إليه خلق من أهل الكوفة، فنزل على الفلوجة وقد كثر الجمع معه، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق إلى عامله بالكوفة - وهو أبو أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان - يأمره بقتاله.

ودخل يحيى بن عمر قبل ذلك في طائفة من أصحابه إلى الكوفة، فاحتوى على بيت مالها فلم يجد فيه سوى ألفي دينار وسبعين ألف درهم، وظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين وأطلق من فيهما، وأخرج نواب الخليفة منها وأخذ أموالهم واستحوذ عليها، واستحكم أمره بها، والتف عليه خلق من الزيدية وغيرهم، ثم خرج من الكوفة إلى سوادها ثم كر راجعا إليها.

فتلقاه عبد الرحمن بن الخطاب الملقب وجه الفلس، فقاتله قتالا شديدا فانهزم وجه الفلس، ودخل يحيى بن عمر الكوفة ودعا إلى الرضى من آل محمد، وقوي أمره جدا، وصار إليه جماعة كثيرة من أهل الكوفة، وتولاه أهل بغداد من العامة وغيرهم ممن ينسب إلى التشيع، وأحبوه أكثر من كل من خرج قبله من أهل البيت، وشرع في تحصيل السلاح وإعداد آلات الحرب وجمع الرجال.

وقد هرب نائب الكوفة منها إلى ظاهرها، واجتمع إليه أمداد كثيرة من جهة الخليفة مع محمد بن عبد الله بن ظاهر، واستراحوا وجمعوا خيولهم، فلما كان اليوم الثاني عشر من رجب أشار من أشار على يحيى بن عمر ممن لا رأي له، أن يركب ويناجز الحسين بن إسماعيل ويكبس جيشه، فركب في جيش كثير من خلق من الفرسان والمشاة أيضا من عامة أهل الكوفة بغير أسلحة، فساروا إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا في ظلمة آخر الليل، فما طلع الفجر إلا وقد انكشف أصحاب يحيى بن عمر، وقد تقنطر به فرسه ثم طعن في ظهره فخر أيضا، فأخذوه وحزوا رأسه وحملوه إلى الأمير فبعثوه إلى ابن طاهر، فأرسله إلى الخليفة من الغد مع رجل يقال له عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب، فنصب بسامرا ساعة من النهار ثم بعث به إلى بغداد فنصب عند الجسر، ولم يمكن نصبه من كثرة العامة فجعل في خزائن السلاح.

ولما جيء برأس يحيى بن عمر إلى محمد بن عبد الله بن طاهر دخل الناس يهنونه بالفتح والظفر، فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فقال له: أيها الأمير ! إنك لتهنى بقتل رجل لو كان رسول الله حيا لعزّي به، فما رد عليه شيئا ثم خرج أبو هاشم الجعفري وهو يقول:

يا بني طاهر كلوه وبيّا ** إن لحم النبي غير مريّ

إن وترا يكون طالبه الله **لوتر نجاحه بالحريّ

وكان الخليفة قد وجه أميرا إلى الحسين بن إسماعيل نائب الكوفة، فلما قتل يحيى بن عمر دخلوا الكوفة، فأراد ذلك الأمير أن يضع في أهلها السيف فمنعه الحسين وأمن الأسود والأبيض، وأطفأ الله هذه الفتنة.

فلما كان رمضان من هذه السنة خرج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب بناحية طبرستان، وكان سبب خروجه أنه لما قتل يحيى بن عمر أقطع المستعين لمحمد بن عبد الله بن طاهر طائفة من أرض تلك الناحية، فبعث كاتبا له يقال له جابر بن هارون، وكان نصرانيا ليتسلم تلك الأراضي، فلما انتهى إليهم كرهوا ذلك جدا وأرسلوا إلى الحسن بن زيد هذا، فجاء إليهم فبايعوه والتف عليه جملة الديلم وجماعة الأمراء في تلك النواحي، فركب فيهم ودخل آمل طبرستان وأخذها قهرا، وجبى خراجها، واستفحل أمره جدا، ثم خرج منها طالبا لقتال سليمان بن عبد الله أمير تلك الناحية، فالتقيا هنالك فكانت بينهما حروب ثم انهزم سليمان هزيمة منكرة، وترك أهله وماله ولم يرجع دون جرجان فدخل الحسن بن زيد سارية فأخذ ما فيها من الأموال والحواصل، وسير أهل سليمان إليه مكرمين على مراكب، واجتمع للحسن بن زيد إمرة طبرستان بكمالها.

ثم بعث إلى الري فأخذها أيضا وأخرج منها الطاهرية، وصار إلى جند همذان ولما بلغ خبره المستعين - وكان مدير ملكه يومئذ وصيف التركي - اغتم لذلك جدا واجتهد في بعث الجيوش والأمداد لقتال الحسن بن زيد هذا.

وفي يوم عرفة منها ظهر بالري أحمد بن عيسى بن حسين الصغير بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فصلى بالناس يوم العيد أحمد بن عيسى هذا ودعا إلى الرضى من آل محمد، فحاربه محمد بن علي بن طاهر فهزمه أحمد بن عيسى هذا واستفحل أمره.

وفيها وثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه في رجب، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير فاقتتلوا بأرض الرستن فهزمهم، وقتل جماعة من أهلها وأحرق أماكن كثيرة منها، وأسر أشراف أهلها وفيها وثبت الشاكرية والجند في أرض فارس على عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فهرب منهم فانتهبوا داره وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن. وفيها غضب الخليفة على جعفر بن عبد الواحد ونفاه إلى البصرة.

وفيها أسقطت مرتبة جماعة من الأمويين في دار الخلافة.

وفيها حج بالناس جعفر بن الفضل أمير مكة.

وفيها توفي من الأعيان أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، والبزي أحد القراء المشاهير.

والحارث بن مسكين.

وأبو حاتم السجستاني.

وقد تقدم ذكره في التي قبلها، وعياد بن يعقوب الرواجني، وعمرو بن بحر الجاحظ صاحب الكلام والمصنفات.

وكثير بن عبيد الحمصي.

ونصر بن علي الجهضمي.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين

فيها اجتمع رأي المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي، وكان من قواد الأمراء الكبار الذين باشروا قتل المتوكل، وقد اتسع إقطاعه وكثرت عماله، فقتل ونهبت دار كاتبه دُليل بن يعقوب النصراني، ونهبت أمواله وحواصله، وركب الخليفة في حراقة من سامرا إلى بغداد فاضطربت الأمور بسبب خروجه، وذلك في المحرم.

فنزل دار محمد بن عبد الله بن طاهر.

وفيها وقعت فتنة شنعاء بين جند بغداد وجند سامرا، ودعا أهل سامرا إلى بيعة المعتز، واستقر أمر أهل بغداد على المستعين، وأخرج المعتز وأخوه المؤيد من السجن فبايع أهل سامرا المعتز واستحوذ على حواصل بيت المال بها فإذا بها خمسمائة ألف دينار، وفي خزانة أم المستعين ألف ألف دينار، وفي حواصل العباس بن المستعين ستمائة ألف دينار، واستفحل أمر المعتز بسامرا.

وأمر المستعين لمحمد بن عبد الله بن طاهر أن يحصن بغداد ويعمل في السورين والخندق، وغرم على ذلك ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، ووكل بكل باب أميرا يحفظه، ونصب على السور خمسة مناجيق، منها واحد كبير جدا، يقال له الغضبان، وست عرادات وأعدوا آلات الحرب والحصار والعدد، وقطعت القناطر من كل ناحية لئلا يصل الجيش إليهم.

وكتب المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه في أمره، ويذكره ما كان أخذه عليهم أبوه المتوكل من العهود والمواثيق، من أنه ولي العهد بعده، فلم يلتفت إليه بل رد عليه واحتج بحجج يطول ذكرها.

وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا الكبير، وهو مقيم بأطراف الشام لحرب أهل حمص، يدعوه إلى نفسه وبعث إليه بألوية يعقدها لمن اختار من أصحابه، وكتب إليه المستعين يأمره بالمسير إليه إلى بغداد ويأمره أن يستنيب في عمله، فركب مسرعا فسار إلى سامرا فكان مع المعتز على المستعين. وكذلك هرب عبد الله بن بغا الصغير من عند أبيه من بغداد إلى المعتز، وكذلك غيره من الأمراء والأتراك.

وعقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل على حرب المستعين وجهز معه جيشا لذلك، فسار في خمسة آلاف من الأتراك وغيرهم نحو بغداد، وصلى بعكبرا يوم الجمعة، ودعا لأخيه المعتز.

ثم وصل إلى بغداد ليلة الأحد لسبع خلون من صفر فاجتمعت العساكر هنالك، وقد قال رجل يقال له بانجانة كان في عسكر أبي أحمد:

يا بني طاهر جنود اللـ ** ـه والموت بينها منثور

وجيوش أمامهن أبو أحم ** د نعم المولى ونعم النصير

ثم جرت بينهما حروب طويلة وفتن مهولة جدا قد ذكرها ابن جرير مطولة، ثم بعث المعتز مع موسى بن أرشناس ثلاثة آلاف مددا لأخيه أبي أحمد، فوصلوا لليلة بقيت من ربيع الأول فوقفوا في الجانب الغربي عند باب قطربل، وأبو أحمد وأصحابه على باب الشماسية، والحرب مستعرة والقتال كثير جدا، والقتل واقع.

قال ابن جرير: وذكر أن المعتز كتب إلى أخيه أبي أحمد يلومه على التقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه أبو أحمد:

لأمر المنايا علينا طريق ** وللدهر فينا اتساع وضيق

وأيامنا عبر للأنام ** فمنها البكور ومنها الطروق

ومنها هنات تشيب الوليد ** ويخذل فيها الصديق الصديق

وسور عريض له ذروة ** تفوت العيون وبحر عميق

قتال مبيد وسيف عتيد ** وخوف شديد وحصن وثيق

وطول صياح لداعي الصباح الـ ** ـسلاح السلاح فما يستفيق

فهذا طريح وهذا جريح ** وهذا حريق وهذا غريق

وهذا قتيل وهذا تليل ** وآخر يشدخه المنجنيق

هناك اغتصاب وثم انتهاب ** ودور خراب وكانت تروق

إذا ما سمونا إلى مسلك ** وجدناه قد سدّ عنا الطريق

فبالله نبلغ ما نرتجيه ** وبالله ندفع ما لا نطيق

قال ابن جرير: هذا الشعر ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، وقد استمرت الفتنة والقتال ببغداد بين أبي أحمد أخي المعتز وبين محمد بن عبد الله بن طاهر نائب المستعين، والبلد محصور وأهله في ضيق شديد جدا، بقية شهور هذه السنة، وقتل من الفريقين خلق كثير في وقعات متعددات، وأيام نحسات، فتارة يظهر أصحاب أبي أحمد ويأخذون بعض الأبواب فتحمل عليهم الطاهرية فيزيحونهم عنها، ويقتلون منهم خلقا ثم يتراجعون إلى مواقفهم ويصابرونهم مصابرة عظيمة.

لكن أهل بغداد كلما هم إلى ضعف بسبب قلة الميرة والجلب إلى داخل البلد، ثم شاع بين العامة أن محمد بن عبد الله بن طاهر يريد أن يخلع المستعين ويبايع للمعتز، وذلك في أواخر السنة، فتنصل من ذلك واعتذر إلى الخليفة وإلى العامة.

وحلف بالأيمان الغليظة فلم تبرأ ساحته من ذلك حق البراءة عند العامة، واجتمعت العامة والغوغاء إلى دار ابن طاهر والخليفة نازل بها، فسألوا أن يبرز لهم الخليفة ليروه ويسألوه عن ابن طاهر أهو راض عنه أم لا.

وما زالت الضجة والأصوات مرتفعة حتى برز لهم الخليفة من فوق المكان الذي هم فيه، وعليه السواد ومن فوقه البردة النبوية وبيده القضيب، وقال لهم فيما خاطبهم به: أقسمت عليكم بحق صاحب هذه البردة والقضيب لما رجعتم إلى منازلكم ورضيتم عن ابن طاهر فإنه غير متهم لدي.

فسكت الغوغاء ورجعوا إلى منازلهم، ثم انتقل الخليفة من دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم، وذلك في أوائل ذي الحجة، وصلى بهم العيد يوم الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وبرز الخليفة يومئذ للناس وبين يديه الحربة وعليه البردة وبيده القضيب، وكان يوما مشهودا ببغداد على ما بأهلها من الحصار والغلاء بالأسعار، وقد اجتمع على الناس الخوف والجوع المترجمان لباس الجوع والخوف، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.

ولما تفاقم الأمر واشتد الحال وضاق المجال وجاع العيال وجهد الرجال، جعل ابن طاهر يظهر ما كان كامنا في نفسه من خلع المستعين، فجعل يعرض له في ذلك ولا يصرح، ثم كاشفه به وأظهره له وناظره فيه وقال له: إن المصلحة تقتضي أن تصالح عن الخلافة على مال تأخذه سلفا وتعجيلا، وأن يكون لك من الخراج في كل عام ما تختاره وتحتاجه، ولم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجاب إلى ذلك وأناب.

فكتب فيما اشترطه المستعين في خلعه نفسه من الخلافة كتابا، فلما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة ركب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى الرصافة، وجمع القضاة والفقهاء وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا، يشهدون عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وكذلك جماعة الحجاب والخدم، ثم تسلم منه جوهر الخلافة، وأقام عند المستعين إلى هوي من الليل.

وأصبح الناس يذكرون ويتنوعون فيما يقولون من الأراجيف.

وأما ابن طاهر فإنه أرسل بالكتاب مع جماعة من الأمراء إلى المعتز بسامرا، فلما قدموا عليه بذلك أكرمهم وخلع عليهم وأجازهم فأسنى جوائزهم.

وسيأتي ما كان من أمره أول السنة الداخلة.

وفيها كان ظهور رجل من أهل البيت أيضا بأرض قزوين وزنجان في ربيع الأول منها، وهو الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ويعرف بالكوكبي.

وسيأتي ما كان من أمره هناك.

وفيها خرج إسماعيل بن يوسف العلوي، وهو ابن أخت موسى بن عبيد الله الحسني، وسيأتي ما كان من أمره أيضا.

وفيها خرج بالكوفة أيضا رجل من الطالبيين وهو الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن حسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان فاقتتلا فهزم العلوي، وقتل من أصحابه بشر كثير.

ولما دخل مزاحم الكوفة حرق بها ألف دار ونهب أموال الذين خرجوا معه، وباع بعض جواري الحسين بن محمد هذا، وكانت معتقة.

وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب منه نائبها جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى، فانتهب منزله ومنازل أصحابه وقتل جماعة من الجند وغيرهم من أهل مكة، وأخذ ما في الكعبة من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار، ثم خرج إلى المدينة النبوية فهرب منه نائبها أيضا علي بن الحسين بن علي بن إسماعيل، ثم رجع إسماعيل بن يوسف إلى مكة في رجب فحصر أهلها حتى هلكوا جوعا وعطشا، فبيع الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم الرطل بأربعة، وشربة الماء بثلاثة دراهم، ولقي منه أهل مكة كل بلاء، فترحل عنهم إلى جدة - بعد مقامه عليهم سبعة وخمسين يوما - فانتهب أموال التجار هنالك وأخذ المراكب وقطع الميرة عن أهل مكة، ثم عاد إلى مكة لا جزاه الله خيرا عن المسلمين.

فلما كان يوم عرفة لم يمكن الناس من الوقوف نهارا ولا ليلا، وقتل من الحجيج ألفا ومائة، وسلبهم أموالهم ولم يقف بعرفة عامئذ سواه ومن معه من الحرامية، لا تقبل الله منهم صرفا ولا عدلا. وفيها وهن أمر الخلافة جدا.

وفيها توفي من الأعيان إسحاق بن منصور الكوننج وحميد بن زنجويه.

وعمرو بن عثمان بن كثير بن دينار الحمصي.

وأبو البقى هشام بن عبد الملك اليزني

سنة ثنتين وخمسين ومائتين

ذكر خلافة المعتز بالله بن المتوكل على الله بعد خلع المستعين نفسه

استهلت هذه السنة وقد استقرت الخلافة باسم أبي عبد الله محمد المعتز بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وقيل إن اسم المعتز أحمد، وقيل الزبير، وهو الذي عول عليه ابن عساكر وترجمه في تاريخه.

فلما خلع المستعين نفسه من الخلافة وبايع للمعتز، دعا الخطباء يوم الجمعة رابع المحرم من هذه السنة بجوامع بغداد على المنابر للخليفة المعتز بالله، وانتقل المستعين من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل هو وعياله وولده وجواريه، ووكل بهم سعيد بن رجاء في جماعة معه، وأخذ من المستعين البردة والقضيب والخاتم، وبعث بذلك إلى المعتز ثم أرسل إليه المعتز يطلب منه خاتمين من جوهر ثمين عنده يقال لأحدهما برج وللآخر جبل. فأرسلهما.

وطلب المستعين أن يسير إلى مكة فلم يمكن، فطلب البصرة فقيل له: إنها وبيئة.

فقال: إن ترك الخلافة أوبأ منها.

ثم أذن له في المسير إلى واسط، فخرج ومعه حرس يوصلونه إليها نحو من أربعمائة.

واستوزر المعتز أحمد بن أبي إسرائيل وخلع عليه وألبسه تاجا على رأسه.

ولما تمهد أمر بغداد واستقرت البيعة للمعتز بها، ودان له أهلها وقدمتها الميرة من كل جانب، واتسع الناس في الأرزاق والأطعمة، ركب أبو أحمد منها في يوم السبت لثنتي عشرة ليلة من المحرم إلى سامرا، وشيعه ابن طاهر في وجوه الأمراء، فخلع أبو أحمد على ابن طاهر خمس خلع وسيفا ورده من الطريق إلى بغداد.

وقد ذكر ابن جرير مدائح الشعراء في المعتز وتشفيهم بخلع المستعين، فأكثر من ذلك جدا، فمن ذلك قول محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان في مدح المعتز وذم المستعين كما جرت به عادة الشعراء:

إن الأمور إلى المعتز قد رجعت ** والمستعين إلى حالاته رجعا

وكان يعلم أن الملك ليس له ** وأنه لك لكن نفسه خدعا

ومالك الملك مؤتيه ونازعه ** آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا

إن الخلافة كانت لا تلائمه ** كانت كذات حليل زوجت متعا

ما كان أقبح عند الناس بيعته ** وكان أحسن قول الناس قد خلعا

ليت السفين إلى قاف دفعن به ** نفسي الفداء لملاح به دفعا

كم ساس قبلك أمر الناس من ملك ** لو كان حمل ما حملته ظلعا

أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة ** والله يجعل بعد الضيق متسعا

والله يدفع عنك السوء من ملك ** فإنه بك عنا السوء قد دفعا

وكتب المعتز من سامرا إلى نائب بغداد محمد بن عبد الله بن طاهر: أن يسقط اسم وصيف وبغا ومن كان في رسمهما في الدواوين، وعزم على قتلهما، ثم استرضي عنهما فرضي عنهما.

وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه إبراهيم الملقب بالمؤيد من ولاية العهد وحبسه، وأخاه أبا أحمد، بعدما ضرب المؤيد أربعين مقرعة.

ولما كان يوم الجمعة خطب بخلعه وأمره أن يكتب كتابا على نفسه بذلك وكانت وفاته بعد ذلك بخمسة عشر يوما، فقيل: إنه أدرج في لحاف سمور وأمسك طرفاه حتى مات غما، وقيل: بل ضرب بحجارة من ثلج حتى مات بردا وبعد ذلك أخرج من السجن، ولا أثر به فأحضر القضاة والأعيان فشهدوا على موته من غير سبب ولا أثر، ثم حمل على حمار ومعه كفنه إلى أمه فدفنته.

ذكر مقتل المستعين

وفي شوال منها كتب المعتز إلى نائبه محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بتجهيز جيش نحو المستعين، فجهز أحمد بن طولون التركي فوافاه فأخرجه لست بقين من رمضان، فقدم به القاطول لثلاث مضين من شوال ثم قتل، فقيل: ضرب حتى مات، وقيل: بل غرق في دجيل، وقيل: بل ضربت عنقه.

وقد ذكر ابن جرير: أن المستعين سأل من سعيد بن صالح التركي حين أراد قتله أن يمهله حتى يصلي ركعتين، فأمهله، فلما كان في السجدة الأخيرة قتله وهو ساجد، ودفن جثته في مكان صلاته، وخفي أثره وحمل رأسه إلى المعتز فدخل به عليه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع. فقال: ضعوه حتى أفرغ من الدست.

فلما فرغ نظر إليه وأمر بدفنه، ثم أمر لسعيد بن صالح الذي قتله بخمسين ألف درهم، وولاه معونة البصرة وفيها مات إسماعيل بن يوسف العلوي الذي فعل بمكة ما فعل كما تقدم من إلحاده في الحرم، فأهلكه الله في هذه السنة عاجلا ولم ينظره.

وفيها مات أحمد بن محمد المعتصم وهو المستعين بالله كما تقدم. وإسحاق بن بهلول، وزياد بن أيوب، ومحمد بن بشار بندار. وموسى بن المثنى الزمن.

ويعقوب بن إبراهيم الدورقي.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين

في رجب منها عقد المعتز لموسى بن بغا الكبير على جيش قريب من أربعة آلاف، ليذهبوا إلى قتال عبد العزيز بن أبي دلف بناحية همذان، لأنه خرج عن الطاعة وهو في نحو من عشرين ألفا بناحية همذان، فهزموا عبد العزيز في أواخر هذه السنة هزيمة فظيعة، ثم كانت بينهما وقعة أخرى في رمضان عند الكرج فهزم عبد العزيز أيضا، وقتل من أصحابه بشر كثير، وأسروا ذراري كثيرة حتى أسروا أم عبد العزيز أيضا، وبعثوا إلى المعتز سبعين حملا من الرؤوس وأعلاما كثيرة، وأخذ من عبد العزيز ما كان استحوذ عليه من البلاد.

وفي رمضان منها خلع على بغا الشرابي وألبسه التاج والوشاحين. وفي يوم عيد الفطر كانت وقعة هائلة عند مكان يقال له: البوازيج، وذلك أن رجلا يقال له: مساور بن عبد الحميد، حكم فيها والتف عليه نحو من سبعمائة من الخوراج، فقصد له رجل يقال له: بندار الطبري، في ثلاثمائة من أصحابه، فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من الخوارج نحو من خمسين رجلا.

وقتل من أصحاب بندار مائتان وقيل: وخمسون رجلا.

وقتل بندار فيمن قتل رحمه الله.

ثم صمد مساور إلى حلوان فقاتله أهلها وأعانهم حجاج أهل خرسان، فقتل مساور منهم نحوا من أربعمائة قبحه الله.

وقتل من جماعته كثيرون أيضا.

ولثلاث بقين من شوال قتل وصيف التركي، وأرادت العامة نهب داره في سامرا ودور أولاده فلم يمكنهم ذلك، وجعل الخليفة ما كان إليه إلى بغا الشرابي.

وفي ليلة أربع عشرة من ذي القعدة من هذه السنة خسف القمر حتى غاب أكثره وغرق نوره، وعند انتهاء خسوفه مات محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق ببغداد. وكانت علته قروحا في رأسه وحلقه فذبحته، ولما أتي به ليصلي عليه اختلف أخوه عبيد الله وابنه طاهر، وتنازعا الصلاة عليه حتى جذبت السيوف وترامى الناس بالحجارة، وصاحت الغوغاء: يا طاهر يا منصور.

فمال عبيد الله إلى الشرقية ومعه القواد وأكابر الناس، فدخل داره وصلى عليه ابنه، وكان أبوه قد أوصى إليه.

وحين بلغ المعتز ما وقع بعث بالخلع والولاية إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأطلق عبيد الله للذي قدم بالخلع خمسين ألف درهم.

وفيها نفى المعتز أخاه أبا أحمد من سر من رأى إلى واسط، ثم إلى البصرة.

ثم رد إلى بغداد أيضا.

وفي يوم الاثنين منها سلخ ذي القعدة، التقى موسى بن بغا الكبير والحسين بن أحمد الكوكبي الطالبي الذي خرج في سنة إحدى وخمسين عند قزوين، فاقتتلا قتالا شديدا ثم هزم الكوكبي وأخذ موسى قزوين وهرب الكوكبي إلى الديلم.

وذكر ابن جرير عن بعض من حضر هذه الوقعة: أن الكوكبي حين التقى، أمر أصحابه أن يتترسوا بالحجف - وكانت السهم لا تعمل فيهم - فأمر موسى بن بغا أصحابه عند ذلك أن يطرحوا ما معهم من النفط، ثم حاولوهم وأروهم أنهم قد انهزموا منهم، فتبعهم أصحاب الكوكبي، فلما توسطوا الأرض التي فيها النفط أمر عند ذلك بإلقاء النار فيه فجعل النفط يحرق أصحاب الكوكبي، ففروا سراعا هاربين، وكر عليهم موسى وأصحابه فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب الكوكبي إلى الديلم، وتسلم موسى قزوين. وفيها حج بالناس عبد الله بن محمد بن سليمان الزينبي.

وفيها توفي من الأعيان

أبو الأشعث.

وأحمد بن سعيد الدارمي.

وسري السقطي: أحد كبار مشايخ الصوفية. تلميذ معروف الكرخي.

حدث عن هشيم وأبي بكر بن عياش وعلى ابن عراب ويحيى بن يمان ويزيد بن هارون وغيرهم.

وعنه ابن أخته الجنيد بن محمد.

وأبو الحسن النوري ومحمد بن الفضل بن جابر السقطي وجماعة. وكانت له دكان يتجر فيها، فمرت به جارية قد انكسر إناء كان معها، تشتري فيه شيئا لسادتها، فجعلت تبكي فأعطاها سري شيئا تشتري بدله، فنظر معروف إليه وما صنع بتلك الجارية فقال له: بغض الله إليك الدنيا، فوجد الزهد من يومه.

وقال سري: مررت في يوم عيد، فإذا معروف ومعه صغير شعث الحال فقلت: ما هذا؟

فقال: هذا كان واقفا عند صبيان يلعبون بالجوز وهو مفكر، فقلت له: ما لك لا تلعب كما يلعبون؟

فقال: أنا يتيم ولا شيء معي أشتري به جوزا ألعب به.

فأخذته لأجمع له نوى يشتري به جوزا يفرح به.

فقلت: ألا أكسوه وأعطيه شيئا يشتري به جوزا؟

فقال: أو تفعل؟

فقلت: نعم.

فقال: خذه أغنى الله قلبك.

قال سري: فصغرت عندي الدنيا حتى لهي أقل شيء.

وكان عنده مرة لوز فساومه رجل على الكر بثلاثة وستين دينارا، ثم ذهب الرجل فإذا اللوز يساوي الكر تسعين دينارا فقال له: إني أشترى منك الكر بتسعين دينارا.

فقال له: إني إنما ساومتك بثلاثة وستين دينارا، وإني لا أبيعه إلا بذلك، فقال الرجل: أنا أشتري منك بتسعين دينارا.

فقال: لا أبيعك هو إلا بما ساومتك عليه.

فقال له الرجل: إن من النصح أن لا أشتري منك إلا بتسعين دينارا.

وذهب فلم يشتر منه.

وجاءت امرأة يوما إلى سري فقالت: إن ابني قد أخذه الحرسي، وإني أحب أن تبعث إلى صاحب الشرطة لئلا يضرب، فقام فصلى فطول الصلاة وجعلت المرأة تحترق في نفسها، فلما انصرف من الصلاة قالت المرأة: الله الله في ولدي.

فقال لها: إني إنما كنت في حاجتك.

فما رام مجلسه الذي صلى فيه حتى جاءت امرأة إلى تلك المرأة فقالت لها: ابشري فقد أطلق ولدك و ها هو في المنزل.

فانصرفت إليه.

وقال سري: أشتهي أن آكل أكلة ليس لله فيها علي تبعة، ولا لأحد علي فيها منة.

فما أجد إلى ذلك سبيلا.

وفي رواية عنه أنه قال: إني لأشتهي البقل من ثلاثين سنة، فما أقدر عليه.

وقال: احترق سوقنا فقصدت المكان الذي فيه دكاني، فتلقاني رجل فقال: ابشر فإن دكانك قد سلمت.

فقلت: الحمد لله.

ثم ذكرت ذلك التحميد إذ حمدت الله على سلامة دنياي، وإني لم أواس الناس فيما هم فيه، فأنا أستغفر الله منذ ثلاثين سنة.

رواها الخطيب عنه.

وقال: صليت وردي ذات ليلة، ثم مددت رجلي في المحراب فنوديت: يا سري هكذا تجالس الملوك؟

قال: فضممت رجلي وقلت: وعزتك لا مددت رجلي أبدا. وقال الجنيد: ما رأيت أعبد من سري السقطي.

أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعا إلا في علة الموت. وروى الخطيب عن أبي نعيم عن جعفر الخلدي عن الجنيد قال: دخلت عليه أعوده فقلت: كيف تجدك؟

فقال:

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ** والذي أصابني من طبيبي

قال: فأخذت المروحة لأروح عليه فقال: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟

ثم أنشأ يقول:

القلب محترق والدمع مستبق ** والكرب مجتمع والصبر مفترق

كيف القرار على من لا قرار له ** مما جناه الهوى والشوق والقلق

يا رب إن كان شيء لي به فرج ** فامنن علي به ما دام بي رمق

قال: فقلت له: أوصني، قال: لا تصحب الأشرار، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأبرار الأخيار.

وقد ذكر الخطيب وفاته يوم الثلاثاء لست خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين بعد أذان الفجر، ودفن بعد العصر بمقبرة الشوينزي، وقبره ظاهر معروف، وإلى جنبه قبر الجنيد.

وروي عن أبي عبيدة بن حربويه قال: رأيت سريا في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟

فقال: غفر لي ولكل من شهد جنازتي.

قلت: فإني ممن حضر جنازتك وصلى عليك.

قال: فأخرج درجا فنظر فيه فلم ير فيه اسمي، فقلت: بلى !

قد حضرت فإذا اسمي في الحاشية.

وحكى ابن خلكان قولا: أن سريا توفي سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ست وخمسين، فالله أعلم.

قال ابن خلكان: وكان السري ينشد كثيرا:

ولما ادعيت الحب قالت كذبتني **فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا

فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشى ** وتذهل حتى لا تجيب المناديا

ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين

فيها أمر الخليفة المعتز بقتل بغا الشرابي، ونصب رأسه بسامرا ثم ببغداد وحرقت جثته، وأخذت أمواله وحواصله.

وفيها ولي الخليفة أحمد بن طولون الديار المصرية، و هو باني الجامع المشهور بها.

وحج بالناس فيها علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد. وتوفي فيها من الأعيان: زياد بن أيوب الحسياني.

وعلي بن محمد بن موسى الرضى، يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة ببغداد.

وصلى عليه أبو أحمد المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد. ودفن بداره ببغداد.

ومحمد بن عبد الله المخرمي.

وموهل بن إهاب.

أبو الحسن علي الهادي

فهو ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب، أحد الأئمة الاثني عشرية، وهو والد الحسن بن علي العسكري المنتظر عند الفرقة الضالة الجاهلة الكاذبة الخاطئة.

وقد كان عابدا زاهدا نقله المتوكل إلى سامرا، فأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر.

ومات بها في هذه السنة.

وقد ذكر للمتوكل أن بمنزله سلاحا وكتبا كثيرة من الناس، فبعث كبسة فوجدوه جالسا مستقبل القبلة وعليه مدرعة من صوف وهو على التراب ليس دونه حائل، فأخذوه كذلك فحملوه إلى المتوكل وهو على شرابه، فلما مثل بين يديه أجله وأعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس الذي في يده فقال: يا أمير المؤمنين لم يدخل باطني ولم يخالط لحمي ودمي قط، فاعفني منه.

فأعفاه ثم قال له: أنشدني شعرا فأنشده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ** غلب الرجال فما أغنتهم القلل

واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم ** فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا

نادى بهم صارخ من بعد ما قبروا ** أين الأسرة والتيجان والحلل؟

أين الوجوه التي كانت منعمة ** من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طال ما أكلوا دهرا وما لبسوا**فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

قال: فبكى المتوكل حتى بل الثرى، وبكى من حوله بحضرته، وأمر برفع الشراب وأمر له بأربعة آلاف دينار، وتحلل منه ورده إلى منزله مكرما- رحمه الله -.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين

فيها كانت وقعة بين مفلح وبين الحسن بن زيد الطالبي، فهزمه مفلح ودخل آمل طبرستان، وحرق منازل الحسن بن زيد، ثم سار وراءه إلى الديلم.

وفيها كانت محاربة شديدة بين يعقوب بن الليث وبين علي بن الحسين بن قريش بن شبل، فبعث علي بن الحسين رجلا من جهته يقال له: طوق بن المغلس، فصابره أكثر من شهر ثم ظفر يعقوب بطوق فأسره فأسر وجوه أصحابه، ثم سار إلى علي بن الحسين هذا فأسره وأخذ بلاده - وهي كرمان - فأضافها إلى ما بيده من مملكة خراسان سجستان، ثم بعث يعقوب بن الليث بهدية سنية إلى المعتز: دواب وبازات وثياب فاخرة.

وفيها ولى الخليفة سليمان بن عبد الله بن طاهر نيابة بغداد والسواد في ربيع الأول منها.

وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز، والحسن بن مخلد كاتب قبيحة أم المعتز، وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، وكانوا قد تمالؤوا على أكل بيت المال، وكانوا دواوين وغيرهم، فضربهم وأخذ خطوطهم بأموال جزيلة يحملونها، وذلك بغير رضى من المعتز في الباطن، واحتيط على أموالهم وحواصلهم وضياعهم وسموا الكتاب الخونة، وولى الخليفة عن قهر غيرهم.

وفي رجب منها ظهر عيسى بن جعفر، وعلي بن زيد الحسنيان بالكوفة، وقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى واستفحل أمرهما بها.

موت الخليفة المعتز بن المتوكل

ولثلاث بقين من رجب من هذه السنة خلع الخليفة المعتز بالله، ولليلتين مضتا من شعبان أظهر موته.

وكان سبب خلعه: أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم، فسأل من أن تقرضه مالا يدفعهم عنه به فلم تعطه.

وأظهرت أنه لا شيء عندها، فاجتمع الأتراك على خلعه فأرسلوا إليه ليخرج إليهم، فاعتذر بأنه قد شرب دواء وأن عنده ضعفا، ولكن ليدخل إلي بعضكم.

فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه بالدبابيس يضربونه وجروا برجله، وأخرجوه وعليه قميص مخرق ملطخ بالدم، فأقاموه في وسط دار الخلافة في حر شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدة الحر، وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب: اخلعها والناس مجتمعون، ثم أدخلوه حجرة مضيقا عليه فيها.

وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه من الخلافة وولى بعده المهتدي بالله كما سيأتي.

ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات، ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، حتى جعل يطلب شربة من ماء البئر فلم يسق، ثم أدخلوه سربا فيه جص جير فدسوه فيه فأصبح ميتا، فاستلوه من الجص سليم الجسد، وأشهدوا عليه جماعة من الأعيان أنه مات وليس به أثر، وكان ذلك في اليوم الثاني من شعبان من هذه السنة، وكان يوم السبت، وصلى عليه المهتدي بالله، ودفن مع أخيه المنتصر إلى جانب قصر الصوامع، عن أربع وعشرين سنة. وكانت خلافته أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما. وكان طويلا جسيما وسيما، أقنى الأنف، مدور الوجه، حسن الضحك، أبيض أسود الشعر مجعدة، كثيف اللحية، حسن العينين، ضيق الحاجبين، أحمر الوجه، وقد أثنى عليه الإمام أحمد في جودة ذهنه، وحسن فهمه وأدبه، حين دخل عليه في حياة أبيه المتوكل، كما قدمنا في ترجمة أحمد.

وروى الخطيب عن علي بن حرب قال: دخلت على المعتز فما رأيت خليفة أحسن وجها منه، فلما رأيته سجدت فقال: يا شيخ تسجد لغير الله؟

فقلت: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، ثنا بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده

أن رسول الله ﷺ كان إذا رأى ما يفرح به أو بشر بما يسره سجد شكرا لله عز وجل.

وقال الزبير بن بكار: سرت إلى المعتز وهو أمير، فلما سمع بقدومي خرج مستعجلا إلي فعثر، فأنشأ يقول:

يموت الفتى من عثرة بلسانه ** وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فعثرته من فيه ترمي برأسه ** وعثرته في الرجل تبرأ على مهل

وذكر ابن عساكر: أن المعتز لما حذق القرآن في حياة أبيه المتوكل، اجتمع أبوه والأمراء لذلك وكذلك الكبراء والرؤساء بسر من رأى، واختلفوا لذلك أياما عديدة، وجرت أحوال عظيمة.

ولما جلس وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة وخطب الناس، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار، ومثلها ذهبا، وألف ألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر، وكان وقتا مشهودا لم يكن سرورا بدار الخلافة أبهج منه ولا أحسن.

وخلع الخليفة على أم ولده المعتز قبيحة خلعا سنية، وأعطاها وأجزل لها العطاء، وكذلك خلع على مؤدب ولده وهو محمد بن عمران، أعطاه من الجوهر والذهب والفضة والقماش شيئا كثيرا جدا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

خلافة المهتدي بالله

أبي محمد عبد الله محمد بن الواثق بن المعتصم بن هارون، كانت بيعته يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده عليه بأنه عاجز عن القيام بها، وأنه قد رغب إلى من يقوم بأعبائها.

وهو محمد بن الواثق بالله، ثم مد يده فبايعه قبل الناس كلهم، ثم بايعه الخاصة ثم كانت بيعة العامة على المنبر، وكتب على المعتز كتابا أشهد فيه بالخلع والعجز والمبايعة للمهتدي.

وفي آخر رجب وقعت في بغداد فتنة هائلة، وثبت فيها العامة على نائبها سليمان بن عبد الله بن طاهر، ودعوا إلى بيعة أحمد بن المتوكل أخي المعتز، وذلك لعدم علم أهل بغداد بما وقع بسامرا من بيعة المهتدي، وقتل من أهل بغداد وغرق منهم خلق كثير، ثم لما بلغهم بيعة المهتدي سكنوا - وإنما بلغتهم في سابع شعبان - فاستقرت الأمور واستقر المهتدي في الخلافة.

وفي رمضان من هذه السنة ظهر عند قبيحة أم المعتز أموال عظيمة، وجواهر نفيسة.

كان من جملة ذلك ما يقارب ألفي ألف دينار، ومن الزمرد الذي لم ير مثله مقدار مكوك، ومن الحب الكبار مكوك، وكيلجة يا قوت أحمر مما لم ير مثله أيضا.

وقد كان الأمراء طلبوا من ابنها المعتز خمسين ألف دينار تصرف في أرزاقهم، وضمنوا له أن يقتلوا صالح بن وصيف، فلم يكن عنده من ذلك شيء، فطلب من أمه قبيحة هذه - قبحها الله - فامتنعت أن تقرضه ذلك، فأظهرت الفقر والشح، وأنه لا شيء عندها.

ثم لما قتل ابنها وكان ما كان، ظهر عندها من الأموال ما ذكرنا. وكان عندها من الذهب والفضة والآنية شيء كثير، وقد كان لها من الغلات في كل سنة ما يعدل عشرة آلاف ألف دينار، وقد كانت قبل ذلك مختفية عند صالح بن وصيف عدو ولدها، ثم تزوجت به وكانت تدعو عليه تقول: اللهم اخز صالح بن وصيف كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني.

ثم استقرت الخلافة باسم المهتدي بالله.

وكانت بحمد الله خلافة صالحة.

قال يوما للأمراء: إني ليست لي أم لها من الغلات ما يقاوم عشرة آلاف ألف دينار، ولست أريد إلا القوت فقط، لا أريد فضلا على ذلك إلا لإخوتي، فإنهم مستهم الحاجة.

وفي يوم الخميس لثلاث بقين من رمضان، أمر صالح بن وصيف بضرب أحمد بن إسرائيل الذي كان وزيرا، وأبي نوح عيسى بن إبراهيم الذي كان نصرانيا فأظهر الإسلام، وكان كاتب قبيحة فضرب كل واحد منهما خمسمائة سوط بعد استخلاص أموالهما، ثم طيف بهما على بغلين منكسين فماتا وهما كذلك، ولم يكن ذلك عن رضى المهتدي ولكنه ضعيف لا يقدر على الإنكار على صالح بن وصيف في بادئ الآمر.

وفي رمضان في هذه السنة وقعت فتنة ببغداد أيضا، بين محمد بن أوس ومن تبعه من الشاكرية والجند وغيرهم، وبين العامة والرعاع، فاجتمع من العامة نحو مائة ألف وكان بين الناس قتال بالنبال والرماح والسوط، فقتل خلق كثير ثم انهزم محمد بن أوس وأصحابه، فنهبت العامة ما وجدوا من أمواله، وهو ما يعادل ألفي ألف أو نحو ذلك.

ثم اتفق الحال على إخراج محمد بن أوس من بغداد إلى أين أراد. فخرج منها خائفا طريدا، وذلك لأنه لم يكن عند الناس مرضي السيرة بل كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا، وفاسقا شديدا، وأمر الخليفة بأن ينفي القيان والمغنون من سامرا، وأمر بقتل السباع والنمور التي في دار السلطان، وقتل الكلاب المعدة للصيد أيضا. وأمر بإبطال الملاهي ورد المظالم، وأن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وجلس للعامة.

وكانت ولايته في الدنيا كلها من أرض الشام وغيرها مفترقة.

ثم استدعى الخليفة موسى بن بغا الكبير إلى حضرته، ليتقوى به على من عنده من الأتراك ولتجتمع كلمة الخلافة، فاعتذر إليه من استدعائه بما هو فيه من الجهاد في تلك البلاد.

خارجي آخر ادعى أنه من أهل البيت بالبصرة

في النصف من شوال ظهر رجل بظاهر البصرة، زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكن صادقا وإنما كان عسيفا - يعني أجيرا - من عبد القيس، واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأمه قرة بنت علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة، وأصله من قرية من قرى الري، قاله ابن جرير. قال: وقد خرج أيضا في سنة تسع وأربعين ومائتين بالنجدين، فادعى أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب، فدعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة من أهل هجر، ووقع بسببه قتال كثير وفتن كبار، وحروب كثيرة، ولما خرج خرجته هذه الثانية بظاهر البصرة، التف عليه

خلق من الزنج الذين يكسحون السباخ، فعبر بهم دجلة فنزل الديناري، وكان يزعم لبعض من معه أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، وكان يدعي أنه يحفظ سورا من القرآن في ساعة واحدة جرى بها لسانه، لا يحفظها غيره في مدة دهر طويل، وهن: سبحان والكهف وص وعم.

وزعم أنه فكر يوما وهو في البادية: إلى أي بلد يسير؟

فخوطب من سحابة أن يقصد البصرة فقصدها، فلما اقترب منها وجد أهلها مفترقين على شعبتين، سعديه وبلالية، فطمع أن ينضم إلى إحداهما فيستعين بها على الأخرى، فلم يقدر على ذلك، فارتحل إلى بغداد فأقام بها سنة وانتسب بها إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم بها أنه يعلم ما في ضمائر أصحابه، وأن الله يعلمه بذلك، فتبعه على ذلك جهلة من الطغام، وطائفة من الرعاع العوام.

ثم عاد إلى أرض البصرة في رمضان فاجتمع معه بشر كثير، ولكن لم يكن معهم عدد يقاتلون بها، فأتاهم جيش من ناحية البصرة فاقتتلوا جميعا، ولم يكن في جيش هذا الخارجي سوى ثلاثة أسياف، وأولئك الجيش معهم عدد وعدد ولبوس، ومع هذا هزم أصحاب هذا الخارجي ذلك الجيش، وكانوا أربعة آلاف مقاتل، ثم مضى نحو البصرة بمن معه فأهدى له رجل من أهل جبى فرسا فلم يجد لها سرجا ولا لجاما، وإنما ألقى عليها حبلا وركبها وسنف حنكها بليف، ثم صادر رجلا وتهدده بالقتل فأخذ منه مائة وخمسين دينارا وألف درهم، وكان هذا أول مال نهبه من هذه البلاد، وأخذ من آخر ثلاثة براذين، ومن موضع آخر شيئا من الأسلحة والأمتعة، ثم سار في جيش قليل السلاح والخيول، ثم جرت بينه وبين نائب البصرة وقعات متعددة يهزمهم فيها، وكل ما لأمره يقوى وتزداد أصحابه ويعظم أمره ويكثر جيشه، وهو مع ذلك لا يتعرض لأموال الناس ولا يؤذي أحدا، وإنما يريد أخذ أموال السلطان.

وقد انهزم أصحابه في بعض حروبه هزيمة عظيمة، ثم تراجعوا إليه واجتمعوا حوله، ثم كروا على أهل البصرة فهزموهم وقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين، وكان لا يؤتى بأسير إلا قتله.

ثم قوي أمره وخافه أهل البصرة، وبعث الخليفة إليها مددا ليقاتلوا هذا الخارجي وهو صاحب الزنج - قبحه الله -، ثم أشار عليه بعض أصحابه أن يهجم بمن معه على البصرة فيدخلونها عنوة، فهجن آراءهم وقال: بل نكون منها قريبا حتى يكونوا هم الذين يطلبوننا إليها ويخطبوننا عليها.

وسيأتي ما كان من أمره وأمر أهل البصرة في السنة المستقبلة إن شاء الله.

وفيها حج بالناس علي بن الحسين بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن عباس.

وفيها توفي:

الجاحظ المتكلم المعتزلي

واليه تنسب الفرقة الجاحظية لجحوظ عينيه، ويقال له: الحدقي، وكان شنيع المنظر، سيء المخبر، رديء الاعتقاد، ينسب إلى البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال حتى قيل في المثل: يا ويح من كفره الجاحظ.

وكان بارعا فاضلا قد أتقن علوما كثيرة، وصنف كتبا جمة تدل على قوة ذهنه وجودة تصرفه.

ومن أجل كتبه: كتاب الحيوان، وكتاب البيان والتبيين، قال ابن خلكان: وهما أحسن مصنفاته، وقد أطال ترجمته بحكايات ذكرها عنه.

وذكر أنه أصابه الفالج في آخر عمره، وحكى أنه قال: أنا من جانبي الأيسر مفلوج لو قرض بالمقاريض ما علمت، وجانبي الأيمن منقرس لو مرت به ذبابة لآلمتني، وبي حصاة، وأشد ما على ست وتسعون سنة.

وكان ينشد:

أترجو أن تكون وأنت شيخ ** كما قد كنت أيام الشباب

لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ** دريس كالجديد من الثياب

وفيها توفى عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمي، و عبد الله بن هاشم الطوسي، والخليفة أبو عبد الله المعتز بن المتوكل، ومحمد بن عبد الرحيم الملقب صاعقة.

محمد بن كرام

الذي تنسب إليه الفرقة الكرامية.

وقد نسب إليه جواز وضع الأحاديث على الرسول وأصحابه وغيرهم، وهو محمد بن كرام - بفتح الكاف وتشديد الراء، على وزن جمال - بن عراف بن حزامة بن البراء، أبو عبد الله السجستاني العابد، يقال: إنه من بني تراب، ومنهم من يقول: محمد بن كرام - بكسر الكاف وتشديد الراء - وهو الذي سكن بيت المقدس إلى أن مات، وجعل الآخر شيخا من أهل نيسابور، والصحيح الذي يظهر من كلام أبي عبد الله الحاكم وابن عساكر أنهما واحد، وقد روى ابن كرام عن علي بن حجرد، وعلي بن إسحاق الحنظلي السمرقندي، سمع منه التفسير عن محمد بن مروان عن الكلبي، وإبراهيم بن يوسف الماكناني، وملك بن سليمان الهروي، وأحمد بن حرب، وعتيق بن محمد الجسري، وأحمد بن الأزهر النيسابوري، وأحمد بن عبد الله الحوبياري، ومحمد بن تميم القارياني، وكانا كذابين وضاعين وغيرهم.

وعنه محمد بن إسماعيل بن إسحاق، وأبو إسحاق بن سفيان، و عبد الله بن محمد القيراطي، وإبراهيم بن الحجاج النيسابوري. وذكر الحاكم أنه حبس في حبس طاهر بن عبد الله، فلما أطلقه ذهب إلى ثغور الشام ثم عاد إلى نيسابور، فحبسه محمد بن طاهر بن عبد الله وأطال حبسه، وكان يتأهب لصلاة الجمعة ويأتي إلى السجان فيقول: دعني أخرج إلى الجمعة، فيمنعه السجان فيقول: اللهم إنك تعلم أن المنع من غيري.

وقال غيره: أقام ببيت المقدس أربع سنين، وكان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى - عليه السلام - واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول: إن الأيمان قول بلا عمل، فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غور زغر فمات بها، ونقل إلى بيت المقدس.

مات في صفر من هذه السنة.

وقال الحاكم: توفي ببيت المقدس ليلا، ودفن بباب أريحا عند قبور الأنبياء - عليهم السلام -، وله ببيت المقدس من الأصحاب نحو من عشرين ألفا، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين

في صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من المحرم قدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا، فدخلها في جيش هائل قد عباه ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدي جالسا لكشف المظالم، فاستأذنوا عليه فأبطأ الإذن ساعة، وتأخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف، فدخلوا عليه هجما فجعلوا يراطنونهم بالتركي، ثم عزموا فأقاموه من مجلسه وانتهبوا ما كان فيه، ثم أخذوه مهانا إلى دار أخرى، فجعل يقول لموسى بن بغا: مالك ويحك؟

إني إنما أرسلت إليك لأتقوى بك على صالح بن وصيف.

فقال له موسى: لا بأس عليك احلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت.

فحلف له المهتدي، فطابت الأنفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة، وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن لا يمالئ صالحا عليهم، واصطلحوا على ذلك.

ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضرهم للمناظرة في أمر المعتز ومن قتله صالح بن وصيف من الكتاب وغيرهم، فوعدهم أن يأتيهم، ثم اجتمع بجماعة من الأمراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلته لا يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه، فلم يزل مختفيا إلى آخر صفر على ما سنذكر، ورد سليمان بن عبد الله بن طاهر إلى نيابة بغداد، وسلم الوزير عبد الله بن محمد بن يزداد إلى الحسن بن مخلد الذي كان أراد صالح بن وصيف قتله مع ذينك الرجلين، فبقي في السجن حتى رجع إلى الوزارة.

ولما أبطأ خبر صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه قال بعضهم لبعض: اخلعوا هذا الرجل - يعني الخليفة -.

فقال بعضهم: أتقتلون رجلا صواما قواما، لا يشرب الخمر، ولا يأتي الفواحش؟

والله إن هذا ليس كغيره من الخلفاء، ولا تطاوعكم الناس عليه، وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفا، فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه فقال: قد بلغني ما تمالأتم عليه من أمري، وإني والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن بدلها منكم، أو ليذهبن بها أكثركم، أما دين؟ أما حياء؟

أما تستحيون؟ كم يكون هذا الإقدام على الخلفاء، والجرأة على الله عز وجل، وأنتم لا تبصرون؟

سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي، هل ترون فيها من آلات الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك؟

وإنما في بيوتنا ما في بيوت آحاد الناس، ويقولون: إني أعلم علم صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد منكم؟

فاذهبوا فاعلموا علمه فابلغوا شفاء نفوسكم فيه، وأما أنا فلست أعلم علمه.

قالوا: فاحلف لنا على ذلك، قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكن أدخرها لكم حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب في غد إذا صليت صلاة الجمعة.

قال: فكأنهم لانوا لذلك قليلا.

فلما كان يوم الأحد لثمان بقين من صفر ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجيء برأسه إلى المهتدي بالله، وقد انفتل من صلاة المغرب، فلم يزد على أن قال: واروه.

ثم أخذ في تسبيحه وذكره.

ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين رفع الرأس على رمح ونودي عليه في أرجاء البلد.

هذا جزاء من قتل مولاه.

وما زال الأمر مضطربا متفاقما، وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله - رحمه الله -.

خلع المهتدي بالله وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل

لما بلغ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فسادا، ركب إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك التركي، فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب منهم وأعجزهم، وكان قد فعل قبل مجيئهم الأفاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه، ثم إن الخليفة أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك فكتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل إليه الكتاب أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي، واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا، وتركا ما كانا فيه. فلما بلغ المهتدي ذلك استخدم من فوره جندا من المغاربة والفراغنة والأشروسية والأرزكشبية والأتراك أيضا، وركب في جيش كثيف فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان، وأظهر بايكباك السمع والطاعة، فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعا مطيعا، فلما أوقف بين يديه وحوله الأمراء والسادة من بني هاشم شاورهم في قتله فقال له صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين لم يبلغ أحد من الخلفاء في الشجاعة ما بلغت، وقد كان أبو مسلم الخراساني شرا من هذا وأكثر جندا، ولما قتله المنصور سكنت الفتنة وخمد صوت أصحابه.

فأمر عند ذلك بضرب عنق بايكباك ثم ألقى رأسه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك طغوتيا، فخرج إليهم الخليفة فيمن معه فلما التقوا خامرت الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة، فحمل الخليفة فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه، فانهزم الخليفة وبيده السيف صلتا وهو ينادي: يا أيها الناس انصروا خليفتكم.

فدخل دار أحمد بن جميل صاحب المعونة، فوضع فيها سلاحه ولبس البياض وأراد أن يذهب فيختفي، فعاجله أحمد بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب، ورماه بسهم وطعن في خاصرته به، وحمل على دابة وخلفة سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه، وأخذ خطه بستمائة ألف دينار، وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطأهما حتى مات - رحمه الله - وذلك يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.

وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام، وكان مولده في سنة تسع عشرة، وقيل خمس عشرة ومائتين، وكان أسمر رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبد الله.

وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل. قال الخطيب: وكان من أحسن الخلفاء مذهبا، وأجودهم طريقة، وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة.

قال: وروى حديثا واحدا قال: حدثني علي بن هشام بن طراح، عن محمد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى - وهو داود بن علي- عن أبيه عن ابن عباس قال:

قال العباس: يا رسول الله ما لنا في هذا الأمر؟

قال: «لي النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الأمر وبكم يختم».

وقال للعباس: «من أحبك نالته شفاعتي، ومن أبغضك لا نالته شفاعتي».

وروى الخطيب أن رجلا استعان المهتدي على خصمه فحكم بينهما بالعدل فأنشأ الرجل يقول:

حكمتموه فقضى بينكم ** أبلج مثل القمر الزاهر

لا يقبل الرشوة في حكمه ** ولا يبالي غبن الخاسر

فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، ولست أغتر بما قلت.

وأما أنا فإني ما جلست مجلسي هذا حتى قرأت: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47] .

قال: فبكى الناس حوله فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم.

وقال بعضهم: سرد المهتدي الصوم من حين تولى إلى حين قتل - رحمه الله -.

وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز الأموي في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة. وقال أحمد بن سعيد الأموي: كنا جلوسا بمكة وعندي جماعة ونحن نبحث في النحو وأشعار العرب، إذ وقف علينا رجل نظنه مجنونا فأنشأ يقول:

أما تستحيون الله يا معدن النحو ** شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل

وإمامكم أضحى قتيلا مجندلا ** وقد أصبح الإسلام مفترق الشمل

وأنتم على الأشعار والنحو عكفا ** تصيحون بالأصوات في أحسن السبل

قال: فنظر وأرخنا ذلك اليوم، فإذا المهتدي بالله قد قتل في ذلك اليوم، وهو يوم الاثنين لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.

خلافة المعتمد على الله

وهو أحمد بن المتوكل على الله ويعرف بابن فتيان، بويع بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب في هذه السنة في دار الأمير يارجوخ وذلك قبل خلع المهتدي بأيام، ثم كانت بيعة العامة يوم الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل: ولعشرين بقين من رجب دخل موسى بن بغا ومفلح إلى سر من رأى، فنزل موسى في داره وسكن وخمدت الفتنة هنالك، وأما صاحب الزنج المدعى أنه علوي فهو محاصر للبصرة والجيوش الخليفية في وجهه دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يفد إليهم في المراكب من الأطعمة وغيرها، ثم استحوذ بعد ذلك على الإبلة وعبادان وغيرهما من البلاد وخاف منه أهل البصرة خوفا شديدا، وكلما لأمره في قوة وجيوشه في زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة.

وفيها خرج رجل آخر في الكوفة يقال له: علي بن زيد الطالبي، وجاء جيش من جهة الخليفة فكسره الطالبي واستفحل أمره بالكوفة وقويت شوكته، وتفاقم أمره.

وفيها وثب محمد بن واصل التميمي على نائب الأهواز الحارث بن سيما الشرابي، فقتله واستحوذ على بلاد الأهواز.

وفي رمضان منها تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه.

وفيها كانت وقعة عظيمة على باب دمشق بين أماجور نائب دمشق - ولم يكن معه إلا قريب من أربعمائة فارس - وبين ابن عيسى بن الشيخ، وهو في قريب من عشرين ألفا، فهزمه أماجور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ على بلاد أرمينية على أن يترك أهل الشام، فقبل ذلك وانصرف عنهم.

وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وكان في جملة من حج أو أحمد بن المتوكل.

فتعجل وعجل السير إلى سامرا فدخلها ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة من هذه السنة.

وفيها توفي المهتدي بالله الخليفة كما تقدم - رحمه الله تعالى -.

الزبير بن بكار

ابن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري قاضي مكة.

قدم بغداد وحدث بها، وله كتاب أنساب قريش، وكان من أهل العلم بذلك، وكتابه في ذلك حافل جدا.

وقدر روى عنه ابن ماجة وغيره، ووثقه الدارقطني والخطيب وأثنى عليه وعلى كتابه، وتوفي بمكة عن أربع وثمانين سنة في ذي القعدة من هذه السنة.

الإمام محمد بن إسماعيل البخاري

صاحب الصحيح، وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه، ولنذكر هاهنا نبذة يسيرة من ذلك فنقول: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن يزدزبه الجعفي مولاهم أبو عبد الله البخاري الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام، ولد البخاري - رحمه الله - في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشر سنة حتى قيل: إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا، وحج وعمره ثماني عشرة سنة.

فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ.

وروى عنه خلائق وأمم.

وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال: سمع الصحيح من البخاري معي نحو من سبعين ألفا لم يبق منهم أحد غيري.

وقد روى البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم من طريقه، وحماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل وطاهر بن مخلد. وآخر من حدث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي؛ وقد توفي النسفي هذا في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. ووثقه الأمير أبو نصر بن ماكولا.

وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح، وكان مسلم يتلمذ له ويعظمه، وروى عنه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه في قول بعضهم.

وقد دخل بغداد ثمان مرات، وفي كل منها يجتمع بالإمام أحمد، فيحثه أحمد على المقام ببغداد ويلومه على الإقامة بخراسان.

وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطرة ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة. وقد كان أصيب بصره وهو صغير فرأت أمه إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - فقال: يا هذه قد رد الله على ولدك بصره بكثرة دعائك، أو قال: بكائك، فأصبح وهو بصير.

وقال البخاري: فكرت البارحة فإذا أنا قد كتبت لي مصنفات نحوا من مائتي ألف حديث مسندة.

وكان يحفظها كلها.

ودخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها، فركبوا أسانيد وأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وخلطوا الرجال في الأسانيد وجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها، ثم قرؤوها على البخاري فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، وما تعنتوا عليه فيها، ولم يقدروا أن يعلفوا عليه سقطة في إسناد ولا متن.

وكذلك صنع في بغداد.

وقد ذكروا أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة.

والأخبار عنه في ذلك كثيرة.

وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه.

فقال الإمام أحمد: ما أخرجت خراسان مثله.

وقال علي بن المديني: لم ير البخاري مثل نفسه.

وقال إسحاق بن راهويه: لو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه في الحديث ومعرفته وفقهه.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير: ما رأينا مثله.

وقال علي بن حجر: لا أعلم مثله.

وقال محمود بن النظر بن سهل الشافعي: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها، كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري فضلوه على أنفسهم.

وقال أبو العباس الدعولي: كتب أهل بغداد إلى البخاري:

المسلمون بخير ما حييت لهم ** وليس بعدك خير حين تفتقد

وقال الفلاس: كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث.

وقال أبو نعيم أحمد بن حماد: هو فقيه هذه الأمة.

وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي.

ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.

وقال قتيبة بن سعيد: رحل إلي من شرق الأرض وغر بها خلق، فما رحل إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري.

وقال مرجى بن رجاء: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء - يعني في زمانه - وأما قبل زمانه مثل قرب الصحابة والتابعين فلا.

وقال: هو آية من آيات الله تمشي على الأرض.

وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي: محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبا.

وقال إسحاق بن راهويه: هو أبصر مني.

وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق. وقال عبد الله العجلي: رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يجلسان إليه يسمعان ما يقول، ولم يكن مسلم يبلغه، وكان أعلم من محمد بن يحيى الذهلي بكذا وكذا، وكان حييا فاضلا يحسن كل شيء.

وقال غيره: رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل البخاري عن الأسامي والكنى والعلل، وهو يمر فيه كالسهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد.

وقال أحمد بن حمدون القصار: رأيت مسلم بن الحجاج جاء إلى البخاري فقبل بن عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، ثم سأله عن حديث كفارة المجلس فذكر له علته فلما فرغ قال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك.

وقال الترمذي: لم أر بالعراق ولا في خراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري، وكنا يوما عند عبد الله بن منير فقال للبخاري: جعلك الله زين هذه الأمة.

قال الترمذي: فاستجيب له فيه.

وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - ﷺ - ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري.

ولو استقصينا ثناء العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته لطال علينا، ونحن على عجل من أجل الحوادث والله سبحانه المستعان.

وقد كان البخاري - رحمه الله - في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء.

وقال البخاري: إني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطالبني أني اغتبته.

فذكر له التاريخ وما ذكر فيه من الجرح والتعديل وغير ذلك. فقال: ليس هذا من هذا.

قال النبي - ﷺ -: «إيذنوا له فلبئس أخو العشيرة».

ونحن إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا.

وقد كان - رحمه الله - يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يختم القرآن في كل ليلة رمضان ختمة، وكانت له جدة ومال جيد ينفق منه سرا وجهرا، وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار، وكان مستجاب الدعوة مسدد الرمية شريف النفس، بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه فأرسل إليه: في بيته العلم والحلم يؤتى - يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلي - وأبى أن يذهب إليهم.

والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى، فبقي في نفس الأمير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق - وكان وقد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد - فأراد أن يصرف الناس عن السماع من البخاري، وقد كان الناس يعظمونه جدا، وحين رجع إليهم نثروا على رأسه الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للإملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد، فخرج منها ودعا على خالد بن أحمد، فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات، ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلي ببلاء شديد، فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها: خرتنك على فرسخين من سمرقند، فنزل عند أقارب له بها وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جاء في الحديث: «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين». ثم اتفق مرضه على إثر ذلك.

فكانت وفاته ليلة عيد الفطر - وكان ليلة السبت - عند صلاة العشاء وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة - أعنى سنة ست وخمسين ومائتين - وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أياما، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره.

وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة.

وقد ترك - رحمه الله - بعده علما نافعا لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله - ﷺ -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به».

الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب، صنف في الصحيح لا يوازيه فيه غيره، لا صحيح مسلم ولا غيره.

وما أحسن ما قال بعض الفصحاء من الشعراء:

صحيح البخاري لو أنصفوه ** لما خط إلا بماء الذهب

هو الفرق بين الهدى والعمى ** هو السد بين الفتى والعطب

أسانيد مثل نجوم السماء ** أمام متون لها كالشهب

بها قام ميزان دين الرسول ** ودان به العجم بعد العرب

حجاب من النار لا شك فيه ** يميز بين الرضى والغضب

وستر رقيق إلى المصطفى ** ونص مبين لكشف الريب

فيا عالما أجمع العالمو ** ن على فضل رتبته في الرتب

سبق الأئمة فيما جمعت ** وفزت على زعمهم بالقصب

نفيت الضعف من الناقل ** ين ومن كان متهما بالكذب

وأبرزت في حسن ترتيبه ** وتبويبه عجبا للعجب

فأعطاك مولاك ما تشتهيه ** وأجزل حظك فيما وهب

ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين

فيها ولي الخليفة المعتمد ليعقوب بن الليث بلخ وطخارستان وما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها.

وفي صفر منها عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، وأضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأذن له أن يستنيب في ذلك كله.

وفيها تواقع سعيد الحاجب وصاحب الزنج في أراضي البصرة فهزمه سعيد الحاجب، واستنقذ من يده خلقا من النساء والذرية، واسترجع منه أموالا جزيلة.

وأهان الزنج غاية الإهانة.

ثم إن الزنج بيتوا سعيدا وجيشه فقتلوا منهم خلقا كثيرا، ويقال: أن سعيد بن صالح قتل أيضا.

ثم إن الزنج التقوا هم ومنصور بن جعفر الخياط في جيش كثيف فهزمهم صاحب الزنج المدعى أنه طالبي، وهو كاذب.

قال ابن جرير: وفيها ظفر ببغداد بموضع بقال له: بركة زلزل برجل خناق قد قتل خلقا من النساء، كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها، فحمل إلى المعتمد فضرب بين يديه بألفي سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الجلادون على أنثييه بخشب العقابين فمات، ورد إلى بغداد وصلب هناك، ثم أحرقت جثته. وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة، كسف القمر وغاب أكثره.

وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من أهلها خلقا وهرب نائبها بغراج ومن معه، وأحرقت الزنج جامع البصرة ودورا كثيرة، وانتهبوها ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمان فليحضر. فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فرأى أنه قد أصاب فرصة فغدر بهم وأمر بقتلهم، فلم يفلت منهم إلا الشاذ: كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا - وهي الإشارة بينهم إلى القتل - فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله الله، من أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل - أي: صراخ الزنج وضحكهم - فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات، وهرب الناس منهم كل مهرب وحرقوا الكلأ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت من شيء من إنسان أو بهيمة أو آثار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلاء والمحدثين والعلماء.

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان هذا الخبيث قد أوقع في أهل فارس وقعة عظيمة، ثم بلغه أن أهل البصرة قد جاءهم من الميرة شيء كثير وقد اتسعوا بعد الضيق فحسدهم على ذلك، فروى ابن جرير عن من سمعه يقول: دعوت الله علي أهل البصرة فخوطبت فقيل: إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة، فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، وقد كان هذا شائعا في أصحابه حتى وقع الأمر طبق ما أخبر به.

ولا شك أن هذا كان معه شيطان يخاطبه، كما كان يأتي الشيطان مسيلمة وغيره.

قال: ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه: إني صبيحة ذلك دعوت الله على أهل البصرة، فرفعت لي البصرة بين السماء والأرض، ورأيت أهلها يقتلون، ورأيت الملائكة تقاتل مع أصحابي، وإني لمنصور على الناس والملائكة تقاتل معي، وتثبت جيوشي، ويؤيدني في حروبي.

ولما صار إليه العلوية الذين كانوا بالبصرة انتسب هو حينئذ إلى يحيى بن زيد، وهو كاذب في ذلك بالإجماع، لأن يحيى بن زيد لم يعقب إلا بنتا ماتت وهي ترضع، فقبح الله هذا اللعين ما أكذبه وأفجره وأغدره.

وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جيشا كثيفا مع الأمير محمد - المعروف بالمولد - لقتال صاحب الزنج، فقبض في طريقه على سعد بن أحمد الباهلي الذي كان قد تغلب على أرض البطائح وأخاف السبيل.

وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بأرض فارس وتغلب عليها. وفيها وثب رجل من الروم يقال له: بسيل الصقلبي على ملك الروم ميخائيل بن توفيل فقتله واستحوذ على مملكة الروم، وقد كان لميخائيل في الملك على الروم أربع وعشرون سنة.

وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن عرفة بن يزيد

صاحب الجزء المشهور المروي، وقد جاوز المائة بعشر سنين وقيل: بسبع، وكان له عشرة من الولد سماهم بأسماء العشرة.

وقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وكان يتردد إلى الإمام أحمد بن حنبل.

ولد في سنة خمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين.

وأبو سعيد الأشج.

وزيد بن أخرم الطائي.

والرياشي، ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة.

علي بن خشرم

أحد مشايخ مسلم الذي يكثر عنهم الرواية. والعباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي النحوي اللغوي، كان عالما بأيام العرب والسير وكان كثير الاطلاع ثقة عالما، روى عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما، وعنه إبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا وغيرهما.

قتل بالبصرة في هذه السنة، قتله الزنج.

ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الأصمعي أنه قال:

مر بنا أعرابي ينشد ابنه فقلنا له: صفه لنا.

فقال: كأنه دنينير.

فقلنا: لم نره، فلم نلبث أن جاء يحمله على عنقه أسيود كأنه سفل قدر.

فقلت لو سألتنا عن هذا لأرشدناك، إنه منذ اليوم يلعب ههنا مع الغلمان.

ثم أنشد الأصمعي:

نعم ضجيع الفتى إذا برد ** الليل سحرا وقرقف العرد

زينها الله في الفؤاد كما ** زين في عين والد ولد

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين

في يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الأول عقد الخليفة لأخيه أبي أحمد علي ديار مصر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس في مستهل ربيع الآخر فخلع على أخيه وعلى مفلح، وركبا نحو البصرة في جيش كثيف في عدد وعدد، فاقتتلوا هم والزنج قتالا شديدا فقتل مفلح للنصف من جمادى الأولى، أصابه سهم بلا نصل في صدره فأصبح ميتا، وحملت جثته إلى سامرا فدفن بها. وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني أحد أمراء صاحب الزنج الكبار، وحمل إلى سامرا فضرب بين يدي المعتمد مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم أخذ بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق، وكان الذين أسروه جيش أبي أحمد في وقعة هائلة مع الزنج قبحهم الله.

ولما بلغ خبره صاحب الزنج أسف على ذلك ثم قال: لقد خوطبت فيه فقيل لي: قتله كان خيرا لك.

لأنه كان شرها يخفى من المغانم خيارها، وقد كان صاحب الزنج يقول لأصحابه: لقد عرضت علي النبوة فخفت أن لا أقوم بأعبائها فلم أقبلها.

وفي ربيع الآخر منها وصل سعيد بن أحمد الباهلي إلى باب الخليفة فضرب سبعمائة سوط حتى مات ثم صلب.

وفيها قتل قاض وأربعة وعشرون رجلا من أصحاب صاحب الزنج عند باب العامة بسامرا.

وفيها رجع محمد بن واصل إلى طاعة السلطان وحمل خراج فارس وتمهدت الأمور هناك.

وفيها في أواخر رجب كان بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة هائلة فقتل منها خلق من الفريقين.

ثم استوخم أبو أحمد منزله فانتقل إلى واسط فنزلها في أوائل شعبان فلما نزلها وقعت هناك زلزلة شديدة وهدة عظيمة، تهدمت فيها بيوت ودور كثيرة ومات من الناس نحو من عشرين ألفا.

وفيها وقع في الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامرا وواسط وغيرها من البلاد، وحصل للناس ببغداد داء يقال له: القفاع.

وفي يوم الخميس لسبع خلون من رمضان، أخذ رجل من باب العامة بسامرا ذكر عنه أنه يسب السلف، فضرب ألف سوط حتى مات.

وفي يوم الجمعة ثامنه، توفي الأمير يارجوخ فصلى عليه أخو الخليفة أبو عيسى وحضره جعفر بن المعتمد على الله.

وفيها كانت وقعة هائلة بين موسى بن بغا وبين أصحاب الحسن بن زيد ببلاد خراسان، فهزمهم موسى هزيمة فظيعة.

وفيها كانت وقعة بين مسرور البلخي وبين مساور الخارجي، فكسره مسرور وأسر من أصحابه جماعة.

كثيرة وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق المتقدم ذكره.

وفيها توفي من الأعيان أحمد بن بديل، وأحمد بن حفص.

وأحمد بن سنان القطان.

ومحمد بن يحيى الذهلي.

ويحيى بن معاذ الرازي.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين

في يوم الجمعة لأربع من ربيع الآخر رجع أبو أحمد بن المتوكل من واسط إلى سامرا، وقد استخلف على حرب الزنج محمد الملقب بالمولد، وكان شجاعا شهما.

وفيها بعث الخليفة إلى نائب الكوفة جماعة من القواد فذبحوه وأخذوا ما كان معه من المال، فإذا هو أربعون ألف دينار.

وفيها تغلب رجل جمال يقال له: شركب الجمال على مدينة مرو فانتهبها، وتفاقم أمره وأمر أتباعه هناك.

ولثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة توجه موسى بن بغا إلى حرب الزنج وخرج المعتمد لتوديعه، وخلع عليه عند مفارقته له، وخرج عبد الرحمن بن مفلح إلى بلاد الأهواز نائبا عليها، وليكون عونا لموسى بن بغا على حرب صاحب الزنج الخبيث، فهزم عبد الرحمن بن مفلح جيش الخبيث، وقتل من الزنج خلقا كثيرا، وأسر طائفة كبيرة منهم وأرعبهم رعبا كثيرا، بحيث لم يتجاسروا على موافقتة مرة ثانية، وقد حرضهم الخبيث كل التحريض فلم ينجع ذلك فيهم، ثم تواقع عبد الرحمن بن مفلح وعلي بن أبان المهلبي، وهو مقدم جيوش صاحب الزنج فجرت بينهما حروب يطول شرحها، ثم كانت الدائرة على الزنج ولله الحمد.

فرجع علي بن أبان إلى الخبيث مغلوبا مقهورا، وبعث عبد الرحمن بالأسارى إلى سامرا، فبادر إليهم العامة فقتلوا أكثرهم وسلبوهم قبل أن يصلوا إلى الخليفة.

وفيها دنا ملك الروم - لعنه الله -إلى بلاد سميساط ثم إلى ملطية فقاتله أهلها فهزموه، وقتلوا بطريق البطارقة من أصحابه، ورجع إلى بلاده خاسئا وهو حسير.

وفيها دخل يعقوب بن الليث إلى نيسابور وظفر بالخارجي الذي كان بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، فقتله وحمل رأسه على رمح وطيف به في الآفاق.

ومعه رقعة مكتوب فيها ذلك.

وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن يعقوب بن سليمان بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن عباس. وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني خطيب دمشق وإمامها وعالمها، وله المصنفات المشهورة المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة.

ثم دخلت سنة ستين ومائتين

فيها وقع غلاء شديد ببلاد الإسلام كلها حتى أحلى أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها، ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد، وخرج نائب مكة منها.

وبلغ كر الشعير ببغداد مائة وعشرين دينارا، واستمر ذلك شهورا. وفيها قتل صاحب الزنج علي بن زيد صاحب الكوفة، وفيها أخذ الروم من المسلمين حصن لؤلؤة.

وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المذكور قبلها.

وفيها توفي من الأعيان: الحسن بن محمد الزعفراني، وعبد الرحمن بن شرف، ومالك بن طوق صاحب الرحبة التي تنسب إليه، وهو مالك بن طوق، ويقال للرحبة: رحبة مالك بن طوق، وحنين ابن إسحاق العبادي الذي عرب كتاب اقليدس وحرره بعد ثابت بن قرة.

وعرب حنين أيضا كتاب المجسطي وغير ذلك من كتب الطب من لغة اليونان إلى لغة العرب، وكان المأمون شديد الاعتناء بذلك جدا، وكذلك جعفر البرمكي قبله، ولحنين مصنفات كثيرة في الطب، واليه تنسب مسائل حنين، وكان بارعا في فنه جدا، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من صفر من هذه السنة.

قاله ابن خلكان.

سنة إحدى وستين ومائتين

فيها انصرف الحسن بن زيد من بلاد الديلم إلى طبرستان وأحرق مدينة شالوس، لممالأتهم يعقوب بن الليث عليه.

وفيها قتل مساور الخارجي يحيى بن حفص الذي كان يلي طريق خراسان في جمادى الآخرة، فشخص إليه مسرور البلخي، ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مساور فلم يلحق.

وفيها كانت وقعة بين ابن واصل الذي تغلب على فارس وبين عبد الرحمن بن مفلح، فكسره ابن واصل وأسره، وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم سار ابن واصل إلى واسط يريد حرب موسى بن بغا، فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن، فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبي أحمد.

وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالا شديدا، وغلبتهم الزنج، ودخلوا الأهواز فقتلوا خلقا من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة، ثم صرف أبو الساج عن نيابة الأهواز وخربها الزنج وولى الخليفة ذلك إبراهيم بن سيما.

وفيها تجهز مسرور البلخي في جيش لقتال الزنج.

وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بذلك في شهر رمضان.

وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابن واصل فالتقيا في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وطائفة من حرمه، وأخذ من أمواله ما قيمته أربعون ألف ألف درهم.

وقتل من كان يمالئه وينصره من أهل تلك البلاد.

وأصلح الله به تلك الناحية.

ولاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال، ولى المعتمد على الله ولده جعفرا العهد من بعده، وسماه المفوض إلى الله وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمر من بعد ولده لأبي أحمد المتوكل ولقبه الموفق بالله وولاه المشرق، وضم إليه مسرور البلخي وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكوردجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والرى وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة.

وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق.

وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن سليمان الرهاوي.

وأحمد بن عبد الله العجلي.

والحسن بن أبي الشوارب بمكة.

وداود بن سليمان الجعفري.

وشعيب بن أيوب.

و عبد الله بن الواثق أخو المهتدي بالله.

وأبو شعيب السوسي.

وأبو زيد البسطامي أحد أئمة الصوفية.

وعلي بن إشكاب وأخوه أبو محمد، ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح.

ذكر شيء من ترجمة مسلم بن الحجاج النيسابوري

هو مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، أحد الأئمة من حفاظ الحديث صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء، وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه، وفي الجملة فإن مسلما لم يشترط في كتابه الشرط الثاني كما هو مقرر في علوم الحديث، وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري.

والمقصود أن مسلما دخل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شيخنا الحافظ المزي في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم.

وروى عنه جماعة كثيرون منهم: الترمذي في جامعه حديثا واحدا وهو حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «احصوا هلال شعبان لرمضان».

وصالح بن محمد حرره. وعبد الرحمن بن أبي حاتم.

وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو عوانة الأسفراييني.

وقال الخطيب: أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا أحمد بن نعيم الضبي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، سمعت أحمد بن سلمة يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما.

وأخبرني ابن يعقوب، أنا محمد بن نعيم، سمعت الحسين بن محمد الماسرخسي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت مسلما بن الحجاج يقول: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة.

وروى الخطيب قائلا: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي السودرجاني - بأصبهان - سمعت محمد بن إسحاق بن منده سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث.

وقد ذكر مسلم عند إسحاق بن راهويه فقال بالعجمية ما معناه: أي رجل كان هذا؟

وقال إسحاق بن منصور لمسلم: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.

وقد أثنى عليه جماعة من العلماء من أهل الحديث وغيرهم.

وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم: قل ما يفوت البخاري ومسلما ما يثبت في الحديث.

وروى الخطيب عن أبي عمر محمد بن حمدان الحيري قال: سألت أبا العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم؟

فقال: كان البخاري عالما ومسلم عالما، فكررت ذلك عليه مرارا وهو يرد علي هذا الجواب ثم قال: يا أبا عمرو قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه ويتوهم أنهما اثنان، وأما مسلم فقل ما يقع له الغلط لأنه كتب المقاطيع والمراسيل.

قال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه.

ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه.

وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال: سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول: لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء. قال الخطيب: وأخبرني أبو بكر المنكدر، ثنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثني أبو نصر بن محمد الزراد، سمعت أبا حامد أحمد بن حمدان القصار، سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، حدثك محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، حدثنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في كفارة المجلس فما علته؟

فقال البخاري: هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب عن سهيل، عن عوز بن عبد الله قوله.

قال البخاري: وهذا أولى فإنه لا يعرف لموسى بن عقبة سماع من سهيل.

قلت: وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدة، وأوردت فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله.

قال الخطيب: وقد كان مسلم يناضل عن البخاري.

ثم ذكر ما وقع بين البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن في نيسابور، وكيف نودى على البخارى بسبب ذلك بنيسابور، وأن الذهلي قال يوما لأهل مجلسه وفيهم مسلم بن الحجاج: ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسنا.

فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعه من الذهلي جميعه وأرسله إليه، وترك الرواية عن الذهلي بالكلية، فلم يرو عنه شيئا لا في صحيحه ولا في غيره، واستحكمت الوحشة بينهما.

هذا ولم يترك البخاري محمد بن يحيى الذهلي بل روى عنه في صحيحه وغيره وعذره رحمه الله.

وقد ذكر الخطيب سبب موت مسلم رحمه الله: أنه عقد له مجلس للمذاكرة فسئل يوما عن حديث، فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فأوقد السراج وقال لأهله: لا يدخل أحد الليلة علي، وقد أهديت له سلة من تمر فهي عنده يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح، وقد أكل تلك السلة وهو لا يشعر.

فحصل له بسبب ذلك ثقل ومرض من ذلك حتى كانت وفاته عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، فكان عمره سبعا وخمسين سنة رحمه الله تعالى.

أبو يزيد البسطامي

اسمه طيفور بن عيسى بن علي، أحد مشايخ الصوفية، وكان جده مجوسيا فأسلم، وكان لأبي يزيد أخوات صالحات عابدات، وهو أجلهم، قيل لأبي يزيد: بأي شيء وصلت إلى المعرفة؟

فقال: ببطن جائع وبدن عار.

وكان يقول: دعوت نفسي إلى طاعة الله فلم تجبني فمنعتها الماء سنة.

وقال: إذا رأيت الرجل قد أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة.

قال ابن خلكان: وله مقامات ومجاهدات مشهورة، وكرامات ظاهرة.

توفي سنة إحدى وستين ومائتين.

قلت: وقد حكي عنه شحطات ناقصات، قد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة.

وقد قال بعضهم: إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة.

ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع، وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته، والله أعلم.

ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين

فيها قدم يعقوب بن الليث في جحافل، فدخل واسط قهرا، فخرج الخليفة المعتمد بنفسه من سامرا لقتاله، فتوسط بين بغداد وواسط فانتدب له أبو أحمد الموفق بالله أخو الخليفة، في جيش عظيم على ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته مسرور البلخي، فاقتتلوا في رجب من هذه السنة أياما قتالا عظيما، ثم كانت الغلبة على يعقوب وأصحابه، وذلك يوم عيد الشعانين.

فقتل منهم خلق كثير، وغنم منهم أبو أحمد شيئا كثيرا من الذهب والفضة والمسك والدواب.

ويقال: إنهم وجدوا في جيش يعقوب هذا رايات عليها صلبان. ثم انصرف المعتمد إلى المدائن ورد محمد بن طاهر إلى نيابة بغداد، وأمر له بخمسمائة ألف درهم.

وفيها: غلب يعقوب بن الليث على بلاد فارس، وهرب ابن واصل منها.

وفيها: كانت حروب كثيرة بين صاحب الزنج وجيش الخليفة.

وفيها: ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب.

وفيها: جمع للقاضي إسماعيل بن إسحاق قضاء جانبي بغداد.

وفيها: حج بالناس الفضل بن إسحاق العباسي.

قال ابن جرير: وفيها وقع بين الخياطين والخرازين بمكة فاقتتلوا يوم التروية أو قبله بيوم.

فقتل منهم سبعة عشر نفسا، وخاف الناس أن يفوتهم الحج بسببهم، ثم توادعوا إلى ما بعد الحج.

وفيها توفي من الأعيان: صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها.

وعمر بن شبة النميري.

ومحمد بن عاصم.

ويعقوب بن شيبة صاحب المسند الحافل المشهور، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين

فيها جرت حروب كثيرة منتشرة في بلاد شتى فمن ذلك مقتلة عظيمة في الزنج لعنهم الله، حصرهم في بعض المواقف بعض الأمراء من جهة الخليفة، فقتل الموجودين عنده عن آخرهم.

وفيها: سلمت الصقالبة حصن لؤلؤة إلى طاغية الروم.

وفيها: تغلب أخو شركب الجمال على نيسابور، وأخرج منها عاملها الحسين بن طاهر، وأخذ من أهلها ثلث أموالهم مصادرة قبحه الله.

وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي.

وفيها توفي من الأعيان: مساور بن عبد الحميد الشاري الخارجي، وقد كان من الأبطال والشجعان المشهورين، والتف عليه خلق من الأعراب وغيرهم، وطالت مدته حتى قصمه الله.

ووزير الخلافة عبيد الله بن يحيى بن خاقان صدمه في الميدان خادم يقال له: رشيق، فسقط عن دابته على أم رأسه، فخرج دماغه من أذنيه وأنفه فمات بعد ثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد الموفق بن المتوكل، ومشى في جنازته، وذلك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة من هذه السنة، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، فلما قدم موسى بن بغا سامرا عزله واستوزر مكانه سليمان بن وهب، وسلمت دار عبد الله بن يحيى بن خاقان إلى الأمير المعروف بكيطلغ.

وفيها: توفي أحمد بن الأزهر.

والحسن بن أبي الربيع.

ومعاوية بن صالح الأشعري.

ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين

في المحرم منها عسكر أبو أحمد وموسى بن بغا بسامرا وخرجا منها لليلتين مضتا من صفر، وخرج المعتمد لتوديعهما، وسارا إلى بغداد.

فلما وصلا إلى بغداد توفي الأمير موسى بن بغا وحمل إلى سامرا فدفن بها.

وفيها: ولى محمد بن المولد واسطا لمحاربة سليمان بن جامع نائبها من جهة صاحب الزنج، فهزمه ابن المولد بعد حروب طويلة.

وفيها: سار ابن الديراني إلى مدينة الدينور، واجتمع عليه دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف وابن عياض، فهزماه ونهبا أمواله ورجع مغلولا.

ولما توفي موسى بن بغا عزل الخليفة الوزير الذي كان من جهته وهو سليمان بن حرب، وحبسه مقيدا وأمر بنهب دوره ودور أقربائه، ورد الحسن بن مخلد إلى الوزارة، فبلغ ذلك أبا أحمد وهو ببغداد فسار بمن معه إلى سامرا، فتحصن منه أخوه المعتمد بجانبها الغربي، فلما كان يوم التروية عبر جيش أبي أحمد إلى الجانب الذي فيه المعتمد فلم يكن بينهم قتال بل اصطلحوا على رد سليمان بن وهب إلى الوزارة، وهرب الحسن بن مخلد فنهبت أمواله وحواصله واختفى أبو عيسى بن المتوكل ثم ظهر، وهرب جماعة من الأمراء إلى الموصل خوفا من أبي أحمد.

وفيها: حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن عبد الرحمن بن وهب. وإسماعيل بن يحيى المزني أحد رواة الحديث عن الشافعي من أهل مصر، وقد ترجمناه في طبقات الشافعيين.

أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي

أحد الحفاظ المشهورين، قيل: إنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان فقيها ورعا زاهدا عابدا متواضعا خاشعا، أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه، وكان في حال شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل يقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات، ولا يفعل المندوبات اكتفاء بمذاكرته.

توفي يوم الاثنين سلخ ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده سنة مائتين، وقيل: سنة تسعين ومائة، وقد ذكرنا ترجمته مبسوطة في التكميل.

ومحمد بن إسماعيل بن علية قاضي دمشق.

ويونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، وهو ممن روى عن الشافعي.

وقد ذكرناه في التكميل وفي الطبقات.

وقبيحة أم المعتز إحدى حظايا المتوكل على الله، وقد جمعت من الجواهر واللآلئ والذهب والمصاغ ما لم يعهد لمثلها.

ثم سلبت ذلك كله وقتل ولدها المعتز لأجل نفقات الجند، وشحت عليه بخمسين ألف دينار تداري بها عنه.

كانت وفاتها في ربيع الأول من هذه السنة.

ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين

فيها كانت وقعة بين ابن ليثويه عامل أبي أحمد وبين سليمان بن جامع، فظفر بها ابن ليثويه بابن جامع نائب صاحب الزنج، فقتل خلقا من أصحابه وأسر منهم سبعة وأربعين أسيرا، وحرق له مراكب كثيرة، وغنم منهم أموالا جزيلة.

وفي المحرم من هذه السنة حاصر أحمد بن طولون نائب الديار المصرية مدينة أنطاكية، وفيها سيما الطويل فأخذها منه وجاءته هدايا ملك الروم، وفي جملتها أسارى من أسارى المسلمين، ومع كل أسير مصحف، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور، فاجتمع لأحمد بن طولون ملك الشام بكماله مع الديار المصرية، لأنه لما مات نائب دمشق أماخور ركب ابن طولون من مصر فتلقاه ابن ماخور إلى الرملة فأقره عليها.

وسار إلى مشق فدخلها ثم إلى حمص فتسلمها، ثم إلى حلب فأخذها، ثم ركب إلى إنطاكية فكان من أمره ما تقدم.

وكان قد استخلف على مصر ابنه العباس، فلما بلغه قدوم أبيه عليه من الشام أخذ ما كان في بيت المال من الحواصل، ووازره جماعة على ذلك، ثم ساروا إلى برقة خارجا عن طاعة أبيه، فبعث إليه من أخذه ذليلا حقيرا، وردوه إلى مصر فحبسه وقتل جماعة من أصحابه.

وفيها: خرج رجل يقال له: القاسم بن مهاة، على دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي، فقتله واستحوذ على أصبهان فانتصر أصحاب دلف له، فقتلوا القاسم ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.

وفيها: لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث فسار إليه في المحرم، فأمر الخليفة بنهب حواصله وأمواله وأملاكه.

وفيها: دخل صاحب الزنج إلى النعمانية، فقتل وحرق ثم سار إلى جرجرايا فانزعج الناس منه، ودخل أهل السواد إلى بغداد.

وفيها: ولى أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، ووجهه إليها بذلك وبالخلع والتحف.

وفيها: حاصرت الزنج تستر حتى كادوا يأخذونها، فوافاهم تكين البخاري فلم يضع ثياب سفره حتى ناجز الزنج فقتل منهم خلقا، وهزمهم هزيمة فظيعة جدا، وهرب أميرهم علي بن أبان المهلبي مخذولا.

قال ابن جرير: وهذه وقعة باب كودك المشهورة، ثم إن علي بن أبان المهلبي أخذ في مكاتبة تكين واستمالته إليه وإلى صاحب الزنج، فسارع تكين في إجابته إلى ذلك، فبلغ خبره مسرورا البلخي فسار نحوه وأظهر له الأمان حتى أخذه فقيده وتفرق جيشه عنه، ففرقة صارت إلى الزنج، وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وفرقة انضافت إلى مسرور بعد إعطائه إياهم الأمان، وولى مكانه على عمالته أميرا آخر يقال له: اغرتمش.

وفيها: حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى العباسي.

وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن منصور الرمادي راوية عبد الرزاق، وقد صحب الإمام أحمد وكان يعد من الأبدال، توفي عن ثلاث وستين سنة.

وسعدان بن نصر.

و عبد الله بن محمد المخزومي.

وعلي بن حرب الطائي الموصلي.

وأبو حفص النيسابوري علي بن موفق الزاهد.

ومحمد بن سحنون.

قال ابن الأثير في كامله: وفيها قتل أبو الفطل العباس بن الفرج الرياضي صاحب أبي عبيدة، والأصمعي قتلته الزنج بالبصرة.

يعقوب بن الليث الصفار

أحد الملوك العقلاء الأبطال.

فتح بلادا كثيرة من ذلك بلد الرجح التي كان فيها ملك صاحب الزنج، وكان يحمل في سرير من ذهب على رؤوس اثني عشر رجلا، وكان له بيت في رأس جبل عال سماه مكة، فما زال حتى قتل وأخذ بلده، واستسلم أهلها فأسلموا على يديه، ولكن كان قد خرج عن طاعة الخليفة وقاتله أبو أحمد الموفق كما تقدم.

ولما مات ولوا أخاه عمرو بن الليث ما كان يليه أخوه يعقوب مع شرطة بغداد وسامرا كما سيأتي.

ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين

في صفر منها تغلب إساتكين على بلد الري، وأخرج عاملها منها ثم مضى إلى قزوين فصالحه أهلها فدخلها، وأخذ منها أموالا جزيلة، ثم عاد إلى الري فمانعه أهلها عن الدخوال إليها فقهرهم ودخلها.

وفيها: غارت سرية من الروم على ناحية ديار ربيعة، فقتلوا وسبوا ومثلوا وأخذوا نحوا من مائتين وخمسين أسيرا، فنفر إليهم أهل نصيبين وأهل الموصل، فهربت منهم الروم ورجعوا إلى بلادهم.

وفيها: ولى عمرو بن الليث شرطة بغداد وسامرا لعبيد الله بن طاهر، وبعث إليه أبو أحمد بالخلعة وخلع عليه عمرو بن الليث أيضا، وأهدى إليه عمودين من ذهب، وذلك مضافا إلى ما كان يليه أخوه من البلدان.

وفيها: سار اغرتمش إلى قتال علي بن أبان المهلبي بتستر، فأخذ من كان في السجن من أصحاب علي بن أبان المهلبي من الأمراء فقتلهم عن آخرهم، ثم سار إلى علي بن أبان فاقتتلا قتالا شديدا في مرات عديدة، وكان آخرها لعلي بن أبان المهلبي، قتل خلقا كثيرا من أصحاب اغرتمش وأسر بعضهم فقتلهم أيضا، وبعث برؤوسهم إلى صاحب الزنج فنصبت رؤوسهم على باب مدينته قبحه الله.

وفيها: وثب أهل حمص على عاملهم عيسى الكرخي فقتلوه في شوال منها.

وفيها: دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الأصغر العقيلي أهل طبرستان إلى نفسه، وأظهر لهم أن الحسن بن زيد أسر ولم يبق من يقوم بهذا الأمر غيره، فبايعوه.

فلما بلغ ذلك الحسين بن زيد قصده فقاتله فقتله، ونهب أمواله وأموال من اتبعه، وأحرق دورهم.

وفيها: وقعت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية، وتغلب عليها رجل من أهل البيت من سلالة الحسن بن زيد الذي تغلب على طبرستان، وجرت شرور كثيرة هنالك بسبب قتل الجعفرية والعلوية يطول ذكرها.

وفيها: وثبت طائفة من الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها، وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاء شديد وأمور كريهة.

وفيها: أغارت الروم أيضا على ديار ربيعة.

وفيها: دخل أصحاب صاحب الزنج إلى رامهرمز فافتتحوها بعد قتال طويل.

وفيها: دخل ابن أبي الساج مكة، فقاتله المخزومي فقهره ابن أبي الساج، وحرق داره واستباح ماله، وذلك يوم التروية في هذه السنة.

ثم جعلت إمرة الحرمين إلى ابن أبي الساج من جهة الخليفة.

وحج بالناس فيها هارون بن محمد المتقدم ذكره قبلها.

وفيها: عمل محمد بن عبد الرحمن الداخل إلى بلاد المغرب - وهو خليفة بلاد الأندلس وبلاد المغرب - مراكب في نهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط، ولتسير الجيوش في أطرافه إلى بعض البلاد ليقاتلوهم، فلما دخلت المراكب البحر المحيط تكسرت وتقطعت، ولم ينج من أهلها إلا اليسير بل غرق أكثرهم.

وفيها: التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم ببلاد صقلية، فاقتتلوا فقتل من المسلمين خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: حارب لؤلؤ غلام ابن طولون لموسى بن أتامش، فكسره لؤلؤ وأسره وبعث به إلى مولاه أحمد بن طولون، وهو إذ ذاك نائب الشام ومصر وإفريقية من جهة الخليفة، ثم اقتتل لؤلؤ هذا وطائفة من الروم فقتل من الروم خلقا كثيرا.

قال ابن الأثير: وفيها اشتد الحال، وضاق الناس ذرعا بكثرة الهياج والفتن، وتغلب القواد والأجناد على كثير من البلاد بسبب ضعف منصب الخلافة واشتغال أخيه أبي أحمد بقتال الزنج.

وفيها: اشتد الحر في تشرين الثاني جدا، ثم قوي به البرد حتى جمد الماء.

وفيها توفي من الأعيان: إبراهيم بن رومة.

وصالح بن الإمام أحمد بن حنبل قاضي أصبهان.

ومحمد بن شجاع البلخي أحد عباد الجهمية.

ومحمد بن عبد الملك الدقيقي.

ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين

فيها وجه أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة وأكمل تجمل لقتال الزنج، فساروا نحوهم فكان بينهم وبينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه، وقد استقصاه ابن جرير في تاريخه مبسوطا مطولا.

وحاصل ذلك: أنه آل الحال أن استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب، ولكن سلمة الله وغنمه وأعلى كلمته وسدد رميته وأجاب دعوته وفتح على يديه وأسبغ نعمه عليه، وهذا الشاب هو الذي ولي الخلافة بعد عمه المعتمد كما سيأتي.

ثم ركب أبو أحمد الموفق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوش كثيفة، فدخل واسط في ربيع الأول منها، فتلقاه ابنه أخبره عن الجيوش الذين معه، وأنهم نصحوا وتحملوا من أعباء الجهاد، فخلع على الأمراء كلهم خلعا سنية، ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسماها المنيعة، فقاتل الزنج دونها قتالا شديدا فقهرهم ودخلها عنوة وهربوا منها، فبعث في آثارهم جيشا فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون، وغنم أبو أحمد من المنيعة شيئا كثيرا، واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدم سور البلد وبطم خندقها وجعلها بلقعا بعد ما كانت للشر مجمعا.

ثم سار الموفق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها: المنصورة، وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين، ورمى أبو العباس بن الموفق بسهم أحمد بن هندي أحد أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغه فقتله، وكان من أكابر أمراء صاحب الزنج فشق ذلك على الزنج جدا، وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر، والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب، فتقدم الموفق فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله في الدعاء واجتهد في حصارها، فهزم الله مقاتلتها وانتهى إلى خندقها فإذا هو قد حصن غاية التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار، فجعل كلما جاوز سورا قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقا كثيرا وهرب بقيتهم، وأسر من نساء الزنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبيانا، واستنقذ من أيديهم النساء المسلمات والصبيان من أهل البصرة والكوفة نحوا من عشرة آلاف نسمة فسيرهم إلى أهليهم، جزاه الله خيرا.

ثم أمر بهدم فنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها، وأقام بها سبعة عشر يوما وبعث في آثار من انهزم منهم، فكان لا يأتون بأحد منهم إلا استماله إلى الحق برفق ولين وصفح، فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراء - وكان مقصوده رجوعهم إلى الدين والحق - ومن لم يجبه قتله وحبسه.

ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطردهم منها، وقتل خلقا كثيرا من أشرافهم، منهم: أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري، وكان رئيسا فيهم مطاعا، وغنم شيئا كثيرا من أموالهم، وكتب الموفق إلى صاحب الزنج قبحه الله كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام.

ونبذ له الأمان إن هو رجع إلى الحق، فلم يرد عليه صاحب الزنج جوابا.

مسير أبي أحمد الموفق إلى مدينة صاحب الزنج وحصار المختارة

لما كتب أبو أحمد إلى صاحب الزنج يدعوه إلى الحق فلم يجبه، استهانة به، ركب من فوره في جيوش عظيمة قريب من خمسين ألف مقاتل، قاصدا إلى المختارة مدينة صاحب الزنج، فلما انتهى إليها وجدها في غاية الأحكام، وقد حوط عليها من آلات الحصار شيئا كثيرا، وقد التف على صاحب الزنج نحو من ثلاثمائة ألف مقاتل بسيف ورمح ومقلاع، ومن يكثر سوادهم، فقدم الموفق ولده أبا العباس بين يديه، فتقدم حتى وقف تحت قصر الملك فحاصره محاصرة شديدة، وتعجب الزنج من إقدامه وجرأته، ثم تراكمت الزنج عليه من كل مكان فهزمهم، وأثبت بهبوذ أكبر أمراء صاحب الزنج بالسهام والحجارة، ثم خامر جماعة من أصحاب أمراء صاحب الزنج إلى الموفق فأكرمهم وأعطاهم خلعا سنية، ثم رغب إلى ذلك جماعة كثيرون فصاروا إلى الموفق.

ثم ركب أبو أحمد الموفق في يوم النصف من شعبان، ونادى في الناس كلهم بالأمان إلا صاحب الزنج، فتحول خلق كثير من جيش صاحب الزنج إلى الموفق، وابتنى الموفق مدينة تجاه مدينة صاحب الزنج سماها الموفقية، وأمر بحمل الأمتعة والتجارات إليها، فاجتمع بها من أنواع الأشياء وصنوفها ما لم يجتمع في بلد قبلها، وعظم شأنها وامتلأت من المعايش والأرزاق وصنوف التجارات والسكان والدواب وغيرهم، وإنما بناها ليستعين بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروب عظيمة، وما زالت الحرب ناشبة حتى انسلخت هذه السنة وهم محاصرون للخبيث صاحب الزنج، وقد تحول منهم خلق كثير فصاروا على صاحب الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عدد من تحول قريبا من خمسين ألفا من الأمراء الخواص والأجناد، والموفق وأصحابه في زيادة وقوة ونصر وظفر.

وفيها: حج بالناس هارون بن محمد الهاشمي.

وفيها توفي من الأعيان: إسماعيل بن سيبويه.

وإسحاق بن إبراهيم بن شاذان، ويحيى بن نصر الخولاني، وعباس البرقفي، ومحمد بن حماد بن بكر بن حماد أبو بكر المقري، صاحب خلف بن هشام البزار ببغداد في ربيع الأول، ومحمد بن عزيز الإيلي، ويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي حنكان، ويونس بن حبيب راوي مسند أبي داود الطيالسي عنه.

ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين

في المحرم منها استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان - وكان من أكابر صاحب الزنج وثقاتهم في أنفسهم - الموفق فأمنه وفرح به وخلع عليه وأمره فركب في سمرته فوقف تجاه قصر الملك، فنادى في الناس وأعلمهم بكذب صاحب الزنج وفجوره، وأنه في غرور هو ومن ابتعه، فاستأمن بسبب ذلك بشر كثير منهم، وبرد قتال الزنج عند ذلك إلى ربيع الآخر.

فعند ذلك أمر الموفق أصحابه بمحاصرة السور، وأمرهم إذا دخلوه أن لا يدخلوا البلد حتى يأمرهم، فنقبوا السور حتى انثلم ثم عجلوا الدخول فدخلوا فقاتلهم الزنج فهزمهم المسلمون، وتقدموا إلى وسط المدينة فجاءتهم الزنج من كل جانب وخرجت عليهم الكمائن من أماكن لا يهتدون لها، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا واستلبوهم وفر الباقون. فلامهم الموفق على مخالفته وعلى العجلة، وأجرى الأرزاق على ذرية من قتل منهم، فحسن ذلك عند الناس جدا.

وظفر أبو العباس بن الموفق بجماعة من الأعراب كانوا يجلبون الطعام إلى الزنج فقتلهم، وظفر ببهبوذ بن عبد الله بن عبد الوهاب فقتله، وكان ذلك من أكبر الفتح عند المسلمين وأعظم الرزايا عند الزنج.

وبعث عمرو بن الليث إلى أبي أحمد الموفق ثلاثمائة ألف دينار وخمسين منا من مسك، وخمسين منا من عنبر، ومائتي من عود، وفضة بقيمة ألف، وثيابا من وشي وغلمانا كثيرة جدا.

وفيها: خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية، فحاصر أهل ملطية فأعانهم أهل مرعش ففر الخبيث خاسئا.

وغزا الصائفة من ناحية الثغور عامل ابن طولون، فقتل من الروم سبعة عشر ألفا.

وحج بالناس فيها هارون المتقدم.

وفيها: قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني.

وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن سيار.

وأحمد بن شيبان.

وأحمد بن يونس الضبي.

وعيسى ابن أحمد البلخي، ومحمد بن عبد الله بن عبدالحكم المصري الفقيه المالكي.

وقد صحب الشافعي وروى عنه.

ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين

فيها اجتهد الموفق بالله في تخريب مدينة صاحب الزنج فخرب منه شيئا كثيرا، وتمكن الجيوش من العبور إلى البلد، ولكن جاءه في أثناء هذه الحالة سهم في صدره من يد رجل رومي يقال له: قرطاس، فكاد يقتله، فاضطرب الحال لذلك وهو يتجلد ويحض على القتال مع ذلك، ثم أقام ببلده الموفقية أياما يتداوى فاضطربت الأحوال وخاف الناس من صحاب الزنج، وأشاروا على الموفق بالمسير إلى بغداد فلم يقبل فقويت علته ثم من الله عليه بالعافية في شعبان، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، فنهض مسرعا إلى الحصار فوجد الخبيث قد رمم كثيرا مما كان الموفق قد خربه وهدمه.

فأمر بتخريبه وما حوله وما قرب منه، ثم لازم الحصار فما زال حتى فتح المدينة الغربية وخرب قصور صاحب الزنج ودور أمرائه، وأخذ من أموالهم شيئا كثيرا مما لا يحد ولا يوصف كثرة، وأسر من نساء الزنج واستنقذ من نساء المسلمين وصبيانهم خلقا كثيرا فأمر بردهم إلى أهاليهم مكرمين.

وقد تحول صاحب الزنج إلى الجانب الشرقي، وعمل الجسر والقناطر الحائلة بينه وبين وصول السمريات إليه، فأمر الموفق بتخريبها وقطع الجسور، واستمر الحصار باقي هذه السنة، وما برح حتى تسلم الجانب الشرقي أيضا واستحوذ على حواصله وأمواله، وفر الخبيث هاربا غير آيب، وخرج منها هاربا وترك حلائله وأولاده وحواصله، فأخذها الموفق وشرح ذلك يطول جدا.

وقد حرره مبسوطا ابن جرير، ولخصه ابن الأثير، واختصره ابن كثير، والله أعلم وهو الموفق إلى الصواب، واليه المرجع إلى المآب.

ولما رأى الخليفة المعتمد أن أخاه أبا أحمد قد استحوذ على أمور الخلافة، وصار هو الحاكم الآمر الناهي، واليه تجلب التقادم وتحمل الأموال والخراج، وهوالذي يولي ويعزل، كتب إلى أحمد بن طولون يشكو إليه ذلك، فكتب إليه ابن طولون أن يتحول إلى عنده إلى مصر ووعده النصر والقيام معه، فاستغنم غيبة أخيه الموفق وركب في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، وقد أرصد له ابن طولون جيشا بالرقة يتلقونه، فلما اجتاز الخليفة بإسحاق بن كنداج نائب الموصل وعامة الجزيرة اعتقله عنده عن المسير إلى ابن طولون، وفند أعيان الأمراء الذين معه، وعاتب الخليفة ولامه على هذا الصنع أشد اللوم، ثم ألزمه العود إلى سامرا ومن معه من الأمراء فرجعوا إليها في غاية الذل والإهانة.

ولما بلغ الموفق ذلك شكر سعي إسحاق، وولاه جميع أعمال أحمد بن طولون إلى أقصى بلاد إفريقية، وكتب إلى أخيه أن يأمن ابن طولون في رد العامة، فلم يمكن المعتمد إلا إجابته إلى ذلك، وهو كاره، وكان ابن طولون قد قطع ذكر الموفق في الخطب وأسقط اسمه عن الطرازات.

وفيها: في ذي القعدة وقعت فتنة بمكة بين أصحاب الموفق وأصحاب ابن طولون، فقتل من أصحاب ابن طولون مائتان وهرب بقيتهم، واستلبهم أصحاب الموفق شيئا كثيرا.

وفيها: قطع الأعراب على الحجيج الطريق، وأخذ منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها.

وفيها توفي:

إبراهيم بن منقذ الكناني.

أحمد بن خلاد مولى المعتصم

وكان من دعاة المعتزلة أخذ الكلام عن جعفر بن معشر المعتزلي - وسليمان بن حفص المعتزلي، صاحب بشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف، وعيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، نائب أرمينية وديار بكر.

وأبو فروة يزيد بن محمد الرهاوي أحد الضعفاء.

ثم دخلت سنة سبعين ومائتين

فيها كان مقتل صاحب الزنج قبحه الله: وذلك أن الموفق لما فرغ من شأن مدينة صاحب الزنج وهي المختارة، واحتاز ما كان بها من الأموال، وقتل من كان بها من الرجال، وسبى من وجد فيها من النساء والأطفال، وهرب صاحب الزنج عن حومة الحرب والجلاد، وسار إلى بعض البلاد طريدا شريدا بشر حال، عاد الموفق إلى مدينته الموفقية مؤيدا منصورا، وقدم عليه لؤلؤا غلام أحمد بن طولون منابذا لسيده سميعا مطيعا للموفق، وكان وروده عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعظمه وأعطاه وخلع عليه وأحسن إليه، وبعثه طليعة بين يديه لقتال صاحب الزنج، وركب الموفق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه فقصدوا الخبيث وقد تحصن ببلدة أخرى، فلم يزل به محاصرا له حتى أخرجه منها ذليلا، واستحوذ على ما كان بها من الأموال والمغانم، ثم بعث السرايا والجيوش وراء حاجب الزنج، فأسروا عامة من كان معه من خاصته وجماعته، منهم سليمان بن جامع، فاستبشر الناس بأسره وكبروا الله وحمدوه فرحا بالنصر والفتح.

وحمل الموفق بمن معه حملة واحدة على أصحاب الخبيث فاستحر فيهم القتل، وما انجلت الحرب حتى جاء البشير بقتل صاحب الزنج في المعركة، وأتي برأسه مع غلام لؤلؤة الطولوني، فلما تحقق الموفق أنه رأسه بعد شهادة الأمراء الذين كانوا معه من أصحابه بذلك، خر ساجدا لله، ثم أنكفأ راجعا إلى الموفقية، ورأس الخبيث يحمل بين يديه، وسليمان معه أسير، فدخل البلد وهو كذلك، وكان يوما مشهودا وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق.

ثم جيء بأنكلاني ولد صاحب الزنج، وأبان بن علي المهلبي، مسعر حربهم مأسورين ومعهما قريب من خمسة آلاف أسير، فتم السرور وهرب قرطاس الذي رمى الموفق بصدره بذلك السهم إلى رامهرمز، فأخذ وبعث به إلى الموفق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفق.

واستتاب من بقي من أصحاب صاحب الزنج، وأمنهم الموفق ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان يوما مشهودا، وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله.

وقد كان ظهوره في يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين.

وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، ولله الحمد والمنة.

وقد قيل في انقضاء دولة الزنج وما كان من النصر عليهم أشعار كثيرة، من ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:

أقول وقد جاء البشير بوقعة ** أعزت من الإسلام ما كان واهيا

جزى الله خير الناس للناس بعد ما ** أبيح حماهم خير ما كان جازيا

تفرد إذ لم ينصر الله ناصر ** بتجديد دين كان أصبح باليا

وتشديد ملك قد وهى بعد عزه ** وأخذ بثأرات تبير الأعاديا

ورد عمارات أزيلت وأخربت ** ليرجع فيء قد تخرم وافيا

وترجع أمصار أبيحت وأحرقت ** مرارا وقد أمست قواء عوافيا

ويشفي صدور المسلمين بوقعة ** تقر بها منا العيون البواكيا

ويتلى كتاب الله في كل مسجد ** ويُلقى دعاء الطالبيين خاسيا

فأعرض عن أحبابه ونعيمه ** وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا

وفي هذه السنة أقبلت الروم في مائة ألف مقاتل، فنزلوا قريبا من طرسوس، فخرج إليهم المسلمون فبيتوهم فقتلوا منهم في ليلة واحدة حتى الصباح نحوا من سبعين ألفا، ولله الحمد.

وقتل المقدم الذي عليهم وهو بطريق البطارقة، وجرح أكثر الباقين، وغنم المسلمون منهم غنيمة عظيمة، من ذلك سبع صلبان من ذهب وفضة، وصليبهم الأعظم وهو من ذهب صامت مكلل بالجواهر، وأربع كراسي من ذهب، ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، وعشرة آلاف علم من ديباج، وغنموا حريرا كثيرا وأموالا جزيلة، وخمسة عشر ألف دابة وسروجا وسلاحا وسيوفا محلاة وغير ذلك، ولله الحمد.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن طولون

أبو العباس أمير الديار المصرية و باني الجامع بها المنسوب إلى طولون، وإنما بناه أحمد ابنه، وقد ملك دمشق والعواصم والثغور مدة طويلة، وقد كان أبوه طولون من الأتراك الذين أهداهم نوح بن أسد الساماني عامل بخارى إلى المأمون في سنة مائتين، ويقال: إلى الرشيد في سنة تسعين ومائة.

ولد أحمد هذا في سنة أربع عشرة ومائتين، ومات طولون أبوه في سنة ثلاثين، وقيل: في سنة أربعين ومائتين.

وحكى ابن خلكان: أنه لم يكن أباه وإنما تبناه والله أعلم. وحكى ابن عساكر: أنه من جارية تركية اسمها هاشم.

ونشأ أحمد هذا في صيانة وعفاف ورياسة ودراسة للقرآن العظيم، مع حسن الصوت به، وكان يعيب على أولاد الترك ما يرتكبونه من المحرمات والمنكرات، وكانت أمه جارية اسمها هاشم.

وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر: أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته، وحسن صوته بالقرآن، وظهور نجابته وصيانته من صغره، وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الإمارة، فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ حاجته التي أمره بها وكر راجعا إليه سريعا، ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم، فتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون فقالت: إن أحمد جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي، وانصرفت إلى قصرها، فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد وكتب معه كتابا وختمه إلى بعض الأمراء، ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعا إلي.

فذهب بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية فاستدعته إليها فقال: إني مشغول بهذا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء.

قالت: هلم فلي إليه حاجة - وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له عنه - فحبسته عندها ليكتب لها كتابا، ثم استوهبت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير، فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده معها على الفاحشة، وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور فذهب بالكتاب إلى ذلك الأمير، فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون، فتعجب الملك من ذلك.

وقال: أين أحمد؟

فطلب له فقال: ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي؟

فأخبره بما جرى من الأمر.

ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتي به إلى طولون أسقط في يديها، وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال، فقامت إليه تعتذر وتستغفر مما وقع منها مع الخادم، واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده.

ثم ولي نيابة الديار المصرية للمعتز فدخلها يوم الأربعاء لسبع بقين من رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين، فأحسن إلى أهلها وأنفق فيهم من بيت المال ومن الصدقات، واستغل الديار المصرية في بعض السنين أربعة آلاف ألف دينار، وبنى بها الجامع، غرم عليه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وفرغ منه في سنة سبع وخمسين، وقيل: في سنة ست وستين ومائتين، وكانت له مائدة في كل يوم يحضرها الخاص والعام، وكان يتصدق من خالص ماله في كل شهر بألف دينار.

وقد قال له وكيله يوما: إنه تأتيني المرأة وعليها الإزار والبدلة ولها الهيئة الحسنة تسألني فأعطيها؟

فقال: من مد يده إليك فأعطه.

وكان من أحفظ الناس للقرآن، ومن أطيبهم به صوتا.

وقد حكى ابن خلكان عنه: أنه قتل صبرا نحوا من ثمانية عشر ألف نفس، فالله أعلم.

وبنى المارستان غرم عليه ستين ألف دينار، وعلى الميدان مائة وخمسين ألفا، وكانت له صدقات كثيرة جدا، وإحسان زائد، ثم ملك دمشق بعد أميرها ماخور في سنة أربع وستين ومائتين، فأحسن إلى أهلها أيضا إحسانا بالغا، واتفق أنه وقع بها حريق عند كنسية مريم فنهض بنفسه إليه ومعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر، والحافظ الدمشقي، وكاتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي، فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والأموال التي أحرقت.

فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره، وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك، فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم، ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها، فأقل ما حصل للفقير دينار، رحمه الله.

ثم خرج إلى أنطاكية فحاصر بها صاحبها سيما حتى قتله وأخذ البلد كما ذكرنا.

توفي بمصر في أوائل ذي القعدة من هذه السنة من علة أصابته من أكل لبن الجواميس كان يحبه، فأصابه بسببه ذرب فكاواه الأطباء، وأمروه أن يحتمي منه فلم يقبل منهم، فكان يأكل منه خفية فمات رحمه الله.

وقد ترك من الأموال والأثاث والدواب شيئا كثيرا جدا، ومن ذلك عشرة آلاف ألف دينار، ومن الفضة شيئا كثيرا، وكان له ثلاثة وثلاثون ولدا، منهم سبعة عشر ذكرا، فقام بالأمر من بعده ولده خمارويه كما سيأتي ما كان من أمره.

وكان له من الغلمان سبعة آلاف مولى، ومن البغال والخيل والجمال نحو سبعين ألف دابة، وقيل أكثر من ذلك.

قال ابن خلكان: وإنما تغلب على البلاد لاشتغال الموفق بن المتوكل بحرب صاحب الزنج، وقد كان الموفق نائب أخيه المعتمد.

وفيها: توفي أحمد بن عبدالكريم بن سهل الكاتب، صاحب كتاب الخراج.

قاله ابن خلكان.

وأحمد بن عبد الله بن البرقي.

وأسيد بن عاصم الجمال.

وبكار بن قتيبة المصري في ذي الحجة من هذه السنة.

الحسن بن زيد العلوي

صاحب طبرستان في رجب منها، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وقام من بعده بالأمر أخوه محمد بن زيد.

وكان الحسن بن زيد هذا كريما جوادا، يعرف الفقه والعربية، قال له مرة شاعر من الشعراء في جملة قصيدة مدحه بها: الله فرد وابن زيد فرد.

فقال له: اسكت سد الله فاك، ألا قلت: الله فرد وابن زيد عبد.

ثم نزل عن سريره وخر لله ساجدا وألصق خده بالتراب، ولم يعط ذلك الشاعر شيئا.

وامتدحه بعضهم فقال في أول قصيدة:

لاتقل بشرى ولكن بشريان ** غرة الداعي ويوم المهرجان

فقال له الحسن: لو ابتدأت بالمصراع الثاني كان أحسن، وأبعد لك أن تبتدئ شعرك بحرف لا.

فقال له الشاعر: ليس في الدنيا أجل من قول لا إله إلا الله. فقال: أصبت وأمر له بجائزة سنية. والحسن بن علي بن عفان العامري.

وداود بن علي الأصبهاني ثم البغدادي الفقيه الظاهري

إمام أهل الظاهر، روى عن أبي ثور وإبراهيم بن خالد واسحاق بن راهويه وسليمان بن حرب و عبد الله بن سلمة القعنبي ومسدد بن سرهد، وغير واحد.

روى عنه ابنه الفقيه أبو بكر بن داود، وزكريا بن يحيى الساجي.

قال الخطيب: كان فقيها زاهدا وفي كتبه حديث كثير دال على غزارة علمه، كانت وفاته ببغداد في هذه السنة، وكان مولده في سنة مائتين.

وذكر أبو إسحاق السيرامي في طبقاته: أن أصله من أصبهان وولد بالكوفة، ونشأ ببغداد وأنه انتهت إليه رياسة العلم بها، وكان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر، وكان من المتعصبين للشافعي، وصنف مناقبه.

وقال غيره: كان حسن الصلاة كثير الخشوع فيها والتواضع.

قال الأزدي: ترك حديثه، ولم يتابع الأزدي على ذلك، ولكن روى عن الإمام أحمد أنه تكلم فيه بسبب كلامه في القرآن، وأن لفظه به مخلوق كما نسب ذلك إلى الإمام البخاري رحمهما الله.

قلت: وقد كان من الفقهاء المشهورين، ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه، فلزمه القول بأشياء قطعية صار إليها بسبب اتباعه الظاهر المجرد من غير تفهم لمعنى النص.

وقد اختلف الفقهاء القياسيون بعده في الاعتداد بخلافه، هل ينعقد الإجماع بدونه مع خلافه أم لا؟

على أقوال ليس هذا موضع بسطها.

وفيها: توفي الربيع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي، وقد ترجمناه في طبقات الشافعية.

والقاضي بكار بن قتيبة الحاكم بالديار المصرية من سنة ست وأربعين ومائتين، إلى أن توفي مسجونا بحبس أحمد بن طولون لكونه لم يخلع الموفق في سنة سبعين، وكان عالما عابدا زاهدا كثير التلاوة والمحاسبة لنفسه، وقد شغر منصب القضاء بعده بمصر ثلاث سنين.

ابن قتيبة الدينوري

وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضيها، النحوي اللغوي صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة نافعة، اشتغل ببغداد وسمع بها الحديث على إسحاق بن راهوية، وطبقته، وأخذ اللغة عن أبي حاتم السجستاني وذويه، وصنف وجمع وألف المؤلفات الكثيرة منها: كتاب المعارف، وأدب الكاتب الذي شرحه أبو محمد بن السيد البطليوسي، وكتاب مشكل القرآن والحديث، وغريب القرآن والحديث، وعيون الأخبار، وإصلاح الغلط، وكتاب الخيل، وكتاب الأنوار، وكتاب المسلسل والجوابات، وكتاب الميسر والقداح، وغير ذلك.

كانت وفاته في هذه السنة، وقيل في التي بعدها.

ومولده في سنة ثلاث عشرة ومائتين، ولم يجاوز الستين.

وروى عنه ولده أحمد جميع مصنفاته.

وقد ولي قضاء مصر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.

وتوفي بها بعد سنة رحمهما الله.

ومحمد بن إسحاق بن جعفر الصفار.

ومحمد بن أسلم بن وارة.

ومصعب بن أحمد أبو أحمد الصوفي كان من أفران الجنيد.

وفيها: توفي ملك الروم ابن الصقلبية لعنه الله.

وفيها: ابتدأ إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لارد من بلاد الأندلس.

ثم دخلت سنة مائتين وإحدى وسبعين

فيها عزل الخليفة عمرو بن الليث عن ولاية خراسان وأمر بلعنه على المنابر، وفوض أمر خراسان إلى محمد بن طاهر، وبعث جيشا إلى عمرو بن الليث فهزمه عمرو.

وفيها كانت وقعة بين أبي العباس المعتضد بن الموفق أبي أحمد وبين خمارويه بن أحمد بن طولون، وذلك أن خماروية لما ملك بعد أبيه بلاد مصر والشام جاءه جيش من جهة الخليفة عليهم إسحاق بن كنداج نائب الجزيرة وابن أبي الساج، فقاتلوه بأرض ويترز فامتنع من تسليم الشام إليهم، فاستنجدوا بأبي العباس بن الموفق، فقدم عليهم فكسر خمارويه بن أحمد وتسلم دمشق واحتازها، ثم سار خلف خمارويه إلى بلاد الرملة فأدركه عند ماء عليه طواحين فاقتتلوا هنالك، وكانت تسمى وقعة الطواحين، فكانت النصرة أولا لأبي العباس على خمارويه، فهزمه حتى هرب خمارويه لا يلوي على شيء فلم يرجع حتى دخل الديار المصرية، فأقبل أبو العباس وأصحابه على نهب معسكرهم فبينما هم كذلك إذ أقبل كمين لجيش خمارويه وهم مشغولون بالنهب، فوضعت المصريون فيهم السيوف فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وانهزم الجيش وهرب أبو العباس المعتضد فلم يرجع حتى وصل دمشق، فلم يفتح له أهلها الباب فانصرف حتى وصل إلى طرسوس، وبقي الجيشان المصري والعراقي يقتتلان وليس لواحد منهما أمير.

ثم كان الظفر للمصريين لأنهم أقاموا أبا العشائر أخا خمارويه عليم أميرا، فغلبوا بسبب ذلك واستقرت أيديهم على دمشق وسائر الشام، وهذه الوقعة من أعجب الوقعات.

وفيها: جرت حروب كثيرة بأرض الأندلس من بلاد المغرب.

وفيها: دخل إلى المدينة النبوية محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقتلا خلقا من أهلها وأخذا أموالا جزيلة، وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي أربع جمع لم يحضر الناس فيه جمعة ولا جماعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وجرت بمكة فتنة أخرى واقتتل الناس على باب المسجد الحرام أيضا.

وحج بالناس هارون بن موسى المتقدم.

وفيها: توفي عباس بن محمد الدوري، تلميذ ابن معين وغيره من أئمة الجرح والتعديل.

وعبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري.

ومحمد بن حماد الظهراني.

ومحمد بن سنان العوفي.

ويوسف بن مسلم.

وبوران زوجة المأمون.

زوجة المأمون.

ويقال: إن اسمها خديجة، وبوران لقب لها، والصحيح الأول.

عقد عليها المأمون بفم الصلح سنة ست ومائتين، ولها عشر سنين، ونثر عليها أبوها يومئذ وعلى الناس بنادق المسك مكتوب في ورقة وسط كل بندقة اسم قرية أو ملك جارية أو غلام أو فرس، فمن وصل إليه من ذلك شيء ملكه، ونثر ذلك على عامة الناس، ونثر الدنانير ونوافج المسك وبيض العنبر.

وأنفق على المأمون وعسكره مدة إقامته تلك الأيام الخمس ألف ألف درهم.

فلما ترحل المأمون عنه أطلق له عشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح.

وبنى بها سنة عشر.

فلما جلس المأمون فرشوا له حصرا من ذهب ونثروا على قدميه ألف حبة جوهر، وهناك تور من ذهب فيه شمعة من عنبر زنة أربعين منا من عنبر.

فقال: هذا سرف، ونظر إلى ذلك الحب على الحصر يضيء فقال: قاتل الله أبا نواس حيث يقول في صفة الخمر:

كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ** حصباء در على أرض من الذهب

ثم أمر بالدر فجمع فجعل في حجر العروس وقال: هذا نحلة مني لك، وسلي حاجتك.

فقالت لها جدتها: سلي سيدك فقد استنطقك.

فقالت: أسأل أمير المؤمنين أن يرضى عن إبراهيم بن المهدي، فرضي عنه.

ثم أراد الاجتماع بها فاذ هي حائض، وكان ذلك في شهر رمضان، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة ولها ثمانون سنة.

ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين ومائتين

في جمادى الأول منها سار نائب قزوين وهو ارلزنكيس في أربعة آلاف مقاتل إلى محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان بعد أخيه الحسين بن زيد، وهو بالري في جيش عظيم من الديلم وغيرهم، فاقتتلوا قتالا شديدا فهزمه ارلزنكيس وغنم ما في معسكره، وقتل من أصحابه ستة آلاف، ودخل الري فأخذها وصادر أهلها في مائة ألف دينار، وفرق عماله في نواحي الري.

وفيها: وقع بين أبي العباس بن الموفق وبين صاحب ثغر طرسوس وهو يازمان الخادم، فثار أهل طرسوس على أبي العباس فأخرجوه عنهم فرجع إلى بغداد.

وفيها: دخل حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى بهم الشاري في جامعها الأعظم.

وفيها: عاثت بنو شيبان في أرض الموصل فسادا.

وفيها: تحركت بقية الزنج في أرض البصرة، ونادوا: يا انكلاي يا منصور.

وانكلاي هو ابن صاحب الزنج، وسليمان بن جامع، وأبان بن علي المهبلي، وجماعة من وجوههم كانوا في جيش الموفق فبعث إليهم فقتلوا، وحملت رؤسهم إليه، وصلبت أبدانهم ببغداد، وسكنت شرورهم.

وفيها: صلح أمر المدينة النبوية وتراجع الناس إليها.

وفيها: جرت حروب كثيرة ببلاد الأندلس، وأخذت الروم من المسلمين بالأندلس بلدين عظيمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: قدم صاعد بن مخلد الكاتب من فارس إلى واسط، فأمر الموفق القواد أن يتلقوه فدخل في أبهة عظيمة، ولكن ظهر منه تيه وعجب شديد، فأمر الموفق عما قريب بالقبض عليه وعلى أهله وأمواله، واستكتب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل.

وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق المتقدم منذ دهر.

وفيها توفي من الأعيان: إبراهيم بن الوليد بن الحسحاس.

وأحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي، راوي السيرة عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بن يسار وغير ذلك.

وأبو عتبة الحجازي.

وسليمان بن سيف.

وسليمان بن وهب الوزير في حبس الموفق.

وشعبة بن بكار يروى عن أبي عاصم النبيل.

ومحمد بن صالح بن عبد الرحمن الأنماطي، ويلقب بمكحلة، وهو من تلاميذ يحيى بن معين.

ومحمد بن عبدالوهاب الفراء.

ومحمد بن عبيد المنادي.

ومحمد بن عوف الحمصي.

وأبو معشر المنجم

واسمه جعفر بن محمد البلخي أستاذ عصره في صناعة التنجيم، وله فيه التصانيف المشهورة، كالمدخل والزيج والألوف وغيرها.

وتكلم على ما يتعلق بالتيسير والأحكام.

قال ابن خلكان: وله إصابات عجيبة، منها أن بعض الملوك تطلب رجلا وأراد قتله، فذهب ذلك الرجل فاختفى وخاف من أبي معشر أن يدل عليه بصنعة التنجيم، فعمد إلى طست فملأه دما ووضع أسفله هاونا وجلس على ذلك الهاون، فاستدعى الملك أبا معشر وأمره أن يظهر هذا الرجل، فضرب رمله وحرره ثم قال: هذا عجيب جدا، هذا الرجل جالس على جبل من ذهب في وسط بحر من دم، وليس هذا في الدنيا.

ثم أعاد الضرب فوجده كذلك، فتعجب الملك من ذلك ونادى في البلد في أمان ذلك الرجل المذكور، فلما مثل بين يدي الملك سأله أين اختفى؟

فأخبره بأمره فتعجب الناس من ذلك.

والظاهر أن الذي نسب إلى جعفر بن محمد الصادق من علم الرجز، والطرف واختلاج الأعضاء إنما هو منسوب إلى جعفر بن أبي معشر هذا، وليس بالصادق وإنما يغلطون. والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين

فيها وقع بين إسحاق بن كنداج نائب الموصل وبين صاحبه ابن أبي الساج نائب قنسرين وغيرها بعدما كانا متفقين، وكاتب ابن أبي الساج خمارويه صاحب مصر، وخطب له ببلاده وقدم خمارويه إلى الشام فاجتمع به ابن أبي الساج، ثم سار إلى إسحاق بن كنداج فتواقعا فانهزم كنداج وهرب إلى قلعة ماردين، فجاء فحاصره بها ثم ظهر أمر ابن أبي الساج واستحوذ على الموصل والجزيرة وغيرها، وخطب بها لخمارويه واستفحل أمره جدا.

وفيها: قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون وصادره بأربعمائة ألف دينار وسجنه، فكان يقول: ليس لي ذنب إلا كثرة مالي، ثم أخرج بعد ذلك من السجن وهو فقير ذليل، فعاد إلى مصر في أيام هارون بن خمارويه، ومعه غلام واحد فدخلها على برذون.

وهذا جزاء من كفر نعمة سيده.

وفيها: عدا أولاد ملك الروم على أبيهم فقتلوه، وملكوا أحد أولاده.

وفيها: كانت وفاة:

محمد بن عبدالرحمن بن الحكم الأموي

صاحب الأندلس عن خمس وستين سنة.

وكانت ولايته أربعا وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا، وكان أبيض مشربا بحمرة ربعة أوقص يخضب بالحناء والكتم، وكان عاقلا لبيبا يدرك الأشياء المشتبهة، وخلف ثلاثا وثلاثين ذكرا، وقام بالأمر بعده ولده المنذر فأحسن إلى الناس وأحبوه.

وفيها كانت وفاة:

خلف بن أحمد بن خالد

الذي كان أمير خراسان في حبس المعتمد، وهذا الرجل هو الذي أخرج البخاري محمد بن إسماعيل من بخارى وطرده عنها، فدعا عليه البخاري فلم يفلح بعدها، ولم يبق في الأمرة إلا أقل من شهر حتى احتيط عليه وعلى أمواله وأركب حمارا، ونودي عليه في بلده ثم سجن من ذلك الحين، فمكث في السجن حتى مات في هذه السنة، وهذا جزاء من تعرض لأهل الحديث والسنة.

وممن توفي فيها أيضا: إسحاق بن يسار، وحنبل بن إسحاق عم الإمام أحمد بن حنبل، وهو أحد الرواة المشهورين عنه، على أنه قد اتهم في بعض ما يرويه ويحكيه.

أبو أمية الطرسوسي

وأبو الفتح بن شخرف أحد مشايخ الصوفية، وذوي الأحوال والكرامات والكلمات النافعات.

وقد وهم ابن الأثير في قوله في كامله: إن أبا داود صاحب السنن توفي في هذه السنة، وإنما توفي سنة خمس وسبعين كما سيأتي.

وفيها توفي:

ابن ماجة القزويني

صاحب السنن وهو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة صاحب كتاب السنن المشهورة، وهي دالة على عمله وعلمه وتبحره واطلاعه واتباعه للسنة في الأصول والفروع، ويشتمل على اثنين وثلاثين كتابا، وألف وخمسمائة باب، وعلى أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة، وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه انتقد منها بضعة عشر حديثا، ربما يقال: إنها موضوعة أو منكرة جدا، ولابن ماجة تفسير حافل وتاريخ كامل من لدن الصحابة إلى عصره، وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني: أبو عبد الله بن محمد بن يزيد بن ماجة، ويعرف يزيد بماجة مولى ربيعة، كان عالما بهذا الشأن صاحب تصانيف، منها: التاريخ والسنن، ارتحل إلى العراقين ومصر والشام، ثم ذكر طرفا من مشايخه، وقد ترجمناهم في كتابنا التكميل ولله الحمد والمنة.

قال: وقد روى عنه الكبار القدماء: ابن سيبويه، ومحمد بن عيسى الصفار، وإسحاق بن محمد، وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان، وجدي أحمد بن إبراهيم، وسليمان بن يزيد.

وقال غيره: كانت وفاة ابن ماجة يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين عن أربع وستين سنة، وصلى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه مع أخيه الآخر أبي عبد الله وابنه عبد الله بن محمد بن يزيد رحمه الله.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائتين

فيها نشبت الحرب بين أبي أحمد الموفق وبين عمرو بن الليث بفارس، فقصده أبو أحمد فهرب منه عمرو من بلد إلى بلد، وتتبعه ولم يقع بينهما قتال ولا مواجهة، وقد تحيز إلى الموفق مقدم جيش عمرو بن الليث، وهو أبو طلحة شركب الجمال، ثم أراد العود فقبض عليه الموفق وأباح ماله لولده أبي العباس المعتضد، وذلك بالقرب من شيراز وفيها غزا يازمان الخادم نائب طرسوس بلاد الروم فأوغل فيها فقتل وغنم وسلم.

وفيها: دخل صديق الفرغاني سامرا فنهب دور التجار بها، وكر راجعا، وقد كان هذا الرجل ممن يحرس الطرقات فترك ذلك وأقبل يقطع الطرقات، وضعف الجند بسامرا عن مقاومته.

وفيها توفي من الأعيان: إبراهيم بن أحمد بن يحيى أبو إسحاق، قال ابن الجوزي في المنتظم: كان حافظا فاضلا، روى عن حرملة وغيره، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن زياد أبو يعقوب المقرى توفي في ربيع الأول منها.

أيوب بن سليمان بن داود الصفدي يروى عن آدم بن إياس، وعن ابن صاعد وابن السماك، وكان ثقة.

توفي في رمضان منها:

الحسن بن مكرم بن حسان بن علي البزار

يروي عن عفان وأبي النضر ويزيد بن هارون وغيرهم، وعنه المحاملي وابن مخلد والبخاري، وكان ثقة.

توفي رمضان منها عن ثلاث وسبعين سنة.

خلف بن محمد بن عيسى أبو الحسين الواسطي

الملقب بكردوس، يروي عن يزيد بن هارون وغيره، وعنه المحاملي وابن مخلد.

قال ابن أبي حاتم: صدوق، وقال الدارقطني: ثقة.

توفي في ذي الحجة منها، وقد نيف عن الثمانين.

عبد الله بن روح بن عبيد الله بن أبي محمد المدائني

المعروف بعيد روس، يروى عن شبابة ويزيد بن هارون، وعنه المحاملي وابن السماك وأبو بكر الشافعي، وكان من الثقات.

توفي في جمادى الآخرة منها.

عبد الله بن أبي سعيد أبو محمد الوراق

أصله من بلخ، وسكن بغداد، وروى الحديث عن شريح بن يونس وعفان وعلي بن الجعد وغيرهم، وعنه ابن أبي الدنيا والبغوي والمحاملي، وكان ثقة صاحب أخبار وآداب وملح، توفي بواسط في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة.

محمد بن إسماعيل بن زياد أبو عبد الله

وقيل: أبو بكر الدولابي، سمع أبا النضر وأبا اليمان وأبا مسهر، وعنه أبو الحسين المنادي ومحمد بن مخلد وابن السماك، وكان ثقة.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائتين

في المحرم منها وقع الخلاف بين ابن أبي الساج وبين خمارويه، فاقتتلا عند ثنية العقاب شرقي دمشق فقهر خمارويه لابن أبي الساج وانهزم، وكانت له حواصل بحمص فبعث خمارويه من سبقه إليها فأخذها، ومنع منه حمص فذهب إلى حلب فمنعه خمارويه فسار إلى الرقة فاتبعه، فذهب إلى الموصل ثم انهزم منها خوفا من خمارويه، ووصل خمارويه إليها واتخذ بها سريرا طويل القوائم، فكان يجلس عليه في الفرات، فعند ذلك طمع فيه ابن كنداج فسار وراءه ليظفر بشيء فلم يقدر، وقد التقيا في بعض الأيام فصبر له ابن أبي الساج صبرا عظيما، فسلم وانصرف إلى الموفق ببغداد فأكرمه وخلع عليه واستصحبه معه إلى الجبل، ورجع إسحاق بن كنداج إلى ديار بكر من الجزيرة.

وفيها: في شوال منها سجن أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس المعتضد في دار الإمارة، وكان سبب ذلك أنه أمره بالمسير إلى بعض الوجوه، فامتنع أن يسير إلا إلى الشام التي ولاه إياها عمه المعتضد، وأمر بسجنه فثارت الأمراء واختطبت بغداد فركب الموفق إلى بغداد وقال للناس: أتظنون أنكم على ولدي أشفق مني؟

فسكن الناس عند ذلك ثم أفرج عنه.

وفيها: سار رافع إلى محمد بن زيد العلوي فأخذ منه مدينة جرجان، فهرب إلى استراباذ فحصره بها سنين فغلا بها السعر حتى بيع الملح بها وزن درهم بدرهمين، فهرب منها ليلا إلى سارية، فأخذ منها رافع بلادا كثيرة بعد ذلك في مدة متطاولة.

وفي المحرم منها: أو في صفر كانت وفاة المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس عن ست وأربعين سنة.

وكانت ولايته سنة وأحد عشر يوما، وكان أسمر طويلا بوجهه أثر جدري، جوادا ممدحا يحب الشعراء ويصلهم بمال كثير، ثم قام بالأمر من بعده أخوه محمد فامتلأت بلاد الأندلس في أيامه فتنا وشرا حتى هلك كما سيأتي.

وفيها توفي من الأعيان: أبو بكر أحمد بن محمد الحجاج المروزي، صاحب الإمام أحمد، كان من الأذكياء، كان أحمد يقدمه على جميع أصحابه ويأنس به ويبعثه في الحاجة ويقول له: قل ما شئت.

وهو الذي أغمض الإمام أحمد وكان فيمن غسله، وقد نقل عن أحمد مسائل كثيرة، وحصلت له رفعة عظيمة مع أحمد حين طلب إلى سامرا ووصل بخمسين ألفا فلم يقبلها.

أحمد بن محمد بن غالب بن خالد بن مرداس أبو عبد الله الباهلي البصري المعروف بغلام خليل، سكن بغداد، روى عن سليمان بن داود الشاذكوني، وشيبان بن فروخ، وقرة بن حبيب وغيرهم، وعنه ابن السماك وابن مخلد وغيرهما، وقد أنكر عليه أبو حاتم وغيره أحاديث رواها منكرة عن شيوخ مجهولين.

قال أبو حاتم: ولم يكن ممن يفتعل الحديث، كان رجلا صالحا.

وكذبه أبو داود وغير واحد.

وروى ابن عدي عنه: أنه اعترف بوضع الحديث ليرقق به قلوب الناس، وكان عابدا زاهدا يقتات الباقلاء الصرف، وحين مات أغلقت أسواق بغداد وحضر الناس جنازته والصلاة عليه، ثم جعل في زورق وشيع إلى البصرة فدفن بها في رجب من هذه السنة.

وأحمد بن ملاعب، روى عن يحيى بن معين وغيره، وكان ثقة دينا عالما فاضلا، انتشر به كثير من الحديث.

وأبو سعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله بن البكري النحوي اللغوي، صاحب التصانيف.

وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ أبو يعقوب النيسابوري، كان من أخصاء أصحاب الإمام أحمد وعنده اختفى أحمد في زمن المحنة.

و عبد الله بن يعقوب بن إسحاق التميمي العطار الموصلي.

قال ابن الأثير: كان كثير الحديث معدلا عند الحكام.

ويحيى بن أبي طالب.

وأبو داود السجستاني

صاحب السنن، اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن يحيى بن عمران أبو داود السجستاني، أحد أئمة الحديث الرحالين إلى الآفاق في طلبه، جمع وصنف وخرج وألف وسمع الكثير عن مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان وغير ذلك، وله السنن المشهورة المتداولة بين العلماء، التي قال فيها أبو حامد الغزالي: يكفي المجتهد معرفتها من الأحاديث النبوية.

حدث عنه جماعة منهم: ابنه أبو بكر عبد الله، وأبو عبدالرحمن النسائي، وأحمد بن سليمان النجار، وهو آخر من روى عنه في الدنيا.

سكن أبو داود البصرة وقدم بغداد غير مرة، وحدث بكتاب السنن بها، ويقال: إنه صنفه بها وعرضه على الإمام أحمد فاستجاده واستسحنه، وقال الخطيب: حدثني أبو بكر محمد بن علي ابن إبراهيم القاري الدينوري من لفظه، قال: سمعت أبا الحسين محمد بن عبد الله بن الحسن القرصي قال: سمعت أبا بكر بن داسه يقول: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله ﷺ خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث، قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات».

الثاني قوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

الثالث قوله: «لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه».

الرابع قوله: «الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات».

وحدثت عن عبد العزيز بن جعفر الحنبلي: أن أبا بكر الخلال قال: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفة تخريج العلوم وبصره بمواضعها أحد من أهل زمانه، رجل ورع مقدم قد سمع منه أحمد بن حنبل حديثا واحدا كان أبو داود يذكره، وكان أبو بكر الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة يرفعان قدره ويذكرانه بما لا يذكران أحدا في زمانه بمثله.

قلت: الحديث الذي كتبه عنه وسمعه منه الإمام أحمد بن حنبل هو ما رواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة عن أبي معشر الدارمي عن أبيه «أن رسول الله ﷺ سئل عن العتيرة فحسنها».

وقال إبراهيم الحربي وغيره: ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.

وقال غيره: كان أحد حفاظ الإسلام للحديث وعلله وسنده.

وكان في أعلا درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث.

وقال غيره: كان ابن مسعود يشبه بالنبي ﷺ في هديه ودله وسمته، وكان علقمة يشبهه، وكان إبراهيم يشبه علقمة، وكان منصور يشبه إبراهيم، وكان سفيان يشبه منصور، وكان وكيع يشبه سفيان، وكان أحمد يشبه وكيعا، وكان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل.

وقال محمد بن بكر بن عبد الرزاق: كان لأبي داود كم واسع وكم ضيق فقيل له: ما هذا يرحمك الله؟

فقال: هذا الواسع للكتب والآخر لا يحتاج إليه.

وقد كان مولد أبي داود في سنة ثنتين ومائتين، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري.

وقد ذكرنا ترجمته في التكميل وذكرنا ثناء الأئمة عليه.

وفيها: توفي محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن العنبس الضميري الشاعر، كان دينا كثير الملح، وكان هجاء، ومن جيد شعره قوله:

كم عليل عاش من بعد يأس ** بعد موت الطبيب والعواد

قد تصاد القطا فتنجو سريعا ** ويحل البلاء بالصياد

ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائتين

في المحرم منها أعيد عمرو بن الليث إلى شرطة بغداد وكتب اسمه على الفرش والمقاعد والستور، ثم أسقط اسمه عن ذلك وعزل وولي عبيد الله بن طاهر.

وفيها: ولى الموفق لابن أبي الساج نيابة أذربيجان.

وفيها: قصد هارون الشاري الخارجي مدينة الموصل فنزل شرقيها فحاصرها، فخرج إليه أهلها فاستأمنوه فأمنهم ورجع عنهم.

وفيها: حج بالناس هارون بن محمد العباسي أمير الحرمين والطائف، ولما رجع حجاج اليمن نزلوا في بعض الأماكن، فجاءهم سيل لم يشعروا به ففرقهم كلهم لم يفلت منهم أحد فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وذكر ابن الجوزي في منتظمه وابن الأثير في كامله: أن في هذه السنة انفرج تل بنهر الصلة في أرض البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة أقبر في مثل الحوض، وفيها سبعة أبدان صحيحة أجسادهم وأكفانهم يفوح منهم ريح المسك، أحدهم شاب وله جمة وعلى شفته بلل كأنه قد شرب ماء الآن، وكأن عينيه مكحلتان، وبه ضربة في خاصرته، وأراد أحدهم أن يأخذ من شعره شيئا فإذا هو قوي الشعر كأنه حي فتركوا على حالهم.

وممن توفي فيها من الأعيان: أحمد بن حازم بن أبي عزرة الحافظ، صاحب المسند المشهور له حديث كثير وروايته عالية.

وفيها توفي:

بقي بن مخلد

أبو عبدالرحمن الأندلسي الحافظ الكبير، له المسند المبوب على الفقه، روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد بن حنبل، وعندي في ذلك نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه وأجمع.

وقد رحل بقي إلى العراق فسمع من الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث بالعراق وغيرها يزيدون على المائتين بأربعة وثلاثين شيخا، وله تصانيف أخر، وكان مع ذلك رجلا صالحا عابدا زاهدا مجاب الدعوة، جاءته امرأة فقالت: إن ابني قد أسرته الإفرنج، وإني لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأستفكه، فإن رأيت أن تشير على أحد يأخذها لأسعى في فكاكه بثمنها، فليس يقر لي ليل ولا نهار، ولا أجد نوما ولا صبرا ولا قرارا ولا راحة.

فقال: نعم انصرفي حتى أنظر في ذلك إن شاء الله.

وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز وجل لولدها بالخلاص من أيدي الفرنج، فذهبت المرأة فما كان إلا قليلا حتى جاءت الشيخ وابنها معها فقالت: اسمع خبره يرحمك الله.

فقال: كيف كان أمرك؟

فقال: إني كنت فيمن نخدم الملك ونحن في القيود، فبينما أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل علي الموكل بي فشتمني وقال: لم أزلت القيد من رجليك؟

فقلت: لا والله ما شعرت به ولكنه سقط ولم أشعر به، فجاؤوا بالحداد فأعادوه وأجادوه وشدوا مسماره وأبدوه، ثم قمت فسقط أيضا فأعادوه وأكدوه فسقط أيضا، فسألوا رهبانهم عن سبب ذلك فقالوا: له والدة؟

فقلت: نعم، فقالوا: إنها قد دعت لك وقد استجيب دعاؤها أطلقوه، فأطلقوني وخفروني حتى وصلت إلى بلاد الإسلام.

فسأله بقي بن مخلد عن الساعة التي سقط فيها القيد من رجله فإذا هي الساعة التي دعا فيها الله له ففرج عنه.

صاعد بن مخلد الكاتب كان كثير الصدقة والصلاة، وقد أثنى عليه أبو الفرج بن الجوزي، وتكلم فيه ابن الأثير في كامله، وذكر أنه كان فيه تيه وحمق، وقد يمكن الجمع بين القولين والصفتين.

ابن قتيبة

وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ثم البغدادي

أحد العلماء والأدباء والحفاظ الأذكياء، وقد تقدمت ترجمته، وكان ثقة نبيلا، وكان أهل العلم يتهمون من لم يكن في منزله شيء من تصانيفه، وكان سبب وفاته: أنه أكل لقمة من هريسة فإذا هي حارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر، ثم أفاق ثم لم يزل يشهد أن لا إله إلا الله إلى أن مات وقت السحر أول ليلة من رجب من هذه السنة، وقيل: إنه توفي في سنة سبعين ومائتين، والصحيح في هذه السنة.

عبدالملك بن محمد بن عبد الله أبو قلابة الرقاشي

أحد الحفاظ، كان يكنى بأبي محمد، ولكن غلب عليه لقب أبو قلابة، سمع يزيد بن هارون وروح بن عبادة وأبا داود الطيالسي وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي والبخاري وأبو بكر الشافعي وغيرهم، وكان صدوقا عابدا يصلي في كل يوم أربعمائة ركعة، وروى من حفظه ستين ألف حديث غلط في بعضها على سبيل العمد، كانت وفاته في شوال من هذه السنة عن ست وثمانين سنة.

ومحمد بن أحمد بن أبي العوام، ومحمد بن إسماعيل الصايغ.

ويزيد بن عبدالصمد.

وأبو الرداد المؤذن، وهو عبد الله بن عبد السلام بن عبيد الرداد المؤذن، صاحب المقياس بمصر، الذي هو مسلم إليه وإلى ذريته إلى يومنا هذا.

قاله ابن خلكان والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائتين

فيها خطب يازمان نائب طرسوس لخمارويه، وذلك أنه هاداه بذهب كثير وتحف هائلة.

وفيها: قدم جماعة من أصحاب خمارويه إلى بغداد.

وفيها: ولي المطالم ببغداد يوسف بن يعقوب، ونودي في الناس: من كانت له مظلمة ولو عند الأمير الناصر لدين الله الموفق، أو عند أحد من الناس فليحضر.

وسار في الناس سيرة حسنة، وأظهر صرامة لم ير مثلها.

وحج بالناس الأمير المتقدم ذكره قبل ذلك.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن صرا إسحاق بن أبي العينين

وأبو إسحاق الكوفي قاضي بغداد بعد ابن سماعة، سمع معلى بن عبيد وغيره، وحدث عنه ابن أبي الدنيا وغيره، توفي عن ثلاث وتسعين سنة، وكان ثقة فاضلا دينا صالحا.

أحمد بن عيسى

أبو سعيد الخراز أحد مشاهير الصوفية بالعبادة والمجاهدة والورع والمراقبة، وله تصانيف في ذلك وله كرامات وأحوال وصبر على الشدائد، وروى عن إبراهيم بن بشار صاحب إبراهيم بن أدهم وغيره، وعنه على بن محمد المصري وجماعة.

ومن جيد كلامه: إذا بكت أعين الخائفين فقد كاتبوا الله بدموعهم.

وقال: العافية تستر البر والفاجر، فإذا نزل البلاء تبين عنده الرجال.

وقال: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.

وقال: الاشتغال بوقت ماض تضييع وقت حاضر.

وقال: ذنوب المقربين حسنات الأبرار.

وقال: الرضا قبل القضاء تفويض، والرضا مع القضاء تسليم.

وقد روى البيهقي بسنده إليه: أنه سئل عن قول النبي ﷺ: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها».

فقال: يا عجبا لمن لم ير محسنا غير الله كيف لا يميل إليه بكليته؟

قلت: وهذا الحديث ليس بصحيح، ولكن كلامه عليه من أحسن ما يكون.

وقال ابنه سعيد: طلبت من أبي دانق فضة فقال: يا بني اصبر فلو أحب أبوك أن يركب الملوك إلى بابه ما تأبوا عليه.

وروى ابن عساكر عنه قال: أصابني مرة جوع شديد فهممت أن أسأل الله طعاما فقلت: هذا ينافي التوكل فهممت أن أسأله صبرا فهتف بي هاتف يقول:

ويزعم أنه منا قريب ** وأنا لا نضيع من أتانا

ويسألنا القرى جهدا وصبرا ** كأنا لا نراه ولا يرانا

قال: فقمت ومشيت فراسخ بلا زاد.

وقال: المحب يتعلل إلى محبوبه بكل شيء، ولا يتسلى عنه بشيء يتبع آثاره ولا يدع استخباره، ثم أنشد:

أسائلكم عنها فهل من مخبر ** فمالي بنعمى بعد مكة لي علم

فلو كنت أدري أين خيم أهلها ** وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا

إذا لسلكنا مسلك الريح خلفها ** ولو أصبحت نعمى ومن دونها النجم

وكانت وفاته في هذه السنة، وقيل: في سنة سبع وأربعين، وقيل: في سنة ست وثمانين والأول أصح.

وفيها: توفي عيسى بن عبد الله بن سنان بن ذكويه بن موسى الطيالسي الحافظ، تلقب رعاب، سمع عفان أبا نعيم، وعنه أبو بكر الشافعي وغيره، ووثقه الدارقطني.

كانت وفاته في شوال منها عن أربع وثمانين سنة.

وفيها توفي:

أبو حاتم الرازي

محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو حاتم الحنظلي الرازي، أحد أئمة الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل، وهو قرين أبي زرعة رحمهما الله، سمع الكثير وطاف الأقطار والأمصار، وروى عن خلق من الكبار، وعنه خلق منهم الربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى وهما أكبر منه.

وقدم بغداد وحدث بها، وروى عنه من أهلها إبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا والمحاملي وغيرهم.

قال لابنه عبد الرحمن: يا بني مشيت على قدمي في طلب الحديث أكثر من ألف فرسخ، وذكر أنه لم يكن له شيء ينفق عليه في بعض الأحيان، وأنه مكث ثلاثا لا يأكل شيئا حتى استقرض من بعض أصحابه نصف دينار، وقد أثنى عليه غير واحد من العلماء والفقهاء، وكان يتحدى من حضر عنده من الحفاظ وغيرهم، ويقول: من أغرب علي بحديث واحد صحيح فله علي درهم أتصدق به.

قال: ومرادي أسمع ما ليس عندي، فلم يأت أحد بشيء من ذلك، وكان في جملة من حضر ذلك أبو زرعة الرازي.

كانت وفاة ابن أبي حاتم في شعبان من هذه السنة.

محمد بن الحسن بن موسى بن الحسن أبو جعفر الكوفي الخراز المعروف بالجندي

له مسند كبير، روى عن عبيد الله بن موسى والقعنبي وأبي نعيم وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي وابن السماك، كان ثقة صدوقا.

محمد بن سعدان أبو جعفر الرازي

سمع من أكثر من خمسمائة شيخ، ولكن لم يحدث إلا باليسير، توفي في شعبان منها.

قال ابن الجوزي: وهم محمد بن سعدان البزار عن القعنبي وهو غير مشهور.

ومحمد بن سعدان النحوي مشهور.

توفي في سنة إحدى ومائتين.

قال ابن الأثير في كامله: وفيها توفي يعقوب بن سفيان بن حران الإمام الفسوي، وكان يتشيع.

ويعقوب بن يوسف بن معقل الأموي مولاهم، والد أبي العباس أحمد بن الأصم.

وفيها: ماتت عريب المغنية المأمونية، قيل: إنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي.

فأما:

يعقوب بن سفيان بن حران

فهو أبو يوسف بن أبي معاوية الفارسي الفسوي، سمع الحديث الكثير، وروى عن أكثر من ألف شيخ من الثقات، منهم هشام بن عمار، ودحيم، وأبو المجاهر، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان، وسعيد بن منصور، وأبو عاصم، ومكي بن إبراهيم، وسليمان بن حرب، ومحمد بن كثير وعبيد الله بن موسى والقعنبي.

روى عنه النسائي في سننه وأبو بكر بن أبي داود والحسن بن سفيان وابن خراش وابن خزيمة وأبو عوانة الإسفراييني وغيرهم، وصنف كتاب التاريخ والمعرفة وغيره من الكتب المفيدة، وقد رحل في طلب الحديث إلى البلدان النائية، وتغرب عن وطنه نحو ثلاثين سنة.

وروى ابن عساكر عنه قال: كنت أكتب في الليل على ضوء السراج في زمن الرحلة، فبينا أنا ذات ليلة إذ وقع شيء على بصري فلم أبصر معه السراج، فجعلت أبكي على ما فاتني من ذهاب بصري، وما يفوتني بسبب ذلك من كتابة الحديث، وما أنا فيه من الغربة، ثم غلبتني عيني فنمت فرأيت رسول الله ﷺ فقال: ما لك؟

فشكوت إليه ما أنا فيه من الغربة، وما فاتني من كتابة السنة.

فقال: «أدن مني، فدنوت منه فجعل يده على عيني وجعل كأنه يقرأ شيئا من القرآن».

ثم استيقظت فأبصرت وجلست أسبح الله.

وقد أثنى عليه أبو زرعة الدمشقي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، وقال: هو إمام أهل الحديث بفارس، وقدم نيسابور وسمع منه مشايخنا، وقدنسبه بعضهم إلى التشيع.

وذكر ابن عساكر: أن يعقوب بن الليث صاحب فارس بلغه عنه أنه يتكلم في عثمان بن عفان فأمر بإحضاره فقال له وزيره: أيها الأمير إنه لا يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي، إنما يتكلم في عثمان بن عفان الصحابي، فقال: دعوه ما لي وللصحابي، إني إنما حسبته يتكلم في شيخنا عثمان بن عفان السجزي.

قلت: وما أظن هذا صحيحا عن يعقوب بن سفيان فإنه إمام محدث كبير القدر، وقد كانت وفاته قبل أبي حاتم بشهر في رجب منها بالبصرة رحمه الله.

وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل بك ربك؟

فقال: غفر لي وأمرني أن أملي الحديث في السماء كما كنت أمليه في الأرض، فجلست للإملاء في السماء الرابعة، وجلس حولي جماعة من الملائكة، منهم جبريل يكتبون ما أمليه من الحديث بأقلام الذهب.

عريب المأمونية

فقد ترجمها ابن عساكر في تاريخه، وحكى عن بعضهم أنها ابنة جعفر البرمكي، سرقت وهي صغيرة عند ذهاب دولة البرامكة، وبيعت فاشتراها المأمون بن الرشيد، ثم روي عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه قال: ما رأيت قط امرأة أحسن وجها منها، ولا أكثر أدبا ولا أحسن غناء وضربا وشعرا ولعبا بالشطرنج والنرد منها، وما تشاء أن تجد خصلة ظريفة بارعة في امرأة إلا وجدتها فيها.

وقد كانت شاعرة مطيقة بليغة فصيحة، وكان المأمون يتعشقها ثم أحبها بعده المعتصم، وكانت هي تعشق رجلا يقال له: محمد بن حماد، وربما أدخلته إليها في دار الخلافة قبحها الله على ما ذكره ابن عساكر عنها، ثم عشقت صالحا المنذري وتزوجته سرا، وكانت تقول فيه الشعر، وربما ذكرته في شعرها بين يدي المتوكل وهو لا يشعر فيمن هو، فتضحك جواريه من ذلك فيقول: يا سحاقات هذا خير من عملكن.

وقد أورد ابن عساكر شيئا كثيرا من شعرها، فمن ذلك قولها لما دخلت على المتوكل تعوده من حمى أصابته فقالت:

أتوني فقالوا بالخليفة علة ** فقلت ونار الشوق توقد في صدري

ألا ليت بي حمى الخليفة جعفر ** فكانت بي الحمى وكان له أجري

كفى بي حزن أن قيل حم فلم أمت ** من الحزن إني بعد هذا لذو صبري

جعلت فدا للخليفة جعفر ** وذاك قليل للخليفة من شكري

ولما عوفي دخلت عليه فغنته من قيلها:

شكرا لأنعم من عافاك من سقم ** دمت المعافا من الآلام والسقم

عادت ببرئك للأيام بهجتها ** واهتز نبت رياض الجود والكرم

ما قام للدين بعد اليوم من ملك ** أعف منك ولا أرعى إلى الذمم

فعمر الله فينا جعفرا ونفى ** بنور وجنته عنا دجى الظلم

ولها في عافيته أيضا:

حمدنا الذي عافى الخليفة جعفرا ** على رغم أشياخ الضلالة والكفر

وما كان إلا مثل بدر أصابه ** كسوف قليل ثم أجلي عن البدر

سلامته للدين عز وقوة ** وعلته للدين قاصمة الظهر

مرضت فأمرضت البرية كلها ** وأظلمت الأمصار من شدة الذعر

فلما استبان الناس منك إفاقة ** أفاقوا وكانوا كالنيان على الجمر

سلامة دنيانا سلامة جعفر ** فدام معافا سالما آخر الدهر

إمام أعم الناس بالفضل والندا ** قريبا من التقوى بعيدا من الوزر

ولها أشعار كثيرة رائعة، ومولدها في سنة إحدى وثمانين ومائة، وماتت في سنة سبع وسبعين ومائتين بسر من رأى، ولها ست وتسعون سنة.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين

قال ابن الجوزي: في المحرم منها طلع نجم ذو جمة ثم صارت الجمة ذؤابة.

قال: وفي هذه السنة غار ماء النيل وهذا شيء لم يعهد مثله ولا بلغنا في الأخبار السالفة.

فغلت الأسعار بسبب ذلك جدا.

وفيها: خلع على عبد الله بن سليمان بالوزارة.

وفي المحرم منها: قدم الموفق من الغزو فتلقاه الناس إلى النهروان فدخل بغداد وهو مريض بالنقرس فاستمر في داره في أوائل صفر، ومات بعد أيام.

قال: وفيها تحركت القرامطة وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات.

ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لأنهم أقل الناس عقولا، ويقال لهم: الإسماعيلية، لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق.

ويقال لهم: القرامطة، قيل: نسبة إلى قرمط بن الأشعث البقار، وقيل: إن رئيسهم كان في أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة في كل يوم وليلة ليشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة.

ثم اتخذ نقباء اثنى عشر، وأسس لأتباعه دعوة ومسلكا يسلكونه ودعا إلى إمام أهل البيت، ويقال لهم: الباطنية لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، والخرمية والبابكية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في أيام المعتصم وقتل كما تقدم.

ويقال لهم: المحمرة نسبة إلى صبغ الحمرة شعارا مضاهاة لبني العباس ومخالفة لهم، لأن بني العباس يلبسون السواد.

ويقال لهم: التعليمية نسبة إلى التعلم من الإمام المعصوم، وترك الرأي ومقتضى العقل.

ويقال لهم: السبعية نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السائرة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون لعنهم الله.

وهي القمر في الأولى، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة.

قال ابن الجوزي: وقد بقي من البابكية جماعة يقال: إنهم يجتمعون في كل سنة ليلة هم ونساؤهم ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء فمن وقعت يده في امرأة حلت له.

ويقولون: هذا اصطياد مباح لعنهم الله.

وقد ذكر ابن الجوزي تفصيل قولهم وبسطه وقد سبقه إلى ذلك أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه (هتك الأستار وكشف الأسرار) في الرد على الباطنية، ورد على كتابهم الذي جمعه بعض قضاتهم بديار مصر في أيام الفاطميين الذي سماه (البلاغ الأعظم والناموس الأكبر) وجعله ست عشرة درجة أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولا إن كان من أهل السنة إلى القول بتفضيل على علي عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر، ثم يترقى به إلى سبهما لأنهما ظلما عليا وأهل البيت، ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك، ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو.

وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبها وضلالات لا تروج إلا على كل غبي جاهل شقي.

كما قال تعالى: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ** إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ** يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 7-9] أي: يضل به من هو ضال.

وقال: { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ** مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ** إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [الصافات: 161-163] .

وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ** وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [الأنعام: 112] .

إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن أن الباطل والجهل والضلال والمعاصي لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال الشعراء:

إن هو مستحوذ على أحد ** إلا على أضعف المجانين

ثم بعد هذا كله لهم مقامات في الكفر والزندقة والسخافة مما ينبغي لضعيف العقل والدين أن ينزه نفسه عنه إذا تصوره، وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات، وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء:

وكنت امرأً من جند إبليس برهة ** من الدهر حتى صار إبليس من جندي

والمقصود أن هذه الطائفة تحركت في هذه السنة، ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره حتى آل بهم الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا دم الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه، وذهبوا به إلى بلادهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فمكث غائبا عن موضعه من البيت ثنتين وعشرين سنة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الأمر.

وقد اتفق في هذه السنة شيئان أحدهما ظهور هؤلاء، والثاني موت حسام الإسلام وناصر دين الله أبو أحمد الموفق رحمه الله، لكن الله أبقى للمسلمين بعده ولده أبو العباس أحمد الملقب بالمعتضد، وكان شهما شجاعا.

ترجمة أبي أحمد الموفق

هو الأمير الناصر لدين الله، ويقال له: الموفق، ويقال له: طلحة بن المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، كان مولده في يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسعة وعشرين ومائتين، وكان أخوه المعتمد حين صارت الخلافة إليه قد عهد إليه بالولاية بعد أخيه جعفر، ولقبه الموفق بالله، ثم لما قتل صاحب الزنج وكسر جيشه تلقب بناصر دين الله وصار إليه العقد والحل والولاية والعزل، وإليه يجبي الخراج، وكان يخطب له على المنابر فيقال: اللهم أصلح الأمير الناصر لدين الله أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين.

ثم اتفق موته قبل أخيه المعتمد بستة أشهر، وكان غزير العقل حسن التدبير يجلس للمظالم وعنده القضاة فينصف المظلوم من الظالم وكان عالما بالأدب والنسب والفقه وسياسة الملك وغير ذلك، وله محاسن ومآثر كثيرة جدا.

وكان سبب موته أنه أصابه مرض النقرس في السفر فقدم إلى بغداد وهو عليل منه فاستقر في داره في أوائل صفر وقد تزايد به المرض وتورمت رجله حتى عظمت جدا، وكان يوضع له الأشياء المبردة كالثلج ونحوه وكان يحمل على سريره يحمله أربعون رجلا بالنوبة، كل نوبة عشرون.

فقال ذات يوم: ما أظنكم إلا قد مللتم مني فياليتني كواحد منكم آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، وأرقد كما ترقدون في عافية.

وقال أيضا: في ديواني مائة ألف مرتزق ليس فيهم أحد أسوأ حالا مني.

ثم كانت وفاته في القصر الحسيني ليلةالخميس لثمان بقين من صفر.

قال ابن الجوزي: وله سبع وأربعون سنة تنقص شهرا وأياما.

ولما توفي اجتمع الأمراء على أخذ البيعة من بعده إلى ولده أبي العباس أحمد، فبايع له المعتمد بولاية العهد من بعد أبيه، وخطب له على المنابر.

وجعل إليه ما كان لأبيه من الولاية والعزل والقطع والوصل، ولقب المعتضد بالله.

وفيها: توفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي.

قال ابن الأثير: كان كثير الحديث والصلاح.

واسحاق بن كنداج نائب الجزيرة، كان من ذوي الرأي، وقام بما كان إليه ولده محمد.

ويازمان نائب طرسوس جاءه حجر منجنيق من بلدة كان محاصرها ببلاد الروم فمات منه في رجب من هذه السنة ودفن بطرسوس، فولى نيابة الثغر بعده أحمد الجعيفي بأمر خمارويه بن أحمد بن طولون، ثم عزله عن قريب بابن عمه موسى بن طولون.

وفيها توفي

عبدة بن عبد الرحيم قبحه الله

ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيرا في بلاد الروم فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصروا بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها فراسلها ما السبيل إلى الوصول إليك؟

فقالت: أن تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غما شديدا، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ما فعل علمك؟ما فعل صيامك؟ما فعل جهادك؟ما فعلت صلاتك؟

فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ** ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر:2-3] وقد صار لي فيهم مال وولد.

ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين

في أواخر المحرم منها خلع جعفر المفوض من العهد واستقل بولاية العهد من بعد المعتمد أبو العباس المعتضد بن الموفق، وخطب له بذلك على رؤوس الأشهاد، وفي ذلك يقول يحيى بن علي يهني المعتضد:

ليهنيك عقد أنت فيه المقدم ** حباك به رب بفضلك أعلم

فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا ** فأنت غدا فينا الإمام المعظم

و زال من والاك فيه مبلغا ** مناه ومن عاداك يخزى ويندم

وكان عمود الدين فيه تعوج ** فعاد بهذا العهد وهو مقوم

وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكا ** يضيء لنا منه الذي كان مظلم

فدونك شدد عقد ما قد حويته ** فإنك دون الناس فيه المحكم

وفيها: نودي ببغداد أن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات، وأن لا تباع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس، وذلك بهمة أبي العباس المعتضد سلطان الإسلام.

وفيها: وقعت حروب بين هارون الشاري وبين بني شيبان في أرض الموصل وقد بسط ذلك ابن الأثير في كامله.

وفي رجب منها كانت وفاة المعتمد على الله ليلة الاثنين لتسع عشرة ليلة خلت منه.

ترجمة المعتمد على الله

هو أمير المؤمنين المعتمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد مكث في الخلافة ثلاثا وعشرين سنة وستة أيام، وكان عمره يوم مات خمسين سنة وأشهرا، وكان أسن من أخيه الموفق بستة أشهر، وتأخر بعده أقل من سنة، ولم يكن إليه مع أخيه شيء من الأمر حتى أن المعتمد طلب في بعض الأيام ثلاثمائة دينار فلم يصل إليها فقال الشاعر في ذلك:

ومن العجائب في الخلافة أن ** ترى ما قل ممتنعا عليه

وتؤخذ الدنا باسمه جميعا ** وما ذاك شيء في يديه

إليه تحمل الأموال طرا ** ويمنع بعض ما يجبى إليه

كان المعتمد أول خليفة انتقل من سامرا إلى بغداد ثم لم يعد إليها أحد من الخلفاء، بل جعلوا إقامتهم ببغداد، وكان سبب هلاكه في ما ذكره ابن الأثير أنه شرب في تلك الليلة شرابا كثيرا وتعشى عشاء كثيرا، وكان وقت وفاته في القصر الحسيني من بغداد، وحين مات أحضر المعتضد القضاة والأعيان وأشهدهم أنه مات حتف أنفه، ثم غسل وكفن وصلي عليه ثم حمل فدفن بسامرا.

وفي صبيحة العزاء بويع للمعتضد.

وفيها توفي:

البلاذري المؤرخ

واسمه أحمد بن يحيى بن جابر بن داود أبو الحسن ويقال: أبو جعفر، ويقال: أبو بكرالبغدادي البلاذري صاحب التاريخ المنسوب إليه، سمع هشام بن عمار وأبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا الربيع الزهراني وجماعة، وعنه يحيى بن النديم وأحمد بن عمار وأبو يوسف يعقوب بن نعيم بن قرقارة الأزدي.

قال ابن عساكر: كان أديبا ظهرت له كتب جياد، ومدح المأمون بمدائح، وجالس المتوكل، وتوفي أيام المعتمد، وحصل له هوس ووسواس في آخر عمره، وروى عنه ابن عساكر قال: قال لي محمود الوراق: قل من الشعر ما يبقى لك ذكره، ويزول عنك إثمه، فقلت عند ذلك:

استعدي يا نفس للموت واسعي ** لنجاة فالحازم المستعد

إنما أنت مستعيرة وسوف ** تردين والعواري ترد

أنت تسهين والحوادث لا ** تسهو وتلهين والمنايا تعد

أي ملك في الأرض وأي حظ **لامرئ حظه من الأرض لحد

لا ترجى البقاء في معدن الموت ** ودار حتوفها لك ورد

كيف يهوى امرؤ لذاذة أيام ** أنفاسها عليه فيها تعد

خلافة المعتضد

أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل، كان من خيار خلفاء بني العباس ورجالهم.

بويع له بالخلافة صبيحة موت المعتمد لعشر بقين من رجب منها، وقد كان أمر الخلافة دائرا فأحياه الله على يديه بعدله وشهامته وجرأته، واستوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب وولي مولاه بدرا الشرطة في بغداد، وجاءته هدايا عمرو بن الليث وسأل منه أن يوليه إمرة خراسان فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه بالخلع واللواء فنصبه عمرو في داره ثلاثة أيام فرحا وسرورا بذلك، وعزل رافع بن هرثمة عن إمرة خراسان ودخلها عمرو بن الليث فلم يزل يتبع رافعا من بلد إلى بلد حتى قتله في سنة ثلاث وثمانين كما سيأتي، وبعث برأسه إلى المعتضد وصفت إمرة خراسان لعمرو.

وفيها: قدم الحسين بن عبد الله المعروف بالجصاص من الديار المصرية بهدايا عظيمة من خمارويه إلى المعتضد، فتزوج المعتضد بابنة خمارويه فجهزها أبوها بجهاز لم يسمع بمثله، حتى قيل: إنه كان في جهازها مائة هاون من ذهب، فحمل ذلك كله من الديار المصرية إلى دار الخلافة ببغداد صحبة العروس، وكان وقتا مشهودا.

وفيها: تملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين، وكانت قبل ذلك لإسحاق بن كنداج.

وفيها: حج بالناس هارون بن محمد العباسي، وهي آخر حجة حجها بالناس، وقد كان يحج بالناس من سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة.

وفيها توفي من الأعيان: أحمد أمير المؤمنين المعتمد.

وأبو بكر بن أبي خيثمة، و هو: أحمد بن زهير بن أبي خيثمة صاحب التاريخ وغيره.

وكان ثقة سمع أبا نعيم، وعفان، وأخذ علم الحديث عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعلم النسب عن مصعب الزبيري، وأيام الناس عن أبي الحسن علي بن محمد المدائني، وعلم الأدب عن محمد بن سلام الجمحي.

حافظا ضابطا مشهورا، وفي تاريخه فوائد كثيرة وفرائد غزيرة.

روى عنه البغوي وابن صاعد وابن أبي داود بن المنادي.

توفي في جمادى الأولى منها عن أربع وتسعين سنة.

وخاقان أبو عبد الله الصوفي، كانت له أحوال وكرامات.

الترمذي

واسمه محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، وقيل: محمد بن عيسى بن يزيد بن سورة بن السكن، ويقال: محمد بن عيسى بن سورة بن شداد بن عيسى السلمي الترمذي الضرير، يقال: إنه ولد أكمه، وهو أحد أئمة هذا الشأن في زمانه، وله المصنفات المشهورة، منها الجامع، والشمائل، وأسماء الصحابة وغير ذلك.

وكتاب الجامع أحد الكتب الستة التي يرجع إليها العلماء في

سائر الآفاق، وجهالة ابن حزم لأبي عيسى الترمذي لا تضره حيث قال في محلاه: ومن محمد بن عيسى بن سورة؟

فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ.

وكيف يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل

وقد ذكرنا مشايخ الترمذي في التكميل.

وروى عنه غير واحد من العلماء منهم محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح، والهيثم بن كليب الشاشي صاحب المسند ومحمد بن محبوب المحبوبي، راوي الجامع عنه.

محمد بن المنذر بن شكر

قال أبو يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني في كتابه (علوم الحديث): محمد بن عيسى بن سورة بن شداد الحافظ متفق عليه، له كتاب في السنن وكتاب في الجرح والتعديل، روى عنه أبو محبوب والأجلاء، وهو مشهور بالأمانة والإمامة والعلم.

مات بعد الثمانين ومائتين.

كذا قال في تاريخ وفاته.

وقد قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان الغنجار في تاريخ بخارى: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي الحافظ، دخل بخارى وحدث بها، وهو صاحب الجامع والتاريخ، توفي بالترمذ ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.

ذكره الحافظ أبو حاتم بن حيان في الثقات، فقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر.

قال الترمذي: كتب عني البخاري حديث عطية عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال لعلي: «لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك».

وروى ابن يقظة في تقييده عن الترمذي أنه قال: صنفت هذا المسند الصحيح وعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي ينطق.

وفي رواية يتكلم.

قالوا: وجملة الجامع مائة وإحدى وخمسون كتابا، وكتاب العلل صنفه بسمرقند، وكان فراغه منه في يوم عيد الأضحى سنة سبعين ومائتين.

قال ابن عطية: سمعت محمد بن طاهر المقدسي سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري يقول: كتاب الترمذي عندي أنور من كتاب البخاري ومسلم.

قلت: ولم؟

قال: لأنه لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من هو من أهل المعرفة التامة بهذا الفن، وكتاب الترمذي قد شرح أحاديثه وبينها، فيصل إليها كل أحد من الناس من الفقهاء والمحدثين وغيرهم.

قلت: والذي يظهر من حال الترمذي أنه إنما طرأ عليه العمى بعد أن رحل وسمع وكتب وذاكر وناظر وصنف، ثم اتفق موته في بلده في رجب منها على الصحيح المشهور والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمانين ومائتين من الهجرة

في المحرم منها قتل المعتضد رجلا من أمراء الزنج كان قد لجأ إليه بالأمان ويعرف بسلمة، ذكر له أنه يدعو إلى رجل لا يعرف من هو، وقد أفسد جماعة فاستدعي به فقرره فلم يقر، وقال: لو كان تحت قدمي ما أقررت به، فأمر به فشد على عمود، ثم لوحه على النار حتى تساقط جلده، ثم أمر بضرب عنقه وصلبه لسبع خلون من المحرم.

وفي أول صفر ركب المعتضد من بغداد قاصدا بني شيبان من أرض الموصل فأوقع بهم بأسا شديدا عند جبل يقال له: نوباذ.

وكان مع المعتضد حاد جيد الحداء، فقال في تلك الليالي يحدو للمعتضد:

فأجهشت للنوباذ حين رأيته ** وهللت للرحمن حين رآني

وقلت له: أين الذين عهدتهم ** بظلك في أمن ولين زمامي

فقال: مضوا واستخلفوني مكانهم ** ومن ذا الذي يبقى على الحدثان

وفيها: أمر المعتضد بتسهيل عقبة حلوان فغرم عليها عشرين ألف دينار، وكان الناس يلقون منها شدة عظيمة.

وفيها: أمر بتوسيع جامع المنصور بإضافة دار المنصور إليه، وغرم عليه عشرين ألف دينار، وكانت الدار قبلته فبناها مسجدا على حدة، وفتح بينهما سبعة عشر بابا، وحول المنبر والمحراب إلى المسجد ليكون في قبلة الجامع على عادته.

قال الخطيب: وزاد بدر مولى المعتضد السقفان من قصر المنصور المعروفة بالبدرية.

بناء دار الخلافة من بغداد في هذا الوقت

أول من بناها المعتضد في هذه السنة.

وهو أول من سكنها من الخلفاء إلى آخر دولتهم، وكانت أولا دارا للحسن بن سهل تعرف بالقصر الحسني، ثم صارت بعد ذلك لابنته بوران زوجة المأمون، فعمرتها حتى استنزلها المعتضد عنها فأجابته إلى ذلك، ثم أصلحت ما وهى منها، ورممت ما كان قد تشعث فيها، وفرشتها بأنواع الفرش في كل موضع منها ما يليق به من المفارش، وأسكنته ما يليق به من الجواري والخدم، وأعدت بها المآكل الشهية وما يحسن ادخاره في ذلك الزمان، ثم أرسلت مفاتيحها إلى المعتضد فلما دخلها هاله ما رأى من الخيرات، ثم وسعها وزاد فيها وجعل لها سورا حولها، وكانت قدر مدينة شيراز، وبنى الميدان ثم بنى فيها قصرا مشرفا على دجلة، ثم بنى فيها المكتفي التاج.

فلما كان أيام المقتدر زاد فيها زيادات أخر كبارا كثيرة جدا، ثم بعد هذا كله خربت حتى كأن لم يكن موضعها عمارة، وتأخرت آثارها إلى أيام التتار الذين خربوها وخربوا بغداد وسبوا من كان بها من الحرائر كما سيأتي بيانه في موضعه من سنة ست وخمسين وستمائة.

قال الخطيب: والذي يشبه أن بوران وهبت دارها للمعتمد لا للمعتضد، فإنها لم تعش إلى أيامه، وقد تقدمت وفاتها.

وفيها: زلزلت أردبيل ست مرات فتهدمت دورها، ولم يبق منها مائة دار، ومات تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: غارت المياه ببلاد الري وطبرستان حتى بيع الماء كل ثلاثة أرطال بدرهم، وغلت الأسعار هنالك جدا.

وفيها: غزا إسماعيل بن أحمد الساماني ببلاد الترك ففتح مدينة ملكهم، وأسر امرأته الخانون وأباه ونحوا من عشرة آلاف أسير، وغنم من الدواب والأمتعة والأموال شيئا كثيرا، أصاب الفارس ألف درهم.

وفيها: حج بالناس أبو بكر محمد بن هارون بن إسحاق العباسي.

وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن سيار بن أيوب الفقيه الشافعي المشهور بالعبادة والزهادة.

أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى أبو جعفر البغدادي

كان من أكابر الحنفية، تفقه على محمد بن سماعة وهو أستاذ أبي جعفر الطحاوي، وكان ضريرا، سمع الحديث من علي بن الجعد وغيره، وقدم مصر فحدث بها من حفظه، وتوفي بها في المحرم من هذه السنة، وقد وثقه ابن يونس في تاريخ مصر.

أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر

القاضي بواسط صاحب المسند، روى عن مسلم بن إبراهيم وأبي سلمة التبوذكي، وأبي نعيم وأبي الوليد وخلق، وكان ثقة ثبتا تفقه بأبي سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن، وقد حكم بالجانب الشرقي من بغداد في أيام المعتز، فلما كان أيام الموفق طلب منه ومن إسماعيل القاضي أن يعطياه ما بأيديهما من أموال اليتامى الموقوفة فبادر إلى ذلك إسماعيل القاضي واستنظره إلى ذلك أبو العباس البرقي هذا، ثم بادر إلى كل من أنس منه رشدا من اليتامى فدفع إليه ماله، فلما طولب به قال: ليس عندي منه شيء، دفعته إلى أهله، فعزل عن القضاء ولزم بيته وتعبد إلى أن توفي في ذي الحجة منها.

وقد رآه بعضهم في المنام وقد دخل على رسول الله ﷺ فقام إليه وصافحه وقبل بين عينيه، وقال: مرحبا بمن عمل بسنتي وأثري.

وفيها: توفي جعفر بن المعتضد، وكان يسامر أباه.

وراشد مولى الموفق بمدينة الدينور فحمل إلى بغداد.

وعثمان بن سعيد الدارمي مصنف الرد على بشر المريسي فيما ابتدعه من التأويل لمذهب الجهمية وقد ذكرناه في طبقات الشافعية.

ومسرور الخادم وكان من أكابر الأمراء.

ومحمد بن إسماعيل الترمذي صاحب التصانيف الحسنة في رمضان منها، قاله ابن الأثير، وشيخنا الذهبي.

وهلال بن المعلا المحدث المشهور، وقد وقع لنا من حديثه طرف.

سيبويه أستاذ النحاة

وقيل: إنه توفي في سنة سبع وسبعين، وقيل: ثمان وثمانين، وقيل: إحدى وستين، وقيل: أربع وسبعين ومائة فالله أعلم.

وهو أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب، وقيل: مولى الربيع بن زياد الحارثي البصري.

ولقب سيبويه لجماله وحمرة وجنتيه حتى كانتا كالتفاحتين.

وسيبويه في لغة فارس: رائحة التفاح.

وهو الإمام العلامة العلم، شيخ النحاة من لدن زمانه إلى زماننا هذا، والناس عيال على كتابه المشهور في هذا الفن.

وقد شرح بشروح كثيرة وقل من يحيط علما به.

أخذ سيبويه العلم عن الخليل بن أحمد ولازمه، وكان إذا قدم يقول الخليل: مرحبا بزائر لا يمل.

وأخذ أيضا عن عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب وأبي زيد الأنصاري، وأبي الخطاب الأخفش الكبير وغيرهم، قدم من البصرة إلى بغداد أيام كان الكسائي يؤدب الأمين بن الرشيد، فجمع بينهما فتناظرا في شيء من مسائل النحو فانتهى الكلام إلى أن قال الكسائي: تقول العرب: كنت أظن الزنبور أشد لسعا من النحلة فإذا هو إياها.

فقال سيبويه: بيني وبين أعرابي لم يشبه شيء من الناس المولد، وكان الأمين يحب نصرة أستاذه فسأل رجلا من الأعراب فنطق بما قال سيبويه.

فكره الأمين ذلك وقال له: إن الكسائي يقول خلافك.

فقال: إن لساني لا يطاوعني على ما يقول.

فقال: أحب أن تحضر وأن تصوب كلام الكسائي، فطاوعه على ذلك وانفصل المجلس عن قول الأعرابي إذا الكسائي أصاب.

فحمل سيبويه على نفسه وعرف أنهم تعصبوا عليه ورحل عن بغداد، فمات ببلاد شيراز في قرية يقال لها: البيضاء، وقيل: إنه ولد بهذه، وتوفي بمدينة سارة في هذه السنة، وقيل: سنة سبع وسبعين، وقيل: ثمان وثمانين، وقيل: إحدى وتسعين، وقيل: أربع وتسعين ومائة فالله أعلم.

وقد ينف على الأربعين، وقيل: بل إنما عمر ثنتين وثلاثين سنة فالله أعلم.

قرأ بعضهم على قبره هذه الأبيات:

ذهب الأحبة بعد طول تزاور ** ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا

تركوك أوحش ما تكون بقفرة ** لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا

قضى القضاء وصرت صاحب حفرة ** عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائتين

فيها: دخل المسلمون بلاد الروم فغنموا وسلموا.

وفيها: تكامل غور المياه ببلاد الري وطبرستان.

وفيها: غلت الأسعار جدا، وجهد الناس حتى أكل بعضهم بعضا، فكان الرجل يأكل ابنه وابنته فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: حاصر المعتضد قلعة ماردين وكانت بيد حمدان بن حمدون ففتحها قسرا وأخذ ما كان فيها، ثم أمر بتخريبها فهدمت.

وفيها: وصلت قطر الندى بنت خمارويه سلطان الديار المصرية إلى بغداد في تجمل عظيم ومعها من الجهاز شيء كثير حتى قيل: إنه كان في الجهاز مائة هاون من ذهب غير الفضة وما يتبع ذلك من القماش، وغير ذلك مما لا يحصى.

ثم بعد كل حساب أرسل معها أبوها ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما ليس بمصر مثله.

وفيها: خرج المعتضد إلى بلاد الجبل، وولى ولده عليا المكتفي نيابة الري وقزوين وأزربيجان وهمدان والدينور، وجعل على كتابته أحمد بن الأصبغ، وولى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف نيابة أصبهان ونهاوند والكرج، ثم عاد راجعا إلى بغداد.

وحج بالناس محمد بن هارون بن إسحاق، وأصاب الحجاج في الأجفر مطر عظيم فغرق كثير منهم، كان الرجل يغرق في الرمل فلا يقدر أحد على خلاصه منه.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن الحسن بن ديزيل الحافظ صاحب كتاب المصنفات، منها في وقعة صفين مجلد كبير.

وأحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى منها.

إسحاق بن إبراهيم

المعروف بابن الجيلي سمع الحديث وكان يفتي الناس بالحديث، وكان يوصف بالفهم والحفظ.

وفيها توفي:

أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا القرشي

مولى بني أمية، وهو عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس أبو بكر بن أبي الدنيا الحافظ المصنف في كل فن، المشهور بالتصانيف الكثيرة النافعة الشائعة الزائعة في الرقاق وغيرها، وهي تزيد على مائة مصنف.

وقيل: إنها نحو الثلاثمائة مصنف، وقيل: أكثر، وقيل: أقل.

سمع ابن أبي الدنيا إبراهيم بن المنذر الخزامي، وخالد بن خراش وعلي بن الجعد وخلقا، وكان مؤدب المعتضد وعلي بن المعتضد الملقب بالمكتفي بالله، وكان له عليه كل يوم خمسة عشر دينارا، وكان صدوقا حافظا ذا مروءة، لكن قال فيه صالح بن محمد حزرة: إلا أنه كان يروى عن رجل يقال له: محمد بن إسحاق البلخي وكان هذا الرجل كذابا يضع للأعلام، إسنادا وللكلام إسنادا، ويروى أحاديث منكرة.

ومن شعر ابن أبي الدنيا: أنه جلس أصحاب له ينتظرونه ليخرج إليهم، فجاء المطر فحال بينه، فكتب إليهم رقعة فيها:

أنا مشتاق إلى رؤيتكم ** يا أخلاي وسمعي والبصر

كيف أنساكم وقلبي عندكم ** حال فيما بيننا هذا المطر

توفي ببغداد في جمادى الأولى من هذه السنة عن سبعين سنة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي، ودفن بالشونيزية رحمه الله.

عبد الرحمن بن عمرو أبو زرعة البصري الدمشقي الحافظ الكبير المشهور بابن المواز الفقيه المالكي، له اختيارات في مذهب مالك، فمن ذلك وجوب الصلاة على رسول الله ﷺ في الصلاة.

ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين ومائتين

في خامس ربيع الأول منها يوم الثلاثاء دخل المعتضد بزوجته قطر الندى ابنة خمارويه، قدمت بغداد صحبة عمها وصحبة ابن الجصاص، وكان الخليفة غائبا وكان دخولها إليه يوما مشهودا، امتنع الناس من المرور في الطرقات من كثرة الخلق.

وفيها: نهى المعتضد الناس أن يعملوا في يوم النيروز ما كانوا يتعاطونه من إيقاد النيران وصب الماء وغير ذلك من الأفعال المشابهة لأفعال المجوس، ومنع من حمل هدايا الفلاحين إلى المنقطعين في هذا اليوم، وأمر بتأخير ذلك إلى الحادي عشر من حزيران، وسمي النيروز المعتضدي، وكتب بذلك إلى الآفاق.

وفيها: في ذي الحجة قدم إبراهيم بن أحمد الماذرائي من دمشق على البريد، فأخبر الخليفة بأن خمارويه وثبت عليه خدامه فذبحته على فراشه، وولوا بعده ولده حنش ثم قتلوه ونهبوا داره، ثم ولوا هارون بن خماروية، وقد التزم في كل سنة أن يحمل إلى الخليفة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فأقره المعتضد على ذلك، فلما كان المكتفي عزله وولى مكانه محمد بن سليمان الواثقي فاصطفى أموال الطولونيين، وكان ذلك آخر العهد منهم.

وفيها: أطلق لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من الحبس فعاد إلى مصر في أذل حال بعد أن كان من أكثر الناس مالا وعزا وجاها.

وفيها: حج بالناس الأمير المتقدم ذكره.

وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن داود أبو حنيفة الدينوري اللغوي صاحب كتاب النبات.

إسماعيل بن إسحاق

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد أبو إسحاق الأزدي القاضي، أصله من البصرة ونشأ ببغداد وسمع مسلم بن إبراهيم و محمد بن عبد الله الأنصاري، والقعنبي وعلي بن المديني، وكان حافظا فقيها مالكيا جمع وصنف وشرح في المذهب عدة مصنفات في التفسير والحديث والفقه وغير ذلك.

ولي القضاء في أيام المتوكل بعد سوار بن عبد الله، ثم عزل ثم ولي وصار مقدم القضاة.

كانت وفاته فجأة ليلة الأربعاء لثمان بقين من ذي الحجة منها، وقد جاوز الثمانين رحمه الله.

الحارث بن محمد بن أبي أسامة صاحب المسند المشهور.

خمارويه بن أحمد بن طولون

صاحب الديار المصرية بعد أبيه سنة إحدى وسبعين ومائتين، وقد تقاتل هو والمعتضد بن الموفق في حياة أبيه الموفق في أرض الرملة، وقيل: في أرض الصعيد.

وقد تقدم ذلك في موضعه، ثم بعد ذلك لما آلت الخلافة إلى المعتضد تزوج بابنة خمارويه وتصافيا، فلما كان في ذي الحجة من هذه السنة عدا أحد الخدام من الخصيان على خمارويه فذبحه وهو على فراشه، وذلك أن خمارويه اتهمه بجارية له.

مات عن ثنتين وثلاثين سنة، فقام بالأمر من بعده ولده هارون بن خمارويه، وهو آخر الطولونية.

وذكر ابن الأثير أن عثمان بن سعيد بن خالد أبو سعيد الدارمي توفي في هذه السنة، وكان شافعيا أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعي فالله أعلم.

وقد قدمنا وفاة الفضل بن يحيى بن محمد بن المسيب بن موسى بن زهير بن يزيد بن كيسان بن بادام ملك اليمن، أسلم بادام في حياة النبي ﷺ.

أبو محمد الشعراني

الأديب الفقيه العابد الحافظ الرحال، تلميذ يحيى بن معين، روى عنه الفوائد في الجرح والتعديل وغير ذلك، وكذلك أخذ عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني، وقرأ على خلف بن هشام البزار، وتعلم اللغة من ابن الأعرابي، وكان ثقة كبيرا.

محمد بن القاسم بن خلاد أبو العيناء البصري

الضرير الشاعر الأديب البليغ اللغوي تلميذ الأصمعي، كنيته أبو عبد الله وإنما لقب بأبي العيناء لأنه سئل عن تصغير عيناء فقال: عييناء، له معرفة تامة بالأدب والحكايات والملح.

أما الحديث فليس منه إلا القليل.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين

في المحرم منها خرج المعتضد من بغداد قاصدا بلاد الموصل لقتال هارون الشاري الخارجي، فظفر به وهزم أصحابه وكتب بذلك إلى بغداد، فلما رجع الخليفة إلى بغداد أمر بصلب هارون الشاري وكان صفريا.

فلما صلب قال: لا حكم إلا لله ولو كره المشركون.

وقد قاتل الحسن بن حمدان الخوارج في هذه الغزوة قتالا شديدا مع الخليفة، فأطلق الخليفة أباه حمدان بن حمدون من القيود بعد ما كان قد سجنه حينا من وقت أخذ قلعة ماردين، فأطلقه وخلع عليه وأحسن إليه.

وفيها: كتب المعتضد إلى الآفاق بردما فضل عن سهام ذوي الفرض إذا لم تكن عصبة إلى ذوي الأرحام وذلك بفتيا أبي حازم القاضي.

وقد قال في فتياه: إن هذا اتفاق من الصحابة إلا زيد بن ثابت فإنه تفرد برد ما فضل والحلة هذه إلى بيت المال.

ووافق على ذلك علي بن محمد بن أبي الشوارب أبي حازم، وخالفهما القاضي يوسف بن يعقوب، وذهب إلى قول زيد فلم يلتفت إليه المعتضد ولا عد قوله شيئا، وأمضى فتيا أبي حازم، ومع هذا ولى القضاء يوسف بن يعقوب في الجانب الشرقي، وخلع عليه خلعة سنية، وقلد أبا حازم قضاء أماكن كثيرة وذلك لموافقته ابن أبي الشوارب وخلع عليه خلعا سنية أيضا.

وفيها: وقع الفداء بين المسلمين والروم فاستنقذ من أيديهم ألفا أسير وخمسمائة وأربعة أنفس.

وفيها: حاصرت الصقالبة الروم في القسطنطينية فاستعان ملك الروم بمن عنده من أسارى المسلمين وأعطاهم سلاحا كثيرا فخرجوا معهم فهزموا الصقالبة، ثم خاف ملك الروم من غائلة أولئك المسلمين ففرقهم في البلاد.

وفيها: خرج عمرو بن الليث من نيسابور لبعض أشغاله فخلفه فيها رافع بن هرثمة ودعا على منابرها لمحمد بن زيد المطلبي ولولده من بعده، فرجع إليه عمرو وحاصره فيها، ولم يزل به حتى أخرجه منها وقتله على بابها.

وفيها: بعث الخليفة وزيره عبيد الله بن سليمان

لقتال عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف، فلما وصل إليه طلب منه عمر الأمان فأمنه وأخذه معه إلى الخليفة فتلقاه الأمراء، وخلع عليه الخليفة وأحسن إليه.

وفيها توفي من الأعيان: إبراهيم بن مهران أبو إسحاق الثقفي السراج النيسابوري، كان الإمام أحمد يدخل إلى منزله - وكان بقطيعة الربيع في الجانب الغربي - وينبسط فيه ويفطر عنده، وكان من الثقات العباد العلماء، توفي في صفر منها.

إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن حازم أبو القاسم الجيلي، وليس هو بالذي تقدم ذكره في السنين المتقدمة.

سمع داود بن عمرو وعلي بن الجعد وخلقا كثيرا.

وقد لينه الدارقطني فقال: ليس بالقوي.

توفي عن نحو من ثمانين سنة.

سهل بن عبد الله بن يونس التستري أبو محمد أحد أئمة الصوفية، لقي ذا النون المصري.

ومن كلامه الحسن قوله: أمس قد مات واليوم في النزع وغد لم يولد.

وهذا كما قال بعض الشعراء:

ما مضى فات والمؤمل غ ** يب ولك الساعة التي أنت فيها

وقد تخرج سهل شيخا له محمد بن سوار، وقيل: إن سهلا قد توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين فالله أعلم.

وفيها: توفي عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش أبو محمد الحافظ المروزي أحد الجوالين الرحالين حفاظ الحديث والمتكلمين في الجرح والتعديل، وقد كان ينبذ بشيء من التشيع فالله أعلم.

روى الخطيب عنه أنه قال: شربت بولي في هذا الشأن خمس مرات - يعنى أنه اضطر إلى ذلك في أسفاره في الحديث من العطش -

علي بن محمد بن أبي الشوارب.

عبد الملك الأموي البصري قاضي سامرا.

وقد ولى في بعض الأحيان قضاء القضاة، وكان من الثقات، سمع أبا الوليد وأبا عمرو الحوصي وعنه النجاد وابن صاعد وابن قانع، وحمل الناس عنه علما كثيرا.

ابن الرومي الشاعر

صاحب الديوان في الشعر علي بن العباس بن جريج أبو الحسن المعروف بابن الرومي، وهو مولى عبد الله بن جعفر وكان شاعرا مشهورا مطيقا فمن ذلك قوله:

إذا ما مدحت الباخلين فإنما ** تذكرهم في سواهم من الفضل

وتهدي لهم غما طويلا وحسرة ** فإن منعوا منك النوال فبالعدل

وقال: إذا ما كساك الدهر سربال صحة ** ولم تخل من قوت يلذ ويعذب

فلا تغبطن المترفين فإنه ** على قدر ما يكسوهم الدهر يسلب

وقال أيضا: عدوك من صديقك مستفاد **فلا تستكثرن من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه ** يكون من الطعام أو الشراب

إذا انقلب الصديق غدا عدوا ** مبينا والأمور إلى انقلاب

ولو كان الكثير يطيب كانت ** مصاحبة الكثير من الصواب

ولكن قل ما استكثرت إلا ** وقعت على ذئاب في ثياب

فدع عنك الكثير فكم كثير ** يعاف وكم قليل مستطاب

وما اللجج العظام بمزريات ** ويكفي الري في النطف العذاب

وقال أيضا: وما الحسب الموروث إلا دردره **بمحتسب إلا بآخر مكتسب

فلا تتكل إلا على ما فعلته ** ولا تحسبن المجد يورث كالنسب

فليس يسود المرء إلا بفعله ** وإن عد آباء كراما ذوي حسب

إذا العود لم يثمر وإن كان أصله ** من المثمرات عنده الناس في الحطب

وللمجد قوم شيدوه بأنفس ** كرام ولم يعنوا بأم ولا بأب

وقال أيضا وهو من لطيف شعره:

قلبي من الطرف السقيم سقيم **لو أن من أشكو إليه رحيم

في وجهها أبدا نهار واضح ** من شعرها عليه ليل بهيم

إن أقبلت فالبدر لاح وإن ** مشت فالغصن راح وإن رنت فالريم

نعمت بها عيني فطال عذابها ** ولكم عذاب قد جناه نعيم

نظرت فاقصدت الفؤاد بسهمها ** ثم انثنت نحوي فكدت أهيم

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ** وقع السهام ووقعهن أليم

يا مستحل دمي محرم رحمتي ** ما أنصف التحليل والتحريم

وله أيضا وكان يزعم أنه ما سبق إليه:

آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم **في الحادثات إذا زجرن نجوم

منها معالم للهدى ومصابح ** تجلو الدجى والأخريات رجوم

وذكر أنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين.

ومات في هذه السنة، وقيل: في التي بعدها، وقيل: في سنة ست وسبعين ومائتين، وذكر أن سبب وفاته أن وزير المعتضد القاسم بن عبيد الله كان يخاف من هجوه ولسانه فدس عليه من أطعمه وهو بحضرته خشكنانجة مسمومة، فلما أحس السم قام فقال له الوزير: إلى أين؟

قال: إلى المكان الذي بعثتني إليه.

قال: سلم على والدي.

فقال: لست أجتاز على النار.

محمد بن سليمان بن الحرب أبو بكر الباغندي الواسطي

كان من الحفاظ، وكان أبو داود يسأله عن الحديث، ومع هذا تكلموا فيه وضعفوه.

محمد بن غالب بن حرب أبو جعفر الضبي المعروف بتنهام

سمع سفيان وقبيصة والقعنبي، وكان من الثقات.

قال الدارقطني: وربما أخطأ.

توفي في رمضان عن تسعين سنة.

البحتري الشاعر

صاحب الديوان المشهور، اسمه الوليد بن عبادة ويقال: ابن عبيد بن يحيى أبو عباد الطائي البحتري الشاعر، أصله من منبج وقدم بغداد ومدح المتوكل والرؤوساء، وكان شعره في المدح خيرا منه في المراثي فقيل له في ذلك فقال: المديح للرجاء والمراثي للوفاء وبينهما بعد.

وقد روى شعره المبرد وابن درستويه وابن المرزبان.

وقيل له: إنهم يقولون إنك أشعر من أبي تمام.

فقال: لولا أبو تمام ما أكلت الخبز، كان أبو تمام أستاذنا.

وقد كان البحتري شاعرا مطيقا فصيحا بليغا رجع إلى بلده فمات بها في هذه السنة، وقيل: في التي بعدها عن ثمانين سنة

ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

في المحرم منها دخل رأس رافع بن هرثمة إلى بغداد فأمر الخليفة بنصبه في الجانب الشرقي إلى الظهر، ثم بالجانب الغربي إلى الليل.

وفي ربيع الأول منها خلع على محمد بن يوسف بن يعقوب بالقضاء بمدينة أبي جعفر المنصور عوضا عن ابن أبي الشوارب بعد موته بخمسة أشهر وأيام، وقد كانت شاغرة تلك المدة. وفي ربيع الآخر منها ظهرت بمصر ظلمة شديدة وحمرة في الأفق حتى كان الرجل ينظر إلى وجه صاحبه فيراه أحمر اللون جدا.

وكذلك الجدران، فمكثوا كذلك من العصر إلى الليل ثم خرجوا إلى الصحراء يدعون الله ويتضرعون حتى كشف عنهم.

وفيها: عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر فحذره ذلك وزيره عبد الله بن وهب، وقال له: إن العامة تنكر قلوبهم ذلك وهم يترحمون عليه ويترضون عنه في أسواقهم وجوامعهم، فلم يلتفت إليه بل أمر بذلك وأمضاه وكتب به نسخا إلى الخطباء بلعن معاوية وذكر فيها ذمه وذم ابنه يزيد بن معاوية وجماعة من بني أمية، وأورد فيها أحاديث باطلة في زم معاوية وقرئت في الجانبين من بغداد، ونهيت العامة عن الترحم على معاوية والترضي عنه، فلم يزل به الوزير حتى قال له فيما قال: يا أمير المؤمنين إن هذا الصنيع لم يسبقك أحد من الخلفاء إليه، وهو مما يرغب العامة في الطالبيين وقبول الدعوة إليهم، فوجم المعتضد عند ذلك لذلك تخوفا على الملك، وقدر الله تعالى أن هذا الوزير كان ناصبيا يكفر عليا فكان هذا من هفوات المعتضد.

وفيها: نودي في البلاد لا يجتمع العامة على قاص ولا منجم ولا جدلي ولا غير ذلك، وأمرهم أن لا يهتموا لأمر النوروز، ثم أطلق لهم النوروز فكانوا يصبون المياه على المارة وتوسعوا في ذلك وغلوا فيه حتى جعلوا يصبون الماء على الجند والشرط وغيرهم، وهذا أيضا من هفواته.

قال ابن الجوزي: وفيها وعد المنجمون الناس أن أكثر الأقاليم ستغرق في زمن الشتاء من كثرة الأمطار

والسيول وزيادة الأنهار، وأجمعوا على هذا الأمر فأخذ الناس كهوفا في الجبال خوفا من ذلك، فأكذب الله تعالى المنجمين في قولهم فلم يكن عام أقل مطرا منه، وقلت العيون جدا وقحط الناس في كل بقعة حتى استسقى الناس ببغداد وغيرها من البلاد مرارا كثيرة.

قال: وفيها كان يتبدى في دار الخلافة شخص بيده سيف مسلول في الليل فإذا أرادوا أخذه انهزم، فدخل في بعض الأماكن والزروع والأشجار والعطفات التي بدار الخلافة فلا يطلع له على خبر، فقلق من ذلك المعتضد قلقا شديدا وأمر بتجديد سور دار الخلافة والاحتفاظ به، وأمر الحرس من كل جانب بشدة الاحتراس فلم يفد ذلك شيئا، ثم استدعى بالمغرمين ومن يعاني علم السحر وأمر المنجمين فعزموا واجتهدوا فلم يفد ذلك شيئا فأعياهم أمره.

فلما كان بعد مدة اطلع على جلية الأمر وحقيقة الخبر فوجده خادما خصيا من الخدام كان يتعشق بعض الجواري من حظايا المعتضد التي لا يصل إليها مثله ولا النظر إليها من بعيد، فاتخذ لحا مختلفة الألوان يلبس كل ليلة واحدة، واتخذ لباسا مزعجا فكان يلبس ذلك ويتبدى في الليل في شكل مزعج فيفزع الجواري وينزعجن وكذلك الخدم، فيثورون إليه من كل جانب فإذا قصدوه دخل في بعض العطفات ثم يلقي ما عليه أو يجعله في كمه أو في مكان قد أعده لذلك، ثم يظهر أنه من جملة الخدم المتطلبين لكشف هذا الأمر، ويسأل هذا وهذا ما الخبر؟

والسيف في يده صفة من يرى أنه قد رهب من هذا الأمر، وإذا اجتمع الحظايا تمكن من النظر إلى تلك المعشوقة ولا حظها وأشار إليها بما يريده منها وأشارت إليه، فلم يزل هذا دأبه إلى زمن المقتدر فبعثه في سرية إلى طرسوس فنمت عليه تلك الجارية، وانكشف أمره وحاله وأهلكه الله.

وفيها: اضطرب الجيش المصري على هارون بن خمارويه فأقاموا له بعض أمراء أبيه يدير الأمور ويصلح الأحوال، وهو أبو جعفر بن أبان، فبعث إلى دمشق - وكانت قد منعت البيعة تسعة أشهر بعد أبيه، واضطربت أحوالها - فبعث إليهم جيشا كثيفا مع بدر الحمامي والحسن بن أحمد الماذرائي فأصلحا أمرها واستعملا على نيابتها طفح بن خف، ورجعا إلى الديار المصرية والأمور مختلفة جدا.

وفيها وتوفي من الأعيان:

أحمد بن المبارك أبو عمر المستملي

الزاهد النيسابوري يلقب بحكمويه العابد، سمع قتيبة وأحمد وإسحاق وغيرهم واستملى على المشايخ ستا وخمسين سنة، وكان فقيرا رث الهيئة زاهدا، دخل يوما على أبي عثمان سعيد بن إسماعيل وهو في مجلس التذكير، فبكى أبو عثمان وقال للناس: إنما أبكاني رثاثة ثياب رجل كبير من أهل العلم أنا أجله عن أن أسميه في هذا المجلس، فجعل الناس يلقون الخواتم والثياب والدراهم حتى اجتمع من ذلك شيء كثير بين يدي الشيخ أبي عثمان، فنهض عند ذلك أبو عمرو المستملى فقال:

أيها الناس أنا الذي قصدني الشيخ بكلامه، ولولا أني كرهت أن يتهم بإثم لسترت ما ستره.

فتعجب الشيخ من إخلاصه ثم أخذ أبو عمرو ذلك المجتمع من المال فما خرج من باب المسجد حتى تصدق بجميعه على الفقراء والمحاويج.

كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة.

إسحاق بن الحسن

ابن ميمون بن سعد أبو يعقوب الحربي، سمع عفان وأبا نعيم وغيرهما.

وكان أسن من إبراهيم الحربي بثلاث سنين، ولما توفي إسحاق نودي له بالبلد فقصد الناس داره للصلاة عليه، واعتقد بعض العامة أنه إبراهيم الحربي، فجعلوا يقصدون داره فيقول إبراهيم: ليس إلى هذا الموضع قصدكم وعن قريب تأتونه، فما عمر بعده إلا دون السنة.

إسحاق بن محمد بن يعقوب الزهري عمر تسعين سنة، وكان ثقة صالحا.

إسحاق بن موسى بن عمران الفقيه أبو يعقوب الإسفراييني الشافعي.

عبد الله بن علي بن الحسن بن إسماعيل أبو العباس الهاشمي، كانت إليه الحسبة ببغداد وإمامة جامع الرصافة.

عبد العزيز بن معاوية العتابي من ولد عتاب بن أسيد بصري، قدم بغداد وحدث عن أزهر السمان وأبي عاصم النبيل.

يزيد بن الهيثم بن طهمان أبو خالد الدقاق ويعرف بالباد.

قال ابن الجوزي: والصواب أن يقال: البادي لأنه ولد توأما وكان هو الأول في الميلاد.

روى عن يحيى بن معين وغيره وكان ثقة صالحا.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائتين

فيها: وثب صالح بن مدرك الطائي على الحجاج بالأجفر، فأخذ أموالهم ونساءهم، يقال: إنه أخذ منهم ما قيمته ألف ألف دينار.

وفي ربيع الأول منها يوم الأحد لعشر بقين منه، ارتفعت بنواحي الكوفة ظلمة شديدة جدا، ثم سقطت أمطار برعود وبروق لم ير مثلها، وسقط في بعض القرى مع المطر حجارة بيض وسود، وسقط برد كبار وزن البردة مائة وخمسون درهما، واقتلعت الرياح شيئا كثيرا من النخيل والأشجار مما حول دجلة، وزادت دجلة زيادة كثيرة حتى خيف على بغداد من الغرق.

وفيها: غزا راغب الخادم مولى الموفق بلاد الروم، ففتح حصونا كثيرة، وأسر ذراري كثيرة جدا، وقتل من أسارى الرجال الذين معه ثلاثة آلاف أسير، ثم عاد سالما مؤيدا منصور.

وحج بالناس فيها محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.

وفيها: توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ صاحب آمد، فقام بأمرها من بعده ولده محمد، فقصده المعتضد ومعه ابنه أبو محمد المكتفي بالله فحاصره بها فخرج إليه سامعا مطيعا، فتسلمها منه وخلع عليه وأكرم أهلها، واستخلف عليها ولده المكتفي.

ثم سار إلى قنسرين والعواصم، فتسلمها عن كتاب هارون بن خمارويه، وإذنه له في ذلك ومصالحته له فيها.

وفيها: غزا بن الأخشيد بأهل طرسوس بلاد الروم، ففتح الله على يديه حصونا كثيرة، ولله الحمد.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن إسحاق

ابن بشير بن عبد الله بن رستم، أبو إسحاق الحربي، أحد الأئمة في الفقه والحديث وغير ذلك، وكان زاهدا عابدا تخرج بأحمد بن حنبل، وروى عنه كثيرا.

قال الدارقطني: إبراهيم الحربي، إمام مصنف عالم بكل شيء، بارع في كل علم، صدوق، كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وورعه وعلمه، ومن كلامه: أجمع عقلاء كل أمة أن من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه.

وكان يقول: الرجل كل الرجل الذي يدخل غمه على نفسه ولا يدخله على عياله.

وقد كانت بي شقيقة منذ أربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط، ولي عشرون سنة أبصر بفرد عين ما أخبرت بها أحدا قط.

وذكر أنه مكث نيفا وسبعين سنة من عمره ما يسأل أهله غداء ولا عشاء، بل إن جاءه شيء أكله، وإلا طوى إلى الليلة القابلة.

وذكر أنه أنفق في بعض الرماضانات على نفسه وعياله درهما واحدا وأربعة دوانيق ونصف، وما كنا نعرف من هذه الطبائخ شيئا، إنما هو باذنجان مشوي، أو باقة فجل، أو نحو هذا.

وقد بعث إليه أمير المؤمنين المعتضد في بعض الأحيان بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها وردها، فرجع الرسول وقال:

يقول لك الخليفة: فرقها على من تعرف من فقراء جيرانك.

فقال: هذا شيء لم نجمعه، ولا نسأل عن جمعه، فلا نسأل عن تفريقه، قل لأمير المؤمنين: إما يتركنا وإما نتحول من بلده.

ولما حضرته الوفاة دخل عليه بعض أصحابه يعوده، فقامت ابنته تشكو إليه ما هم فيه من الجهد وأنه لا طعام لهم إلا الخبز اليابس بالملح، وربما عدموا الملح في بعض الأحيان.

فقال لها إبراهيم: يا بنية تخافين الفقر؟انظري إلى تلك الزاوية فيها اثني عشر ألف جزء قد كتبتها، ففي كل يوم تبيعي منها جزء بدرهم، فمن عنده اثني عشر ألف درهم فليس بفقير.

ثم كانت وفاته لسبع بقين من ذي الحجة وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي عند باب الأنبار، وكان الجمع كثيرا جدا.

المبرد النحوي

محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس الأزدي الثمالي، المعروف: بالمبرد النحوي البصري، إمام في اللغة والعربية.

أخذ ذلك عن المازني، وأبي حاتم السجستاني، وكان ثقة ثبتا فيما ينقله، وكان مناوئا لثعلب، وله كتاب (الكامل في الأدب)، وإنما سمي بالمبرد: لأنه اختبأ من الوالي عند أبي حاتم تحت المزبلة.

قال المبرد: دخلنا يوما على المجانين نزورهم أنا وأصحاب معي بالرقة، فإذا فيهم شاب قريب العهد بالمكان، عليه ثياب ناعمة بصر بنا قال:

حياكم الله ممن أنتم؟

قلنا: من أهل العراق.

فقال: بأبي العراق وأهلها أنشدوني أو أنشدكم؟.

قال المبرد: بل أنشدنا أنت، فأنشأ يقول:

الله يعلم أنني كمد ** لا أستطيع بث ما أجدُ

روحان لي روح تضمنها ** بلد وأخرى حازها بلدُ

وأرى المقيمة ليس ينفعها ** صبر ولا يقوى لها جلد

وأظن غائبتي كحاضرتي ** بمكانها تجد الذي أجد

قال المبرد: فقلت: والله إن هذا طريف فزدنا منه، فأنشأ يقول:

لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم ** وحملوها فثارت بالهوى الإبل

وأبرزت من خلال السجف ناظرها ** ترنو إلي ودمع العين ينهمل

وودعت ببنان عقدها عنم ** ناديت لا حملت رجلاك يأجمل

ويلي من البين ماذا حل بي وبهم ** من نازل البين حان البين وارتحلوا

يا راحل العيس عجل كي أودعهم ** يا راحل العيس في ترحالك الأجل

إني على العهد لم أنقض مودتهم ** فليت شعري لطول العهد ما فعلوا

فقال رجل من البغضاء الذين معي: ماتوا.

فقال الشاب: إذا أموت.

فقال: إن شئت.

فتمطى واستند إلى سارية عنده ومات، وما برحنا حتى دفناه رحمه الله.

ومات المبرد وقد جاوز السبعين.

ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائتين

فيها وقع تسلم آمد من ابن الشيخ في ربيع الآخر، ووصل كتاب هارون بن أحمد بن طولون من مصر إلى المعتضد وهو مخيم بآمد أن يسلم إليه قنسرين والعواصم، على أن يقره على إمارة الديار المصرية، فأجابه إلى ذلك.

ثم ترحل عن آمد قاصدا العراق وأمر بهدم سور آمد، فهدم البعض ولم يقدر على ذلك، فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد:

اسلم أمير المؤمنين ودم ** في غبطة وليهنك النصر

فلرب حادثة نهضت لها ** متقدما فتأخر الدهر

ليث فرائسه الليوث ** فما بيض من دمها له ظفر

ولما رجع الخليفة إلى بغداد جاءته هدية عمرو بن الليث من نيسابور، فكان وصولها بغداد يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة، وكان مبلغها ما قيمته أربعة آلاف ألف درهم خارجا عن الدواب وسروج وسلاح وغير ذلك.

وفيها: تحارب إسماعيل بن أحمد الساماني وعمرو بن الليث، وذلك أن عمرو بن الليث لما قتل رافع بن هرثمة وبعث رأسه إلى الخليفة، سأل منه أن يعطيه ما وراء النهر مضافا إلى ما بيده من ولاية خراسان، فأجابه إلى ذلك فانزعج لذلك إسماعيل بن أحمد بن الساماني نائب ما وراء النهر، وكتب إليه:

إنك قد وليت دنيا عريضة، فاقتنع بها عن ما في يدي من هذه البلاد.

فلم يقبل، فأقبل إليه إسماعيل في جيوش عظيمة جدا، فالتقيا عند بلخ، فهزم أصحاب عمرو، وأسر عمرو، فلما جيء به إلى إسماعيل بن أحمد قام إليه وقبل بين عينيه، وغسل وجهه وخلع عليه وأمنه، وكتب إلى الخليفة في أمره، ويذكر أن أهل تلك البلاد قد ملوا وضجروا من ولايته عليهم، فجاء كتاب الخليفة بأن يتسلم حواصله وأمواله فسلبه إياها، فآل به الحال بعد أن كان مطبخه يحمل على ستمائة جمل إلى القيد والسجن.

ومن العجائب أن عمرا كان معه خمسون ألف مقاتل لم يصب أحد منهم، ولا أسر سواه وحده، وهذا جزاء من غلب عليه الطمع، وقاده الحرص حتى أوقعه في ذل الفقر، وهذه سنة الله في كل طامع فيما ليس له، وفي كل طالب للزيادة في الدنيا.

ظهور أبي سعيد الجنابي رأس القرامطة

وهم أخبث من الزنج وأشد فسادا، كان ظهوره في جمادى الآخرة من هذه السنة بنواحي البصرة، فالتف عليه من الأعراب غيرهم بشرٌ كثير، وقويت شوكته جدا، وقتل من حوله من أهل القرى.

ثم صار إلى القطيف قريبا من البصرة ورام دخولها، فكتب الخليفة المعتضد إلى نائبها يأمره بتحصين سورها، فعمروه وجددوا معالمه بنحو من أربعة آلاف دينار، فامتنعت من القرامطة بسبب ذلك.

وتغلب أبو سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة على هجر وما حولها من البلاد، وأكثروا في الأرض الفساد.

وكان أصل أبي سعيد الجنابي هذا أنه كان سمسارا في الطعام يبيعه ويحسب للناس الأثمان، فقدم رجل به، يقال له: يحيى بن المهدي في سنة إحدى وثمانين ومائتين، فدعا أهل القطيف إلى بيعة المهدي، فاستجاب له رجل يقال له: علي بن العلاء بن حمدان الزيادي، فساعده في الدعوة إلى المهدي، وجمع الشيعة الذين كانوا في القطيف، فاستجابوا له، وكانوا في جملة من استجاب أبو السعيد الجنابي هذا قبحه الله.

ثم تغلب على أمرهم وأظهر فيهم القرمطة، فاستجابوا له والتفوا عليه، فتآمر عليهم وصار هو المشار إليه فيهم، وأصله من بلدة هناك يقال لها: جنابة، وسيأتي ما يكون من أمره وأمر أصحابه.

قال في المنتظم: ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة.

ثم روى بسنده: أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينه تشهد لها به، فقالوا:

نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا، فلما صمموا على ذلك، قال الزوج:

لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها.

فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وإنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة.

وممن توفي فيها من الأعيان المشاهير: أحمد بن عيسى أبو السعيد الخراز فيما ذكره شيخنا الذهبي.

وقد أرخه ابن الجوزي في سنة سبعة وسبعين ومائتين، فالله أعلم.

إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان

أبو يعقوب النخعي الأحمر، وإليه تنسب الطائفة الإسحاقية من الشيعة.

وقد ذكر ابن النوبختي، والخطيب، وابن الجوزي: أن هذا الرجل كان يعتقد إلهية علي بن أبي طالب، وإنه انتقل إلى الحسن ثم الحسين، وإنه كان يظهر في كل وقت، وقد اتبعه على هذا الكفر خلق من الحمر قبحهم الله وقبحه.

وإنما قيل له: الأحمر لأنه كان أبرص، وكان يطلي برصه بما يغير لونه.

وقد أورد له النوبختي أقوالا عظيمة في الكفر، لعنه الله.

وقد روى شيئا من الحكايات والملح عن المازني وطبقته، ومثل هذا أقل وأذل من أن يروى عنه، أو يذكر إلا بذمه.

بقي بن مخلد بن يزيد

أبو عبد الرحمن الأندلسي الحافظ أحد علماء الغرب له التفسير والمسند والسنن والآثار التي فضلها ابن حزم على تفسير ابن جرير، ومسند أحمد، ومصنف ابن أبي شيبة.

وفيما زعم ابن حزم نظر.

وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأثنى عليه خيرا، ووصفه بالحفظ والإتقان، وأنه كان مجاب الدعوة رحمه الله.

وأرخ وفاته بهذه السنة عن خمس وسبعين سنة.

الحسن بن بشار

أبو علي الخياط روى عن أبي بلال الأشعري، وعنه أبو بكر الشافعي، وكان ثقة، رأى في منامه - وقد كانت به علة - قائلا يقول له: كل لا، وادهن بلا، ففسره بقوله تعالى: { زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ } فأكل زيتونا، وشرب زيتا فبرأ من علته تلك.

محمد بن إبراهيم أبو جعفر الأنماطي المعروف: بمربع، تلميذ يحيى بن معين، كان ثقة حافظا.

عبد الرحيم الرقي.

ومحمد بن وضاح المصنف.

وعلي بن عبد العزيز البغوي صاحب المسند.

محمد بن يونس

ابن موسى بن سليمان بن عبيد بن ربيعة بن كديم أبو العباس القرشي البصري الكديمي

وهو ابن امرأة نوح بن عبادة، ولد سنة ثلاث وثمانين ومائة، وسمع عبد الله بن داود الخريبي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا داود الطيالسي، والأصمعي، وخلقا.

وعنه ابن السماك، والنجاد.

وآخر من حدث عنه أبو بكر بن مالك القطيفي، وقد كان حافظا مكثرا مغربا، وقد تكلم فيه الناس لأجل غرائبه في الروايات.

وقد ذكرنا ترجمته في التكميل.

توفي يوم الجمعة قبل الصلاة للنصف من جمادى الآخرة منها، وقد جاوز المائة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي.

يعقوب بن إسحاق بن نخبة أبو يوسف الواسطي

سمع من يزيد بن هارون وقدم بغداد، وحدث بها أربعة أحاديث، ووعد الناس أن يحدثهم من الغد، فمات من ليلته عن مائة واثني عشر سنة.

الوليد أبو عبادة البحتري فيما ذكر الذهبي، وقد تقدم ذكره في سنة ثلاث وثمانين كما ذكره ابن الجوزي، فالله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

في ربيع الأول منها تفاقم أمر القرامطة صحبة أبي سعيد الجنابي، فقتلوا وسبوا وأفسدوا في بلاد هجر، فجهز الخليفة إليهم جيشا كثيفا، وأمر عليهم العباس بن عمرو الغنوي، وأمره على اليمامة والبحرين ليحارب أبا سعيد هذا، فالتقوا هنالك.

وكان العباس في عشرة آلاف مقاتل، فأسرهم أبو سعيد كلهم ولم ينج منهم إلا الأمير وحده، وقتل الباقون عن آخرهم صبرا بين يديه قبحه الله.

وهذا عجيب جدا وهو عكس واقعة عمرو بن الليث، فإنه أسر من بين أصحابه وحده، ونجوا كلهم وكانوا خمسين ألفا.

ويقال: إن العباس لما قتل أبو سعيد أصحابه صبرا بين يديه وهو ينظر، وكان في جملة من أسر، أقام عند أبي سعيد أياما ثم أطلقه وحمله على رواحل، وقال:

ارجع إلى صاحبك وأخبره بما رأيت.

وقد كانت هذه الواقعة في أواخر شعبان منها، فلما وقع هذا الأمر الفظيع انزعج الناس لذلك انزعاجا عظيما جدا، وهم أهل البصرة بالخروج منها، فمنعهم من ذلك نائبها أحمد الواثقي.

وفيها: أغارت الروم على بلاد طرسوس، وكان نائبها ابن الأخشيد قد توفي في العام الماضي، واستخلف على الثغر أبا ثابت، فطمعت الروم في تلك الناحية، وحشدوا عساكرهم، فالتقا بهم أبو ثابت فلم يقدر على مقاومتهم، فقتلوا من أصحابه جماعة، وأسروه فيمن أسروا، فاجتمع أهل الثغر على ابن الأعرابي فولوه أمرهم، وذلك في ربيع الآخر.

وفيها قتل:

محمد بن زيد العلوي

أمير طبرستان والديلم، وكان سبب ذلك: أن إسماعيل الساماني لما ظفر بعمرو بن الليث، ظن محمد أن إسماعيل لا يجاوز عمله، وأن خراسان قد خلت له، فارتحل من بلده يريد خراسان، وسبقه إسماعيل إليها، وكتب إليه:

أن الزم عملك ولا تتجاوزه إلى غيره.

فلم يقبل، فبعث إليه جيشا مع محمد بن هارون الذي كان ينوب عن رافع بن هرثمة، فلما التقيا هرب منه محمد بن هارون خديعة، فسار الجيش وراءه في الطلب، فكر عليهم راجعا فانهزموا منه، فأخذ ما في معسكرهم، وجرح محمد بن زيد جراحات شديدة، فمات بسببها بعد أيام، وأسر ولده زيد فبعث به إلى إسماعيل بن أحمد، فأكرمه وأمر له بجائزة.

وقد كان محمد بن زيد هذا فاضلا دينا، حسن السيرة فيما وليه من تلك البلاد، وكان فيه تشيع.

تقدم إليه يوما خصمان اسم أحدهما: معاوية، واسم الآخر: علي، فقال محمد بن زيد: إن الحكم بينكما ظاهر.

فقال معاوية: أيها الأمير، لا تغترن بنا فإن أبي كان من كبار الشيعة، وإنما سماني معاوية مداراة لمن ببلدنا من أهل السنة.

وهذا كان أبوه من كبار النواصب، فسماه: عليا تقاة لكم.

فتبسم محمد بن زيد، وأحسن إليهما.

قال ابن الأثير في (كامله): وممن توفي فيها: إسحاق بن يعقوب بن عمر بن الخطاب العدوي - عدي ربيعة-.

وكان أميرا على ديار ربيعة بالجزيرة، فولى مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر.

وعلي بن عبد العزيز البغوي صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام.

ومهدي بن أحمد بن مهدي الأزدي الموصلي - وكان من الأعيان - وذكر هو وأبو الفرج بن الجوزي: أن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون امرأة المعتضد توفيت في هذه السنة.

قال ابن الجوزي: لسبع خلون من رجب منها، ودفنت داخل القصر بالرصافة.

يعقوب بن يوسف بن أيوب أبو بكر المطوعي، سمع أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وعنه النجاد والخلدي، وكان ورده في كل يوم قراءة قل هو الله أحد إحدى وثلاثين ألف مرة، أو إحدى وأربعين ألف مرة.

قلت: وممن توفي فيها: أبو بكر بن أبي عاصم صاحب السنة والمصنفات وهو:

أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك

ابن النبيل، له مصنفات في الحديث كثيرة منها: كتاب (السنة في أحاديث الصفات) على طريق السلف، وكان حافظا، وقد ولي قضاء أصبهان بعد صالح بن أحمد، وقد طاف البلاد قبل ذلك في طلب الحديث، وصحب أبا تراب النخشبي وغيره من مشايخ الصوفية.

وقد اتفق له مرة كرامة هائلة: كان هو واثنان من كبار الصالحين في سفر، فنزلوا على رمل أبيض، فجعل أبو بكر هذا يقبله بيده ويقول:

اللهم ارزقنا خبيصا يكون غداء على لون هذا الرمل.

فلم يكن بأسرع من أن أقبل أعرابي وبيده قصعة فيها خبيص بلون ذلك الرمل وفي بياضه، فأكلوا منه.

وكان يقول: لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع ولا مدع ولا طعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء، ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث.

توفي في هذه السنة بأصبهان، وقد رآه بعضهم بعد وفاته وهو يصلي، فلما انصرف قال: ما فعل بك؟

فقال: يؤنسني ربي عز وجل.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين

اتفق في هذه السنة آفات ومصائب عديدة منها: أن الروم قصدوا بلاد الرقة في جحافل عظيمة وعساكر من البحر والبر، فقتلوا خلقا وأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا من الذرية.

ومنها: أن بلاد أذربيجان أصاب أهلها وباء شديد حتى لم يبق أحد على دفن الموتى، فتركوا في الطرق لا يوارون.

ومنها: أن بلاد أردبيل أصابها ريح شديدة من بعد العصر إلى ثلث الليل، ثم زلزلوا زلزالا شديدا، واستمر ذلك عليهم أياما تهدمت الدور والمساكن، وخسف بآخرين منهم، وكان جملة من مات تحت الهدم مائة ألف وخمسين ألفا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: اقترب القرامطة من البصرة فخاف أهلها منهم خوفا شديدا، وهموا بالرحيل منها فمنعهم نائبها.

وفيها توفي من الأعيان:

بشر بن موسى بن صالح أبو علي الأسدي

ولد سنة تسعين ومائة، وسمع من روح بن عبادة حديثا واحدا، وسمع الكثير من هودة بن خليفة والحسن ين موسى الأشيب وأبي نعيم وعلي بن الجعد والأصمعي وغيره، وعنه ابن المنادي وابن مخلد وابن صاعد والنجاد وأبو عمرو الزاهد والخلدي والسلمي وأبو بكر الشافعي وابن الصواف وغيرهم.

وكان ثقة أمينا حافظا، وكان من البيوتات وكان الإمام أحمد يكرمه.

ومن شعره:

ضعفت ومن جاز الثمانين يضعف ** وينكر منه كل ما كان يعرف

ويمشي رويدا كالأسير مقيدا ** يداني خطاه في الحديد ويرسف

ثابت بن قرة بن هارون - ويقال: ابن زهرون - بن ثابت بن كدام بن إبراهيم الصائبي الفيلسوف الحراني صاحب التصانيف، من جملتها أنه حرر كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي.

وكان أصله صوفيا فترك ذلك واشتغل بعلم الأوائل، فنال منه رتبة سامية عند أهله، ثم صار إلى بغداد فعظم شأنه بها، وكان يدخل مع المنجمين على الخليفة وهو باق على دين الصابئة، وحفيده ثابت بن قرة بن سنان له تاريخ أجاد فيه وأحسن، وكان بليغا ماهرا حاذقا بالغا.

وعمه إبراهيم بن ثابت بن قرة، كان طبيبا عارفا أيضا.

وقد سردهم كلهم في هذه الترجمة القاضي ابن خلكان.

الحسن بن عمرو بن الجهم أبو الحسن الشيعي - من شيعة المنصور لا من الروافد - حدث عن علي بن الممديني، وحكى عن بشر الحافي.

وعنه أبو عمرو بن السماك

عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد

كان حظيا عنده، وقد عز عليه موته وتألم لفقده وأهمه من يجعله في مكانه بعده، فعقد لولده القاسم بن عبيد الله على الوزارة من بعد أبيه جبرا لمصابه به.

وأبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار المعروف بالأنماطي أحد كبار الشافعية.

وقد ذكرناه في طبقاتهم.

هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى أبو موسى الهاشمي

إمام الناس في الحج عدة سنين متوالية، وقد سمع وحدث وتوفي بمصر في رمضان من هذه السنة.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين

فيها: عاثت القرامطة بسواد الكوفة، فظفر بعض العمال بطائفة منهم، فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس، فنال من العباس بين يدي الخليفة فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت يداه، ثم قطعتا مع رجليه ثم قتل وصلب ببغداد.

وفيها: قصدت القرامطة دمشق في جحفل عظيم فقاتلهم نائبها طغج بن جف من جهة هارون بن خمارويه، فهزموه مرات متعددة، وتفاقم الحال بهم، وكان ذلك بسفارة يحيى بن زكرويه بن بهرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد كذب في ذلك، وزعم لهم أنه

قد اتبعه على أمره مائة ألف، وأن ناقته مأمورة حيث ما توجهت به نصر على أهل تلك الجهة.

فراج ذلك عندهم ولقبوه الشيخ، واتبعه طائفة من بني الأصبغ، وسموا بالفاطميين.

وقد بعث إليهم الخليفة جيشا كثيفا فهزموه، ثم اجتازوا بالرصافة فأحرقوا جامعها، ولم يجتازوا بقرية إلا نهبوها، ولم يزل ذلك دأبهم حى وصلوا إلى دمشق فقاتلهم نائبها فهزموه مرات وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا، وانتهبوا من أموالها شيئا كثيرا.

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي هذه الحالة الشديدة اتفق موت الخليفة المعتضد بالله في ربيع الأول منها.

الخليفة المعتضد

هو أحمد بن الأمير أبي أحمد الموفق الملقب بناصر دين الله، واسم أبي أحمد محمد، وقيل: طلحة بن جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن هارون الرشيد، أبو العباس المعتضد بالله.

ولد في سنة ثنتين، وقيل: ثلاث وأربعين ومائتين، وأمه أم ولد.

وكان أسمر نحيف الجسم معتدل القامة، قد وخطه الشيب في مقدم لحيته طول، وفي رأسه شامة بيضاء.

بويع له بالخلافة صبيحة يوم الاثنين إحدى عشرة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، واستوزر عبد الله بن وهب بن سليمان، وولى القضاء إسماعيل بن إسحاق ويوسف بن يعقوب وابن أبي الشوارب.

وكان أمر الخلافة قد ضعف في أيام عمه المعتمد، فلما ولي المعتضد أقام شعارها ورفع منارها.

وكان شجاعا فاضلا من رجالات قريش حزما وجرأة وإقداما وحزمة، وكذلك كان أبوه، وقد أورد ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد اجتاز في بعض أسفاره بقرية فيها مقثاة فوقف صاحبها صائحا مستصرخا بالخليفة، فاستدعى به فسأله عن أمره فقال:

إن بعض الجيش أخذوا لي شيئا من القثاء وهم من غلمانك.

فقال: أتعرفهم؟

فقال: نعم.

فعرضهم عليه فعرف منهم ثلاثة، فأمر الخليفة بتقييدهم وحبسهم، فلما كان الصباح نظر الناس ثلاثة أنفس مصلوبين على جادة الطريق، فاستعظم الناس ذلك واستنكروه وعابوا ذلك على الخليفة وقالوا: قتل ثلاثة بسبب قثاء أخذوه؟

فلما كان بعد قليل أمر الخواص - وهو مسامره - أن ينكر عليه ذلك، ويتلطف في مخاطبته في ذلك والأمراء حضور، فدخل عليه ليلة وقد عزم على ذلك، ففهم الخليفة ما في نفسه من كلام يريد أن يبديه، فقال له: إني أعرف أن في نفسك كلاما فما هو؟

فقال: يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟

قال: نعم.

قلت له: فإن الناس ينكرون عليك تسرعك في سفك الدماء.

فقال: والله ما سفكت دما حراما منذ وليت الخلافة إلا بحقه.

فقلت له: فعلام قتلت أحمد بن الطيب وقد كان خادمك ولم يظهر له خيانة؟

فقال: ويحك إنه دعاني إلى الإلحاد والكفر بالله فيما بيني وبينه، فلما دعاني إلى ذلك قلت له: يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا منتصب في منصبه فأكفر حتى أكون من غير قبيلته.

فقتلته على الكفر والزندقة.

فقلت له: فما بال الثلاثة الذين قتلتهم على القثاء؟

فقال: والله ما كان هؤلاء الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا قد قتلوا وأخذوا المال فوجب قتلهم، فبعثت فجئت بهم من السجن فقتلتهم، وأريت الناس أنهم الذين أخذوا القثاء، وأردت بذلك أن أرهب الجيش لئلا يفسدوا في الأرض، ويتعدوا على الناس، ويكفوا عن الأذى.

ثم أمر بإخراج أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعد ما استتابهم، وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم.

قال ابن الجوزي: خرج المعتضد يوما فعسكر بباب الشماسية ونهى أن يأخذ أحد من بستان أحد شيئا، فأتي بأسود قد أخذ عذقا من بسر فتأمله طويلا ثم أمر بضرب عنقه.

ثم التفت إلى الأمراء فقال: العامة ينكرون هذا ويقولون: إن رسول الله ﷺ قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر».

ولم يكفه أن يقطع يده حتى قتله، وإني لم أقتل هذا على سرقته، وإنما هذا الأسود رجل من الزنج كان قد استأمن في حياة أبي، وإنه تقاول هو ورجل من المسلمين فضرب المسلم فقطع يده فمات المسلم، فأهدر أبي دم الرجل المقتول تأليفا للزنج، فآليت على نفسي لئن أنا قدرت عليه لأقتلنه، فما قدرت عليه إلا هذه الساعة فقتلته بذلك الرجل.

وقال أبو بكر الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن نعيم الضبي، سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول: سمعت أبا العباس بن سريج يقول: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فنظرت إليهم فرآني المعتضد وأنا أتأملهم، فلما أردت القيام أشار إلي فجلست ساعة فلما خلا قال لي: أيها القاضي والله ما حللت سراويلي على حرام قط.

وروى البيهقي: عن الحاكم، عن حسان بن محمد، عن ابن سريج القاضي إسماعيل بن إسحاق قال:

دخلت يوما على المعتضد فدفع إلي كتابا فقرأته، فإذا فيه الرخص من زلل العلماء، قد جمعها له بعض الناس فقلت: يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق.

فقال: كيف؟

فقلت: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه.

فأمر بتحريق ذلك الكتاب.

وروى الخطيب بسنده عن صافي الجرمي الخادم قال: انتهى المعتضد وأنا بين يديه إلى منزل شعث، وابنه المقتدر جعفر جالس فيه وحوله نحو من عشرة من الوصائف، والصبيان من أصحابه في سنه عنده، وبين يديه طبق من فضة فيه عنقود عنب، وكان العنب إذ ذاك عزيزا، وهو يأكل عنبة واحدة ثم يفرق على أصحابه من الصبيان كل واحد عنبة، فتركه المعتضد وجلس ناحية في بيت مهوما.

فقلت له: ما لك يا أمير المؤمنين؟

فقال: ويحك والله لولا النار والعار لأقتلن هذا الغلام، فإن في قتله صلاحا للأمة.

فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك.

فقال: ويحك يا صافي هذا الغلام في غاية السخاء لما أراه يفعل مع الصبيان، فإن طباع الصبيان تأبى الكرم، وهذا في غاية الكرم، وإن الناس من بعدي لا يولون عليهم إلا من هو من ولدي، فسيلي عليهم المكتفي ثم لا تطول أيامه لعلته التي به - وهي داء الخنازير - ثم يموت فيلي الناس جعفر هذا الغلام، فيذهب جميع أموال بيت المال إلى الحظايا لشغفه بهن، وقرب عهده من تشبه بهن، فتضيع أمور المسلمين وتعطل الثغور وتكثر الفتن والهرج والخوارج والشرور.

قال صافي: والله لقد شاهدت ما قاله سواء بسواء.

وروى ابن الجوزي عن بعض خدم المعتضد قال: كان المعتضد يوما نائما وقت القائلة ونحن حول سريره، فاستيقظ مذعورا ثم صرح بنا فجئنا إليه، فقال: ويحكم اذهبوا إلى دجلة فأول سفينة تجدوها فارغة منحدرة فأتوني بملاحها واحتفظوا بالسفينة.

فذهبنا سراعا فوجدنا ملاحا في سميرية فارغة منحدرا، فأتينا به الخليفة فلما رأى الملاح الخليفة كاد أن يتلف، فصاح به الخليفة صيحة عظيمة فكادت روح الملاح تخرج فقال له الخليفة: ويحك يا ملعون، اصدقني عن قصتك مع المرأة التي قتلتها اليوم وإلا ضربت عنقك.

قال: فتلعثم، ثم قال: نعم يا أمير المؤمنين كنت اليوم سحرا في مشرعتي الفلانية، فنزلت امرأة لم أر مثلها وعليها ثياب فاخرة وحلي كثيرة وجوهر، فطمعت فيها واحتلت عليها فشددت فاها وغرقتها وأخذت جميع ما كان عليها من الحلي والقماش، وخشيت أن أرجع به إلى منزلي فيشتهر خبرها، فأردت الذهاب به إلى واسط فلقيني هؤلاء الخدم فأخذوني.

فقال: وأين حليها؟

فقال: في صدر السفينة تحت البواري.

فأمر الخليفة عند ذلك بإحضار الحلي، فجيء به فإذا هو حلي كثير يساوي أموالا كثيرة، فأمر الخليفة بتغريق الملاح في المكان الذي غرق فيه المرأة، وأمر أن ينادى على أهل المرأة ليحضروا حتى يتسلموا مال المرأة، فنادى بذلك ثلاثة أيام في أسواق بغداد وأزقتها فحضروا بعد ثلاثة أيام فدفع إليهم ما كان من الحلي وغيره مما كان للمرأة، ولم يذهب منه شيء.

فقال له خدمه: يا أمير المؤمنين من أين علمت هذا؟

قال: رأيت في نومي تلك الساعة شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي: يا أحمد يا أحمد، خذ أول ملاح ينحدر الساعة فاقبض عليه وقرره عن خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها، فأقم عليه الحد.

وكان ما شاهدتم.

وقال جعيف السمرقندي الحاجب: كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيري، إذ خرج علينا أسد فقصد قصدنا فقال لي المعتضد: يا جعيف أفيك خير اليوم؟

قلت: لا والله.

قال: ولا أن تمسك فرسي وأنزل أنا؟

فقلت: بلى.

قال: فنزل عن فرسه وغرز أطراف ثيابه في منطقته، واستل سيفه ورمى بقرابه إلي ثم تقدم إلى الأسد، فوثب الأسد عليه فضربه بالسيف فأطار يده فاشتغل الأسد بيده، فضربه ثانية على هامته ففلقها، فخر الأسد صريعا فدنا منه فمسح سيفه في صوفه، ثم أقبل إلي فأغمد سيفه في قرابه، ثم ركب فرسه فذهبنا إلى العسكر قال: وصحبته إلى أن مات فما سمعته ذكر ذلك لأحد، فما أدري من أي شيء أعجب؟من

من شجاعته أم من عدم احتفاله بذلك، حيث لم يذكره لأحد؟أم من عدم عتبه علي حيث ضننت بنفسي عنه؟والله ما عاتبني في ذلك قط.

وروى ابن عساكر عن أبي الحسين النوري: أنه اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاح فقال: ما هذا ولمن هذا؟

فقال له: هذه خمر للمعتضد.

فصعد أبو الحسين إليها فجعل يضرب الدنان بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دنا واحدا تركه، واستغاث الملاح فجاءت الشرطة فأخذوا أبا الحسين فأوقفوه بين يدي المعتضد فقال له: ما أنت؟

فقال: أنا المحتسب.

فقال: ومن ولاك الحسبة؟

فقال: الذي ولاك الخلافة يا أمير المؤمنين.

فأطرق رأسه ثم رفعها فقال: ما الذي حملك على ما فعلت؟

فقال: شفقة عليك لدفع الضرر عنك.

فأطرق رأسه ثم رفعه فقال: ولأي شيء تركت منها دنا واحدا لم تكسره؟

فقال: لأني إنما أقدمت عليها فكسرتها إجلالا لله تعالى، فلم أبال أحدا حتى انتهيت إلى هذا الدن، دخل نفسي إعجاب من قبيل أني قد أقدمت على مثلك فتركته، فقال له المعتضد: اذهب فقد أطلقت يدك فغير ما أحببت أن تغيره من المنكر.

فقال له النوري: الآن انتقض عزمي عن التغيير، فقال: ولم؟

فقال: لأني كنت أغير عن الله، وأنا الآن أغير عن شرطي.

فقال: سل حاجتك.

فقال: أحب أن تخرجني من بين يديك سالما.

فأمر فأخرج فصار إلى البصرة، فأقام بها مختفيا خشية أن يشق عليه أحد في حاجة عند المعتضد.

فلما توفي المعتضد رجع إلى بغداد.

وذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال: كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي، وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه ويأمر غلمانه يؤذونني، فاشتكيت عليه إلى الوزير فلم يفد ذلك شيئا، وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئا، وما زاده ذلك إلا منعا وجحودا، فأيست من المال الذي عليه ودخلني هم من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي، إذ قال لي رجل: ألا تأتي فلانا الخياط - إمام مسجد هناك - فقلت: وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم، وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه.

فقال لي: هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه، فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجا.

قال: فقصدته غير محتفل في أمره، فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم، فقام معي فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه، وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملا من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر، غير أنه قال له: ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت، فتغير لون الأمير ودفع إلى حقي.

قال التاجر: فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته، كيف أنطاع ذلك الأمير له، ثم إني عرضت عليه شيئا من المال فلم يقبل مني شيئا، وقال: لو أردت هذا لكان لي من الأموال ما لا يحصى.

فسألته عن خبره وذكرت له تعجبي منه وألححت عليه فقال: إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة، وهو شاب حسن، فمر به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها: يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج، وهذا الرجل يريدني على نفسي ويدخلني منزله، وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله، ومتى بت ها هنا طلقت منه، ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع.

قال الخياط: فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من يديه، فضربني بدبوس في يده فشج رأسي، وغلب المرأة على نفسها وأدخلها منزله قهرا، فرجعت أنا فغسلت الدم عنى وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء ثم قلت للجماعة: إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه، فقام الناس معي فهجمنا عليه داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس، وقصدني هو من بينهم فضربني ضربا شديدا مبرحا حتى أدماني، وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة، فرجعت إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء، فنمت على فراشي فلم يأخذني نوم، وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع على زوجها الطلاق، فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها، فصعدت المنارة وجعلت أنظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان هل أرى المرأة قد خرجت ثم أذنت فلم تخرج، ثم صممت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح، فبينا أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا، إذ امتلأت الطريق فرسانا ورجالة وهم يقولون: أين الذي أذن هذه الساعة؟

فقلت: ها أنا ذا، وأنا أريد أن يعينوني عليه، فقالوا: انزل فنزلت.

فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئا، حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالسا في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف، وفزعت فزعا شديدا، فقال: ادن، فدنوت فقال لي: ليسكن روعك وليهدأ قلبك.

وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي، فقال: أنت الذي أذنت هذه الساعة.

قلت: نعم يا أمير المؤمنين.

فقال: ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه؟

فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم.

فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري؟

قال: أنت آمن.

فذكرت له القصة.

قال: فغضب غضبا شديدا، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا، فأحضرا سريعا فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات، ومعهن ثقة من جهته أيضا، وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة.

ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فقال له: كم لك من الرزق؟وكم عندك من المال؟وكم عندك من الجوار والزوجات؟

فذكر له شيئا كثيرا.

فقال له: ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله، وتعديت حدوده، وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك أيضا حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته؟

فلم يكن له جواب.

فأمر به فجعل في رجله قيد، وفي عنقه غل، ثم أمر به فأدخل في جوالق ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضربا شديدا حتى خفت، ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به.

ثم أمر بدرا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال، ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط: كلما رأيت منكرا صغيرا كان أو كبيرا ولو على هذا - وأشار إلى صاحب الشرطة -فأعلمني، فإن اتفق اجتماعك بي وإلا فعلى ما بيني وبينك، الأذان، فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا.

قال: فلهذا لا آمر أحدا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه، ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن.

وذكر الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب قال: كنت يوما عند المعتضد، وخادم واقف على رأسه يذب عنه بمذبة في يده إذ حركها فجاءت في قلنسوة الخليفة فسقطت عن رأسه، فأعظمت أنا ذلك جدا وخفت من هول ما وقع، ولم يكترث الخليفة لذلك، بل أخذ قلنسوته فوضعها على رأسه ثم قال لبعض الخدم: مر هذا البائس ليذهب لراحته فإنه قد نعس، وزيدوا في عدة من يذب بالنوبة.

قال الوزير: فأخذنا في الثناء على الخليفة والشكر له على حلمه، فقال: إن هذا البائس لم يتعمد ما وقع منه وإنما نعس، وليس العتاب والمعاتبة إلا على المتعمد لا على المخطئ والساهي.

وقال جعيف السمرقندي الحاجب: لما جاء الخبر إلى المعتضد بموت وزيره عبيد الله بن سليمان خر ساجدا طويلا، فقيل له: يا أمير المؤمنين لقد كان عبيد الله يخدمك وينصح لك.

فقال: إنما سجدت شكرا لله أني لم أعزله ولم أوذه.

وقد كان ابن سليمان حازم الرأي قويا، وأراد أن يولي مكانه أحمد بن محمد بن الفرات، فعدل به بدر صاحب الشرطة عنه وأشار عليه بالقاسم بن عبيد الله فسفه رأيه، فألح عليه فولاه وبعث إليه يعزيه في أبيه ويهنيه بالوزارة، فما لبث القاسم بن عبيد الله حتى ولي المكتفي الخلافة من بعد أبيه المعتضد وحتى قتل بدرا.

وكان المعتضد ينظر إلى ما بينهما من العداوة من وراء ستر رقيق، وهذه فراسة عظيمة وتوسم قوي.

ورفع يوما إلى المعتضد قوما يجتمعون على المعصية، فاستشار وزيره في أمرهم فقال: ينبغي أن يصلب بعضهم ويحرق بعضهم.

فقال: ويحك لقد بردت لهب غضبي عليهم بقسوتك، أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأنه سائله عنها؟

ولم يقابلهم بما قال الوزير.

ولهذه النية لما ولي الخلافة كان بيت المال صفرا من المال، وكانت الأحوال فاسدة، والعرب تعيث في الأرض فسادا في كل جهة، فلم يزل برأيه وتسديده حتى كثرت الأموال وصلحت الأحوال في سائر الأقاليم والآفاق.

ومن شعره في جارية له توفيت فوجد عليها:

يا حبيبا لم يكن يع ** دله عندي حبيب

أنت عن عيني بعيد ** ومن القلب قريب

ليس لي بعدك في شي ** ء من اللهو نصيب

لك من قلبي على قلبي ** وإن غبت رقيب

وحياتي منك مذغب ** ت حياة لا تطيب

لو تراني كيف لي بع ** دك عول ونحيب

وفؤادي حشوه من ** حرق الحزن لهيب

ما أرى نفسي وإن طي ** بتها عنك تطيب

ليس دمع لي يعصي ** ني وصبري ما يجيب

وقال فيها: لم أبك للدار ولكن لمن ** قد كان فيها مرة ساكنا

فخانني الدهر بفقدانه ** وكنت من قبل له آمنا

ودعت صبري عنه تودعه ** وبان قلبي معه ظاعنا

وكتب إليه ابن المعتز يعزيه ويسليه عن مصيبته فيها:

يا إمام الهدى حياتك طالت ** وعشت أنت سليما

أنت علمتنا على النعم الشك ** ر وعند المصائب التسليما

فتسلى عن ما مضى وكأن التي ** كانت سرورا صارت ثوابا عظيما

قد رضينا بأن نموت وتحيى ** إن عندي في ذاك حظا جسيما

من يمت طائعا لمولاه فقد ** أعطي فوزا ومات موتا كريما

وقد رثى أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي بن عمر المعتضد بمرثاة حسنة يقول فيها:

يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ** وأنت والد سوء تأكل الولدا

أستغفر الله بل ذا كله قدر ** رضيت بالله ربا واحدا صمدا

يا ساكن القبر في غيراء مظلة ** بالظاهرية مقصى الدار منفردا

أين الجيوش التي قد كنت تشحنها ** أين الكنوز التي لم تحصها عددا

أين السرير الذي قد كنت تملؤه ** مهابة من رأته عينه ارتعدا

أين القصور التي شيدتها فعلت ** ولاح فيها سنا الإبريز فانقدا

قد أتعبوا كل مرقال مذكرة ** وجناء تنثر من أشداقها الزبدا

أين الأعادي الألى ذللت صعبهم ** أين الليوث التي صيرتها نقدا

أين الوفود على الأبواب عاكفة ** ورد القطا صفر ما جال واطردا

أين الرجال قياما في مراتبهم ** من راح منهم ولم يطمر فقد سعدا

أين الجياد التي حجلتها بدم ** وكن يحملن منك الضيغم الأسدا

أين الرماح التي غذيتها مَهجا ** مذ مت ما وردت قلبا ولا كبدا

أين السيوف وأين النبل مرسلة ** يصبن من شئت من قرب وإن بعدا

أين المجانيق أمثال السيول إذا ** رمين حائط حصن قائم قعدا

أين الفعال التي قد كنت تبدعها ** ولا ترى أن عفوا نافعا أبدا

أين الجنان التي تجري جداولها ** ويستجيب إليها الطائر الغردا

أين الوصائف كالغزلان رائحة** يسحبن من حلل موشية جددا

أين الملاهي وأين الراح تحسبها ** ياقوتة كسيت من فضة زردا

أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا ** صلاح ملك بني العباس إذ فسدا

ما زلت تقسر منهم كل قسورة ** وتحطم العاتي الجبار معتمدا

ثم انقضيت فلا عين ولا أثر ** حتى كأنك يوما لم تكن أحدا

لا شيء يبقى سوى خير تقدمه ** ما دام ملك لإنسان ولا خَلدا

ذكرها ابن عساكر في تاريخه.

واجتمع ليلة عند المعتضد ندماؤه، فلما انقضى السمر وصار إلى حظاياه ونام القوم السمار، نبههم من نومهم خادم وقال: يقول لكم أمير المؤمنين: إنه أصابه أرق بعدكم، وقد عمل بيتا أعياه ثانيه، فمن عمل ثانيه فله جائزة وهو هذا البيت:

ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ** إذا الدار قفر والمزار بعيد

قال: فجلس القوم من فرشهم يفكرون في ثانيه، فبدر واحد منهم فقال:

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ** لعل خيالا طارقا سيعود

قال: فلما رجع الخادم به إلى المعتضد، وقع منه موقعا جيدا وأمر له بجائزة سنية، واستعظم المعتضد يوما من بعض الشعراء قول الحسن بن منير المازني البصري:

لهفي على من أطار النوم فامتنعا ** وزاد قلبي على أوجاعه وجعا

كأنما الشمس من أعطافه طلعت ** حسنا أو البدر من أردانه لمعا

في وجه شافع يمحو إساءته ** من القلوب وجيها أين ما شفعا

ولما كان في ربيع الأول من هذه السنة اشتد وجع المعتضد، فاجتمع رؤوس الأمراء مثل يونس الخادم وغيره إلى الوزير القاسم بن عبيد الله، فأشاروا بأن يجتمع الناس لتجديد البيعة للمكتفي بالله علي بن المعتضد بالله، ففعل ذلك وتأكدت البيعة وكان في ذلك خير كثير.

وحين حضرت المعتضد الوفاة أنشد لنفسه:

تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ** وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا

ولا تأمنن الدهر إني ائتمنته ** فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقا

قتلت صناديد الرجال فلم أدع ** عدوا ولم أمهل على خلق خلقا

وأخليت دار الملك من كل نازع ** فشردتهم غربا ومزقتهم شرقا

فلما بلغت النجم عزا ورفعة ** وصارت رقاب الخلق لي أجمع رقا

رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ** فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ألقى

ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد ** لدى ملك إلا حباني حبها رفقا

وأفسدت دنياي وديني سفاهة ** فمن ذا الذي مثلي بمصرعه أشقا

فياليت شعري بعد موتي هل أصر ** إلى رحمة الله أم في ناره ألقى

وكانت وفاته ليلة الاثنين لثمان بقين من ربيع الأول من هذه السنة.

ولم يبلغ الخمسين.

وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما.

وخلف من الأولاد الذكور: عليا المكتفي، وجعفر المقتدر، وهارون.

ومن البنات إحدى عشرة بنتا.

ويقال: سبع عشرة بنتا.

وترك في بيت المال سبعة عشر ألف ألف دينار.

وكان يمسك عن صرف الأموال في غير وجهها، فلهذا كان بعض الناس يبخله، ومن الناس من يجعله من الخلفاء الراشدين المذكورين في الحديث، حديث جابر بن سمرة فالله أعلم.

خلافة المكتفي بالله أبي محمد

علي بن المعتضد بالله أمير المؤمنين، بويع بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الأول من هذه السنة، وليس في الخلفاء من اسمه علي سوى هذا وعلي بن أبي طالب.

وليس فيهم من يكنى بأبي محمد إلا هو والحسن بن علي بن أبي طالب والهادي، والمستضيء بالله.

وحين ولي المكتفي كثرت الفتن وانتشرت في البلاد.

وفي رجب منها زلزلت الأرض زلزلة عظيمة جدا، وفي رمضان منها تساقط وقت السحر من السماء نجوم كثيرة، ولم يزل الأمر كذلك حتى طلعت الشمس.

ولما أفضت الخلافة إليه كان بالرقة، فكتب إليه الوزير وأعيان الأمراء فركب فدخل بغداد في يوم مشهود، وذلك يوم

الاثنين لثمان خلون من جمادى منها.

وفي هذا اليوم أمر بقتل عمرو بن الليث الصفار - وكان معتقلا في سجن أبيه - وأمر بتخريب المطامير التي كان اتخذها أبوه للمسجونين، وأمر ببناء جامع مكانها، وخلع في هذا اليوم على الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان ست خلع وقلده سيفا، وكان عمره يوم ولي الخلافة خمسا وعشرين سنة وبعض أشهر.

وفيها: انتشرت القرامطة في الآفاق وقطعوا الطريق على الحجيج، وتسمى بعضهم بأمير المؤمنين.

فبعث المكتفي إليهم جيشا كثيرا، وأنفق فيهم أموالا جزيلة، فأطفأ الله بعض شرهم.

وفيها: خرج محمد بن هارون عن طاعة إسماعيل بن أحمد الساماني، وكاتب أهل الري بعد قتله محمد بن زيد الطالبي، فصار إليهم فسلموا البلد إليه فاستحوذ عليها، فقصده إسماعيل بن أحمد الساماني بالجيوش فقهره وأخرجه منها مذموما مدحورا.

قال ابن الجوزي في المنتظم: وفي يوم التاسع من ذي الحجة منها صلى الناس العصر في زمن الصيف وعليهم ثياب الصيف، فهبت ريح باردة جدا حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار، ولبسوا الفرا والمحشوات، وجمد الماء كفصل الشتاء.

قال ابن الأثير: ووقع بمدينة حمص مثل ذلك، وهب ريح عاصف بالبصرة، فاقتلعت شيئا كثيرا من نخيلها، وخسف بموضع فيها فمات تحته سبعة آلاف نسمة.

قال ابن الجوزي، وابن الأثير: وزلزلت بغداد في رجب منها مرات متعددة ثم سكنت.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

وفيها توفي من الأعيان: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أحد الصوفية الكبار.

قال ابن الأثير: وهو من أقران السري السقطي.

قال: لأن ترد إلى الله ذرة من همك خير لك مما طلعت عليه الشمس.

أحمد بن محمد المعتضد بالله، غلب عليه سوء المزاج والجفاف من كثرة الجماع، وكان الأطباء يصفون له ما يرطب بدنه له فيستعمل ضد ذلك حتى سقطت قوته.

بدر غلام المعتضد رأس الجيش

كان القاسم الوزير قد عزم على أن يصرف الخلافة عن أولاد المعتضد، وفاوض بذلك بدرا هذا فامتنع عليه وأبى، فلما ولي المكتفي بن المعتضد خاف الوزير غائلة ذلك، فحسّن الوزير للمكتفي قتل بدر هذا، فبعث المكتفي فاحتاط على حواصله وأمواله وهو بواسط، وبعث الوزير إليه بالأمان، فلما قدم بدر بعث إليه من قتله يوم الجمعة لست خلون من رمضان من هذه السنة، ثم قطع رأسه وبقيت جثته أخذها أهله، فبعثوا بها إلى مكة في تابوت فدفن بها، لأنه أوصى بذلك وكان قد أعتق كل مملوك له قبل وفاته.

وحين أرادوا قتله صلى ركعتين رحمه الله.

الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الفهم بن مجرز بن إبراهيم الحافظ البغدادي

سمع خلف بن هشام ويحيى بن معين ومحمد بن سعد وغيرهم، وعنه الحنطبي والطوماري، وكان عسرا في التحديث إلا لمن لازمه، وكانت له معرفة جيدة بالأخبار والنسب والشعر وأسماء الرجال، يميل إلى مذهب العراقيين في الفقه، قال عنه الدارقطني: ليس بالقوي.

عمارة بن وثيمة بن موسى أبو رفاعة الفارسي، صاحب التاريخ على السنن، ولد بمصر وحدث عن أبي صالح كاتب الليث وغيره.

عمرو بن الليث الصفار أحد الأمراء الكبار، قتل في السجن أول ما قدم المكتفي بغداد.

ثم دخلت سنة تسعين ومائتين

فيها أقبل يحيى بن زكرويه بن مهرويه أبو قاسم القرمطي المعروف بالشيخ في جحافله، فعاث بناحية الرقة فسادا فجهز إليه الخليفة جيشا نحو عشرة آلاف فارس.

وفيها: ركب الخليفة من بغداد إلى سامرا يريد الإقامة بها، فثنى رأيه عن ذلك الوزير فرجع إلى بغداد.

وفيها: قتل يحيى بن زكرويه على باب دمشق، زرقه رجل من المغاربة بمزراق نار فقتله، ففرح الناس بقتله، وتمكن منه المزراق فأحرقه، وكان هذا المغربي من جملة جيش المصريين، فقام بأمر القرامطة من بعده أخوه الحسين وتسمى بأحمد، وتكنى بأبي العباس، وتلقب بأمير المؤمنين، وأطاعه القرامطة، فحاصر دمشق فصالحه أهلها على مال، ثم سار إلى حمص فافتتحها وخطب له على منابرها، ثم سار إلى حماه ومعرة النعمان فقهر أهل تلك النواحي، واستباح أموالهم وحريمهم، وكان يقتل الدواب والصبيان في المكاتب، ويبيح لمن معه وطء النساء، فربما وطئ الواحدة الجماعة الكثيرة من الرجال، فإذا ولدت ولدا هنأ به كل واحد منهم الآخر، فكتب أهل الشام إلى الخليفة ما يلقون من هذا اللعين، فجهز إليهم جيوشا كثيفة، وأنفق فيهم أموالا جزيلة، وركب في رمضان فنزل الرقة وبث الجيوش في كل جانب لقتال القرامطة، وكان القرمطي هذا يكتب إلى أصحابه: (من عبد الله المهدي أحمد بن عبد الله المهدي المنصور، الناصر لدين الله، القائم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، الذاب عن حريم الله، المختار من ولد رسول الله) وكان يدعي أنه من سلالة علي بن أبي طالب من فاطمة، وهو كاذب أفاك أثيم قبحه الله، فإنه كان من أشد الناس عداوة لقريش، ثم لبني هاشم، دخل سلمية فلم يدع بها أحدا من بني هاشم حتى قتلهم وقتل أولادهم واستباح حريمهم.

وفيها: تولى ثغر طرسوس أبو عامر أحمد بن نصر عوضا عن مظفر بن جناح لشكوى أهل الثغر منه.

وحج بالناس الفضل بن محمد العباسي.

وفيها توفي من الأعيان:

عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل

أبو عبد الرحمن الشيباني، كان إماما ثقة حافظا ثبتا مكثرا عن أبيه وغيره.

قال ابن المنادي: لم يكن أحد أروى عن أبيه منه.

روى عنه المسند ثلاثين ألفا، والتفسير مائة ألف حديث وعشرون ألفا، من ذلك سماع ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسخ والمنسوخ، والمقدم والمؤخر في كتاب الله، والتاريخ وحديث سبعة، وكرامات القراء، والمناسك الكبير، والصغير.

وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخ.

قال: وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها، ويذكرون عن أسلافهم الإقرار له بذلك، حتى أن بعضهم أرف في تقريظه له بالمعرفة وزيادة السماع للحديث عن أبيه.

ولما مرض قيل له: أين تدفن؟

فقال: صح عندي أن بالقطعية نبيا مدفونا، ولأن أكون بجوار نبي أحب إلي من أن أكون في جوار أبي.

مات في جمادى الآخرة منها عن سبع وسبعين سنة، كما مات لها أبوه، واجتمع في جنازته خلق كثير من الناس، وصلى عليه زهير ابن أخيه، ودفن في مقابر باب التين رحمه الله تعالى.

عبد الله بن أحمد بن سعيد أبو بحر الرباطي المروزي، صحب أبا تراب النخشبي، وكان الجنيد يمدحه ويثني عليه.

عمر بن إبراهيم أبو بكر الحافظ المعروف بأبي الأذان، كان ثقة ثبتا.

محمد بن الحسين بن الفرج أبو ميسرة الهمداني، صاحب المسند، كان أحد الثقات المشهورين والمصنفين.

محمد بن عبد الله أبو بكر الدقاق

أحد أئمة الصوفية وعبادهم، روى عن الجنيد أنه قال: رأيت إبليس في المنام وكأنه عريان، فقلت: ألا تستحي من الناس؟

فقال - وهو لا يظنهم ناسا -: لو كانوا ناسا ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة، إنما الناس جماعة غير هؤلاء.

فقلت: أين هم؟

فقال: في مسجد الشونيزي، قد أضنوا قلبي وأتعبوا جسدي، كلما هممت بهم أشاروا إلى الله عز وجل فأكاد أحترق.

قال: فلما انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر، فإذا فيه ثلاثة جلوس ورؤوسهم في مرقعاتهم، فرفع أحدهم رأسه إليّ وقال: يا أبا القاسم لا تغتر بحديث الخبيث، وأنت كلما قيل لك شيء تقبل؟

فإذا هم أبو بكر الدقاق، وأبو الحسين النوري، وأبو حمزة محمد بن علي بن علوية بن عبد الله الجرجاني الفقيه الشافعي تلميذ المزني.

ذكره ابن الأثير.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين

فيها جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة، فهزموا القرامطة وأسروا رئيسهم الحسن بن زكرويه، ذا الشامة، فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤوسهم وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة فأجلس عليها وجيء بأصحابه فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر، وقد جعل في فمه خشبة معترضة مشدودة إلى قفاه، ثم أنزل فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوي، ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به في أرجاء بغداد، وذلك في ربيع الأول منها.

وفيها: قصدت الأتراك بلاد ما وراء النهر في حجافل عظيمة، فبيتهم المسلمون فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وسبوا منهم ما لا يحصون { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا } [الأحزاب: 25] .

وفيها: بعث ملك الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف، فغاروا على أطراف البلاد وقتلوا خلقا وسبوا نساء وذرية.

وفيها: دخل نائب طرسوس بلاد الروم، ففتح مدينة أنطاكية - وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر تعادل عندهم القسطنطينية - وخلّص من أسارى المسلمين خمسة آلاف أسير، وأخذ للروم ستين مركبا، وغنم شيئا كثيرا، فبلغ نصيب كل واحد من الغزاة ألف دينار.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار

أبو العباس الشيباني مولاهم، الملقب بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، مولده في سنة مائتين، سمع محمد بن زياد الأعرابي والزبير بن بكار والقواريري وغيرهم، وعنه ابن الأنباري وابن عرفة وأبو عمرو الزاهد، وكان ثقة حجة دينا صالحا مشهورا بالصدق والحفظ، وذكر أنه سمع من القواريري مائة ألف حديث.

توفي يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى منها، عن إحدى وتسعين سنة.

قال ابن خلكان: وكان سبب موته أنه خرج من الجامع وفي يده كتاب ينظر فيه، وكان قد أصابه صمم شديد فصدمته فرس، فألقته في هوة فاضطرب دماغه فمات في اليوم الثاني رحمه الله.

وهو مصنف كتاب (الفصيح)، وهو صغير الحجم كثير الفائدة، وله كتاب (المصون) و(اختلاف النحويين) و(معاني القرآن) وكتاب (القراءات) و(معاني الشعر وما يلحن فيه العامة) وغير ذلك، وقد نسب إليه من الشعر قوله:

إذا كنت قوتَ النفس ثم هجرتها ** فكم تلبث النفس التي أنت قوتها

سيبقى بقاء النبت في الماء أو كما ** أقام لدى ديمومة الماء صوتها

أغرك أني قد تصبرت جاهدا ** وفي النفس مني منك ما سيميتها

فلو كان ما بي بالصخور لهدها ** وبالريح ما هبت وطال حفوفها

فصبرا لعل الله يجمع بيننا ** فأشكو هموما منك فيك لقيتها

وفيها: توفي

القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير

تولى بعد أبيه الوزارة في آخر أيام المعتضد، ثم تولى لولده المكتفي، فلما كان رمضان من هذه السنة مرض فبعث إلى السجون فأطلق من فيها من المطلبيين، ثم توفي في ذي القعدة منها، وقد قارب ثلاثا وثلاثين سنة، وقد كان حظيا عند الخليفة، وخلف من الأموال ما يعدل سبعمائة ألف دينار.

محمد بن محمد بن إسماعيل بن شداد أبو عبد الله البصري

القاضي بواسط، المعروف بالجبروعي، حدث عن مسدد وعن علي بن المديني وابن نمير وغيرهم، وكان من الثقات والقضاة الأجواد العدول الأمناء.

ومحمد بن إبراهيم البوشنجي.

ومحمد بن علي الصايغ.

وقنبل أحد مشاهير القراء، وأئمة العلماء.

ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائتين

فيها: دخل محمد بن سليمان في نحو عشرة آلاف مقاتل من جهة الخليفة المكتفي إلى الديار المصرية لقتال هارون بن خمارويه، فبرز إليه هارون فاقتتلا فقهره محمد بن سليمان، وجمع آل طولون وكانوا سبعة عشر رجلا فقتلهم واستحوذ على أموالهم وأملاكهم.

وانقضت دولة الطولونية على الديار المصرية، وكتب بالفتح إلى المكتفي.

وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي، القائم بأمر الحجاج في السنين المتقدمة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي

أحد المشايخ المعمرين، كان يحضر مجلسه خمسون ألفا ممن معه محبرة سوى النظارة، ويستملي عليه سبعة مستملين كل يبلغ صاحبه، ويكتب بعض الناس وهم قيام، وكان كلما حدث بعشرة آلاف حديث تصدق بصدقة، ولما فرغ من قراءة السنن عليه عمل مأدبة غرم عليها ألف دينار، وقال: شهدت اليوم على رسول الله ﷺ فقبلت شهادتي وحدي، أفلا أعمل شكرا لله عز وجل؟

وروى ابن الجوزي والخطيب عن أبي مسلم الكجي قال: خرجت ذات ليلة من المنزل، فمررت بحمام وعلي جنابة فدخلته فقلت للحمّامي: أدخل حمامك أحد بعد؟

فقال: لا.

فدخلت فلما فتحت باب الحمام الداخل إذا قائل يقول: أبا مسلم أسلم تسلم.

ثم أنشأ يقول:

لك الحمد إما على نعمة ** وإما على نقمة تدفع

تشاء فتفعل ما شئته ** وتسمع من حيث لا يسمع

قال: فبادرت فخرجت فقلت للحمامي: أنت زعمت أنه لم يدخل حمامك أحد.

فقال: نعم ! وما ذاك؟

فقلت: إني سمعت قائلا يقول كذا وكذا.

قال: وسمعته؟

قلت: نعم.

فقال: يا سيدي هذا رجل من الجان يتبدى لنا في بعض الأحيان فينشد الأشعار ويتكلم بكلام حسن فيه مواعظ.

فقلت: هل حفظت من شعره شيئا؟

فقال: نعم.

ثم أنشدني من شعره فقال هذه الأبيات:

أيها المذنب المفرط مهلا ** كم تمادى تكسب الذنب جهلا

كم وكم تسخط الجليل بفعل ** سمج وهو يحسن الصنع فعلا

كيف تهدا جفون من ليس يدري ** أرضيَ عنه من على العرش أم لا

عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حاتم القاضي الحنفي، كان من خيار القضاة وأعيان الفقهاء ومن أئمة العلماء، ورعا نزها كثير الصيانة والديانة والأمانة.

وقد ذكر له ابن الجوزي في المنتظم آثارا حسنة وأفعالا جميلة رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين

فيها: التف على أخي الحسين القرمطي المعروف بذي الشامة الذي قتل في التي قبلها خلائق من القرامطة بطريق الفرات، فعاث بهم في الأرض فسادا، ثم قصد طبرية فامتنعوا منه فدخلها قهرا، فقتل بها خلقا كثيرا من الرجال، وأخذ شيئا كثيرا من الأموال، ثم كرّ راجعا إلى البادية، ودخلت فرقة أخرى منهم إلى هيت فقتلوا أهلها إلا القليل، وأخذوا منها أموالا جزيلة حملوها على ثلاثة آلاف بعير، فبعث إليهم المكتفي جيشا فقاتلوهم وأخذوا رئيسهم فضربت عنقه.

ونبغ رجل من القرامطة يقال له: الداعية باليمن، فحاصر صنعاء فدخلها قهرا، وقتل خلقا من أهلها، ثم سار إلى بقية مدن اليمن فأكثر الفساد وقتل خلقا من العباد، ثم قاتله أهل صنعاء فظفروا به وهزموه، فأغار على بعض مدنها، وبعث الخليفة إليها مظفر بن حجاج نائبا، فسار إليها فلم يزل بها حتى مات.

وفي يوم عيد الأضحى دخلت طائفة من القرامطة إلى الكوفة فنادوا: يا ثارات الحسين - يعنون المصلوب في التي قبلها ببغداد - وشعارهم: يا أحمد يا محمد - يعنون الذين قتلوا معه - فبادر الناس الدخول من المصلى إلى الكوفة فدخلوا خلفهم فرمتهم العامة بالحجارة فقتلوا منهم نحو العشرين رجلا، ورجع الباقون خاسئين.

وفيها: ظهر رجل بمصر يقال له: الخليجي، فخلع الطاعة واجتمع إليه طائفة من الجند، فأمر الخليفة أحمد بن كنغلغ نائب دمشق وأعمالها فركب إليه فاقتتلا بظاهر مصر فهزمه الخليجي هزيمة منكرة، فبعث إليه الخليفة جيشا آخر فهزموا الخليجي وأخذوه، فسلم إلى الأمير الخليفة وانطفأ خبره، واشتغل الجيش بأمر الديار المصرية، فبعث القرامطة جيشا إلى بصرى صحبة رجل يقال له: عبد الله بن سعيد، كان يعلم الصبيان، فقصد بصرى وأذرعات والبثنية فحاربه أهلها ثم أمنهم فلما أن تمكن منهم قتل المقاتلة وسبى الذرية، ورام الدخول إلى دمشق فحاربه نائب دمشق أحمد بن كنغلغ، وهو صالح بن الفضل، فهزمه القرمطي وقتل صالح فيمن قتل وحاصر دمشق فلم يمكنه فتحها، فانصرف إلى طبرية فقتلوا أكثر أهلها ونهبوا منها شيئا كثيرا كما ذكرنا.

ثم ساروا إلى هيت ففعلوا بها ذلك كما تقدم، ثم ساروا إلى الكوفة في يوم عيد الأضحى كما ذكرنا.

كل ذلك بإشارة زكرويه بن مهرويه وهو مختف في بلده بين ظهراني قوم من القرامطة، فإذا جاءه الطلب نزل بئرا قد اتخذها ليختفي فيها، وعلى بابه تنور فتقوم امرأة فتسجره وتخبز فيه فلا يشعر به أصلا، ولا يدري أحد أين هو، فبعث الخليفة إليه جيشا فقاتلهم زكرويه بنفسه ومن أطاعه فهزم جيش الخليفة، وغنم من أموالهم شيئا كثيرا جدا فتقوى به، واشتد أمره، فندب الخليفة إليه جيشا آخر كثيفا فكان من أمره وأمرهم ما سنذكره.

وفيها: خرب إسماعيل بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر طائفة كبيرة من بلاد الأتراك.

وفيها: أغارت الروم على بعض أعمال حلب، فقتلوا ونهبوا وسبوا.

وفيها حج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو العباس الناشي الشاعر

واسمه عبد الله بن محمد أبو العباس المعتزلي، أصله من الأنبار وأقام ببغداد مدة ثم انتقل إلى مصر فمات بها، وكان جيد الذهن يعاكس الشعراء ويرد على المنطقيين والفروضيين، وكان شاعرا مطيقا إلا أنه كان فيه هوس، وله قصيدة حسنة في نسب رسول الله ﷺ قد ذكرناها في السيرة.

قال ابن خلكان: كان عالما في عدة علوم، من جملتها علم المنطق، وله قصيدة في فنون من العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وله عدة تصانيف وأشعار كثيرة.

عبيد بن محمد بن خلف أبو محمد البزار

أحد الفقهاء من أصحاب أبي ثور، وكان عنده فقه أبي ثور، وكان من الثقات النبلاء.

نصر بن أحمد بن عبد العزيز أبو محمد الكندي الحافظ المعروف بنصرك، كان أحد حفاظ الحديث المشهورين، وكان الأمير خالد بن أحمد الذهلي نائب بخارى قد ضمه إليه وصنف له المسند.

توفي ببخارى في هذه السنة.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين

في المحرم من هذه السنة اعترض زكرويه في أصحابه إلى الحجاج من أهل خراسان وهم قافلون من مكة فقتلهم عن آخرهم، وأخذ أموالهم وسبى نساءهم فكان قيمة ما أخذه منهم ألفي ألف دينار، وعدة من قتل عشرين ألف إنسان، وكانت نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحجاج وفي أيديهم الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان، فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه، لعنهن الله ولعن أزواجهن.

ذكر مقتل زكرويه لعنه الله

لما بلغ الخليفة خبر الحجيج وما أوقع بهم الخبيث، جهز إليه جيشا كثيفا، فالتقوا معه فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، قتل من القرامطة خلق كثير ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك في أول ربيع الأول منها.

وضرب رجل زكرويه بالسيف في رأسه فوصلت الضربة إلى دماغه، وأخذ أسيرا فمات بعد خمسة أيام، فشقوا بطنه وصّبروه وحملوه في جماعة من رؤوس أصحابه إلى بغداد، واحتوى عسكر الخليفة على ما كان بأيدي القرامطة من الأموال والحواصل، وأمر الخليفة بقتل أصحاب القرمطي وأن يطاف برأسه في سائر بلاد خراسان، لئلا يمتنع الناس عن الحج.

وأطلق من كان بأيدي القرامطة من النساء والصبيان الذين أسروهم.

وفيها: غزا أحمد بن كنغلغ نائب دمشق بلاد الروم من ناحية طرسوس، فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف، وأسر من ذراريهم نحوا من خمسين ألفا، وأسلم بعض البطارقة وصحبته ونحو من مائتي أسير كانوا في حبسه من المسلمين، فأرسل ملك الروم جيشا في طلب ذلك البطريق، فركب في جماعة من المسلمين فكبس جيش الروم فقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم غنيمة كثيرة جدا، ولما قدم على الخليفة أكرمه وأحسن إليه وأعطاه ما تمناه عليه.

وفيها: ظهر بالشام رجل فادعى أنه السفياني، فأخذ وبعث به إلى بغداد فادعى أنه موسوس فترك.

وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.

وفيها توفي من الأعيان: الحسين بن محمد بن حاتم بن يزيد بن علي بن مروان أبو علي، المعروف بعبيد العجلي، كان حافظا مكثرا متقنا مقدما في حفظ المسندات، توفي في صفر منها.

صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي الأسدي

أسد خزيمة - المعروف بجزرة لأنه قرأ على بعض المشايخ كانت له خرزة يرقأ بها المريض، فقرأها هو جزرة تصحيفا منه فغلب عليه ذلك فلقب به، وقد كان حافظا مكثرا جوّالا رحالا طاف الشام ومصر وخراسان، وسكن بغداد ثم انتقل منها إلى بخارى فسكنها، وكان ثقة صدوقا أمينا، وله رواية كثيرة عن يحيى بن معين وسؤالات كثيرة، كان مولده بالرقة سنة عشر ومائتين.

وتوفي في هذه السنة: محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف بالبياضي===

لأنه حضر مجلس الخليفة وعليه ثياب البياض، فقال الخليفة: من ذاك البياضي؟

فعُرف به.

وكان ثقة روى عن ابن الأنباري وابن مقسم.

قتله القرامطة في هذه السنة.

محمد بن الإمام إسحاق بن راهويه

سمع أباه وأحمد بن حنبل وغيرهما، وكان عالما بالفقه والحديث، جميل الطريقة حميد السيرة قتلته القرامطة في هذه السنة في جملة من قتلوا من الحجيج.

محمد بن نصر أبو عبد الله المروزي

ولد ببغداد ونشأ بنيسابور واستوطن سمرقند، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام، وكان عالما بالأحكام، وقد رحل إلى الآفاق وسمع من المشايخ الكثير النافع وصنف الكتب المفيدة الحافلة النافعة، وكان من أحسن الناس صلاة وأكثرهم خشوعا فيها، وقد صنف كتابا عظيما في الصلاة.

وقد روى الخطيب عنه أنه قال: خرجت من مصر قاصدا مكة، فركبت البحر ومعي جارية فغرقت السفينة فذهب لي في الماء ألفا جزء وسلمت أنا والجارية فلجأنا إلى جزيرة فطلبنا بها ماء فلم نجد، فوضعت رأسي على فخذ الجارية ويئست من الحياة، فبينا أنا كذلك إذا رجل قد أقبل وفي يده كوز فقال: هاه، فأخذته فشربت منه وسقيت الجارية ثم ذهب فلم أدر من أين أقبل ولا إلى أين ذهب.

ثم إن الله سبحانه أغاثنا فنجانا من ذلك الغم.

وقد كان من أكرم الناس وأسخاهم نفسا.

وكان إسماعيل بن أحمد يصله في كل سنة بأربعة آلاف، ويصله أخوه إسحاق بن أحمد بأربعة آلاف، ويصله أهل سمرقند بأربعة آلاف فينفق ذلك كله، فقيل له: لو ادخرت شيئا لنائبة.

فقال: سبحان الله أنا كنت بمصر أنفق فيها في كل سنة عشرين درهما فرأيت إذا لم يحصل لي شيء من هذا المال لا يتهيأ لي في السنة عشرون درهما.

وكان محمد بن نصر المروزي إذا دخل على إسماعيل بن أحمد الساماني ينهض له ويكرمه، فعاتبه يوما أخوه إسحاق، فقال له: تقوم لرجل في مجلس حكمك، وأنت ملك خراسان؟

قال إسماعيل: فبت تلك الليلة وأنا مشتت القلب من قول أخي - وكانوا هم ملوك خراسان وما وراء النهر - قال: فرأيت رسول الله ﷺ في المنام وهو يقول: يا إسماعيل ثبت ملكك وملك بنيك بتعظيمك محمد بن نصر، وذهب ملك أخيك باستخفافه بمحمد بن نصر. وقد اجتمع بالديار المصرية محمد بن نصر.

محمد بن جرير الطبري

ومحمد بن المنذر، فجلسوا في بيت يكتبون الحديث ولم يكن عندهم في ذلك اليوم شيء يقتاتونه، فاقترعوا فيما بينهم أيهم يخرج يسعى لهم في شيء يأكلونه، فوقعت القرعة على محمد بن نصر هذا، فقام إلى الصلاة فجعل يصلي ويدعو الله عز وجل، وذلك وقت القائلة، فرأى نائب مصر - وهو طولون وقيل: أحمد بن طولون - في منامه في ذلك الوقت رسول الله ﷺ وهو يقول له:

أدرك المحدثين فإنهم ليس عندهم ما يقتاتونه.

فانتبه من ساعته فسأل من: ها هنا من المحدثين؟

فذكر له هؤلاء الثلاثة، فأرسل إليهم في الساعة الراهنة بألف دينار، فدخل الرسول بها عليهم وأزال الله ضررهم ويسر أمرهم.

واشترى طولون تلك الدار وبناها مسجدا وجعلها على أهل الحديث، وأوقف عليها أوقافا جزيلة.

وقد بلغ محمد بن نصر سنا عالية وكان يسأل الله ولدا فأتاه يوما إنسان فبشره بولد ذكر، فرفع يديه فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل، فاستفاد الحاضرون من ذلك عدة فوائد: منها أنه قد ولد له على الكبر ولد ذكر بعد ما كان يسأل الله عز وجل، ومنها أنه سمي يوم مولده كما سمى رسول الله ﷺ ولده إبراهيم يوم مولده قبل السابع، ومنها اقتداؤه بالخليل أول ولد له إسماعيل.

موسى بن هارون بن عبد الله أبو عمران

المعروف والده بالحمال، ولد سنة أربع عشرة ومائتين، وسمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وكان إمام عصره في حفظ الحديث ومعرفة الرجال، وكان ثقة متقنا شديد الورع عظيم الهيبة، قال عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري: كان أحسن الناس كلاما على الحديث، أثنى عليه علي بن المديني ثم موسى بن هارون ثم الدارقطني.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين

فيها: كانت المفاداة بين المسلمين والروم، وكان من جملة من استنقذ من أيدي الروم من نساء ورجال نحوا من ثلاثة آلاف نسمة، وفي المنتصف من صفر منها كانت وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني أمير خراسان وما وراء النهر، وقد كان عاقلا عادلا حسن السيرة في رعيته حليما كريما.

وهو الذي كان يحسن إلى محمد بن نصر المروزي ويعظمه ويكرمه ويحترمه ويقوم له في مجلس ملكه، فلما مات تولى بعده ولده أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني وبعث إليه الخليفة تشريفة.

وقد ذكر الناس يوما عند إسماعيل بن أحمد هذا الفخر بالأنساب فقال: إنما الفخر بالأعمال وينبغي أن يكون الإنسان عصاميا لا عظاميا - أي ينبغي أن يفتخر بنفسه لا بنسبه وبلده وجده - كما قال بعضهم: (وبجدِّي سموت لا بجدودي).

وقال آخر:

حسبي فخارا وشيمتي أدبي ** ولست من هاشم ولا العرب

إنّ الفتى من يقولُ ها أنا ذا ** وليس الفتى من يقولُ كانَ أبي

وفي ذي القعدة منها كانت وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد.

وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد ابن المعتضد

وهذه ترجمته وذكر وفاته، وهو أمير المؤمنين المكتفي بالله بن المعتضد بن الأمير أبي أحمد الموفق بن المتوكل على الله، وقد ذكرنا أنه ليس من الخلفاء من اسمه علي سواه بعد علي بن أبي طالب، وليس من الخلفاء من يكنى بأبي محمد سوى الحسن بن علي بن أبي طالب وهو، وكان مولده في رجب سنة أربع وستين ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أبيه وفي حياته يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وعمره نحوا من خمس وعشرين سنة، وكان ربعة من الرجال جميلا رقيق الوجه حسن الشعر، وافر اللحية عريضها.

ولما مات أبوه المعتضد وولي هو الخلافة دخل عليه بعض الشعراء فأنشده:

أجلُ الرزايا أن يموتَ إمام ** وأسنى العطايا أن يقومَ إمامُ

فأسقى الذي مات الغمام وجوده ** ودامت تحيات له وسلامُ.

وأبقى الذي قامَ الآله وزاده ** مواهبُ لا يفنى لهنَّ دوام

وتمت له الآمالُ واتصلت بها ** فوائد موصول بهنَّ تمتم

هو المكتفي بالله يكفيه كلما ** عناهُ بركنٍ منه ليسَ برام

فأمر له بجائزة سنية وقد كان يقول الشعر، فمن ذلك قوله:

من لي بأن أعلم ما ألقى ** فتعرف مني الصبابة والعشقا

ما زال لي عبدا وحبي له ** صيرني عبدا له رقا

العتق من شأني ولكنني ** من حبِّه لا أملكُ العتقا

وكان نقش خاتمه: علي المتوكل على ربه.

وكان له من الولد محمد وجعفر وعبد الصمد وموسى و عبد الله وهارون والفضل وعيسى والعباس وعبد الملك.

وفي أيامه فتحت أنطاكية وكان فيها من أسارى المسلمين بشر كثير وجم غفير، ولما حضرته الوفاة سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر بن المعتضد وقد صح عنده أنه بالغ، فأحضره في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة منها وأحضر القضاة وأشهدهم على نفسه بأنه قد فوض أمر الخلافة إليه من بعده، ولقبه بالمقتدر بالله.

وتوفي بعد ثلاثة أيام وقيل: آخر يوم السبت بعد المغرب، وقيل: بين الظهر والعصر، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، ودفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، عن ثنتين وقيل: ثلاث وثلاثين سنة، وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوما.

وأوصى بصدقة من خالص ماله ستمائة ألف دينار، وكان قد جمعها وهو صغير، وكان مرضه بداء الخنازير رحمه الله.

خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد

جددت له البيعة بعد موت أخيه وقت السحر لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة من هذه السنة - أعني سنة خمس وتسعين ومائتين - وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة وشهر واحد وإحدى وعشرون يوما، ولم يل الخلافة أحد قبله أصغر منه، ولما جلس في منصب الخلافة صلى أربع ركعات ثم سلم ورفع صوته بالدعاء والاستخارة، ثم بايعه الناس بيعة العامة، وكتب اسمه على الرقوم وغيرها: المقتدر بالله، وكان في بيت مال الخاصة خمسة عشر ألف ألف دينار، وفي بيت مال العامة ستمائة ألف دينار ونيف، وكانت الجواهر الثمينة في الحواصل من لدن بني أمية وأيام بني العباس قد تناهى جمعها، فما زال يفرقها في حظاياه وأصحابه حتى أنفذها، وهذا حال الصبيان وسفهاء الولاة، وقد استوزر جماعة من الكتاب يكثر تعدادهم، منهم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات، ولاّه ثم عزله بغيره، ثم أعاده ثم عزله ثم قتله، وقد استقصى ذكرهم ابن الجوزي.

وكان له من الخدم والحشمة التامة والحجّاب شيء كثير جدا، وكان كريما وفيه عبادة مع هذا كله كان كثير الصلاة كثير الصيام تطوعا، وفي يوم عرفة في أول ولايته فرق من الأغنام والأبقار ثلاثين ألف رأس، ومن الإبل ألفي بعير، وردّ الرسوم والأرزاق والكلف إلى ما كانت عليه في زمن الأوائل من بني العباس، وأطلق أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، فوكل أمر ذلك إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، وكان قد بنيت له أبنية في الرحبة صرف عليها في كل شهر ألف دينار، فأمر بهدمها ليوسع على المسلمين الطرقات، وسيأتي ذكر شيء من أيامه في ترجمته.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو إسحاق المزكي

إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه بن عبد الله أبو إسحاق المزكي، الحافظ الزاهد، إمام أهل عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرجال والعلل، وقد سمع خلقا من المشايخ الكبار، ودخل على الإمام أحمد وذاكره، وكان مجلسه مهيبا ويقال: إنه كان مجاب الدعوة، وكان لا يملك الإداره التي يسكنها وحانوتا يستغله كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على نفسه وعياله، وكان لا يقبل من أحد شيئا، وكان يطبخ له الجزر بالخل فيأتدم به طول الشتاء، وقد قال أبو علي الحسين بن علي الحافظ: لم ترَ عيناي مثله.

أبو الحسين النوري

أحد أئمة الصوفية اسمه أحمد بن محمد، ويقال: محمد بن محمد، والأول أصح ويعرف بابن البغوي، أصله من خراسان وحدّث عن سرى السقطي ثم صار هو من أكابر أئمة القوم، قال أبو أحمد المغازلي: ما رأيت أحدا قط أعبد من أبي الحسين النوري، قيل له: ولا الجنيد؟

قال: ولا الجنيد ولا غيره.

وقال غيره: صام عشرين سنة لا يعلم به أحد لا من أهله ولا من غيره.

وتوفي في مسجد وهو مقنّع فلم يعلم به أحد إلا بعد أربعة أيام.

إسماعيل بن أحمد بن سامان

أحد ملوك خراسان وهو الذي قتل عمرو بن الليث الصفار الخارجي، وكتب بذلك إلى المعتضد فولاّه خراسان ثم ولاّه المكتفي الري وما وراء النهر وبلاد الترك، وقد غزا بلادهم وأوقع بهم بأسا شديدا، وبنى الربط في الطرقات يسع الرباط منها ألف فارس، وأوقف عليهم أوقافا جزيلة، وقد أهدى إليه طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث هدايا جزيلة منها ثلاث عشرة جوهرة زنة كل جوهرة منها ما بين السبع مثاقيل إلى العشرة، وبعضها أحمر وبعضها أزرق قيمتها مائة ألف دينار، فبعث بها إلى الخليفة المعتضد وشفع في طاهر فشفعه فيه.

ولما مات إسماعيل بن أحمد وبلغ المكتفي موته تمثّل بقول أبي نواس:

لن يخلفَ الدهر مثلهم أبدا ** هيهاتِ هيهاتِ شأنهُ عجبُ

المعمري الحافظ

صاحب عمل اليوم والليلة، وهو الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري الحافظ، رحل وسمع من الشيوخ وأدرك خلقا منهم علي بن المديني ويحيى بن معين، وعنه ابن صاعد والنجاد والجلدي، وكان من بحور العلم وحفاظ الحديث، صدوقا ثبتا، وقد كان يشبك أسنانه بالذهب من الكبر، لأنه جاوز الثمانين، وكان يكنى أولا بأبي القاسم، ثم بأبي علي، وقد ولي القضاء للبرتي على القصر وأعمالها وإنما قيل له المعمري بأمه أم الحسن بنت أبي سفيان صاحب معمر بن راشد.

وقد صنف المعمري كتابا جيدا في عمل يوم وليلة، واسمه الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري، توفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم.

عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب واسم أبي شعيب عبد الله بن مسلم أبو شعيب الأموي الحرَّاني المؤدب المحدث ابن المحدث، تولد سنة ست وثمانين ومائتين، سمع أباه وجده وعفان بن مسلم وأبا خيثمة، كان صدوقا ثقة مأمونا، توفي في ذي الحجة منها.

علي بن أحمد المكتفي بالله تقدم ذكره.

أبو جعفر الترمذي محمد بن محمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الفقيه الشافعي

كان من أهل العلم والزهد، ووثقه الدارقطني، كان مأمونا ناسكا.

وقال القاضي أحمد بن كامل: لم يكن لأصحاب الشافعي بالعراق أرأس منه، ولا أورع: كان متقللا في المطعم على حالة عظيمة فقرا وورعا وصبرا، وكان ينفق في كل شهر أربعة دراهم، وكان لا يسأل أحدا شيئا، وكان قد اختلط في آخر عمره، توفي في المحرم منها.

ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين

في ربيع الأول منها اجتمع جماعة من القواد والجند والأمراء على خلع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتز الخلافة، فأجابهم على أنه لا يُسفك بسببه دم، وكان المقتدر قد خرج يلعب بالصولجان فقصد إليه الحسين بن حمدان يريد أن يفتك به، فلما سمع المقتدر الصيحة بادر إلى دار الخلافة فأغلقها دون الجيش، واجتمع الأمراء والأعيان والقضاة في دار المخرمي، فبايعوا عبد الله بن المعتز، وخوطب بالخلافة ولقب بالمرتضى بالله.

وقال الصولي: إنما لقبوه المنتصف بالله، واستوزر أبا عبيد الله محمد بن داود، وبعث إلى المقتدر يأمره بالتحول من دار الخلافة إلى دار ابن طاهر لينتقل إليها، فأجابه بالسمع والطاعة، فركب الحسين بن حمدان من الغد إلى دار الخلافة ليتسلمها، فقاتله الخدم ومن فيها، ولم يسلموها إليه، وهزموه فلم يقدر على تخليص أهله وماله إلا بالجهد.

ثم ارتحل من فوره إلى الموصل، وتفرق نظام ابن المعتز وجماعته فأراد ابن المعتز أن يتحول إلى سامرا لينزلها، فلم يتبعه أحد من الأمراء، فدخل دار ابن الجصاص فاستجار به فأجاره، ووقع النهب في البلد واختبط الناس وبعث المقتدر إلى أصحاب ابن المعتز فقبض عليهم وقتل أكثرهم وأعاد ابن الفرات إلى الوزارة، فجدد البيعة إلى المقتدر، وأرسل إلى دار ابن الجصاص فتسلمها.

وأحضر ابن المعتز وابن الجصاص فصادر ابن الجصاص بمال جزيل جدا، نحو ستة عشر ألف ألف درهم ثم أطلقه، واعتقل ابن المعتز، فلما دخل في ربيع الآخر ليلتان ظهر للناس موته وأخرجت جثته فسلمت إلى أهله فدفن، وصفح المقتدر عن بقية من سعى في هذه الفتنة حتى لا تفسد نيات الناس.

قال ابن الجوزي: ولا يعرف خليفة خلع ثم أعيد إلا الأمين والمقتدر.

وفي يوم السبت لأربع بقين من ربيع الأول سقط ببغداد ثلج عظيم، حتى اجتمع على الأسطحة منه نحو أربعة أصابع، وهذا غريب في بغداد جدا، ولم تخرج السنة حتى خرج الناس يستسقون لأجل تأخر المطر عن إبانة.

وفي شعبان منها خلع على مونس الخادم، وأمر بالمسير إلى طرسوس لأجل غزو الروم.

وفيها: أمر المقتدر بأن لا يستخدم أحد من اليهود والنصارى في الدواوين، وألزموا بلزومهم بيوتهم، وأن يلبسوا المساحي ويضعوا بين أكتافهم رقاعا ليعرفوا بها، وألزموا بالذلِّ حيث كانوا.

وحج بالناس فيها الفضل ابن عبد الملك الهاشمي، ورجع كثير من الناس من قلة الماء بالطريق.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن زكريا بن أبي عتاب أبو بكر البغدادي

الحافظ، ويعرف بأخي ميمون.

روى عن نصر بن علي الجهضمي وغيره، وروى عنه الطبراني، وكان يمتنع من أن يحدث وإنما يسمع منه في المذاكرة.

توفي في شوال منها.

أبو بكر الأثرم

أحمد بن محمد بن هاني الطائي الأثرم تلميذ الإمام أحمد، سمع عفان وأبا الوليد والقعنبي وأبا نعيم وخلقا كثيرا، وكان حافظا صادقا قوي الذاكرة، كان ابن معين يقول عنه: كان أحد أبويه جنيّا لسرعة فهمه وحفظه، وله كتب مصنفة في العلل والناسخ والمنسوخ، وكان من بحور العلم.

عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حاتم القاضي الحنفي، كان من خيار القضاة وأعيان الفقهاء، ومن أئمة العلماء ورعا نزها كثير الصيانة والديانة والأمانة، وقد ذكر له ابن الجوزي في المنتظم:

خلف بن عمرو بن عبد الرحمن بن عيسى

أبو محمد العكبري، سمع الحديث وكان ظريفا وكان له ثلاثون خاتما وثلاثون عكازا، يلبس في كل يوم من الشهر خاتما ويأخذ في يده عكازا، ثم يستأنف ذلك في الشهر الثاني، وكان له سوط معلق في منزله، فإذا سئل عن ذلك قال: ليرهب العيال منه.

ابن المعتز الشاعر والخليفة

عبد الله بن المعتز بالله محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد، يكنى أبو العباس الهاشمي العباسي، كان شاعرا مطيقا فصيحا بليغا مطبقا، وقريش قادة الناس في الخير ودفع الشر.

وقد سمع المبرد وثعلبا، وقد روي عنه من الحكم والآداب شيء كثير، فمن ذلك قوله: أنفاس الحي خطايا.

أهل الدنيا ركب يسار بهم وهو نيام، ربما أورد الطمع ولم يصدر، ربما شرق شارب الماء قبل ريه، من تجاوز الكفاف لم يغنه الإكثار، كلما عظم قدر المتنافس فيه عظمت الفجيعة به، من ارتحله الحرص أضناه الطلب.

وروي انضاه الطلب أي: أضعفه، والأول معناه أمرضه.

الحرص نقص من قدر الإنسان ولا يزيد في حظه شيئا، أشقى الناس أقربهم من السلطان، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أقربها حريقا.

من شارك السلطان في عزِّ الدنيا شاركه في ذلِّ الآخرة، يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك.

الفرصة سريعة الفوت بعيدة العود، الأسرار إذا كثرت خزانها ازدادت ضياعا، العزل نصحك من تيه الولاة.

الجزع أتعب من الصبر، لا تشن وجه العفو بالتقريع، تركة الميت عزّ للورثة وذلّ له.

إلى غير ذلك من كلامه وحكمه.

ومن شعره مما يناسب المعنى قوله:

بادر إلى مالكٍ ورِّثه ** ما المرءُ في الدنيا بلباث

كم جامعٍ يخنق أكياسه ** قد صارَفي ميزانِ ميراث

وله أيضا:

ياذا الغنى والسطوة القاهرة ** والدولة الناهية الآمرة

ويا شياطين بني آدمٍ ** ويا عبيدَ الشهوةِ الفاجرة

انتظرو الدنيا وقد أدبرت ** وعن قليل تلدُ الآخرة

وله أيضا:

ابكِ يانفسُ وهاتي ** توبةً قبلَ الممات

قبل أن يفجعنا الده ** رُ ببينٍ وشتات

لا تخونيني إذا متُ ** وقامت بي نعاتي

إنما الوفي بعهدي ** من وفى بعد وفاتي

قال الصولي: نظر ابن المعتز في حياة أبيه الخليفة إلى جارية فأعجبته، فمرض من حبها، فدخل أبوه عليه عائدا فقال له: كيف تجدك؟

فأنشأ يقول:

أيها العاذلون لا تعذلوني ** وانظروا حسنَ وجهها تعذروني

وانظروا هل ترونَ أحسنَ منها ** إن رأيتم شبيهها فاعذلوني

قال: ففحص الخليفة عن القصة واستعلم خبر الجارية، ثم بعث إلى سيدها فاشتراها منه بسبعة آلاف دينار، وبعث بها إلى ولده.

وقد تقدم أن في ربيع الأول من هذه السنة اجتمع الأمراء والقضاة على خلع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتز هذا، ولقب بالمرتضى والمنتصف بالله، فما مكث بالخلافة إلا يوما أو بعض يوم، ثم انتصر المقتدر وقتل غالب من خرج عليه واعتقل ابن المعتز عنده في الدار ووكل به مونس الخادم فقتل في أوائل ربيع الآخر لليلتين خلتا منه، ويقال: إنه أنشد في آخر يوم من حياته وهو معتل:

يانفسُ صبرا لعل الخرً عقباكِ ** خانتكِ من بعد طولِ الأمن دنياك

مرت بنا سحرا طير فقلتُ لها ** طوباكِ ياليتني إياكِ طوباك

إن كانَ قصدك شرقا فالسلامُ على ** شاطي الصراة أبلغي إن كان مسراك

من موثقٍ بالمنايا لا فكاكَ له ** يبكي الدماءَ على إلفٍ له باكي

فربَّ آمنة جاءت منيتها ** وربَّ مفلتة من بين أشراك

أظنه آخرَ الأيام من عمري ** وأوشكَ اليومَ أن يبكيَ لي الباكي

ولما قدم ليقتل أنشأ يقول:

فقل للشامتينَ بنا رُوَيدا ** أمامكمُ المصائبُ والخطوبُ

هو الدهرُ لا بد من أن ** يكونَ إليكم منهُ ذنوبُ

ثم كان ظهور قتله لليلتين من ربيع الآخر منها.

وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات كثيرة، منها (طبقات الشعراء) وكتاب (أشعار الملوك) وكتاب (الآداب)وكتاب (البديع)، وكتاب في الغناء وغير ذلك.

وذكر أن طائفة من الأمراء خلعوا المقتدر وبايعوه بالخلافة يوما وليلة، ثم تمزق شمله واختفى في بيت ابن الجصاص الجوهري، ثم ظهر عليه فقتل، وصودر ابن الجصاص بألفي دينار، وبقي معه ستمائة ألف دينار.

وكان ابن المعتز أسمر اللون مدور الوجه يخضب بالسواد، عاش خمسين سنة، وذكر شيئا من كلامه وأشعاره رحمه الله.

محمد بن الحسين بن حبيب

أبو حصين الوادعي القاضي، صاحب المسند، من أهالي الكوفة، قدم بغداد وحدث بها عن أحمد بن يونس اليربوعي ويحيى بن عبد الحميد، وجندل بن والق، وعنه ابن صاعد والنجاد والمحاملي.

قال الدارقطني: كان ثقة، توفي بالكوفة.

محمد بن داود بن الجراح أبو عبد الله الكاتب

عم الوزير علي بن عيسى، كان من أعلم الناس بالأخبار وأيام الخلفاء، له مصنفات في ذلك روى عن عمر بن شيبة وغيره، كانت وفاته في ربيع الأول منها عن ثلاث وخمسين سنة.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين

فيها: غزا القاسم بن سيما الصائفة، وفادى يونس الخادم الأسارى الذين بأيدي الروم، وحكى ابن الجوزي عن ثابت بن سنان: أنه رأى في أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وإنما كفاها ملصقان بكتفيها، لاتسطيع أن تعمل بهما شيئا، وإنما كانت تعمل برجليها ما تعمله النساء بأيديهن: الغزل والفتل ومشط الرأس وغير ذلك.

وفيها: تأخرت الأمطار عن بغداد، وارتفعت الأسعار بها، وجاءت الأخبار بأن مكة جاءها سيل عظيم غرق أركان البيت، وفاضت زمزم، ولم ير ذلك قبل هذه السنة.

وحج بالناس الفضل الهاشمي.

وفيها توفي من الأعيان:

محمد بن داود بن علي

أبو بكر الفقيه ابن الفقيه الظاهري، كان عالما بارعا أديبا شاعرا فقيها ماهرا، له كتاب (الزهرة) اشتغل على أبيه وتبعه في مذهبه ومسلكه وما اختاره من الطرائق وارتضاه، وكان أبوه يحبه ويقربه ويدنيه.

قال رويم بن محمد: كنا يوما عند داود إذ جاء ابنه هذا باكيا فقال: مالك؟

فقال: إن الصبيان يلقبونني عصفور الشوك.

فضحك أبوه فاشتد غضب الصبي وقال لأبيه: أنت أضر علي منهم، فضمه أبوه إليه وقال: لا إله إلا الله، ما الألقاب إلا من السماء ما أنت يابني إلا عصفور الشوك.

ولما توفي أبوه أجلس في مكانه في الحلقة، فاستصغره الناس عن ذلك، فسأله سائل يوما عن حد السُّكر فقال: إذا غربت عنه الفهوم وباح بسره المكتوم.

فاستحسن الحاضرون منه ذلك، وعظم في أعين الناس.

قال ابن الجوزي في المنتظم: وقد ابتلي بحب صبي اسمه محمد بن جامع، ويقال: محمد بن زحرف، فاستعمل العفاف والدين في حبه، ولم يزل ذلك دأبه فيه حتى كان سبب وفاته في ذلك.

قلت: فدخل في الحديث المروي عن ابن عباس موقوفا عليه ومرفوعا عنه: من عشق فكتم فعف فمات مات شهيدا.

وقد قيل عنه: إنه كان يبيح العشق بشرط العفاف.

وحكى هو عن نفسه أنه لم يزل يتعشق منذ كان في الكتَّاب، وأنه صنف كتاب (الزهرة) في ذلك من صغره، ورد ما وقف أبوه داود على بعض ذلك، وكان يتناظر هو وأبو العباس بن شريح كثيرا بحضرة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فيعجب الناس من مناظرتهما وحسنها.

وقد قال له ابن شريح يوما في مناظرته: أنت بكتاب الزهرة أشهر منك بهذا.

فقال له: تعيرنى بكتاب الزهرة وأنت لا تحسن تشتم قراءته، وهو كتاب جمعناه هزلا فاجمع أنت مثله جدا.

وقال القاضي أبوعمر: كنت يوما أنا وأبو بكر بن داود راكبين فإذا جارية تغني بشيء من شعره:

أشكو إليك فؤادا أنت متلفهُ ** شكوى عليلٍ إلى إلفٍ يعلله

سُقمي تزيد على الأيام كثرتهُ ** وأنت في عظم ما ألقى تقلِّلهُ

الله حرمَ قتلي في الهوى أسفا ** وأنت يا قاتلي ظلما تحلِّلهُ

فقال أبو بكر: كيف السبيل إلى استرجاع هذا؟

فقلت: هيهات سار به الركبان.

كانت وفاة محمد بن داود رحمه الله في رمضان من هذه السنة، وجلس ابن شريح لعزاه وقال: ما أثني إلا على التراب الذي أكل لسان محمد بن داود رحمه الله.

محمد بن عثمان بن أبي شيبة

أبو جعفر، حدث عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وخلق، وعنه ابن صاعد والخلدي والباغندي وغيرهم، وله كتاب في التاريخ وغيره من المصنفات، وقد وثقه صالح بن محمد جزرة وغيره، وكذبه عبد الله بن الإمام أحمد وقال: هو كذاب بينِّ الأمر، وتعجب ممن يروي عنه، توفي في ربيع الأول منها.

محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسن بن مصعب من بيت الإمارة والحشمة، باشر نيابة العراق مدة ثم خراسان، ثم ظفر به يعقوب بن الليث في سنة ثمان وخمسين فأسره، وبقي معه يطوف به الآفاق أربع سنين، ثم تخلص منه في بعض الوقعات ونجا بنفسه، ولم يزل مقيما ببغداد إلى أن توفي في هذه السنة.

موسى بن إسحاق

ابن موسى بن عبد الله أبو بكر الأنصارى الخطمي، مولده سنة عشر ومائتين، سمع أباه وأحمد ابن حنبل وعلي بن الجعد وغيرهم، وحدث عنه الناس وهو شاب وقرؤوا عليه القرآن، وكان ينتحل مذهب الشافعي، وولي قضاء الأهواز، وكان ثقة فاضلا عفيفا فصيحا كثير الحديث.

توفي في المحرم منها.

يوسف بن يعقوب

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد، والد القاضي أبي عمر، وهو الذي قتل الحلاج، كان يوسف هذا من أكابر العلماء وأعيانهم، ولد سنة ثمان ومائتين، وسمع سليمان بن حرب وعمرو بن مرزوق وهدبة ومسددا، وكان ثقة، ولي قضاء البصرة وواسط والجانب الشرقي من بغداد، وكان عفيفا شديد الحرمة نزها، جاءه يوما بعض خدم الخليفة المعتضد، فترفع في المجلس على خصمه، فأمره حاجب القاضي أن يساوي خصمه، فامتنع إدلالا بجاهه عند الخليفة، فزبره القاضي وقال: ائتوني بدلال النخس حتى أبيع هذا العبد وأبعث بثمنه إلى الخليفة، وجاء حاجب القاضي فأخذه بيده وأجلسه مع خصمه، فلما انقضت الحكومة رجع الخادم إلى المعتضد فبكى بين يديه فقال له: مالك؟

فأخبره بالخبر وما أراد القاضي من بيعه، فقال: والله لو باعك لأجزت بيعه ولما استرجعتك أبدا، فليس خصوصيتك عندي تزيل مرتبة الشرع فإنه عمود السلطان وقوام الأديان، كانت وفاته في رمضان منها.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين

فيها قدم القاسم بن سيما من بلاد الروم، فدخل بغداد ومعه الأسارى والعلوج، بأيديهم أعلام عليها صلبان من الذهب وخلق من الأسارى.

وفيها: قدمت هدايا نائب خراسان أحمد بن إسماعيل ابن أحمد الساماني، من ذلك مائة وعشرون غلاما بحرابهم وأسلحتهم وما يحتاجون إليه، وخمسون بازا وخمسون جملا تحمل من مرتفع الثياب وخمسون رطلا من مسك وغير ذلك.

وفيها: فلج القاضي عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب، فقلد مكانه على الجانب الشرقي والكرخ ابنه محمد.

وفيها: في شعبان أخذ رجلان يقال: لأحدهما أبو كبيرة والآخر يعرف بالسمري، فذكروا أنهما من أصحاب رجل يقال له: محمد بن بشر، وأنه يدعى الربوبية.

وفيها: وردت الأخبار بأن الروم قصدت اللاذقية.

وفيها: وردت الأخبار بأن ريحا صفراء هبت بمدينة الموصل، فمات من حرها بشر كثير.

وفيها حج بالناس الفضل الهاشمي.

وفيها توفى من الأعيان:

ابن الراوندي

أحد مشاهير الزنادقة، كان أبوه يهوديا فأظهر الإسلام، ويقال: إنه حرف التوراة، كما عادى ابنه القرآن بالقرآن وألحد فيه، وصنف كتابا في الرد على القرآن سماه (الدامغ)، وكتابا في الرد على الشريعة والإعتراض عليها سماه (الزمردة)، وكتابا يقال له: التاج في معنى ذلك، وله كتاب (الفريد)، وكتاب (إمامة المفضول الفاضل).

وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعة، منهم الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي شيخ المعتزلة في زمانه، وقد أجاد في ذلك. وكذلك ولده أبو هاشم عبد السلام ابن أبى علي، قال الشيخ أبو علي: قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندى، فلم أجد فيه إلا السفه والكذب والافتراء. قال: وقد وضع كتابا في قدم العالم، ونفي الصانع، وتصحيح مذهب الدهرية، والرد على أهل التوحيد، ووضع كتابا في الرد على محمد رسول الله ﷺ في سبعة عشر موضعا، ونسبه إلى الكذب - يعنى النبي ﷺ - وطعن على القرآن، ووضع كتابا لليهود والنصارى، وفضل دينهم على المسلمين والإسلام، يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد ﷺ إلى غير ذلك من الكتب التي تبين خروجه عن الإسلام.

نقل ذلك ابن الجوزي عنه.

وقد أورد ابن الجوزي في منتظمه طرفا من كلامه وزندقته وطعنه على الآيات والشريعة، ورد عليه في ذلك وهو أقل وأخس وأذل من أن يلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه.

وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهتار والكفر والكبائر، منها ما هو صحيح عنه، ومنها ماهو مفتعل عليه ممن هو مثله وعلى طريقه ومسلكه في الكفر والتستر في المسخرة، يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يدّعي الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه.

وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ** لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... } الآية [التوبة:65-66] .

وقد كان أبو عيسى الوراق مصاحبا لابن الراوندي قبحهما الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأودع السجن حتى مات.

وأما ابن الراوندي فهرب فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي، وصنف له في مدة مقامه عنه كتابه الذي سماه (الدامغ للقرآن) فلم يلبث بعده إلا أياما يسيرة حتى مات لعنه الله.

ويقال: إنه أخذ وصلب.

قال أبو الوفاء بن عقيل: ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستا وثلاثين سنة مع ما انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير لعنه الله وقبحه ولا رحم عظامه.

وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يخرجه بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجينا، على عادته في العلماء والشعراء، فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم.

وأرخ ابن خلكان تاريخ وفاته في سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد وهم وهما فاحشا، والصحيح أنه توفي في هذه السنة كما أرخه ابن الجوزي وغيره.

وفيها توفي:

الجنيد بن محمد بن الجنيد

أبو القاسم الخزاز، ويقال له: القواريري، أصله من نهاوند، ولد ببغداد ونشأ بها.

وسمع الحديث من الحسين بن عرفة.

وتفقه بأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وكان يفتي بحضرته وعمره عشرون سنة، وقد ذكرناه في طبقات الشافعية، واشتهر بصحبة الحارث المحاسبي، وخاله سري السقطي، ولازم التعبد، ففتح الله عليه بسبب ذلك علوما كثيرة، وتكلم على طريقة الصوفية.

وكان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة، وثلاثين ألف تسبيحة.

ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش، ففتح عليه من العلم النافع والعمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه، وكان يعرف سائر فنون العلم، وإذا أخذ فيها لم يكن له فيها وقفة ولا كبوة، حتى كان يقول في المسألة الواحدة وجوها كثيرة لم تخطر للعلماء ببال، وكذلك في التصوف وغيره.

ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويتلو القرآن، فقيل له: لورفقت بنفسك في مثل هذا الحال؟

فقال: لا أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي.

قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن أبي ثور، ويقال: كان يتفقه على مذهب سفيان الثوري، وكان ابن سريح يصحبه ويلازمه، وربما استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال، ويقال: إنه سأله مرة عن مسألة.

فأجابه فيها بجوابات كثيرة، فقال: يا أبا القاسم ألم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها عليّ.

فأعادها بجوابات أخرى كثيرة.

فقال: والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده فأعاده بجوابات أخرى غير ذلك.

فقال له: لم أسمع بمثل هذا فأمله عليّ حتى أكتبه.

فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي: إن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني، وليس هذا مستفاد من كتب ولا من تعلم، وإنما هذا من فضل الله عز وجل يلهمنيه ويجريه على لساني.

فقال: فمن أين استفدت هذا العلم؟

قال: من جلوسي بين يدي الله أربعين سنة.

والصحيح أنه كان على مذهب سفيان الثوري وطريقه، والله أعلم.

وسئل الجنيد عن العارف؟

فقال: من نطق عن سرك وأنت ساكت.

وقال: مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في مذهبنا وطريقتنا.

ورأى بعضهم معه مسبحة فقال له: أنت مع شرفك تتخذ مسبحة؟

فقال: طريق وصلت به إلى الله لا أفارقه.

وقال له خاله السري: تكلم على الناس.

فلم ير نفسه موضعا.

فرأى في المنام رسول الله ﷺ فقال له: تكلم على الناس.

فغدا على خاله، فقال له: لم تسمع مني حتى قال لك رسول الله ﷺ.

فتكلم على الناس، فجاءه يوما شاب نصراني في صورة مسلم، فقال له: يا أبا القاسم ما معنى قول النبي ﷺ: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»؟.

فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم.

قال: فأسلم الغلام.

وقال الجنيد: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها من جارية تغني بها في غرفة وهي تقول:

إذا قلتُ: أهدى الهجرُ لي حِللَ البِلى ** تقولين: لولا الهجرُ لم يطب الحبُّ

وإن قلتُ: هذا القلبُ أحرقه الجوى ** تقولين لي: إنَّ الجوى شرف القلب

وإن قلت: ما أذنبت، قالت مجيبة: ** حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

قال: فصعقت وصحت، فخرج صاحب الدار فقال: ياسيدي مالك؟

قلت: مما سمعت.

قال: هي هبة مني إليك.

فقلت: قد قبلتها وهي حرة لوجه الله، ثم زوجتها لرجل فأولدها ولدا صالحا، حج على قدميه ثلاثين حجة.

وفيها توفي:

سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور أبو عثمان الواعظ

ولد بالري، ونشأ بها، ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن مات بها، وقد دخل بغداد.

وكان يقال: إنه مجاب الدعوة.

قال الخطيب: أخبرنا عبد الكريم بن هوازن قال: سمعت أبا عثمان يقول: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حالة فكرهتها، ولا نقلني إلى غيرها فسخطتها.

وكان أبو عثمان ينشد:

أسأت ولم أحسن، وجئتك هاربا ** وأين لعبد عن مواليه مهرب؟

يؤمل غفرانا، فإن خاب ظنه ** فما أحد منه على الأرض أخيب

وروى الخطيب أنه سئل: أي أعمالك أرجى عندك؟

فقال: إني لما ترعرعت وأنا بالري وكانوا يريدونني على التزويج فأمتنع، فجائتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان قد أحببتك حبا أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل به إليه لما تزوجتني.

فقلت: ألك والد؟

فقالت: نعم.

فأحضرته فاستدعى بالشهود فتزوجتها، فلما خلوت بها إذا هي عوراء عرجاء شوهاء -مشوهة الخلق - فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي، وكان أهل بيتي يلومونني على تزويجي بها، فكنت أزيدها برا وإكراما، وربما احتبستني عندها ومنعتني من الحضور إلى بعض المجالس، وكأني كنت في بعض أوقاتي على الجمر وأنا لا أبدي لها من ذلك شيئا.

فمكثت كذلك خمس عشرة سنة، فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي.

وفيها توفي:

سمنون بن حمزة

ويقال ابن عبد الله، أحد مشايخ الصوفية، كان ورده في كل يوم وليلة خمسمائة ركعة، وسمى نفسه سمنونا الكذاب لقوله:

فليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فامتحني

فابتلي بعسر البول فكان يطوف على المكاتب ويقول للصبيان: ادعوا لعمكم الكذاب.

وله كلام متين في المحبة، ووسوس في آخر عمره، وله كلام في المحبة مستقيم.

وفيها توفي:

صافي الحربي

كان من أكابر أمراء الدولة العباسية، أوصى في مرضه أن ليس له عند غلامه القاسم شيء، فلما مات حمل غلامه القاسم إلى الوزير ألف دينار وسبعمائة وعشرين منطقة من الذهب مكللة، فاستمروا به على إمرته ومنزلته.

إسحاق بن حنين بن إسحاق

أبو يعقوب العبادي - نسبة إلى قبائل الجزيرة - الطبيب ابن الطبيب، له ولأبيه مصنفات كثيرة في هذا الفن، وكان أبوه يعرب كلام إرسططاليس وغيره من حكماء اليونان، توفي في هذه السنة.

الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا

أبو عبد الله الشيعي، الذي أقام الدعوة للمهدي، وهو عبد الله بن ميمون الذي يزعم أنه فاطمي وقد زعم غير واحد من أهل التاريخ أنه كان يهوديا صباغا بسلمية، والمقصود الآن: أن أبا عبد الله الشيعي دخل بلاد إفريقيا وحدهم فقيرا لا مال له ولا رجال، فلم يزل يعمل الحيلة حتى انتزع الملك من يد أبي مضر زيادة الله، آخر ملوك بني الأغلب على بلاد إفريقية، واستدعى حينئذ مخذومه المهدي من بلاد المشرق، فقدم فلم يخلص إليه إلا بعد شدائد طوال، وحبس في أثناء الطريق، فاستنقذه هذا الشيعي وسلمه من الهلكة، فندمه أخوه أحمد وقال له: ماذا صنعت؟وهلا كنت استبددت بالأمر دون هذا؟

فندم وشرع يعمل الحيلة في المهدي، فاستشعر المهدي بذلك فدس إليهما من قتلهما في هذه السنة بمدينة رقادة من بلاد القيروان، من إقليم إفريقية.

هذا ملخص ما ذكره ابن خلكان.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين

قال ابن الجوزي: وفيها ظهرت ثلاث كواكب مذنبة، أحدها في رمضان، واثنان في ذي القعدة تبقى أياما ثم تضمحل.

وفيها: وقع طاعون بأرض فارس مات فيه سبعة آلاف إنسان.

وفيها: غضب الخليفة على الوزير علي بن محمد بن الفرات، وعزله عن الوزارة، وأمر بنهب داره فنهبت أقبح نهب، واستوزر أبا علي محمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان، وكان قد التزم لأم ولد المعتضد بمائة ألف دينار حتى سعت في ولايته.

وفيها: وردت هدايا كثيرة من الأقاليم من ديار مصر وخراسان وغيرها، من ذلك خمسمائة ألف دينار من مصر استخرجت من كنز وجد هناك من غير موانع كما يدعيه كثير من جهلة العوام وغيرهم من ضعيفي الأحلام، مكرا وخديعة ليأكلوا أموال الطغام والعوام أهل الطمع والآثام، وقد وجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة أشبار وعرضه شبر، وذكر أنه من قوم عاد فالله أعلم.

وكان من جملة هدية مصر تيس له ضرع يحلب لبنا.

ومن ذلك بساط أرسله ابن أبي الساج في جملة هداياه، طوله سبعون ذراعا وعرضه ستون ذراعا، عمل في عشر سنين لا قيمة له، وهدايا فاخرة أرسلها أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني من بلاد خراسان كثيرة جدا.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك العباسي، أمير الحجيج من مدة طويلة.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن نصر بن إبراهيم أبو عمرو الخفاف

الحافظ، كان يذاكر بمائة ألف حديث، سمع إسحاق بن راهويه وطبقته، وكان كثير الصيام سرده نيفا وثلاثين سنة، وكان كثير الصدقة، سأله سائل فأعطاه درهمين فحمد الله فجعلها خمسة، فحمد الله فجعلها عشرة، ثم ما زال يزيده ويحمد السائل الله حتى جعلها مائة.

فقال: جعل الله عليك واقية باقية.

فقال للسائل: والله لو لزمت الحمد لأزيدنك ولو إلى عشرة آلاف درهم.

البهلول بن إسحاق بن البهلول

ابن حسان بنم سنان أبو محمد التنوخي، سمع إسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن منصور ومصعبا الزبيري وغيرهم، وعنه جماعة آخرهم أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ، وكان ثقة حافظا ضابطا بليغا فصيحا في خطبه.

توفي فيها عن خمس وتسعين سنة.

الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو علي الخرقي

صاحب المختصر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كان خليفة للمروذي.

توفي يوم عيد الفطر ودفن عند قبر الإمام أحمد بن حنبل.

محمد بن إسماعيل أبو عبد الله المغربي

حج على قدميه سبعا وتسعين حجة، وكان يمشي في الليل المظلم حافيا كما يمشي الرجل في ضوء النهار، وكان المشاة يأتمون به فيرشدهم إلى الطريق، وقال: ما رأيت ظلمة منذ سنين كثيرة، وكانت قدماه مع كثرة مشيه كأنهما قدما عروس مترفة، وله كلام مليح نافع، ولما مات أوصى أن يدفن إلى جانب شيخه علي بن رزين، فهما على جبل الطور.

قال أبو نعيم: كان أبو عبد الله المغربي من المعمرين، توفي عن مائة وعشرين سنة، وقبره بجبل طور سينا عند قبر أستاذه علي بن رزين.

قال أبو عبد الله: أفضل الأعمال عمارة الأوقاف.

وقال: الفقير هو الذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الإلتجاء إلى من إليه فقره ليعينه بالاستعانة كما عزره بالافتقار إليه.

وقال: أعظم الناس ذلا فقير داهن غنيا وتواضع له، وأعظم الناس عزا غني تذلل لفقير أو حفظ حرمته.

محمد بن أبي بكر بن أبي خيثمة

أبو عبد الله الحافظ بن الحافظ كان أبوه يستعين به في جمع التاريخ، وكان فهما حاذقا حافظا، توفي في ذي القعدة منها.

محمد بن أحمد بن كيسان النحوي

أحد حفاظه والمكثرين منه، كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معا.

قال ابن مجاهد: كان ابن كيسان أنحى من الشيخين المبرّد وثعلب.

محمد بن يحيى

أبو سعيد، سكن دمشق، روى عن إبراهيم بن سعد الجوهري، وأحمد بن منيع، وابن أبي شيبة وغيرهم، روى عنه أبو بكر النقاش وغيره، وكان محمد بن يحيى هذا يدعى بحامل كفنه، وذلك ما ذكره الخطيب قال: بلغني أنه توفي فغسل وكفن وصلي عليه ودفن، فلما كان الليل جاء نباش ليسرق كفنه ففتح عليه قبره.

فلما حل عنه كفنه استوى جالسا، وفر النباش هاربا من الفزع، ونهض محمد بن يحيى هذا فأخذ كفنه معه، وخرج من القبر وقصد منزله فوجد أهله يبكون عليه، فدق عليهم الباب فقالوا: من هذا؟

فقال: أنا فلان.

فقالوا: يا هذا لا يحل لك أن تزيدنا حزنا إلى حزننا.

فقال: افتحوا والله أنا فلان.

فعرفوا صوته، فلما رأوه فرحوا به فرحا شديدا، وأبدل الله حزنهم سرورا، ثم ذكر لهم ما كان من أمره وأمر النباش.

وكأنه قد أصابته سكتة، ولم يكن قد مات حقيقة فقدر الله بحوله وقوته أن بعث له هذا النباش ففتح عليه قبره، فكان ذلك سبب حياته، فعاش بعد ذلك عدة سنين، ثم كانت وفاته في هذه السنة.

فاطمة القهرمانة

غضب عليها المقتدر مرة فصادرها، وكان في جملة ما أخذ منها مائتي ألف دينار، ثم غرقت في طيارة لها في هذه السنة.

ثم دخلت سنة ثلاثمائة من الهجرة

فيها: كثر ماء دجلة وتراكمت الأمطار ببغداد، وتناثرت نجوم كثيرة في ليلة الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة.

وفيها: كثرت الأمراض ببغداد والأسقام وكلبت الكلاب حتى الذئاب بالبادية.

وكانت تقصد الناس بالنهار فمن عضته أكلبته.

وفيها: انحسر جبل بالدينور يعرف بالتل فخرج من تحته ماء عظيم غرّق عدة من القرى.

وفيها: سقطت شرذمة - أي: قطعة - من جبل لبنان إلى البحر.

وفيها: حملت بغلة ووضعت مهرة.

وفيها: صلب الحسين بن منصور الحلاج وهو حي أربعة أيام، يومين في الجانب الشرقي ويومين في الجانب الغربي، وذلك في ربيع الأول منها.

وحج بالناس أمير الحجيج المتقدم ذكره في السنين قبلها وهو الفضل بن عبد الملك الهاشمي العباسي أثابه الله وتقبل منه.

وفيها توفي من الأعيان:

الأحوص بن الفضل

ابن معاوية بن خالد بن غسان، أبو أمية الغلابي القاضي بالبصرة وغيرها، روى عن أبيه التاريخ، استتر مرة عنده ابن الفرات، فلما أعيد إلى الوزارة ولاه قضاء البصرة والأهواز وواسط.

وكان عفيفا نزها، فلما نكب ابن الفرات قبض عليه نائب البصرة فأودعه السجن فلم يزل به حتى مات فيه فيها.

قال ابن الجوزي: ولا نعلم قاضيا مات في السجن سواه.

عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

ابن الحسين بن مصعب أبو أحمد الخزاعي، ولي إمرة بغداد.

وحدث عن الزبير بن بكار وعنه الصولي والطبراني، وكان أديبا فاضلا، ومن شعره:

حق التنائي بين أهل الهوى ** تكاتب يسخن عين النوى

وفي التداني لا انقضى عمره ** تزاور يشفى غليل الجوى

واتفق له مرة أن جارية له مرضت فاشتهت ثلجا، وكان حظية عنده، فلم يوجد الثلج إلا عند رجل، فساومه وكيله على رطل منه فامتنع من بيعه إلا كل رطل بالعراقي بخمسة آلاف درهم -وذلك لعلم صاحب الثلج بحاجتهم إليه - فرجع الوكيل ليشاوره فقال: ويحك اشتره ولو بما عساه أن يكون، فرجع إلى صاحب الثلج فقال: لا أبيعه إلا بعشرة آلاف. فاشتراه بعشرة آلاف ثم اشتهت الجارية ثلجا أيضا - وذلك لموافقته لها - فرجع فاشترى منه رطلا آخر بعشرة آلاف.

ثم آخر بعشرة آلاف وبقي عند صاحب الثلج رطلان فنطفت نفسه إلى أكل رطل منه ليقول: أكلت رطلا من الثلج بعشرة آلاف، فأكله وبقي عنده رطل فجاءه الوكيل فامتنع أن يبيعه الرطل إلا بثلاثين ألفا فاشتراه منه فشفيت الجارية وتصدقت بمال جزيل فاستدعى سيدها صاحب الثلج فأعطاه من تلك الصدقة مالا جزيلا فصار من أكثر الناس مالا بعد ذلك، واستخدمه ابن طاهر عنده والله أعلم.

ومن توفي في حدود الثلاثمائة من الهجرة:

الصنوبري الشاعر

وهو محمد بن أحمد بن محمد بن مراد أبو بكر الضبي الصنوبري الحنبلي.

قال الحافظ ابن عساكر: كان شاعرا محسنا.

وقد حكى عن علي بن سليمان الأخفش، ثم ذكر أشياء من لطائف شعره فمن ذلك قوله:

لا النوم أدرى به ولا الأرق ** يدري بهذين من به رمق

إن دموعي من طول ما استبقت ** كلّت فما تستطيع تستبق

ولي مَلك لم تبد صورته ** مذ كان إلا صلّت له الحدق

نويت تقبيل نار وجنته ** وخفت أدنو منها فأحترق

وله أيضا:

شمس غدا يشبه شمسا غدت **وخدها في النور من خده

تغيب في فيه ولكنها ** من بعد ذا تطلع في خده

وقد روى الحافظ البيهقي عن شيخه الحاكم عن أبي الفضل نصر بن محمد الطوسي قال: أنشدنا أبو بكر الصنوبري فقال:

هدم الشيب ما بناه الشباب ** والغواني ما عصين خضاب

قلب الآبنوس عاجا ** فللأعين منه والقلوب انقلاب

وضلال في الرأي أن يشنأ الـ ** ـبازي على حسنه ويهوى الغراب

وله أيضا وقد أورده ابن عساكر في ابن له فطم فجعل يبكي على ثديه:

منعوه أحب شيء إليه ** من جميع الورى ومن والديه

منعوه غذاه ولقد كان ** مباحا له وبين يديه

عجبا له على صغر السن ** هوى فاهتدى الفراق إليه

إبراهيم بن أحمد بن محمد

ابن المولد، أبو إسحاق الصوفي الواعظ الرقي أحد مشايخها، روى الحديث وصحب أبا عبد الله ابن الجلاء الدمشقي، والجنيد وغير واحد.

وروى عنه تمام بن محمد وأبو عبد الرحمن السلمي.

وقد أورد ابن عساكر من شعره قوله:

لكِ مني على البعاد نصيب ** لم ينله على الدنو حبيب

وعلى الطرف من سواكِ حجاب ** وعلى القلب من هواكِ رقيب

زين في ناظري هواك وقلبي ** والهوى فيه رائع ومشوب

كيف يغني قرب الطبيب عليلا ** أنت أسقمته وأنت الطبيب

وقوله:

الصمت آمن من كل نازلة ** من ناله نال أفضل الغنم

ما نزلت بالرجال نازلة ** أعظم ضرا من لفظة نعم

عثرة هذا اللسان مهلكة ** ليست لدينا كعثرة القدم

احفظ لسانا يلقيك في تلف ** فرب قول أذل ذا كرم

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائة

فيها: غزا الحسين بن حمدان الصائفة، ففتح حصونا كثيرة من بلاد الروم، وقتل منها أمما لا يحصون كثرة.

وفيها: عزل المقتدر محمد بن عبيد الله عن وزارته، وقلدها عيسى بن علي، وكان من خيار الوزراء وأقصدهم للعدل والإحسان واتباع الحق.

وفيها: كثرت الأمراض الدموية ببغداد في تموز وآب، فمات من ذلك خلق كثير من أهلها.

وفيها: وصلت هدايا صاحب عمان، ومن جملتها بغلة بيضاء، وغزال أسود.

وفي شعبان منها: ركب المقتدر إلى باب الشماسية على الخيل ثم انحدر إلى داره في دجلة - وكانت أول ركبة ركبها جهرة للعامة -.

وفيها: استأذن الوزير علي بن عيسى الخليفة المقتدر في مكاتبة رأس القرامطة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، فأذن له، فكتب كتابا طويلا، يدعوه فيه إلى السمع والطاعة، ويوبخه على ما يتعاطاه من ترك الصلاة، والزكاة، وارتكاب المنكرات، وإنكارهم على من يذكر الله ويسبحه ويحمده، واستهزائهم بالدين واسترقاقهم الحرائر، ثم توعده بالحرب وتهدده بالقتل، فلما سار بالكتاب نحوه قتل أبو سعيد قبل أن يصله قتله بعض خدمه، وعهد بالأمر من بعده لولده سعيد فغلبه على ذلك أخوه أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد، فلما قرأ كتاب الوزير أجابه بما حاصله: إن هذا الذي تنسب إلينا مما ذكرتم لم يثبت عندكم إلا من طريق من يشنع علينا، وإذا كان الخليفة ينسبنا إلى الكفر بالله فكيف يدعونا إلى السمع والطاعة له؟

وفيها: جيء بالحسين بن منصور الحلاج إلى بغداد، وهو مشهور على جمل وغلام له راكب جملا آخر، ينادي عليه: أحد دعاة القرامطة فاعرفوه، ثم حبس ثم جيء به إلى مجلس الوزير فناظره، فإذا هو لا يقرأ القرآن، ولا يعرف في الحديث ولا الفقه شيئا ولا في اللغة ولا في الأخبار ولا في الشعر شيئا.

وكان الذي نقم عليه: أنه وجدت له رقاع يدعو فيها الناس إلى الضلالة والجهالة بأنواع من الرموز، يقول في مكاتباته كثيرا: تبارك ذو النور الشعشعاني.

فقال له الوزير: تعلمك الطهور والفروض أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها، وما أحوجك إلى الأدب.

ثم أمر به فصلب حيا صلب الإشتهار لا القتل، ثم أنزل فأجلس في دار الخلافة، فجعل يظهر لهم أنه على السنة، وأنه زاهد، حتى اغتر به كثير من الخدام وغيرهم من أهل دار الخلافة من الجهلة، حتى صاروا يتبركون به ويتمسحون بثيابه.

وسيأتي ما صار إليه أمره حين قتل بإجماع الفقهاء وأكثر الصوفية.

ووقع في هذه السنة في آخرها: ببغداد وباء شديد جدا مات بسببه بشر كثير، ولا سيما بالحربية غلقت عامة دورها. وحج بالناس فيها الأمير المتقدم ذكره.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن خالد الشافعي

جمع العلم والزهد، وهو من تلاميذ أبى بكر الإسماعيلي.

جعفر بن محمد

ابن الحسين بن المستفاض أبو بكر الفريابي، قاضي الدينور، طاف البلاد في طلب العلم، وسمع الكثير من المشايخ الكثيرين، مثل قتيبة وأبى كريب وعلي بن المديني، وعنه أبو الحسين بن المنادي والنجاد وأبو بكر الشافعي وخلق، واستوطن بغداد وكان ثقة حافظا حجة، وكان عدة من يحضر مجلسه نحوا من ثلاثين ألفا، والمستملون عليه منهم فوق الثلاثمائة، وأصحاب المحابر نحوا من عشرة آلاف.

توفي في المحرم منها عن أربع وتسعين سنة، وكان قد حفر لنفسه قبرا قبل وفاته بخمس سنين، وكان يأتيه فيقف عنده.

ثم لم يقض له الدفن فيه بل دفن بمكان آخر.

رحمه الله حيث كان.

أبو سعيد الجنابي القرمطي

وهو الحسن بن بهرام قبحه الله رأس القرامطة، والذي يعول عليه في بلاد البحرين وما والاها.

(علي بن أحمد الراسبي)كان يلي بلاد واسط إلى شهر زور وغير ذلك، وقد خلف من الأموال شيئا كثيرا، فمن ذلك ألف ألف دينار، ومن آنيه الذهب والفضة نحو مائة ألف دينار، ومن البقر ألف ثور، ومن الخيل والبغال والجمال ألف رأس.

محمد بن عبد الله بن علي بن محمد بن أبي الشوارب

يعرف بالأحنف، كان قد ولي قضاء مدينة المنصور نيابة عن أبيه حين فلج، مات في جمادى الأولى منها.

وتوفي أبوه في رجب منها، بينهما ثلاثة وسبعون يوما، ودفنا في موضع واحد.

أبو بكر محمد بن هارون البردعي

الحافظ بن ناجية والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثمائة

فيها: ورد كتاب مؤنس الخادم بأنه قد أوقع بالروم بأسا شديدا، وقد أسر منهم مائة وخمسين بطريقا -أي: أميرا -ففرح المسلمون بذلك.

وفيها: ختن المقتدر خمسة من أولاده، فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار، وقد ختن قبلهم ومعهم خلقا من اليتامى، وأحسن إليهم بالمال والكساوي، وهذا صنيع حسن إن شاء الله.

وفيها: صادر المقتدر أبا علي بن الجصاص بستة عشر ألف ألف دينار، غير الآنية والثياب الثمينة.

وفيها: أدخل الخليفة أولاده إلى المكتب، وكان يوما مشهودا.

وفيها: بنى الوزير المارستان بالحربية من بغداد، وأنفق عليه أموالا جزيلة، جزاه الله خيرا.

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي.

وقطعت الأعراب وطائفة من القرامطة الطريقين على الراجعين من الحجيج، وأخذوا منهم أموالا كثيرة وقتلوا منهم خلقا وأسروا أكثر من مائتي امرأة حرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها توفي من الأعيان:

بشر بن نصر بن منصور

أبو القاسم الفقيه الشافعي، من أهل مصر يعرف بغلام عَرَق، وعرق خادم من خدام السلطان كان يلي البريد، فقدم معه بهذا الرجل مصر فأقام بها حتى مات بها.

بدعة جارية غريب المغنية، بذل لسيدتها فيها مائة ألف دينار وعشرون ألف دينار من بعض من رغب فيها من الخلفاء فعرض ذلك عليها فكرهت مفارقة سيدتها، فأعتقتها سيدتها في موتها، وتأخرت وفاتها إلى هذه السنة، وقد تركت من المال العين والأملاك مالم يملكه رجل.

القاضي أبو زرعه محمد بن عثمان الشافعي

قاضي مصر ثم دمشق، وهو أول من حكم بمذهب الشافعي بالشام وأشاعه بها وقد كان أهل الشام على مذهب الأوزاعي من حين مات إلى هذه السنة.

وثبت على مذهب الأوزاعي بقايا كثيرون لم يفارقوه، وكان ثقة عدلا من سادات القضاة، وكان أصله من أهل الكتاب من اليهود، ثم أسلم وصار إلى ما صار إليه.

وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة

فيها: وقف المقتدر بالله أموالا جزيلة وضياعا على الحرمين الشريفين، واستدعى بالقضاة والأعيان، وأشهدهم على نفسه بما وقفه من ذلك.

وفيها: قدم إليه بجماعة من الأسارى من الأعراب الذين كانوا قد اعتدوا على الحجيج، فلم يتمالك العامة أن اعتدوا عليهم فقتلوهم، فأخذ بعضهم فعوقب لكونه افتات على السلطان.

وفيها: وقع حريق شديد في سوق النجارين ببغداد فأحرق السوق بكامله، وفي ذي الحجة منها مرض المقتدر ثلاثة عشر يوما، ولم يمرض في خلافته مع طولها إلا هذه المرضة.

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي ولما خاف الوزير على الحجاج القرامطة كتب إليهم رسالة ليشغلهم بها، فاتهمه بعض الكتاب بمراسلته القرامطة، فلما انكشف أمره وما قصده حظي بذلك عند الناس جدا.

وممن توفي من الأعيان:

النسائي

أحمد بن علي ابن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي صاحب السنن، الإمام في عصره والمقدم على أضرابه وأشكاله وفضلاء دهره، رحل إلى الآفاق، واشتغل بسماع الحديث والاجتماع بالأئمة الحذاق، ومشايخه الذين روى عنهم مشافهة قد ذكرناهم في كتابنا التكميل وترجمناه أيضا هنالك، وروى عنه خلق كثير، وقد جمع السنن الكبير وانتخب منه ما هو أقل حجما منه بمرات.

وقد وقع لي سماعهما.

وقد أبان في تصنيفه عن حفظ وإتقان وصدق وإيمان وعلم وعرفان.

قال الحاكم عن الدارقطني: أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وكان يسمي كتابه الصحيح.

وقال أبو علي الحافظ: للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم بن الحجاج، وكان من أئمة المسلمين.

وقال أيضا: هو الإمام في الحديث بلا مدافعة.

وقال أبو الحسين محمد بن مظفر الحافظ سمعت مشايخنا بمصر يعترفون له بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد.

وقال غيره كان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان له أربع زوجات وسريتان، وكان كثير الجماع، حسن الوجه مشرق اللون.

قالوا: وكان يقسم للإماء كما يقسم للحرائر.

وقال الدارقطني: كان أبو بكر بن الحداد كثير الحديث ولم يرو عن أحد سوى النسائي وقال: رضيت به حجة فيما بيني وبين الله عز وجل.

وقال ابن يونس: كان النسائي إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا، كان خروجه من مصر في سنة ثنتين وثلاثمائة.

وقال ابن عدي: سمعت منصورا الفقيه وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان: أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين، وكذلك أثنى عليه غير واحد من الأئمة وشهدوا له بالفضل والتقدم في هذا الشأن.

وقد ولي الحكم بمدينة حمص.

سمعته من شيخنا المزي عن رواية الطبراني في معجمه الأوسط حيث قال: حدثنا أحمد بن شعيب الحاكم بحمص وذكروا أنه كان له من النساء أربع نسوة، وكان غاية الحسن، وجهه كأنه قنديل، وكان يأكل في كل يوم ديكا ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال، وقد قيل عنه: إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع.

قالوا: ودخل إلى دمشق فسأله أهلها أن يحدثهم بشيء من فضائل معاوية فقال: أما يكفي معاوية أن يذهب رأسا برأس حتى يروى له فضائل؟

فقاموا إليه فجعلوا يطعنون في خصيتيه حتى أخرج من المسجد الجامع، فسار من عندهم إلى مكة فمات بها في هذه السنة، وقبره بها هكذا حكاه الحاكم عن محمد بن إسحاق الأصبهاني عن مشايخه.

وقال الدارقطني: كان أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، فتوفي بمكة مقتولا شهيدا مع ما رزق من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره، مات مكة سنة ثلاث وثلاثمائة.

قال الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الغنى بن نقطة في تقييده ومن خطه نقلت ومن خط أبي عامر محمد بن سعدون العبدري الحافظ: مات أبو عبد الرحمن النسائي بالرملة مدينة فلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة، ودفن ببيت المقدس.

وحكى ابن خلكان أنه توفي في شعبان من هذه السنة، وأنه إنما صنف الخصائص في فضل علي وأهل البيت، لأنه رأى أهل دمشق حين قدمها في سنة ثنتين وثلاثمائة عندهم نفرة من علي وسألوه عن معاوية فقال ما قال، فدققوه في خصيتيه فمات.

وهكذا ذكر ابن يونس وأبو جعفر الطحاوي: إنه توفي بفلسطين في صفر من هذه السنة، وكان مولده في سنة خمس عشرة أو أربع عشرة ومائتين تقريبا عن قوله، فكان عمره ثمانيا وثمانين سنة.

الحسن بن سفيان

ابن عامر بن عبد العزيز بن النعمان بن عطاء، أبو العباس الشيباني النسوي، محدث خراسان، وقد كان يضرب إليه آباط الإبل في معرفة الحديث والفقه.

رحل إلى الآفاق وتفقه على أبي ثور، وكان يفتي بمذهبه، وأخذ الأدب عن أصحاب النضر بن شميل، وكانت إليه الرحلة بخراسان.

ومن غريب ما اتفق له: أنه كان هو وجماعة من أصحابه بمصر في رحلتهم إلى الحديث، فضاق عليهم الحال حتى مكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون فيها شيئا، ولا يجدون ما يبيعونه للقوت، واضطرهم الحال إلى تجشم السؤال، وأنفت أنفسهم من ذلك وعزت عليهم وامتنع كل الامتناع، والحاجة تضطرهم إلى تعاطي ذلك، فاقترعوا فيما بينهم أيهم يقوم بأعباء هذا الأمر، فوقعت القرعة على الحسن بن سفيان هذا

فقام عنهم فاختلى في زاوية المسجد الذي هم فيه فصلى ركعتين أطال فيهما واستغاث بالله عز وجل، وسأله بأسمائه العظام، فما انصرف من الصلاة حتى دخل عليهم المسجد شاب حسن الهيئة مليح الوجه فقال: أين الحسن بن سفيان؟

فقلت: أنا.

فقال: الأمير طولون يقرأ عليكم السلام ويعتذر إليكم في تقصيره عنكم، وهذه مائة دينار لكل واحد منكم.

فقلنا له: ما الحامل له على ذلك؟

فقال: إنه أحب أن يختلي اليوم بنفسه، فبينما هو الآن نائم إذ جاءه فارس في الهواء بيده رمح فدخل عليه منزله ووضع عقب الرمح في خاصرته فوكزه وقال: قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه، قم فأدركهم، قم فأدركهم، فإنهم منذ ثلاث جياع في المسجد الفلاني.

فقال له: من أنت؟

فقال: أنا رضوان خازن الجنة.

فاستيقظ الأمير وخاصرته تؤلمه ألما شديدا، فبعث بالنفقة في الحال إليكم.

ثم جاء لزيارتهم واشترى ما حول ذلك المجلس ووقفه على الواردين عليه من أهل الحديث، جزاه الله خيرا.

وقد كان الحسن بن سفيان رحمه الله من أئمة هذا الشأن وفرسانه وحفاظه، وقد اجتمع عنده جماعة من الحفاظ منهم ابن جرير الطبري وغيره، فقرؤوا عليه شيئا من الحديث وجعلوا يقلبون الأسانيد ليستعلموا ما عنده من العلم، فما قلبوا شيئا من الإسناد إلا ردّهم فيه إلى الصواب، وعمره إذ ذاك سبعون سنة، وهو في هذا السن حافظ ضابط لا يشذ عنه شيء من حديثه.

ومن فوائده: العبسي كوفي، والعيشي بصري، والعنسي مصري.

رويم بن أحمد

ويقال: ابن محمد بن رويم بن يزيد، أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، أحد أئمة الصوفية، كان عالما بالقرآن ومعانيه، وكان يتفقه على مذهب داود بن علي الظاهري، قال بعضهم: كان رويم يكتم حب الدنيا أربعين سنة، ومعناه أنه تصوف أربعين سنة، ثم لما ولي إسماعيل بن إسحاق القضاء ببغداد جعله وكيلا في بابه، فترك التصوف ولبس الخز والقصب والديبقى وركب الخيل وأكل الطيبات وبنى الدور.

زهير بن صالح بن الإمام أحمد بن حنبل

روى عن أبيه وعنه أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد، كان ثقة، مات وهو شاب، قاله الدارقطني.

أبو علي الجبائي

شيخ المعتزلة، واسمه محمد بن عبد الوهاب أبو علي الجبائي شيخ طائفة الاعتزال في زمانه، وعليه اشتغل أبو الحسن الأشعري ثم رجع عنه، وللجبائي تفسير حافل مطول، له فيه اختيارات غريبة في التفسير، وقد رد عليه الأشعري فيه وقال: وكأن القرآن نزل في لغة أهل جباء.

كان مولده في سنة خمس وثلاثين ومائتين، ومات في هذه السنة.

أبو الحسن بن بسام الشاعر

واسمه علي بن أحمد بن منصور بن نصر بن بسام البسامي الشاعر المطبق للهجاء، فلم يترك أحدا حتى هجاه حتى أباه وأمه أمامة بنت حمدون النديم.

وقد أورد له ابن خلكان أشياء كثيرة من شعره، فمن ذلك قوله في تخريب المتوكل قبر الحسن بن علي وأمره بأن يزرع ويمحي رسمه، وكان شديد التحامل على علي وولده.

فلما وقع ما ذكرناه سنة ست وثلاثين ومائتين.

قال ابن بسام هذا في ذلك:

تالله إن كانت أمية قد أتت ** قتل ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله ** هذا لعمرك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا ** في قتله فتتبعوه رميما

ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة

فيها عزل المقتدر وزيره أبا الحسن علي بن عيسى بن الجراح، وذلك لأنه وقعت بينه وبين أم موسى القهرمانة نفرة شديدة، فسأل الوزير أن يُعفى من الوزارة فعزل ولم يتعرضوا لشيء من أملاكه.

وطلب أبو الحسن بن الفرات فأعيد إلى الوزارة بعد عزله عنها خمس سنين، وخلع عليه الخليفة يوم التروية سبع خلع، وأطلق إليه ثلاثمائة ألف درهم، وعشرة تخوت ثياب، ومن الخيل والبغال والجمال شيء كثير، وأقطع الدار التي بالحريم فسكنها، وعمل فيها ضيافة تلك الليلة فسقى فيها أربعين ألف رطل من الثلج.

وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيوانا يقال له: الزرنب، يطوف بالليل يأكل الأطفال من الأسرّة ويعدو على النيام فربما قطع يد الرجل وثدي المرأة وهو نائم.

فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين وغيرها ينفرونه عنهم، حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها وغربها، واصطنع الناس لأولادهم مكبات من السعف وغيرها، واغتنمت اللصوص هذه الشوشة فكثرت النقوب وأخذت الأموال، فأمر الخليفة بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على الجسر ليسكن الناس عن ذلك، ففعلوا فسكن الناس ورجعوا إلى أنفسهم واستراح الناس من ذلك.

وفيها: قلد ثابت بن سنان الطبيب أمر المارستان ببغداد في هذه السنة، وكانت خمسا، وكان هذا الطبيب مؤرخا.

وفيها: ورد كتاب من خراسان بأنهم وجدوا قبور شهداء قد قتلوا في سنة سبعين من الهجرة مكتوبة أسماؤهم في رقاع مربوطة في آذانهم، وأجسادهم طرية كما هي، رضي الله عنهم.

وفيها توفي من الأعيان:

لبيد بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن صالح

ابن عبد الله بن الحصين بن علقمة بن نعيم بن عطارد بن حاجب، أبو الحسن التميمي الملقب فروجة، قدم بغداد وحدث بها، وكان ثقة حافظا.

يوسف بن الحسين بن علي

أبو يعقوب الرازي، سمع أحمد بن حنبل وصحب ذا النون، وكان قد بلغه أن ذا النون يحفظ اسم الله الأعظم فقصده ليعلمه إياه، قال: فلما وردت عليه استهان بي وكانت لي لحية طويلة ومعي ركوة طويلة.

فجاء رجل يوما فناظر ذا النون فأسكت ذا النون، فقلت له: دع الشيخ وأقبل عليّ.

فأقبل فناظرته فأسكته، فقام ذو النون فجلس بين يدي وهو شيخ وأنا شاب، ثم اعتذر إلي.

فخدمته سنة ثم سألته أن يعلمني الاسم الأعظم، فلم يبعد مني ووعدني، فمكثت عنده بعد ذلك ستة أشهر، ثم أخرج إلي طبقا عليه مكبة مستورا بمنديل، فقال لي: اذهب بهذا الطبق إلى صاحبنا فلان.

قال: فجعلت أفكر في الطريق ما هذا الذي أرسلني به؟

فلما وصلت الجسر فتحته فإذا فأرة ففرت وذهبت، فاغتظت غيظا شديدا، وقلت: ذو النون سخر بي، فرجعت إليه وأنا حنق فقال لي: ويحك إنما اختبرتك، فإذا لم تكن أمينا على فأرة فإن لا تكون أمينا على الاسم الأعظم بطريق الأولى، اذهب عني فلا أراك بعدها.

وقد رُئي أبو الحسين الرازي هذا في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟

فقال: غفر لي بقولي عند الموت: اللهم إني نصحت الناس قولا وخنت نفسي فعلا، فهب خيانة فعلي لنصح قولي.

يموت بن المزرع بن يموت

أبو بكر العبدي من عبد القيس، وهو ثوري، وهو ابن أخت الجاحظ.

قدم بغداد وحدث بها عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وكان صاحب أخبار وآداب وملح، وقد غير اسمه بمحمد فلم يغلب عليه إلا الأول، وكان إذا ذهب يعود مريضا فدق الباب فقالوا: من؟

فيقول: ابن المزرّع ولا يذكر اسمه لئلا يتفاءلوا به.

ثم دخلت سنة خمسة وثلاثمائة

فيها قدم رسول ملك الروم في طلب المفاداة والهدنة، وهو شاب حدث السن ومعه شيخ منهم وعشرون غلاما، فلما قدم بغداد شاهد أمرا عظيما جدا، وذلك أن الخليفة أمر الجيش والناس بالاحتفال بذلك ليشاهد ما فيه إرهاب الأعداء، فركب الجيش بكماله وكان مائة ألف وستين ألفا، ما بين فارس وراجل، غير العساكر الخارجة في سائر البلاد مع نوابها، فركبوا في الأسلحة والعدد التامة، وغلمان الخليفة سبعة آلاف، أربعة آلاف بيض، وثلاثة آلاف سود، وهم في غاية الملابس والعدد والحلي، والحجبة يومئذ سبعمائة حاجب، وأما الطيارات التي بدجلة والزيارب والسمريات فشيء كثير مزينة، فحين دخل الرسول دار الخلافة انبهر وشاهد أمرا أدهشه، ورأى من الحشمة والزينة والحرمة ما يبهر الأبصار.

وحين اجتاز بالحاجب ظن أنه الخليفة فقيل له: هذا الحاجب، فمر بالوزير في أبهته فظنه الخليفة فقيل له: هذا الوزير.

وقد زينت دار الخلافة بزينة لم يسمع بمثلها، كان فيها من الستور يومئذ ثمانية وثلاثون ألف ستر، منها عشرة آلاف وخمسمائة ستر مذهبة، وقد بسط فيها اثنان وعشرون ألف بساط لم ير مثلها، وفيها من الوحوش قطعان متآنسة بالناس، تأكل من أيديهم ومائة سبع من السباعة.

ثم أدخل إلى دار الشجرة، وهي عبارة عن بركة فيها ماء صاف وفي وسط ذلك الماء شجرة من ذهب وفضة لها ثمانية عشر غصنا أكثرها من ذهب، وفي الأغصان الشماريخ والأوراق الملونة من الذهب والفضة واللآلئ واليواقيت، وهي تصوت بأنواع الأصوات من الماء المسلط عليها، والشجرة بكمالها تتمايل كما تتمايل الأشجار بحركات عجيبة تدهش من يراها.

ثم أدخل إلى مكان يسمونه الفردوس فيه من أنواع المفارش والآلات ما لا يحد ولا يوصف كثرة وحسنا.

وفي دهاليزه ثمانية عشرة ألف جوشن مذهبة.

فما زال كلما مر على مكان أدهشه وأخذ ببصره حتى انتهى إلى المكان الذي فيه الخليفة المقتدر بالله، وهو جالس على سرير من آبنوس، قد فرش بالديبقى المطرز بالذهب، وعن يمين السرير سبعة عشر عنقود معلقة، وعن يساره مثلها وهي جوهر من أفخر الجواهر، كل جوهرة يعلو ضوؤها على ضوء النهار، ليس لواحدة منها قيمة ولا يستطاع ثمنها، فأوقف الرسول والذين معه بين يدي الخليفة على نحو من مائة ذراع، والوزير علي بن محمد بن الفرات واقف بين يدي الخليفة، والترجمان دون الوزير، والوزير يخاطب الترجمان والترجمان يخاطبهما، فلما فرغ منها خلع عليهما وأطلق لهما خمسين سقرقا في كل سقرق خمسة آلاف درهم، وأخرجا من بين يديه وطيف بهما في بقية دار الخلافة، وعلى حافات دجلة الفيلة والزرافات والسباع والفهود وغير ذلك، ودجلة داخلة في دار الخلافة، وهذا من أغرب ما وقع من الحوادث في هذه السنة.

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي.

وفيها توفي من الأعيان:

محمد بن أحمد أبو موسى

النحوي الكوفي المعروف بالجاحظ، صحب ثعلبا أربعين سنة وخلفه في حلقته، وصنف غريب الحديث، وخلق الإنسان، والوحوش والنبات، وكان دينا صالحا، روى عنه أبو عمر الزاهد.

توفي ببغداد في ذي الحجة منها، ودفن بباب التين.

وعبد الله شيرويه الحافظ، وعمران بن مجاشع، وأبو خليفة الفضل بن الحباب.

وقاسم بن زكريا ابن يحيى المطرز المقري أحد الثقات الأثبات، سمع أبا كريب، وسويد بن سعيد، وعنه الخلدي وأبو الجعابي، توفي ببغداد.

ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة

في أول يوم من المحرم فتح المارستان الذي بنته السيدة أم المقتدر وجلس فيه سنان بن ثابت ورتبت فيه الأطباء والخدم والقومة، وكانت نفقته في كل شهر ستمائة دينار، وأشار سنان على الخليفة ببناء مارستان، فقبل منه وبناه وسماه المقتدري.

وفيها: وردت الأخبار عن أمراء الصوائف بما فتح الله عليهم من الحصون في بلاد الروم.

وفيها: رجفت العامة وشنعوا بموت المقتدر، فركب في الجحافل حتى بلغ الثريا ورجع من باب العامة ووقف كثيرا ليراه الناس، ثم ركب إلى الشماسية وانحدر إلى دار الخلافة في دجلة فسكنت الفتن.

وفيها: قلد المقتدر حامد بن العباس الوزارة وخلع عليه وخرج من عنده وخلفه أربعمائة غلام لنفسه، فمكث أياما ثم تبين عجزه عن القيام بالأمور فأضيف إليه علي بن عيسى لينفذ الأمور وينظر معه في الأعمال، وكان أبو علي بن مقلة ممن يكتب أيضا بحضرة حامد بن العباس الوزير، ثم صارت المنزلة كلها لعلي بن عيسى واستقل بالوزارة في السنة الآتية.

وفيها: أمرت السيدة أم المقتدر قهرمانة لها تعرف بتملي أن تجلس بالتربة التي بنتها بالرصافة في كل يوم جمعة، وأن تنظر في المظالم التي ترفع إليها في القصص، ويحضر في مجلسها القضاة والفقهاء.

وحج بالناس فيها الفضل الهاشمي.

وفيها توفي:

إبراهيم بن أحمد بن الحارث

أبو القاسم الكلابي الشافعي، سمع الحارث بن مسكين وغيره، وكان رجلا صالحا، تفقه على مذهب الشافعي وكان يحب الخلوة والانقباض، توفي في شعبان منها.

أحمد بن الحسن الصوفي أحد مشايخ الحديث المكثرين المعمرين.

أحمد بن عمر بن سريج

أبو العباس القاضي بشيراز، صنف نحو أربعمائة مصنف، وكان أحد أئمة الشافعية، ويلقب بالباز الأشهب، أخذ الفقه عن أبي قاسم الأنماطي وعن أصحاب الشافعي، كالمزني وغيره، وعنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق، وقد ذكرنا ترجمته في الطبقات.

توفي في جمادى الأولى منها عن سبع وخمسين سنة وستة أشهر.

قال ابن خلكان: توفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الأول وعمره سبع وخمسون سنة وثلاثة أشهر، وقبره يزار.

أحمد بن يحيى

أبو عبد الله الجلاء بغدادي، سكن الشام وصحب أبا التراب النخشبي، وذا النون المصري، روى أبو نعيم بسنده عنه قال: قلت لأبوي وأنا شاب: إني أحب أن تهباني لله عز وجل.

فقالا: قد وهبناك لله.

فغبت عنهما مدة طويلة ثم رجعت إلى بلدنا عشاء في ليلة مطيرة، فانتهيت إلى الباب فدفعته فقالا: من هذا؟

فقلت: أنا ولدكما فلان.

فقالا: إنه قد كان لنا ولد ووهبناه لله عز وجل، ونحن من العرب لا نرجع فيما وهبنا.

ولم يفتحا لي الباب.

الحسن بن يوسف بن إسماعيل بن حماد بن زيد

القاضي أبو يعلى، وهو أخو القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، كان إليه ولاية القضاء بالأردن.

عبد الله بن أحمد بن موسى بن زياد

أبو محمد الجواليقي القاضي، المعروف بعبدان، الأهوازي، ولد سنة ست عشرة ومائتين، كان أحد الحفاظ الأثبات، يحفظ مائة ألف حديث، جمع المشايخ والأبواب، روى عن هدبة وكامل بن طلحة وغيرهم، وعنه ابن صاعد والمحاملي وغيرهم.

محمد بن بابشاذ أبو عبيد الله البصري

سكن بغداد وحدث بها عن عبيد الله بن معاذ العنبري وبشر بن معاذ العقدي وغيرهما، وفي حديثه غرائب ومناكير.

توفي في شوال منها.

محمد بن الحسين بن شهريار

أبو بكر القطان البلخي الأصل، روى عن الفلاس وبشر بن معاذ.

وعنه أبو بكر الشافعي ومحمد بن عمر بن الجعاني.

كذبه ابن ناجية.

وقال الدارقطني: ليس به بأس.

محمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد

أبو بكر الضبي القاضي المعروف بوكيع، كان عالما فاضلا عارفا بأيام الناس، فقيها قارئا نحويا، له مصنفات منها: كتاب (عدد آي القرآن)، ولي القضاء بالأهواز.

وحدث عن الحسن بن عرفة والزبير بن بكار وغيرهما، وعنه أحمد بن كامل وأبو علي الصواف وغيرهما.

ومن شعره الجيد:

إذا ما غدت طلابة العلم تبتغي ** من العلم يوما ما يخلد في الكتب

غدوت بتشمير وجد عليهم ** ومحبرتي أذني ودفترها قلبي

منصور بن إسماعيل بن عمر

أبو الحسن الفقير، أحد أئمة الشافعية، وله مصنفات في المذهب، وله الشعر الحسن.

قال ابن الجوزي: ويظهر في شعره التشيع، وكان جنديا ثم كفّ بصره وسكن الرملة، ثم قدم مصر ومات بها.

أبو نصر المحب

أحد مشايخ الصوفية، كان له كرم وسخاء ومروءة، ومر بسائل سأل وهو يقول: شفيعي إليكم رسول الله ﷺ، فشق أبو نصر إزاره وأعطاه نصفه، ثم مشى خطوتين ثم رجع إليه فأعطاه النصف الآخر وقال: هذا نذالة.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائة

في صفر منها وقع حريق بالكرخ في الباقلانتين، هلك فيه خلق كثير من الناس.

وفي ربيع الآخر منها دخل بأسارى من الكرخ نحو مائة وخمسين أسيرا، أنقذهم الأمير بدر الحماني.

وفي ذي القعدة منها انقضّ كوكب عظيم غالب الضوء وتقطع ثلاث قطع، وسمع بعد انقضاضه صوت رعد شديد هائل من غير غيم.

ذكره ابن الجوزي.

وفيها: دخلت القرامطة إلى البصرة فأكثروا فيها الفساد.

وفيها: عزل حامد بن العباس عن الوزارة وأعيد إليها أبو الحسن بن الفرات المرة الثالثة.

وفيها: كسرت العامة أبواب السجون فأخرجوا من كان بها، وأدركت الشرطة من أخرجوا من السجن فلم يفتهم أحد منهم، بل ردوا إلى السجون.

وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو أم موسى القهرمانة.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن علي بن المثنى

أبو يعلى الموصلي صاحب المسند المشهور، سمع الإمام أحمد بن حنبل وطبقته، وكان حافظا خيرا حسن التصنيف عدلا فيما يرويه، ضابطا لما يحدث به.

إسحاق بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن سلمة

أبو يعقوب البزار الكوفي، رحل إلى الشام ومصر وكتب الكثير وصنف المسند، واستوطن بغداد، وكان من الثقات، روى عنه ابن المظفر الحافظ، قدم بغداد وروى عنه الطبراني والأزدي وغيرهما من الحفاظ، وكان ثقة حافظا عارفا.

توفي بحلب في هذه السنة.

زكريا بن يحيى الساجي

الفقيه المحدث شيخ أبي الحسن الأشعري في السنّة والحديث.

علي بن سهل بن الأزهر أبو الحسن الأصبهاني، كان أولا مترفا ثم صار زاهدا عابدا، يبقى الأيام لا يأكل فيها شيئا، وكان يقول: ألهاني الشوق إلى الله عن الطعام والشراب.

وكان يقول: أنا لا أموت كما يموتون بالأعلال والأسقام، إنما هو دعاء وإجابة، أدعي فأجيب.

فكان كما قال: بينما هو جالس في جماعة إذ قال: لبيك ووقع ميتا.

محمد بن هارون الروياني صاحب المسند.

وابن دريج العكبري.

والهيثم بن خلف.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائة

فيها: غلت الأسعار في هذه السنة ببغداد، فاضطربت العامة وقصدوا دار حامد بن العباس الذي ضمن براثى من الخليفة فغلت الأسعار بسبب ذلك، وعدوا في ذلك اليوم - وكان يوم الجمعة - على الخطيب، فمنعوه الخطبة وكسروا المنابر وقتلوا الشرط وحرقوا جسورا كثيرة، فأمر الخليفة بقتال العامة ثم نقض الضمان الذي كان حامد بن العباس ضمنه فانحطت الأسعار، وبيع الكر بناقص خمسة دنانير، فطابت أنفس الناس بذلك وسكنوا.

وفي تموز منها وقع برد شديد جدا حتى نزل الناس عن الأسطحة وتدثروا باللحف والأكسية، ووقع في شتاء هذه السنة بلغم عظيم، وكان فيها برد شديد جدا بحيث أضر ذلك ببعض النخيل.

وحج بالناس فيها أحمد بن العباس أخو القهرمانة.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن سفيان الفقيه، راوي صحيح مسلم عنه.

أحمد بن الصلت

أحمد بن الصلت ابن المغلس أبو العباس الحماني أحد الوضاعين للأحاديث، روى عن خاله جبارة بن المغلس وأبي نعيم ومسلم بن إبراهيم، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم: أحاديث كلها وضعها هو في مناقب أبي حنيفة وغير ذلك.

وحكى عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وبشر بن الحارث أخبارا كلها كذب.

قال أبو الفرج بن الجوزي: قال لي محمد بن أبي الفوارس: كان أحمد بن الصلت يضع الحديث.

إسحاق بن أحمد الخزاعي.

والمفضل الجندي.

و عبد الله بن محمد بن وهب الدينوري.

و عبد الله بن ثابت بن يعقوب

أبو عبد الله المقري النحوي التوزي

سكن بغداد، وروى عن عمرو بن شبة، وعنه أبو عمرو بن السماك.

ومن شعره الجيد:

إذا لم تكن حافظا واعيا ** فعلمك في البيت لا ينفع

وتحضر بالجهل في مجلس ** وعلمك في الكتب مستودع

ومن يك في دهره هكذا ** يكن دهره القهقرى يرجع

ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائة

فيها: وقع حريق كثير في نواحي بغداد بسبب زنديق قتل فألقى من كان من جهته الحريق في أماكن كثيرة، فهلك بسبب ذلك خلق كثير من الناس.

وفي جمادى الأولى منها قلد المقتدر مؤنس الخادم بلاد مصر والشام ولقبه المظفر.

وأمر بكتب ذلك في المراسلات إلى الآفاق.

وفي ذي القعدة منها أحضر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إلى دار الوزير عيسى بن علي لمناظرة الحنابلة في أشياء نقموها عليه، فلم يحضروا ولا واحد منهم.

وفيها: قدم الوزير حامد بن العباس للخليفة بستانا بناه وسماه الناعورة قيمته مائة ألف دينار، وفرش مساكنه بأنواع المفارش المفتخرة.

وفيها: كان مقتل الحسين بن منصور الحلاج ولنذكر شيئا من ترجمته وسيرته، وكيفية قتله على وجه الإيجاز وبيان المقصود بطريق الإنصاف والعدل، من غير تحمل ولا هوى ولا جور.

ترجمة الحلاج

ونحن نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يكن قاله، أو نتحمل عليه في أقواله وأفعاله، فنقول: هو الحسين بن منصور بن محمى الحلاج أبو مغيث، ويقال: أبو عبد الله، كان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل فارس من بلدة يقال لها: البيضاء، ونشأ بواسط، ويقال: بتستر، ودخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها في وسط المسجد في البرد والحر، مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا يجلس إلا تحت السماء في وسط المسجد الحرام، ولا يأكل إلا بعض قرص ويشرب قليلا من الماء معه وقت الفطور مدة سنة كاملة.

وكان يجلس على صخرة في شدة الحر في جبل أبي قبيس، وقد صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد بن محمد، وعمرو بن عثمان المكي، وأبي الحسين النوري.

قال الخطيب البغدادي: والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى أن يكون الحلاج منهم، وأبى أن يعده فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي - واسمه محمد بن الحسين - سمعت إبراهيم بن محمد النصراباذي وعوتب في شيء حكي عن الحلاج في الروح فقال للذي عاتبه: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج.

قال أبو عبد الرحمن: وسمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: كنت أنا والحسين بن منصور شيئا واحدا إلا أنه أظهر وكتمت.

وقد روي عن الشبلي من وجه آخر أنه قال، وقد رأى الحلاج مصلوبا: ألم أنهك عن العالمين؟

قال الخطيب: والذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله، وإلى الزندقة في عقيدته وعقده.

قال: وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه ويغالون فيه ويغلون.

وقد كان الحلاج في عبارته حلو المنطق، وله شعر على طريقة الصوفية.

قلت: لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره، فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من العلماء والأئمة: إجماعهم على قتله، وأنه قتل كافرا، وكان كافرا ممخرقا مموها مشعبذا، وبهذا قال أكثر الصوفية فيه.

ومنهم طائفة كما تقدم أجملوا القول فيه، وغرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه ولا باطن قوله، فإنه كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم ولا بنى أمره وحاله على تقوى من الله ورضوان.

فلهذا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.

وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى، ولهذا دخل على الحلاج الحلول والاتحاد، فصار من أهل الانحلال والانحراف.

وقد روى من وجه: أنه تقلبت به الأحوال وتردد إلى البلدان، وهو في ذلك كله يظهر للناس أنه من الدعاة إلى الله عز وجل.

وصح أنه دخل إلى الهند وتعلم بها السحر وقال: أدعو به إلى الله وكان أهل الهند يكاتبونه بالمغيث - أي: أنه من رجال المغيث - ويكاتبه أهل سركسان بالمقيت.

ويكاتبه أهل خراسان بالمميز، وأهل فارس بأبي عبد الله الزاهد.

وأهل خوزستان بأبي عبد الله الزاهد حلاج الأسرار.

وكان بعض البغاددة حين كان عندهم يقولون له: المصطلم، وأهل البصرة يقولون له: المحير، ويقال: إنما سماه الحلاج أهل الأهواز لأنه كان يكاشفهم عن ما في ضمائرهم، وقيل: لأنه مرة قال لحلاج: اذهب لي في حاجة كذا وكذا.

فقال: إني مشغول بالحلج.

فقال: اذهب فأنا أحلج عنك، فذهب ورجع سريعا فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه، يقال: إنه أشار بالمرود فامتاز الحب عن القطن، وفي صحة هذا ونسبته إليه نظر، وإن كان قد جرى مثل هذا، فالشياطين تعين أصحابها ويستخدمونهم.

وقيل: لأن أباه كان حلاجا.

ومما يدل على أنه كان ذا حلول في بدء أمره أشياء كثيرة، منها: شعره في ذلك فمن ذلك قوله:

جبلت روحك في روحي كما ** يجبل العنبر بالمسك الفنق

فإذا مسك شيء مسني ** وإذا أنت أنا لا نفترق

وقوله:

مزجت روحك في روحي كما ** تمزج الخمرة بالماء الزلال

فإذا مسك شيء مسني ** فإذا أنت أنا في كل حال

وقوله أيضا:

قد تحققتك في سر ** ي فخاطبك لساني

فاجتمعنا لمعان ** وافترقنا لمعان

إن يكن غيبتك التعظي ** م عن لحظ العيان

فلقد صيرك الوج ** د من الأحشاء دان

وقد أنشد لابن عطاء قول الحلاج:

أريدك لا أريدك للثواب ** ولكني أريدك للعقاب

وكل مآربي قد نلت منها ** سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

فقال ابن عطاء: قال: هذا ما تزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف، واحتراق الأسف، فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب وهاطل من الحق دائم سكب.

وقد أنشد لأبي عبد الله بن خفيف قول الحلاج:

سبحان من أظهر ناسوته ** سرَّسنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهرا ** في صورة الآكل والشارب

حتى قد عاينه خلقه ** كلحظة الحاجب بالحاجب

فقال ابن خفيف: علا من يقول هذا لعنه الله؟

فقيل له: إن هذا من شعر الحلاج.

فقال: قد يكون مقولا عليه.

وينسب إليه أيضا:

أوشكت تسأل عني كيف كنت ** وما لاقيت بعدك من هم وحزن

لا كنت إن كنت إن كنت أدري كيف كنت ** ولا لا كنت أدري كيف لم أكن

قال ابن خلكان: ويروى لسمنون لا للحلاج.

ومن شعره أيضا قوله:

متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ** فلا أعطيت ما أملت وتمنت

وإن أضمرت نفسي سواك فلا زكت ** رياض المنى من وجنتيك وجنت

ومن شعره أيضا:

دنيا تغالطني كأن ** ني لست أعرف حالها

حظر المليك حرامها ** وأنا احتميت حلالها

فوجدتها محتاجة ** فوهبت لذتها لها

وقد كان الحلاج يتلّون في ملابسه، فتارة يلبس لباس الصوفية، وتارة يتجرد في ملابس زرية، وتارة يلبس لباس الأجناد ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك والأجناد.

وقد رآه بعض أصحابه في ثياب رثة وبيده ركوة وعكازة وهو سائح فقال له: ما هذه الحالة يا حلاج؟

فأنشأ يقول:

لئن أمسيت في ثوبي عديم ** لقد بليا على حرّ كريم

فلا يغررك أن أبصرت حالا ** مغيرة عن الحال القديم

فلي نفس ستتلف أو سترقى ** لعمرك بي إلى أمر جسيم

ومن مستجاد كلامه وقد سأله رجل أن يوصيه بشيء ينفعه الله به.

فقال: عليك نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك عن الحق.

وقال له رجل: عظني.

فقال: كن مع الحق بحكم ما أوجب.

وروى الخطيب بسنده إليه أنه قال: علم الأولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات: حب الجليل وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل.

قلت: وقد أخطأ الحلاج في المقامين الأخيرين، فلم يتبع التنزيل ولم يبق على الاستقامة، بل تحول عنها إلى الإعوجاج والبدعة والضلالة، نسأل الله العافية.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي: أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته.

قال الخطيب: وحدثني مسعود بن ناصر أنبأنا ابن باكوا الشيرازي سمعت أبا زرعة الطبري يقول: الناس فيه - يعني حسين بن منصور الحلاج - بين قبول ورد.

ولكن سمعت محمد بن يحيى الرازي يقول: سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي.

فقلت له: إيش الذي وجد الشيخ عليه؟

قال: قرأت آية من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به.

قال أبو زرعة الطبري: وسمعت أبا يعقوب الأقطع يقول

زوجت ابنتي من الحسين الحلاج لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي منه بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال، خبيث كافر.

قلت: كان تزويجه إياها بمكة، وهي أم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع فأولدها ولده أحمد بن الحسين بن منصور، وقد ذكر سيرة أبيه كما ساقها من طريق الخطيب.

وذكر أبو القاسم القشيري في رسالته في باب حفظ قلوب المشايخ: أن عمرو بن عثمان دخل على الحلاج وهو بمكة وهو يكتب شيئا في أوراق فقال له: ما هذا؟

فقال: هو ذا أعارض القرآن.

قال: فدعا عليه فلم يفلح بعدها.

وأنكر على أبي يعقوب الأقطع تزويجه إياه ابنته.

وكتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتبا كثيرة يلعنه فيها ويحذر الناس منه، فشرد الحلاج في البلاد فعاث يمينا وشمالا، وجعل يظهر أنه يدعو إلى الله ويستعين بأنواع من الحيل، ولم يزل ذلك دأبه وشأنه حتى أحل الله به بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق، والله أعدل من أن يسلطه على صديق.

كيف وقد تهجم على القرآن العظيم، وقد أراد معارضته في البلد الحرام حيث نزل به جبريل، وقد قال تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25] .

ولا إلحاد أعظم من هذا.

وقد أشبه الحلاج كفار قريش في معاندتهم، كما قال تعالى عنهم: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [الأنفال: 31] .

أشياء من حيل الحلاج

روى الخطيب البغدادي: أن الحلاج بعث رجلا من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح، فإذا سعوا في مداواته، قال لهم: يا جماعة الخير، إنه لا ينفني شيء مما تفعلون.

ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله ﷺ في المنام وهو يقول له: إن شفاءك لا يكون إلا على يديّ القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وصفته كذا وكذا.

وقال له الحلاج: إني سأقدم عليك في ذلك الوقت.

فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد، ويظهر الصلاح والتنسك ويقرأ القرآن.

فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه، ثم أظهر لهم أنه قد عمي فمكث حينا على ذلك، ثم أظهر لهم أنه قد زمن، فسعوا بمداواته بكل ممكن فلم ينتج فيه شيء، فقال لهم: يا جماعة الخير هذا الذي تفعلونه معي لا ينتج شيئا وأنا قد رأيت رسول الله ﷺ في المنام وهو يقول لي: إن عافيتك وشفاءك إنما هو على يديّ القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وكانوا أولا يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه كان في الوقت الذي ذكر لهم، واتفق هو والحلاج عليه، أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفيا وعليه ثياب صوف بيض، فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتفت إلى أحد، فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل، فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به.

ثم جاؤوا إلى ذلك الزمن المتعافى فأخبره بخبره، فقال: صفوه لي.

فوصفوه له فقال: هذا الذي أخبرني عنه رسول الله ﷺ في المنام، وأن شفائي على يديه، اذهبوا بي إليه.

فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رسول الله ﷺ في المنام.

ثم ذكر له رؤياه، فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر، ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته، فمشى كأنه لم يكن به شيء والناس حضور، وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده، فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه، وعظموا الحلاج تعظيما زائدا على ما أظهر لهم من الباطل والزور.

ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم.

فلما أراد الخروج عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالا كثيرا فقال: أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا، وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا، ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس، ويحجون ويتصدقون، محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك.

فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى: صدق الشيخ، قد ردّ الله عليّ بصري ومنّ الله عليّ بالعافية، لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله، والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين الذين نعرفهم، ثم حثهم على إعطائه من المال ما طابت به أنفسهم.

ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالا كثيرا ألوفا من الذهب والفضة، فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال.

وروي عن بعضهم قال: كنت أسمع أن الحلاج له أحوال وكرامات، فأحببت أن أختبر ذلك فجئته فسلمت عليه فقال لي: تشتهي على الساعة شيئا؟

فقلت أشتهي سمكا طريا.

فدخل منزله فغاب ساعة ثم خرج علي ومعه سمكة تضطرب ورجلاه عليهما الطين.

فقال: دعوت الله فأمرني أن آتي البطائح لآتيك بهذه السمكة، فخضت الأهواز وهذا الطين منها.

فقلت: إن شئت أدخلتني منزلك حتى أنظر ليقوى يقيني بذلك، فإن ظهرت على شيء وإلا آمنت بك.

فقال: ادخل، فدخلت فأغلق علي الباب وجلس يراني.

فدرت البيت فلم أجد فيه منفذا إلى غيره، فتحيرت في أمره ثم نظرت فإذا أنا بتأزيرة - وكان مؤزرا بازار ساج - فحركتها فانفلقت فإذا هي باب منفذ فدخلته فأفضى بي إلى بستان هائل، فيه من سائر الثمار الجديدة والعتيقة، قد أحسن إبقاءها.

وإذا أشياء كثيرة معدودة للأكل، وإذا هناك بركة كبيرة فيها سمك كثير صغار وكبار، فدخلتها فأخرجت منها واحدة فنال رجلي من الطين مثل الذي نال رجليه، فجئت إلى الباب فقلت: افتح قد آمنت بك.

فلما رآني على مثل حاله أسرع خلفي جريا يريد أن يقتلني.

فضربته بالسمكة في وجهه وقلت: يا عدو الله أتعبتني في هذا اليوم.

ولما خلصت منه لقيني بعد أيام فضاحكني وقال: لا تفش ما رأيت لأحد، وإلا بعثت إليك من يقتلك على فراشك.

قال: فعرفت أنه يفعل إن أفشيت عليه فلم أحدث به أحدا حتى صلب.

وقال الحلاج يوما لرجل: آمن بي حتى أبعث لك بعصفورة تأخذ من ذرقها وزن حبة، فتضعه على كذا منا من نحاس فيصير ذهبا.

فقال له الرجل: آمن أنت بي حتى أبعث إليك بفيل إذا استلقى على قفاه بلغت قوائمه إلى السماء، وإذا أردت أن تخفيه وضعته في إحدى عينيك.

قال: فبهت وسكت.

ولما ورد بغداد جعل يدعو إلى نفسه ويظهر أشياء من المخاريق والشعوذة وغيرها من الأحوال الشيطانية، وأكثر ما كان يروج على الرافضة لقلة عقولهم وضعف تمييزهم بين الحق والباطل.

وقد استدعى يوما برئيس من الرافضة فدعاه إلى الإيمان به، فقال له الرافضي: إني رجل أحب النساء، وإني أصلع الرأس، وقد شبت، فإن أنت أذهبت عني هذا وهذا، آمنت بك وأنك الإمام المعصوم، وإن شئت قلت إنك نبي، وإن شئت قلت أنك أنت الله.

قال: فبهت الحلاج ولم يحر إليه جوابا.

قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي: كان الحلاج متلونا تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم: إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقا أو غيرهم، ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة، فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال: إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة، ولكن أدخلوه بيتا لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك.

فلما بلغ ذلك إلى الحلاج تحول من الأهواز.

قال الخطيب: أنبأ إبراهيم بن مخلد أنبأ إسماعيل بن علي الخطيب في تاريخه قال: وظهر أمر رجل يقال له: الحلاج الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به، وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وأنهى خبره إلى السلطان - يعني الخليفة المقتدر بالله - فلم يقر بما رمي به من ذلك فعاقبه وصلبه حيا أياما متوالية في رحبة الجسر، في كل يوم غدوة، وينادى عليه بما ذكر عنه، ثم ينزل به ثم يحبس.

فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس، خوفا من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم، إلى أن حبس آخر حبسة في دار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من الحيل، حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه بالمآكل المطيبة، ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها، فاستجابوا له وترقى به الأمر إلى أن ادعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بذلك بلسانه، وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله.

فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار.

فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي في يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه وجلاه.

وقال أبو عبد الرحمن بن الحسن السلمي: سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول: قال أبو القاسم الرازي، قال أبو بكر بن ممشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها ليلا ولا نهارا، فأنكروا ذلك من حاله ففتشوا مخلاته فوجدوا فيها كتابا للحلاج، عنوانه: (من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان) - يدعوه إلى الضلالة والإيمان به - فبعث بالكتب إلى بغداد فسئل الحلاج عن ذلك فأقر أنه كتبه فقالوا له: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الألوهية والربوبية؟

فقال: لا ولكن هذا عين الجمع عندنا.

هل الكاتب إلا الله وأنا واليد آلة؟

فقيل له: معك على ذلك أحد؟

قال: نعم ابن عطاء وأبو محمد الحريري وأبو بكر الشبلي.

فسئل الحريري عن ذلك فقال: من يقول بهذا كافر.

وسئل الشبلي عن ذلك فقال: من يقول بهذا يمنع.

وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال: القول ما يقول الحلاج في ذلك.

فعوقب حتى كان سبب هلاكه.

ثم روى أبو عبد الرحمن السلمي عن محمد بن عبد الرحمن الرازي: أن الوزير حامد بن العباس لما أحضر الحلاج سأله عن اعتقاده فأقر به فكتبه، فسأل عن ذلك فقهاء بغداد فأنكروا ذلك وكفروا من اعتقده، فكتبه.

فقال الوزير: إن أبا العباس بن عطاء يقول بهذا.

فقالوا: من قال بهذا فهو كافر.

ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس، فسأله عن قول الحلاج فقال: من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد.

فقال الوزير لابن عطاء: ويحك تصوب مثل هذا القول وهذا الاعتقاد؟

فقال ابن عطاء: ما لك ولهذا، عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس وظلمهم وقتلهم، فما لك ولكلام هؤلاء السادة من الأولياء.

فأمر الوزير عند ذلك بضرب شدقيه ونزع خفيه وأن يضرب بهما على رأسه، فما زال يفعل به ذلك حتى سال الدم من منخريه، وأمر بسجنه.

فقالوا له: إن العامة تستوحش من هذا ولا يعجبها.

فحمل إلى منزله، فقال ابن عطاء: اللهم اقتله واقطع يديه ورجليه.

ثم مات ابن عطاء بعد سبعة أيام، ثم بعد مدة قتل الوزير شر قتلة، وقطعت يداه ورجلاه وأحرقت داره.

وكان العوام يرون ذلك بدعوة ابن عطاء على عادتهم في مرائيهم فيمن أوذي ممن لهم معه هوى: بل قد قال ذلك جماعة ممن ينسب إلى العلم فيمن يؤذي ابن عربي أو يحط على حسين الحلاج أو غيره: هذا بخطيئة فلان.

وقد اتفق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا.

قال أبو بكر محمد بن داود الظاهري حين أحضر الحلاج في المرة الأولى قبل وفاة أبو بكر هذا وسئل عنه فقال: إن كان ما أنزل الله على نبيه ﷺ حقا وما جاء به حقا، فما يقوله الحلاج باطل.

وكان شديدا عليه.

وقال أبو بكر الصولي: قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلا يتعاقل، وغبيا يتبالغ، وخبيثا مدعيا، وراغبا يتزهد، وفاجرا يتعبد.

ولما صلب في أول مرة ونودي عليه أربعة أيام سمعه بعضهم وقد جيء به ليصلب وهو راكب على بقرة يقول: ما أنا بالحلاج، ولكن ألقي علي شبهه وغاب عنكم، فلما أدني إلى الخشبة ليصلب عليها سمعته وهو مصلوب يقول: يا معين الفنا علي أعني على الفنا.

وقال بعضهم: سمعته وهو مصلوب يقول: إلهي أصبحت في دار الرغائب، أنظر إلى العجائب، إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك فكيف بمن يؤذى فيك.

صفة مقتل الحلاج

قال الخطيب البغدادي وغيره: كان الحلاج قد قدم آخر قدمة إلى بغداد فصحب الصوفية وانتسب إليهم، وكان الوزير إذ ذاك حامد بن العباس، فبلغه أن الحلاج قد أضل خلقا من الحشم والحجاب في دار السلطان، ومن غلمان نصر القشوري الحاجب، وجعل لهم في جملة ما ادعاه أنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه ويحضرون له ما شاء ويختار ويشتهيه.

وقال: إنه أحيا عدة من الطير.

وذكر لعلي بن عيسى: أن رجلا يقال له: محمد بن علي القنائي الكاتب، يعبد الحلاج ويدعو الناس إلى طاعته، فطلبه فكبس منزله فأخذه فأقر أنه من أصحاب الحلاج، ووجد في منزله أشياء بخط الحلاج مكتوبة بماء الذهب في ورق الحرير مجلدة بأفخر الجلود.

ووجد عنده سفطا فيه من رجيع الحلاج وعذرته وبوله وأشياء من آثاره، وبقية خبز من زاده.

فطلب الوزير من المقتدر أن يتكلم في أمر الحلاج ففوض أمره إليه، فاستدعى بجماعة من أصحاب الحلاج فتهددهم، فاعترفوا له أنه قد صح عندهم أنه إله مع الله، وأنه يحيي الموتى، وأنهم كاشفوا الحلاج بذلك ورموه به في وجهه، فجحد ذلك وكذبهم.

وقال: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك.

وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد ويكثر أن يقول: سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

وكانت عليه مدرعة سوداء وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا، والمدرعة واصلة إلى ركبتيه، والقيود واصلة إلى ركبتيه أيضا، وكان مع ذلك يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة.

وكان قبل احتياط الوزير حامد بن العباس عليه في حجرة من دار نصر القشوري الحاجب، مأذونا لمن يدخل إليه وكان يسمي نفسه تارة بالحسين بن منصور، وتارة محمد بن أحمد الفارسي، وكان نصر الحاجب هذا قد افتتن به وظن أنه رجل صالح، وكان قد أدخله على المقتدر بالله فرقاه من وجع حصل فاتفق زواله عنه، وكذلك وقع لوالدة المقتدر السيدة رقاها فزالت عنها.

فنفق سوقه وحظي في دار السلطان فلما انتشر الكلام فيه سلم إلى الوزير حامد بن العباس فحبسه في قيود كثيرة في رجليه، وجمع له الفقهاء فأجمعوا على كفره وزندقته، وأنه ساحر ممخرق.

ورجع عنه رجلان صالحان ممن كان اتبعه، أحدهما أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوارجي، والآخر يقال له: الدباس، فذكرا من فضائحه وما كان يدعو الناس إليه من الكذب والفجور والمخرفة والسحر شيئا كثيرا، وكذلك أحضرت زوجة ابنه سليمان فذكرت عنه فضائح كثيرة.

من ذلك: أنه أراد أن يغشاها وهي نائمة فانتبهت فقال: قومي إلى الصلاة، وإنما كان يريد أن يطأها.

وأمر ابنتها بالسجود له فقالت: أو يسجد بشر لبشر؟

فقال: نعم إله في السماء وإله في الأرض.

ثم أمرها أن تأخذ من تحت بارية هنالك ما أرادت، فوجدت تحنها دنانير كثيرة مبدورة.

ولما كان معتقلا في دار حامد بن العباس الوزير دخل عليه بعض الغلمان ومعه طبق فيه طعام ليأكل منه، فوجده قد ملأ البيت من سقفه إلى أرضه، فذعر ذلك الغلام وفزع فزعا شديدا، وألقى ما كان في يده من ذلك الطبق والطعام، ورجع محموما فمرض عدة أيام.

ولما كان آخر مجلس من مجالسه أحضر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف، وجيء بالحلاج وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه وفيه: من أراد الحج ولم يتيسر له، فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من النجاسة، ولا يمكن أحدا من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة.

ثم يستدعي بثلاثين يتيما فيطعمهم من طعامه، ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصا قميصا، ويعطي كل واحد منهم سبعة دراهم - أو قال: ثلاثة دراهم - فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج.

وإن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندبا، أجزأه ذلك عن صيام رمضان.

ومن صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى آخره، أجزأه ذلك عن الصلاة بعد ذلك.

وأن من جاور بمقابر الشهداء وبمقابر قريش عشرة أيام يصلي ويدعو ويصوم، ثم لا يفطر إلا على شيء من خبز الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره.

فقال له القاضي أبو عمر: من أين لك هذا؟

فقال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري.

فقال له: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا.

فأقبل الوزير على القاضي فقال له: قد قلت يا حلال الدم فاكتب ذلك في هذه الورقة، وألح عليه وقدم له الدواة فكتب ذلك في تلك الورقة، وكتب من حضر خطوطهم فيها وأنفذها الوزير إلى المقتدر، وجعل الحلاج يقول لهم: ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا عليّ ما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب في السنة موجودة في الوارقين، فالله الله في دمي.

فلا يلتفتون إليه ولا إلى شيء مما يقول.

وجعل يكرر ذلك وهم يكتبون خطوطهم بما كان من الأمر.

ورد الحلاج إلى محبسه، وتأخر جواب المقتدر ثلاثة أيام حتى ساء ظن الوزير حامد بن العباس، فكتب إلى الخليفة يقول له: إن أمر الحلاج قد اشتهر ولم يختلف فيه اثنان، وقد افتتن كثير من الناس به.

فجاء الجواب: بأن يسلم إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، وليضربه ألف سوط، فإن مات وإلا ضربت عنقه.

ففرح الوزير بذلك وطلب صاحب الشرطة، فسلمه إليه وبعث معه طائفة من غلمانه، يصلونه معه إلى محل الشرطة من الجانب الغربي خوفا من أن يستنقذ من أيديهم.

وذلك بعد عشاء الآخرة في ليلة الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وهو راكب على بغل عليه إكاف وحوله جماعة من أعوان السياسة على مثل شكله، فاستقر منزله بدار الشرطة في هذه الليلة، فذكر أنه بات يصلي تلك الليلة ويدعو دعاء كثيرا.

قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا بكر الشاشي يقول: قال أبو الحديد - يعني المصري -: لما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلاج قام يصلي من الليل فصلى ما شاء الله، فلما كان آخر الليل قام قائما فتغطى بكسائه ومد يده نحو القبلة، فتكلم بكلام جائز الحفظ، فكان مما حفظت منه قوله: نحن شواهدك فلو دلتنا عزتك لتبدى ما شئت من شأنك ومشيئتك.

وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله تتجلى لما تشاء مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة، ثم إني أوعزت إلى شاهدك لأني في ذاتك الهوى كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند حلول لذاتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدا في معارجي إلى عروش أزلياتي عند التولي عن برياتي، إني احتضرت وقتلت وصلبت وأحرقت واحتملت سافيات الذاريات.

ولججت في الجاريات، وأن ذرة من ينجوج مكان هالوك متجلياتي، لأعظم من الراسيات.

ثم أنشأ يقول:

أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها ** فيما ورا الحيث بل في شاهد القدم

أنعى إليك قلوبا طالما هطلت ** سحائب الوحى فيها أبحر الحكم

أنعى إليك لسان الحق منك ومن ** أودى وتذكاره في الوهم كالعدم

أنعي إليك بيانا يستكين له ** أقوال كل فصيح مقول فهم

أنعى إليك إشارات العقول معا ** لم يبق منهن إلا دارس العلم

أنعى وحبك أخلاقا لطائفة ** كانت مطاياهم من مكمد الكظم

مضى الجميع فلا عين ولا أثر ** مضى عاد وفقدان الأولى إرم

وخلفوا معشرا يحذون لبستهم ** أعمى من البهم بل أعمى من النعم

قالوا: ولما أخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه ليذهب به إلى القتل أنشد:

طلبت المستقر بكل أرض ** فلم أر لي بأرض مستقرا

وذقت من الزمان وذاق مني ** وجدت مذاقه حلوا ومرا

أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أني قنعت لعشت حرا

وقيل: إنه قالها حين قدم إلى الجذع ليصلب، والمشهور الأول.

فلما أخرجوه للصلب مشى إليه وهو يتبختر في مشيته، وفي رجليه ثلاثة عشر قيدا وجعل ينشد ويتمايل:

نديمي غير منسوب ** إلى شيء من الحيف

فلما دارت الكأس ** دعا بالنطع والسيف

سقاني مثل ما يشر ** ب قعل الضيف الضيف

كذا من يشرب الراح ** مع التنين في الصيف

ثم قال: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [الشورى: 18] .

ثم لم ينطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل.

قالوا: ثم قدم فضرب ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وهو في ذلك كله ساكت ما نطق بكلمة، ولم يتغير لونه، ويقال: إنه جعل يقول مع كل سوط أحد أحد.

قال أبو عبد الرحمن: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت عيسى القصار يقول: آخر كلمة تكلم بها الحلاج حين قتل أن قال: حسب الواحد إفراد الواحد له.

فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا رق له، واستحسن هذا الكلام منه.

وقال السلمي: سمعت أبا بكر المحاملي يقول: سمعت أبا الفاتك البغدادي - وكان صاحب الحلاج - قال: رأيت في النوم بعد ثلاث من قتل الحلاج كأني واقف بين يدي ربي عز وجل، وأنا أقول: يا رب ما فعل الحسين بن منصور؟

فقال: كاشفته بمعنى فدعا الخلق إلى نفسه فأنزلت به ما رأيت.

ومنهم من قال: بل جزع عند القتل جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا، فالله أعلم.

وقال الخطيب: ثنا عبد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال: قال لنا أبو عمر بن حيوية: لما أخرج الحسين بن منصور الحلاج ليقتل مضيت في جملة الناس، ولم أزل أزاحم حتى رأيته فدنوت منه فقال لأصحابه: لا يهولنكم هذا الأمر، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما.

ثم قتل فما عاد.

وذكر الخطيب أنه قال وهو يضرب لمحمد بن عبد الصمد والي الشرطة: أدع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية.

فقال له: قد قيل لي إنك ستقول مثل هذا، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل.

ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف به في تلك النواحي، وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه إليهم بعد ثلاثين يوما.

وزعم بعضهم أنه رأى الحلاج من آخر ذلك اليوم وهو راكب على حمار في طريق النهروان فقال: لعلك من هؤلاء النفر الذين ظنوا أني أنا هو المضروب المقتول، إني لست به، وإنما ألقي شبهي على رجل ففعل به ما رأيتم.

وكانوا بجهلهم يقولون: إنما قتل عدو من أعداء الحلاج.

فذكر هذا لبعض علماء ذلك الزمان فقال: إن كان هذا الرأي صادقا، فقد تبدى له شيطان على صورة الحلاج ليضل الناس به، كما ضلت فرقة النصارى بالمصلوب.

قال الخطيب: واتفق له أن دجلة زادت في هذا العام زيادة كثيرة.

فقال: إنما زادت لأن رماد جثة الحلاج خالطها.

وللعوام في مثل هذا وأشباهه ضروب من الهذيانات قديما وحديثا.

ونودي ببغداد: أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع.

وكان قتله يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة من سنة تسع وثلاثمائة ببغداد.

وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات، وحكى اختلاف الناس فيه، ونقل عن الغزالي أنه ذكره في مشكاة الأنوار، وتأول كلامه وحمله على ما يليق.

ثم نقل ابن خلكان عن إمام الحرمين أنه كان يذمه ويقول: إنه اتفق هو والجنابي وابن المقفع على إفساد عقائد الناس، وتفرقوا في البلاد فكان الجنابي في هجر والبحرين، وابن المقفع ببلاد الترك، ودخل الحلاج العراق، فحكم صاحباه عليه بالهلكة لعدم انخداع أهل العراق بالباطل.

قال ابن خلكان: وهذا لا ينتظم، فإن ابن المقفع كان قبل الحلاج بدهر في أيام السفاح والمنصور، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين أو قبلها.

ولعل إمام الحرمين أراد ابن المقفع الخراساني الذي ادعى الربوبية وأوتي العمر واسمه عطاء، وقد قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة، ولا يمكن اجتماعه مع الحلاج أيضا، وإن أردنا تصحيح كلام إمام الحرمين فنذكر ثلاثة قد اجتمعوا في وقت واحد على إضلال الناس وإفساد العقائد كما ذكر، فيكون المراد بذلك الحلاج وهو الحسين بن منصور الذي ذكره، وابن السمعاني - يعني أبا جعفر محمد بن علي - وأبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي القرمطي الذي قتل الحجاج، وأخذ الحجر الأسود وطم زمزم ونهب أستار الكعبة.

فهؤلاء يمكن اجتماعهم في وقت واحد كما ذكرنا ذلك مبسوطا، وذكره ابن خلكان ملخصا.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو العباس بن عطاء أحد أئمة الصوفية

وهو أحمد بن محمد بن عطاء الأدمي.

حدث عن يوسف بن موسى القطان، والمفضل بن زياد وغيرهما، وقد كان موافقا للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله، وكان أبو العباس هذا يقرأ في كل يوم ختمة، فإذا كان شهر رمضان قرأ في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكان له ختمة يتدبرها ويتدبر معاني القرآن فيها.

فمكث فيها سبعة عشرة سنة، ومات ولم يختمها، وهذا الرجل ممن كان اشتبه عليه أمر الحلاج وأظهر موافقته فعاقبه الوزير حامد بن العباس بالضرب البليغ على شدقيه، وأمر بنزع خفيه وضربه بهما على رأسه حتى سال الدم من منخريه، ومات بعد سبعة أيام من ذلك، وكان قد دعا على الوزير بأن تقطع يداه ورجلاه ويقتل شر قتلة.

فمات الوزير بعد مدة كذلك.

وفيها: توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هارون الطبيب الحراني.

وأبو محمد عبد الله بن حمدون النديم.

ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة

فيها: أطلق يوسف بن أبي الساج من الضيق، وكان معتقلا، وردت إليه أمواله وأعيد إلى عمله وأضيف إليه بلدان أخرى، ووظف عليه في كل سنة خمسمائة ألف دينار يحملها إلى الحضرة، فبعث حينئذ إلى مؤنس الخادم يطلب منه أبا بكر بن الأدمي القارئ، وكان قد قرأ بين يديه حين اعتقل في سنة إحدى وستين ومائتين { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [هود: 102] .

فخاف القارئ من سطوته واستعفى من مؤنس الخادم فقال له مؤنس: اذهب وأنا شريكك في الجائزة.

فلما دخل عليه قرأ بين يديه: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } [يوسف: 54] .

فقال: بل أحب أن تقرأ ذلك العشر الذي قرأته عند سجني وإشهاري { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [هود: 102] .

فإن ذلك كان سبب توبتي ورجوعي إلى الله عز وجل، وكان ذلك على يديك.

ثم أمر له بمال جزيل وأحسن إليه.

وفيها: مرض علي بن عيسى الوزير فجاءه هارون بن المقتدر ليعوده ويبلغه سلام أبيه عليه، فبسط له الطريق، فلما اقترب من داره تحامل وخرج إليه فبلغه سلام الخليفة، وجاء مؤنس الخادم معه، ثم جاء الخبر بأن الخليفة قد عزم على عيادته فاستعفى من مؤنس الخادم، ثم ركب على جهد عظيم حتى سلم على الخليفة لئلا يكلفه الركوب إليه.

وفيها: قبض على القهرمانة أم موسى ومن ينسب إليها، وكان حاصل ما حمل إلى بيت المال من جهتها ألف ألف دينار.

وفي يوم الخميس منها لعشر بقين من ربيع الآخر ولى المقتدر منصب القضاء أبا الحسين عمر بن الحسين بن علي الشيباني المعروف بابن الاشناني - وكان من حفاظ الحديث وفقهاء الناس - ولكنه عزل بعد ثلاثة أيام، وكان قبل ذلك محتسبا ببغداد.

وفيها: عزل محمد بن عبد الصمد عن شرطة بغداد ووليها نازوك وخلع عليه.

وفيها: في جمادى الآخرة فيها ظهر كوكب له ذنب طوله ذراعان في برج السنبلة.

وفي شعبان منه وصلت هدايا نائب مصر وهو الحسين بن المادراني، وفي جملتها بغلة معها فلوها، وغلام يصل لسانه إلى طرف أنفه.

وفيها: قرئت الكتب على المنابر بما كان من الفتوح على المسلمين ببلاد الروم.

وفيها: ورد الخبر بأنه انشق بأرض واسط فلوع في الأرض في سبعة عشر موضعا أكبرها طوله ألف ذراع، وأقلها مائتا ذراع، وأنه غرق من أمهات القرى ألف وثلاثمائة قرية.

وحج بالناس إسحاق بن عبد الملك الهاشمي.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو بشر الدولابي

محمد بن أحمد بن حماد أبو سعيد أبو بشر الدولابي، مولى الأنصار، ويعرف بالوراق، أحد الأئمة من حفاظ الحديث، وله تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك، وروى عن جماعة كثيرة.

قال ابن يونس: كان يصعق، توفي وهو قاصد الحج بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة.

أبو جعفر بن جرير الطبري

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري، وكان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان، وروى الكثير عن الجم الغفير، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع.

ومن أحسن ذلك (تهذيب الآثار) ولو كمل لما احتيج معه إلى شيء، ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه.

وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة.

قال الخطيب البغدادي: استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته، وكان من أكابر أئمة العلماء، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات كلها، بصيرا بالمعاني، فقيها في الأحكام، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، عارفا بأيام الناس وأخبارهم.

وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله.

وكتاب سماه (تهذيب الآثار)لم أر سواه في معناه، إلا أنه لم يتمه.

وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات، وتفرد بمسائل حفظت عنه.

قال الخطيب: وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الأسفرائيني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا، أو كما قال.

وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.

وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ -ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة: لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه.

قلت: وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات، وكان من كبار الصالحين، وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن جرير الطبري هذا.

وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي، وكان الذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، وقيل: محمد بن نصر، فرزقهم الله.

وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء، فقيل له: لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده.

وقال له: سل حاجتك.

فقال: لا حاجة لي.

فقال: لا بد أن تسألني حاجة أو شيئا.

فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤَّال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع.

فأمر الخليفة بذلك.

وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان.

ومن شعره:

إذا أعسرت لم يعلم رفيقي ** وأستغني فيستغني صديقي

حيائي حافظ لي ماء وجهي ** ورفقي في مطالبتي رفيقي

ولو أني سمحت ببذل وجهي ** لكنت إلى الغنى سهل الطريق

ومن شعره أيضا:

خُلُقان لا أرضى طريقهما ** بطر الغنى ومذلة الفقر

فإذا غنيت فلا تكن بطرا ** وإذا افتقرت فته على الدهر

وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة.

وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله.

بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض.

ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهورا يصلون عليه، وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين، وكتابا جمع فيه طريق حديث الطير.

ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما، وقد اشتهر عنه هذا.

فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك، وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات.

والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح، فلم يفهم كثير من الناس مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم.

وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الأعرابي حيث يقول:

حدث مفظع وخطب جليل ** دق عن مثله اصطبار الصبور

قام ناعي العلوم اجمع لما ** قام ناعي محمد بن جرير

فهوت أنجم لها زاهرات ** مؤذنات رسومها بالدثور

وتغشى ضياها النير الإشـ ** ـراق ثوب الدّجنّة الديجور

وغدا روضها الأنيق هشيما ** ثم عادت سهولها كالوعور

يا أبا جعفر مضيت حميدا ** غير وانٍ في الجد والتشمير

بين أجر على اجتهادك موفو ** ر وسعي إلى التقى مشكور

مستحقّا به الخلود لدى جن ** ة عدن في غبطة وسرور

ولأبي بكر بن دريد رحمه الله فيه مرثاة طويلة، وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها.

والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة

فيها دخل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي أمير القرامطة في ألف وسبعمائة فارس إلى البصرة ليلا، نصب السلالم الشعر في سورها فدخلها قهرا وفتحوا أبوابها وقتلوا من لقوه من أهلها، وهرب أكثر الناس فألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم، ومكث بها سبعة عشر يوما يقتل ويأسر من نسائها وذراريها، ويأخذ ما يختار من أموالها.

ثم عاد إلى بلده هجر، كلما بعث إليه الخليفة جندا من قبله فرّ هاربا وترك البلد خاويا، إنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: عزل المقتدر عن الوزارة حامد بن العباس وعلي بن عيسى وردها إلى أبي الحسن بن الفرات مرة ثالثة، وسلم إليه حامدا وعلي بن عيسى، فأما حامد فإن المحسن بن الوزير ضمنه من المقتدر بخمسمائة ألف ألف دينار، فتسلمه فعاقبه بأنواع العقوبات، وأخذ منه أموالا جزيلة لا تحصى ولا تعد كثرة، ثم أرسله مع موكلين عليه إلى واسط ليحتاطوا على أمواله وحواصله هناك، وأمرهم أن يسقوه سما في الطريق فسقوه ذلك في بيض مشوي كان قد طلبه منهم، فمات في رمضان من هذه السنة.

وأما علي بن عيسى فإنه صودر بثلاثمائة ألف دينار وصودر قوم آخرون من كتابه، فكان جملة ما أخذ من هؤلاء مع ما كان صودرت به القهرمانة من الذهب شيئا كثيرا جدا آلاف ألف من الدنانير، وغير ذلك من الأثاث والأملاك والدواب والآنية من الذهب والفضة.

وأشار الوزير ابن الفرات على الخليفة المقتدر بالله أن يبعد عنه مؤنس الخادم إلى الشام - وكان قد قدم من بلاد الروم من الجهاد، وقد فتح شيئا كثيرا من حصون الروم وبلدانهم، وغنم مغانم كثيرة جدا - فأجابه إلى ذلك، فسأل مؤنس الخليفة أن ينظره إلى سلخ شهر رمضان، وكان مؤنس من أعلم بما يعتمده ابن الوزير من تعذيب الناس ومصادرتهم بالأموال، فأمر الخليفة مؤنسا بالخروج إلى الشام.

وفيها: كثر الجراد وأفسد كثيرا من الغلات.

وفي رمضان منها أمر الخليفة برد ما فضل من المواريث على ذوي الأرحام.

وفي رمضان أحرق بالنار على باب العامة مائتين وأربعة أعدال من كتب الزنادقة، منها ما كان صنفه الحلاج وغيره، فسقط منها ذهب كثير كانت محلاة به.

وفيها: اتخذ أبو الحسن بن الفرات الوزير مرستانا في درب الفضل، وكان ينفق عليه من ماله في كل شهر مائتي دينار.

وفيها توفي من الأعيان:

الخلال أحمد بن محمد بن هاون

أبو بكر الخلال، صاحب الكتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد، ولم يصنف في مذهب الإمام أحمد مثل هذا الكتاب، وقد سمع الخلال الحديث من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما.

توفي يوم الجمعة قبل الصلاة ليومين مضتا من هذه السنة.

أبو محمد الجريري

أحد أئمة الصوفية أحمد بن محمد بن الحسين أبو محمد الجريري أحد كبار الصوفية، صحب سريا السقطي، وكان الجنيد يكرمه ويحترمه.

ولما حضرت الجنيد الوفاة أوصى أن يجالس الجريري، وقد اشتبه على الجريري هذا شأن الحلاج فكان ممن أجمل القول فيه، على أن الجريري هذا مذكور بالصلاح والديانة وحسن الأدب.

الزجاج صاحب معاني القرآن

إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج، كان فاضلا دينا حسن الاعتقاد، وله المصنفات الحسنة، منها كتاب (معاني القرآن) وغيره من المصنفات العديدة المفيدة، وقد كان أول أمره يخرط الزجاج فأحب علم النحو فذهب إلى المبرّد، وكان يعطي المبرّد كل يوم درهما، ثم استغنى الزجاج وكثر ماله ولم يقطع عن المبرد ذلك الدرهم حتى مات.

وقد كان الزجاج مؤدبا للقاسم بن عبيد الله، فلما ولي الوزارة كان الناس يأتونه بالرقاع ليقدمها إلى الوزير، فحصل له بسبب ذلك ما يزيد على أربعين ألف دينار.

توفي في جمادى الأولى منها.

وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي، وابن القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، نسب إليه لأخذه عنه، وهو صاحب كتاب (الجمل في النحو).

بدر مولى المعتضد

وهو بدر الحمامي، ويقال له: بدر الكبير، كان في آخر وقت على نيابة فارس، ثم وليها من بعده ولده محمد.

حامد بن العباس

الوزير استوزره المقتدر في سنة ست وثلاثمائة، وكان كثير المال والغلمان، كثير النفقات كريما سخيا، كثير المروءة.

له حكايات تدل على بذله وإعطائه الأموال الجزيلة، ومع هذا كان قد جمع شيئا كثيرا، وجد له في مطمورة ألوف من الذهب، كان كل يوم إذا دخلها ألقى فيها ألف دينار، فلما امتلأت طمها، فلما صودر دل عليها فاستخرجوا منها مالا كثيرا جدا.

ومن أكبر مناقبه أنه كان من السعاة في قتل الحسين الحلاج كما ذكرنا ذلك.

توفي الوزير حامد بن العباس في رمضان منها مسموما.

وفيها توفي: عمر بن محمد بجير البجيري صاحب الصحيح.

ابن خزيمة

محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي، مولى محسن بن مزاحم الإمام أبو بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة، كان بحرا من بحور العلم، طاف البلاد ورحل إلى الآ فاق في الحديث وطلب العلم، فكتب الكثير وصنف وجمع، وكتابه الصحيح من أنفع الكتب وأجلها، وهو من المجتهدين في دين الإسلام، حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الشافعية عنه أنه قال: ما قلدت أحدا منذ بلغت ستة عشر سنة، وقد ذكرنا له ترجمة مطولة في كتابنا طبقات الشافعية.

وهو أحد المحمدين الذين أرملوا بمصر ثم رزقهم الله ببركة صلاته.

وقد ذكرنا نحو ذلك في ترجمة الحسن بن سفيان.

وفيها توفي: محمد بن زكريا الطبيب صاحب المصنف الكبير في الطب.

ثم دخلت سنة ثنتي عشرة وثلاثمائة

في المحرم منها اعترض القرمطي أبو طاهر الحسين بن أبي سعيد الجنابي لعنه الله ولعن أباه للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام، قد أدوا فرض الله عليهم، فقطع عليهم الطريق فقاتلوه دفعا عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم، فقتل منهم خلقا كثيرا لا يعلمهم إلا الله، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره، واصطفى من أموالهم ما أراد، فكان مبلغ ما أخذه من أموال ما يقاوم ألف ألف دينار، ومن الأمتعة والمتاجر نحو ذلك، وترك بقية الناس بعد ما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل.

وقد جاحف عن الناس نائب الكوفة أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان فهزمه وأسره.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان عدة من مع القرمطي ثمانمائة مقاتل، وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة قصمه الله.

ولما انتهى خبرهم إلى بغداد قام نساؤهم وأهاليهم في النياحة ونشرن شعورهن ولطمن خدودهن، وانضاف إليهن نساء الذين نكبوا على يد الوزير وابنه، وكان ببغداد يوم مشهود بسبب ذلك في غاية البشاعة والشناعة، فسأل الخليفة عن الخبر فذكروا له أنهم نسوة الحجيج ومعهن نساء الذين صادرهم ابن الفرات، وجاءت على يد الحاجب نصر بن القشوري على الوزير فقال: يا أمير المؤمنين إنما استولى هذا القرمطي على ما استولى عليه بسبب إبعادك مؤنس الخادم المظفر، فطمع هؤلاء في الأطراف، وما أشار عليك بإبعاده إلا ابن الفرات.

فبعث الخليفة إلى ابن الفرات يقول له: إن الناس يتكلمون فيك لنصحك إياي.

وأرسل يطيب قلبه، فركب هو وولده إلى الخليفة فدخلا عليه فأكرمهما وطيب قلوبهما، فخرجا من عنده فنالهما أذى كثير من نصر الحاجب وغيره من كبار الأمراء، وجلس، الوزير في دسته فحكم بين الناس كعادته، وبات ليلته تلك مفكرا في أمره، وأصبح كذلك وهو ينشد:

فأصبح لا يدري وإن كان حازما ** أقدامه خير له أم داره؟

ثم جاءه في ذلك اليوم أميران من جهة الخليفة، فدخلا عليه داره إلى بين حريمه وأخرجوه مكشوفا رأسه وهو في غاية الذل والصغار، والإهانة والعار، فأركبوه في حراقة إلى الجانب الآخر.

وفهم الناس ذلك فرجموا ابن الفرات بالآجر، وتعطلت الجوامع وخربت العامة المحاريب، ولم يصلِّ الناس الجمعة فيها، وأخذ خط الوزير بألفي ألف دينار، وأخذ خط ابنه بثلاثة آلاف ألف دينار، وسلما إلى نازوك أمير الشرطة، فاعتقلا حينا حتى خلصت منهما الأموال، ثم أرسل الخليفة خلف مؤنس الخادم، فلما قدم سلمهما إليه فأهانهما غاية الإهانة بالضرب والتقريع له ولولده المجرم الذي ليس بمحسن، ثم قتلا بعد ذلك.

واستوزر عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن محمد بن يحيى بن خاقان أبو القاسم، وذلك في تاسع ربيع الأول منها.

ولما دخل مؤنس بغداد دخل في تجمل عظيم، وشفع عند ابن خاقان في أن يرسل إلى علي بن عيسى - وكان قد صار إلى صنعاء اليمن مطرودا - فعاد إلى مكة وبعث إليه الوزير أن ينظر في أمر الشام ومصر، وأمر الخليفة مؤنس الخادم بأن يسير إلى الكوفة لقتال القرامطة، وأنفق على خروجه ألف ألف دينار، وأطلق القرمطي من كان أسره من الحجيج، وكانوا ألفي رجل وخمسمائة امرأة، وأطلق أبا الهيجاء نائب الكوفة معهم أيضا.

وكتب إلى الخليفة يسأل منه البصرة والأهواز فلم يجب إلى ذلك، وركب المظفر مؤنس في جحافل إلى بلاد الكوفة فسكن أمرها، ثم انحدر منها إلى واسط واستناب على الكوفة ياقوت الخادم، فتمهدت الأمور وانصلحت.

وفي هذه السنة ظهر رجل بين الكوفة وبغداد فادعى أنه محمد بن إسماعيل بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وصدقه على ذلك طائفة من الأعراب والطغام، والتفوا عليه وقويت شوكته في شوال، فأرسل إليه الوزير جيشا فقاتلوه فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه، وتفرق بقيتهم.

وهذا المدعي المذكور هو رئيس الإسماعيلية وهو أولهم.

وظفر نازوك صاحب الشرطة بثلاثة من أصحاب الحلاج: وهم حيدرة، والشعراني، وابن منصور، فطالبهم بالرجوع عن اعتقادهم فيه فلم يرجعوا، فضرب رقابهم وصلبهم في الجانب الشرقي.

ولم يحج في هذه السنة أحد من أهل العراق لكثرة خوف الناس من القرامطة.

وفيها توفي من الأعيان:

إبراهيم بن خميس

أبو إسحاق الواعظ الزاهد، كان يعظ الناس، فمن جملة كلامه الحسن قوله: يضحك القضاء من الحذر، ويضحك الأجل من الأمل، ويضحك التقدير من التدبير، وتضحك القسمة من الجهد والعناء.

علي بن محمد بن الفرات

ولاه المقتدر الوزارة ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم عزله ثم ولاه ثم قتله في هذه السنة، وقتل ولده، وكان ذا مال جزيل: ملك عشرة آلاف ألف دينار، وكان يدخل له من ضياعه كل سنة ألف ألف دينار، وكان ينفق على خمسة آلاف من العباد والعلماء، تجري عليهم نفقات في كل شهر ما فيه كفايتهم، وكان له معرفة بالوزارة والحساب، يقال: إنه نظر يوما في ألف كتاب ووقع على ألف رقعة، فتعجب من حضره من ذلك، وكانت فيه مروءة وكرم وحسن سيرة في ولاياته، غير هذه المرة فإنه ظلم وغشم وصادر الناس وأخذ أموالهم، فأخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة، أخذ عزيز مقتدر.

وقد كان ذا كرم وسعة في النفقة، ذاكر عنده ذات ليلة أهل الحديث والصوفية وأهل الأدب، فأطلق من ماله لكل طائفة عشرين ألفا.

وكتب رجل على لسانه إلى نائب مصر كتابا فيه وصية به منه إليه، فلما دفع المكتوب إلى نائب مصر استراب منه وقال: ما هذا خط الوزير.

وأرسل به إلى الوزير، فلما وقف عليه عرف أنه كذب وزور، فاستشار الحاضرين عنده فيما يفعل بالذي زور عليه، فقال بعضهم: تقطع يديه.

وقال آخر: تقطع إبهاميه.

وقال آخر: يضرب ضربا مبرحا.

فقال الوزير: أوَ خير من ذلك كله؟

ثم أخذ الكتاب وكتب عليه: نعم هذا خطي وهو من أخص أصحابي، فلا تتركن من الخير شيئا مما تقدر عليه إلا أوصلته إليه.

فلما عاد الكتاب أحسن نائب مصر إلى ذلك الرجل إحسانا بالغا، ووصله بنحو من شعرين ألف دينار.

واستدعى ابن الفرات يوما ببعض الكتّاب فقال له: ويحك إن نيتي فيك سيئة، وإني في كل وقت أريد أن أقبض عليك وأصادرك، فأراك في المنام تمنعني برغيف، وقد رأيتك في المنام من ليالٍ، وإني أريد القبض عليك، فجعلت تمتنع مني، فأمرت جندي أن يقاتلوك، فجعلوا كلما ضربوك بشيء من سهام وغيرها تتقي الضرب برغيف في يدك، فلا يصل إليك شيء، فأعلمني ما قصة هذا الرغيف.

فقال: أيها الوزير إن أمي منذ كنت صغيرا كل ليلة تضع تحت وسادتي رغيفا، فإذا أصبحت تصدقت به عني، فلم يزل كذلك دأبها حتى ماتت.

فلما ماتت فعلت أنا ذلك مع نفسي، فكل ليلة أضع تحت وسادتي رغيفا ثم أصبح فأتصدق به.

فعجب الوزير من ذلك وقال: والله لا ينالك مني بعد اليوم سوء أبدا، ولقد حسنت نيتي فيك، وقد أحببتك.

وقد أطال ابن خلكان ترجمته فذكر بعض ما أوردنا في ترجمته.

محمد بن محمد بن سليمان بن الحارث بن عبد الرحمن

أبو بكر الأزدي الواسطي، المعروف بالباغندي، سمع محمد بن عبد الله بن نمير، وابن أبي شيبة وشيبان بن فروخ، علي بن المديني، وخلقا من أهل الشام ومصر والكوفة والبصرة وبغداد، ورحل إلى الأمصار البعيدة، وعني بهذا الشأن واشتغل فيه فأفرط، حتى قيل: إنه ربما سرد بعض الأحاديث بأسانيدها في الصلاة والنوم وهو لا يشعر، فكانوا يسبحون به حتى يتذكر أنه في الصلاة، وكان يقول: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف مسألة من الحديث لا أتجاوزه إلى غيره.

وقد رأى رسول الله ﷺ في منامه فقال له: يا رسول الله أيما أثبت في الأحاديث منصور أو الأعمش؟

فقال له: منصور.

وقد كان يعاب بالتدليس حتى قال الدارقطني: هو كثير التدليس، يحدث بما لم يسمع، وربما سرق بعض الأحاديث والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة

قال ابن الجوزي: في ليلة بقيت من المحرم انقض كوكب من ناحية الجنوب إلى الشمال قبل مغيب الشمس، فأضاءت الدنيا منه وسمع له صوت كصوت الرعد الشديد.

وفي صفر منها بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد براثى فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة، ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى محمد بن إسماعيل الذي ظهر بين الكوفة وبغداد، ويدّعون أنه المهدي، ويتبرؤون من المقتدر وممن تبعه.

فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه مسجد ضرار، فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح ونودي عليهم.

وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم هدمه نازوك، وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي.

وخرج الناس للحج في ذي القعدة فاعترضهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي، فرجع أكثر الناس إلى بلدانهم، ويقال: إن بعضهم سأل منه الأمان ليذهبوا فأمنهم.

وقد قاتله جند الخليفة فلم يفد ذلك شيئا لتمرده وشدة بأسه، فانزعج أهل بغداد من ذلك، وترحل أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي خوفا منهم، ودخل القرمطي إلى الكوفة فأقام بها شهرا يأخذ من أموالها ونسائها ما يختار.

قال ابن الجوزي: وكثر الرطب في هذه السنة ببغداد حتى بيع كل ثمانية أرطال بحبة، وعمل منه تمر وحمل إلى البصرة.

وعزل المقتدر وزيره الخاقاني بعد أن ولاه سنة وستة أشهر ويومين، وولى مكانه أبا القاسم أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الخطيب الخصيبي، لأجل مال بذله من جهة زوجة للحسن بن الفرات، وكان ذلك المال سبعمائة ألف دينار، فأمر الخصيبي علي بن عيسى على أن يكون مشرفا على ديار مصر وبلاد الشام، وهو مقيم بمكة يسير إلى تلك البلاد في بعض الأوقات فيعمل ما ينبغي ثم يرجع إلى مكة.

وفيها توفي من الأعيان:

علي بن عبد الحميد بن عبد الله بن سليمان

أبو الحسن الغضائري، سمع القواريري وعباسا العنبري، وكان من العباد الثقات.

قال: جئت يوما إلى السري السقطي فدققت عليه بابه، فخرج إلي ووضع يده على عضادتي الباب وهو يقول: اللهم اشغل من شغلني عنك بك.

قال: فنالتني بركة هذه الدعوة فحججت على قدميّ من حلب إلى مكة أربعين حجة ذاهبا وآيبا.

أبو العباس السراج الحافظ

محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران بن عبد الله الثقفي مولاهم، أبو العباس السراج، أحد الأئمة الثقات الحفاظ، مولده سنة ثمان عشرة ومائتين، سمع قتيبة واسحق بن راهوية وخلقا كثيرا من أهل خراسان وبغداد والكوفة والبصرة والحجاز، وقد حدث عنه البخاري ومسلم، وهما أكبر منه وأقدم ميلادا ووفاة.

وله مصنفات كثيرة نافعة جدا، وكان يعد من مجابي الدعوة.

وقد رأى في منامه كأنه يرقى في سلم فصعد فيه تسعا وتسعين درجة، فما أولها على أحد إلا قال له: تعيش تسعا وتسعين سنة، فكان كذلك.

وقد ولد له ابنه أبو عمر وعمره ثلاث وثمانون سنة.

قال الحاكم: فسمعت أبا عمرو يقول: كنت إذا دخلت المسجد على أبي والناس عنده يقول لهم: هذا عملته في ليلة ولي من العمر ثلاث وثمانون سنة.

ثم دخلت سنة أربع عشرة وثلاثمائة

فيها كتب ملك الروم، وهو الدمستق لعنه الله، إلى أهل السواحل أن يحملوا إليه الخراج، فأبوا عليه فركب إليهم في جنوده في أول هذه السنة، فعاث في الأرض فسادا، ودخل ملطية فقتل من أهلها خلقا وأسر وأقام بها ستة عشر يوما، وجاء أهلها إلى بغداد يستنجدون الخليفة عليه.

ووقع في بغداد حريق في مكانين، مات فيهما خلق كثير، وأحرق في أحدهما ألف دار ودكان، وجاءت الكتب بموت الدمستق ملك النصارى فقرئت الكتب على المنابر.

وجاءت الكتب من مكة أنهم في غاية الانزعاج بسبب اقتراب القرامطة إليهم وقصدهم إياهم، فرحلوا منها إلى الطائف وتلك النواحي.

وفيها: هبت ريح عظيمة بنصيبين اقتلعت أشجارا كثيرة وهدمت البيوت.

قال ابن الجوزي: وفي يوم الأحد لثمان مضين من شوال منها - وهو سابع كانون الأول - سقط ببغداد ثلج عظيم جدا حصل بسببه برد شديد، بحيث أتلف كثيرا من النخيل والأشجار، وجمدت الأدهان حتى الأشربة، وماء الورد والخل والخلجان الكبار، ودجلة.

وعقد بعض مشايخ الحديث مجلسا للتحديث على متن دجلة من فوق الجمد، وكتب هنالك، ثم انكسر البرد بمطر وقع فأزال ذلك كله ولله الحمد.

وفيها: قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد فاعتذر إليهم مؤنس الخادم بأن القرامطة قد قصدوا مكة، فرجعوا ولم يتهيأ الحج في هذه السنة من ناحية العراق بالكلية.

وفي ذي القعدة عزل الخليفة وزيره أبا العباس الخصيبي بعد سنة وشهرين، وأمر بالقبض عليه وحبسه، وذلك لإهماله أمر الوزارة والنظر في المصالح، وذلك لاشتغاله بالخمر في كل ليلة فيصبح مخمورا لا تمييز له، وقد وكل الأمور إلى نوابه فخانوا وعلموا مصالحهم.

وولى أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني نيابة عن علي بن عيسى، حتى يقدم، ثم أرسل في طلب علي بن عيسى وهو بدمشق فقدم بغداد في أبهة عظيمة، فنظر في المصالح الخاصة والعامة، ورد الأمور إلى السداد، وتمهدت الأمور.

واستدعى بالخصيبي فتهدده ولامه وناقشه على ما كان يعتمده ويفعله في خاصة نفسه من معاصي الله عز وجل، وفي الأمور العامة، وذلك بحضرة القضاة والأعيان، ثم رده إلى السجن.

وفيها: أخذ نصر بن أحمد الساماني الملقب بالسعيد بلاد الري وسكنها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة.

وفيها: غزت الصائفة من طرسوس بلاد الروم فغنموا وسلموا.

ولم يحج ركب العراق خوفا من القرامطة.

وفيها توفي من الأعيان: سعد النوبي صاحب باب النوبى من دار الخلافة ببغداد في صفر، وأقيم أخوه مكانه في حفظ هذا الباب الذي صار ينسب بعد إليه.

ومحمد بن محمد الباهلي.

ومحمد بن عمر ابن لبابة القرطبي.

ونصر بن القاسم الفرائضي الحنفي أبو الليث، سمع القواريري وكان ثقة عالما بالفرائض على مذهب أبي حنيفة، مقربا جليلا.

ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

في صفر منها كان قدوم علي بن عيسى الوزير من دمشق، وقد تلقاه الناس إلى أثناء الطريق، فمنهم من لقيه إلى الأنبار، ومنهم دون ذلك.

وحين دخل إلى الخليفة خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته ثم انصرف إلى منزله، فبعث الخليفة وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار، واستدعاه من الغد فخلع عليه فأنشد وهو في الخلعة:

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ** فكيف ما انقلبت به انقلبوا

يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت ** يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

وفيها: جاءت الكتب بأن الروم دخلوا شميساط وأخذوا جميع ما فيها، ونصبوا فيها خيمة الملك، وضربوا الناقوس في الجامع بها، فأمر الخليفة مؤنس الخادم بالتجهيز إليهم، وخلع عليه خلعة سنية.

ثم جاءت الكتب بأن المسلمين وثبوا على الروم فقتلوا منهم خلقا كثيرا جدا فلله الحمد والمنة.

ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم فأعلمه أن الخليفة يريد أن يقبض عليه إذ دخل لوداعه، وقد حضرت له ريبة في دار الخلافة مغطاة ليقع فيها، فأحجم عن الذهاب وجاءت الأمراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة، فبعث إليه الخليفة رقعة فيها خطه يحلف له أن هذا الأمر الذي بلغه ليس بصحيح.

فطابت نفسه وركب إلى دار الخلافة في غلمانه فلما دخل على الخليفة خاطبه مخاطبة عظيمة، وحلف أنه طيب القلب عليه وله عنده الصفاء الذي يعرفه.

ثم خرج من بين يديه معظما مكرما، وركب العباس بن الخليفة والوزير ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه، وكبر الأمراء بين يديه مثل الحجبة، وكان خروجه يوما مشهودا قاصدا بلاد الثغور لقتال الروم.

وفي جمادى الأولى منها قبض على رجل خناق قد قتل خلقا من النساء، وكان يدّعي لهن أنه يعرف العطف والتنجيم، فقصده النساء لذلك فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ففعل الفاحشة وخنقها بوتر وأعانته امرأته وحفر لها في داره فدفنها، فإذا امتلأت تلك الدار من القتلى انتقل إلى دار أخرى.

ولما ظهر عليه وجد في داره التي هو فيها أخيرا سبع عشرة امرأة قد خنقهن، ثم تتبعت الدور التي سكنها فوجدوه قد قتل شيئا كثيرا من النساء، فضرب ألف سوط ثم خنق حتى مات.

وفيها: كان ظهور الديلم قبحهم الله ببلاد الري، وكان فيهم ملك غلب على أمرهم يقال له: مرداويج، يجلس على سرير من ذهب وبين يديه سرير من فضة، ويقول: أنا سليمان بن داود.

وقد سار في أهل الري وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جدا، فكان يقتل النساء والصبيان في المهد، ويأخذ أموال الناس، وهو في غاية الجبروت والشدة والجرأة على محارم الله عز وجل، فقتلته الأتراك وأراح الله المسلمين من شره.

وفيها: كانت بين يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند الكوفة موقعة، فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسف بن أبي الساج: اسمع وأطع وإلا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال منها، فكتب إليه: هلم.

فسار إليه، فلما تراءا الجمعان استقل يوسف الجيش القرمطي، وكان مع يوسف بن أبي الساج عشرون ألفا، ومع القرمطي ألف فارس وخمسمائة رجل.

فقال يوسف: وما قيمة هؤلاء الكلاب؟

وأمر الكاتب أن يكتب بالفتح إلى الخليفة قبل اللقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتا عظيما، ونزل القرمطي فحرَّض أصحابه، وحمل بهم حملة صادقة، فهزموا جند الخليفة، وأسروا يوسف بن أبي الساج أمير الجيش، وقتلوا خلقا كثيرا من جند الخليفة، واستحوذوا على الكوفة، وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد.

وشاع بين الناس أن القرامطة يريدون أخذ بغداد، فانزعج الناس لذلك وظنوا صدقه، فاجتمع الوزير بالخليفة وقال: يا أمير المؤمنين إن الأموال إنما تدخر لتكون عونا على قتال أعداء الله، وإن هذا الأمر لم يقع أمر بعد زمن الصحابة أفظع منه، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة، وإن بيت المال ليس فيه شيء، فاتق الله يا أمير المؤمنين، وخاطب السيدة - يعني أمه - لعل أن يكون عندها شيء ادخرته لشدة، فهذا وقته.

فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذلك، وبذلت له خمسمائة ألف دينار، وكان في بيت المال مثلها، فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تجهيز الجيوش لقتال القرامطة، فجهز جيشا أربعين ألف مقاتل مع أمير يقال له: بليق، فسار نحوهم، فلما سمعوا به أخذوا عليه الطرقات، فأراد دخول بغداد فلم يمكنه، ثم التقوا معه فلم يلبث بليق وجيشه أن انهزم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيدا في خيمة فجعل ينظر إلى محل الوقعة، فلما رجع القرمطي قال: أردت أن تهرب؟

فأمر به فضربت عنقه.

ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الأنبار، ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة، وكذلك الخليفة وأمه والوزير شكرا لله على صرفه عنهم.

وفيها: بعث المهدي المدعي أنه فاطمي ببلاد المغرب ولده أبا القاسم في جيش إلى بلاد منها، فانهزم جيشه وقتل من أصحابه خلق كثير.

وفيها: اختط المهدي المذكور مدينته المحمدية.

وفيها: حاصر عبد الرحمن بن الداخل إلى بلاد المغرب الأموي مدينة طليطلة، وكانوا مسلمين، لكنهم نقضوا عهده ففتحها قهرا وقتل خلقا من أهلها.

وفيها توفي من الأعيان:

ابن الجصاص الجوهري

واسمه الحسين بن عبد الله بن الجصاص الجوهري أبو عبد الله البغدادي، كان ذا مال عظيم وثروة واسعة، وكان أصل نعمته من بيت أحمد بن طولون، كان قد جعله جوهريا له يسوق له ما يقع من نفائش الجواهر بمصر، فاكتسب بسبب ذلك أموالا جزيلة جدا.

قال ابن الجصاص: كنت يوما بباب ابن طولون إذ خرجت القهرمانة وبيدها عقد فيه مائة حبة الجوهر، تساوي كل واحدة ألفي دينار.

قالت: أريد أن تأخذ هذا فتخرطه حتى يكون أصغر من هذا الحجم.

فإن هذا نافر عما يريدونه.

فأخذته منها وذهبت به إلى منزلي وجعلت جواهر أصغر منه تساوي أقل من عشر قيمة تلك بكثير، فدفعتها إليها وفزت أنا بذلك الذي جاءت به وأرادت خرطه وإتلافه.

فكانت قيمته مائتي ألف دينار.

واتفق أنه صودر في أيام المقتدر مصادرة عظيمة، أخذ منه فيها ما يقاوم ستة عشر ألف ألف دينار، وبقي معه من الأموال شيء كثير جدا.

قال بعض التجار: دخلت عليه فوجدته يتردد في منزله كأنه مجنون، فقلت له: ما لك هكذا؟

فقال: ويحك، أخذ مني كذا وكذا فأنا أحس أن روحي ستخرج، فعذرته ثم أخذت في تسليته فقلت له: إن دورك وبساتينك وضياعك الباقية تساوي سبعمائة ألف دينار، وأصدقني كم بقي عندك من الجواهر والمتاع؟

فإذا شيء يساوي ثلاثمائة ألف دينار غير ما بقي عند من الذهب والفضة المصكوكة.

فقلت له: إن هذا أمر لا يشاركك فيه أحد من التجار ببغداد، مع ما لك من الوجاهة عند الدولة والناس.

قال: فسرى عنه وتسلى عما فات وأكل - وكان له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا - ولما خلص في مصادرة المقتدر بشفاعة أمه السيدة فيه حكى عنه نفسه قال: نظرت في دار الخلافة إلى مائة خيشة، فيها متاع رث مما حمل إليّ من مصر، وهو عندهم في دار مضيعة وكان لي في حملٍ منها ألف دينار موضوعة في مصر لا يشعر بها أحد، فاستوهبت ذلك من أم المقتدر فكلمت في ذلك ولدها، فأطلقه إليّ فتسلمته فإذا الذهب لم ينقص منه شيء.

وقد كان ابن الجصاص مع ذلك مغفلا شديد التغفل في كلامه وأفعاله، وقد ذكر عنه أشياء تدل على ذلك، وقيل: إنه إنما كان يظهر ذلك قصدا ليقال: إنه مغفل، وقيل: إنه كان يقول ذلك على سبيل البسط والدعابة والله سبحانه أعلم.

وفيها توفي: عبد الله بن محمد القزويني.

علي بن سليمان بن المفضل

أبو الحسن الأخفش، روى عن المبرّد وثعلب واليزيدي وغيرهم، وعنه الروياني والمعافا وغيرهما.

وكان ثقة في نقله فقيرا في ذات يده، توصل إلى أبي علي بن مقلة حتى كلّم فيه الوزير علي بن عيسى في أن يرتب له شيئا فلم يجبه إلى ذلك، وضاق به الحال حتى كان يأكل اللفت النيء فمات فجأة من كثرة أكله في شعبان منها.

وهذا هو الأخفش الصغير، والأوسط هو سعيد بن مسعدة تلميذ سيبويه، وأما الكبير فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، من أهل هجر، وهو شيخ سيبويه وأبي عبيد وغيرهما.

وقيل: إن أبا بكر محمد بن السري السراج النحوي صاحب الأصول في النحو فيها مات.

قاله ابن الأثير.

ومحمد بن المسيب الأرغياني.

ثم دخلت سنة ست عشرة وثلاثمائة

فيها عاث أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي في الأرض فسادا، حاصر الرحبة فدخلها قهرا وقتل من أهلها خلقا، وطلب منه أهل قرقيسيا الأمان فأمنهم، وبعث سراياه إلى ما حولها من الأعراب فقتل منهم خلقا، حتى صار الناس إذا سمعوا بذكره يهربون من سماع اسمه، وقدر على الأعراب إمارة يحملونها إلى هجر في كل سنة، عن كل رأس ديناران.

وعاث في نواحي الموصل فسادا، وفي سنجار ونواحيها، وخرب تلك الديار وقتل وسلب ونهب.

فقصده مؤنس الخادم فلم يتواجها بل رجع إلى بلده هجر فابتنى بها دارا سماها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية.

وتفاقم أمره وكثرت أتباعه فصاروا يكبسون القرية من أرض السواد، فيقتلون أهلها وينهبون أموالها، ورام في نفسه دخول الكوفة وأخذها فلم يطق ذلك.

ولما رأى الوزير علي ابن عيسى ما يفعله هذا القرمطي في بلاد الإسلام، وليس له دافع استعفى من الوزارة لضعف الخليفة وجيشه عنه، وعزل نفسه منها، فسعى فيها علي بن مقلة الكاتب المشهور، فوليها بسفارة نصر الحاجب والي عبد الله البريدي - بالباء الموحدة - من البريد، ويقال: اليزيدي، لخدمة جده يزيد بن منصور الجهيري.

ثم جهز الخليفة جيشا كثيفا مع مؤنس الخادم، فاقتتلوا مع القرامطة فقتلوا من القرامطة خلقا كثيرا، وأسروا منهم طائفة كثيرة من أشرافهم، ودخل بهم مؤنس الخادم بغداد ومعه أعلام من أعلامهم منكسة مكتوب عليها: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ } [القصص: 5] .

ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، وطابت أنفس البغاددة، وانكسر القرامطة الذين كانوا قد نشأوا وفشوا بأرض العراق، وفوّض القرامطة أمرهم إلى رجل يقال له: حريث بن مسعود، ودعوا إلى المهدي الذي ظهر ببلاد المغرب جد الفاطميين، وهم أدعياء كذبة، كما قد ذكر ذلك غير واحد من العلماء.

كما سيأتي تفصيله وبيانه في موضعه.

وفيها: وقعت وحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر، وسبب ذلك: أن نازوكا أمير الشرطة وقع بينه وبين هارون بن غريب - وهو ابن خال المقتدر - فانتصر هارون على نازوك، وشاع بين العامة أن هارون سيصير أمير الأمراء.

فبلغ ذلك مؤنس الخادم وهو بالرقة فأسرع الأوبة إلى بغداد، واجتمع بالخليفة فتصالحا، ثم إن الخليفة نقل هارون إلى دار الخلافة فقويت الوحشة بينهما، وانضم إلى مؤنس جماعة من الأمراء وترددت الرسل بينهما، وانقضت هذه السنة والأمر كذلك.

وهذا كله من ضعف الأمور واضطرابها وكثرة الفتن وانتشارها.

وفيها: كان مقتل الحسين بن القاسم الداعي العلوي صاحب الري على يد صاحب الديلم وسلطانهم مرداويج قبحه الله.

وفيها توفي من الأعيان:

بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد

أبو الحسن الزاهد، ويعرف بالحمال، وكانت له كرامات كثيرة، وله منزلة كبيرة عند الناس، وكان لا يقبل من السلطان شيئا، وقد أنكر يوما على ابن طولون شيئا من المنكرات وأمره بالمعروف، فأمر به فألقي بين يدي الأسد، فكان الأسد يشمه ويحجم عنه، فأمر برفعه من بين يديه وعظمه الناس جدا، وسأله بعض الناس عن حاله حين كان بين يدي الأسد فقال له: لم يكن عليّ بأس، قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه هل هو طاهر أم نجس؟

قالوا: وجاءه رجل فقال له: إن لي على رجل مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة، وأنا أخشى أن ينكر الرجل، فأسألك أن تدعو لي بأن يرد الله عليّ الوثيقة.

فقال بنان: إني رجل قد كبرت سني ورق عظمي، وأنا أحب الحلواء، فاذهب فاشتر لي منها رطلا وأتني به حتى أدعو لك.

فذهب الرجل فاشترى الرطل ثم جاء به إليه ففتح الورقة التي فيها الحلواء، فإذا هي حجته بالمائة دينار.

فقال له: أهذه حجتك؟

قال: نعم.

قال: خذ حجتك وخذ الحلواء فأطعمها صبيانك.

ولما توفي خرج أهل مصر في جنازته تعظيما له وإكراما لشأنه.

وفيها توفي: محمد بن عقيل البلخي.

وأبو بكر بن أبي داود السجستاني الحافظ بن الحافظ.

أبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الأسفرائيني

صاحب الصحيح المستخرج على مسلم، وقد كان من الحفاظ المكثرين، والأئمة المشهورين.

نصر الحاجب

كان من خيار الأمراء، دينا عاقلا، أنفق من ماله في حرب القرامطة مائة ألف دينار، وخرج بنفسه محتسبا فمات في أثناء الطريق في هذه السنة، وكان حاجبا للخليفة المقتدر.

ثم دخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة

فيها: كان خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد بالله: في المحرم منها اشتدت الوحشة بين مؤنس الخادم والمقتدر بالله، وتفاقم الحال وآل إلى أن اجتمعوا على خلع المقتدر وتولية القاهر محمد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافة وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله.

وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقلد علي بن مقلة وزارته، ونهبت دار المقتدر، وأخذوا منها شيئا كثيرا جدا، وأخذوا لأم المقتدر خمسمائة ألف دينار - وكانت قد دفنتها في قبر في تربتها - فحملت إلى بيت المال، وأخرج المقتدر وأمه وخالته وخواصه وجواريه من دار الخلافة، وذلك بعد محاصرة دار الخلافة، وهرب من كان بها من الحجبة والخدم.

وولى نازوك الحجوبة مضافا إلى ما بيده من الشرطة، وألزم المقتدر بأن كتب على نفسه كتابا بالخلع من الخلافة، وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الأمراء والأعيان، وسلم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فقال لولده الحسين: احتفظ بهذا الكتاب فلا يرينه أحد من خلق الله.

ولما أعيد المقتدر إلى الخلافة بعد يومين رده إليه، فشكره على ذلك جدا وولاه قضاء القضاة.

فلما كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهر بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزير أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العمال بالآفاق يخبرهم بولاية القاهر بالخلافة عوضا عن المقتدر، وأطلق علي بن عيسى من السجن، وزاد في أقطاع جماعة من الأمراء الذين قاموا بنصره، منهم أبو الهيجاء بن حمدان.

فلما كان يوم الاثنين جاء الجند وطلبوا أرزاقهم وشغبوا، وبادروا إلى نازوك فقتلوه، وكان مخمورا، ثم صلبوه.

وهرب الوزير ابن مقلة، وهرب الحجاب ونادوا: يا مقتدر يا منصور، ولم يكن مؤنس يومئذ حاضرا، وجاء الجند إلى باب مؤنس يطالبونه بالمقتدر، فأغلق بابه دونهم وجاحف دونه خدمه.

فلما رأى مؤنس أنه لا بد من تسليم المقتدر إليهم أمره بالخروج، فخاف المقتدر أن يكون حيلة عليه، ثم تجاسر فخرج فحمله الرجال على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة، فسأل عن أخيه القاهر وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتب لهما أمانا، فما كان عن قريب حتى جاءه خادم ومعه رأس أبي الهيجاء قد احترز رأسه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلسه بين يديه واستدعاه إليه، وقبل بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنب لك، وقد علمت أنك مكره مقهور، والقاهر يقول: الله الله، نفسي يا أمير المؤمنين.

فقال: وحق رسول الله ﷺ لا جرى عليك مني سوء أبدا.

وعاد ابن مقلة فكتب إلى الآفاق يعلمهم بعود المقتدر إلى الخلافة، وتراجعت الأمور إلى حالها الأول، وحمل رأس نازوك وأبي الهيجاء ونودي عليهما: هذا رأس من عصى مولاه.

وهرب أبو السرايا بن حمدان إلى الموصل، وكان ابن نفيس من أشد الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافة خرج من بغداد متنكرا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحق بالقسطنطينية فتنصر بها مع أهلها، وأما مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على المقتدر، وإنما وافق جماعة الأمراء مكرها، ولهذا لما كان المقتدر في داره لم ينله منه ضيم، بل كان يطيب قلبه، ولو شاء لقتله لمّا طُلب من داره.

فلهذا لما عاد المقتدر إلى الخلافة رجع إلى دار مؤنس فبات بها عنده، لثقته به.

وقرر أبا علي بن مقلة على الوزارة، وولى محمد بن يوسف قضاء القضاة، وجعل محمدا أخاه - وهو القاهر - عند والدته بصفة محبوس عندها، فكانت تحسن إليه غاية الإحسان، وتشتري له السراري وتكرمه غاية الإكرام.

ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم

فيها: خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا.

فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:

ترى المحبين صرعى في ديارهم ** كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصلِّ عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر.

وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار.

فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟

ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.

وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادا لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه، وسيجاريه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.

وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح، وقد كان صباغا بسلمية، وكان يهوديا فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادّعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدنية سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه، ويترامون عليه.

ويقال: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له.

وذكر ابن الأثير: أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره برد ما أخذه منها، وعوده إليها.

فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك.

وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة، ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر.

فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقول في محمدكم؟

فقلت: لا أدري.

فقال: كان سائسا.

ثم قال: ما تقول في أبي بكر؟

فقلت: لا أدري.

فقال: كان ضعيفا مهينا، وكان عمر فظا غليظا، وكان عثمان جاهلا أحمق، وكان علي ممخرقا ليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم، أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة وهذا كلمة؟.

ثم قال: هذا كله مخرقة.

فلما كان من الغد قال: لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحدا.

ذكره ابن الجوزي في (منتظمه).

وروى عن بعضهم أنه قال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير - ورفع صوته بذلك - أليس قلتم في بيتكم هذا: { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنَا } [آل عمران: 97] .

فأين الأمن؟

قال: فقلت له: اسمع جوابك.

قال: نعم.

قلت: إنما أراد الله: فأمنوه.

قال: فثنى رأس فرسه وانصرف.

وقد سأل بعضهم ههنا سؤالا.

فقال: قد أحلَّ الله سبحانه بأصحاب الفيل - وكانوا نصارى - ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئا مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شرّ من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلاّ عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟

وقد أجيب عن ذلك: بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارا لشرف البيت، ولمّا يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعا عاجلا، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله.

وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحادا بالغا عظيما، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معالجتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي ﷺ:

{ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته }، ثم قرأ قوله تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42] .

وقال: { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ** مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران: 196-197] .

وقال: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24] .

وقال: { مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس: 70]

وفيها: وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي، وبين طائفة من العامة اختلفوا في تفسير قوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاما مَحْمُودا } [الإسراء: 79] .

فقالت الحنابلة: يجلسه معه على العرش.

وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى.

فاقتتلوا بسبب ذلك وقتل بينهم قتلى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد ثبت في صحيح البخاري أن المراد بذلك: مقام الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء بين العباد، وهو المقام الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم، حتى إبراهيم، ويغبطه به الأولون والآخرون.

وفيها: وقعت فتنة بالموصل بين العامة فيما يتعلق بأمر المعاش، وانتشرت وكثر أهل الشر فيها واستظهروا، وجرت بينهم شرور ثم سكنت.

وفيها: وقعت فتنة ببلاد خراسان بين بني ساسان وأميرهم نصر بن أحمد الملقب بسعيد، وخرج في شعبان خارجيّ بالموصل، وخرج آخر بالبوازيج، فقاتلهم أهل تلك الناحية حتى سكن شرهم وتفرق أصحابهم.

وفيها: التقى مفلح الساجي وملك الروم الدمستق، فهزمه مفلح وطرد وراءه إلى أرض الروم، وقتل منهم خلقا كثيرا.

وفيها: هبت ريح شديدة ببغداد تحمل رمادا أحمر يشبه رمل أرض الحجاز، فامتلأت منه البيوت.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن الحسن بن الفرج بن سفيان أبو بكر النحوي، كان عالما بمذهب الكوفيين وله فيه تصانيف.

أحمد بن مهدي بن رستم

العابد الزاهد، أنفق في طلب العلم ثلاثمائة ألف درهم، ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش.

وقد روى الحافظ أبو نعيم عنه: أنه جاءته امرأة ذات ليلة فقالت له: إني قد امتحنت بمحنة وأكرهت على الزنا وأنا حبلى منه، وقد تسترت بك وزعمت أنك زوجي، وأنَّ هذا الحمل منك فاسترني سترك الله ولا تفضحني.

فسكت عنها، فلما وضعت جاءني أهل المحلة وإمام مسجدهم يهنئونني بالولد، فأظهرت البشر وبعثت فاشتريت بدينارين شيئا حلوا وأطعمتهم، وكنت أوجه إليها مع إمام المسجد في كل شهر دينارين صفة نفقة للمولود، وأقول: أقرئها مني السلام، فإنه قد سبق مني ما فرق بيني وبينها.

فمكثت كذلك سنتين، ثم مات الولد فجاؤوني يعزونني فيه، فأظهرت الحزن عليه، ثم جاءتني أمه بالدنانير التي كنت أرسل بها إليها نفقة الولد، قد جمعتها في صرة عندها، فقالت لي: سترك الله وجزاك خيرا، وهذه الدنانير التي كنت ترسل بها.

فقلت: إني كنت أرسل بها صلة للولد وقد مات وأنت ترثينه فهي لك، فافعلي بها ما شئت، فدعت وانصرفت.

بدر بن الهيثم

ابن خلف بن خالد بن راشد بن الضحاك بن النعمان بن محرق بن النعمان بن المنذر، أبو القاسم البلخي القاضي الكوفي.

نزل بغداد وحدّث بها عن أبي كريب وغيره، وكان سماعه للحديث بعد ما جاوز أربعين سنة، وكان ثقة نبيلا، عاش مائة سنة وسبع عشرة سنة.

توفي في شوال منها بالكوفة.

عبد الله بن محمد بن عبد العزيز

ابن المرزبان بن سابور بن شاهنشاه أبو القاسم البغوي، ويعرف بابن بنت منيع، ولد سنة ثلاثة عشرة، وقيل: أربعة عشرة ومائتين، ورأى أبا عبيد القاسم بن سلام ولم يسمع منه، وسمع من أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وعلي بن الجعد، وخلف بن هشام بن البزار، وخلق كثير، وكان معه جزء فيه سماعه من ابن معين فأخذه موسى بن هارون الحافظ فرماه في دجلة، وقال: يريد أن يجمع بين الثلاثة؟

وقد تفرد عن سبع وثمانين شيخا، وكان ثقة حافظا ضابطا، روى عن الحفاظ وله مصنفات.

وقال موسى بن هارون الحافظ: كان ابن بنت منيع ثقة صدوقا، فقيل له: إن ههنا ناسا يتكلمون فيه.

فقال: يحسدونه، ابن بنت منيع لا يقول إلا الحق.

وقال ابن أبي حاتم وغيره: أحاديثه تدخل في الصحيح.

وقال الدارقطني: كان البغوي قل ما يتكلم على الحديث، فإذا تكلم كان كلامه كالمسمار في الساج.

وقد ذكره ابن عدي في (كامله) فتكلم فيه، وقال: حدث بأشياء أنكرت عليه.

وكان معه طرف من معرفة الحديث والتصانيف.

وقد انتدب ابن الجوزي للرد على ابن عدي في هذا الكلام، وذكر أنه توفي ليلة عيد الفطر منها، وقد استكمل مائة سنة وثلاث سنين وشهورا، وهو مع ذلك صحيح السمع والبصر والأسنان، يطأ الإماء.

توفي ببغداد ودفن بمقبرة باب التبن، رحمه الله وأكرم مثواه.

محمد بن أبي الحسين بن محمد بن عثمان

الشهيد الحافظ أبو الفضل الهروي، يعرف بابن أبي سعد، قدم بغداد وحدّث بها عن محمد بن عبد الله الأنصاري.

وحدّث عنه ابن المظفر الحافظ، وكان من الثقات الأثبات الحفاظ المتقنين، له مناقشات على بضعة عشر حديثا من صحيح مسلم.

قتلته القرامطة يوم التروية بمكة في هذه السنة في جملة من قتلوا، رحمه الله وأكرم مثواه.

الكعبي المتكلم

هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي المتكلم، نسبة إلى بني كعب، وهو أحد مشايخ المعتزلة، وتنسب إليه الطائفة الكعبية منهم.

قال ابن خلكان: كان من كبار المتكلمين، وله اختيارات في علم الكلام.

من ذلك: أنه كان يزعم أن أفعال الله تقع بلا اختيار منه ولا مشيئة.

قلت: وقد خالف الكعبي نص القرآن في غير ما موضع.

قال تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص: 68] .

وقال: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [الأنعام: 112] .

{ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [السجدة: 13] .

{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } الآية [الإسراء: 16] .

وغيرها مما هو معلوم بالضرورة وصريح العقل والنقل.

ثم دخلت سنة ثمان عشرة وثلاثمائة

فيها: عزل الخليفة المقتدر وزيره أبا علي بن مقلة، وكانت مدة وزارته سنتين وأربعة أشهر وثلاثة أيام، واستوزر مكانه سليمان بن الحسن بن مخلد، وجعل علي بن عيسى ناظرا معه.

وفي جمادى الأولى منها أحرقت دار أبي علي بن مقلة، وكان قد أنفق عليها مائة ألف دينار، فانتهب الناس أخشابها وما وجدوا فيها من حديد ورصاص وغيره، وصادره الخليفة بمائتي ألف دينار.

وفيها: طرد الخليفة الرجالة الذين كانوا بدار الخلافة عن بغداد، وذلك أنه لما ردَّ المقتدر إلى الخلافة شرعوا ينفسون بكلام كثير عليه، ويقولون: من أعان ظالما سلطه الله عليه، ومن أصعد الحمار على السطح لم يقدر أن ينزله.

فأمر بإخراجهم ونفيهم عن بغداد، ومن أقام منهم عوقب.

فأحرقت دور كثيرة من قراباتهم، واحترق بعض نسائهم وأولادهم، فخرجوا منها في غاية الإهانة، فنزلوا واسط وتغلبوا عليها وأخرجوا عاملها منها، فركب إليهم مؤنس الخادم فأوقع بهم بأسا شديدا، وقتل منهم خلقا كثيرا، فلم يقم لهم بعد ذلك قائمة.

وفي ربيع الأول منها عزل الخليفة ناصر الدولة بن حمدان عن الموصل، وولى عليها عميه سعيدا ونصرا ابنا حمدان.

وولاه ديار: ربيعة نصيبين وسنجار ورأس العين، ومعها ميافارقين وازرن، ضمن ذلك من الخليفة بمال يحمله إليه في كل سنة.

وفي جمادى الأولى منها خرج رجل ببلاد البوازيج يقال له: صالح بن محمود، فاجتمع عليه جماعة من بني مالك، ثم سار إلى سنجار فحاصرها فدخلها وأخذ شيئا كثيرا من أموالها، وخطب بها خطبة ووعظ فيها وذكر، فكان في جملة ما قال: نتولى الشيخين، ونتبرأ من الخبيثين، ولا نرى المسح على الخفين.

ثم سار فعاث في الأرض فسادا.

فانتدب له نصر بن حمدان فقاتله فأسره ومعه ابنان له.

فحمل إلى بغداد فدخلها وقد اشتهر شهرة فظيعة.

وخرج آخر ببلاد الموصل فاتبعه ألف رجل، فحاصر أهل نصيبين فخرجوا إليه فاقتتلوا معه، فقتل منهم مائة وأسر ألفا، ثم باعهم نفوسهم وصادر أهلها بأربعمائة ألف درهم، فانتدب إليه ناصر الدولة فقاتله فظفر به وأسره وأرسله إلى بغداد أيضا.

وفيها: خلع الخليفة على ابنه هارون وركب معه الوزير والجيش، وأعطاه نيابة فارس وكرمان وسجستان ومكران، وخلع على ابنه أبي العباس الراضي وجعله نائب بلاد المغرب ومصر والشام، وجعل مؤنس الخادم يسد عنه أمورها.

وحج بالناس فيها عبد السميع بن أيوب بن عبد العزيز الهاشمي.

وخرج الحجيج بغفارة بدرقة حتى يسلموا في الدرب في الذهاب والإياب من القرامطة.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن إسحاق

ابن البهلول بن حسان بن أبي سنان أبو جعفر التنوخي القاضي الحنفي، العدل الثقة، الرضي.

وكان فقيها نبيلا، سمع الحديث الكثير، وروى عن أبي كريب حديثا واحدا، وكان عالما بالنحو، فصيح العبارة، جيد الشعر، محمودا في الأحكام.

اتفق أن السيدة أم المقتدر وقفت وقفا وجعل هذا عنده نسخة به في سلة الحكم، ثم أرادت أن تنقض ذلك الوقف فطلبت هذا الحاكم وأن يحضر معه كتاب الوقف لتأخذه منه فتعدمه، فلما حضر من وراء الستارة فهم المقصود فقال لها: لا يمكن هذا، لأني خازن المسلمين، فإما أن تعزلوني عن القضاء وتولوا هذا غيري، وإما أن تتركوا هذا الذي تريدون أن تفعلوه، فلا سبيل إليه وأنا حاكم.

فشكته إلى ولدها المقتدر فشفع عنده المقتدر بذلك، فذكر له صورة الحال.

فرجع إلى أمه فقال لها: إن هذا الرجل ممن يرغب فيه ولا يزهد فيه، ولا سبيل إلى عزله ولا التلاعب به.

فرضيت عنه وبعثت تشكره على ما صنع من ذلك.

فقال: من قدم أمر الله على أمر العباد كفاه الله شرهم، ورزقه خيرهم.

وقد كانت وفاته في هذه السنة، وقد جاوز الثمانين.

يحيى بن محمد بن صاعد

أبو محمد مولى أبي جعفر المنصور، رحل في طلب الحديث، وكتب وسمع وحفظ، وكان من كبار الحفاظ، وشيوخ الرواية، وكتب عنه جماعة من الأكابر، وله تصانيف تدل على حفظه وفقهه وفهمه.

توفي بالكوفة وله سبعون سنة.

الحسن بن علي بن أحمد بن بشار بن زياد

المعروف بابن العلاف الضرير النهرواني، الشاعر المشهور، وكان أحد سمار المعتضد، وله مرثاة طنانة في هرٍّ له، قتله جيرانه لأنه أكل أفراخ حمامهم من أبراجهم.

وفيها: آداب ورقة، ويقال: إنه أراد بها ابن المعتز لكنه لم يتجاسر أن ينسبها إليه من الخليفة المقتدر، لأنه هو الذي قتله.

وأولها:

يا هرُّ فارقتنا ولم تعد ** وكنت عندي بمنزل الولد

وهي خمس وستون بيتا.

ثم دخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة

في المحرم منها دخل الحجيج بغداد، وقد خرج مؤنس إلى الحج فيها في جيش كثيف، خوفا من القرامطة، ففرح المسلمون بذلك وزينت بغداد يومئذ وضربت الخيام والقباب لمؤنس الخادم، وقد بلغ مؤنسا في أثناء الطريق أن القرامطة أمامه، فعدل بالناس عن الجادة، وأخذ بهم في شعاب وأودية أياما، فشاهد الناس في تلك الأماكن عجائب، ورأوا غرائب وعظاما في غاية الضخامة، وشاهدوا ناسا قد مسخوا حجارة.

ورأى بعضهم امرأة واقفة على تنور تخبز فيه قد مسخت حجرا، والتنور قد صار حجرا.

وحمل مؤنس من ذلك شيئا كثيرا إلى الخليفة ليصدق ما يخبر به من ذلك.

ذكر ذلك ابن الجوزي في منتظمه.

فيقال: إنهم من قوم عاد أو من قوم شعيب أو من ثمود، فالله أعلم.

وفيها: عزل المقتدر وزيره سليمان بن الحسن بعد سنة وشهرين وتسعة أيام، واستوزر مكانه أبا القاسم عبيد الله بن محمد الكلوذاني، ثم عزله بعد شهرين وثلاثة أيام، واستوزر الحسين بن القاسم ثم عزله أيضا.

وفيها: وقعت وحشة بين الخليفة ومؤنس، بسبب أن الخليفة ولى الحسبة لرجل اسمه محمد بن ياقوت، وكان أميرا على الشرطة، فقال مؤنس: إن الحسبة لا يتولاها إلا القضاة والعدول وهذا لا يصلح لها.

ولم يزل بالخليفة حتى عزل محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضا، وانصلح الحال بينهما.

ثم تجددت الوحشة بينهما في ذي الحجة من هذه السنة، وما زالت تتزايد حتى آل الحال إلى قتل المقتدر بالله كما سنذكره.

وفيها: أوقع ثمل متولى طرسوس بالروم وقعة عظيمة، قتل منهم خلقا كثيرا وأسر نحوا من ثلاثة آلاف، وغنم من الذهب والفضة والديباج شيئا كثيرا جدا، ثم أوقع بهم مرة ثانية كذلك.

وكتب ابن الديراني الأرمني إلى الروم يحثهم على الدخول إلى بلاد الإسلام ووعدهم النصر منه والإعانة، فدخلوا في جحافل عظيمة كثيرة جدا، وانضاف إليهم الأرمني فركب إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج وهو يومئذ نائب أذربيجان، واتبعه خلق كثير من المتطوعة، فقصد أولا بلاد ابن الديراني فقتل من الأرمن نحوا من مائة ألف، وأسر خلقا كثيرا، وغنم أموالا جزيلة.

وتحصن ابن الديراني في قلعة له هناك، وكاتب الروم فوصلوا إلى شميشاط فحاصروها، فبعث أهلها يستصرخون سعيد بن حمدان نائب الموصل، فسار إليهم مسرعا، فوجد الروم قد كادوا يفتحونها، فلما علموا بقدومه رحلوا عنها واجتازوا بملطية فنهبوها، ورجعوا خاسئين إلى بلادهم، ومعهم ابن نفيس المتنصر، وقد كان من أهل بغداد.

وركب ابن حمدان في آثار القوم فدخل بلادهم، فقتل خلقا كثيرا منهم وأسر وغنم أشياء كثيرة.

قال ابن الأثير: وفي شوال من هذه السنة جاء سيل عظيم إلى تكريت ارتفع في أسواقها أربعة عشر شبرا، وغرق بسببه أربعمائة دار، وخلق لا يعلمهم إلا الله، حتى كان المسلمون والنصارى يدفنون جميعا، لا يعرف هذا من هذا.

قال: وفيها هاجت بالموصل ريح محمرة ثم اسوّدت حتى كان الإنسان لا يبصر صاحبه نهارا، وظنّ الناس أنها القيامة ثم انجلى ذلك بمطر أرسله الله عليهم.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسين بن عبد الرحمن أبو عبد الله الأنطاكي قاضي ثغور الشام، يعرف بابن الصابوني، وكان ثقة نبيلا قدم بغداد وحدث بها.

علي بن الحسين بن حرب بن عيسى

تولى القضاء بمصر مدة طويلة جدا، وكان ثقة عالما من خيار القضاة وأعدلهم، تفقه على مذهب أبي ثور، وقد ذكرناه في طبقات الشافعية، وقد استعفى عن القضاء فعزل عنه في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، ورجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، في صفر منها، وصلى عليه أبو سعيد الأصطخري، ودفن بداره.

قال الدارقطني: حدث عنه أبو عبد الرحمن النسائي في الصحيح، ولعله مات قبله بعشرين سنة.

وذكر من جلالته وفضله رحمه الله.

محمد بن الفضل بن العباس أبو عبد الله البلخي الزاهد، حكي عنه أنه مكث أربعين سنة لم يخط فيها خطوة في هوى نفسه، ولا نظر في شيء فاستحسنه حياء من الله عز وجل، وأنه مكث ثلاثين سنة لم يمل على ملكيه قبيحا.

محمد بن سعد بن أبي الحسين الوراق

صاحب أبي عثمان النيسابوري، وكان فقيها يتكلم على المعاملات.

ومن جيد كلامه قوله: من غض بصره عن محرّم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدي بها سامعوه، ومن غض نفسه عن شبهة نوّر الله قلبه نورا يهتدي به إلى طريق مرضاة الله.

يحيى بن عبد الله بن موسى أبو زكريا الفارسي، كتب بمصر عن الربيع بن سليمان، وكان ثقة عدلا صدوقا عند الحكام.

ثم دخلت سنة عشرين وثلاثمائة من الهجرة

فيها: كان مقتل المقتدر بالله الخليفة، وكان سبب ذلك: أن مؤنسا الخادم خرج من بغداد في المحرم منها مغاضبا الخليفة في ممالكيه وحشمه، متوجها نحو الموصل، ورد من أثناء الطريق مولاه يسرى إلى المقتدر ليستعلم له أمره، وبعث معه رسالة يخاطب بها أمير المؤمنين ويعاتبه في أشياء.

فلما وصل أمر الوزير - وهو الحسين بن القاسم وكان من أكبر أعداء مؤنس - بأن يؤديها فامتنع من أدائها إلا إلى الخليفة، فأحضره بين يديه وأمره بأن يقولها للوزير فامتنع، وقال: ما أمرني بهذا صاحبي، فشتمه الوزير وشتم صاحبه مؤنسا، وأمر بضربه ومصادرته بثلاثمائة ألف دينار، وأخذ خطه بها، وأمر بنهب داره، ثم أمر الوزير بالقبض على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك من معه.

فحصل من ذلك مال عظيم، وارتفع أمر الوزير عند المقتدر، ولقبه عميد الدولة، وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتمكن من الأمور جدا، فعزل وولى، وقطع ووصل أياما يسيرة، وفرح بنفسه حينا قليلا.

وأرسل إلى هارون بن عريب في الحال، وإلى محمد بن ياقوت يستحضرهما إلى الحضرة عوضا عن مؤنس، فصمم المظفر مؤنس في سيره فدخل الموصل، وجعل يقول لأمراء الأعراب: إن الخليفة قد ولاني الموصل وديار ربيعة.

فالتف عليه منهم خلق كثير، وجعل ينفق فيهم الأموال الجزيلة، وله إليهم قبل ذلك أيادي سابغة.

وقد كتب الوزير إلى آل حمدان - وهم ولاة الموصل وتلك النواحي - يأمرهم بمحاربته فركبوا إليه في ثلاثين ألفا، وواجههم مؤنس في ثمانمائة من ممالكيه وخدمه، فهزمهم ولم يقتل منهم سوى رجل واحد، يقال له: داود، وكان من أشجعهم، وقد كان مؤنس ربّاه وهو صغير.

ودخل مؤنس الموصل فقصدته العساكر من كل جانب يدخلون في طاعته، لإحسانه إليهم قبل ذلك، من بغداد والشام ومصر والأعراب، حتى صار في جحافل من الجنود.

وأما الوزير المذكور فإنه ظهرت خيانته وعجزه فعزله المقتدر في ربيع الآخر منها، وولى مكانه الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات، وكان آخر وزراء المقتدر.

وأقام مؤنس بالموصل تسعة أشهر، ثم ركب في الجيوش في شوال قاصدا بغداد ليطالب المقتدر بأرزاق الأجناد وإنصافهم، فسار - وقد بعث بين يديه الطلائع - حتى جاء فنزل بباب الشماسية ببغداد، وقابله عنده ابن ياقوت وهارون بن عريب عن كره منه.

وأشير على الخليفة أن يستدين من والدته مالا ينفقه في الأجناد، فقال: لم يبق عندها شيء، وعزم الخليفة على الهرب إلى واسط، وأن يترك بغداد إلى مؤنس حتى يتراجع أمر الناس ثم يعود إليها، فرده عن ذلك ابن ياقوت وأشار بمواجهته لمؤنس وأصحابه، فإنهم متى رأوا الخليفة هربوا كلهم إليه وتركوا مؤنسا.

فركب وهو كاره وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف المنشورة، وعليه البردة والناس حوله، فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في الناس: من جاء برأس فله خمسة دنانير، ومن جاء بأسير له عشرة دنانير.

ثم بعث إليه أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم فامتنع من التقدم إلى محل المعركة، ثم ألحوا عليه فجاء بعد تمنع شديد، فما وصل إليهم حتى انهزموا وفروا راجعين، ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه، فكان أول من لقيه من أمراء مؤنس علي بن بليق، فلما رآه ترجّل وقبّل الأرض بين يديه وقال: لعن الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم.

ثم وكل به قوما من المغاربة البربر، فلما تركهم وإياه شهروا عليه السلاح، فقال لهم: ويلكم أنا الخليفة.

فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، إنما أنت خليفة إبليس، تنادي في جيشك من جاء برأس فله خمسة دنانير؟

وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض، وذبحه آخر وتركوا جثته، وقد سلبوه كل شيء كان عليه، حتى سراويله، وبقي مكشوف العورة مجندلا على الأرض، حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ثم دفنه في موضعه وعفا أثره، وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة قد رفعوها وهم يلعنونه، فلما انتهوا به إلى مؤنس - ولم يكن حاضرا الوقعة - فحين نظر إليه لطم رأس نفسه ووجهه وقال: ويلكم، والله لم آمركم بهذا، لعنكم الله، والله لنقتلن كلنا.

ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب، وهرب عبد الواحد بن المقتدر وهارون بن عريب، وأبناء رايق، إلى المدائن، وكان فعل مؤنس هذا سببا لطمع ملوك الأطراف في الخلفاء، وضعف أمر الخلافة جدا، مع ما كان المقتدر يعتمده في التبذير والتفريط في الأموال، وطاعة النساء، وعزل الوزراء، حتى قيل: إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة ما يقارب ثمانين ألف ألف دينار.

ترجمة المقتدر بالله

هو جعفر بن أحمد المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، يكنى أبا الفضل، أمير المؤمنين العباسي، مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة ثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم ولد اسمها شغب، ولقبت في خلافة ولدها بالسيدة.

بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي يوم الأحد لأربع عشرة مضت من ذي القعدة، سنة خمس وتعسين ومائتين، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام.

ولهذا أراد الجند خلعه في ربيع الأول من سنة ست وتسعين محتجين بصغره وعدم بلوغه، وتولية عبد الله بن المعتز، فلم يتم ذلك، وانتقض الأمر في ثاني يوم كما ذكرنا.

ثم خلعوه في المحرم من سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وولوا أخاه محمدا القاهر كما تقدم، فلم يتم ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافة كما ذكرنا.

وقد كان المقتدر ربعة من الرجال حسن الوجه والعينين، بعيد ما بين المنكبين، حسن الشعر، مدور الوجه، مشربا بحمرة، حسن الخلق، قد شاب رأسه وعارضاه، وقد كان معطاءا جوادا، وله عقل جيد، وفهم وافر، وذهن صحيح.

وقد كان كثير التحجب والتوسع في النفقات، وزاد في رسوم الخلافة وأمور الرياسة، وما زاد شيء إلا نقص.

كان في داره إحدى عشر ألف خادم خصي، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسودان، وكان له دار يقال لها: دار الشجرة، بها من الأثاث والأمتعة شيء كثير جدا، كما ذكرنا ذلك في سنة خمس، حين قدم رسول ملك الروم.

وقد ركب المقتدر يوما في حراقة، وجعل يستعجل الطعام فأبطأوا به فقال للملاح: ويحك هل عندك شيء آكل؟

قال: نعم، فأتاه بشيء من لحم الجدي وخبز حسن وملوحا وغير ذلك.

فأعجبه ثم استدعاه فقال: هل عندك شيء من الحلواء، فإني لا أحس بالشبع حتى آكل شيئا من الحلواء.

فقال: يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التمر والكسب.

فقال: هذا شيء لا أطيقه.

ثم جيء بطعام فأكل منه وأوتي بالحلواءات فأكل وأطعم الملاحين، وأمر أن يعمل كل في الحراقة بمائتي درهم، حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل منها، وإن لم يتفق ركوبه كانت للملاح.

وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة، ولم يتفق ركوبه مرة أخرى أبدا.

وقد أراد بعض خواصه أن يطهر ولده فعمل أشياء هائلة ثم طلب من أم الخليفة أن يعار القرية التي عملت في طهور المقتدر من فضة ليراها الناس في هذا المهم، فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حتى أطلقها له بالكلية، وكانت صفة قرية من القرى كلها من فضة، بيوتها وأعاليقها وأبقارها وجمالها، ودوابها وطيورها، وخيولها وزروعها، وثمارها وأشجارها وأنهارها، وما يتبع ذلك مما يكون في القرى، الجميع من فضة مصوّر.

وأمر بنقل سماطه إلى دار هذا الرجل، وأن لا يكلف شيء من المطاعم سوى سمك طري، فاشترى الرجل بثلاثمائة دينار سمكا طريا، وكان جملة ما أنفق الرجل على سماط المقتدر ألفا وخمسمائة دينار، والجميع من عند المقتدر، وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحرمين وأرباب الوظائف، وكان كثير التنفل بالصلاة والصوم والعبادة، ولكنه كان مؤثرا لشهواته، مطيعا لخصاياه كثير العزل والولاية والتلون.

وما زال ذلك دأبه حتى كان هلاكه على يدي غلمان مؤنس الخادم، فقتل عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة - أعني سنة ثلاثمائة وعشرين - وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا وأربعة عشر يوما، كان أكثر مدة ممن تقدمه من الخلفاء.

خلافة القاهر

لما قتل المقتدر بالله عزم مؤنس على تولية أبي العباس بن المقتدر بعد أبيه ليطيب قلب أم المقتدر، فعدل عن ذلك جمهور من حضر من الأمراء فقال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي: بعد التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات يطيعهن ويشاورهن؟

ثم أحضروا محمد بن المعتضد - وهو أخو المقتدر - فبايعه القضاة والأمراء والوزراء، ولقبوه بالقاهر بالله، وذلك في سحر يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال منها، واستوزر أبا علي بن مقلة، ثم أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله ثم أبا العباس، ثم الخصيبي.

وشرع القاهر في مصادرة أصحاب المقتدر وتتبع أولاده، واستدعى بأم المقتدر وهي مريضة بالاستسقاء، وقد تزايد بها الوجع من شدة جزعها على ولدها حين بلغها قتله، وكيف بقي مكشوف العورة.

فبقيت أياما لا تأكل شيئا، ثم وعظها النساء حتى أكلت شيئا يسيرا من الخبز والملح، ومع هذا كله استدعى بها القاهر فقررها على أموالها فذكرت له ما يكون للنساء من الحلي والمصاغ والثياب، ولم تقرّ بشيء من الأموال والجواهر، وقالت له: لو كان عندي من هذا شيء ما سلمت ولدي للقتل.

فأمر بضربها وعلقت برجليها ومسها بعذاب شديد من العقوبة، فأشهدت على نفسها ببيع أملاكها، فأخذه الجند مما يحاسبون به من أرزاقهم.

وأرادها على بيع أوقافها فامتنعت من ذلك وأبت أشد الإباء.

ثم استدعى القاهر بجماعة من أولاد المقتدر منهم أبو العباس وهارون والعباس وعلي والفضل وإبراهيم، فأمر بمصادرتهم وحبسهم، وسلمهم إلى حاجبه علي بن بليق، وتمكن الوزير علي بن مقلة فعزل وولى، وأخذ وأعطى أياما، ومنع البريدي من عمالتهم.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن عمير بن جوصا

أبو الحسن الدمشقي أحد المحدثين الحفاظ، والرواة الأيقاظ.

وإبراهيم بن محمد بن علي بن بطحاء بن علي بن مقلة أبو إسحاق التميمي، المحتسب ببغداد، روى عن عباس الدوري وعلي بن حرب وغيرهما، وكان ثقة فاضلا ً.

مرَّ يوما على باب القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، والخصوم عكوف على بابه والشمس قد ارتفعت عليهم، فبعث حاجبه إليه يقول له: إما أن تخرج فتفصل بين الخصوم، وإما أن تبعث فتعتذر إليهم إن كان لك عذر حتى يعودوا إليك بعد هذا الوقت.

أبو علي بن خيران

الفقيه الشافعي، أحد أئمة المذهب، واسمه الحسين بن صالح بن خيران الفقيه الكبير الورع.

عرض عليه منصب القضاء فلم يقبل، فختم عليه الوزير علي بن عيسى على بابه ستة عشر يوما، حتى لم يجد أهله ماء إلا من بيوت الجيران، وهو مع ذلك يمتنع عليهم، ولم يل لهم شيئا.

فقال الوزير: إنما أردنا أن نعلم الناس أن ببلدنا وفي مملكتنا من عرض عليه قضاء قضاة الدنيا في المشارق والمغارب فلم يقبل.

وقد كانت وفاته في ذي الحجة منها، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية بما فيه كفاية.

عبد الملك بن محمد بن عدي الفقيه الاستراباذي، أحد أئمة المسلمين والحفاظ المحدثين وقد ذكرناه أيضا في طبقات الشافعية.

القاضي أبو عمر المالكي محمد بن يوسف

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد، أبو عمر القاضي ببغداد ومعاملاتها في سائر البلاد، كان من أئمة الإسلام علما ومعرفة، وفصاحة وبلاغة، وعقلا ورياسة، بحيث كان يضرب بعقله المثل.

وقد روى الكثير عن المشايخ، وحدث عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ، وحمل الناس عنه علما كثيرا من الفقه والحديث، وقد جمع قضاء القضاة في سنة سبع عشرة وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة.

وجمع مسندا حافلا، وكان إذا جلس للحديث جلس أبو القاسم البغوي عن يمينه وهو قريب من سن أبيه، وجلس عن يساره أيضا ابن صاعد، وبين يديه أبو بكر النيسابوري، وسائر الحفاظ حول سريره من كل جانب.

قالوا: ولم ينتقد عليه حكم من أحكامه أخطأ فيه قط.

قلت: وكان من أكبر صوّاب أحكامه وأصوبها قتله الحسين بن منصور الحلاج في سنة تسع وثلاثمائة كما تقدم.

وكان القاضي أبو عمر هذا جميل الأخلاق، حسن المعاشرة، اجتمع عنده يوما أصحابه فجيء بثوب فاخر ليشتريه بنحو من خمسين دينارا، فاستحسنه الحاضرون، فدعا بالقلانسي، وأمره أن يقطع ذلك الثوب قلانس بعدد الحاضرين.

وله مناقب ومحاسن جمة رحمه الله تعالى.

توفي في رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل بك ربك؟

فقال: غفر لي بدعوة الرجل الصالح إبراهيم الحربي.

ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

في صفر منها أحضر القاهر رجلا كان يقطع الطريق فضرب بين يديه ألف سوط، ثم ضربت عنقه وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم.

وفيها: أمر القاهر بإبطال الخمر والمغاني والقيان، وأمر ببيع الجواري المغنيات بسوق النخس، على أنهن سواذج.

قال ابن الأثير: وإنما فعل ذلك لأنه كان محبا للغناء فأراد أن يشتريهن برخص الأثمان، نعوذ بالله من هذه الأخلاق.

وفيها: أشاعت العامة بينهم بأن الحاجب علي بن بليق يريد أن يلعن معاوية على المنابر، فلما بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري أبي محمد الواعظ ليقابله على ذلك، فهرب واختفى، فأمر بجماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة.

وفيها: عظم الخليفة وزيره على بن مقلة وخاطبه بالاحترام والإكرام.

ثم إن الوزير ومؤنسا الخادم وعلي بن بليق وجماعة من الأمراء اشتوروا فيما بينهم على خلع القاهر وتولية أبي أحمد المكتفي، وبايعوه سرّا فيما بينهم، وضيقوا على القاهر بالله في رزقه، وعلى من يجتمع به.

وأرادوا القبض عليه سريعا.

فبلغ ذلك القاهر - بلغه طريف اليشكري - فسعى في القبض عليهم، فوقع في مخالبه الأمير المظفر مؤنس الخادم.

فأمر بحبسه قبل أن يراه والاحتياط على دوره وأملاكه - وكانت فيه عجلة وجرأة وطيش وهوج وخرق شديد - وجعل في منزلته - أمير الأمراء ورياسة الجيش - طريفا اليشكري، وقد كان أحد الأعداء لمؤنس الخادم قبل ذلك.

وقبض على بليق، واختفى ولده علي بن بليق، وهرب الوزير ابن مقلة فاستوزر مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله في مستهل شعبان، وخلع عليه وأمر بتحريق دار ابن مقلة، ووقع النهب ببغداد، وهاجت الفتنة، وأمر القاهر بأن يجعل أبو أحمد المكتفي بين حائطين ويسد عليه بالآجر والكلس، وهو حي فمات.

وأرسل منادي على المختفين: إن من أخفاهم قتل وخربت داره.

فوقع بعلي بن بليق فذبح بين يديه كما تذبح الشاة، فأخذ رأسه في طست ودخل به القاهر على أبيه بليق بنفسه، فوضع رأس ابنه بين يديه، فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه، فأمر بذبحه أيضا فذبح، ثم أخذ الرأسين في طستين فدخل بهما على مؤنس الخادم، فلما رآهما تشهد ولعن قاتلهما، فقال القاهر: جروا برجل الكلب، فأخذ فذبح أيضا وأخذ رأسه فوضع في طست وطيف بالرؤوس في بغداد.

ونودي عليهم: هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في الدولة فسادا.

ثم أعيدت الرؤوس إلى خزائن السلاح.

وفي ذي القعدة منها: قبض القاهر على الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم وسجنه، وكان مريضا بالقولنج، فبقي ثمانية عشر يوما ومات، وكانت وزارته ثلاثة أشهر واثني عشر يوما، واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الخصيبي، ثم قبض على طريف اليشكري الذي تعاون على مؤنس وابن بليق وسجنه.

ولهذا قيل: من أعان ظالما سلطه الله عليه.

فلم يزل اليشكري في الحبس حتى خلع القاهر.

وفيها: جاء الخبر بموت العامل بديار مصر، وأن ابنه محمدا قد قام مقامه فيها، وسارت الخلع إليه من القاهر بتنفيذ الولاية واستقراره.

ابتداء أمر بني بويه وظهور دولتهم

وهم ثلاثة إخوة: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن قباخسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شيركيده بن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروز بن شيرزيل بن سيسان بن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك بن سابور الملك بن سابور ذي الأكتاف الفارسي.

كذا نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتابه.

وإنما قيل لهم: الديالمة، لأنهم جاوروا الديلم، وكانوا بين أظهرهم مدة، وقد كان أبوهم أبو شجاع بويه فقيرا مدقعا، يصطاد السمك ويحتطب بنوه الحطب على رؤوسهم، وقد ماتت امرأته وخلفت له هؤلاء الأولاد الثلاثة، فحزن عليها وعليهم، فبينما هو يوما عند بعض أصحابه وهو شهريار بن رستم الديلمي، إذ مرّ منجم فاستدعاه فقال له: إني رأيت مناما غريبا أحب أن تفسره لي، رأيت كأني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة حتى كادت تبلغ عنان السماء، ثم انفرقت ثلاث شعب ثم انتشرت كل شعبة حتى صارت شعبا كثيرة، فأضاءت الدنيا بتلك النار، ورأيت البلاد والعباد قد خضعت لهذه النار.

فقال له: المنجم هذا منام عظيم لا أفسره لك إلا بمال جزيل.

فقال: والله لا شيء عندي أعطيك، ولا أملك إلا فرسي هذه.

فقال: هذا يدل على أنه يملك من صلبك ثلاثة ملوك، ثم يكون من سلالة كل واحد منهم ملوك عدة.

فقال له: ويحك أتسخر بي؟

وأمر بنيه فصفعوه ثم أعطاه عشرة دراهم.

فقال لهم المنجم: اذكروا هذا إذا قدمت عليكم وأنتم ملوك وخرج وتركهم.

وهذا من أعجب الأشياء، وذلك أن هؤلاء الأخوة الثلاثة كانوا عند ملك يقال له: ماكان بن كاني، في بلاد طبرستان، فتسلط عليه مرداويج فضعف ماكان، فتشاوروا في مفارقته حتى يكون من أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعة من الأمراء، فصاروا إلى مرادويج فأكرمهم واستعملهم على الأعمال في البلدان.

فأعطى عماد الدولة على بويه نيابة الكرج، فأحسن فيها السيرة والتف عليه الناس وأحبوه، فحسده مردوايج وبعث إليه بعزله عنها، ويستدعيه إليه فامتنع من القدوم عليه، وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه عماد الدولة هزيمة منكرة، واستولى على أصبهان.

وإنما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وعظم في أعين الناس.

فلما بلغ ذلك مرداويج قلق منه، فأرسل إليه جيشا فأخرجوه من أصبهان، فقصد أذربيجان فأخذها من نائبها وحصل له من الأموال شيء كثير جدا، ثم أخذ بلدانا كثيرة، واشتهر أمره وبعد صيته وحسنت سيرته.

فقصده الناس محبة وتعظيما، فاجتمع إليه من الجند خلق كثير وجم غفير، فلم يزل يترقى في مراقي الدنيا حتى آل به وبأخويه الحال إلى أن ملكوا بغداد من أيدي الخلفاء العباسيين، وصار لهم فيها القطع والوصل، والولاية والعزل، وإليهم تجبى الأموال، ويرجع إليهم في سائر الأمور والأحوال، على ما سنذكر ذلك مبسوطا والله المستعان.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن محمد بن سلامة

ابن سلمة بن عبد الملك أبو جعفر الطحاوي، نسبة إلى قرية بصعيد مصر، الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة، والفوائد الغزيرة، وهو أحد الثقات الأثبات، والحفاظ الجهابذة، وطحا بلدة بدريا مصر.

وهو ابن أخت المزني، توفي في مستهل ذي القعدة منها عن ثنتين وثمانين سنة.

وذكر أبو سعيد السمعاني: أنه ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين، فعلى هذا يكون قد جاوز التسعين، والله أعلم.

وذكر ابن خلكان في (الوفيات): أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه عن مذهب خاله المزني، أن خاله قال له يوما: والله لا يجيء منك شيء.

فغضب وتركه واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي، حتى برع وفاق أهل زمانه، وصنف كتبا كثيرة منها:

(أحكام القرآن)، و(اختلاف العلماء)، و(معاني الآثار)، و(التاريخ الكبير).

وله في الشروط كتاب، وكان بارعا فيها.

وقد كتب للقاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله وعدله القاضي أبو عبيد بن حربويه، وكان يقول: رحم الله المزني، لو كان حيا لكفّر عن يمينه، توفي في مستهل ذي القعدة كما تقدم.

ودفن بالقرافة، وقبره مشهور بها رحمه الله.

وقد ترجمه ابن عساكر وذكر: أنه قد قدم دمشق سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ الفقه عن قاضيها أبي حازم.

أحمد بن محمد بن موسى بن النضر

ابن حكيم بن علي بن زربى، أبو بكر المعروف: بابن أبي حامد، صاحب بيت المال، سمع عباسا الدوري، وخلقا، وعنه الدارقطني.

وكان ثقة صدوقا جوادا ممدحا، اتفق في أيامه أن رجلا من أهل العلم كانت له جارية يحبها حبا شديدا، فركبته ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين، فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها، وبقي متحيرا في أمره، ثم باعها الذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبي حامد هذا، وهو صاحب بيت المال، فتشفع صاحبها الأول - الذي باعها في الدين - ببعض أصحاب ابن أبي حامد في أن يردها إليه بثمنها، وذكر له أنه يحبها، وأنه من أهل العلم، وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء.

فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبي حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية، وذلك أن امرأته كانت اشترتها له ولم تعلمه بعد بأمرها حتى تحل من استبرائها، وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء، فألبستها الحلي والمصاغ وصنتعها له وهيأتها حتى صارت كأنها فلقة قمر، وكانت حسناء، فحين شفع صاحبه فيها وذكر أمرها بهت لعدم علمه بها.

ثم دخل على أهله يستكشف خبرها من امرأته، فإذا بها قد هيئت له، فلما رآها على تلك الصفة فرح فرحا شديدا، إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الأول الذي تشفع فيه صاحبه، فأخرجها معه وهو يظهر السرور، وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها، فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها، فقال له: هذه جاريتك؟

فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر، اضطرب كلامه واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها.

فقال: نعم.

فقال: خذها، بارك الله لك فيها.

ففرح الفتى بها فرحا شديدا.

وقال: سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك؟

فقال: لا حاجة لنا بثمنها، وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها، فإني أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك.

فقال: يا سيدي، وهذا الحلي والمصاغ الذي عليها؟

فقال: هذا شيء وهبناه لها لا نرجع فيه، ولا يعود إلينا أبدا، فدعا له واشتد فرحه بها جدا وأخذها وذهب.

فلما أراد أن يودع ابن أبي حامد قال ابن أبي حامد للجارية: أيما أحب إليك نحن أو سيدك هذا؟

فقالت: أما أنتم فقد أحسنتم إليّ وأعنتموني فجزاكم الله خيرا، وأما سيدي هذا فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالأموال الجزيلة، ولا فرطت فيه أبدا.

فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذلك من قولها مع صغر سنها.

شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة

كان دخلها من أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار، فكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم، وفي تسهيل الطرقات والموارد.

وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها، فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مرضا إلى مرضها، ولما استقر أمر القاهر في الخلافة وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها المقتدر، وقد كانت حضنته حين توفيت أمه، وخلصته من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له، ثم رجع ابنها إلى الخلافة، فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها، فكانت تكرمه وتشتري له الجواري.

فلما قتل ابنها وتولى مكانه، طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جدا، حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس، فربما بالت فيسيل البول على وجهها، ليقررها على الأموال فلم يجد لها شيئا سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديقها.

قيمة ذلك مائة ألف دينار، وثلاثون ألف دينار، وكان لها غير ذلك أملاك أمر ببيعها، وأتى بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها، فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها، فرفع الستر بإذن الخليفة.

فقالوا لها: أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر؟

فبكت بكاء طويلا ثم قالت: نعم، فكتبوا حليتها عجوز سمراء اللون، دقيقة الجبين.

وبكى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله، وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا يفي مرجوها بمخوفها، ولا يسلم طلوعها من كسوفها، من ركن إليها أحرقته بنارها.

ولم يذكر القاهر شيئا من إحسانها إليه، رحمها الله وعفا عنه.

توفيت في جمادى الأولى من هذه السنة، ودفنت بالرصافة.

عبد السلام بن محمد

ابن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان، مولى عثمان بن عفان، وهو أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المتكلم ابن المتكلم، المعتزلي بن المعتزلي، وإليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة، وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله، مولده سنة سبع وأربعين ومائتين، توفي في شعبان منها.

قال ابن خلكان: وكان له ابن يقال له: أبو علي، دخل يوما على الصاحب بن عباد فأكرمه واحترمه وسأله عن شيء من المسائل فقال: لا أعرف نصف العلم.

فقال: صدقت، وسبقك أبوك إلى الجهل بالنصف الآخر.

محمد بن الحسن بن دُريد بن عتاهية

أبو بكر بن دريد الأزدي اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة، ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وتنقل في البلاد لطلب العلم والأدب، وكان أبوه من ذوي اليسار، وقدم بغداد وقد أسن فأقام بها إلى أن توفي في هذه السنة.

روى عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، وأبي حاتم، والرياشي.

وعنه أبو سعيد السيرافي، وأبو بكر بن شاذان، وأبو عبيد الله بن المرزبان وغيرهم، ويقال: كان أعلم من شعر من العلماء.

وقد كان متهتكا في الشراب منهمكا فيه.

قال أبو منصور الأزهري: دخلت عليه فوجدته سكران فلم أعد إليه.

وسئل عنه الدارقطني فقال: تكلموا فيه.

وقال ابن شاهين: كنا ندخل عليه فنستحي مما نراه من العيدان المعلقة وآلات اللهو والشراب المصفى، وقد جاوز التسعين وقارب المائة.

توفي يوم الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان، وفي هذا اليوم توفي أبو هاشم بن أبي علي الجبائي المعتزلي، فصلي عليهما معا، ودفنا في مقبرة الخيزران.

فقال الناس: مات اليوم عالم اللغة، وعالم الكلام.

وكان ذلك يوما مطيرا.

ومن مصنفات ابن دريد (الجمهرة في اللغة) نحو عشر مجلدات، و(كتاب المطر)، و(المقصورة)، و(القصيدة الأخرى في المقصور والممدود)، وغير ذلك سامحه الله.

ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة

فيها: قصد ملك الروم ملطية في خمسين ألفا فحاصرهم، ثم أعطاهم الأمان حتى تمكن منهم، فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر ما لا يحصون كثرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: وردت الأخبار أن مردوايج قد تسلم أصبهان وانتزعها من علي بن بويه، وأن علي بن بويه توجه إلى أرجان فأخذها، وقد أرسل ابن بويه إلى الخليفة بالطاعة والمعونة، وإن أمكن أن يقبل العتبة الشريفة ويحضر بين يدي الخليفة إن رسم، ويذهب إلى شيراز فيكون مع ابن ياقوت.

ثم اتفق الحال بعد ذلك أن صار إلى شيراز وأخذها من نائبها ابن ياقوت بعد قتالٍ عظيم، ظفر فيه ابن بويه بابن ياقوت وأصحابه، فقتل منهم خلقا وأسر جماعة، فلما تمكن أطلقهم وأحسن إليهم وخلع عليهم، وعدل في الناس.

وكانت معه أموال كثيرة قد استفادها من أصبهان والكرج وهمذان وغيرها.

وكان كريما جوادا معطيا للجيوش الذين قد التفوا عليه، ثم إنه أملق في بعض الأحيان وهو بشيراز، وطالبه الجند بأرزاقهم وخاف أن ينحل نظام أمره وملكه، فاستلقى على قفاه يوما مفكرا في أمره، وإذا حية قد خرجت من شق في سقف المكان الذي هو فيه ودخلت في آخر، فأمر بنزع تلك السقوف، فوجد هناك مكانا فيه شيء كثير من الذهب، نحو خمسمائة ألف دينار، فأنفق في جيشه ما أراد، وبقي عنده شيء كثير.

وركب ذات يوم يتفرج في جوانب البلد وينظر إلى ما بنته الأوائل، ويتعظ بمن كان فيه قبله، فانخسفت الأرض من تحت قوائم فرسه، فأمر فحفر هنالك فوجد من الأموال شيئا كثيرا أيضا.

واستعمل عند رجل خياط قماشا ليلبسه فاستبطأه فأمر بإحضاره، فلما وقف بين يديه تهدده - وكان الخياط أصم لا يسمع جيدا - فقال: والله أيها الملك ما لابن ياقوت عندي سوى اثنا عشر صندوقا لا أدري ما فيها.

فأمر بإحضارها فإذا فيها أموال عظيمة تقارب ثلاثمائة ألف دينار، واطلع على ودائع كانت ليعقوب بن الليث، فيها من الأموال ما لا يحد ولا يوصف كثرة، فقوي أمره وعظم سلطانه جدا.

وهذا كله من الأمور المقدرة لما يريد الله بهم من السعادة الدنيوية، بعد الجوع والقلة { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص: 68] .

وكتب إلى الراضي ووزيره ابن مقلة: أن يقاطع على ما قبله من البلاد على ألف ألف في كل سنة، فأجابه الراضي إلى ذلك، وبعث إليه بالخلع واللواء وأبهة الملك.

وفيها: قتل القاهر أميرين كبيرين، وهما: إسحاق بن إسماعيل النوبختي، وهو الذي كان قد أشار على الأمراء بخلافة القاهر.

وأبا السرايا بن حمدان أصغر ولد أبيه، وكان في نفس القاهر منهما بسبب أنهما زايداه من قبل أن يلي الخلافة في جاريتين مغنيتين.

فاستدعاهما إلى المسامرة فتطيبا وحضرا، فأمر بإلقائهما في جب هناك فتضرعا إليه فلم يرحمهما، بل ألقيا فيها وطم عليهما.

ذكر خلع القاهر وسمل عينيه وعذابه

وكان سبب ذلك: أن الوزير علي بن مقلة كان قد هرب حين قبض على مؤنس كما تقدم، فاختفى في داره، وكان يراسل الجند ويكاتبهم ويغريهم بالقاهر، ويخوفهم سطوته وإقدامه وسرعة بطشه، ويخبرهم بأن القاهر قد أعد لأكابر الأمراء أماكن في دار الخلافة يسجنهم فيها، ومهالك يلقيهم فيها، كما فعل بفلان وفلان فهيجهم ذلك على القبض على القاهر.

فاجتمعوا وأجمعوا رأيهم على مناجزته في هذه الساعة، فركبوا مع الأمير المعروف: بسيما، وقصدوا دار الخلافة فأحاطوا بها، ثم هجموا عليه من سائر أبوابها وهو مخمور، فاختفى في سطح حمام فظهروا عليه فقبضوا عليه وحبسوه في مكان طريف اليشكري، وأخرجوا طريفا من السجن، وخرج الوزير الخصيبي مستترا في زي امرأة، فذهب.

واضطربت بغداد ونهبت، وذلك يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الأولى فيها، في الشهر الذي ماتت فيه شغب.

فلم يكن بين موتها والقبض عليه وسمل عينيه وعذابه بأنواع العقوبات إلا مقدار سنة واحدة، وانتقم الله منه.

ثم أمروا بإحضاره، فلما حضر سملوا عينيه حتى سالتا على خديه، وارتكب منه أمر عظيم لم يسمع مثله في الإسلام، ثم أرسلوه.

وكان تارة يحبس وتارة يخلى سبيله.

وقد تأخر موته إلى سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

وافتقر حتى قام يوما بجامع المنصور فسأل الناس فأعطاه رجل خمسمائة دينار.

ويقال: إنما أراد بسؤاله التشنيع عليهم.

وسنذكر ترجمته إذا ذكرنا وفاته.

خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر بالله

لما خلعت الجند القاهر وسملوا عينيه أحضروا أبا العباس محمد بن المقتدر بالله فبايعوه بالخلافة، ولقبوه: الراضي بالله.

وقد أشار أبو بكر الصولي بأن يلقب: بالمرضي بالله، فلم يقبلوا، وذلك يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى منها.

وجاؤوا بالقاهر وهو أعمى قد سملت عيناه فأوقف بين يديه، فسلم عليه بالخلافة وسلمها إليه، فقام الراضي بأعبائها، وكان من خيار الخلفاء على ما سنذكره.

وأمر بإحضار أبي علي بن مقلة فولاه الوزارة، وجعل علي بن عيسى ناظرا معه، وأطلق كل من كان في حبس القاهر، واستدعى عيسى طبيب القاهر فصادره بمائتي ألف دينار، وتسلم منه الوديعة التي كان القاهر أودعه إياها، وكانت جملة مستكثرة من الذهب والفضة والجواهر النفيسة.

وفيها: عظم أمر مرداويج بأصبهان وتحدث الناس أنه يريد أخذ بغداد، وأنه ممالئ لصاحب البحرين أمير القرامطة، وقد اتفقا على رد الدولة من العرب إلى العجم، وأساء السيرة في رعيته، لا سيما في خواصه.

فتمالؤا عليه فقتلوه، وكان القائم بأعباء قتله أخص مماليكه وهو بجكم بيض الله وجهه، وبجكم هذا هو الذي استنقذ الحجر الأسود من أيدي القرامطة حتى ردوه، واشتراه منهم بخميس ألف دينار.

ولما قتل الأمير بجكم مرداويج عظم أمر علي بن بويه، وارتفع قدره بين الناس، وسيأتي ما آل إليه حاله.

ولما خلع القاهر وولي الراضي، طمع هارون بن غريب في الخلافة، لكونه ابن خال المقتدر، وكان نائبا على ماه، والكوفة، والدينور، وما سبذان، فدعا إلى نفسه واتبعه خلقٌ كثير من الجند والأمراء، وجبى الأموال واستفحل أمره وقويت شوكته، وقصد بغداد فخرج إليه محمد بن ياقوت رأس الحجبة بجميع جند بغداد فاقتتلوا.

فخرج في بعض الأيام هارون بن غريب يتقصد لعله يعمل حيلة في أسر محمد بن ياقوت فتقنطر به فرسه، فألقاه في نهر فضربه غلامه حتى قتله، وأخذ رأسه حتى جاء به إلى محمد بن ياقوت، وانهزم أصحابه ورجع ابن ياقوت فدخل بغداد ورأس هارون بن غريب يحمل على رمح، ففرح الناس بذلك، وكان يوما مشهودا.

وفيها: ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر بن علي الشلمغاني، ويقال له: ابن العرافة، فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الإلهية، وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس، واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك.

ولما كانت هذه المرة أحضره الراضي، وادعى عليه بما كان ذكر عنه، فأنكر ثم أقر بأشياء، فأفتى قوم أن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة، فأبى أن يتوب، فضرب ثمانين سوطا، ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج، وقتل معه صاحبه ابن أبي عون لعنه الله.

وكان هذا اللعين من جملة من اتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر.

وقد بسط ابن الأثير في (كامله) مذهب هؤلاء الكفرة بسطا جيدا، وشبه مذهبهم بمذهب النصيرية.

وادعى رجل آخر ببلاد الشاش النبوة وأظهر المخاريق وأشياء كثيرة من الحيل، فجاءته الجيوش فقاتلوه، وانطفأ أمره.

وفاة المهدي صاحب أفريقية

وفيها: كان موت المهدي صاحب إفريقية أول خلفاء الفاطميين الأدعياء الكذبة، وهو: أبو محمد عبيد الله المدعي أنه علوي، وتلقب بالمهدي، وبنى المهدية ومات بها عن ثلاث وستين سنة، وكانت ولايته - منذ دخل رقادة وادعى الإمامة - أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما.

وقد كان شهما شجاعا، ظفر بجماعة ممن خالفه وناوأه وقاتله وعاداه، فلما مات قام بأمر الخلافة من بعده ولده أبو القاسم الملقب: بالخليفة القائم بأمر الله.

وحين توفي أبوه كتم موته سنة حتى دبر ما أراده من الأمور، ثم أظهر ذلك وعزاه الناس فيه، وقد كان كأبيه شهما شجاعا: فتح البلاد، وأرسل السرايا إلى بلاد الروم، ورام أخذ الديار المصرية فلم يتفق له ذلك، وإنما أخذ الديار المصرية ابن ابنه المعز الفاطمي باني القاهرة المعزية، كما سنذكره إن شاء الله.

قال ابن خلكان في (الوفيات): وقد اختلف في نسب المهدي هذا اختلافا كثيرا جدا، فقال صاحب (تاريخ القيروان): هو عبيد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

وقال غيره: هو عبيد الله بن التقي وهو الحسين بن الوفي بن أحمد بن الرضي، وهو عبد الله هذا، وهو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق.

وقيل غير ذلك في نسبه.

قال ابن خلكان: والمحققون ينكرون دعواه في النسب.

قلت: قد كتب غير واحد من الأئمة منهم الشيخ أبو حامد الأسفراييني، والقاضي الباقلاني، والقدوري، أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمونه، وأن والد عبيد الله المهدي هذا كان يهوديا صباغا بسلمية.

وقيل: كان اسمه سعد، وإنما لقب بعبيد الله زوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وسمي: القداح، لأنه كان كحالا يقدح العيون.

وكان الذي وطأ له الأمر بتلك البلاد أبو عبد الله الشيعي، كما قدمنا ذلك.

ثم استدعاه فلما قدم عليه من بلاد المشرق وقع في يد صاحب سجلماسة فسجنه، فلم يزل الشيعي يحتال له حتى استنقذه من يده وسلم إليه الأمر، ثم ندم الشيعي على تسليمه الأمر وأراد قتله، ففطن عبيد الله لما أراد به، فأرسل إلى الشيعي من قتله وقتل أخاه معه.

ويقال: إن الشيعي لما دخل السجن الذي قد حبس فيه عبيد الله هذا وجد صاحب سجلماسة قد قتله، ووجد في السجن رجلا مجهولا محبوسا فأخرجه إلى الناس، لأنه كان قد أخبر الناس أن المهدي كان محبوسا في سجلماسة وأنه إنما يقاتل عليه، فقال للناس: هذا هو المهدي - وكان قد أوصاه أن لا يتكلم إلا بما يأمره به وإلا قتله - فراج أمره.

فهذه قصته.

وهؤلاء من سلالته، والله أعلم.

وكان مولد المهدي هذا في سنة ستين ومائتين، وقيل: قبلها، وقيل: بعدها، بسلمية، وقيل: بالكوفة، والله أعلم.

وأول ما دعي له على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، بعد رجوعه من سجلماسة، وكان ظهوره بها في ذي الحجة من السنة الماضية - سنة ست وتسعين ومائتين - فلما ظهر زالت دولة بني العباس عن تلك الناحية من هذا الحين إلى أن ملك العاضد في سنة سبع وستين وخمسمائة.

توفي بالمدينة المهدية التي بناها في أيامه للنصف من ربيع الأول منها، وقد جاوز الستين على المشهور، وسيفصل الله بين الآمر والمأمور يوم البعث والنشور.

وفيها توفي من الأعيان: أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر.

حدث عن أبيه بكتبه المشهورة، وتوفي وهو قاض بالديار المصرية في ربيع الأول منها.

محمد بن أحمد بن القاسم أبو علي الروذباري

وقيل: اسمه أحمد بن محمد، ويقال: الحسين بن الهمام، والصحيح الأول.

أصله من بغداد وسكن مصر، وكان من أبناء الرؤوساء والوزراء والكتبة، وصحب الجنيد وسمع الحديث وحفظ منه كثيرا، وتفقه بإبراهيم الحربي، وأخذ النحو عن ثعلب، وكان كثير الصدقة والبر للفقراء، وكان إذا أعطى الفقير شيئا جعله في كفه تحت يد الفقير، ثم يتناوله الفقير، يريد أن لا تكون يد الفقير تحت يديه.

قال أبو نعيم: سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول: إنه وصل إلى منزلة لا يؤثر فيه اختلاف الأحوال.

فقال: نعم وصل، ولكن إلى سقر.

وقال: الإشارة الإبانة، لما تضمنه الوجد من المشار إليه لا غير، وفي الحقيقة أن الإشارة تصححها العلل، والعلل بعيدة من غير الحقائق.

وقال: من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك، فتترك الإنابة والتوبة توهما أنك تسامح في الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق لك.

وقال: تشوقت القلوب إلى مشاهدة ذات الحق، فألقيت إليها الأسامي، فركنت إليها مشغوفة بها عن الذات إلى أوان التجلي، فذلك قوله: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] فوقفوا معها عن إدراك الحقائق، فأظهر الأسامي وأبراها للخلق، لتسكين شوق المحبين إليه، وتأنيس قلوب العارفين به.

وقال: لا رضى لمن لا يصبر، ولا كمال لمن لا يشكر.

وبالله وصل العارفون إلى محبته وشكروه على نعمته.

وقال: إن المشتاقين إلى الله يجدون حلاوة الشوق عند ورود المكاشف لهم عن روح الوصال إلى قربه أحلى من الشهد.

وقال: من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات: بطن جائع معه قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه قناعة دائمة.

وقال: في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عزها فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى.

ومن شعره:

لو مضى الكل مني لم يكن عجبا ** وإنما عجبي في البعض كيف بقي

أدرك بقية روح منك قد تلفت ** قبل الفراق فهذا آخر الرمق

محمد بن إسماعيل

المعروف: بخير النساج أبو الحسن الصوفي، من كبار المشايخ ذوي الأحوال الصالحة، والكرامات المشهورة.

أدرك سريا السقطي وغيره من مشايخ القوم، وعاش مائة وعشرين سنة.

ولما حضرته الوفاة نظر إلى زاوية البيت، فقال: قف رحمك الله، فإنك عبد مأمور وأنا عبد مأمور، وما أمرت به لا يفوت وما أمرت به يفوت.

ثم قام وتوضأ وصلى وتمدد ومات رحمه الله تعالى.

وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟

فقال: استرحنا من دنياكم الوخيمة.

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

فيها: أحضر ابن شنبوذ المقري فأنكر عليه جماعة من الفقهاء والقراء حروفا انفرد بها، فاعترف ببعضها وأنكر بعضها، فاستتيب من ذلك واستكتب خطه بالرجوع عما نقم عليه، وضرب سبع درر بإشارة الوزير أبي علي بن مقلة، ونفي إلى البصرة.

فدعا على الوزير أن تقطع يده، ويشتت شمله، فكان ذلك عما قريب.

وفي جمادى الآخرة نادى ابن الحرسي صاحب الشرطة في الجانبين من بغداد: أن لا يجتمع اثنان من أصحاب أبي محمد البربهاري الواعظ الحنبلي.

وحبس من أصحابه جماعة، واستتر ابن البربهاري فلم يظهر مدة.

قال ابن الجوزي في (المنتظم): وفي شهر أيار تكاثفت الغيوم واشتد الحر جدا، فلما كان آخر يوم منه - وهو الخامس والعشرين من جمادى الآخرة منها - هاجت ريح شديدة جدا، وأظلمت الأرض واسودت إلى بعد العصر، ثم خفت ثم عادت إلى بعد عشاء الآخرة.

وفيها: استبطأ الأجناد أرزاقهم فقصدوا دار الوزير أبي علي بن مقلة فنقبوها وأخذوا ما فيها.

ووقع حريق عظيم في طريق الموازين، فاحترق الناس شيء كثير، فعوض عليهم الراضي بعض ما كان ذهب لهم.

وفي رمضان اجتمع جماعة من الأمراء على بيعة جعفر بن المكتفي، فظهر الوزير على أمرهم فحبس جعفرا ونهبت داره، وحبس جماعة ممن كان بايعه، وانطفأت ناره.

وخرج الحجاج في غفارة الأمير لؤلؤ، فاعترضهم أبو طاهر القرمطي فقتل أكثرهم، ورجع من انهزم منهم إلى بغداد، وبطل الحج في هذه السنة من طريق العراق.

قال ابن الجوزي: وفيها تساقطت كواكب كثيرة ببغداد والكوفة على صورة لم ير مثلها، ولا ما يقاربها، وغلا السعر في هذه السنة حتى بيع الكر من الحنظة بمائة وعشرين دينارا.

وفيها: على الصحيح كان مقتل مرداويج بن زياد الديلمي، وكان قبحه الله سيء السيرة والسريرة، يزعم أن روح سليمان بن داود حلت فيه، وله سرير من ذهب يجلس عليه والأتراك بين يديه، ويزعم أنهم الجن الذين سخروا لسليمان بن داود.

وكان يسيء المعاملة لجنده، ويحتقرهم غاية الاحتقار، فما زال ذلك دأبه حتى أمكنهم الله منه فقتلوه شر قتلة في حمام، وكان الذي مالأ على قتله غلامه بجكم التركي.

وكان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده فأطلق لما قتل، فذهب إلى أخيه عماد الدولة، وذهبت طائفة من الأتراك معه إلى أخيه، والتفت طائفة منهم على بجكم فسار بهم إلى بغداد بإذن الخليفة له في ذلك، ثم صرفوا إلى البصرة فكانوا بها.

وأما الديلم فإنهم بعثوا إلى أخي مرداويج وهو وشمكير، فلما قدم عليهم تلقوه إلى أثناء الطريق حفاة مشاة فملكوه عليهم لئلا يذهب ملكهم، فانتدب إلى محاربته الملك السعيد نصر بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر، وما والاها من تلك البلاد والأقاليم، فانتزع منه بلدانا هائلة.

وفيها: بعث القائم بأمر الله الفاطمي جيشا من إفريقية في البحر إلى ناحية الفرنج فافتتحوا مدينة جنوه، وغنموا غنائم كثيرة وثروة.

ورجعوا سالمين غانمين.

وفيها: بعث عماد الدولة إلى أصبهان فاستولى عليها وعلى بلاد الجبل، واتسعت مملكته جدا.

وفيها: كان غلاء شديد بخراسان، ووقع بها فناء كثير، بحيث كان يهمهم أمر دفن الموتى.

وفيها: قتل ناصر الدولة أبو الحسن بن حمدان نائب الموصل عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان لأنه أراد أن ينتزعها منه، فبعث إليه الخليفة وزيره أبا علي بن مقلة في جيوش، فهرب منه ناصر الدولة، فلما طال مقام ابن مقلة بالموصل ولم يقدر على ناصر الدولة رجع إلى بغداد، فاستقرت يد ناصر الدولة على الموصل.

وبعث به إلى الخليفة أن يضمنه تلك الناحية، فأجيب إلى ذلك، واستمر الحال على ما كان.

وخرج الحجيج فلقيهم القرمطي فقاتلهم وظفر بهم، فسألوه الأمان فأمنهم على أن يرجعوا بغداد، فرجعوا وتعطل الحج عامهم ذلك أيضا.

وفيها توفي من الأعيان:

نفطويه النحوي

واسمه إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي أبو عبد الله العتكي المعروف بنفطويه النحوي.

له مصنفات فيه، وقد سمع الحديث وروى عن المشايخ، وحدث عنه الثقات، وكان صدوقا، وله أشعار حسنة.

وروى الخطيب عن نفطويه: أنه مر على بقال فقال له: أيها الشيخ كيف الطريق إلى درب الرآسين - يعني درب الرواسين - فالتفت البقال إلى جاره فقال له: قبح الله غلامي أبطأ علي بالسلق، ولو كان عندي لصفعت هذا بحزمة منه.

فانصرف عنه نفطويه ولم يرد عليه.

توفي نفطويه في شهر صفر من هذه السنة عن ثلاث وثمانين سنة، وصلى عليه البربهاري رئيس الحنابلة، ودفن بمقابر دار الكوفة.

ومما أنشده أبو علي القالي في الأمالي له:

قلبي أرق عليه من خديكا ** وفؤادي أوهى من قوى جفنيكا

لم لا ترق لمن يعذب نفسه ** ظلما ويعطفه هواه عليكا

قال ابن خلكان: وفي نفطويه يقول أبو محمد عبد الله بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي المتكلم المشهور، صاحب (الإمامة)، و(إعجاز القرآن) وغير ذلك من الكتب: من سره أن لا يرى فاسقا فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه، وصير الباقي صراخا عليه.

قال الثعالبي: إنما سمى نفطويه لدمامته.

وقال ابن خالويه: لا يعرف من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سواه.

عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله الهاشمي العباسي

حدث عن بشار بن نصر الحلبي وغيره، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة فاضلا فقيها شافعيا.

عبد الملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الاستراباذي المحدث الفقيه الشافعي أيضا، توفي عن ثلاث وثمانين سنة.

علي بن الفضل بن طاهر بن نصر بن محمد أبو الحسن البلخي، كان من الجوالين في طلب الحديث، وكان ثقة حافظا، سمع أبا هاشم الرازي وغيره.

وعنه الدارقطني وغيره.

محمد بن أحمد بن أسد أبو بكر الحافظ، ويعرف: بابن البستبنان، سمع الزبير بن بكار وغيره، وعنه الدارقطني وغيره، جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة

فيها: جاءت الجند فأحدقوا بدار الخلافة، وقالوا: ليخرج إلينا الخليفة الراضي بنفسه فيصلي بالناس.

فخرج فصلى بهم، وخطبهم.

وقبض الغلمان على الوزير ابن مقلة، وسألوا الخليفة أن يستوزر غيره، فرد الخيرة إليهم فاختاروا علي بن عيسى فلم يقبل، وأشار بأخيه عبد الرحمن بن عيسى فاستوزره، وأحرقت دار ابن مقلة، وسلم هو إلى عبد الرحمن بن عيسى فضرب ضربا عنيفا، وأخذ خطه بألف ألف دينار.

ثم عجز عبد الرحمن بن عيسى فعزل بعد خمسين يوما، وقلد الوزارة أبو جعفر بن القاسم الكرخي، فصادر علي بن عيسى بمائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بن عيسى بسبعين ألف دينار، ثم عزل بعد ثلاثة أشهر ونصف، وقلد سليمان بن الحسن، ثم عزل بأبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، وذلك في السنة الآتية.

وأحرقت داره كما أحرقت دار ابن مقلة في يوم أحرقت تلك فيه، سنة بينهما واحدة.

وهذا كله من تخبيط الأتراك والغلمان.

ولما أحرقت دار ابن مقلة في هذه السنة، كتب بعض الناس على بعض جدرانها:

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ** ولم تخف يوما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها ** وعند صفو الليالي يحدث الكدر

وفيها: ضعف أمر الخلافة جدا، وبعث الراضي إلى محمد بن رائق - وكان بواسط - يدعوه إليه ليوليه إمرة الأمراء ببغداد، وأمر الخراج والمغل في جميع البلاد والدواوين، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه بالخلع.

فقدم ابن رائق إلى بغداد على ذلك كله، ومعه الأمير بجكم التركي غلام مرداويج، وهو الذي ساعد على قتل مرداويج.

واستحوذ ابن رائق على أموال العراق بكماله، ونقل أموال بيت المال إلى داره، ولم يبق للوزير تصرف في شيء بالكلية، ووهى أمر الخلافة جدا، واستقل نواب الأطراف بالتصرف فيها، ولم يبق للخليفة حكم في غير بغداد ومعاملاتها.

ومع هذا ليس له مع ابن رائق نفوذ في شيء، ولا تفرد بشيء، ولا كلمة تطاع، وإنما يحمل إليه ابن رائق ما يحتاج إليه من الأموال والنفقات وغيرها.

وهكذا صار أمر من جاء بعده من أمراء الأكابر، كانوا لا يرفعون رأسا بالخليفة، وأما بقية الأطراف فالبصرة مع ابن رائق هذا، يولي فيها من شاء.

وخوزستان إلى أبي عبد الله البريدي، وقد غلب ابن ياقوت على ما كان بيده في هذه السنة من مملكة تستر وغيرها، واستحوذ على حواصلها وأموالها.

وأمر فارس إلى عماد الدولة بن بويه ينازعه في ذلك، وشمكير أخو مرداويج وكرمان بيد أبي علي محمد بن إلياس بن اليسع.

وبلاد الموصل والجزيرة وديار بكر ومضر وربيعة مع بني حمدان.

ومصر والشام في يد محمد بن طغج.

وبلاد إفريقية والمغرب في يد القائم بأمر الله ابن المهدي الفاطمي، وقد تلقب: بأمير المؤمنين.

والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد، الملقب: بالناصر الأموي.

وخراسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني.

وطبرستان وجرجان في يد الديلم.

والبحرين واليمامة وهجر في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي.

وفيها: وقع ببغداد غلاء عظيم، وفناء كثير، بحيث عدم الخبز منها خمسة أيام، ومات من أهلها خلقٌ كثير، وأكثر ذلك كان في الضعفاء، وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقوم بهم، ويحمل على الجنازة الواحدة الرجلان من الموتى، وربما يوضع بينهم صبي، وربما حفرت الحفرة الواحدة فتوسع حتى يوضع فيها جماعة.

ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان.

وفيها: وقع حريق بعمان أحرق فيه من السودان ألف، ومن البيضان خلقٌ كثير، وكان جملة ما أحرق فيه أربعمائة حمل كافور.

وعزل الخليفة أحمد بن كيغلغ عن نيابة الشام، وأضاف ذلك إلى ابن طغج نائب الديار المصرية.

وفيها: ولد عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة بن بويه بأصبهان.

وفيها توفي من الأعيان:

ابن مجاهد المقري

أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقري، أحد أئمة هذا الشأن.

حدث عن خلقٍ كثير، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة مأمونا، سكن الجانب الشرقي من بغداد، وكان ثعلب يقول: ما بقي في عصرنا أحد أعلم بكتاب الله منه.

توفي يوم الأربعاء، وأخرج يوم الخميس لعشر بقين من شعبان من هذه السنة.

وقد رآه بعضهم في المنام وهو يقرأ فقال له: أما مت؟

فقال: بلى، ولكن كنت أدعو الله عقب كل ختمة أن أكون ممن يقرأ في قبره، فأنا ممن يقرأ في قبره.

رحمه الله.

جحظة الشاعر البرمكي

أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي أبو الحسن النديم المعروف: بجحظة الشاعر الماهر الأديب الأخباري، ذو الفنون في العلوم والنوادر الحاضرة، وكان جيد الغناء.

ومن شعره:

قد نادت الدنيا على نفسها ** لو كان في العالم من يسمع

كم آمل خيّبت آماله ** وجامع بدّدت ما يجمع

وكتب له بعض الملوك رقعة على صيرفي بمال أطلقه له فلم يحصل له، فكتب إلى الملك يذكر له ذلك:

إذا كانت صلاتكم رقاعا ** تخطط بالأنامل والأكف

فلا تجد الرقاع عليّ نفعا ** فذا خطي فخذه بألف ألف

ومن شعره يهجو صديقا له ويذمه على شدة شحه وبخله وحرصه فقال:

لنا صاحب من أبرع الناس في البخل ** يسمى بفضل، وهو ليس بذي فضل

دعاني كما يدعو الصديق صديقه ** فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي

فلما جلسنا للغداء رأيته ** يرى أنما من بعض أعضائه أكلي

فيغتاظ أحيانا ويشتم عبده ** فأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي

أمدّ يدي سرا لآكل لقمة ** فيلحظني شزرا فأعبث بالبقل

إلى أن جنت كفي علي جناية ** وذلك أن الجوع أعدمني عقلي

فأهوت يميني نحو رجل دجاجة ** فجرت رجلها كما جرت يدي رجلي

ومن قوي شعره قوله:

رحلتم فكم من أنة بعد حنة ** مبينة للناس حزني عليكم

وقد كنت أعتقت الجفون من البكا ** فقد ردها في الرق شوقي إليكم

وقد أورد له ابن خلكان من شعره الرائق قوله:

فقلت لها: بخلت علي يقظي ** فجودي في المنام لمستهام فقالت لي: وصرت تنام أيضا ** وتطمع أن أزورك في المنام؟ قال: وإنما لقبه بجحظة عبد الله بن المعتز، وذلك لسؤ منظره بمآقيه.

قال بعض من هجاه:

ببيت جحظة تسعَينَّ جحوظة ** من فيل شطرنج ومن سرطان

وارحمتا لمنادميه تحملوا ** ألم العيون للذة الآذان

توفي سنة ست وعشرين، وقيل: أربع وعشرين وثلاثمائة بواسط.

ابن المغلس الفقيه الظاهري

المشهور، له المصنفات المفيدة في مذهبه، أخذ الفقه عن أبي بكر بن داود، وروى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، وعلي بن داود القنطري، وأبي قلابة الرياشي، وآخرين.

وكان ثقة، فقيها، فاضلا، وهو الذي نشر علم داود في تلك البلاد، توفي بالسكتة.

أبو بكر بن زياد

النيسابوري عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون، أبو بكر الفقيه الشافعي النيسابوري مولى أبان بن عثمان، رحل إلى العراق والشام ومصر، وسكن بغداد.

حدث عن محمد بن يحيى الذهلي، وعباس الدوري، وخلق.

وعنه الدارقطني وغير واحد من الحفاظ.

قال الدارقطني: لم ير في مشايخنا أحفظ منه للأسانيد والمتون، وكان أفقه المشايخ، جالس المزني والربيع

وقال عبد الله بن بطة: كنا نحضر مجلس ابن زياد، وكان يحرز من يحضر من أصحاب المحابر ثلاثين ألفا.

وقال الخطيب: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأ يوسف بن عمر بن مسرور، سمعت أبا بكر بن زياد النيسابوري يقول: أعرف من قام الليل أربعين سنة لم ينم إلا جاثيا، ويتقوت كل يوم خمس حبات، ويصلي صلاة الغد بطهارة العشاء، ثم يقول: أنا هو، كنت أفعل هذا كله قبل أن أعرف أم عبد الرحمن - يعني أم ولده - إيش أقول لمن زوجني.

ثم قال في إثر هذا: ما أراد إلا الخير.

توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة.

عفان بن سليمان

ابن أيوب أبو الحسن التاجر، أقام بمصر، وأوقف بها أوقافا دارة على أهل الحديث، وعلى سلالة العشرة رضي الله عنهم.

وكان تاجرا موسعا عليه في الدنيا، مقبول الشهادة عند الحكام، توفي في شعبان منها.

أبو الحسن الأشعري

قدم بغداد، وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي، وتفقه بابن سريج.

وقد ذكرنا ترجته في طبقات الشافعية.

وذكر ابن خلكان: أنه كان يجلس في حلقة الشيخ أبي إسحاق المروزي، وقد كان الأشعري معتزليا فتاب منه بالبصرة فوق المنبر، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم، وله من الكتب: (الموجز) وغيره.

وحُكي عن ابن حزم أنه قال: للأشعري خمسة وخمسون تصنيفا.

وذكر أن مغله كان في كل سنة سبعة عشر ألف درهم، وأنه كان من أكثر الناس دعابة، وأنه ولد سنة سبعين ومائتين.

وقيل: سنة ستين ومائتين، ومات في هذه السنة.

وقيل: في سنة ثلاثين، وقيل: في سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة، فالله أعلم.

محمد بن الفضل بن عبد الله أبو ذر التميمي، كان رئيس جرجان، سمع الكثير، وتفقه بمذهب الشافعي، وكانت داره مجمع العلماء، وله إفضال كثير على طلبة العلم من أهل زمانه.

هارون بن المقتدر أخو الخليفة الراضي، توفي في ربيع الأول منها، فحزن عليه أخوه الراضي، وأمر بنفي بختيشوع ابن يحيى المتطبب إلى الأنبار، لأنه اتهم في علاجه، ثم شفعت فيه أم الراضي فرده.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة

في المحرم منها خرج الخليفة الراضي وأمير الأمراء محمد بن رائق من بغداد، قاصدين واسط لقتال أبي عبد الله البريدي نائب الأهواز، الذي قد تجبر بها ومنع الخراج، فلما سار ابن رائق إلى واسط خرج الحجون فقاتلوه، فسلط عليهم بجكم فطحنهم، ورجع فَلّهم إلى بغداد، فتلقاهم لؤلؤ أمير الشرطة فاحتاظ على أكثرهم ونهبت دورهم، ولم يبق لهم رأس يرتفع، وقطعت أرزاقهم من بيت المال بالكلية.

وبعث الخليفة وابن رائق إلى أبي عبد الله البريدي يتهددانه، فأجاب إلى حمل كل سنة ثلاثمائة ألف وستين ألف دينار يقوم بها، تحمل كل سنة على حدته، وأنه يجهز جيشا إلى قتال عضد الدولة بن بويه.

فلما رجع الخليفة إلى بغداد لم يحمل شيئا، ولم يبعث أحدا.

ثم بعث ابن رائق بجكم وبدرا الحسيني لقتال البريدي، فجرت بينهم حروب وخطوب، وأمور يطول ذكرها.

ثم لجأ البريدي إلى عماد الدولة واستجار به، واستحوذ بجكم على بلاد الأهواز، وجعل إليه ابن رائق خراجها، وكان بجكم هذا شجاعا فاتكا.

وفي ربيع الأول خلع الخليفة على بجكم وعقد له الإمارة ببغداد، وولاه نيابة المشرق إلى خراسان.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو حامد بن الشرقي:

أحمد بن محمد بن الحسن

أبو حامد الشرقي، مولده سنة أربعين ومائتين، وكان حافظا كبير القدر، كثير الحفظ، كثير الحج.

رحل إلى الأمصار وجاب الأقطار، وسمع من الكبار.

نظر إليه ابن خزيمة يوما فقال: حياة أبي حامد تحول بين الناس وبين الكذب على رسول الله ﷺ.

عبد الله بن محمد بن سفيان أبو الحسن الخزاز النحوي، حدث عن المبرد وثعلب، وكان ثقة.

له مصنفات في علوم القرآن غزيرة الفوائد.

محمد بن إسحاق بن يحيى أبو الطيب النحوي، قال أبو الوفا: له مصنفات مليحة في الأخبار، وقد حدث عن الحارث بن أبي المبرد وأسامة وثعلب، وغيرهم.

محمد بن هارون أبو بكر العسكري، الفقيه على مذهب أبي ثور، روى عن الحسن بن عرفة، وعباس الدوري وعن الدارقطني والآجري، وغيرهما، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ست وعشرين وثلاثمائة

فيها: ورد كتاب من ملك الروم إلى الراضي مكتوب بالرومية، والتفسير بالعربية، فالرومي بالذهب والعربي بالفضة، وحاصله طلب الهدنة بينه وبينه، ووجه مع الكتاب بهدايا وألطاف كثيرة فاخرة، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وفودي من المسلمين ستة آلاف أسير، ما بين ذكر وأنثى على نهر البدندون.

وفيها: ارتحل الوزير أبو الفتح بن الفرات من بغداد إلى الشام، وترك الوزارة، فوليها أبو علي بن مقلة، وكانت ولايته ضعيفه جدا، ليس له من الأمر شيء مع ابن رائق، وطلب من ابن رائق أن يفرغ له عن أملاكه فجعل يماطله، فكتب إلى بجكم يطمعه في بغداد، وأن يكون عوضا عن ابن رائق.

وكتب ابن مقلة أيضا إلى الخليفة يطلب منه أن يسلم إليه ابن رائق وابن مقاتل، ويضمنهم بألفي دينار، فبلغ ذلك ابن رائق فأخذه فقطع يده، وقال: هذا أفسد في الأرض.

ثم جعل يحُسِّن للراضي أن يستوزره، وأن قطع يده لا يمنعه من الكتابة، وأنه يشد القلم على يده اليمنى المقطوعة فيكتب بها.

ثم بلغ ابن رائق أنه قد كتب إلى بجكم بما تقدم، وأنه يدعو عليه.

فأخذه فقطع لسانه وسجنه في مكان ضيق، وليس عنده من يخدمه، فكان يستقي الماء بنفسه، يتناول الدلو بيده اليسرى ثم يمسكه بفيه ثم يجذب باليسرى ثم يمسك بفيه إلى أن يستقي، ولقي شدة وعناء، ومات في محبسه هذا وحيدا، فدفن فيه.

ثم سأل أهله نقله فدفن في داره، ثم نقل منها إلى غيرها، فاتفق له أشياء غريبة منها:

أنه وزر ثلاث مرات، وعزل ثلاث مرات، وولي لثلاثة من الخلفاء، ودفن ثلاث مرات، وسافر ثلاث سفرات، مرتين منفيا ومرة إلى الموصل كما تقدم.

وفيها: دخل بجكم بغداد، فقلده الراضي إمرة الأمراء مكان ابن رائق، وقد كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض وزير ماكان بن كالي الديلمي، فاستوهبه ماكان من الوزير فوهبه له، ثم فارق ماكان ولحق بمرداويج، وكان في جملة من قتله في الحمام كما تقدم.

فلما ولاه الخليفة إمرة الأمراء أسكن في دار مؤنس الخادم، وعظم أمره جدا وانفصل ابن رائق وكانت أيامه سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوما.

وفيها: بعث عماد الدولة بن بويه أخاه معز الدولة، فأخذ الأهواز لأبي عبد الله البريدي، وانتزعها من يد بجكم وأعادها إليه.

وفيها: استولى لشكري أحد أمراء وشمكير الديلمي على بلاد أذربيجان، وانتزعها من رستم بن إبراهيم الكردي، أحد أصحاب ابن أبي الساج بعد قتال طويل.

وفيها: اضطرب أمر القرامطة جدا وقتل بعضهم بعضا، وانكفوا بسبب ذلك عن التعرض للفساد في الأرض، ولزموا بلدهم هجر لا يرومون منه انتقالا إلى غيره ولله الحمد والمنة.

وفيها: توفي أحمد بن زياد بن عبد الرحمن الأندلسي، كان أبوه من أصحاب مالك، وهذا الرجل هو أول من أدخل فقه مالك إلى الأندلس وقد عرض عليه القضاء بها فلم يقبل.

ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة

في المحرم منها، خرج الراضي أمير المؤمنين إلى الموصل لمحاربة ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان نائبها، وبين يديه بجكم أمير الأمراء، وقاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف، وقد استخلف على بغداد ولده القاضي أبا نصر يوسف بن عمر، في منصب القضاء، عن أمر الخليفة بذلك.

وكان فاضلا عالما، ولما انتهى بجكم إلى الموصل واقع الحسن بن عبد الله بن حمدان فهزم بجكم ابن حمدان، وقرر الخليفة الموصل والجزيزة وولى فيها.

وأما محمد بن رائق فإنه اغتنم غيبة الخليفة عن بغداد واستجاش بألف من القرامطة وجاء بهم فدخل بغداد، فأكثر فيها الفساد، غير أنه لم يتعرض لدار الخلافة، ثم بعث إلى الخليفة يطلب منه المصالحة والعفو عما جنى، فأجابه إلى ذلك، وبعث إليه قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن يوسف، وترحل ابن رائق عن بغداد ودخلها الخليفة في جمادى الأولى، ففرح المسلمون بذلك.

ونزل عند غروب الشمس أول ليلة من شهر آذار في جمادى الأولى مطر عظيم، وبرد كبار، كل واحدة نحو أوقيتين، واستمر فسقط بسببه دور كثيرة من بغداد.

وظهر جراد كثير في هذه السنة، وكان الحج من جهة درب العراق قد تعطل من سنة سبع عشرة وثلاثمائة إلى هذه السنة، فشفع في الناس الشريف أبو علي محمد بن يحيى العلوي عند القرامطة، وكانوا يحبونه لشجاعته وكرمه، في أن يمكنهم من الحج، وأن يكون لهم على كل جمل خمسة دنانير، وعلى المحمل سبعة دنانير، فاتفقوا معه على ذلك، فخرج الناس في هذه السنة إلى الحج على هذا الشرط، وكان في جملة من خرج الشيخ أبو علي بن أبي هريرة أحد أئمة الشافعية، فلما اجتاز بهم طالبوه بالخفارة فثنى رأس راحلته ورجع وقال: ما رجعت شحا ولكن سقط عني الوجوب بطلب هذه الخفارة.

وفيها: وقعت فتنة بالأندلس، وذلك أن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس الملقب بالناصر لدين الله، قتل وزيره أحمد فغضب له أخوه أمية بن إسحاق - وكان نائبا على مدينة شنترين - فارتد ودخل بلاد النصارى واجتمع بملكهم ردمير ودلهم على عورات المسلمين، فسار إليهم في جيش كثيف في الجلالقة فخرج إليهم عبد الرحمن فأوقع بهم بأسا شديدا، وقتل من الجلالقة خلقا كثيرا، ثم كر الفرنج على المسلمين فقتلوا منهم خلقا كثيرا قريبا ممن قتلوا منهم، ثم والى المسلمون الغارات على بلاد الجلالقة فقتلوا منهم أمما لا يحصون كثرة، ثم ندم أمية بن إسحاق على ما صنع، وطلب الأمان من عبد الرحمن فبعث إليه بالأمان، فلما قدم عليه قبله واحترمه.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن القاسم بن جعفر بن دحيم

أبو علي الدمشقي، من أبناء المحدثين، كان أخباريا له في ذلك مصنفات، وقد حدث عن العباس بن الوليد البيروتي وغيره.

توفي بمصر في محرم هذه السنة وقد أناف على الثمانين سنة.

الحسين بن القاسم بن جعفر بن محمد بن خالد بن بشر أبو علي الكوكبي الكاتب، صاحب الأخبار والآداب، روى عن أحمد بن أبي خيثمة وأبي العيناء وابن أبي الدنيا.

روى عنه الدارقطني وغيره

عثمان بن الخطاب

ابن عبد الله أبو عمرو البلوي، المغربي الأشج، ويعرف بأبي الدنيا، قدم هذا الرجل بغداد بعد الثلاثمائة، وزعم أنه ولد أول خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ببلاد المغرب، وأنه وفد هو وأبوه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأصابهم في الطريق عطش فذهب يرتاد لأبيه ماء فرأى عينا فشرب منها واغتسل، ثم جاء لأبيه ليسقيه فوجده قد مات.

وقدم هو على علي بن أبي طالب فأراد أن يقبل ركبته فصدمه الركاب فشج رأسه، فكان يعرف بالأشج.

وقد زعم صدقه في هذا الذي زعمه طائفة من الناس، ورووا عنه نسخة فيها أحاديث من روايته عن علي، وممن صدقه في ذلك الحافظ محمد بن أحمد بن المفيد ورواه عنه، ولكن كان المفيد متهم بالتشيع، فسمح له بذلك لانتسابه إلى علي.

وأما جمهور المحدثين قديما وحديثا فكذبوه في ذلك، وردوا عليه كذبه، ونصوا على أن النسخة التي رواها موضوعة، ومنهم أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، وأشياخنا الذين أدركناهم: جهبذ الوقت شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، والجهبذ أبو الحجاج المزي، والحافظ مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الذهبي، وقد حررت ذلك في كتابي التكميل ولله الحمد والمنة.

قال المفيد: بلغني أن الأشج هذا مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وهو راجع إلى بلده والله أعلم.

محمد بن جعفر بن محمد بن سهل

أبو بكر الخرائطي، صاحب المصنفات، أصله من أهل سر من رأى، وسكن الشام وحدث بها عن الحسن بن عرفة وغيره.

وممن توفي فيها: الحافظ الكبير ابن الحافظ الكبير

أبو محمد عبد الرحمن

ابن أبي حاتم محمد ابن إدريس الرازي، صاحب كتاب (الجرح والتعديل)، وهو من أجل الكتب المصنفة في هذا الشأن، وله التفسير الحافل الذي اشتمل على النقل الكامل، الذي يربو فيه على تفسير ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين، إلى زماننا، وله كتاب(العلل) المصنفة المرتبة على أبواب الفقه وغير ذلك من المصنفات النافعة.

وكان من العبادة والزهادة والورع والحفظ والكرامات الكثيرة المشهورة على جانب كبير رحمه الله.

وقد صلى مرة فلما سلم قال له رجل من بعض من صلى معه: لقد أطلت بنا، ولقد سبحت في سجودي سبعين مرة.

فقال عبد الرحمن: لكني والله ما سبحت إلا ثلاثا.

وقد انهدم سور بلد في بعض بلاد الثغور، فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم للناس: أما تبنوه؟

وقد حثهم على عمارته، فرأى عندهم تأخرا.

فقال: من يبنيه وأضمن له على الله الجنة؟

فقام رجل من التجار فقال: اكتب لي خطك بهذا الضمان وهذه ألف دينار لعمارته.

فكتب له رقعة بذلك، فعمر ذلك السور ثم اتفق موت ذلك الرجل التاجر عما قريب، فلما حضر الناس جنازته طارت من كفنه رقعة، فإذا هي التي كتبها له ابن أبي حاتم وإذا في ظهرها مكتوب: قد أمضينا لك هذا الضمان ولا تعد إلى ذلك. والله سبحان أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي في (منتظمه): في غرة المحرم منها ظهرت في الجو حمرة شديدة في ناحية الشمال والمغرب، وفيها أعمدة بيض عظيمة كثيرة العدد.

وفيها: وصل الخبر بأن ركن الدولة أبا علي الحسن بن بويه وصل إلى واسط، فركب الخليفة وبجكم إلى حربه فخاف فانصرف راجعا إلى الأهواز، ورجعا إلى بغداد.

وفيها: ملك ركن الدولة بن بويه مدينة أصبهان، أخذها من وشمكير أخي مرداويج، لقلة جيشه في هذا الحين.

وفي شعبان منها زادت دجلة زيادة عظيمة وانتشرت في الجانب الغربي، وسقطت دور كثيرة، وانبثق بثق من نواحي الأنبار فغرق قرى كثيرة، وهلك بسببه حيوان وسباع كثيرة في البرية.

وفيها: تزوج بجكم بسارة بنت عبد الله البريدي.

ومحمد بن أحمد بن يعقوب الوزير يومئذ ببغداد، ثم صرف عن الوزارة بسليمان بن الحسن، وضمن البريدي بلاد واسط وأعمالها بستمائة ألف دينار.

وفيها: توفي قاضي القضاة أبو الحسن عمر بن محمد بن يوسف، وتولى مكانه ولده أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، وخلع عليه الخليفة الراضي يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها.

ولما خرج أبو عبد الله البريدي إلى واسط كتب إلى بجكم يحثه على الخروج إلى الجبل ليفتحها، ويساعده هو على أخذ الأهواز من يد عماد الدولة بن بويه، وإنما كان مقصوده أن يبعده عن بغداد ليأخذها منه.

فلما انفصل بجكم بالجنود بلغه ما يريده البريدي من المكيدة به، فرجع سريعا إلى بغداد، وركب في جيش كثيف إليه، وأخذ الطرق عليه من كل جانب، لئلا يشعر به إلا وهو عليه.

فاتفق أن بجكما كان راكبا في زورق وعنده كاتب له إذ سقطت حمامة في ذنبها كتاب، فأخذه بجكم فقرأه فإذا فيه كتاب من هذا الكاتب إلى أصحاب البريدي يعلمهم بخبر بجكم.

فقال له بجكم: ويحك هذا خطك؟

قال: نعم !

ولم يقدر أن ينكر، فأمر بقتله فقتل وألقي في دجلة.

ولما شعر البريدي بقدوم بجكم هرب إلى البصرة ولم يقم بها أيضا بل هرب منها إلى غيرها.

واستولى بجكم على بلاد واسط، وتسلط الديلم على جيشه الذين خلفهم بالجبل، ففروا سراعا إلى بغداد.

وفيها: استولى محمد بن رائق على بلاد الشام فدخل حمص أولا فأخذها، ثم جاء إلى دمشق وعليها بدر بن عبد الله الأخشيد المعروف ببدر.

الأخشيد وهو محمد بن طغج، فأخرجه ابن رائق من دمشق قهرا واستولى عليها.

ثم ركب ابن رائق في جيش إلى الرملة فأخذها، ثم إلى عريش مصر فأراد دخولها فلقيه محمد بن طغج الأخشيد فاقتتلا هناك فهزمه ابن رائق، واشتغل أصحابه بالنهب ونزلوا بخيام المصريين، فكر عليهم المصريون فقتلوهم قتلا عظيما، وهرب ابن رائق في سبعين رجلا من أصحابه، فدخل دمشق في أسوأ حال وشرها، وأرسل له ابن طغج أخاه أبا نصر بن طغج في جيش فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة، فهزم ابن رائق المصريين وقتل أخو الأخشيد فيمن قتل، فغسله ابن رائق وكفنه وبعث به إلى أخيه بمصر، وأرسل معه ولده وكتب إليه يحلف أنه ما أراد قتله، ولقد شق عليه، وهذا ولدي فاقتد منه.

فأكرم الأخشيد ولد محمد بن رائق، واصطلحا على أن تكون الرملة وما بعدها إلى ديار مصر للأخشيد، ويحمل إليه الأخشيد في كل سنة مائة آلف دينار وأربعين ألف دينار، وما بعد الرملة إلى جهة دمشق تكون لابن رائق.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو محمد جعفر المرتعش

أحد مشايخ الصوفية، كذا ذكره الخطيب.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: اسمه عبد الله بن محمد أبو محمد النيسابوري، كان من ذوي الأموال فتخلى منها وصحب الجنيد وأبا حفص وأبا عثمان، وأقام ببغداد حتى صار شيخ الصوفية، فكان يقال: عجائب بغداد: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات جعفر الخواص.

سمعت أبا جعفر الصائغ يقول: قال المرتعش: من ظن أن أفعاله تنجيه من النار أو تبلغه الرضوان فقد جعل لنفسه وفعله خطرا، ومن اعتمد على فضل الله بلغه الله أقصى منازل الرضوان.

وقيل للمرتعش: إن فلانا يمشي على الماء.

فقال: إن مخالفة الهوى أعظم من المشي على الماء، والطيران في الهواء.

ولما حضرته الوفاة بمسجد الشونيزية حسبوا ما عليه من الدين فإذا عليه سبعة عشر درهما، فقال: بيعوا خريقاتي هذه واقضوا بها ديني، وأرجو من الله تعالى أن يرزقني كفنا.

وقد سألت الله ثلاثا أن يميتني فقيرا، وأن يجعل وفاتي في هذا المسجد فإني صحبت فيه أقواما، وأن يجعل عندي من آنس به وأحبه.

ثم أغمض عينيه ومات.

أبو سعيد الأصطخري الحسن بن أحمد

ابن يزيد بن عيسى بن الفضل بن يسار، أبو سعيد الأصطخري أحد أئمة الشافعية، كان زاهدا ناسكا عابدا، ولي القضاء بقم، ثم حسبة بغداد، فكان يدور بها ويصلي على بغلته، وهو دائر بين الأزقة، وكان متقللا جدا.

وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية، وله كتاب (القضاء)لم يصنف مثله في بابه، توفي وقد قارب التسعين رحمه الله.

علي بن محمد أبو الحسن المزين الصغير

أحد مشايخ الصوفية، أصله من بغداد، وصحب الجنيد وسهلا التستري، وجاور بمكة حتى توفي في هذه السنة، وكان يحكي عن نفسه قال: وردت بئرا في أرض تبوك فلما دنوت منها زلقت فسقطت في البئر، وليس أحد يراني.

فلما كنت في أسفله إذا فيه مصطبة فتعلقت بها وقلت: إن مت لم أفسد على الناس الماء، وسكنت نفسي وطابت للموت، فبينا أنا كذلك إذا أفعى قد تدلت عليّ فلفت علي ذنبها ثم رفعتني حتى أخرجتني إلى وجه الأرض، وانسابت فلم أدر أين ذهبت، ولا من أين جاءت.

وفي مشايخ الصوفية آخر يقال له: أبو جعفر المزين الكبير، جاور بمكة ومات بها أيضا، وكان من العباد.

روى الخطيب عن علي بن أبي علي إبراهيم بن محمد الطبري عن جعفر الخلدي قال: ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير فقلت له: زودني.

فقال لي: إذا فقدت شيئا فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء.

قال: وجئت إلى الكتاني فودعته وسألته أن يزودني، فأعطاني خاتما على فصه نقش فقال: إذا اغتممت فانظر إلى فص هذا الخاتم يزول غمك.

قال: فكنت لا أدعو بذلك الدعاء إلا استجيب لي، ولا أنظر في ذلك الفص إلا زال غمي، فبينا أنا ذات يوم في سمرية إذ هبت ريح شديدة، فأخرجت الخاتم لأنظر إليه فلم أدر كيف ذهب، فجعلت أدعو بذلك الدعاء يومي أجمع أن يجمع علي الخاتم، فلما رجعت إلى المنزل فتشت المتاع الذي في المنزل فإذا الخاتم في بعض ثيابي التي كانت بالمنزل.

صاحب كتاب العقد الفريد أحمد بن عبد ربه

ابن حبيب بن جرير بن سالم أبو عمر القرطبي، مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي.

كان من الفضلاء المكثرين، والعلماء بأخبار الأولين والمتأخرين، وكتابه (العقد) يدل على فضائل جمة، وعلوم كثيرة مهمة، ويدل كثير من كلامه على تشيع فيه، وميل إلى الحط على بني أمية.

وهذا عجيب منه، لأنه أحد مواليهم وكان الأولى به أن يكون ممن يواليهم لا ممن يعاديهم.

قال ابن خلكان: وله ديوان شعر حسن، ثم أورد منه أشعارا في التغزل في المردان والنسوان أيضا.

ولد في رمضان سنة ست وأربعين ومائتين، وتوفي بقرطبة يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة.

عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب

ابن حماد بن زيد بن درهم، أبو الحسين الأزدي الفقيه المالكي القاضي، ناب عن أبيه وعمره عشرون سنة، وكان حافظا للقرآن والحديث والفقه على مذهب مالك، والفرائض والحساب واللغة، والنحو والشعر.

وصنف مسندا فرزق قوة الفهم وجودة القريحة، وشرف الأخلاق، وله الشعر الرائق الحسن، وكان مشكور السيرة في القضاء، عدلا ثقة إماما.

قال الخطيب: أخبرنا أبو الطيب الطبري سمعت المعافى بن زكريا الجريري يقول:

كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسين فجئنا يوما ننتظره على العادة فجلسنا عند بابه، وإذا أعرابي جالس كأن له حاجة إذ وقع غراب على نخلة في الدار، فصرخ ثم طار.

فقال الأعرابي: إن هذا الغراب يخبر أن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام.

قال: فزبرناه فقام وانصرف، ثم خرج الإذن من القاضي أن هلموا، فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتما، فقلنا له: ما الخبر؟

فقال: إني رأيت البارحة في المنام شخصا يقول:

منازل آل حماد بن زيد ** على أهليك والنعم السلام

وقد ضاق لذلك صدري.

قال: فدعونا له وانصرفنا.

فلما كان اليوم السابع من ذلك اليوم دفن ليوم الخميس لسبع عشرة مضت من شعبان من هذه السنة، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وصلى عليه ابنه أبو نصر وولي بعده القضاء.

قال الصولي: بلغ القاضي أبو الحسين من العلم مبلغا عظيما مع حداثة سنه، وحين توفي كان الخليفة الراضي يبكي عليه ويحرضنا ويقول: كنت أضيق بالشيء ذرعا فيوسعه علي، ثم يقول: والله لا بقيت بعده.

فتوفي الراضي بعده في نصف ربيع الأول من هذه السنة الآتية رحمهما الله، وكان الراضي أيضا حدث السن.

ابن شنبوذ المقري

محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت أبو الحسن المقري المعروف بابن شنبوذ.

روى عن أبي مسلم الكجي، وبشر بن موسى وخلق، واختار حروفا في القراءات أنكرت عليه، وصنف أبو بكر الأنباري كتابا في الرد عليه، وقد ذكرنا فيما تقدم كيف أنه عقد له مجلس في دار الوزير ابن مقلة، وأنه ضرب حتى رجع عن كثير منها، وكانت قراءات شاذة أنكرها عليه قراء أهل عصره.

توفي في صفر منها، وقد دعا على الوزير ابن مقلة حين أمر بضربه فلم يفلح ابن مقلة بعدها، بل عوقب بأنواع من العقوبات، وقطعت يده ولسانه وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ.

وهذه ترجمة ابن مقلة الوزير

أحد الكتاب المشاهير وهو محمد بن علي بن الحسن بن عبد الله أبو علي المعروف بابن مقلة الوزير، وقد كان في أول عمره ضعيف الحال، قليل المال، ثم آل به الحال إلى أن ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء: المقتدر، والقاهر، والراضي.

وعزل ثلاث مرات وقطعت يده ولسانه في آخر عمره، وحبس فكان يستقي الماء بيده اليسرى وأسنانه، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها، كما كان يكتب بها وهي صحيحة.

وقد كان خطه من أقوى الخطوط، كما هو مشهور عنه، وقد بنى له دارا في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقا من المنجمين، فاتفقوا على وضع أساسها في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشائين كما أشار به المنجمون.

فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرا حتى خربت وصارت كوما، كما ذكرنا ذلك، وذكرنا ما كتبوا على جدرانها.

وقد كان له بستان كبير جدا، عدة أجربة - أي: فدادين - وكان على جميعه شبكة من إبريسم، وفيه أنواع الطيور من القمارى والهزار والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شيء كثير، وفي أرضه من الغزلان وبقر الوحش والنعام وغير ذلك شيء كثير أيضا.

ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء والزوال.

وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء والغرور.

وقد أنشد فيه بعض الشعراء حين بنى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا:

قل لابن مقلة: لا تكن عجلا ** واصبر، فإنك في أضغاث أحلام

تبني بأحجر دور الناس مجتهدا ** دارا ستهدم قنصا بعد أيام

ما زلت تختار سعد المشتري لها ** فكم نحوس به من نحس بهرام

إن القرآن وبطليموس ما اجتمعا ** في حال نقص ولا في حال إبرام

فعزل ابن مقلة عسن وزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده، ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار، ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه، حتى كان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق، فكان يدلي الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه.

وقاسى جهدا جهيدا بعد ما ذاق عيشا رغيدا.

ومن شعره في يده:

ما سئمت الحياة، لكن توثقت للحياة ** بأيمانهم، فبانت يميني

بعت ديني لهم بدنياي حتى ** حرموني دنياهم بعد ديني

ولقد حفظت ما استطعت بجهدي ** حفظ أرواحهم، فما حفظوني

ليس بعد اليمين لذة عيش ** يا حياتي بانت يميني فبيني

وكان يبكي على يده كثيرا ويقول: كتبت بها القرآن مرتين، وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم ينشد:

إذا ما مات بعضك فابك بعضا ** فإن البعض من بعض قريب

وقد مات عفا الله عنه في محبسه هذا ودفن في دار السلطان، ثم سأل ولده أبو الحسين أن يحول إلى عنده فأجيب فنبشوه ودفنه ولده عنده في داره.

ثم سألت زوجته المعروفة بالدينارية أن يدفن في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها.

فهذه ثلاث مرات.

توفي وله من العمر ست وخمسون سنة.

أبو بكر ابن الأنباري

محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة أبو بكر الأنباري، صاحب كتاب (الوقف والابتداء)، وغيره من الكتب النافعة، والمصنفات الكثيرة.

كان من بحور العلم في اللغة العربية والتفسير والحديث، وغير ذلك.

سمع الكديمي وإسماعيل القاضي وثعلبا وغيرهم، وكان ثقة صدوقا أديبا، دينا فاضلا من أهل السنة.

كان من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظا له وكان له من المحافيظ مجلدات كثيرة، أحمال جمال، وكان لا يأكل إلا النقالى ولا يشرب ماء إلا قريب العصر، مراعاة لذهنه وحفظه، ويقال: إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا، وحفظ تعبير الرؤيا في ليلة، وكان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة، وكانت وفاته ليلة عيد النحر من هذه السنة.

أم عيسى بنت إبراهيم الحربي

كانت عالمة فاضلة، تفتي في الفقه.

توفيت في رجب ودفنت إلى جانب أبيها رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلاثمائة

في المنتصف من ربيع الأول كانت وفاة الخليفة الراضي بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي، استخلف بعد عمه القاهر لست خلون من جمادى الأولى سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة.

وأمه أم ولد رومية تسمى ظلوم، كان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وعمره يوم مات إحدى وثلاثين سنة وعشرة أشهر.

وكان أسمر رقيق السمرة ذري اللون أسود الشعر، سبطه قصير القامة، نحيف الجسم، في وجهه طول، وفي مقدم لحيته تمام وفي شعرها رقة.

هكذا وصفه من شاهده.

قال الخطيب البغدادي: كان للراضي فضائل كثيرة، وختم الخلفاء في أمور عدة: منها أنه كان آخر خليفة له شعر، وآخرهم انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب على المنبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وأصحابه وأموره كلها تجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء.

وقال غيره: كان فصيحا بليغا كريما جوادا ممدحا، ومن جيد كلامه الذي سمعه منه محمد بن يحيى الصولي: لله أقوام هم مفاتيح الخير، وأقوام هم مفاتيح الشر، فمن أراد الله به خيرا قصده أهل الخير، وجعله الوسيلة إلينا فنقضي حاجته وهو الشريك في الثواب والأجر والشكر، ومن أراد الله به شرا عدل به إلى غيرنا، وهو الشريك في الوزر والإثم، والله المستعان على كل حال.

ومن ألطف الاعتذارات ما كتب به الراضي إلى أخيه المتقي وهما في المكتب - وكان المتقي قد اعتدى على الراضي والراضي هو الكبير منهما - فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أنا معترف لك بالعبودية فرضا، وأنت معترف لي بالأخوة فضلا، والعبد يذنب والمولى يعفو.

وقد قال الشاعر:

يا ذا الذي يغضب من غير شي ** اعتب فعتباك حبيب إلي

أنت على أنك لي ظالم ** أعز خلق الله طرا علي

قال: فجاء إليه أخوه المتقي فأكب عليه يقبل يديه وتعانقا واصطلحا.

ومن لطيف شعره قوله فيما ذكره ابن الأثير في (كامله):

يصفر وجهي إذا تأمله ** طرفي ويحمر وجهه خجلا

حتى كأن الذي بوجنته ** من دم جسمي إليه قد نقلا

قال: ومما رثا به أباه المقتدر:

ولو أن حيا كان قبرا لميت ** لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا

ولو أن عمري كان طوع مشيئتي ** وساعدني المقدور قاسمته العمرا

بنفسي ثرى ضاجعت في تربة البلى ** لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا

ومما أنشده له ابن الجوزي في (منتظمه):

لا تكثرن لومي على الإسراف ** ربح المحامد متجر الأشراف

أحوي لما يأتي المكارم سابقا ** وأشيد ما قد أسست أسلافي

إني من القوم الذين أكفهم ** معتادة الإملاق والإتلاف

ومن شعره الذي رواه الخطيب عنه من طريق أبي بكر محمد بن يحيى الصولي النديم قوله:

كل صفو إلى كدر ** كل أمن إلى حذر

ومصير الشباب للمو ** ت فيه أو الكبر

درَّ درُّ المشيب من ** واعظ ينذر البشر

أيها الآمل الذي ** تاه في لجة الغرر

أين من كان قبلنا؟** درس العين والأثر

سيردَ المعاد من ** عمره كله خطر

رب إني ادخرت عن ** دك أرجوك مدخر

رب إني مؤمن بما ** بين الوحي في السور

واعترافي بترك نف ** عي وإيثاري الضرر

رب فاغفر لي الخطيـ ** ـئة يا خير من غفر

وقد كانت وفاته بعلة الاستسقاء في ليلة السادس عشر من ربيع الأول منها.

وكان قد أرسل إلى بجكم وهو بواسط أن يعهد إلى ولده الأصغر أبي الفضل، فلم يتفق له ذلك، وبايع الناس أخاه المتقي لله إبراهيم بن المقتدر، وكان أمر الله قدرا مقدورا.

خلافة المتقي بالله

لما مات أخوه الراضي اجتمع القضاة والأعيان بدار بجكم واشتوروا فيمن يولون عليهم، فاتفق رأيهم كلهم على المتقي، فأحضروه في دار الخلافة وأرادوا بيعته فصلى ركعتين صلاة الاستخارة وهو على الأرض، ثم صعد إلى الكرسي بعد الصلاة، ثم صعد إلى السرير وبايعه الناس يوم الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأول منها، فلم يغير على أحد شيئا، ولا غدر بأحد حتى ولا على سريته لم يغيرها ولم يتسر عليها وكان كاسمه المتقي بالله كثير الصيام والصلاة والتعبد.

وقال لا أريد جليسا ولا مسامرا، حسبي المصحف نديما، لا أريد نديما غيره.

فانقطع عنه الجلساء والسمار والشعراء والوزراء والتفوا على الأمير بجكم، وكان يجالسهم ويحادثونه ويتناشدون عنده الأشعار، وكان بجكم لا يفهم كثير شيء مما يقولون لعجمته، وكان في جملتهم سنان بن ثابت الصابي المتطبب، وكان بجكم يشكو إليه قوة النفس الغضبية فيه، وكان سنان يهذب من أخلاقه ويسكن جأشه، ويروض نفسه حتى يسكن عن بعض ما كان يتعاطاه من سفك الدماء.

وكان المتقي بالله حسن الوجه معتدل الخلق قصير الأنف أبيض مشربا حمرة، وفي شعره شقرة، وجعودة، كث اللحية، أشهل العينين، أبي النفس.

لم يشرب خمرا ولا نبيذا قط، فالتقى فيه الاسم والفعل ولله الحمد.

ولما استقر المتقي في الخلاقة أنفذ الرسل والخلع إلى بجكم وهو بواسط، ونفذت المكاتبات إلى الآفاق بولايته.

وفيها: تحارب أبو عبد الله البريدي وبجكم بناحية الأهواز، فقتل بجكم في الحرب واستظهر البريدي عليه وقوي أمره، فاحتاط الخليفة على حواصل بجكم، وكان في جملة ما أخذ من أمواله ألف ألف دينار، ومائة ألف دينار.

وكانت أيام بجكم على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.

ثم إن البريدي حدثته نفسه ببغداد، فأنفق المتقي أموالا جزيلة في الجند ليمنعوه من ذلك، فركب بنفسه، فخرج أثناء الطريق ليمنعه من دخول بغداد، فخالفه البريدي ودخل بغداد في ثاني رمضان، ونزل بالشفيع، فلما تحقق المتقي ذلك بعث إليه يهنئه وأرسل إليه بالأطعمة، وخوطب بالوزير ولم يخاطبه بإمرة الأمراء.

فأرسل البريدي يطلب من المتقي خمسمائة ألف دينار، فامتنع الخليفة من ذلك فبعث إليه يتهدده ويتوعده ويذكره ما حل بالمعز والمستعين والمهتدي والقاهر.

واختلفت الرسل بينهم، ثم كان آخر ذلك أن بعث الخليفة إليه بذلك قهرا، ولم يتفق اجتماع الخليفة والبريدي ببغداد حتى خرج منها البريدي إلى واسط، وذلك أنه ثارت عليه الديالمة والتفوا على كبيرهم كورتكين، وراموا حريق دار البريدي، ونفرت عن البريدي طائفة من جيشه، يقال لهم: البجكمية، لأنه لما قبض المال من الخليفة لم يعطهم منه شيئا.

وكانت من البجكمية طائفة أخرى قد اختلفت معه أيضا وهم الديالمة قد صاروا حزبين.

والتفوا مع الديالمة فانهزم البريدي من بغداد يوم سلخ رمضان، واستولى كورتكين على الأمور ببغداد، ودخل إلى المتقي فقلده إمرة الأمراء، وخلع عليه، واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن ففوض إلى عبد الرحمن تدبير الأمور من غير تسمية بوزارة، ثم قبض كورتكين على رئيس الأتراك بكبك غلام بجكم وغرقه.

ثم تظلمت العامة من الديلم لأنهم كانوا يأخذون منهم درهم، فشكوا ذلك إلى كورتكين فلم يشكهم، فمنعت العامة الخطباء أن يصلوا في الجوامع، واقتتل الديلم والعامة، فقتل من الفريقين خلق كثير وجم غفير.

وكان الخليفة قد كتب إلى أبي بكر محمد بن رائق صاحب الشام يستدعيه إليه ليخلصه من الديلم ومن البريدي، فركب إلى بغداد في العشرين من رمضان ومعه جيش عظيم، وقد صار إليه من الأتراك البجكمية خلق كثير.

وحين وصل إلى الموصل حاد عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان، فتراسلا ثم اصطلحا، وحمل ابن حمدان مائة ألف دينار، فلما اقترب ابن رائق من بغداد خرج كورتكين في جيشه ليقاتله، فدخل ابن رائق بغداد من غربيها ورجع كورتكين بجيشه فدخل من شرقيها، ثم تصافوا ببغداد للقتال وساعدت العامة ابن رائق على كورتكين فانهزم الديلم، وقتل منهم خلق كثير، وهرب كورتكين فاختفى، واستقر أمر ابن رائق وخلع عليه الخليفة وركب هو وإياه في دجلة، فظفر ابن رائق بكورتكين فأودعه السجن الذي في دار الخلافة.

قال ابن الجوزي: وفي يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى حضر الناس لصلاة الجمعة بجامع براثي، وقد كان المقتدر أحرق هذا الجامع لأنه كبسه فوجد فيه جماعة من الشيعة يجتمعون فيه للسب والشتم، فلم يزل خرابا حتى عمره بجكم في أيام الراضي، ثم أمر المتقي بوضع منبر فيه كان عليه اسم الرشيد وصلى فيه الناس الجمعة.

قال: فلم يزل تقام فيه إلى ما بعد سنة خمسين وأربعمائة.

قال: وفي جمادى الآخرة في ليلة سابعه كانت ليلة برد ورعد وبرق، فسقطت القبة الخضراء من قصر المنصور، وقد كانت هذه القبة تاج بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم، وكان بين بنيانها وسقوطها مائة وسبعة وثمانون سنة.

قال: وخرج عن الناس التشرينان والكانونان منها ولم يمطروا فيها بشيء سوى مطرة واحدة لم ينبل منها التراب، فغلت الأسعار ببغداد حتى بيع الكر بمائة وثلاثين دينار.

ووقع الفناء في الناس حتى كان الجماعة يدفنون في القبر الواحد، من غير غسل ولا صلاة، وبيع العقار والأثاث بأرخص الأسعار، حتى كان يشترى بالدرهم ما يساوي الدينار في غير تلك الأيام، ورأت امرأة رسول الله ﷺ في منامها وهو يأمرها بخروج الناس إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء، فأمر الخليفة بامتثال ذلك فصلى الناس واستسقوا فجاءت الأمطار فزادت الفرات شيئا لم ير مثله، وغرقت العباسية، ودخل الماء الشوارع ببغداد، فسقطت القنطرة العتيقة والجديدة، وقطعت الأكراد الطريق على قافلة من خراسان، فأخذوا منهم ما قيمته ثلاثة آلاف دينار، وكان أكثر ذلك من أموال بجكم التركي.

وخرج الناس للحج ثم رجعوا من أثناء الطريق بسبب رجل من العلويين قد خرج بالمدينة النبوية، ودعا إلى نفسه وخرج عن الطاعة.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن إبراهيم

ابن تزمرد الفقيه أحد أصحاب ابن سريج.

خرج من الحمام إلى خارجه فسقط عليه الحمام فمات من فوره.

بجكم التركي

أمير الأمراء ببغداد، قبل بني بويه.

كان عاقلا يفهم العربية ولا يتكلم بها.

يقول أخاف أن أخطئ والخطأ من الرئيس قبيح.

وكان مع ذلك يحب العلم وأهله، وكان كثير الأموال والصدقات، ابتدأ يعمل مارستان ببغداد فلم يتم، فجدده عضد الدولة بن بويه، وكان بجكم يقول: العدل ربح السلطان في الدنيا والآخرة.

وكان يدفن أموالا كثيرة في الصحراء، فلما مات لم يدر أين هي، وكان ندماء الراضي قد التفوا على بجكم وهو بواسط، وكان قد ضمنها بثمانمائة ألف دينار من الخليفة، وكانوا يسامرونه كالخليفة، وكان لا يفهم أكثر ما يقولون، وراض له مزاجه الطيب سنان بن ثابت الصابي حتى لان خلقه وحسنت سيرته، وقلت سطوته، ولكن لم يعمر إلا قليلا بعد ذلك.

ودخل عليه مرة رجل فوعظه فأبكاه فأمر له بمائة ألف درهم، فلحقه بها الرسول فقال بجكم لجلسائه: ما أظنه يقبلها ولا يريدها، وما يصنع هذا بالدنيا؟

هذا رجل مشغول بالعبادة، ماذا يصنع بالدراهم؟

فما كان بأسرع من أن رجع الغلام وليس معه شيء، فقال بجكم: قبلها؟

قال: نعم !

فقال بجكم: كلنا صيادون ولكن الشباك مختلفة.

توفي لسبع بقين من رجب من هذه السنة.

وسبب موته أنه خرج يتصيد فلقي طائفة من الأكراد فاستهان بهم فقاتلوه فضربه رجل منهم فقتله.

وكانت إمرته على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.

وخلف من الأموال والحواصل ما ينيف على ألفي ألف دينار، أخذها المتقي بالله كلها.

أبو محمد البربهاري

العالم الزاهد الفقيه الحنبلي الواعظ، صاحب المروزي وسهلا التستري، وتنزه عن ميراث أبيه - وكان سبعين ألفا - لأمر كرهه.

وكان شديدا على أهل البدع والمعاصي، وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة، وقد عطس يوما وهو يعظ فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة، فغار الخليفة من ذلك وتكلم فيه جماعة من أرباب الدولة، فطلب فاختفى عند أخت بوران شهرا، ثم أخذه القيام - داء - فمات عندها، فأمرت خادمها فصلى عليه فامتلأت الدار رجالا عليهم ثياب بياض.

ودفنته عندها ثم أوصت إذا ماتت أن تدفن عنده.

وكان عمره يوم مات ستا وتسعين سنة رحمه الله.

يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول

أبو بكر الأزرق - لأنه كان أزرق العينين - التنوخي الكاتب، سمع جده والزبير بن بكار، والحسين بن عرفة وغيرهم، وكان خشن العيش كثير الصدقة.

فيقال: إنه تصدق بمائة ألف دينار، وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر.

روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ.

وكان ثقة عدلا.

توفي في ذي الحجة منها عن ثنتين وتسعين سنة رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي: في المحرم منها ظهر كوكب بذنب رأسه إلى المغرب وذنبه إلى المشرق، وكان عظيما جدا، وذنبه منتشر، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحل.

قال: وفي نصف ربيع الأول بلغ الكر من الحنطة مائتي دينار، وأكل الضعفاء الميتة، ودام الغلاء وكثر الموت، وتقطعت السبل، وشغل الناس بالمرض والفقر، وتركوا دفن الموتى، وشغلوا عن الملاهي واللعب.

قال: ثم جاء مطر كأفواه القرب، وبلغت زيادة دجلة عشرين ذراعا وثلثا.

وذكر ابن الأثير في (الكامل): أن محمد بن رائق وقع بينه وبين البريدي وحشة، لأجل أن البريدي منع خراج واسط، فركب إليه ابن رائق ليتسلم ما عنده من المال، فوقعت مصالحة ورجع ابن رائق إلى بغداد، فطالبه الجند بأرزاقهم وضاق عليه حاله وتحيز جماعة من الأتراك عنه إلى البريدي، فضعف جانب ابن رائق وكاتب البريدي بالوزارة ببغداد، ثم قطع اسم الوزارة عنه، فاشتد حنق البريدي عليه، وعزم على أخذ بغداد، فبعث أخاه أبا الحسين في جيش إلى بغداد، فتحصن ابن رائق مع الخليفة بدار الخلافة ونصبت فيها المجانيق والعرادات - العرادة شيء أصغر من المنجنيق - على دجلة أيضا.

فاضطربت أهل بغداد ونهب الناس بعضهم بعضا ليلا ونهارا، وجاء أبو الحسين أخو أبي عبد الله البريدي بمن معه، فقاتلهم الناس في البر وفي دجلة، وتفاقم الحال جدا، مع ما الناس فيه من الغلاء والوباء والفناء.

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم إن الخليفة وابن رائق انهزما في جمادى الآخرة - ومع الخليفة ابنه أبو منصور - في عشرين فارسا، فقصدوا نحو الموصل واستحوذ أبو الحسين على دار الخلافة، وقتل من وجد فيها من الحاشية، ونهبوها حتى وصل النهب إلى الحريم، ولم يتعرضوا للقاهر وهو إذ ذاك أعمى مكفوفا، وأخرجوا كورتكين من الحبس فبعثه أبو الحسين إلى البريدي، فكان آخر العهد به، ونهبوا بغداد جهارا علانية، ونزل أبو الحسين بدار مؤنس الخادم التي كان يسكنها ابن رائق، وكانوا يكبسون الدور ويأخذون ما فيها من الأموال، فكثر الجور وغلت الأسعار جدا، وضرب أبو الحسين المكس على الحنطة والشعير، وذاق أهل بغداد لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.

وكان معه طائفة كبيرة من القرامطة، فأفسدوا في البلد فسادا عظيما، ووقع بينهم وبين الأتراك حروب طويلة شديدة، فغلبهم الترك وأخرجوهم من بغداد، فوقعت الحرب بين العامة والديلم جند أبي الحسين.

وفي شعبان منها: اشتد الحال أيضا، ونهبت المساكن وكبس أهلها ليلا ونهارا، وخرج جند البريدي فنهبوا الغلات من القرى والحيوانات، وجرى ظلم لم يسمع بمثله.

قال ابن الأثير: وإنما ذكرنا هذا ليعلم الظلمة أن أخبارهم الشنيعة تنقل وتبقى بعدهم على وجه الأرض وفي الكتب، ليذكروا بها ويذموا ويعابوا، ذلك لهم خزي في الدنيا وأمرهم إلى الله لعلهم أن يتركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله.

وقد كان الخليفة أرسل وهو ببغداد إلى ناصر الدولة بن حمدان نائب الموصل يستمده ويستحثه على البريدي، فأرسل ناصر الدولة أخاه سيف الدولة عليا في جيش كثيف، فلما كان بتكريت إذا الخليفة وابن رائق قد هربا فرجع معهما سيف الدولة إلى أخيه، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمة كثيرة.

ولما وصلوا إلى الموصل خرج عنها ناصر الدولة فنزل شرقها، وأرسل التحف والضيافات، ولم يجئ إلى الخليفة خوفا من الغائلة من جهة ابن رائق، فأرسل الخليفة ولده أبا منصور ومعه ابن رائق للسلام على ناصر الدولة، فصارا إليه فأمر ناصر الدولة أن ينثر الذهب والفضة على رأس ولد الخليفة، وجلسا عنده ساعة، ثم قاما ورجعا، فركب ابن الخليفة وأراد ابن رائق أن يركب معه، فقال له ناصر الدولة: اجلس اليوم عندي حتى نفكر فيما نصنع في أمرنا هذا، فاعتذر إليه بابن الخليفة واستراب بالأمر وخشي، فقبض ابن حمدان بكمه فجبذه ابن رائق منه فانقطع كمه، وركب سريعا فسقط عن فرسه، فأمر ناصر الدولة بقتله فقتل، وذلك يوم الاثنين لسبع بقين من رجب منها.

فأرسل الخليفة إلى ابن حمدان فاستحضره وخلع عليه ولقبه ناصر الدولة يومئذ، وجعله أمير الأمراء، وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة يومئذ، ولما قتل ابن رائق وبلغ خبر مقتله إلى صاحب مصر الأخشيد محمد بن طغج، ركب إلى دمشق فتسلمها من محمد بن يزداد نائب ابن رائق ولم ينتطح فيها عنزان.

ولما بلغ خبر مقتله إلى بغداد فارق أكثر الأتراك أبا الحسين البريدي لسوء سيرته، وقبح سريرته قبحه الله، وقصدوا الخليفة وابن حمدان فتقوى بهم، وركب هو والخليفة إلى بغداد، فلما اقتربوا منها هرب عنها أبو الحسين أخو البريدي فدخلها المتقي ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة، وذلك في شوال منها، ففرح المسلمون فرحا شديدا.

وبعث الخليفة إلى أهله - وقد كان أخرجهم إلى سامرا -فردهم، وتراجع أعيان الناس إلى بغداد بعد ما كانوا قد ترحلوا عنها، ورد الخليفة أبا إسحاق القراريطي إلى الوزارة وولى توزون شرطة جانبي بغداد، وبعث ناصر الدولة أخاه سيف الدولة في جيش وراء أبي الحسين أخي البريدي فلحقه عند المدائن فاقتتلوا قتالا شديدا في أيام نحسات، ثم كان آخر الأمر أن انهزم أبو الحسين إلى أخيه البريدي بواسط، وقد ركب ناصر الدولة بنفسه فنزل المدائن قوة لأخيه.

وقد انهزم سيف الدولة مرة من أخي البريدي فرده أخوه وزاده جيشا حتى كسر البريدي، وأسر جماعة من أعيان أصحابه، وقتل منهم خلقا كثيرا.

ثم أرسل أخاه سيف الدولة إلى واسط لقتال أبي عبد الله البريدي، فانهزم منه البريدي وأخوه إلى البصرة وتسلم سيف الدولة واسطا، وسيأتي ما كان من خبره في السنة الآتية مع البريدي.

وأما ناصر الدولة فإنه عاد إلى بغداد فدخلها في ثالث عشر ذي الحجة وبين يديه الأسارى على الجمال، ففرح المسلمون واطمأنوا ونظر في المصالح العامة وأصلح معيار الدنيار.

وذلك أنه وجده قد غير عما كان عليه، فضرب دنانير سماها الإبريزيه، فكانت تباع كل دينار بثلاثة عشر درهما، وإنما كان يباع ما قبلها بعشرة.

وعزل الخليفة بدرا الخرشني عن الحجابة وولاها سلامة الطولوني، وجعل بدرا على طريق الفرات، فسار إلى الأخشيد فأكرمه واستنابه على دمشق فمات بها.

وفيها: وصلت الروم إلى قريب حلب فقتلوا خلقا وأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: دخل نائب طرسوس إلى بلاد الروم فقتل وسبى وغنم وسلم وأسر من بطارقتهم المشهورين منهم وغيرهم خلقا كثيرا ولله الحمد.

وفيها توفي من الأعيان:

إسحاق بن محمد بن يعقوب النهرجوري

أحد مشايخ الصوفية، صحب الجنيد بن محمد وغيره من أئمة الصوفية، وجاور بمكة حتى مات بها.

ومن كلامه الحسن: مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب.

الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان

أبو عبد الله الضبي القاضي المحاملي الفقيه الشافعي المحدث، سمع الكثير وأدرك خلقا من أصحاب ابن عيينة نحوا من سبعين رجلا.

وروى عن جماعة من الأئمة، وعنه الدارقطني وخلق، وكان يحضر مجلسه نحو من عشرة آلاف.

وكان صدوقا دينا فقيها محدثا، ولي قضاء الكوفة ستين سنة

، وأضيف إليه قضاء فارس وأعمالها، ثم استعفى من ذلك كله ولزم منزله، واقتصر على إسماع الحديث وسماعه.

توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وتسعين سنة.

وقد تناظر هو و بعض الشيعة بحضرة بعض الأكابر فجعل الشيعي يذكر مواقف علي يوم بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وشجاعته.

ثم قال للمحاملي: أتعرفها؟

قال: نعم، ولكن أتعرف أنت أين كان الصديق يوم بدر؟

كان مع رسول الله ﷺ في العريش بمنزلة الرئيس الذي يحامي عنه، وعلي رضي الله عنه في المبارزة، ولو فرض أنه انهزم أو قتل لم يخزل الجيش بسببه.

فأفحم الشيعي

وقال المحاملي: وقد قدمه الذين رووا لنا الصلاة والزكاة والوضوء بعد رسول الله ﷺ فقدموه عليه حيث لا مال له ولا عبيد ولا عشيرة، وقد كان أبو بكر يمنع عن رسول الله ﷺ ويجاحف عنه، وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم.

فأفحمه أيضا.

علي بن محمد بن سهل

أبو الحسن الصائغ، أحد الزهاد العباد أصحاب الكرامات.

روى عن ممشاد الدينوري: أنه شاهد أبا الحسن هذا يصلي في الصحراء في شدة الحر، ونسر قد نشر عليه جناحيه يظله من الحر.

قال ابن الأثير: وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم المشهور، وكان مولده سنة ستين ومائتين، وهو من ولد أبي موسى الأشعري.

قلت: الصحيح أن الأشعري توفي سنة أربع وعشرين ومائتين كما تقدم ذكره هناك.

قال: وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي الفقيه الشافعي، وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين، أخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي.

قلت: وقد توفي فيها أبو حامد بن بلال.

وزكريا بن أحمد البلخي.

وعبد الغافر بن سلامة الحافظ.

ومحمد بن رائق الأمير ببغداد.

وفيها توفي الشيخ أبو صالح مفلح الحنبلي

واقف مسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي من دمشق، وكانت له كرامات وأحوال ومقامات، واسمه مفلح بن عبد الله أبو صالح المتعبد، الذي ينسب إليه المسجد خارج باب شرقي من دمشق، صحب الشيخ أبا بكر بن سعيد حمدونه الدمشقي، وتأدب به، وروى عنه الموحد بن إسحاق بن البري، وأبو الحسن علي بن العجة قيّم المسجد، وأبو بكر بن داود الدينوري الدقي.

روى الحافظ ابن عساكر من طريق الدقي عن الشيخ أبي صالح.

قال: كنت أطوف بجبل لكام أطلب العباد، فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه فقلت له: ما تصنع ههنا؟

فقال: أنظر وأرعى.

فقلت له: لا أرى بين يديك شيئا تنظر إليه ولا ترعاه إلا هذه العصاة والحجارة.

فقال: بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك علي إلا صرفت بصرك عني.

فقلت له: نعم، ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضي عنك.

فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم.

ثم تركني ومضى.

وقال أبو صالح: مكثت ستة أيام أو سبعة لم آكل ولم أشرب، ولحقني عطش عظيم، فجئت إلى النهر الذي وراء المسجد فجلست أنظر إلى الماء، فتذكرت قوله تعالى: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود: 7] .

فذهب عني العطش فمكثت تمام العشرة أيام.

وقال: مكثت أربعين يوما لم أشرب، ثم شربت، وأخذ رجل فضلتي ثم ذهب إلى امرأته فقال: اشربي فضل رجل قد مكث أربعين يوما لم يشرب الماء.

قال أبو صالح: ولم يكن اطلع على ذلك أحد إلا الله عز وجل.

ومن كلام أبي صالح: الدنيا حرام على القلوب حلال على النفوس، لأن كل شيء يحل لك أن تنظر بعين رأسك إليه يحرم عليك أن تنظر بعين قلبك إليه.

وكان يقول: البدن لباس القلب والقلب لباس الفؤاد، والفؤاد لباس الضمير، والضمير لباس السر، والسر لباس المعرفة به.

ولأبي صالح مناقب كثيرة رحمه الله، توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة

فيها دخل سيف الدولة إلى واسط وقد انهزم عنها البريدي وأخوه أبو الحسين، ثم اختلف الترك على سيف الدولة، فهرب منها قاصدا بغداد، وبلغ أخاه أمير الأمراء خبره فخرج من بغداد إلى الموصل، فنهبت داره.

وكانت دولته على بغداد ثلاثة عشر شهرا وخمسة أيام.

وجاء أخوه سيف الدولة بعد خروجه منها فنزل بباب حرب، فطلب من الخليفة أن يمده بمال يتقوى به على حرب توزون، فبعث إليه بأربعمائة ألف درهم، ففرقها بأصحابه.

وحين سمع بقدوم توزون خرج من بغداد، ودخلها توزون في الخامس والعشرين من رمضان، فخلع عليه الخليفة وجعله أمير الأمراء واستقر أمره ببغداد.

وعند ذلك رجع البريدي إلى واسط وأخرج من كان بها من أصحاب توزون، وكان في أسر توزون غلام سيف الدولة، يقال له: ثمال، فأرسله إلى مولاه ليخبره حاله ويرفع أمره عند آل حمدان.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة ببلاد نسا، سقط منها عمارات كثيرة، وهلك بسببها خلق كثير.

قال ابن الجوزي: وكان ببغداد في أيلول وتشرين حر شديد يأخذ بالأنفاس.

وفي صفر منها ورد الخبر بورود الروم إلى أرزن وميافارقين وأنهم سبوا.

وفي ربيع الآخر منها عقد أبو منصور إسحاق بن الخليفة المتقي عقده على علوية بنت ناصر الدولة بن حمدان، على صداق مائة ألف دينار وألف ألف درهم، وولى العقد على الجارية المذكورة أبو عبد الله محمد بن أبي موسى الهاشمي، ولم يحضر ناصر الدولة، وضرب ناصر الدولة سكة ضرب فيها ناصر الدولة عبد آل محمد.

قال ابن الجوزي: وفيها غلت الأسعار حتى أكل الناس الكلاب ووقع البلاء في الناس، ووافى من الجراد شيء كثير جدا، حتى بيع منه كل خمسين رطلا بالدرهم، فارتفق الناس به في الغلاء.

وفيها: ورد كتاب ملك الروم إلى الخليفة يطلب فيه منديلا بكنيسة الرها، كان المسيح قد مسح بها وجهه فصارت صورة وجهه فيه، وأنه متى وصل هذا المنديل يبعث من الأسارى خلقا كثيرا.

فأحضر الخليفة العلماء فاستشارهم في ذلك، فمن قائل: نحن أحق بعيسى منهم، وفي بعثه إليهم غضاضة على المسلمين ووهن في الدين.

فقال علي بن عيسى الوزير: يا أمير المؤمنين إنقاذ أسارى المسلمين من أيدي الكفار خير وأنفع للناس من بقاء ذلك المنديل بتلك الكنيسة.

فأمر الخليفة بإرسال ذلك المنديل إليهم وتخليص أسرى المسلمين من أيديهم.

قال الصولي: وفيها وصل الخبر بأن القرمطي ولد له مولود فأهدى إليه أبو عبد الله البريدي هدايا كثيرة، منها مهد من ذهب مرصع بالجوهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك.

وفيها: كثر الرفض ببغداد فنودي بها من ذكر أحدا من الصحابة بسوء فقد برئت منه الذمة.

وبعث الخليفة إلى عماد الدولة بن بويه خلعا فقبلها ولبسها بحضرة القضاة والأعيان.

وفيها: كانت وفاة السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر، وقد مرض قبل موته بالسل سنة وشهرا، واتخذ في داره بيتا سماه بيت العبادة، فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشي إليه حافيا ويصلي فيه، ويتضرع ويكثر الصلاة.

وكان يجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات رحمه الله، فقام بالأمر من بعده ولده نوح بن نصر الساماني، ولقب بالأمير الحميد.

وقتل محمد بن أحمد النسفي، وكان قد طعن فيه عنده وصلبه.

وفيها توفي من الأعيان:

ثابت بن سنان بن قرة الصابي

أبو سعيد الطبيب، أسلم على يد القاهر بالله ولم يسلم ولده ولا أحد من أهل بيته، وقد كان مقدما في الطب وفي علوم أخر كثيرة.

توفي في ذي القعدة منها بعلة الذرب ولم تغن عنه صناعته شيئا، حتى جاءه الموت.

وما أحسن ما قال بعض الشعراء في ذلك:

قل للذي صنع الدواء بكفه ** أتردُّ مقدورا عليك قد جرى

مات المداوي والمداوى والذي ** صنع الدواء بكفه ومن اشترى

وذكر ابن الجوزي في (المنتظم) وفاة الأشعري فيها وتكلم فيه، وحط عليه كما جرت عادة الحنابلة يتكلمون في الأشعرية قديما وحديثا.

وذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي في هذه السنة، وأنه صحب الجبائي أربعين سنة ثم رجع عنه، وتوفي ببغداد ودفن بمشرعة السرواني.

محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة

ابن الصلت السدوسي مولاهم أبو بكر، سمع جده وعباسا الدوري وغيرهما، وعنه أبو بكر بن مهدي، وكان ثقة.

روى الخطيب أن والد محمد هذا حين ولد أخذ طالع مولده المنجمون فحسبوا عمره وقالوا: إنه يعيش كذا وكذا.

فأرصد أبوه له جبا فكان يلقي فيه عن كل يوم من عمره الذي أخبروه به دينارا، فلما امتلأ أرصد له جبا آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فكان يضع فيها في كل يوم ثلاثة دنانير على عدد أيام عمر ولده.

ومع هذا ما أفاده ذلك شيئا، بل افتقر هذا الولد حتى صار يستعطي من الناس، وكان يحضر مجلس السماع عليه عباءة بلا إزار، فكان يتصدق عليه أهل المجلس بشيء يقوم بأوده.

والسعيد من أسعده الله عز وجل.

محمد بن مخلد بن جعفر أبو عمر الدوري

أبو عمر الدوري العطار، كان يسكن الدور - وهي محلة بطرف بغداد - سمع الحسن بن عرفة والزبير بن بكار ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعنه الدارقطني وجماعة، وكان ثقة فهما واسع الرواية مشكور الديانة مشهورا بالعبادة.

توفي في جمادى الأولى منها، وقد استكمل سبعا وسبعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوما.

المجنون البغدادي، روى ابن الجوزي من طريق أبي بكر الشبلي قال: رأيت مجنونا عند جامع الرصافة، وهو عريان وهو يقول: أنا مجنون الله، أنا مجنون الله.

فقلت له: ما لك ألا تستتر وتدخل الجامع وتصلي؟

فأنشأ يقول:

يقولون زرنا واقض واجب حقنا ** وقد أسقطت حالي حقوقهم عني

إذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا لها ** ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني

ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمائة

فيها: خرج المتقي أمير المؤمنين من بغداد إلى الموصل مغاضبا لتوزون وهو إذ ذاك بواسط، وقد زوج ابنته من أبي عبد الله البريدي، وصارا يدا واحدة على الخليفة، وأرسل ابن شيرزاد في ثلاثمائة إلى بغداد فأفسد فيها وقطع ووصل، واستقل بالأمر من غير مراجعة المتقي.

فغضب المتقي وخرج منها مغاضبا له بأهله وأولاده ووزيره ومن اتبعه من الأمراء، قاصدا الموصل إلى بني حمدان، فتلقاه سيف الدولة إلى تكريت، ثم جاءه ناصر الدولة وهو بتكريت أيضا، وحين خرج المتقي من بغداد أكثر ابن شيرزاد فيها الفساد، وظلم أهلها وصادرهم، وأرسل يعلم توزون، فأقبل مسرعا نحو تكريت فتواقع هو وسيف الدولة، فهزم توزون سيف الدولة، وأخذ معسكره ومعسكر أخيه ناصر الدولة، ثم كر إليه سيف الدولة فهزمه توزون أيضا.

وانهزم المتقي وناصر الدولة وسيف الدولة من الموصل إلى نصيبين، وجاء توزون فدخل الموصل وأرسل إلى الخليفة يطلب رضاه، فأرسل الخليفة يقول: لا سبيل إلى ذلك إلا أن تصالح بني حمدان.

فاصطلحوا، وضمن ناصر الدولة بلاد الموصل بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف، ورجع توزون إلى بغداد، وأقام الخليفة عند بني حمدان.

وفي غيبة توزون هذه عن واسط أقبل إليها معز الدولة بن بويه في خلق من الديلم كثيرين، فانحدر توزون مسرعا إلى واسط فاقتتل مع معز الدولة بضعة عشر يوما، وكان آخر الأمر أن انهزم معز الدولة ونهبت حواصله، وقتل من جيشه خلق كثير، وأسر جماعة من أشراف أصحابه.

ثم عاود توزون ما كان يعتريه من مرض الصرع، فشغل بنفسه فرجع إلى بغداد.

وفيها: قتل أبو عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف، وكان سبب ذلك: أن البريدي قل ما في يده من الأموال، فكان يستقرض من أخيه أبي يوسف فيقرضه القليل، ثم يشنع عليه ويذم تصرفه بمال الجند، إلى أن مال الجند إلى أبي يوسف وأعرض غالبهم عن البريدي، فخشي أن يبايعوه فأرسل إليه طائفة من غلمانه فقتلوه غيلة، ثم انتقل إلى داره وأخذ جميع حواصله وأمواله، فكان قيمة ما أخذ منه من الأموال ما يقارب ثلاثمائة ألف ألف دينار.

ولم يمتع بعده إلا ثمانية أشهر مرض فيها مرضا شديدا بالحمى الحادة، حتى كانت وفاته في شوال من هذه السنة، فقام مقامه أخوه أبو الحسين قبحه الله، فأساء السيرة في أصحابه، فثاروا عليه فلجأ إلى القرامطة قبحهم الله فاستجار بهم، فقام بالأمر من بعده أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي في بلاد واسط والبصرة وتلك النواحي من الأهواز وغيرها.

وأما الخليفة المتقي لله فإنه لما أقام عند أولاد حمدان بالموصل ظهر له منهم تضجر، وأنهم يرغبون في مفارقته.

فكتب إلى توزون في الصلح، فاجتمع توزون مع القضاة والأعيان وقرؤوا كتاب الخليفة وقابله بالسمع والطاعة، وحلف له ووضع خطه بالإقرار له، ولمن معه بالإكرام والاحترام، فكان من الخليفة ودخوله إلى بغداد ما سيأتي في السنة الآتية.

وفيها: أقبلت طائفة من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان فقصدوا بردعة فحاصروها، فلما ظفروا بأهلها قتلوهم عن آخرهم، وغنموا أموالهم وسبوا من استحسنوا من نسائهم، ثم مالوا إلى المراغة فوجدوا بها ثمارا كثيرة، فأكلوا منها فأصابهم وباء شديد فمات أكثرهم، وكان إذا مات أحدهم دفنوا معه ثيابه وسلاحه، فأخذه المسلمون وأقبل إليهم المرزبان بن محمد فقتل منهم.

وفي ربيع الأول منها جاء الدمستق ملك الروم إلى رأس العين في ثمانين ألفا، فدخلها ونهب ما فيها وقتل وسبى منهم نحوا من خمسة عشر ألفا، وأقام بها ثلاثة أيام، فقصدته الأعراب من كل وجه فقاتلوه قتالا عظيما حتى انجلى عنها.

وفي جمادى الأولى منها غلت الأسعار ببغداد جدا، وكثرت الأمطار حتى تهدم البناء، ومات كثير من الناس تحت الهدم، وتعطلت أكثر الحمامات والمساجد من قلة الناس، ونقصت قيمة العقار حتى بيع منه بالدرهم ما كان يساوي الدينار، وخلت الدور.

وكان الدلالون يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها من الداخلين إليها ليخربوها.

وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل، حتى كان الناس يتحارسون بالبوقات والطبول، وكثرت الفتن من كل جهة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

وفي رمضان منها كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة، قبحه الله، وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الأسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة تسع عشرة وثلاثمائة ثم مات قبحه الله وهو عندهم، لم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة كما سيأتي.

ولما مات هذا القرمطي قام بالأمر من بعده إخوته الثلاثة، وهم: أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العباس ضعيف البدن مقبلا على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوب مقبلا على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة لا يختلفون في شيء، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضا.

وفي شوال منها توفي أبو عبد الله البريدي فاستراح المسلمون من هذا كما استراحوا من الآخر.

وفيها توفي من الأعيان: أبو العباس بن عقدة الحافظ.

أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن

أبو العباس الكوفي المعروف بابن عقدة، لقبوه بذلك من أجل تعقيده في التصريف والنحو، وكان أيضا عقدة في الورع والنسك، وكان من الحفاظ الكبار، سمع الحديث الكثير ورحل فسمع من خلائق من المشايخ، وسمع منه الطبراني والدارقطني وابن الجعابي وابن عدي وابن المظفر وابن شاهين.

قال الدارقطني: أجمع أهل الكوفة على أنه لم ير من زمن ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة أحفظ منه، ويقال: إنه كان يحفظ نحوا من ستمائة ألف حديث، منها ثلاثمائة ألف في فضائل أهل البيت، بما فيها من الصحاح والضعاف، وكانت كتبه ستمائة حمل جمل، وكان ينسب مع هذا كله إلى التشيع والمغالاة.

قال الدارقطني: كان رجل سوء.

ونسبه ابن عدي إلى أنه كان يعمل النسخ لأشياخ ويأمرهم بروايتها.

قال الخطيب: حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة بن يوسف، سمعت أبا عمر بن حيويه يقول: كان ابن عقدة يجلس في جامع براثى معدن الرفض يملي مثالب الصحابة - أو قال الشيخين - فتركت حديثه لا أحدث عنه بشيء.

قلت: وقد حررت الكلام فيه في كتابنا التكميل بما فيه كفاية، توفي في ذي القعدة منها.

أحمد بن عامر بن بشر بن حامد المروروذي

نسبة إلى مر والروذ، والروذ اسم للنهر، وهو الفقيه الشافعي تلميذ أبي إسحاق المروذي - نسبة إلى مروذ الشاهجان، وهي أعظم من تلك البلاد - له (شرح مختصر المزني)، وله كتاب (الجامع في المذهب) وصنف في أصول الفقه، وكان إماما لا يشق غباره، توفي في هذه السنة رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

فيها: رجع الخليفة المتقي إلى بغداد وخلع من الخلافة وسملت عيناه، وكان - وهو مقيم بالموصل- قد أرسل إلى الأخشيد محمد بن طغج صاحب مصر والبلاد الشامية أن يأتيه.

فأقبل إليه في المنتصف من المحرم من هذه السنة، وخضع للخليفة غاية الخضوع، وكان يقوم بين يديه كما تقوم الغلمان، ويمشي والخليفة راكب، ثم عرض عليه أن يصير معه إلى الديار المصرية أو يقوم ببلاد الشام، وليته فعل، بل أبى عليه، فأشار عليه بالمقام مكانه بالموصل، ولا يذهب إلى توزون، وحذره من مكر توزون وخديعته، فلم يقبل ذلك، وكذلك أشار عليه وزيره أبو حسين بن مقلة فلم يسمع.

وأهدى ابن طغج للخليفة هدايا كثيرة فاخرة، وكذلك أهدى إلى الأمراء والوزير، ثم رجع إلى بلاده، واجتاز بحلب فانحاز عنها صاحبها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان.

وكان ابن مقاتل بها، فأرسله إلى مصر نائبا عنه حتى يعود إليها.

وأما الخليفة فإنه ركب من الرقة في الدجلة إلى بغداد، وأرسل إلى توزون فاستوثق منه ما كان حلف له من الأيمان فأكدها وقررها، فلما قرب من بغداد خرج إليه توزون ومعه العساكر، فلما رأى الخليفة قبَّل الأرض بين يديه، وأظهر له أنه قد وفى له بما كان حلف له عليه وأنزله في منظرته، ثم جاء فاحتاط على من مع الخليفة من الكبراء، وأمر بسمل عيني الخليفة فسملت عيناه، فصاح صيحة عظيمة سمعها الحريم فضجت الأصوات بالبكاء، فأمر توزون بضرب الدبادب حتى لا تسمع أصوات الحريم، ثم انحدر من فوره إلى بغداد فبايع المستكفي.

فكانت خلافة المتقي ثلاثة سنين وخمسة أشهر وعشرين يوما، وقيل: وأحد عشر شهرا، وستأتي ترجمته عند ذكر وفاته.

خلافة المستكفي بالله عبد الله بن المكتفي بن المعتضد

لما رجع توزون إلى بغداد وقد سمل عيني المتقي، استدعي بالمستكفي فبايعه ولقب بالمستكفي بالله، واسمه عبد الله، وذلك في العشر الأواخر من صفر من هذه السنة، وجلس توزون بين يديه وخلع عليه المستكفي.

وكان المستكفي مليح الشكل ربعة حسن الجسم و الوجه، أبيض اللون مشربا حمرة أقنى الأنف، خفيف العارضين، وكان عمره يوم بويع بالخلافة إحدى وأربعين سنة.

وأحضر المتقي بين يديه وبايعه وأخذ منه البردة والقضيب، واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامري، ولم يكن إليه من الأمر شيء، وإنما الذي يتولى الأمور ابن شيرزاد، وحبس المتقي بالسجن.

وطلب المستكفي أبا القاسم الفضل بن المقتدر، وهو الذي ولي الخلافة بعد ذلك، ولقب المطيع لله، فاختفى منه ولم يظهر مدة خلافة المستكفي، فأمر المستكفي بهدم داره التي عند دجلة.

وفيها: مات القائم الفاطمي، وتولى ولده المنصور إسماعيل فكتم موت أبيه مدة حتى اتفق أمره ثم أظهره، والصحيح أن القائم مات في التي بعدها.

وقد حاربهم أبو يزيد الخارجي فيها، وأخذ منهم مدنا كبارا وكسروه مرارا متعددة، ثم يبرز إليهم ويجمع الرجال ويقاتلهم، فانتدب المنصور هذا لقتاله بنفسه وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، وقد بسطها ابن الأثير في (كامله).

وقد انهزم في بعض الأحيان جيش المنصور ولم يبق إلا في عشرين نفسا.

فقاتل بنفسه قتالا عظيما، فهزم أبا يزيد بعدما كاد يقتله، وثبت المنصور ثباتا عظيما، فعظم في أعين الناس وزادت حرمته وهيبته، واستنقذ بلاد القيروان منه، وما زال يحاربه حتى ظفر به المنصور وقتله.

ولما جيء برأسه سجد شكرا لله.

وكان أبو يزيد هذا قبيح الشكل أعرج قصيرا خارجيا شديدا، يكفر أهل الملة.

وفي ذي الحجة منها قتل أبو الحسين البريدي، وصلب ثم أحرق، وذلك أنه قدم بغداد يستنجد بتوزون وأبي جعفر بن شيرزاد على ابن أخيه فوعدوه النصر، ثم شرع يفسد ما بين توزون وابن شيرزاد، فعلم بذلك ابن شيرزاد فأمر بسجنه وضربه، ثم أفتاه بعض الفقهاء بإباحة دمه، فأمر بقتله وصلبه ثم أحرقه، وانقضت أيام البريدية، وزالت دولتهم.

وفيها: أمر المستكفي بإخراج القاهر الذي كان خليفة وأنزله دار ابن طاهر، وقد افتقر القاهر حتى لم يبق له شيء من اللباس سوى قطعه عباءة يلتف بها، وفي رجله قبقاب من خشب.

وفيها: اشتد البرد والحر.

وفيها: ركب معز الدولة في رجب منها إلى واسط، فبلغ خبره إلى توزون فركب هو والمستكفي، فلما سمع بهما رجع إلى بلاده وتسلمها الخليفة، وضمنها أبو القاسم بن أبي عبد الله، ثم رجع توزون والخليفة إلى بغداد في شوال منها.

وفيها: ركب سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى حلب، فتسلمها من يأنس المؤنسي، ثم سار إلى حمص ليأخذها فجاءته جيوش الأخشيد محمد بن طغج مع مولاه كافور فاقتتلوا يقنسرين، فلم يظفر أحذ منهما بصاحبه، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، ثم عاد إلى حلب فاستقر ملكه بها، فقصدته الروم في جحافل عظيمة، فالتقى معهم فظفر بهم فقتل منهم خلقا كثيرا.

ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة

في المحرم زاد الخليفة في لقبه إمام الحق، وكتب ذلك على السكة المتعامل بها، ودعا له الخطباء على المنابر أيام الجُمع.

وفي المحرم منها مات توزون التركي في داره ببغداد، وكانت إمارته سنتين وأربعة أشهر وعشرة أيام.

وكان ابن شيرزاد كاتبه، وكان غائبا بهيت لتخليص المال، فلما بلغه موته أراد أن يعقد البيعة لناصر الدولة بن حمدان، فاضطربت الأجناد وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر، وخرج إليه الأجناد كلهم وحلفوا له وحلف الخليفة والقضاة والأعيان، ودخل على الخليفة فخاطبه بأمير الأمراء، وزاد في أرزاق الجند وبعث إلى ناصر الدولة يطالبه بالخراج، فبعث إليه بخمسمائة ألف درهم، وبطعام يفرقه في الناس، وأمر ونهى وعزل وولى، وقطع ووصل، وفرح بنفسه ثلاثة أشهر وعشرين يوما.

ثم جاءت الأخبار بأن معز الدولة بن بويه قد أقبل في الجيوش قاصدا بغداد، فاختفى ابن شيرزاد والخليفة أيضا، وخرج إليه الأتراك قاصدين الموصل ليكونوا مع ناصر الدولة بن حمدان.

أول دولة بني بويه وحكمهم ببغداد

أقبل معز الدولة أحمد بن الحسن بن بويه في جحافل عظيمة من الجيوش قاصدا بغداد، فلما اقترب منها بعث إليه الخليفة المستكفي بالله الهدايا والإنزالات، وقال للرسول: أخبره أني مسرور به، وأني إنما اختفيت من شر الأتراك الذين انصرفوا إلى الموصل.

وبعث إليه بالخلع والتحف، ودخل معز الدولة بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة، فنزل بباب الشماسية، ودخل من الغد إلى الخليفة فبايعه، ودخل عليه المستكفي ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه أبا الحسن بعماد الدولة، وأخاه أبا علي الحسن بركن الدولة، وكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير.

ونزل معز الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابه من الديلم بدور الناس، فلقي الناس منهم ضائقة شديدة، وأمن معز الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتبه على الخراج، ورتب للخليفة بسبب نفقاته خمسة آلاف درهم في كل يوم، واستقرت الأمور على هذا النظام والله أعلم.

القبض على الخليفة المستكفي بالله وخلعه

لما كان اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة حضر معز الدولة إلى الحضرة، فجلس على سرير بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الديلم فمدا أيديهما إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه، وسحباه فتحربت عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة حتى خلص إلى الحريم، وتفاقم الحال، وسيق الخليفة ماشيا إلى دار معز الدولة فاعتقل بها، وأحضر أبو القاسم الفضل بن المقتدر فبويع بالخلافة، وسملت عينا المستكفي وأودع السجن، فلم يزل به مسجونا حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة كما يأتي ذكر ترجمته هناك.

خلافة المطيع لله

لما قدم معز الدولة بغداد وقبض على المستكفي وسمل عينيه، استدعى بأبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله، وقد كان مختفيا من المستكفي وهو يحث على طلبه ويجتهد، فلم يقدر عليه.

ويقال: إنه اجتمع بمعز الدولة سرا فحرضه على المستكفي حتى كان من أمره ما كان، ثم أحضره وبويع له بالخلافة ولقب بالمطيع الله، وبايعه الأمراء والأعيان والعامة، وضعف أمر الخلافة جدا حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضا، وإنما يكون له كاتب على أقطاعه، وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة، وذلك لأن بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد، وكانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الأمر من العلويين، حتى عزم معز الدولة على تحويل الخلافة إلى العلويين واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك، إلا رجلا واحدا من أصحابه، كان سديد الرأي فيهم، فقال: لا أرى لك ذلك.

قال: ولم ذاك؟

قال: لأن هذا خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الإمارة، حتى لو أمرت بقتله قتله أصحابك، ولو وليت رجلا من العلويين اعتقدت أنت وأصحابك ولايته صحيحة، فلو أمرت بقتله لم تطع بذلك، ولو أمر بقتلك لقتلك أصحابك.

فلما فهم ذلك صرفه عن رأيه الأول، وترك ما كان عزم عليه للدنيا لا لله عز وجل.

ثم نشبت الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان وبين معز الدولة بن بويه، فركب ناصر الدولة بعدما خرج معز الدولة والخليفة إلى عكبرا، فدخل بغداد فأخذ الجانب الشرقي ثم الغربي، وضعف أمر معز الدولة والديلم الذين كانوا معه، ثم مكر به معز الدولة وخدعه حتى استظهر عليه وانتصر أصحابه فنهبوا بغداد وما قدروا عليه من أموال التجار وغيرهم، وكان قيمة ما أخذ أصحاب معز الدولة من الناس عشرة آلاف ألف دينار، ثم وقع الصلح بين ناصر الدولة ومعز الدولة.

ورجع ابن حمدان إلى بلده الموصل، واستقر أمر معز الدولة ببغداد، ثم شرع في استعمال السعاة ليبلغ أخاه ركن الدولة أخباره، فغوى الناس في ذلك وعلموا أبناءهم سعاة، حتى أن من الناس من كان يقطع نيفا وثلاثين فرسخا في يوم واحد.

وأعجبه المصارعون والملاكون، وغيرهم من أرباب هذه الصناعات التي لا ينتفع بها إلا كل قليل العقل فاسد المروءة، وتعلموا السباحة ونحوها، وكانت تضرب الطبول بين يديه ويتصارع الرجال، والكوسان تدق حول سور المكان الذي هو فيه، وكل ذلك رعونة وقلة عقل وسخافة منه.

ثم احتاج إلى صرف أموال في أرزاق الجند فأقطعهم البلاد عوضا عن أرزاقهم، فأذى ذلك إلى خراب البلاد وترك عمارتها إلا الأراضي التي بأيدي أصحاب الجاهات.

وفي هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد، حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب، وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم ويأكلهم.

وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحدا، بل يتركون على الطرقات فيأكل كثيرا منهم الكلاب، وبيعت الدور والعقار بالخبز، وانتجع الناس إلى البصرة فكان منهم من مات في الطريق، ومنهم من وصل إليها بعد مدة مديدة.

وفيها: كانت وفاة القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبد الله المهدي، وولى الأمر من بعده ولده المنصور إسماعيل، وكان حازم الرأي شديدا شجاعا كما ذكرنا ذلك في السنة الماضية، وكانت وفاته في شوال من هذه السنة على الصحيح.

وفيها توفي: الأخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية، كانت وفاته بدمشق وله من العمر بضع وستون سنة، وأقيم ولده أبو القاسم أبو جور - وكان صغيرا - وأقيم كافور الأخشيد أتابكه، وكان يدبر الممالك بالبلاد كلها، واستحوذ على الأمور كلها وسار إلى مصر فقصد سيف الدولة بن حمدان دمشق فأخذها من أصحاب الأخشيد، ففرح بها فرحا شديدا، واجتمع بمحمد بن محمد بن نصر الفارابي التركي الفليسوف بها.

وركب سيف الدولة يوما مع الشريف العقيلي في بعض نواحي دمشق، فنظر سيف الدولة إلى الغوطة فأعجبته وقال: ينبغي أن يكون هذا كله لديوان السلطان - كأنه يعرض بأخذها من ملاكها - فأوغر ذلك صدر العقيلي وأوعاه إلى أهل دمشق، فكتبوا إلى كافور الأخشيدي يستنجدونه، فأقبل إليهم في جيوش كثيرة كثيفة، فأجلى عنهم سيف الدولة وطرده عن حلب أيضا، واستناب عليها ثم كر راجعا إلى دمشق، فاستناب عليها بدرا الأخشيدي - ويعرف ببدير - فلما صار كافور إلى الديار المصرية رجع سيف الدولة إلى حلب، فأخذها كما كانت أولا له، ولم يبق له في دمشق شيء يطمع فيه.

وكافور هذا الذي هجاه المتنبي ومدحه أيضا.

وممن توفي من الأعيان:

عمر بن الحسين

صاحب (المختصر في الفقه) على مذهب الإمام أحمد، وقد شرحه القاضي أبو يعلى بن الفراء والشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي، وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد، كثير الفضائل والعبادة، خرج من بغداد مهاجرا لما كثر بها الشر والسب للصحابة، وأودع كتبه في بغداد فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب، وعدمت مصنفاته، وقصد دمشق فأقام بها حتى مات في هذه السنة، وقبره بباب الصغير يزار قريبا من قبور الشهداء.

وذكر في مختصره هذا في الحج: ويأتي الحجر الأسود ويقبله إن كان هناك، وإنما قال ذلك لأن تصنيفه لهذا الكتاب كان والحجر الأسود قد أخذته القرامطة وهو في أيديهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما تقدم ذلك، ولم يرد إلى مكانه إلا سنة سبع وثلاثين كما سيأتي بيانه في موضعه.

قال الخطيب البغدادي: قال لي القاضي أبو يعلى: كان للخرقي مصنفات كثيرة وتخريجات على المذهب لم تظهر لأنه خرج من مدينته لما ظهر بها سب الصحابة، وأودع كتبه فاحترقت الدار التي هي فيها فاحترقت الكتب ولم تكن قد انتشرت لبعده عن البلد.

ثم روى الخطيب من طريقه عن أبي الفضل عبد السميع عن الفتح بن شخرف عن الخرقي قال: رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المنام فقال لي: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء !!

قال: قلت زدني يا أمير المؤمنين.

قال: وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء.

قال: ورفع له كفه فإذا فيها مكتوب:

قد كنت ميتا فصرت حيا ** وعن قريب تعود ميتا

فابن بدار البقاء بيتا ** ودع بدار الفناء بيتا

قال ابن بطة: مات الخرقي بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وزرت قبره رحمه الله.

محمد بن عيسى

أبو عبد الله بن موسى الفقيه الحنفي، أحد أئمة العراقيين في زمانه، وقد ولى القضاء ببغداد للمتقي ثم للمستكفي، وكان ثقة فاضلا، كبست اللصوص داره يظنون أنه ذو مال، فضربه بعضهم ضربة أثخنته، فألقى نفسه من شدة الفزع إلى الأرض فمات رحمه الله تعالى في ربيع الأول من هذه السنة.

محمد بن محمد بن عبد الله

أبو الفضل السلمي الوزير الفقيه المحدث الشاعر، سمع الكثير وجمع وصنف، وكان يصوم الاثنين والخميس، ولا يدع صلاة الليل والتصنيف، وكان يسأل الله تعالى الشهادة كثيرا.

فولي الوزارة للسلطان فقصده الأجناد فطالبوه بأرزاقهم، واجتمع منهم ببابه خلق كثير، فاستدعى بحلاق فحلق رأسه، وتنور وتطيب ولبس كفنه وقام يصلي، فدخلوا عليه فقتلوه وهو ساجد، رحمه الله، في ربيع الآخر من هذه السنة.

الأخشيد محمد بن عبد الله بن طغج

أبو بكر الملقب بالأخشيد ومعناه ملك الملوك، لقبه بذلك الراضي لأنه كان ملك فرغانة، وكل من ملكها كان يسمى الأخشيد، كما أن من ملك اشروسية يسمى الآفشين.

ومن ملك خوارزم يسمى خوارزم شاه، ومن ملك جرجان يسمى صول، ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهبذ، ومن ملك طبرستان يسمى أرسلان.

قاله ابن الجوزي في (منتظمه).

قال السهيلي: وكانت العرب تسمي من ملك الشام مع الجزيرة كافرا قيصر، ومن ملك فارس كسرى، ومن ملك اليمن تبع، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس، ومن ملك مصر فرعون، ومن ملك الإسكندرية المقوقس، وذكر غير ذلك.

توفي بدمشق ونقل إلى بيت المقدس فدفن هناك رحمه الله.

أبو بكر الشبلي

أحد مشايخ الصوفية، اختلفوا في اسمه على أقوال فقيل: دلف بن جعفر، ويقال: دلف بن جحدر، وقيل: جعفر بن يونس، أصله من قرية يقال لها: شبلة من بلاد أُشروسنة من خراسان، وولد بسامرا، وكان أبوه حاجب الحجاب للموفق، وكان خاله نائب الإسكندرية، وكانت توبة الشبلي على يدي خير النساج، سمعه يعظ فوقع في قلبه كلامه فتاب من فوره، ثم صحب الفقراء ولمشايخ، ثم صار من أئمة القوم.

قال الجنيد: الشبلي تاج هؤلاء.

وقال الخطيب: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمود الزوزني قال: سمعت علي بن المثنى التميمي يقول: دخلت يوما على الشبلي في داره وهو يهيج ويقول:

علي بعدك لا يصبر ** من عادته القرب

ولا يقوى على هجرك ** من تيّمه الحب

فإن لم ترك العين ** فقد يبصرك القلب

وقد ذكر له أحوال وكرامات، وقد ذكرنا أنه كان ممن اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نسب إليه من الأقوال من غير تأمل لما فيها، مما كان الحلاج يحاوله من الإلحاد والاتحاد، ولما حضرته الوفاة قال لخادمه: قد كان عليّ درهم مظلمة فتصدقت عن صاحبه بألوف، ومع هذا ما على قلبي شغل أعظم منه.

ثم أمره بأن يوضئه فوضأه وترك تخليل لحيته، فرفع الشبلي يده - وقد كان اعتقل لسانه - فجعل يخلل لحيته.

وذكره ابن خلكان في (الوفيات)، وحكى عنه أنه دخل يوما على الجنيد فوقف بين يديه وصفق بيديه وأنشد:

عودوني الوصال والوصل عذب ** ورموني بالصد والصد صعب

زعموا حين اعتبوا أن جرمي ** فرط حبي لهم وما ذاك ذنب

لا وحق الخضوع عند التلاقي ** ما جزاء من يحب إلا يحب

وذكر عنه قال: رأيت مجنونا على باب جامع الرصافة يوم جمعة عريانا وهو يقول: أنا مجنون الله، فقلت: ألا تستتر وتدخل إلى الجامع فتصلى الجمعة.

فقال:

يقولون زرنا واقض واجب حقنا ** وقد أسقطت حالي حقوقهم عني

إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها ** ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني

وذكر الخطيب في(تاريخه) عنه أنه انشد لنفسه فقال: مضتِ الشبيبة والحبيبة فانبرى ** دمعان في الأجفان يزدحمان

ما أنصفتني الحادثات رمينني ** بمودعين وليس لي قلبان

كانت وفاته رحمه الله تعالى ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من هذه السنة، وله سبع وثمانون سنة، ودفن في مقبرة الخيزران ببغداد والله أعلم.

ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة

في هذه السنة استقر أمر الخليفة المطيع لله في دار الخلافة، واصطلح معز الدولة بن بويه وناصر الدولة بن حمدان على ذلك، ثم حارب ناصر الدولة تكين التركي فاقتتلا مرات متعددة، ثم ظفر ناصر الدولة بتكين فسمل بين يديه، واستقر أمره بالموصل والجزيرة، واستحوذ ركن الدولة على الري وانتزعها من الخراسانية، واتسعت مملكة بني بويه جدا، فإنه صار بأيديهم أعمال الري والجبل وأصبهان وفارس والأهواز والعراق، ويحمل إليهم ضمان الموصل وديار ربيعة من الجزيرة وغيرها.

ثم اقتتل جيش معز الدولة وجيش أبي القاسم البريدي، فهزم أصحاب البريدي وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة.

وفيها: وقع الفداء بين الروم والمسلمين على يد نصر المستملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان، فكان عدة الأسارى نحوا من ألفين وخمسمائة مسلم ولله الحمد والمنة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الحسين بن حمويه بن الحسين

القاضي الاستراباذي، روى الكثير وحدث، وكان له مجلس للإملاء، وحكم ببلده مدة طويلة، وكان من المجتهدين في العبادة المتهجدين بالأسحار، ويضرب به المثل في ظرفه وفكاهته.

وقد مات فجأة على صدر جاريته عند إنزاله.

عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله

أبو عبد الله الختلي، سمع ابن أبي الدنيا وغيره، وحدث عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة نبيلا حافظا، حدث من حفظه بخمسين ألف حديث.

عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام

بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم أبو محمد الكلبي، الملقب بديك الجن الشاعر الماجن الشيعي.

ويقال: إنه من موالي بني تميم، وله أشعار قوية، خمارية وغير خمارية، وقد استجاد أبو نواس شعره في الخماريات.

علي بن عيسى بن داود ابن الجراح

أبو الحسن الوزير للمقتدر والقاهر، ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وسمع الكثير، وعنه الطبراني وغيره، وكان ثقة نبيلا فاضلا عفيفا، كثير التلاوة والصيام والصلاة، يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم، أصله من الفرس، وكان من أكبر القائمين على الحلاج.

وروي عنه أنه قال: كسبت سبعمائة ألف دينار أنفقت منها في وجوه الخير ستمائة ألف وثمانين ألفا.

ولما دخل مكة حين نفي من بغداد طاف بالبيت وبالصفا والمروة في حر شديد، ثم جاء إلى منزله فألقى نفسه وقال: أشتهي على الله شربة ثلج.

فقال له بعض أصحابه: هذا لا يتهيأ ههنا.

فقال: أعرف ولكن سيأتي به الله إذا شاء، وأصبر إلى المساء.

فلما كان في أثناء النهار جاءت سحابة فأمطرت وسقط منها برد شديد كثير، فجمع له صاحبه من ذلك البرد شيئا كثيرا وخبأه له، وكان الوزير صائما، فلما أمسى جاء به، فلما جداء المسجد أقبل إليه صاحبه بأنواع الأشربة وكلها بثلج، فجعل الوزير يسقيه لمن حواليه من الصوفية والمجاورين، ولم يشرب هو منه شيئا، فلما رجع إلى المنزل جئته بشيء من ذلك الشراب كنا خبأناه له، وأقسمت عليه ليشربنه فشربه بعد جهد جهيد، وقال: أشتهي لو كنت تمنيت المغفرة.

رحمه الله وغفر له.

ومن شعره قوله:

فمن كان عني سائلا بشماتةٍ ** لما نابني أو شامتا غير سائل

فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرة ** صبورا على أهوال تلك الزلازل

وقد روى أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي عن أبيه عن جماعة: أن عطارا من أهل الكرخ كان مشهورا بالسنة، ركبه ستمائة دينار دينا فأغلق دكانه وانكسر عن كسبه ولزم منزله، وأقبل على الدعاء والتضرع والصلاة ليالي كثيرة، فلما كان في بعض تلك الليالي رأى رسول الله ﷺ في المنام وهو يقول له: اذهب إلى علي بن عيسى الوزير فقد أمرته لك بأربعمائة دينار.

فلما أصبح الرجل قصد باب الوزير فلم يعرفه أحد، فجلس لعل أحدا يستأذن له على الوزير حتى طال عليه المجلس وهمّ بالإنصراف، ثم إنه قال لبعض الحجبة: قل للوزير إني رجل رأيت رسول الله ﷺ في المنام وأنا أريد أن أقصه على الوزير.

فقال له الحاجب: وأنت صاحب الرؤيا؟

إن الوزير قد أنفذ في طلبك رسلا متعددة.

ثم دخل الحجاب فأخبروا الوزير فقال: أدخله عليّ سريعا.

فدخل عليه فأقبل عليه الوزير يستعلم عن حاله واسمه وصفته ومنزله، فذكر ذلك له، فقال له الوزير: إني رأيت رسول الله ﷺ وهو يأمرني بإعطائك أربعمائة دينار، فأصبحت لا أدري من أسأل عنك، ولا أعرفك ولا أعرف أين أنت، وقد أرسلت في طلبك إلى الآن عدة رسل، فجزاك الله خيرا عن قصدك إياي.

ثم أمر الوزير بإحضار ألف دينار فقال: هذه أربعمائة دينار لأمر رسول الله ﷺ وستمائة هبة من عندي.

فقال الرجل: لا والله لا أزيد على ما أمرني به رسول الله ﷺ، فإني أرجو الخير والبركة فيه.

ثم أخذ منها أربعمائة دينار، فقال الوزير: هذا هو الصدق واليقين.

فخرج ومعه الأربعمائة دينار فعرض على أرباب الديون أموالهم فقالوا: نحن نصبر عليك ثلاث سنين، وافتح بهذا الذهب دكانك ودم على كسبك.

فأبى إلا أن يعطيهم من أموالهم الثلث، فدفع إليهم مائتي دينار، وفتح حانوته بالمائتي دينار الباقية، فما حال عليه الحول حتى ربح ألف دينار.

ولعلي بن عيسى الوزير أخبار كثيرة صالحة.

كانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة.

ويقال: في التي قبلها والله أعلم.

محمد بن إسماعيل ابن إسحاق

ابن إسحاق بن بحر أبو عبد الله الفارسي الفقيه الشافعي، كان ثقة ثبتا فاضلا، سمع أبا زرعة الدمشقي وغيره، وعنه الدارقطني وغيره وآخر من حدث عنه أبو عمر بن مهدي، توفي في شوال من هذه السنة.

هارون بن محمد

ابن هارون بن علي بن موسى بن عمرو بن جابر بن يزيد بن جابر بن عامر بن أسيد بن تميم بن صبح بن ذهل بن مالك بن سعيد بن حبنة أبو جعفر، والد القاضي أبي عبد الله الحسن بن هارون.

كان أسلافه ملوك عمان في قديم الزمان، وجده يزيد بن جابر أدرك الإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان هارون هذا أول من انتقل من أهله من عمان فنزل بغداد وحدث بها، وروى عن أبيه، وكان فاضلا متضلعا من كل فن، وكانت داره مجمع العلماء في سائر الأيام، ونفقاته دارّة عليهم، وكان له منزلة عالية، ومهابة ببغداد، وقد أثنى عليه الدارقطني ثناء كثيرا، وقال: كان مبرزا في النحو واللغة والشعر، ومعاني القرآن، وعلم الكلام.

قال ابن الأثير: وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العباس بن صول الصولي، وكان عالما بفنون الآداب والأخبار، وإنما ذكره ابن الجوزي في التي بعدها كما سيأتي.

أبو العباس بن القاص أحمد بن أبي أحمد الطبري

الفقيه الشافعي، تلميذ ابن سريج له كتاب (التلخيص) وكتاب (المفتاح)، وهو مختصر شرحه أبو عبد الله الحسين، وأبو عبد الله السنجي أيضا، وكان أبوه يقص على الناس الأخبار والآثار، وأما هو فتولى قضاء طرسوس وكان يعظ الناس أيضا، فحصل له مرة خشوع فسقط مغشيا عليه فمات في هذه السنة.

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلاثمائة

فيها خرج معز الدولة والخليفة المطيع لله من بغداد إلى البصرة فاستنقذاها من يد أبي القاسم بن البريدي، وهرب هو وأكثر أصحابه، واستولى معز الدولة على البصرة وبعث يتهدد القرامطة ويتوعدهم بأخذ بلادهم، وزاد في إقطاع الخليفة ضياعا تعمل في كل سنة مائتي ألف دينار، ثم سار معز الدولة لتلقي أخيه عماد الدولة بالأهواز فقبل الأرض بين يدي أخيه وقام بين يديه مقاما طويلا، فأمره بالجلوس فلم يفعل.

ثم عاد إلى بغداد صحبة الخليفة فتمهدت الأمور جيدا.

وفي هذه السنة استحوذ ركن الدولة على بلاد طبرستان وجرجان من يد وشمكير أخي مرداويج ملك الديلم، فذهب وشمكير إلى خراسان يستنجد بصاحبها كما سيأتي.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو الحسين بن المنادي

أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد، سمع جده وعباسا الدوري ومحمد بن إسحاق الصاغاني.

وكان ثقة أمينا حجة صادقا، صنف كثيرا وجمع علوما جمة، ولم يسمع الناس منها إلا اليسير، وذلك لشراسة أخلاقه.

وآخر من روى عنه محمد بن فارس اللغوي، ونقل ابن الجوزي عن أبي يوسف القدسي أنه قال: صنف أبو الحسن بن المنادي في علوم القرآن أربعمائة كتاب، ونيفا وأربعين كتابا، ولا يوجد في كلامه حشو، بل هو نقي الكلام جمع بين الرواية والدراية.

وقال ابن الجوزي: ومن وقف على مصنفاته علم فضله وإطلاعه ووقف على فوائد لا توجد في غير كتبه.

توفي في محرم من هذه السنة عن ثمانين سنة.

الصولي محمد بن عبد الله بن العباس

ابن محمد صول أبو بكر الصولي، كان أحد العلماء بفنون الأدب وحسن المعرفة بأخبار الملوك، وأيام الخلفاء ومآثر الأشراف وطبقات الشعراء.

روى عن أبي داود السجستاني والمبرد وثعلب وأبي العيناء وغيرهم.

وكان واسع الرواية جيد الحفظ حاذقا بتصنيف الكتب.

وله كتب كثيرة هائلة، ونادم جماعة من الخلفاء، وحظي عندهم، وكان جده صول وأهله ملوكا بجرجان، ثم كان أولاده من كبار الكتاب، وكان الصولي هذا جيد الاعتقاد حسن الطريقة، وله شعر حسن، وقد روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ.

ومن شعره قوله:

أحببت من أجله من كان يشبهه ** وكل شيء من المعشوق معشوق

حتى حكيت بجسمي ماء مقلته ** كأن سقمي من عينيه مسروق

خرج الصولي من بغداد إلى البصرة لحاجة لحقته فمات بها في هذه السنة.

وفيها: كانت وفاة ابنة الشيخ أبي الزاهد المكي، وكانت من العابدات الناسكات المقيمات بمكة، وكانت تقتات من كسب أبيها من عمل الخوص، في كل سنة ثلاثين درهما يرسلها إليها، فاتفق أنه أرسلها مرة مع بعض أصحابه فزاد عليها ذلك الرجل عشرين درهما - يريد بذلك برها وزيادة في نفقتها - فلما اختبرتها قالت: هل وضعت في هذه الدراهم شيئا من مالك؟

أصدقني بحق الذي حججت له.

فقال: نعم عشرين درهما.

فقالت: ارجع بها لا حاجة لي فيها، ولولا أنك قصدت الخير لدعوت الله عليك، فإنك قد أجعتني عامي هذا، ولم يبق لي رزق إلا من المزابل إلى قابل.

فقال: خذي منها الثلاثين التي أرسل بها أبوك إليك ودعي العشرين.

فقالت: لا، إنها قد اختلطت بمالك ولا أدري ما هو.

قال الرجل: فرجعت بها إلى أبيها فأبى أن يقبلها وقال: شققت يا هذا عليّ وضيقت عليها، ولكن اذهب فتصدق بها.

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة

فيها ركب معز الدولة من بغداد إلى الموصل فانهزم منه ناصر الدولة إلى نصيبين، فتملك معز الدولة بن بويه الموصل في رمضان فعسف أهلها وأخذ أموالهم، وكثر الدعاء عليه.

ثم عزم على أخذ البلاد كلها من ناصر الدولة بن حمدان، فجاء خبر من أخيه ركن الدولة يستنجده على من قبله من الخراسانية، فاحتاج إلى مصالحة ناصر الدولة على أن يحمل ما تحت يده من بلاد الجزيرة والشام في كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم، وأن يخطب له ولأخويه عماد الدولة وركن الدولة على منابر بلاده كلها ففعل.

وعاد معز الدولة إلى بغداد وبعث إلى أخيه بجيش هائل، وأخذ له عهد الخليفة بولاية خراسان.

وفيها: دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم، فلقيه جمع كثيف من الروم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم سيف الدولة وأخذت الروم ما كان معهم، وأوقعوا بأهل طرسوس بأسا شديدا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال ابن الجوزي: وفي رمضان انتهت زيادة دجلة أحد وعشرين ذراعا وثلثا.

وممن توفي فيها من الأعيان:

عبد الله بن محمد بن حمدويه

ابن نعيم بن الحكم أبو محمد البيع، وهو والد الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، أذن ثلاثا وستين سنة وغزا اثنتين وعشرين غزوة، وأنفق على العلماء مائة ألف، وكان يقوم الليل كثيرا، وكان كثير الصدقة، أدرك عبد الله بن أحمد بن حنبل ومسلم بن الحجاج، وروى عن ابن خزيمة وغيره، وتوفي عن ثلاث وتسعين سنة.

قدامة الكاتب المشهور

هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب، له مصنف في الخراج وصناعة الكتابة، وبه يقتدي علماء هذا الشأن، وقد سأل ثعلبا عن أشياء.

محمد بن علي بن عمر أبو علي المذكر

الواعظ بنيسابور، كان كثير التدليس عن المشايخ الذين لم يلقهم، توفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين سامحه الله.

محمد بن مطهر بن عبد الله

أبو المنجا الفقيه الفرضي المالكي، له كتاب في الفقه على مذهب مالك، وله مصنفات في الفرائض قليلة النظير، وكان أديبا إماما فاضلا صادقا، رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة

في ربيع الأول منها وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة، ونهبت الكرخ.

وفي جمادى الآخرة تقلد أبو السائب عتبة بن عبيد الله الهمداني قضاء القضاة.

وفيها: خرج رجل يقال له: عمران بن شاهين، كان قد استوجب بعض العقوبات، فهرب من السلطان إلى ناحية البطائح، وكان يقتات مما يصيده من السمك والطيور، والتف عليه خلق من الصيادين وقطاع الطريق، فقويت شوكته واستعمله أبو القاسم بن البريدي على بعض تلك النواحي، وأرسل إليه معز الدولة بن بويه جيشا مع وزيره أبي جعفر بن بويه الضميري، فهزم ذلك الصياد الوزير، واستحوذ على ما معه من الأموال، فقويت شوكة ذلك الصياد، ودهم الوزير وفاة عماد الدولة بن بويه وهو:

أبو الحسن علي بن بويه

وهو أكبر أولاد بويه وأول من تملك منهم، وكان عاقلا حاذقا حميد السيرة رئيسا في نفسه.

كان أول ظهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة كما ذكرنا.

فلما كان في هذا العام قويت عليه الأسقام وتواترت عليه الآلام، فأحس من نفسه بالهلاك، ولم يفاده ولا دفع عنه أمر الله ما هو فيه من الأموال والملك وكثرة الرجال والأموال، ولا رد عنه جيشه من الديالم والأتراك والأعجام، مع كثرة العدد والعدد، بل تخلوا عنه أحوج ما كان إليهم، فسبحان الله الملك القادر القاهر العلام.

ولم يكن له ولد ذكر، فأرسل إلى أخيه ركن الدولة يستدعيه إليه وولده عضد الدولة، ليجعله ولي عهده من بعده، فلما قدم عليه فرح به فرحا شديدا، وخرج بنفسه في جميع جيشه يتلقاه، فلما دخل به إلى دار المملكة أجلسه على السرير وقام بين يديه كأحد الأمراء، ليرفع من شأنه عند أمرائه ووزرائه وأعوانه.

ثم عقد له البيعة على ما يملكه من البلدان والأموال، وتدبير المملكة والرجال.

وفيهم من بعض رؤوس الأمراء كراهة لذلك، فشرع في القبض عليهم وقتل من شاء منهم وسجن آخرين، حتى تمهدت الأمور لعضد الدولة.

ثم كانت وفاة عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وكان ممن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان هو أمير الأمراء، وبذلك كان يكاتبه الخلفاء، ولكن أخوه معز الدولة كان ينوب عنه في العراق والسواد.

ولما مات عماد الدولة اشتغل الوزير أبو جعفر الضميري عن محاربة عمران بن شاهين الصياد - وكان قد كتب إليه معز الدولة أن يسير إلى شيراز ويضبط أمرها - فقوي أمر عمران بعد ضعفه، وكان من أمره ما سيأتي في موضعه.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو جعفر النحاس النحوي

أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس

أبو جعفر المرادي المصري النحوي المعروف بالنحاس، اللغوي المفسر الأديب، له مصنفات كثيرة في التفسير وغيره، وقد سمع الحديث ولقي أصحاب المبرد، وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة.

قال ابن خلكان: لخمس خلون منها يوم السبت.

وكان سبب وفاته: أنه جلس عند المقياس يقطع شيئا من العروض، فظنه بعض العامة يسحر النيل فرفسه برجله فسقط فغرق، ولم يدر أين ذهب.

وقد كان أخذ النحو عن علي بن سليمان الأحوص وأبي بكر الأنباري وأبي إسحاق الزجاج ونفطويه وغيرهم، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها (تفسير القرآن) و(الناسخ والمنسوخ)وشرح أبيات سيبويه، ولم يصنف مثله، وشرح المعلقات والدواوين العشرة، وغير ذلك.

وروى الحديث عن النسائي، وكان بخيلا جدا، وانتفع الناس به.

وفيها كانت وفاة الخليفة:

المستكفي بالله

عبد الله بن علي المكتفي بالله، وقد ولي الخلافة سنة وأربعة أشهر ويومين، ثم خلع وسملت عيناه كما تقدم ذكره.

توفي في هذه السنة وهو معتقل في داره، وله من العمر ست وأربعون سنة وشهران.

علي بن حمشاد بن سحنون بن نصر

أبو المعدل، محدث عصره بنيسابور، رحل إلى البلدان وسمع الكثير وحدث وصنف مسندا أربعمائة جزء، وله غير ذلك مع شدة الإتقان والحفظ، وكثرة العبادة والصيانة والخشية لله عز وجل.

قال بعضهم: صحبته في السفر والحضر فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.

وله تفسير في مائتي جزء ونيف، ودخل الحمام من غير مرض فتوفي فيه فجأة، وذلك يوم الجمعة الرابع عشر من شوال من هذه السنة رحمه الله.

علي بن محمد بن أحمد بن الحسن

أبو الحسن الواعظ البغدادي، ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى عرف بالمصري، سمع الكثير وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان له مجلس وعظ يحضر فيه الرجال والنساء، وكان يتكلم وهو مبرقع لئلا يرى النساء حسن وجهه، وقد حضر مجلسه أبو بكر النقاش مستخفيا فلما سمع كلامه قام قائما وشهر نفسه وقال له: القصص بعدك حرام.

قال الخطيب: كان ثقة أمينا عارفا، جمع حديث الليث وابن لهيعة وله كتب كثيرة في الزهد.

توفي في ذي القعدة منها، وله سبع وثمانون سنة والله أعلم.

ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة

في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رد الحجر الأسود المكي إلى مكانه في البيت، وقد كان القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما تقدم، وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسين الجنابي، ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك، وقد بذل لهم الأمير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه فلم يفعلوا، وقالوا: نحن أخذناه بأمر فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره.

فلما كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من جامعها ليراه الناس، وكتب أخو أبي طاهر كتابا فيه: إنا أخذنا هذا الحجر بأمر وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه ليتم حج الناس ومناسكهم.

ثم أرسلوه إلى مكة بغير شيء على قعود، فوصل في ذي القعدة من هذه السنة ولله الحمد والمنة، وكان مدة مغايبته عنده ثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فرحا شديدا.

وقد ذكر غير واحد أن القرامطة لما أخذوه حملوه على عدة جمال فعطبت تحته، واعترى أسنمتها القرح، ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى.

وفيها: دخل سيف الدولة بن حمدان بجيش عظيم نحو من ثلاثين ألفا إلى بلاد الروم، فوغل فيها وفتح حصونا وقتل خلقا وأسر أمما وغنم شيئا كثيرا ثم رجع، فأخذت عليه الروم الدرب الذي يخرج منه فقتلوا عامة من معه وأسروا بقيتهم واستردوا ما كان أخذه، ونجا سيف الدولة في نفر يسير من أصحابه.

وفيها: مات الوزير أبو جعفر الضميري، فاستوزر معز الدولة مكانه أبا محمد الحسين بن محمد المهلبي في جمادى الأولى.

فاستفحل أمر عمران بن شاهين الصياد وتفاقم الأمر به، فبعث إليه معز الدولة جيشا بعد جيش، كل ذلك يهزمهم مرة بعد مرة، ثم عدل معز الدولة إلى مصالحته واستعماله له على بعض تلك النواحي، ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الحسن بن داود بن باب شاذ

أبو الحسن المصري قدم بغداد.

كان من أفاضل الناس وعلمائهم بمذهب أبي حنيفة، مبسوط الذكاء قوي الفهم، كتب الحديث، وكان ثقة.

مات ببغداد في هذه السنة، ودفن بمقبرة الشونيزية ولم يبلغ من العمر أربعين سنة.

محمد القاهر بالله أمير المؤمنين

ابن المعتضد بالله، ولي الخلافة سنة وستة أشهر وسبعة أيام، وكان بطاشا سريع الانتقام، فخاف منه وزيره أبو علي بن مقلة فاستتر منه فشرع في العمل عليه عند الأتراك، فخلعوه وسملوا عينيه وأودع دار الخلافة برهة من الدهر، ثم أخرج في سنة ثلاث وثلاثين إلى دار ابن طاهر، وقد نالته فاقة وحاجة شديدة، وسأل في بعض الأيام.

ثم كانت وفاته في هذا العام، وله ثنتان وخمسون سنة، ودفن إلى جانب أبيه المعتضد.

محمد بن عبد الله بن أحمد

أبو عبد الله الصفار الأصبهاني محدث عصره بخراسان، سمع الكثير وحدث عن ابن أبي الدنيا ببعض كتبه، وكان مجاب الدعوة، ومكث لا يرفع رأسه إلى السماء نيفا وأربعين سنة، وكان يقول: اسمي محمد واسم أبي عبد الله واسم أمي آمنة.

يفرح بهذه الموافقة في الاسم واسم الأب واسم الأم، لأن النبي ﷺ كان اسمه محمد، واسم أبيه عبد الله، وأمه اسمها آمنة.

أبو نصر الفارابي

التركي الفيلسوف، وكان من أعلم الناس بالموسيقى، بحيث كان يتوسل به وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم.

وكان حاذقا في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا، وكان يقول: بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين.

مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في (كامله)، ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم.

ثم دخلت سنة أربعين وثلاثمائة

فيها: قصد صاحب عمان البصرة ليأخذها في مراكب كثيرة، وجاء لنصره أبو يعقوب الهجري فمانعه الوزير أبو محمد المهلبي وصده عنها، وأسر جماعة من أصحابه وسبا سبيا كثيرا من مراكبه فساقها معه في دجلة، ودخل بها إلى بغداد في أبهة عظيمة، ولله الحمد.

وفيها: رفع إلى الوزير أبي محمد المهلبي رجل من أصحاب أبي جعفر بن أبي العز الذي كان قتل على الزندقة كما قتل الحلاج، فكان هذا الرجل يدعي ما كان يدعيه ابن أبي العز، وقد اتبعه جماعة من الجهلة من أهل بغداد، وصدقوه في دعواه الربوبية، وأن أرواح الأنبياء والصديقين تنتقل إليهم.

ووجد في منزله كتب تدل على ذلك.

فلما تحقق أنه هالك ادعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه، وقد كان معز الدولة بن بويه يحب الرافضة قبحه الله.

فلما اشتهر عنه ذلك لم يتمكن الوزير منه خوفا على نفسه من معز الدولة، وأن تقوم عليه الشيعة، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكنه احتاط على شيء من أموالهم، فكان يسميها أموال الزنادقة.

قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها وقعت فتنة عظيمة بسبب المذهب.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أشهب بن عبد العزيز بن أبي داود بن إبراهيم أبو عمرو العامري - نسبة إلى عامر بن لؤي - كان أحد الفقهاء المشهورين، توفي في شعبان منها.

أبو الحسن الكرخي

أحد أئمة الحنفية المشهورين، ولد سنة ستين ومائتين، وسكن بغداد ودرس فقه أبي حنيفة، وانتهت إليه رئاسة أصحابه في البلاد، وكان متعبدا كثير الصلاة والصوم، صبورا على الفقر، عزوفا عما في أيدي الناس، وكان مع ذلك رأسا في الاعتزال، وقد سمع الحديث من إسماعيل بن إسحاق القاضي، وروى عنه حيوة وابن شاهين.

وأصابه الفالج في آخر عمره، فاجتمع عنده بعض أصحابه واشتوروا فيما بينهم أن يكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان ليساعده بشيء يستعين به في مرضه، فلما علم بذلك رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني.

فمات عقب ذلك قبل أن يصل إليه ما أرسل به سيف الدولة، وهو عشرة آلاف درهم.

فتصدقوا بها بعد وفاته في شعبان من هذه السنة عن ثمانين سنة، وصلى عليه أبو تمام الحسن بن محمد الزينبي، وكان صاحبه، ودفن في درب أبي زيد علي نهر الواسطيين.

محمد بن صالح بن يزيد

أبو جعفر الوراق سمع الكثير، وكان يفهم ويحفظ، وكان ثقة زاهدا لا يأكل إلا من كسب يده، ولا يقطع صلاة الليل.

وقال بعضهم: صحبته سنين كثيرة فما رأيته فعل إلا ما يرضي الله عز وجل، ولا قال إلا ما يسأل عنه، وكان يقوم أكثر الليل.

وفيها: كانت وفاة منصور بن قرابكين صاحب الجيوش الخراسانية من جهة الأمير نوح الساماني من مرض حصل له، وقيل: لأنه أدمن شرب الخمر أياما متتابعة فهلك بسبب ذلك، فأقيم بعده في الجيوش أبو علي المحتاج.

الزجاجي، مصنف (الجمل)، وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق النحوي اللغوي البغدادي الأصل.

ثم الدمشقي، مصنف (الجمل في النحو)، وهو كتاب نافع، كثير الفائدة، صنفه بمكة، وكان يطوف بعد كل باب منه ويدعو الله تعالى أن ينفع به.

أخذ النحو أولا عن محمد بن العباس اليزيدي، وأبي بكر بن دريد، وابن الأنباري، توفي في رجب سنة سبع، وقيل: سنة تسع وثلاثين، وقيل: سنة أربعين، توفي في دمشق، وقيل: بطبرية.

وقد شرح كتابه (الجمل) بشروح كثيرة من أحسنها وأجمعها ما وضعه ابن عصفور، والله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة

فيها: ملكت الروم سروج، وقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها.

قال ابن الأثير: وفيها قصد موسى بن وجيه صاحب عمان البصرة فمنعه منها المهلبي كما تقدم.

وفيها: نقم معز الدولة على وزيره فضربه مائة وخمسين سوطا، ولم يعزله بل رسم عليه.

وفيها: اختصم المصريون والعراقيون بمكة، فخطبوا لصاحب مصر، ثم غلبهم العراقيون فخطبوا لركن الدولة بن بويه.

وفيها كانت وفاة:

المنصور الفاطمي

وهو أبو طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب المغرب، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يوما، وكان عاقلا شجاعا فاتكا قهر أبا يزيد الخارجي الذي كان لا يطاق شجاعة وإقداما وصبرا، وكان فصيحا بليغا، يرتجل الخطبة على البديهة في الساعة الراهنة.

وكان سبب موته ضعف الحرارة الغريزية كما أورده ابن الأثير في (كامله)، فاختلف عليه الأطباء، وقد عهد بالأمر إلى المعز الفاطمي وهو باني القاهرة المعزية كما سيأتي بيانه واسمه، وكان عمره إذ ذلك أربعا وعشرين سنة، وكان شجاعا عاقلا أيضا حازم الرأي، أطاعه من البربر وأهل تلك النواحي خلق كثير، وبعث مولاه جوهر القائد فبنى له القاهرة المتاخمة لمصر، واتخذ له فيها دار الملك، وهما القصران اللذان هناك - اللذان يقال لهما: بين القصرين اليوم - وذلك في سنة أربع وستين وثلاثمائة كما سيأتي.

وممن توفي فيها من الأعيان:

إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح

أبو علي الصفار أحد المحدثين، لقي المبرد واشتهر بصحبته، وكان مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين، وسمع الحسن بن عرفة وعباسا الدوري وغيرهما، وروى عنه جماعة منهم الدارقطني.

وقال: صام أربعة وثمانين رمضانا.

وقد كانت وفاته في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة رحمه الله تعالى.

أحمد بن محمد بن زياد

ابن يونس بن درهم أبو سعيد بن الأعرابي، سكن مكة وصار شيخ الحرم، وصحب الجنيد بن محمد والنوري وغيرهما، وأسند الحديث وصنف كتبا للصوفية.

إسماعيل بن القائم بن المهدي الملقب بالمنصور العبيدي الذي يزعم أنه فاطمي، صاحب بلاد المغرب.

وهو والد المعز باني القاهرة، وهو باني المنصورية ببلاد المغرب.

قال أبو جعفر المروزي: خرجت معه لما كسر أبا يزيد الخاجي، فبينما أنا أسير معه إذ سقط رمحه فنزلت فناولته إياه وذهبت أفاكهه بقول الشاعر:

فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قرّ عينا بالإياب المسافر

فقال: هلا قلت كما قال الله تعالى: { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [الشعراء: 45] .

{ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ** فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ } [الأعراف: 118-119] .

قال: فقلت له: أنت ابن بنت رسول الله ﷺ، قلت ببعض ما علمت، وأنا قلت بما بلغ به أكثر علمي.

قال ابن خلكان: وهذا كما جرى لعبد الملك بن مروان حين أمر الحجاج أن يبني بابا ببيت المقدس ويكتب عليه اسمه، فبنى له بابا وبنى لنفسه بابا آخر، فوقعت صاعقة على باب عبد الملك فأحرقته، فكتب إلى الحجاج بالعراق يسأله عما أهمه من ذلك يقول: ما أنا وأنت إلا كما قال الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ } [المائدة: 27] .

فرضي عنه الخليفة بذلك.

توفي المنصور في هذه السنة من برد شديد والله أعلم.

ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

فيها: دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم، فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر آخرين، وغنم أموالا جزيلة، ورجع سالما غانما.

وفيها: اختلف الحجيج بمكة، ووقعت حروب بين أصحاب ابن طغج وأصحاب معز الدولة، فغلبهم العراقيون وخطبوا لمعز الدولة، ثم بعد انقضاء الحج اختلفوا أيضا فغلبهم العراقيون أيضا، وجرت حروب كثيرة بين الخراسانية والسامانية تقصاها ابن الأثير في (كامله).

وممن توفي فيها من الأعيان:

علي بن محمد بن أبي الفهم

أبو القاسم التنوخي جد القاضي أبي القاسم التنوخي شيخ الخطيب البغدادي، ولد بإنطاكية وقدم بغداد فتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وكان يعرف الكلام على طريقة المعتزلة، ويعرف النجوم ويقول الشعر، ولي القضاء بالأهواز وغيرها، وقد سمع الحديث من البغوي وغيره، وكان فهما ذكيا حفظ وهو ابن خمس عشر سنة قصيدة دعبل الشاعر في ليلة واحدة، وهي ستمائة بيت، وعرضها على أبيه صبيحتها فقام إليه وضمه وقبل بين عينيه وقال: يا بني لا تخبر بهذا أحدا لئلا تصيبك العين.

وذكر ابن خلكان: أنه كان نديما للوزير المهلبي، ووفد على سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وأحسن إليه، وأورد له من شعره أشياء حسنة، فمن ذلك قوله في الخمر:

وراح من الشمس مخلوقة ** بدت لك في قدح من نهار

هواء، ولكنه جامد ** وماء، ولكنه ليس جار

كأن المدير له باليميـ ** ـن إذا مال للفيء أو بالنهار

تدرع ثوبا من الياسميـ ** ـن له برد كم من الجلنار

محمد بن إبراهيم

ابن الحسين بن الحسن بن عبد الخلاق أبو الفرج البغدادي الفقيه الشافعي، يعرف بابن سكره، سكن مصر وحدث بها، وسمع منه أبو الفتح بن مسرور، وذكر أن فيه لينا.

محمد بن موسى بن يعقوب

بن المأمون بن الرشيد هارون أبو بكر، ولي إمرة مكة في سنة ثمان وستين ومائتين، وقدم مصر فحدث بها عن علي بن عبد العزيز البغوي بموطأ مالك.

وكان ثقة مأمونا، توفي بمصر في ذي الحجة منها.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة

فيها: كانت وقعة بين سيف الدولة بن حمدان وبين الدمستق، فقتل خلقا من أصحاب الدمستق، وأسر آخرين في جماعة من رؤوساء بطارقته، وكان في جملة من قتل قسطنطين بن الدمستق، وذلك في ربيع الأول من هذه السنة.

ثم جمع الدمستق خلقا كثيرا فالتقوا مع سيف الدولة في شعبان منها، فجرت بينهم حروب عظيمة وقتال شديد، فكانت الدائرة للمسلمين وخذل الله الكافرين، فقتل منهم خلق كثير، وأسر جماعة من الرؤوساء، وكان منهم صهر الدمستق وابن بنته أيضا.

وفيها: حصل للناس أمراض كثيرة وحمة وأوجاع في الحلق.

وفيها: مات الأمير الحميد بن نوح بن نصر الساماني، صاحب خراسان وما وراء النهر، وقام بالأمر من بعده ولده عبد الملك.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الحسن بن أحمد

أبو علي الكاتب المصري، صحب أبا علي الروذباري وغيره، وكان عثمان المغربي يعظم أمره ويقول: أبو علي الكاتب من السالكين إلى الله.

ومن كلامه الذي حكاه عنه أبو عبد الرحمن السلمي قوله: روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها، ويظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها، وتبدو عليهم وإن ستروها.

وأنشد:

إذا ما استسرت أنفس الناس ذكره ** تبين فيهم وإن لم يتكلموا

تطيبهم أنفاسهم فتذيعها ** وهل سرّ مسك أودع الريح يكتم؟

علي بن محمد بن عقبة بن همام

أبو الحسن الشيباني الكوفي، قدم بغداد فحدث بها عن جماعة وروى عنه الدارقطني.

وكان ثقة عدلا كثير التلاوة فقيها، مكث يشهد على الحكام ثلاثا وسبعين سنة، مقبولا عندهم، وأذن في مسجد حمزة الزيات نيفا وسبعين سنة، وكذلك أبوه من قبله.

محمد بن علي بن أحمد بن العباس

الكرخي الأديب، كان عالما زاهدا ورعا، يختم القرآن كل يوم ويديم الصيام، سمع الحديث من عبدان وأقرانه.

أبو الخير التيناني

العابد الزاهد، أصله من العرب، كان مقيما بقرية يقال لها: تينان، من عمل إنطاكية، ويعرف بالأقطع لأنه كان مقطوع اليد، كان قد عاهد الله عهدا ثم نكثه، فاتفق له أنه مسك مع جماعة من اللصوص في الصحراء وهو هناك سائح يتعبد، فأخذ معهم فقطعت يده معهم، وكانت له أحوال وكرامات، وكان ينسج الخوص بيده الواحدة.

دخل عليه بعض الناس فشاهد منه ذلك فأخذ منه العهد أن لا يخبر به أحدا ما دام حيا، فوفى له بذلك.

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي: فيها شمل الناس ببغداد وواسط وأصبهان والأهواز داء مركب من دم وصفراء ووباء، مات بسبب ذلك خلق كثير، بحيث كان يموت في كل يوم قريب من ألف نفس، وجاء فيها جراد عظيم أكل الخضروات والأشجار والثمار.

وفي المحرم منها عقد معز الدولة لابنه أبي منصور بختيار الأمر من بعده بأمرة الأمراء.

وفيها: خرج رجل من أذربيجان ادعى أنه يعلم الغيب، وكان يحرم اللحم وما يخرج من الحيوانات، فأضافه مرة رجل فجاءه بطعام كشكية بشحم فأكله، فقال له الرجل بحضرة من معه: إنك تدعي أنك تعلم الغيب وهذا طعام فيه شحم وأنت تحرمه فلم لا علمته؟

فتفرق عنه الناس. وفيها: جرت حروب كثيرة بين المعز الفاطمي وبين صاحب الأندلس عبد الرحمن الناصر الأموي، استقصاها ابن الأثير.

وممن توفي فيها من الأعيان:

عثمان بن أحمد

ابن عبد الله بن يزيد أبو عمرو الدقاق المعروف بابن السماك، روى عن حنبل بن إسحاق وغيره، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة ثبتا، كتب المصنفات الكثيرة بخطه، توفي في ربيع الأول منها، ودفن بمقبرة باب التبن، وحضر جنازته خمسون ألفا.

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد

أبو جعفر القاضي السمناني، ولد سنة إحدى وستين ومائتين، وسكن بغداد وحدث بها، وكان ثقة عالما فاضلا سخيا حسن الكلام، عراقي المذهب، وكانت داره مجمع العلماء، ثم ولي قضاء الموصل وتوفي بها في هذه السنة في ربيع الأول منها.

محمد بن أحمد بن بطة بن إسحاق الأصبهاني

أبو عبد الله، سكن نيسابور ثم عاد إلى أصبهان.

وليس هذا بعبد الله بن بطة العكبري، هذا متقدم عليه، هذا شيخ الطبراني وابن بطة الثاني يروي عن الطبراني، وهذا بضم الباب من بطة، وابن بطة الثاني وهو الفقيه الحنبلي بفتحها.

وقد كان جد هذا، وهو ابن بطة بن إسحاق أبو سعيد، من المحدثين أيضا.

ذكره ابن الجوزي في (منتظمه).

محمد بن محمد بن يوسف بن الحجاج

أبو النضر الفقيه الطوسي، كان عالما ثقة عابدا، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتصدق بالفاضل من قوته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رحل في طلب الحديث إلى الأقاليم النائية والبلدان المتباعدة، وكان قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث للنوم، وثلث للتنصيف، وثلث للقراءة.

وقد رآه بعضهم في النوم بعد وفاته فقال له: وصلت إلى ما طلبت؟

فقال: أي والله نحن عند رسول الله ﷺ، وقد عرضت مصنفاتي في الحديث عليه فقبلها.

أبو بكر الحداد

الفقيه الشافعي، هو محمد بن أحمد بن محمد أبو بكر بن الحداد أحد أئمة الشافعية، روى عن النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله عز وجل.

وقد كان ابن الحداد فقيها فروعيا، ومحدثا ونحويا وفصيحا في العبارة، دقيق النظر في الفروع، وله كتاب في ذلك غريب الشكل، وقد ولي القضاء بمصر نيابة عن أبي عبيد بن حربويه.

ذكرناه في طبقات الشافعية.

أبو يعقوب الأذرعي

إسحاق بن إبراهيم بن هاشم بن يعقوب النهدي، قال ابن عساكر: من أهل أذرعات - مدينة بالبلقاء - أحد الثقات من عباد الله الصالحين.

رحل وحدث عنه جماعة من أجل أهل دمشق وعبادها وعلمائها، وقد روى عنه ابن عساكر أشياء تدل على صلاحه وخرق العادة له، فمن ذلك قال: إني سألت الله أن يقبض بصري فعميت، فلما استضررت بالطهارة سألت الله عوده فرده علي.

توفي بدمشق في هذه السنة - سنة أربع وخمسين - وصححه ابن عساكر وقد نيف على التسعين.

ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة

وفيها: عصى الروزبهان على معز الدولة وانحاز إلى الأهواز ولحق به عامة من كان مع المهلبي الذي كان يحاربه، فلما بلغ ذلك معز الدولة لم يصدقه لأنه كان قد أحسن إليه ورفع من قدره بعد الضعة والخمول، ثم تبين له أن ذلك حق، فخرج لقتاله وتبعه الخليفة المطيع لله خوفا من ناصر الدولة بن حمدان فإنه قد بلغه أنه جهز جيشا مع ولده أبي المرجّا جابر إلى بغداد ليأخذها، فأرسل معز الدولة حاجبه سبكتكين إلى بغداد، وصمد معز الدولة إلى الروزبهان فاقتتلوا قتالا شديدا، وهزمه معز الدولة وفرق أصحابه وأخذه أسيرا إلى بغداد فسجنه، ثم أخرجه ليلا وغرقه، لأن الديلم أرادوا إخراجه من السجن قهرا.

وانطوى ذكر روزبهان وإخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار.

وحظيت الأتراك عند معز الدولة وانحطت رتبة الديلم عنده، لأنه ظهر له خيانتهم في أمر الروزبهان وإخوته.

وفيها: دخل سيف الدولة إلى بلاد الروم فقتل وسبى ورجع إلى حلب، فحميت الروم فجمعوا وأقبلوا إلى ميافارقين فقتلوا وسبوا وحرقوا ورجعوا، وركبوا في البحر إلى طرسوس فقتلوا من أهلها ألفا وثمانمائة وسبوا وحرقوا قرى كثيرة.

وفيها: زلزلت همذان زلزالا شديدا تهدمت البيوت وانشق قصر شيرين بصاعقة، ومات تحت الهدم خلق كثير لا يحصون كثرة، ووقعت فتنة عظيمة بين أهل أصبهان وأهل قم بسبب سب الصحابة من أهل قم، فثاروا عليهم أهل أصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ونهبوا أموال التجار، فغضب ركن الدولة لأهل قم، لأنه كان شيعيا، فصادر أهل أصبهان بأموال كثيرة.

وفيها توفي من الأعيان:

غلام ثعلب

محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمرو الزاهد غلام ثعلب، روى عن الكديمي وموسى بن سهل الوشاء وغيرهما، روى عنه جماعة، وآخر من حدث عنه أبو علي بن شاذان وكان كثير العلم والزهد حافظا مطيقا يملي من حفظه شيئا كثيرا، ضابطا لما يحفظه.

ولكثرة إغرابه اتهمه بعض الرواة ورماه بالكذب، وقد اتفق له مع القاضي أبي عمر حكاية - وكان يؤدب ولده - فإنه أملى من حفظه ثلاثين مسألة بشواهدها وأدلتها من لغة العرب، واستشهد على بعضها ببيتين غريبين جدا، فعرضهما القاضي أبو عمر على ابن دريد وابن الأنباري وابن مقسم، فلم يعرفوا منهما شيئا.

حتى قال ابن دريد: هذا ما وضعه أبو عمرو من عنده، فلما جاء أبو عمرو ذكر له القاضي ما قال ابن دريد عنه، فطلب أبو عمرو أن يحضر له من كتبه دواوين العرب.

فلم يزل أبو عمرو يعمد إلى كل مسألة ويأتيه بشاهد بعد شاهد حتى خرج من الثلاثين مسألة ثم قال: وأما البيتان فإن ثعلبا أنشدناهما وأنت حاضر فكتبتهما في دفترك الفلاني، فطلب القاضي دفتره فإذا هما فيه، فلما بلغ ذلك ابن دريد كف لسانه عن أبي عمرو الزاهد فلم يذكره حتى مات.

توفي أبو عمرو هذا يوم الأحد ودفن يوم الاثنين الثالث عشر من ذي القعدة، ودفن في الصفة المقابلة لقبر معروف الكرخي ببغداد رحمه الله.

محمد بن علي بن أحمد بن رستم

أبو بكر المادرائي الكاتب، ولد في سنة خمس وخمسين ومائتين بالعراق، ثم صار إلى مصر هو وأخوه أحمد مع أبيهما، وكان على الخراج لخمارويه بن أحمد بن طولون، ثم صار هذا الرجل من رؤوساء الناس وأكابرهم، سمع الحديث من أحمد بن عبد الجبار وطبقته.

وقد روى الخطيب عنه أنه قال: كان ببابي شيخ كبير من الكتّاب قد تعطل عن وظيفته، فرأيت والدي في المنام وهو يقول: يا بني أما تتقي الله؟أنت مشغول بلذاتك والناس ببابك يهلكون من العرى والجوع، هذا فلان قد تقطع سراويله ولا يقدر على إبداله، فلا تهمل أمره.

فاستيقظت مذعورا وأنا أناوله الإحسان، ثم نمت فأنسيت المنام، فبينا أنا أسير إلى دار الملك، فإذا بذلك الرجل الذي ذكره على دابة ضعيفة، فلما رآني أراد أن يترجل لي فبدا لي فخذه وقد لبس الخف بلا سراويل، فلما رأيت ذلك ذكرت المنام فاستدعيت به وأطلقت له ألف دينار وثياب، ورتبت له على وظيفته مائتي دينار كل شهر، ووعدته بخير في الآجل أيضا.

أحمد بن محمد بن إسماعيل

ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، الشريف الحسني الرسي - أبو القاسم المصري الشاعر - كان نقيب الطالبين بمصر ومن شعره قوله:

قالت: لطيف خيال زارني ومضى ** بالله صفه، ولا تنقص ولا تزد

فقلت: أبصرته لو مات من ظمأ ** وقال: قف لا ترد الماء لم يرد

قالت: صدقت، وفاء الحب عادته ** يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

توفي ليلة الثلاثاء لخمس بقين من هذه السنة.

ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة

فيها: وقعت فتنة بين أهل الكرخ وأهل السنة بسبب السب، فقتل من الفريقين خلق كثير.

وفيها: نقص البحر المالح ثمانين ذراعا.

ويقال: باعا، فبدت به جبال وجزائر وأماكن لم تكن ترى من قبل ذلك.

وفيها: كان بالعراق وبلاد الري والجبل وقم ونحوها زلازل كثيرة مستمرة نحو أربعين يوما، تسكن ثم تعود، فتهدمت بسبب ذلك أبنية كثيرة وغارت مياه كثيرة، ومات خلق كثير.

وفيها: تجهز معز الدولة بن بويه لقتال ناصر الدولة بن حمدان بالموصل، فراسله ناصر الدولة والتزم له بأموال يحملها إليه كل سنة، فسكت عنه، ثم إنه مع ما اشترط على نفسه لم يرجع عنه معز الدولة، بل قصده في السنة الآتية كما سيأتي بيانه.

وفي تشرين منها كثرت في الناس أورام في حلوقهم ومناخرهم، وكثر فيهم موت الفجأة، حتى إن لصا نقب دارا ليدخلها فمات وهو في النقب.

ولبس القاضي خلعة القضاء ليخرج للحكم فلبس إحدى خفيه فمات قبل أن يلبس الأخرى.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن عبد الله بن الحسين

أبو هريرة العذري، المستملي على المشايخ، كتب عن أبي مسلم الكجي وغيره، وكان ثقة توفي في ربيع الأول منها.

الحسن بن خلف بن شاذان

أبو علي الواسطي روى عن إسحاق الأزرق ويزيد بن هارون وغيرهما، وروى عنه البخاري في صحيحه.

توفي في هذه السنة.

هكذا رأيت ابن الجوزي ذكر هذه الترجمة في هذه السنة في (منتظمه)والله أعلم.

أبو العباس الأصم

محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان بن عبد الله الأموي مولاهم أبو العباس الأصم، مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين، رأى الذهلي ولم يسمع ولم يسمع منه، ورحل به أبوه إلى أصبهان ومكة ومصر والشام والجزيرة وبغداد وغيرها من البلاد، فسمع الكثير بها عن الجم الغفير، ثم رجع إلى خراسان وهو ابن ثلاثين سنة، وقد صار محدثا كبيرا، ثم طرأ عليه الصمم فاستحكم حتى كان لا يسمع نهيق الحمار، وكان مؤذنا في مسجده ثلاثين سنة، وحدث ستا وسبعين سنة، فألحق الأحفاد بالأجداد، وكان ثقة صادقا ضابطا لما سمعه ويسمعه، كف بصره قبل موته بشهر، وكان يحدث من حفظه بأربعة عشر حديثا، وسبع حكايات ومات وقد بقي له سنة من المائة.

ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة

فيها: كانت زلزلة ببغداد في شهر نيسان وفي غيرها من البلاد الشرقية، فمات بسببها خلق كثير، وخربت دور كثير، وظهر في آخر نيسان وشهر أيار جراد كثير أتلف الغلات الصيفية والثمار.

ودخلت الروم آمد، وميّا فارقين فقتلوا ألفا وخمسمائة إنسان، وأخذوا مدينة سمساط وأخربوها.

وفي المحرم منها ركب معز الدولة إلى الموصل فأخذها من يد ناصر الدولة، وهرب ناصر الدولة إلى نصيبين، ثم إلى ميا فارقين، فلحقه معز الدولة فصار إلى حلب إلى عند أحيه سيف الدولة، ثم أرسل سيف الدولة إلى معز الدولة في المصالحة بينه وبين أخيه، فوقع الصلح على أن يحمل ناصر الدولة في كل سنة ألفي ألف وتسعمائة ألف، ورجع معز الدولة إلى بغداد بعد انعقاد الصلح، وقد امتلأت البلاد رفضا وسبّا للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصرا وشاما وعراقا وخراسان وغير ذلك من البلاد، كانوا رفضا، وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، فكثر السب والتكفير منهم للصحابة.

وفيها: بعث المعز الفاطمي مولاه أبا الحسن جوهر القائد في جيوش معه ومعه زيري بن هناد الصنهاجي ففتحوا بلادا كثيرة من أقصى بلاد المغرب، حتى انتهوا إلى البحر المحيط، فأمر جوهر بأن يصطاد له منه سمك، فأرسل به في قلال الماء إلى المعز الفاطمي، وحظي عنده جوهر وعظم شأنه حتى صار بمنزلة الوزير.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الزبير بن عبد الرحمن

ابن محمد بن زكريا بن صالح بن إبراهيم.

أبو عبد الله الاستراباذي، رحل وسمع الحديث وطوف الأقاليم، سمع الحسن بن سفيان وابن خزيمة وأبا يعلى وخلقا، وكان حافظا متقنا صدوقا، صنف الشروح والأبواب.

أبو سعيد بن يونس

صاحب تاريخ مصر، هو عبد الرحمن بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري المؤرخ، كان حافظا مكثرا خبيرا بأيام الناس وتواريخهم، له تاريخ مفيد جدا لأهل مصر ومن ورد إليها.

وله ولد يقال له: أبو الحسن علي، كان منجما له زيج مفيد يرجع إليه أصحاب هذا الفن، كما يرجع أصحاب الحديث إلى أقوال أبيه وما يؤرخه وينقله ويحكيه، ولد الصدفي سنة إحدى وثمانين ومائتين، وتوفي في هذه السنة يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة في القاهرة.

ابن درستويه النحوي

عبد الله بن جعفر بن دُرُستويه بن المرزبان أبو محمد الفارسي النحوي سكن بغداد وسمع عباسا الدوري وابن قتيبة والمبرّد، وسمع منه الدارقطني وغيره من الحافظ، وأثنى عليه غير واحد، منهم أبو عبد الله بن منده، توفي في صفر منها، وذكر له ابن خلكان مصنفات كثيرة مفيدة، فيما يتعلق باللغة والنحو وغيره.

محمد بن الحسن

ابن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أبو الحسن القرشي الأموي قاضي بغداد، كان حسن الأخلاق طلابة للحديث، ومع هذا كان ينسب إلى أخذ الرشوة في الأحكام والولايات رحمه الله.

محمد بن علي

أبو عبد الله الهاشمي الخاطب الدمشقي.

وأظنه الذي تنسب إليه حارة الخاطب من نواحي باب الصغير، كان خطيب دمشق في أيام الأخشيد، وكان شابا حسن الوجه مليح الشكل، كامل الخلق.

توفي يوم الجمعة السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وحضر جنازته نائب السلطنة وخلق كثير لا يحصون كثرة، هكذا أرخه ابن عساكر، ودفن بباب الصغير.

ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة

فيها: كانت فتنة بين الرافضة وأهل السنة، قتل فيها خلق كثير، ووقع حريق بباب الطاق، وغرق في دجلة خلق كثير من الحجاج الموصل نحو من ستمائة نفس.

وفيها: دخلت الروم طرسوس والرها وقتلوا وسبوا، وأخذوا الأموال ورجعوا.

وفيها: قلت الأمطار وغلت الأسعار واستسقى الناس فلم يسقوا، وظهر جراد عظيم في آذار فأكل ما نبت من الخضراوات، فاشتد الأمر جدا على الخلق فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وفيها: عاد معز الدولة إلى بغداد من الموصل وزوج ابنته من ابن أخيه مؤيد الدولة بن معز الدولة، وسيرها معه إلى بغداد.

وممن توفي من الأعيان:

إبراهيم بن شيبان القرميسيني

شيخ الصوفية بالجبل، صحب أبا عبد الله المغربي.

ومن جيد كلامه قوله: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وطرد عنه الرغبة في الدنيا.

أبو بكر النجاد

أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس، أبو بكر النجاد الفقيه، أحد أئمة الحنابلة ولد سنة ثلاث وخمسين ومائتين، سمع عبد الله بن أحمد وأبا داود، والباغندي وابن أبي الدنيا وخلقا كثيرا، وكان يطلب الحديث ماشيا حافيا، وقد جمع المسند وصنف في السنن كتابا كبيرا، وكان له بجامع المنصور حلقتان، واحدة للفقه وأخرى لإملاء الحديث.

وحدث عنه الدارقطني وابن رزقويه وابن شاهين وأبو بكر بن مالك القطيعي وغيرهم، وكان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويعزل منه لقمة، فإذا كانت ليلة الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف صحيحا.

توفي ليلة الجمعة لعشرين من ذي الحجة عن خمس وتسعين سنة، ودفن قريبا من قبر بشر الحافي رحمه الله.

جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم

أبو محمد الخواص المعروف بالخلدي، سمع الكثير وحدث كثيرا، وحج ستين حجة، وكان ثقة صدوقا دينا.

محمد بن إبراهيم بن يوسف بن محمد

أبو عمر الزجاج النيسابوري، صحب أبا عثمان والجنيد والنوري والخواص وغيرهم، وأقام بمكة وكان شيخ الصوفية بها، وحج ستين حجة، ويقال: إنه مكث أربعين سنة لم يتغوط ولم يبل إلا خارج الحرم بمكة.

محمد بن جعفر بن محمد بن فضالة

ابن يزيد بن عبد الملك أبو بكر الأدمي، صاحب الألحان، كان حسن الصوت بتلاوة القرآن وربما سمع صوته من بعد في الليل، وحج مرة مع أبي القاسم البغوي، فلما كانوا بالمدينة دخلوا المسجد النبوي فوجدوا شيخا أعمى يقص على الناس أخبارا موضوعة مكذوبة، فقال البغوي: ينبغي الإنكار عليه.

فقال له بعض أصحابه: إنك لست ببغداد يعرفك الناس إذا أنكرت عليه، ومن يعرفك هنا قليل والجمع كثير، ولكن نرى أن تأمر أبا بكر الأدمي فيقرأ، فأمره فاستفتح فقرأ فلم يتم الاستعاذة حتى انجفل الناس عن ذلك الأعمى وتركوه، وجاؤوا إلى أبي بكر ولم يبق عند الضرير أحد، فأخذ الأعمى بيد قائده وقال له: اذهب بنا فهكذا تزول النعم.

توفي في الأربعاء لليلتين بقيتا من ربيع الأول من هذه السنة، عن ثمان وثمانين سنة، وقد رآه بعضهم في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟

قال: وقفني بين يديه وقاسيت شدائد وأهوالا.

فقلت له: فتلك القراءة الحسنة وذلك الصوت الحسن وتلك المواقف؟

فقال: ما كان شيء أضر علي من ذلك، لأنها كانت للدنيا.

فقلت: إلى أي شيء انتهى أمرك؟

فقال: قال الله عز وجل: آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين.

أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي

ابن الحسن بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المصري، كان من ساداتها وكبرائها، لا تزال الحلوى تعقد بداره، ولا يزال رجل يكسر اللوز بسببها، وللناس عليه رواتب من الحلوى، فمنهم من يهدي إليه كل يوم، ومنهم في الجمعة، ومنهم في الشهر.

وكان لكافرو الأخشيد عليه في كل يوم جامان ورغيف من الحلوى، ولما قدم المعز الفاطمي إلى القاهرة وتلقاه سأله: إلى من ينتسب مولانا من أهل البيت؟

فقال: الجواب إلى أهل البلد، فلما دخل القصر جمع الأشارف وسلّ نصف سيفه وقال: هذا نسبي، ثم نثر عليهم الذهب وقال: هذا حسبي.

فقالوا: سمعنا وأطعنا.

والصحيح أن القائل للمعز هذا الكلام ابن هذا أو شريف آخر فالله أعلم.

فإن وفاة هذا كانت في هذا العام عن ثنتين وستين سنة، والمعز إنما قدم مصر في سنة ثنتين وستين وثلاثمائة كما سيأتي.

ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة

فيها: ظهر رجل بأذربيجان من أولاد عيسى بن المكتفي بالله فلقب بالمتسجير بالله ودعا إلى الرضا من آل محمد، وذلك لفساد دولة المرزبان في ذلك الزمان، فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم أصحاب المستجير وأخذ أسيرا فمات، واضمحل أمره.

وفيها: دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم فقتل من أهلها خلقا كثيرا، وفتح حصونا، وأحرق بلدانا كثيرة، وسبى وغنم وكر راجعا، فأخذت الروم عليه فمنعوه من الرجوع ووضعوا السيف في أصحابه فما نجا هو في ثلاثمائة فارس إلا بعد جهد جهيد.

وفيها: كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة قتل فيها خلق كثير، وفي أخرها توفي أنوجور بن الأخشيد صاحب مصر، فأقام بالأمر بعده أخوه علي.

وفيها: مات أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي الذي كان صاحب الأهواز وواسط.

وفيها: رجع حجيج مصر من مكة فنزلوا واديا، فجاءهم سيل فأخذهم فألقاهم في البحر عن آخرهم.

وفيها: أسلم من الترك مائتا ألف خركاة فسموا ترك إيمان، ثم خفف اللفظ بذلك فقيل: تركمان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

جعفر بن حرب الكاتب

كانت له نعمة وثروة عظيمة تقارب أبهة الوزارة، فاجتاز يوما وهو راكب في موكب له عظيم، فسمع رجلا يقرأ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } [الحديد: 16] .

فصاح: اللهم بلى، وكررها دفعات ثم بكى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه وطرحها ودخل دجلة، فاستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرّق جميع أمواله في المظالم التي كانت عليه، وردها إلى أهلها، وتصدق بالباقي ولم يبق له شيء بالكلية، فاجتاز به رجل فتصدق عليه بثوبين فلبسهما، وخرج فانقطع إلى العلم والعبادة حتى مات رحمه الله.

أبو علي الحافظ

ابن علي بن يزيد بن داود أبو علي الحافظ النيسابوري، أحد أئمة الحفاظ المتقنين المصنفين.

قال الدارقطني: كان إماما مهذبا.

وكان ابن عقدة لا يتواضع لأحد كتواضعه له.

توفي في جمادى الآخرة عن اثنتين وخمسين سنة.

حسان بن محمد بن أحمد بن مروان

أبو الوليد القرشي الشافعي إمام أهل الحديث بخراسان في زمانه، وأزهدهم وأعبدهم، أخذ الفقه عن ابن سريج وسمع الحديث من الحسن بن سفيان وغيره، وله التصانيف المفيدة، وقد ذكرنا ترجمته في الشافعيين.

كانت وفاته ليلة الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول من هذه السنة، عن ثنتين وسبعين سنة.

حمد بن إبراهيم بن الخطاب

أبو سليمان الخطابي، سمع الكثير وصنف التصانيف الحسان، منها (المعالم) شرح فيها سنن أبي داود، (والأعلام) شرح فيه البخاري، و(غريب الحديث).

وله فهم مليح وعلم غزير ومعرفة باللغة والمعاني والفقه.

ومن أشعاره قوله:

ما دمت حيا فدار الناس كلهم ** فإنما أنت في دار المداراة

من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى ** عما قليل نديما للندامات

هكذا ترجمه أبو الفرج بن الجوزي حرفا بحرف.

عبد الواحد بن عمر بن محمد

ابن أبي هاشم، كان من أعلم الناس بحروف القراءات، وله في ذلك مصنفات، وكان من الأمناء الثقات، روى عن ابن مجاهد وأبي بكر بن أبي داود، وعنه أبو الحسن الحماني، توفي في شوال منها، ودفن بمقبرة الخيزران.

أبو أحمد العسال

الحافظ محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن محمد أبو أحمد العسال الأصبهاني، أحد الأئمة الحفاظ وأكابر العلماء، سمع الحديث وحدث به.

قال ابن منده: كتبت عن ألف شيخ لم أر أفهم ولا أتقن من أبي أحمد العسال.

توفي في رمضان منها رحمه الله، والله سبحانه أعلم.

ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة

في المحرم منها مرض معز الدولة بن بويه بانحصار البول، فقلق من ذلك وجمع بين صاحبه سبكتكين ووزيره المهلبي وأصلح بينهما ووصاهما بولده بختيار خيرا، ثم عوفي من ذلك فعزم على الرحيل إلى الأهواز لاعتقاده أن ما أصابه من هذه العلة بسبب هواء بغداد ومائها، فأشاروا عليه بالمقام بها، وأن يبني بها دارا في أعلاها حيث الهواء أرق والماء أصفى، فبنى له دارا غرم عليه ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج لذلك أن يصادر بعض أصحابه، ويقال: أنفق عليها ألفي ألف دينار، ومات وهو يبني فيها ولم يسكنها، وقد خرب أشياء كثيرة من معالم الخلفاء ببغداد في بنائها.

وكان مما خرب المعشوق من سر من رأى، وقلع الأبواب الحديد التي على مدينة المنصور والرصافة وقصورها، وحولها إلى داره هذه، لا تمت فرحته بها، فإنه كان رافضيا خبيثا.

وفيها: مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبد الله وقبضت أملاكه، وولى بعده القضاء أبو عبد الله الحسين بن أبي الشوارب، وضمن أن يؤدي في كل سنة إلى معز الدولة مائتي ألف درهم، فخلع عليه معز الدولة وسار ومعه الدبابات والبوقات إلى منزله، وهو أول من ضمن القضاء ورشى عليه والله أعلم.

ولم يأذن له الخليفة المطيع لله في الحضور عنده ولا في حضور الموكب من أجل ذلك غضبا عليه، ثم ضمن معز الدولة الشرطة وضمن الحسبة أيضا.

وفيها: سار قفل من أنطاكية يريدون طرسوس، وفيهم نائب أنطاكية، فثار عليهم الفرنج فأخذوهم عن بكرة أبيهم، فلم يفلت منهم سوى النائب جريحا في مواضع من بدنه.

وفيها: دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم فقتل وسبى وغنم ورجع سالما.

وفيها توفي الأمير:

نوح بن عبد الملك الساماني

صاحب خراسان وغزنة وما وراء النهر، سقط عن فرسه فمات، فقام بالأمر من بعده أخوه منصور بن نوح الساماني.

وفيها توفي:

الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي

صاحب الأندلس، وكانت خلافته خمسين سنة وستة أشهر، وله من العمر يوم مات ثلاث وسبعون سنة، وترك أحد عشر ولدا، كان أبيض حسن الوجه عظيم الجسم طويل الظهر قصير الساقين، وهو أول من تلقب بأمير المؤمنين من أولاد الأمويين الداخلين إلى المغرب، وذلك حين بلغه ضعف الخلفاء بالعراق، وتغلب الفاطميين، فتلقب قبل موته بثلاث وعشرين سنة.

ولما توفي قام بالأمر من بعده ولده الحكم وتلقب بالمنتصر، وكان الناصر شافعي المذهب ناسكا شاعرا، ولا يعرف في الخلفاء أطول مدة منه، فإنه أقام خليفة خمسين سنة، إلا الفاطمي المستنصر بن الحاكم الفاطمي صاحب مصر، فإنه مكث ستين كما سيأتي ذلك.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو سهل بن زياد القطان

أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد أبو سهل القطان، كان ثقة حافظا كثير التلاوة للقرآن، حسن الانتزاع للمعاني من القرآن، فمن ذلك: أنه استدل على تكفير المعتزلة بقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } [آل عمران: 156] .

إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن بيان أبو محمد الحطبي

سمع الحديث من ابن أبي أسامة و عبد الله بن أحمد والكوكبي وغيرهم، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة حافظا فاضلا نبيلا عارفا بأيام الناس، وله تاريخ مرتب على السنين، وكان أدبيا لبيبا عاقلا صدوقا، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، عن إحدى وثمانين سنة.

أحمد بن محمد بن سعيد

ابن عبيد الله بن أحمد بن سعيد بن أبي مريم أبو بكر القرشي الوراق، ويعرف بابن فطيس، وكان حسن الكتابة مشهورا بها، وكان يكتب الحديث لابن جوصا، ترجمه ابن عساكر وأرخ وفاته بثاني شوال من هذه السنة.

تمام بن محمد بن عباس

ابن عبد المطلب أبو بكر الهاشمي العباسي، حدث عن عبد الله بن أحمد، وعنه ابن رزقويه، توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.

الحسين بن القاسم

أبو علي الطبري الفقيه الشافعي، أحد الأئمة المحررين في الخلاف، وهو أول من صنف فيه، وله (الإيضاح في المذهب)، وكتاب في الجدل، وفي أصول الفقه وغير ذلك من المصنفات، وقد ذكرناه في الطبقات.

عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم

ابن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور الهاشمي الإمام، ويعرف بابن بويه، ولد سنة ثلاث وستين ومائتين، روى عن ابن أبي الدنيا وغيره، وعنه ابن رزقويه، وكان خطيبا بجامع المنصور مدة طويلة، وقد خطب فيه سنة ثلاثين وثلاثمائة وقبلها تمام سنة، ثم خطب فيه الواثق سنة ثلاثين ومائتين وهما في النسب إلى المنصور سواء.

توفي في صفر منها.

عتبة بن عبد الله

بن موسى بن عبد الله أبو السائب القاضي الهمذاني الشافعي، كان فاضلا بارعا، ولي القضاء، وكان فيه تخليط في الأمور، وقد رآه بعضهم بعد موته فقال: ما فعل الله بك؟

قال: غفر لي وأمر بي إلى الجنة على ما كان مني من التخليط، وقال لي: إني كتبت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين.

وهذا الرجل أول من ولي قضاء القضاة ببغداد من الشافعية والله أعلم.

محمد بن أحمد بن حيان

أبو بكر الدهقان، بغدادي، سكن بخارى وحدث بها عن يحيى بن أبي طالب، والحسن بن مكرم وغيرهما، وتوفي عن سبع وثمانين سنة.

أبو علي الخازن

توفي في شعبان منها فوجد في داره من الدفائن وعند الناس من الودائع ما قارب أربعمائة ألف دينار، والله أعلم.

ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة

فيها: كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق ملك الروم لعنه الله، في مائتي ألف مقاتل، وكان سبب ذلك: أنه ورد إليها بغتة فنهض إليه سيف الدولة بن حمدان بمن حضر عنده من المقاتلة، فلم يقو به لكثرة جنوده، وقتل من أصحاب سيف الدولة خلقا كثيرا، وكان سيف الدولة قليل الصبر ففرّ منهزما في نفر يسير من أصحابه.

فأول ما استفتح به الدمستق قبحه الله أن استخوذ على دار سيف الدولة، وكانت ظاهر حلب، فأخذ ما فيها من الأموال العظيمة والحواصل الكثيرة، والعدد وآلات الحرب، أخذ من ذلك ما لا يحصى كثرة، وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم.

ثم حاصر سور حلب فقاتل أهل البلد دونه قتالا عظيما، وقتلوا خلقا كثيرا من الروم، وثلمت الروم بسور حلب ثلمة عظيمة، فوقف فيها الروم فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلما جنّ الليل جد المسلمون في إعادتها فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت، وحفظوا السور حفظا عظيما.

ثم بلغ المسلمون أن الشرط والبلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم قبحهم الله، فإنهم أهل شر وفساد، فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فعلوه ودخلوا البلد يقتلون من لقوه، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا وانتهبوا الأموال وأخذوا الأولاد والنساء.

وخلصوا من كان بأيدي المسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفا وأربعمائة، فأخذ الأسارى السيوف وقاتلوا المسلمين، وكانوا أضر على المسلمين من قومهم، وأسروا نحوا من بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية، ومن النساء شيئا كثيرا، ومن الرجال الشباب ألفين، وخربوا المساجد وأحرقوها، وصبوا في جباب الزيت الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض، وأهلكوا كل شيء قدروا عليه، وكل شيء لا يقدرون على حمله أحرقوه.

وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل الفاسدة العظيمة، كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشرط في البلد قاتلهم الله.

وكذلك حاكمهم ابن حمدان كان رافضيا يحب الشيعة ويبغض أهل السنة، فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب، ثم عزم الدمستق على الرحيل عنهم خوفا من سيف الدولة، فقال له ابن أخيه: أين تذهب وتدع القلعة وأموال الناس غالبها فيها ونساؤهم؟

فقال له الدمستق: إنا قد بلغنا فوق ما كنا نأمل، وإن بها مقاتلة ورجالا غزاة.

فقال له: لا بد لنا منها.

فقال له: اذهب إليها، فصعد إليها في جيش ليحاصرها فرموه بحجر فقتلوه في الساعة الراهنة من بين الجيش كله، فغضب عند ذلك الدمستق وأمر بإحضار من في يديه من أسارى المسلمين، وكانوا قريبا من ألفين فضربت أعناقهم بين يديه لعنه الله.

ثم كر راجعا وقد دخلوا عين زربة قبل ذلك في المحرم من هذه السنة، فأستأمنه أهلها فأمنهم وأمر بأن يدخلوا كلهم المسجد ومن بقي في منزله قتل، فصاروا إلى المسجد كلهم ثم قال: لا يبقين أحد من أهلها اليوم إلا ذهب حيث شاء، ومن تأخر قتل.

فازدحموا في خروجهم من المسجد فمات كثير منهم، وخرجوا على وجوههم لا يدرون أين يذهبون، فمات في الطرقات منهم خلق كثير.

ثم هدم الجامع وكسر المنبر وقطع من حول البلد أربعين ألف نخلة، وهدم سور البلد والمنازل المشار إليها، وفتح حولها أربعة وخمسين حصنا بعضها بالسيف وبعضها بالأمان، وقتل الملعون خلقا كثيرا، وكان في جملة من أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان نائب منبج من جهة سيف الدولة، وكان شاعرا مطيقا، له ديوان شعر حسن، وكان مدة مقامه بعين زربة إحدى وعشرين يوما.

ثم سار إلى قيسرية فلقيه أربعة آلاف من أهل طرسوس مع نائبها ابن الزيات، فقتل أكثرهم وأدركه صوم النصارى فاشتغل به حتى فرغ منه، ثم هجم على حلب بغتة، وكان من أمره ما ذكرناه.

وفيها: كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد: لعنة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكتبوا أيضا: ولعن الله من غصب فاطمة حقها، وكانوا يلعنون أبا بكر ومن أخرج العباس من الشورى - يعنون عمر - ومن نفى أبا ذر - يعنون عثمان - رضي الله عن الصحابة، وعلى من لعنهم لعنة الله، ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده - يعنون مروان بن الحكم -.

ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكره ولم يغيره، ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه: لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين، والتصريح باسم معاوية في اللعن، فأمر بكتب ذلك، قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون.

وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم وتركهم أنبياءهم وعلمائهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام، وكان فيهم الرفض وغيره، استحوذ الفرنج على سواحل الشام بلاد الشام كلها، حتى بيت المقدس، ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل وغيرها مع الفرنج، والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع.

والناس معهم في حصر عظيم، وضيق من الدين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء.

وفيها: وقعت فتنة عظيمة بين أهل البصرة بسبب السب أيضا، قتل فيها خلق كثير وجم غفير.

وفيها: أعاد سيف الدولة بن حمدان بناء عين زربة، وبعث مولاه نجا فدخل بلاد الروم، فقتل منها خلقا كثيرا وسبى جما غفيرا، وغنم وسلم.

وبعث حاجبه مع جيش طرسوس فدخلوا بلاد الروم فغنموا وسبوا ورجعوا سالمين.

وفيها: فتح المعز الفاطمي حصن طبرمين من بلاد المغرب - وكان من أحصن بلاد الفرنج - فتحه قسرا بعد محاصرة سبعة أشهر ونصف، وقصد الفرنج جزيرة إقريطش فاستنجد أهلها المعز، فأرسل إليهم جيشا فانتصروا على الفرنج ولله الحمد والمنة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الحسن بن محمد بن هارون

المهلبي الوزير لمعز الدولة بن بويه، مكث وزيرا له ثلاث عشرة سنة، وكان فيه حلم وكرم وأناة، حكى أبو إسحاق الصابي قال: كنت يوما عنده وقد جيء بدواة قد صنعت له ومرفع قد حليا له بحلية كثيرة، فقال أبو محمد الفضل بن عبد الله الشيرازي - سرا بيني وبينه -: ما كان أحوجني إليها لأبيعها وأنتفع بها.

قلت: وأي شيء ينتفع الوزير بها؟

فقال: تدخل في خزانتها.

فسمعها الوزير - وكان مصغ لنا ولا نشعر - فلما أمسى بعث بالدواة إلى أبي محمد الشيرازي ومرفعها وعشرة ثياب وخمسة آلاف درهم، واصطنع له غيرها.

فاجتمعنا يوما آخر عنده وهو يوقع من تلك الدواة الجديدة، فنظر إلينا فقال: من يريدها منكما؟

قال: فاستحيينا وعلمنا أنه قد سمع كلامنا ذلك اليوم، وقلنا: يمتع الله الوزير بها ويبقيه ليهب لنا مثلها.

توفي المهلبي في هذه السنة عن أربع وستين سنة.

دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبد الرحمن

أبو محمد السجستاني المعدل، سمع بخراسان وحلوان وبغداد والبصرة والكوفة ومكة، وكان من ذوي اليسار والمشهورين بالبر والأفضال، وله صدقات جارية، وأوقاف دارة دائرة على أهل الحديث ببغداد وسجستان.

كانت له دار عظيمة ببغداد، وكان يقول: ليس في الدنيا مثل بغداد، ولا في بغداد مثل القطيعة، ولا في القطيعة مثل دار أبي خلف، ولا في دار أبي خلف مثل داري.

وصنف الدارقطني له مسندا.

وكان إذا شك في حديث طرحه جملة، وكان الدارقطني يقول: ليس في مشايخنا أثبت منه، وقد أنفق في ذوي العلم والحاجات أموالا جزيلة كثيرة جدا.

اقترض منه بعض التجار عشرة آلاف دينار، فاتجر بها، فربح في مدة ثلاث سنين ثلاثين ألف دينار، فعزل منها عشرة آلاف دينار وجاءه بها فأضافه دعلج ضيافة حسنة، فلما فرغ من شأنها قال له: ما شأنك؟

قال له: هذه العشرة آلاف دينار التي تفضلت بها، قد أحضرت.

فقال: يا سبحان الله، إني لم أعطكها لتردها فصل بها الأهل.

فقال: إني قد ربحت بها ثلاثين ألف دينار فهذه منها.

فقال له دعلج: اذهب بارك الله لك.

فقال له: كيف يتسع ما لك هذا؟ومن أين أفدت هذا المال؟

قال: إني كنت في حداثة سني أطلب الحديث، فجاءني رجل تاجر من أهل البحر فدفع إلي ألف ألف درهم، وقال: اتجر في هذه، فما كان من ربح فبيني وبينك، وما كان من خسارة فعلي دونك، وعليك عهد الله وميثاقه إن وجدت ذا حاجة أو خلة إلا سددتها من مالي هذا دون مالك، ثم جاءني فقال: إني أريد الركوب في البحر فإن هلكت فالمال في يدك على ما شرطت عليك.

فهو في يدي على ما قال.

ثم قال لي: لا تخبر بها أحدا مدة حياتي، فلم أخبر به أحدا حتى مات.

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن أربع أو خمس وتسعين سنة، رحمه الله.

عبد الباقي بن قانع

ابن مرزوق أبو الحسن الأموي مولاهم، سمع الحارث بن أسامة، وعنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة أمينا حافظا، ولكنه تغير في آخر عمره.

قال الدارقطني: كان يخطئ ويصر على الخطأ، توفي في شوال منها.

أبو بكر النقاش المفسر

محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون بن جعفر، أبو بكر النقاش المفسر المقرئ، مولى أبي دُجانة سمِاك بن خَرَشة، أصله من الموصل، كان عالما بالتفسير وبالقراءات، وسمع الكثير في بلدان شتى عن خلق من المشايخ، وحدث عنه أبو بكر بن مجاهد والخلدي وابن شاهين وابن زرقويه وخلق، وآخر من حدث عنه ابن شاذان، وتفرد بأشياء منكرة، وقد وثقه الدارقطني على كثير من خطئه ثم رجع عن ذلك، وصرح بعضهم بتكذيبه والله أعلم.

وله كتاب التفسير الذي سماه (شفاء الصدور) وقال بعضهم: بل هو سقام الصدور، وقد كان رجلا صالحا في نفسه عابدا ناسكا، حكى من حضره وهو يجود بنفسه وهو يدعو بدعاء ثم رفع صوته يقول: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات: 61] . يرددها ثلاث مرات ثم خرجت روحه رحمه الله.

توفي يوم الثلاثاء الثاني من شوال منها ودفن بداره بدار القطن.

محمد بن سعيد أبو بكر الحربي الزاهد، ويعرف بابن الضرير، كان ثقة صالحا عابدا.

ومن كلامه: دافعت الشهوات حتى صارت شهوتي المدافعة.

ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم من هذه السنة أمر معز الدولة بن بويه قبحه الله أن تغلق الأسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر، وأن يخرجن في الأسواق حاسرات عن وجههن، ناشرات شعورهم يلطمن وجوههن ينحن على الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يمكن أهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم، وكون السلطان معهم.

وفي عشر ذي الحجة منها أمر معز الدولة بن بويه بإظهار الزينة في بغداد، وأن تفتح الأسواق بالليل كما في الأعياد، وأن تضرب الدبادب والبوقات، وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط، فرحا بعيد الغدير - غدير حم - فكان وقتا عجيبا مشهودا، وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة.

وفيها: أغارت الروم على الرها، فقتلوا وأسروا ورجعوا موقرين، ثم ثارت الروم بملكهم فقتلوه وولوا غيره، ومات الدمستق أيضا ملك الأرمن واسمه النقفور، وهو الذي أخذ حلب وعمل فيها ما عمل، وولوا غيره.

ترجمة النقفور ملك الأرمن واسمه الدمستق

الذي توفي في سنة ثنتين -وقيل خمس وقيل ست -وخمسين وثلاثمائة لا رحمه الله.

كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبا، وأشدهم كفرا، وأقواهم بأسا، وأحدهم شوكة، وأكثرهم قتلا وقتالا للمسلمين في زمانه، استحوذ في أيامه لعنه الله على كثير من السواحل، وأكثرها انتزعها من أيدي المسلمين قسرا، واستمرت في يديه قهرا، وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا.

وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان، وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم، وفشو البدع فيهم، وكثرة الرفض والتشيع منهم، وقهر أهل السنة بينهم، فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام، فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد، فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الأعداء وطوارق الشرور المترادفة، فالله المستعان.

وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين، وجال فيها جولة، ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة ففتحها اللعين عنوة، وقتل من أهلها الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله، وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب، وأخذ أموالها وحواصلها وعددها وبدد شملها، وفرق عددها، واستفحل أمر الملعون بها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وبالغ في الاجتهاد في قتال الإسلام وأهله، وجدّ في التشمير، فالحكم لله العلي الكبير.

وقد كان لعنه الله لا يدخل في بلد إلا قتل المقاتلة وبقية الرجال، وسبى النساء والأطفال، وجعل جامعها اصطبلا لخيوله، وكسر منابرها، واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله.

ولم يزل ذلك دأبه وديدنه حتى سلط الله عليه زوجته فقتلته بجواريها في وسط مسكنه.

وأراح الله منه الإسلام وأهله، وأزاح عنهم قيام ذلك الغمام ومزق شمله، فلله النعمة والأفضال، وله الحمد على كل حال.

واتفق في سنة وفاته موت صاحب القسطنطينية.

فتكاملت المسرات وخلصت الأمنية، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتذهب السيئات، وبرحمته تغفر الزلات.

والمقصود أن هذا اللعين - أعني النقفور الملقب بالدمستق ملك الأرمن - كان قد أرسل قصيدة إلى الخليفة المطيع لله، نظمها له بعض كتّابه ممن كان قد خذله الله وأذله، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وصرفه عن الإسلام وأصله، يفتخر فيها بهذا اللعين ويتعرض لسب الإسلام والمسلمين، ويتوعد فيها أهل حوزة الإسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين، عما قريب من الأعوام، وهو أقل وأذل وأخس وأضل من الأنعام، ويزعم أنه ينتصر لدين المسيح عليه السلام ابن البتول.

وربما يعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والإكرام، ودوام الصلاة مدى الأيام.

ولم يبلغني عن أحد من أهل ذلك العصر أنه رد علبه جوابه، إما لأنها لم تشتهر، وإما لأنه أقل من أن يردوا خطابه لأنه كالمعاند الجاحد.

ونفس ناظمها تدل على أنه شيطان مارد، وقد انتخى للجواب عنها بعد ذلك أبو محمد بن حزم الظاهري: فأفاد وأجاد، وأجاب عن كل فصل باطل بالصواب والسداد، فبلّ الله بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه.

وها أنا أذكر القصيدة الأرمنية المخذولة الملعونة، وأتبعها بالفريدة الإسلامية المنصورة الميمونة.

قال المرتد الكافر الأرمني على لسان ملكه لعنهما الله وأهل ملتهم أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين آمين يا رب العالمين.

ومن خط ابن عساكر كتبتها، وقد نقلوها من كتاب صلة الصلة للفرغاني:

من الملك الطهر المسيحي مالك ** إلى خلف الأملاك من آل هاشم

إلى الملك الفضيل المطيع أخي العلا ** ومن يرتجى للمعضلات العظائم

أما سمعت أذناك ما أنا صانع ** ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم

فإن تك عما قد تقلدت نائما ** فإني عما همني غير نائم

ثغوركم لم يبق فيها - لوهنكم ** وضعفكم - إلا رسوم المعالم

فتحنا الثغور الأرمنية كلها ** بفتيان صدق كالليوث الضراغم

ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها ** وتبلغ منها قضمها للشكائم

إلى كل ثغر بالجزيرة آهل ** إلى جند قنسرينكم فالعواصم

ملطية مع سميساط من بعد كركر ** وفي البحر أضعاف الفتوح التواخم

وبالحدث الحمراء جالت عساكري ** وكيسوم بعد الجعفري للمعالم

وكم قد ذللنا من أعزة أهلها ** فصاروا لنا من بين عبد وخادم

وسد سروج إذ خربنا بجمعنا ** لنا رتبة تعلوا على كل قائم

وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا ** بمنديل مولى علا عن وصف آدمي

وصبح رأس العين منا بطارق ** ببيض غزوناها بضرب الجماجم

ودارا وميافارقين وأزرنا ** أذقناهم بالخيل طعم العلاقم

واقريطش قد جازت إليها مراكبي ** على ظهر بحر مزبد متلاطم

فحزتهم أسرى وسقيت نساؤهم ** ذوات الشعور المسبلات النواعم

هناك فتحنا عين زربة عنوة ** نعم وأبدنا كل طاغ وظالم

إلى حلب حتى استبحنا حريمها ** وهدم منها سورها كل هادم

أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم ** وصبيانهم مثل المماليك خادم

وقد فر عنها سيف دولة دينكم ** وناصركم منا على رغم راغم

وملنا على طرسوس ميلة حازم ** أذقنا لمن فيها لحزّ الحلاقم

فكم ذات عز حرة علوية ** منعمة الأطراف ريا المعاصم

سبينا فسقنا خاضعات حواسرا ** بغير مهور، لا ولا حكم حاكم

وكم من قتيل قد تركنا مجندلا ** يصب دما بين اللها واللهازم

وكم وقعة في الدرب أفنت كماتكم ** وسقناهم قسرا كوسق البهائم

وملنا على أرياحكم وحريمها ** مدوخة تحت العجاج السواهم

فأهوت أعاليها وبدل رسمها ** من الأنس وحشا بعد بيض نواعم

إذا صاح فيها البوم جاوبه الصدى ** وأتبعه في الربع نوح الحمائم

وإنطاك لم تبعد علي وإنني ** سأفتحها يوما بهتك المحارم

ومسكن آبائي دمشق فإنني ** سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي

ومصر سأفتحها بسيفي عنوة ** وآخذ أموالا بها وبهائمي

وأجزي كافورا بما يستحقه ** بمشط ومقراض وقص محاجم

ألا شمروا يا أهل حمدان شمروا ** أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم

فإن تهربوا تنجوا كراما وتسلموا ** من الملك الصادي بقتل المسالم

كذاك نصيبين وموصلها إلى ** جزيرة آبائي وملك الأقادم

سأفتح سامرا وكوثا وعكبرا ** وتكريتها مع ماردين العواصم

وأقتل أهليها الرجال بأسرها ** وأغنم أموالا بها وحرائم

ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم ** فكلكم مستضعف غير رائم

رضيتم بحكم الديلمي ورفضه ** فصرتم عبيدا للعبيد الديالم

ويا قاطني الرملات ويلكم ارجعوا ** إلى أرض صنعا راعيين البهائم

وعودوا إلى أرض الحجاز أذلة ** وخلوا بلاد الروم أهل المكارم

سألقي جيوشا نحو بغداد سائرا ** إلى باب طاق حيث دار القماقم

وأحرق أعلاها وأهدم سورها ** وأسبي ذراريها على رغم راغم

وأحرز أموالا بها وأسرّة ** وأقتل من فيها بسيف النقائم

وأسري بجيشي نحو الأهواز مسرعا ** لإحراز ديباج وخزّ السواسم

وأشعلها نهبا وأهدم قصورها ** وأسبي ذراريها كفعل الأقادم

ومنها إلى شيراز والري فاعلموا ** خراسان قصري والجيوش بحارم

إلى شاس بلخ بعدها وخواتها ** وفرغانة مع مروها والمخازم

وسابور أهدمها وأهدم حصونها ** وأوردها يوما كيوم السمائم

وكرمان لا أنسى سجستان كلها ** وكابلها النائي وملك الأعاجم

أسير بجندي نحو بصرتها التي ** لها بحر عجاج رائع متلازم

إلي واسط وسط العراق وكوفة ** كما كان يوما جندنا ذو العزائم

وأخرج منها نحو مكة مسرعا ** أجر جيوشا كالليالي السواجم

فأملكها دهرا عزيزا مسلما ** أقيم بها للحق كرسي عالم

وأحوي نجدا كلها وتهامها ** وسرا واتهام مذحج وقحاطم

وأغزو يمانا كلها وزبيدها ** وصنعاءها مع صعدة والتهائم

فاتركها أيضا خرابا بلاقعا ** خلاء من الأهلين أهل نعائم

وأحوي أموال اليمانين كلها ** وما جمع القرماط يوم محارم

أعود إلى القدس التي شرفت بنا ** بعز مكين ثابت الأصل قائم

وأعلو سريري للسجود معظما ** وتبقى ملوك الأرض مثل الخوادم

هنالك تخلو الأرض من كل مسلم ** لكل نقي الدين أغلف زاعم

نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم ** وأعلنتمو بالمنكرات العظائم

قضاتكم باعوا القضاء بدينهم ** كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم

عدو لكم بالزور يشهد ظاهرا ** وبالإفك والبرطيل مع كل قائم

سأفتح أرض الله شرقا ومغربا ** وأنشر دينا للصليب بصارمي

فعيسى علا فوق السموات عرشه ** يفوز الذي والاه يوم التخاصم

وصاحبكم بالتراب أودى به الثرى ** فصار رفاتا بين تلك الرمائم

تناولتم أصحابه بعد موته ** بسبّ وقذف وانتهاك المحارم

هذا آخرها لعن الله ناظمها وأسكنه النار، { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر: 52] ويوم يدعو ناظمها ثبورا ويصلى نارا سعيرا، { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا ** يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانا خَلِيلا ** لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولا } [الفرقان: 27-29] .

إن كان مات كافرا.

وهذا جوابها لأبي محمد بن حزم الفقيه الظاهري الأندلسي قالها ارتجالا حين بلغته هذه الملعونة غضبا لله ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك من رآه، فرحمه الله وأكرم مثواه وغفر له خطاياه.

من المحتمي بالله رب العوالم ** ودين رسول الله من آل هاشم

محمد الهادي إلى الله بالتقى ** وبالرشد والإسلام أفضل قائم

عليه من الله السلام مرددا ** إلى أن يوافي الحشر كل العوالم

إلى قائل بالإفك جهلا وضلة ** عن النقفور المفتري في الأعاجم

دعوت إماما ليس من أمرائه ** بكفيه إلا كالرسوم الطواسم

دهته الدواهي في خلافته كما ** دهت قبله الأملاك دهم الدواهم

ولا عجب من نكبة أو ملمة ** تصيب الكريم الجدود الأكارم

ولو أنه في حال ماضي جدوده ** لجرعتم منه سموم الأراقم

عسى عطفة لله في أهل دينه ** تجدد منه دارسات المعالم

فخرتم بما لو كان فيكم حقيقة ** لكان بفضل الله أحكم حاكم

إذن لاعترتكم خجلة عند ذكره ** وأخرس منكم كل فاه مخاصم

سلبناكم كرا ففزتم بغرة ** من الكر أفعال الضعاف العزائم

فطرتم سرورا عند ذاك ونسوة **كفعل المهين الناقص المتعالم

وما ذاك إلا في تضاعيف عقله ** عريقا وصرف الدهر جم الملاحم

ولما تنازعنا الأمور تخاذلا ** ودانت لأهل الجهل دولة ظالم

وقد شعلت فينا الخلائف فتنة ** لعبدانهم مع تركهم والدلائم

بكفر أياديهم وجحد حقوقهم ** بمن رفعوه من حضيض البهائم

وثبتم على أطرافنا عند ذاكم ** وثوب لصوص عند غفلة نائم

ألم تنتزع منكم بأعظم قوة ** جميع بلاد الشام ضربة لازم

ومصرا وأرض القيروان بأسرها ** وأندلسا قسرا بضرب الجماجم

ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا ** صقلية في بحرها المتلاطم

مشاهد تقديساتكم وبيوتها ** لنا وبأيدينا على رغم راغم

أما بيت لحم والقمامة بعدها ** بأيدي رجال المسلمين الأعاظم

وسر كيسكم قسرا برغم أنوفكم ** وكرسيكم في القدس في أدرثاكم

ضممناكم قسرا برغم أنوفكم ** وكرسي قسطنطينية في المعادم

ولا بد من عود الجميع بأسره ** إلينا بعز قاهر متعاظم

أليس يزيد حل وسط دياركم ** على باب قسطنطينية بالصورام

ومسلمة قد داسها بعد ذاكم ** بجيش تهام قد دوى بالضراغم

وأخدمكم بالذل مسجدنا الذي ** بنى فيكم في عصره المتقادم

إلى جنب قصر الملك من دار ملككم ** ألا هذه حق صرامة صارم

وأدى لهارون الرشيد مليككم ** رفادة مغلوب وجزية غارم

سلبناكم مصرا شهود بقوة ** حبانا بها الرحمن أرحم راحم

إلى بيت يعقوب وأرباب دومة ** إلى لجة البحر المحيط المحاوم

فهل سرتم في أرضنا قط جمعة ** أبى لله ذا كم يا بقايا الهزائم

فما لكم إلا الأماني وحدها ** بضائع نوكي تلك أحلام نائم

رويدا بعد نحو الخلافة نورها ** وسفر مغير وجوه الهواشم

وحينئذ تدرون كيف قراركم ** إذا صدمتكم خيل جيش مصادم

على سالف العادات منا ومنكم ** ليالي بهم في عداد الغنائم

سبيتم سبايا يحصر العد دونها ** وسبيكم فينا كقطر الغمائم

فلو رام خلق عدها رام معجزا ** وأني بتعداد لرش الحمائم

بأبناء بني حمدان وكافور صلتم ** أراذل أنجاس قصار المعاصم

دعي وحجام سطوتهم عليهما ** وما قدر مصاص دماء المحاجم

فهلا على دميانة قبل ذاك أو ** على محل أربا رماة الضراغم

ليالي قادوكم كما اقتادكم ** أقيال جرجان بحز الحلاقم

وساقوا على رسل بنات ملوككم ** سبايا كما سيقت ظباء الصرائم

ولكن سلوا عنا هرقلا ومن خلى ** لكم من ملوك مكرمين قماقم

يخبركم عنا التنوخ وقيصر ** وكم قد سبينا من نساء كرائم

وعما فتحنا من منيع بلادكم ** وعما أقمنا فيكم من مآتم

ودع كل نذل مفتر لا تعده ** إماما ولا الدعوى له بالتقادم

فهيهات سامرا وتكريت منكم ** إلى جبل تلكم أماني هائم

منى يتمناها الضعيف ودونها ** نظائرها... وحز الغلاصم

تريدون بغداد سوقا جديدة ** مسيرة شهر للفنيق القواصم

محلة أهل الزهد والعلم والتقى ** ومنزلة يختارها كل عالم

دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها ** من المسلمين الغر كل مقاوم

ودون دمشق جمع جيش كأنه ** سحائب طير ينتحي بالقوادم

وضرب يلقي الكفر كل مذلة ** كما ضرب السكي بيض الدراهم

ومن دون أكناف الحجاز جحافل ** كقطر الغيوم الهائلات السواحم

بها من بني عدنان كل سميدع ** ومن حي قحطان كرام العمائم

ولو قد لقيتم من قضاعة كبة ** لقيتم ضراما في يبيس الهشائم

إذا أصبحوكم ذكروكم بما خلا ** لهم معكم من صادق متلاحم

زمان يقودون الصوافن نحوكم ** فجئتم ضمانا أنكم في الغنائم

سيأتيكم منهم قريبا عصائب ** تنسيكم تذكار أخذ العواصم

وأموالكم حل لهم ودماؤكم ** بها يشتفي حر الصدور الحوايم

وأراضيكم حقا سيقتسمونها ** كما فعلوا دهرا بعدل المقاسم

ولو طرقتكم من خراسان عصبة ** وشيراز والري الملاح القوائم

لما كان منكم عند ذلك غير ما ** عهدنا لكم ذل وعض الأباهم

فقد طالما زاروكم في دياركم ** مسيرة عام بالخيول الصوادم

فأما سجستان وكرمان بالـ ** ـأولى وكابل حلوان بلاد المراهم

وفي فارس والسوس جمع عرمرم ** وفي أصبهان كل أروع عارم

فلوا قد أتاكم جمعهم لغدوتم ** فرائس كالآساد فوق البهائم

وبالبصرة الغراء والكوفة التي ** سمت وبآدي واسط بالعظائم

جموع تسامى الرمل عدا وكثرة ** فما أحد عادوه منه بسالم

ومن دون بيت الله في مكة التي ** حباها بمجد للبرايا مراحم

محل جميع الأرض منها تيقنا ** محلة سفل الخف من فص خاتم

دفاع من الرحمن عنها بحقها ** فما هو عنها رد طرف برائم

بها وقع الأحبوش هلكى وفيلهم ** بحصباء طير في ذرى الجو حائم

وجمع كجمع البحر ماض عرمرم ** حمى بنية البطحاء ذات المحارم

ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة ** جموع كمسود من الليل فاحم

يقودهم جيش الملائكة العلى ** دفاعا ودفعا عن مصل وصائم

فلو قد لقيناكم لعدتم رمائما ** كما فرق الإعصار عظم البهائم

وباليمن الممنوع فتيان غارة ** إذا ما لقوكم كنتم كالمطاعم

وفي جانبي أرض اليمامة عصبة ** معاذر أمجاد طوال البراجم

نستفينكم والقرمطيين دولة ** تقووا بميمون التقية حازم

خليفة حق ينصر الدين حكمه ** ولا يتقي في الله لومة لائم

إلى ولد العباس تنمي جدوده ** بفخر عميم مزبد الموج فاعم

ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم ** فاهلاّ بماضي منهم وبقادم

محلهم في مسجد القدس أو لدى ** منازل بغداد محل المكارم

وإن كان من عليا عدي وتيمها ** ومن أسد هذا الصلاح الحضارم

فاهلا وسهلا ثم نعمى ومرحبا ** بهم من خيار سالفين أقادم

هم نصروا الإسلام نصرا مؤزرا ** وهم فتحوا البلدان فتح المراغم

رويدا فوعد الله بالصدق وارد ** بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم

سنفتح قسطنطينية وذواتها ** ونجعلكم فوق النسور القعاشم

ونفتح أرض الصين والهند عنوة ** بجيش لأرض الترك والخزر حاطم

مواعيد للرحمن فينا صحيحة ** وليست كآمال العقول السواقم

ونملك أقصى أرضكم وبلادكم ** ونلزمكم ذل الحرّ أو الغارم

إلى أن ترى الإسلام قد عم حكمه ** جميع الأراضي بالجيوش الصوارم

أتقرن يا مخذول دينا مثلثا ** بعيدا عن المعقول بادي المآثم

تدين لمخلوق يدين لغيره ** فيا لك سحقا ليس بخفي لعالم

أنا جيلكم مصنوعة قد تشابهت ** كلام الأولى فيها أتوا بالعظائم

وعود صليب ما تزالون سجدا ** له يا عقول الهاملات السوائم

تدينون تضلالا بصلب إلهكم ** بأيدي يهود أرذلين لائم

إلى ملة الإسلام توحيد ربنا ** فما دين ذي دين لها بمقاوم

وصدق رسالات الذي جاء بالهدى ** محمد الآتي برفع المظالم

وأذعنت الأملاك طوعا لدينه ** ببرهان صدق طاهر في المواسم

كما دان في صنعاء مالك دولة ** وأهل عمان حيث رهط الجهاضم

وسائر أملاك اليمانين أسلموا ** ومن بلد البحرين قوم اللهازم

أجابوا لدين الله لا من مخافة ** ولا رغبة يحظى بها كف عادم

فحلوا عرى التيجان طوعا ورغبة ** بحق يقين بالبراهين فاحم

وحاباه بالنصر المكين إلهه ** وصير من عاداه تحت المناسم

فقير وحيد لم تعنه عشيرة ** ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم

ولا عنده مال عتيد لناصر ** ولا دفع مرهوب ولا لمسالم

ولا وعد الأنصار مالا يخصم ** بلى كان معصوما لأقدر عاصم

ولم تنهنهه قط قوة آسر ** ولا مكنت من جسمه يد ظالم

كما يفتري إفكا وزورا وضلة ** على وجهه عيسى منكم كل لاطم

على أنكم قد قلتموا هو ربكم ** فيالضلال في القيامة عائم

أبى لله أن يدعى له ابن و صاحب ** ستلقى دعاة الكفر حالة نادم

ولكنه عبد نبي رسول مكرم ** من الناس مخلوق ولا قول زاعم

أيلطم وجه الرب تبا لدينكم ** لقد فقتم في قولكم كل ظالم

وكم آية أبدى النبي محمد ** وكم علم أبداه للشرك حاطم

تساوى جميع الناس في نصر حقه ** بل لكل في إعطائه حال خادم

فعرب وأحبوش وفرس وبربر ** وكرديهم قد فاز قدح المراحم

وقبط وأنباط وخزر وديلم ** و روم رموكم دونه بالقواصم

أبوا كفر أسلاف لهم فتمنعوا ** فآبوا بحظ في السعادة لازم

به دخلوا في ملة الحق كلهم ** ودانوا لأحكام الإله اللوازم

به صح تفسير المنام الذي أتى ** به دانيال قبله حتم حاتم

وهند وسند أسلموا وتدينوا ** بدين الهدى رفض لدين الأعاجم

وشق له بدر السموات آية ** وأشبع من صاع له كل طاعم

وسالت عيون الماء في وسط كفه ** فأروى به جيشا كثيرا هماهم

وجاء بما تقضي العقول بصدقه ** ولا كدعاء غير ذات قوائم

عليه سلام الله ماذر شارق ** تعقبه ظلماء أسحم قاتم

براهينه كالشمس لا مثل قولكم ** وتخليطكم في جوهر وأقائم

لنا كل علم من قديم ومحدث ** وأنتم حمير داميات المحازم

أتيتم بشعر بارد متخاذل ** ضعيف معاني النظم جم البلاعم

فدونكها كالعقد فيه زمرد ** ودر وياقوت بإحكام حاكم

وفيها: عزل ابن أبي الشوارب عن القضاء ونقضت سجلاته وأبطلت أحكامه مدة أيامه، وولي القضاء عوضه أبو بشر عمر بن أكتم بن رزق، ورفع عنه ما كان يحمله ابن أبي الشوارب في كل سنة.

وفي ذي الحجة منها استسقى الناس لتأخر المطر - وذلك في كانون الثاني - فلم يسقوا.

وحكى ابن الجوزي في (المنتظم) عن ثابت بن سنان المؤرخ قال: حدثني جماعة ممن أثق بهم أن بعض بطارقة الأرمن أنفذ في سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة إلى ناصر الدولة بن حمدان رجلين من الأرمن ملتصقين سنهما خمس وعشرون سنة، ملتحمين ومعهما أبوهما، ولهما سرتان وبطنان ومعدتان وجوعهما وريهما يختلفان، وكان أحدهما يميل إلى النساء، والآخر يميل إلى الغلمان، وكان يقع بينهما خصومة وتشاجر، وربما يحلف الآخر لا يكلم الآخر فيمكث كذلك أياما ثم يصطلحان.

وهبهما ناصر الدولة ألفي درهم وخلع عليهما ودعاهما إلى الإسلام، فيقال: إنهما أسلما.

وأراد أن يبعثهما إلى بغداد ليراهما الناس ثم رجع عن ذلك، ثم إنهما رجعا إلى بلدهما مع أبيهما فاعتلّ أحدهما ومات، وأنتن ريحه وبقي الآخر لا يمكنه التخلص منه، وقد كان اتصال ما بينهما من الخاصرتين، وقد كان ناصر الدولة أراد فصل أحدهما عن الآخر وجمع الأطباء لذلك فلم يمكن، فلما مات أحدهما حار أبوهما في فصله عن أخيه فاتفق اعتلال الآخر من غمه ونتن أخيه فمات غما فدفنا جميعا في قبر واحد.

وممن توفي فيها من الأعيان:

عمر بن أكتم بن أحمد بن حيان بن بشر أبو بشر الأسدي

ولد سنة أربع وثمانين ومائتين، وولي القضاء في زمن المطيع نيابة عن أبي السائب عتبة بن عبيد الله، ثم ولي قضاء القضاة، وهو أول من ولي قضاء القضاة من الشافعية سوى أبي السائب، وكان جيد السيرة في القضاء، توفي في ربيع الأول منها.

ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم منها عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية، فاقتتل الروافض وأهل السنة في هذا اليوم قتالا شديدا، وانتهبت الأموال.

وفيها: عصى نجا غلام سيف الدولة عليه، وذلك أنه كان في العام الماضي قد صادر أهل حران وأخذ منهم أموالا جزيلة، فتمرد بها وذهب إلى أذربيجان وأخذ طائفة منها من يد رجل من الأعراب يقال له: أبو الورد، فقتله وأخذ من أمواله شيئا كثيرا، وقويت شوكته بسبب ذلك، فسار إليه سيف الدولة فأخذه وأمر بقتله فقتل بين يديه، وألقيت جثته في الأقذار.

وفيها: جاء الدمستق إلى المصيصة فحاصرها وثقب سورها، فدافعه أهلها فأحرق رستاقها، وقتل ممن حولها خمسة عشر ألفا وعاثوا فسادا في بلاد أذنة وطرسوس، وكرّ راجعا إلى بلاده.

وفيها: قصد معز الدولة الموصل وجزيرة ابن عمر فأخذ الموصل وأقام بها، فراسله في الصلح صاحبها فاصطلحا على أن يكون الحمل في كل سنة، وأن يكون أبو تغلب بن ناصر الدولة ولي عهد أبيه من بعده، فأجاب معز الدولة إلى ذلك، وكرّ راجعا إلى بغداد بعد ما جرت له خطوب كثيرة استقصاها ابن الأثير.

وفيها: ظهر رجل ببلاد الديلم وهو أبو عبد الله محمد بن الحسين من أولاد الحسين بن علي، ويعرف بابن الداعي، فالتف عليه خلق كثير، ودعا إلى نفسه وتسمى بالمهدي، وكان أصله من بغداد وعظم شأنه بتلك البلاد، وهرب منه ابن الناصر العلوي.

وفيها: قصد ملك الروم وفي صحبته الدمستق ملك الأرمن بلاد طرسوس فحاصرها مدة، ثم غلت عليهم الأسعار وأخذهم الوباء فمات كثير منهم، فكروا راجعين { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّا عَزِيزا } [الأحزاب: 25] .

وكان من عزمهم يريدون أن يستحوذوا على البلاد الإسلامية كلها، وذلك لسوء حكامها وفساد عقائدهم في الصحابة، فسلم الله ورجعوا خائبين.

وفيها: كانت وقعة المختار ببلاد صقلية، وذلك أنه أقبل من الروم خلق كثير، ومن الفرنج ما يقارب مائة ألف، فبعث أهل صقلية إلى المعز الفاطمي يستنجدونه، فبعث إليهم جيوشا كثيرة في الأسطول، وكانت بين المسلمين والمشركين وقعة عظيمة صبر فيها الفريقان من أول النهار إلى العصر، ثم قتل أمير الروم (مويل).

وفرت الروم وانهزموا هزيمة قبيحة، فقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا، وسقط الفرنج في واد من الماء عميق فغرق أكثرهم وركب الباقون في المراكب، فبعث الأمير أحمد صاحب صقلية في آثارهم مراكب أخر فقتلوا أكثرهم في البحر أيضا، وغنموا في هذه الغزوة كثيرا من الأموال والحيوانات والأمتعة والأسلحة، فكان في جملة ذلك سيف مكتوب عليه: (هذا سيف هندي زنته مائة وسبعون مثقالا، طالما قوتل به بين يدي رسول الله ﷺ)، فبعثوا به في جملة تحف إلى المعز الفاطمي إلى إفريقية.

وفيها: قصدت القرامطة مدينة طبرية ليأخذوها من يد الأخشيد صاحب مصر والشام، وطلبوا من سيف الدولة أن يمدهم بحديد يتخذون منه سلاحا، فقلع لهم أبواب الرقة - وكانت من حديد صامت - وأخذ لهم من حديد الناس حتى أخذ أواقي الباعة والأسواق، وأرسل بذلك كله إليهم، فأرسلوا إليه يقولون: اكتفينا.

وفيها: طلب معز الدولة من الخليفة أن يأذن له في دخول دار الخلافة ليتفرج فيها فأذن له فدخلها، فبعث الخليفة خادمه وصاحبه معه فطافوا بها وهو مسرع خائف، ثم خرج منها وقد خاف من غائلة ذلك وخشي أن يقتل في دهاليزها، فتصدق بعشرة آلاف لما خرج شكرا لله على سلامته، وازداد حبا في الخليفة المطيع من يومئذ.

وكان في جملة ما رأى فيها من العجائب: صنم من نحاس على صورة امرأة حسناء جدا، وحولها أصنام صغار في هيئة الخدم لها كان قد أتي بها في زمن المقتدر فأقيمت هناك ليتفرج عليها الجواري والنساء، فهم معز الدولة أن يطلبه من الخليفة ثم ارتأى فترك ذلك.

وفي ذي الحجة منها خرج رجل بالكوفة فادعى أنه علوي، وكان يتبرقع فسمي المتبرقع وغلظت فتنته وبعد صيته، وذلك في غيبة معز الدولة عن بغداد واشتغاله بأمر الموصل كما تقدم، فلما رجع إلى بغداد اختفى المتبرقع وذهب في البلاد فلم ينتج له أمر بعد ذلك.

وممن توفي فيها من الأعيان:

بكار بن أحمد

ابن بكار بن بيان بن بكار بن درستويه بن عيسى المقري، روى الحديث عن عبد الله بن أحمد، و عنه أبو الحسن الحماني، وكان ثقة أقرأ القرآن أزيد من ستين سنة رحمه الله.

توفي في ربيع الأول منها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين، ودفن بمقبرة الخيزران عند قبر أبي حنيفة.

أبو إسحاق الجهمي

ولد سنة خمسين ومائتين، وسمع الحديث وكان إذا سئل أن يحدث يقسم أن لا يحدث حتى يجاوز المائة فأبر الله قسمه وجاوزها فأسمع، توفي عن مائة سنة وثلاثين سنة رحمه الله.

ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مآتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل، وغلقت الأسواق وعلقت المسوح، وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن، ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين، وهذا تكلف لا حاجة إليه في الإسلام، ولو كان هذا أمرا محمودا لفعله خير القرون وصدر هذه الأمة وخيرتها وهم أولى به { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [الأحقاف: 11] .

وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون، ثم تسلطت أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض وقتلوا بعض من كان فيه من القومة.

وفيها: في رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى المصيصة فأخذها قسرا وقتل من أهلها خلقا، واستاق بقيتهم معه أسارى، وكانوا قريبا من مائتي ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم جاء إلى طرسوس فسأل أهلها منه الأمان فأمنهم وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها، واتخذ مسجدها الأعظم اسطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده، وتنصر أهلها معه لعنه الله.

وكان أهل طرسوس والمصيصة قد أصابهم قبل ذلك بلاء وغلاء عظيم، ووباء شديد، بحيث كان يموت منهم في اليوم الواحد ثمانمائة نفر، ثم دهمهم هذا الأمر الشديد فانتقلوا من شهادة إلى شهاد أعظم منها.

وعزم ملك الروم على المقام بطرسوس ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين، ثم عنّ له فسار إلى القسطنطينية وفي خدمته الدمستق ملك الأرمن لعنه الله.

وفيها: جعل أمر تسفير الحجيج إلى نقيب الطالبين وهو أبو أحمد الحسن بن موسى الموسوي، وهو والد الرضى والمرتضى، وكتب له منشور بالنقابة والحجيج.

وفيها: توفيت أخت معز الدولة، فركب الخليفة في طيارة وجاء لعزائه فقبّل معز الدولة الأرض بين يديه وشكر سعيه إليه، وصدقاته عليه.

وفي ثاني عشر ذي الحجة منها عملت الروافض عيد غدير خم على العادة الجارية كما تقدم.

وفيها: تغلب على إنطاكية رجل يقال له: رشيق النسيمي، بمساعدة رجل يقال له: ابن الأهوازي، وكان يضمن الطواحين، فأعطاه أموالا عظيمة وأطمعه في أخذ إنطاكية، وأخبره أن سيف الدولة قد اشتغل عنه بميا فارقين وعجز عن الرجوع إلى حلب، ثم تم لهما ماراماه من أخذ إنطاكية.

ثم ركبا منها في جيوش إلى حلب فجرت بينهما وبين نائب سيف الدولة حروب عظيمة، ثم أخذ البلد وتحصن النائب بالقلعة وجاءته نجدة من سيف الدولة مع غلام له اسمه بشارة، فانهزم رشيق فسقط عن فرسه فابتدره بعض الأعراب فقتله وأخذ رأسه وجاء به إلى حلب، واستقل ابن الأهوازي سائرا إلى إنطاكية، فأقام رجلا من الروم اسمه دزبر فسماه الأمير، وأقام آخر من العلويين ليجعله خليفة وسماه الأستاذ.

فقصده نائب حلب وهو قرعويه فاقتتلا قتالا شديدا فهزمه ابن الأهوازي واستقر بإنطاكية، فلما عاد سيف الدولة إلى حلب لم يبت بها إلا ليلة واحدة حتى سار إلى إنطاكية، فالتقاه ابن الأهوازي فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم دزبر وابن الأهوازي وأسرا فقتلهما سيف الدولة.

وفيها: ثار رجل من القرامطة اسمه مروان كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة، صار بحمص فملكها وما حولها، فقصده جيش من حلب مع الأمير بدر فاقتتلوا معه فرماه بدر بسهم مسموم فأصابه، واتفق أن أسر أصحاب مروان بدرا فقتله مروان بين يديه صبرا، ومات مروان بعد أيام وتفرق عنه أصحابه.

وفيها: عصى أهل سجستان أميرهم خلف بن أحمد، وذلك أنه حج في سنة ثلاث وخمسين واستخلف عليهم طاهر بن الحسين، فطمع في الملك بعده واستمال أهل البلد، فلما رجع من الحج لم يسلمه البلد وعصي عليه، فذهب إلى بخارا إلى الأمير منصور بن نوح الساماني فاستنجده، فبعث معه جيشا فاستنقذ البلد من طاهر وسلمها إلى الأمير خلف بن أحمد - وقد كان خلف عالما محبا للعلماء - فذهب طاهر فجمع جموعا ثم جاء فحاصر خلفا وأخذ منه البلد.

فرجع خلف إلى الأمير منصور الساماني فبعث معه من استرجع له البلد ثانية وسلمها إليه، فلما استقر خلف بها وتمكن منها منع ما كان يحمله من الهدايا والتحف والخلع إلى الأمير منصور الساماني ببخارا، فبعث إليه جيشا فتحصن خلف في حصن يقال له: حصن إراك، فنازله الجيش فيه تسع سنين لم يقدروا عليه، وذلك لمناعة هذا الحصن وصعوبته وعمق خندقه وارتفاعه، وسيأتي ما آل إليه أمر خلف بعد ذلك.

وفيها: قصدت طائفة من الترك بلاد الخزر فاستنجد أهل الخزر بأهل خوارزم فقالوا لهم: لو أسلمتم لنصرناكم.

فأسلموا إلا ملكهم، فقاتلوا معهم الترك فأجلوهم عنها ثم أسلم الملك بعد ذلك ولله الحمد والمنة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

المتنبي الشاعر المشهور

أحمد بن الحسين بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي الشاعر المعروف بالمتنبي، كان أبوه يعرف بعيدان السقا وكان يسقي الماء لأهل الكوفة على بعير له، وكان شيخا كبيرا.

وعيدان هذا قال ابن ماكولا والخطيب: هو بكسر العين المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت، وقيل: بفتح العين لا كسرها، فالله أعلم.

كان مولد المتنبي بالكوفة سنة ست وثلاثمائة، ونشأ بالشام بالبادية فطلب الأدب ففاق أهل زمانه فيه، ولزم جناب سيف الدولة بن حمدان وامتدحه وحظي عنده، ثم صار إلى مصر وامتدح الأخشيد ثم هجاه وهرب منه، وورد بغداد فامتدح بعض أهلها، وقدم الكوفة ومدح ابن العميد فوصله من جهته ثلاثون ألف دينار، ثم سار إلى فارس فامتدح عضد الدولة بن بويه فأطلق له أموالا جزيلة تقارب مائتي ألف درهم، وقيل: بل حصل له منه نحو من ثلاثين ألف دينار، ثم دس إليه من يسأله أيما أحسن عطايا عضد الدولة بن بويه أو عطايا سيف الدولة بن حمدان؟

فقال: هذه أجزل وفيها تكلف، وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها، لأنها عن طبيعة وهذه عن تكلف.

فذكر ذلك لعضد الدولة فتغيظ عليه ودس عليه طائفة من الأعراب فوقفوا له في أثناء الطريق وهو راجع إلى بغداد، ويقال: إنه كان قد هجى مقدمهم ابن فاتك الأسدي - وقد كانوا يقطعون الطريق - فلهذا أوعز إليهم عضد الدولة أن يتعرضوا له فيقتلوه ويأخذوا له ما معه من الأموال، فانتهوا إليه ستون راكبا في يوم الأربعاء وقد بقي من رمضان ثلاثة أيام، وقيل: بل قتل في يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان، وقيل: بل كان ذلك في شعبان.

وقد نزل عند عين تحت شجرة انجاص، وقد وضعت سفرته ليتغدى، ومعه ولده محسن وخمسة عشر غلاما له، فلما رآهم قال: هلموا يا وجوه العرب إلى الغداء.

فلما لم يكلموه أحس بالشر فنهض إلى سلاحه وخيله فتواقفوا ساعة فقتل ابنه محسن وبعض غلمانه وأراد هو أن ينهزم.

فقال له مولى له: أين تذهب وأنت القائل:

فالخيل والليل والبيداء تعرفني ** والطعن والضرب والقرطاس والقلم

فقال له: ويحك قتلتني، ثم كر راجعا فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله.

ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه وأخذوا جميع ما معه، وذلك بالقرب من النعمانية، وهو آيب إلى بغداد، ودفن هناك وله من العمر ثمان وأربعون سنة.

وذكر ابن عساكر أنه لما نزل تلك المنزلة التي كانت قبل منزلته التي قتل بها، سأله بعض الأعراب أن يعطيهم خمسين درهما ويخفرونه، فمنعه الشح والكبر ودعوى الشجاعة من ذلك.

وقد كان المتنبي جعفي النسب صلبيبة منهم، وقد ادّعى حين كان مع بني كلب بأرض السماوة قريبا من حمص أنه علوي، ثم ادّعى أنه نبي يوحى إليه، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم، وزعم أنه أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله:

(والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي خسار، امض على سنتك و اقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه، وضل عن سبيله)

وهذا من خذلانه وكثرة هذيانه وفشاره، ولو لزم قافية مدحه النافق بالنفاق، والهجاء بالكذب والشقاق، لكان أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء، ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب العالمين الذي لو اجتمعت الجن والإنس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سورة لما استطاعوا.

ولما اشتهر خبره بأرض السماوة وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الأخشيد وهو الأمير لؤلؤ بيض الله وجهه، فقاتله وشرد شمله، وأسر مذموما مدحورا، وسجن دهرا طويلا، فمرض في السجن وأشرف على التلف، فاستحضره واستتابه وكتب عليه كتابا اعترف فيه ببطلان ما ادّعاه من النبوة، وأنه قد تاب من ذلك ورجع إلى دين الإسلام، فأطلق الأمير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وإلا اعتذر منه واستحيا.

وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الإفك والبهتان، وهي لفظة المتنبي، الدالة على الكذب ولله الحمد والمنة.

وقد قال بعضهم يهجوه:

أي فضل لشاعر يطلب الـ ** ـفضل من الناس بكرة وعشيا

عاش حينا يبيع في الكوفة الما ** ء وحينا يبيع ماء المحيا

وللمتنبي ديوان شعر مشهور، فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة، بل مبتكرة شائقة.

وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في المتقدمين، وهو عندي كما ذكر من له خبرة بهذه الأشياء مع تقدم أمره.

وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في (منتظمه) قطعا رائقة استحسنها من شعره، وكذلك الحافظ ابن عساكر شيخ إقليمه، فمما استحسنه ابن الجوزي قوله:

عزيزا سبى من داؤه الحدق النجل ** عياء به مات المحبون من قبل

فمن شاء فلينظر إلي فمنظري ** نذير إلى من ظن أن الهوى سهل

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ** فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

ومن جسدي لم يترك السقم شعرة ** فما فوقها إلا وفا له فعل

كأن رقيبا منك سد مسامعي ** عن العذل حتى ليس يدخلها العذل

كأن سهاد الليل يعشق مقلتي ** فبينهما في كل هجر لنا وصل

ومن ذلك قوله:

كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ** في ليلة فأرت ليالي أربعا

واستقبلت قمر السماء بوجهها ** فأرتني القمرين في وقت معا

ومن ذلك قوله:

ما نال أهل الجاهلية كلهم ** شعري ولا سمعت بسحري بابل

وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الشهادة لي بأني كامل

من لي بفهم أهيل عصر يدعي ** أن يحسب الهندي منهم باقل

ومن ذلك قوله:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ** عدوا له ما من صداقته بد

وله:

وإذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسام

وله:

ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت ** على عينيه يرى صدقها كذبا

وله:

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وله في مدح بعض الملوك:

تمضي الكواكب والأبصار شاخصة ** منها إلى الملك الميمون طائره

قد حزن في بشر في تاجه قمر ** في درعه أسد تدمى أظافره

حلو خلائقه شوس حقائقه ** يحصى الحصى قبل أن تحصى ماثره

ومنها قوله:

يا من ألوذ به فيما أؤمله ** ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ** ولا يهيضون عظما أنت جابره

وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى.

وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من الذلّ والخضوع.

ومما أورده ابن عساكر للمتنبي في ترجمته قوله:

أبعين مفتقر إليك رأيتني ** فأهنتني وقدفتني من حالقي

لست الملوم، أنا الملوم، لأنني ** أنزلت آمالي بغير الخالق

قال ابن خلكان: وهذان البيتان ليسافي ديوانه، وقد عزاهما الحافظ الكندي إليه بسند صحيح.

ومن ذلك قوله:

إذا ما كنت في شرف مروم ** فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير ** كطعم الموت في أمر عظيم

وله قوله:

وما أنا بالباغي على الحب رشوة ** قبيح هوى يرجى عليه ثواب

إذا نلت منك الود فالكل هين ** وكل الذي فوق التراب تراب

وقد تقدم أنه ولد بالكوفة سنة ست وثلاثمائة، وأنه قتل في رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.

قال ابن خلكان: وقد فارق سيف الدولة بن حمدان سنة أربع وخمسين لما كان من ابن خالويه إليه ما كان من ضربه إياه بمفتاح في وجهه فأدماه، فصار إلى مصر فامتدح كافور الأخشيد وأقام عنده أربع سنين، وكان المتنبي يركب في جماعة من مماليكه فتوهم منه كافور فجأة، فخاف المتنبي فهرب، فأرسل في طلبه فأعجزه، فقيل لكافور: ما هذا حتى تخافه؟

فقال: هذا رجل أراد أن يكون نبيا بعد محمد، أفلا يروم أن يكون ملكا بديار مصر؟والملك أقل وأذل من النبوة.

ثم صار المتنبي إلى عضد الدولة فامتدحه فأعطاه مالا كثيرا، ثم رجع من عنده فعرض له فاتك ابن أبي الجهل الأسدي فقتله وابنه محسن وغلامه مفلح يوم الأربعاء لست بقين من رمضان وقيل لليلتين، بسواد بغداد، وقد رثاه الشعراء، وقد شرح ديوانه العلماء بالشعر واللغة نحوا من ستين شرحا وجيزا وبسيطا.

وممن توفي فيها من الأعيان: أبو حاتم البستي صاحب الصحيح.

محمد بن حبان

ابن أحمد بن حبان بن معاذ أبو حاتم البستي صاحب الأنواع والتقاسيم، وأحد الحفاظ الكبار المصنفين المجتهدين، رحل إلى البلدان وسمع الكثير من المشايخ، ثم ولي قضاء بلده ومات بها في هذه السنة وقد حاول بعضهم الكلام فيه من جهة معتقده ونسبه إلى القول بأن النبوة مكتسبة، وهي نزعة فلسفية والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عنه.

وقد ذكرته في طبقات الشافعية.

محمد بن الحسن بن يعقوب

ابن الحسن بن الحسين بن مقسم أبو بكر بن مقسم المقري، ولد سنة خمس ومائتين، وسمع الكثير من المشايخ، روى عن الدارقطني وغيره، وكان من أعرف الناس بالقراءات، وله كتاب في النحو على طريقة الكوفيين، سماه (كتاب الأنوار).

قال ابن الجوزي: ما رأيت مثله، وله تصانيف غيره، ولكن تكلم الناس فيه بسبب تفرده بقراءات لا تجوز عند الجميع، وكان يذهب إلى أن كل ما لا يخالف الرسم ويسوغ من حيث المعنى تجوز القراءة به كقوله تعالى: { فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّا } [يوسف: 80] أي: يتناجون.

قال: لو قرئ نجيبا من النجابة لكان قويا.

وقد ادعي عليه وكتب عليه مكتوب أنه قد رجع عن مثل ذلك، ومع هذا لم ينته عما كان يذهب إليه حتى مات.

قاله ابن الجوزي.

محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد ربه

ابن موسى أبو بكر الشافعي، ولد بجبلان سنة ستين ومائتين، وسمع الكثير، وسكن بغداد، وكان ثقة ثبتا كثير الرواية، سمع منه الدارقطني وغيره من الحفاظ، وكان يحدث بفضائل الصحابة حين منعت الديالم من ذلك جهرا بالجامع بمدينة المنصور مخالفة لهم، وكذلك بمسجده بباب الشام.

توفي في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم ببغداد.

وفيها: أُجلي القرامطة الهجريين من عمان.

وفيها: قصدت الروم آمد فحاصروها فلم يقدروا عليها، ولكن قتلوا من أهلها ثلاثمائة وأسروا منهم أربعمائة، ثم ساروا إلى نصيبين، وفيها سيف الدولة، فهمّ بالهرب مع العرب، ثم تأخر مجيء الروم فثبت مكانه وقد كادت تزلزل أركانه.

وفيها: وردت طائفة من جيش خراسان - وكانوا بضعة عشر ألفا - يظهرون أنهم يريدون غزو الروم، فأكرمهم ركن الدولة بن بويه وأمنوا إليهم فنهضوا إليهم وأخذوا الديلم على غرة فقاتلهم ركن الدولة فظفر بهم لأن البغي له مصرع وخيم، وهرب أكثرهم.

وفيها: خرج معز الدولة من بغداد إلى واسط لقتال عمران بن شاهين حين تفاقم الحال بشأنه، واشتهر أمره في تلك النواحي، فقوي المرض بمعز الدولة فاستناب على الحرب ورجع إلى بغداد فكانت وفاته في السنة الآتية كما سنذكره إلى حيث ألقت.

وفيها: قوي أمر أبي عبد الله بن الداعي ببلاد الديلم، وأظهر النسك والعبادة ولبس الصوف، وكتب إلى الآفاق حتى إلى بغداد يدعو إلى الجهاد في سبيل اله من سبّ أصحاب رسول الله ﷺ.

وفي جمادى الآخرة نودي برفع المواريث الحشرية وأن ترد إلى ذوي الأرحام.

وفيها: وقع الفداء بين سيف الدولة وبين الروم، فاستنقد منهم أسارى كثيرة، منهم ابن عمه أبو فراس بن سعيد بن حمدان، وأبو الهيثم بن حصن القاضي، وذلك في رجب منها.

وفيها: ابتدأ معز الدولة بن بويه في بناء مارستان، وأرصد له أوقافا جزيلة.

وفيها: قطعت بنو سليم السابلة على الحجيج من أهل الشام ومصر والمغرب، وأخذوا منهم عشرين ألف جمل بأحمالها، وكان عليها من الأموال والأمتعة ما لا يقدر كثرة.

وكان لرجل يقال له: ابن الخواتيمي، قاضي طرسوس مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار عينا، وذلك أنه أراد التحول من بلاد الشام إلى العراق بعد الحج، وكذلك أراد كثير من الناس، وحين أخذوا جمالهم تركوهم على برد الديار لاشيء لهم، فقل منهم من سلم والأكثر عطب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وحج بالناس الشريف أبو أحمد نقيب الطالبيين من جهة العراق.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الحسن بن دواد

ابن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله العلوي الحسني.

قال الحاكم: أبو عبد الله كان شيخ آل رسول الله ﷺ في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه، وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة، وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال: الشهيد، ويبكي.

وما سمعته ذكر عائشة إلا قال: الصدّيقة بنت الصدّيق، حبيبة حبيب الله، ويبكي.

وقد سمع الحديث من ابن خزيمة وطبقته، وكان آباؤه بخراسان وفي سائر بلدانهم سادات نجباء حيث كانوا:

من آل بيت رسول الله منهم ** لهم دانت رقاب بني معد

محمد بن الحسين بن علي بن الحسن

ابن يحيى بن حسان بن الوضاح، أبو عبد الله الأنباري الشاعر المعروف بالوضاحي، كان يذكر أنه سمع الحديث من المحاملي وابن مخلد وأبي روق.

روى عنه الحاكم شيئا من شعره كان أشعر من في وقته، ومن شعره:

سقى الله باب الكرخ ربعا ومنزلا ** ومن حله صوب السحاب المجلل

فلو أن باكي دمنة الدار بالكوى ** وجارتها أم الرباب بمأسل

رأى عرصات الكرخ أوحل أرضها ** لأمسك عن ذكر الدخول فحومل

أبو بكر بن الجعابي

محمد بن عمر بن سلم بن البراء بن سبرة بن سيار، أبو بكر الجعابي، قاضي الموصل، ولد في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين، سمع الكثير وتخرج بأبي العباس بن عقدة، وأخذ عنه علم الحديث وشيئا من التشيع أيضا، وكان حافظا مكثرا، يقال: إنه كان يحفظ أربعمائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها، ويذاكر بستمائة ألف حديث ويحفظ من المراسيل والمقاطيع والحكايات قريبا من ذلك، ويحفظ أسماء الرجال وجرحهم وتعديلهم، وأوقات وفياتهم ومذاهبهم، حتى تقدم على أهل زمانه، وفاق سائر أقرانه.

وكان يجلس للإملاء فيزدحم الناس عند منزله، وإنما كان يملي من حفظه إسناد الحديث ومتنه جيدا محررا صحيحا، وقد نسب إلى التشيع كأستاذه ابن عقدة، وكان يسكن بباب البصرة عندهم، وقد سئل عنه الدارقطني فقال: خلط.

وقال أبو بكر البرقاني: صاحب غرائب، ومذهبه معروف في التشيع، وقد حكى عنه قلة دين وشرب خمر فالله أعلم.

ولما احتضر أوصى أن تحرق كتبه فحرقت، وقد أحرق معها كتب كثيرة كانت عنده للناس، فبئس ما عمل.

ولما أخرجت جنازته كانت سكينة نائحة الرافضة تنوح عليه في جنازته.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة

استهلت هذه السنة والخليفة المطيع لله، والسلطان معز الدولة بن بويه الديلمي.

وفيها: عملت الروافض في يوم عاشوراء عزاء الحسين على عادة ما ابتدعوه من النوح وغيره كما تقدم.

وفاة معز الدولة بن بويه

ولما كان ثالث عشر ربيع الأول منها، توفي أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي الذي أظهر الرفض، ويقال له: معز الدولة، بعلة الذرب، فصار لا يثبت في معدته شيء بالكلية، فلما أحس بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز وجل، وردّ كثيرا من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وعهد بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن عليا زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، فقال: والله ما سمعت بهذا قط.

ورجع إلى السنة ومتابعتها، ولما حضر وقت الصلاة خرج عنه ذلك الرجل العالم فقال له معز الدولة: إلى أين تذهب؟

فقال: إلى الصلاة.

فقال له: ألا تصلي ههنا؟

قال: لا.

قال: ولم؟

قال: لأن دارك مغصوبة.

فاستحسن منه ذلك.

وكان معز الدولة حليما كريما عاقلا، وكانت إحدى يديه مقطوعة، وهو أول من أجرى السعاة بين يديه ليبعث بأخباره إلى أخيه ركن الدولة سريعا إلى شيراز، وحظي عنده أهل هذه الصناعة وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل، وبرغوش، يتعصب لهذا عوام أهل السنة، ولهذا عوام أهل الشيعة، وجرت لهما مناصف ومواقف.

ولما مات معز الدولة دفن بباب التبن في مقابر قريش، وجلس ابنه للعزاء.

وأصاب الناس مطر ثلاثة أيام تباعا، وبعث عز الدولة إلى رؤوس الأمراء في هذه الأيام بمال جزيل، لئلا تجتمع الدولة على مخالفته قبل استحكام مبايعته، وهذا من دهائه، وكان عمر معز الدولة ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ولايته إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا ويومين، وقد كان نادى في أيامه برد المواريث إلى ذوي الأرحام قبل بيت المال، وقد سمع بعض الناس ليلة توفي معز الدولة هاتفا يقول:

لما بلغت أبا الحسين ** مراد نفسك بالطلب

وأمنت من حدث الليا ** لي واحتجبت عن النوب

مدت إليك يد الردى ** وأخذت من بين الرتب

ولما مات قام بالأمر بعده ولده عز الدولة فأقبل على اللعب واللهو والاشتغال بأمر النساء فتفرق شمله واختلفت الكلمة عليه، وطمع الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان في ملك بني بويه، وأرسل الجيوش الكثيرة صحبة وشمكير، فلما علم بذلك ركن الدولة بن بويه أرسل إلى ابنه عضد الدولة وابن أخيه عز الدولة يستنجدهما، فأرسلا إليه بجنود كثيرة، فركب فيها ركن الدولة وبعث إليه وشمكير يتهدده ويتوعده، ويقول: لئن قدرت عليك لأفعلن بك ولأفعلن.

فبعث إليه ركن الدولة يقول: لكني إن قدرت عليك لأحسنن إليك ولأصفحن عنك.

فكانت الغلبة لهذا، فدفع الله عنه شره، وذلك أن وشمكير ركب فرسا صعبا يتصيد عليها فحمل عليه خنزير فنفرت منه الفرس فألقته على الأرض فخرج الدم من أذنيه فمات من ساعته وتفرقت العساكر.

وبعث ابن وشمكير يطلب الأمان من ركن الدولة فأرسل إليه بالمال والرجال، ووفى بما قال من الإحسان، وصرف الله عنه كيد السامانية، وذلك بصدق النية وحسن الطوية والله أعلم.

وممن توفي فيها من الأعيان

أبو الفرج الأصبهاني

صاحب كتاب (الأغاني)، واسمه علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي، صاحب كتاب (الأغاني) وكتاب (أيام العرب)، ذكر فيه ألفا وسبعمائة يوم من أيامهم، وكان شاعرا أديبا كاتبا، عالما بأخبار الناس وأيامهم، وكان فيه تشيع.

قال ابن الجوزي: ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر، وقد روى الحديث عن محمد بن عبد الله بن بطين وخلق، وروى عنه الدارقطني وغيره.

توفي في ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين، التي توفي فيها البحتري الشاعر، وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة منها: (الأغاني) و(المزارات) و(أيام العرب).

وفيها توفي:

سيف الدولة

أحد الأمراء الشجعان، والملوك الكثيري الإحسان، على ما كان فيه من تشيع، وقد ملك دمشق في بعض السنين، واتفق له أشياء غريبة منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية أحد الفصحاء البلغاء.

ومنها: أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي.

وكان سيف الدولة كريما جوادا معطيا للجزيل.

ومن شعره في أخيه ناصر الدولة صاحب الموصل:

رضيت لك العليا، وقد كنت أهلها ** وقلت لهم: بيني وبين أخي فرق

وما كان لي عنها نكول، وإنما ** تجاوزت عن حقي فتم لك السبق

أما كنت ترضى أن أكون مصليا ** إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق

وله:

قد جرى في دمعه دمه ** قال لي كم أنت تظلمه

رد عنه الطرف منك ** فقد جرحته منك أسهمه

كيف تستطيع التجلد ** خطرات الوهم تؤلمه

وكان سبب موته الفالج، وقيل: عسر البول.

توفي بحلب وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها، وعمره ثلاث وخمسون سنة، ثم أقام في ملك حلب بعده ولده سعد الدولة أبو المعالي الشريف، ثم تغلب عليه مولى أبيه قرعويه فأخرجه من حلب إلى أمه بميافارقين، ثم عاد إليها كما سيأتي.

وذكر ابن خلكان أشياء كثيرة مما قاله سيف الدولة، وقيل فيه، قال: ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء، وقد أجاز لجماعة منهم، وقال: إنه ولد سنة ثلاث، وقيل: إحدى وثلاثمائة وأنه ملك حلب بعد الثلاثين والثلاثمائة، وقبل ذلك ملك واسطا ونواحيها، ثم تقلبت به الأحوال حتى ملك حلب.

انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الأخشيد، وقد قال يوما: أيكم يجيز قولي وما أظن أحدا منكم يجيز ذلك: لك جسمي تعله فدمي لم تحله؟

فقال أبو فراس أخوه بديهة: إن كنت مالكا الأمر كله.

وقد كان هؤلاء الملوك رفضة وهذا من أقبح القول.

وفيها توفي:

كافور الأخشيد

مولى محمد بن طغج الأخشيدي، وقد قام بالأمر بعده مولاه لصغر ولده.

تملك كافور مصر ودمشق وقاده لسيف الدولة وغيره وقد كتب على قبره:

أنظر إلى غير الأيام ما صنعت ** أفنت قرونا بها كانوا وما فنيت

دنياهم ضحكت أيام دولتهم ** حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت

أبو علي القالي

صاحب (الأمالي)، إسماعيل بن القاسم بن عبدون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان، أبو علي القاضي القالي اللغوي الأموي مولاهم، لأن سليمان هذا كان مولى لعبد الملك بن مروان، والقالي نسبة إلى قالي قلا.

ويقال: إنها أردن الروم فالله أعلم.

وكان مولده بميافارقين، جزء من أرض الجزيرة من ديار بكر، وسمع الحديث من أبي يعلى الموصلي وغيره، وأخذ النحو واللغة عن ابن دريد وأبي بكر الأنباري ونفطويه وغيرهم، وصنف (الأمالي) وهو مشهور، وله كتاب (التاريخ على حروف المعجم) في خمسة آلاف ورقة، وغير ذلك من المصنفات في اللغة، ودخل بغداد وسمع بها ثم ارتحل إلى قرطبة فدخلها في سنة ثلاثين وثلاثمائة واستوطنها، وصنف بها كتبا كثيرة إلى أن توفي بها في هذه السنة عن ثمان وستين سنة.

قاله ابن خلكان.

وفيها توفي

أبو علي محمد بن إلياس صاحب بلاد كرمان ومعاملاتها

فأخذ عضد الدولة بن ركن الدولة بلاد كرمان، من أولاد محمد بن إلياس - وهم ثلاثة -اليسع، وإلياس، وسليمان، والملك الكبير وشمكير، كما قدمنا.

وفيها توفي من الملوك أيضا: الحسن بن الفيرزان

فكانت هذه السنة محل موت الملوك مات فيها معز الدولة، وكافور، وسيف الدولة، قال ابن الأثير: وفيها هلك نقفور ملك الأرمن وبلاد الروم - يعني الدمستق كما تقدم -.

ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة

فيها: شاع الخبر ببغداد وغيرها من البلاد أن رجلا ظهر يقال له: محمد بن عبد الله، وتلقب بالمهدي وزعم أنه الموعود به، وأنه يدعو إلى الخير وينهى عن الشر، ودعا إليه ناس من الشيعة، وقالوا: هذا علوي من شيعتنا، وكان هذا الرجل إذ ذاك مقيما بمصر عند كافور الأخشيدي قبل أن يموت وكان يكرمه، وكان من جملة المستحسنين له سبكتكين الحاجب، وكان شيعيا فظنه علويا، وكتب إليه أن يقدم إلى بغداد ليأخذ له البلاد، فترحل عن مصر قاصدا العراق فتلقاه سبكتكين الحاجب إلى قريب الأنبار، فلما رآه عرفه وإذا هو محمد بن المستكفي بالله العباسي، فلما تحقق أنه عباسي وليس بعلوي انثنى رأيه فيه، فتفرق شمله وتمزق أمره، وذهب أصحابه كل مذهب، وحمل إلى معز الدولة فأمنه وسلمه إلى المطيع لله فجدع أنفه واختفى أمره، فلم يظهر له خبر بالكلية بعد ذلك.

وفيها: وردت طائفة من الروم إلى بلاد إنطاكية فقتلوا خلقا من حواضرها وسبوا اثني عشر ألفا من أهلها ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد.

وفيها: عملت الروافض في يوم عاشوراء منها المأتم على الحسين، وفي يوم غدير خم الهناء والسرور.

وفيها: في تشرين عرض للناس داء الماشري فمات به خلق كثير.

وفيها: مات أكثر جمال الحجيج في الطريق من العطش، ولم يصل منهم إلى مكة إلا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج.

وفيها: اقتتل أبو المعالي شريف بن سيف الدولة هو وخاله وابن عم أبيه أبو فراس في المعركة.

قال ابن الأثير: ولقد صدق من قال: إن الملك عقيم.

وفيها توفي من الأعيان أيضا:

إبراهيم المتقي لله، وكان قد ولي الخلافة ثم ألجئ أن خلع من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة إلى هذه السنة، وألزم بيته فمات في هذه السنة ودفن بداره عن ستين سنة.

عمر بن جعفر بن عبد الله

ابن أبي السري، أبو جعفر البصري الحافظ، ولد سنة ثمانين ومائتين، حدث عن أبي الفضل ابن الحباب وغيره، وقد انتقد عليه مائة حديث وضعها.

قال الدارقطني: فنظرت فيها فإذا الصواب مع عمر بن جعفر.

محمد بن أحمد بن علي بن مخلد

أبو عبد الله الجوهري المحتسب، ويعرف بابن المخرم، كان أحد أصحاب ابن جرير الطبري، وقد روى عن الكديمي وغيره، وقد اتفق له أنه تزوج امرأة فلما دخلت عليه جلس يكتب الحديث فجاءت أمها فأخذت الدواة فرمت بها وقالت: هذه أضر على ابنتي من مائة ضرة.

توفي في هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، وكان يضعف في الحديث.

كافور بن عبد الله الأخشيدي

كان مولى السلطان محمد بن طغج، اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر دينارا، ثم قرّبه وأدناه، وخصه من بين الموالي واصطفاه، ثم جعله أتابكا حين ملك ولداه، ثم استقل بالأمور بعد موتهما في سنة خمس وخمسين، واستقرت المملكة باسمه فدعي له على المنابر بالديار المصرية والشامية والحجازية، وكان شهما شجاعا ذكيا جيد السيرة، مدحه الشعراء، منهم المتنبي، وحصل له منه مال، ثم غضب عليه فهجاه ورحل عنه إلى عضد الدولة، ودفن كافور بتربته المشهورة به، وقام في الملك بعده أبو الحسن علي بن الأخشيد، ومنه أخذ الفاطميون الأدعياء بلاد مصر كما سيأتي.

ملك كافور سنتين وثلاثة أشهر.

ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة

في عاشوراء منها عملت الروافض بدعتهم، وفي يوم خم عملوا الفرح والسرور المبتدع على عادتهم.

وفيها: حصل الغلاء العظيم حتى كاد أن يعدم الخبز بالكلية، وكاد الناس أن يهلكوا.

وفيها: عاث الروم في الأرض فسادا وحرقوا حمص وأفسدوا فيها فسادا عريضا، وسبوا من المسلمين نحوا من مائة ألف إنسان فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: دخل أبو الحسين جوهر القائد الرومي في جيش كثيف من جهة المعز الفاطمي إلى ديار مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من شعبان، فلما كان يوم الجمعة خطبوا للمعز الفاطمي على منابر الديار المصرية وسائر أعمالها، وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بحي على خير العمل، وأن يجهر الأئمة بالتسليمة الأولى، وذلك أنه لما مات كافور لم يبق بمصر من تجتمع القلوب عليه، وأصابهم غلاء شديد أضعفهم، فلما بلغ ذلك المعز بعث جوهرا هذا - وهو مولى أبيه المنصور - في جيش إلى مصر.

فلما بلغ ذلك أصحاب كافور هربوا منها قبل دخول جوهر إليها فدخلها بلا ضربة ولا طعنة ولا ممانعة، ففعل ما ذكرنا واستقرت أيدي الفاطميين على تلك البلاد.

وفيها: شرع جوهر القائد في بناء القاهرة المعزية، وبناء القصرين عندها على ما نذكره.

وفيها: شرع في الإمامات إلى مولاه المعز الفاطمي.

وفيها: أرسل جوهر جعفر بن فلاح في جيش كثيف إلى الشام فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي، وكان مطاعا في أهل الشام فجاحف عن العباسيين مدة طويلة، ثم آل الحال إلى أن يخطبوا للمعز بدمشق، وحمل الشريف أبو القاسم هذا إلى الديار المصرية، وأسر الحسن بن طغج وجماعة من الأمراء وحملوا إلى الديار المصرية، فحملهم جوهر القائد إلى المعز بإفريقية، واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة ستين كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مائة سنة، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها، وأبواب المساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولم يزل ذلك كذلك حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد نور الدين الشهيد وصلاح الدين بن أيوب على ما سيأتي بيانه.

وفيها: دخلت الروم إلى حمص فوجدوا أكثر أهلها قد انجلوا عنها وذهبوا، فحرقوها وأسروا ممن بقي فيها ومن حولها نحوا من مائة ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي ذي الحجة منها: نقل عز الدولة والده معز الدولة بن بويه من داره إلى تربته بمقابر قريش.

ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم منها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء، فغلقت الأسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن، والمسوح معلقة في الأسواق والتبن مدرور فيها.

وفيها: دخلت الروم إنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والأطفال نحوا من عشرين ألفا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وذلك كله بتدبير ملك الأرمن نقفور لعنه الله، وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد، قبحهم الله.

قال ابن الجوزي: وكان قد تمرد وطغا، وكان هذا الخبيث قد تزوج بامرأة الملك الذي كان قبله، ولهذا الملك المتقدم ابنان، فأراد أن يخصيهما ويجعلهما في الكنيسة لئلا يصلحا بعد ذلك للملك، فلما فهمت ذلك أمهما عملت عليه وسلطت عليه الأمراء فقتلوه وهو نائم، وملكوا عليهم أكبر ولديها.

وفي ربيع الأول صرف عن القضاء أبو بكر أحمد بن سيار وأعيد إليه أبو محمد بن معروف.

قال ابن الجوزي: وفيها نقصت دجلة حتى غارت الآبار.

وحج بالناس الشريف أبو أحمد النقيب، وانقضّ كوكب في ذي الحجة فأضاءت له الأرض حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد.

قال ابن الأثير: وفي المحرم منها خطب للمعز الفاطمي بدمشق عن أمر جعفر بن فلاح الذي أرسله جوهر القائد بعد أخذه مصر، فقاتله أبو محمد الحسن بن عبد الله بن طغج بالرملة، فغلبه ابن فلاح وأسره وأرسله إلى جوهر فأرسله إلى المعز وهو بإفريقية.

وفيها: وقعت المنافرة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين ابنه أبي تغلب، وسببه أنه لما مات معز الدولة بن بويه عزم أبو تغلب ومن وافقه من أهل بيته على أخذ بغداد، فقال لهم أبوهم: إن معز الدولة قد ترك لولده عز الدولة أموالا جزيلة فلا تقدرون عليه ما دامت في يده، فاصبروا حتى ينفقها فإنه مبذر، فإذا أفلس فسيروا إليه فإنكم تغلبونه، فحقد عليه ولده أبو تغلب بسبب هذا القول ولم يزل بأبيه حتى سجنه بالقلعة، فاختلف أولاده بينهم وصاروا أحزابا، وضعفوا عما في أيديهم، فبعث أبو تغلب إلى عز الدولة يضمن منه بلاد الموصل بألف ألف كل سنة، واتفق موت أبيه ناصر الدولة في هذه السنة، واستقر أبو تغلب بالموصل وملكها، إلا أنهم فيما بينهم مختلفين متحاربين.

وفيها: دخل ملك الروم إلى طرابلس فأحرق كثيرا منها وقتل خلقا، وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها منها لشدة ظلمه، فأسرته الروم واستحوذوا على جميع أمواله وحواصله، وكانت كثيرة جدا، ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلدا سوى القرى، وتنصر خلق كثير على أيديهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وجاؤوا إلى حمص فأحرقوا ونهبوا وسبوا، ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر من قدر عليه، وصارت له مهابة في قلوب الناس ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي وصبية، وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم، وبعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا وسبوا، وكان قرعويه غلام سيف الدولة قد استحوذ على حلب وأخرج منها ابن أستاذه شريف، فسار إلى طرف وهي تحت حكمه فأبوا أن يمكنوه من الدخول إليهم، فذهب إلى أمه بميافارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان فمكث عندها حينا، ثم سار إلى حماه فملكها، ثم عاد إلى حلب بعد سنتين كما سيأتي.

ولما عاثت الروم في هذه السنة بالشام صانعهم قرعوية عن حلب، وبعث إليهم بأموال وتحف ثم عادوا إلى إنطاكية فملكوها وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها، وسبوا عامة أهلها وركبوا إلى حلب وأبو المعالي شريف محاصر قرعويه بها، فخافهم فهرب عنها فحاصرها الروم فأخذوا البلد، وامتنعت القلعة عليهم ثم اصطلحوا مع قرعويه على هدية ومال يحمله إليهم كل سنة، وسلموا إليه البلد ورجعوا عنه.

وفيها: خرج على المعز الفاطمي وهو بإفريقية رجل يقال له: أبو خزر، فنهض إليه بنفسه وجنوده، وطرده ثم عاد فاستأمنه فقبل منه وصفح عنه وجاءه الرسول من جوهر يبشره بفتح مصر وإقامة الدعوة له بها، ويطلبه إليها ففرح بذلك وامتدحه الشعراء من جملتهم شاعره محمد بن هانئ قصيدة له أولها:

يقول بنو العباس قد فتحت مصر ** فقل لبني العباس قد قضي الأمر

وفيها: رام عز الدولة صاحب بغداد محاصرة عمران بن شاهين الصياد فلم يقدر عليه، فصالحه ورجع إلى بغداد.

وفيها: اصطلح قرعويه وأبو المعالي شريف، فخطب له قرعويه بحلب وجميع معاملاتها تخطب للمعز الفاطمي، وكذلك حمص ودمشق، ويخطب بمكة للمطيع بالله وللقرامطة، وبالمدينة للمعز الفاطمي.

وخطب أبو أحمد الموسوي بظاهرها للمطيع.

وذكر ابن الأثير: أن نقفور توفي في هذه السنة ثم صار ملك الروم إلى ابن الملك الذي قبله، قال: وكان يقال له: الدمستق، وكان من أبناء المسلمين كان أبوه من أهل طرسوس من خيار المسلمين يعرف بابن الفقاس، فتنصر ولده هذا وحظي عند النصارى حتى صار من أمره ما صار، وقد كان من أشد الناس على المسلمين، أخذ منهم بلادا كثيرة عنوة، من ذلك طرسوس والأذنة وعين زربة والمصيصة وغير ذلك، وقتل من المسلمين خلقا لا يعلمهم إلا الله، وسبى منهم ما لا يعلم عدتهم إلا الله، وتنصروا أو غالبهم، وهو الذي بعث تلك القصيدة إلى المطيع كما تقدم.

وممن توفي فيها من الأعيان:

محمد بن أحمد بن الحسين

ابن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله أبو علي الصواف، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وطبقته، وعنه خلق منهم الدارقطني.

وقال: ما رأت عيناي مثله في تحريره ودينه، وقد بلغ تسعا وثمانين سنة رحمه الله.

محارب بن محمد بن محارب

أبو العلاء الفقيه الشافعي من ذرية محارب بن دثار، كان ثقة عالما، روى عن جعفر الفريابي وغيره.

أبو الحسين أحمد بن محمد

المعروف بابن القطان أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وتفرد برياسة المذهب بعد موت أبي القاسم الداراني، وصنف في أصول الفقه وفروعه، وكانت الرحلة إليه ببغداد، ودرس بها وكتب شيئا كثيرا.

توفي في جمادى الأولى منها.

ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة

في عاشر محرمها عملت الرافضة بدعتهم المحرمة على عادتهم المتقدمة.

وفي ذي القعدة منها: أخذت القرامطة دمشق وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح، وكان رئيس القرامطة وأميرهم الحسين بن أحمد بن بهرام وقد أمده عز الدولة من بغداد بسلاح وعدد كثيرة، ثم ساروا إلى الرملة فأخذوها وتحصن بها من كان بها من المغاربة نوابا.

ثم إن القرامطة تركوا عليهم من يحاصرها ثم ساروا نحو القاهرة في جمع كثير من الأعراب والأخشيدية والكافورية، فوصلوا عين شمس فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالا شديدا، والظفر للقرامطة وحصروا المغاربة حصرا عظيما.

ثم حملت المغاربة في بعض الأيام على ميمنة القرامطة فهزمتها ورجعت القرامطة إلى الشام فجدوا في حصار باقي المغاربة، فأرسل جوهر إلى أصحابه خمسة عشر مركبا ميرة لأصحابه، فأخذتها القرامطة سوى مركبين أخذتها الإفرنج.

وجرت خطوب كثيرة.

ومن شعر الحسين بن أحمد بن بهرام أمير القرامطة في ذلك:

زعمت رجال الغرب أني هبتها ** فدمي إذن ما بينهم مطلول

يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ** يروي ثراك فلا سقاني النيل

وفيها: تزوج أبو تغلب بن حمدان بنت بختيار عز الدولة وعمرها ثلاث سنين على صداق مائة ألف دينار، ووقع العقد في صفر منها.

وفيها: استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد فأصلح أموره وساس دولته جيدا.

وفيها: أذن بدمشق وسائر الشام بحي على خير العمل.

قال ابن عساكر في ترجمته جعفر بن فلاح نائب دمشق: وهو أول من تأمر بها عن الفاطميين، أخبرنا أبو محمد الأكفاني قال: قال أبو بكر أحمد بن محمد بن شرام: وفي يوم الخميس لخمس خلون من صفر من سنة ستين وثلاثمائة أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد، وسائر المساجد بحي على خير العمل بعد حي على الفلاح، أمرهم بذلك جعفر بن فلاح، ولم يقدروا على مخالفته، ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بدا.

وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أمر المؤذنون أن يثنوا الأذان والتكبير في الإقامة مثنى مثنى.

وأن يقولوا في الإقامة: حي على خير العمل، فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله تعالى.

وفيها توفي من الأعيان:

سليمان بن أحمد بن أيوب

أبو القاسم الطبراني الحافظ الكبير صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير، والأوسط، والصغير، وله كتاب (السنة) وكتاب (مسند الشاميين)، وغير ذلك من المصنفات المفيدة، عمر مائة سنة.

توفي بأصبهان ودفن على بابها عند قبر حممة الصحابي.

قاله أبو فرج بن الجوزي.

قال ابن خلكان: سمع من ألف شيخ، قال: وكانت وفاته في يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: في شوال منها، وكان مولده في سنة ستين ومائتين فمات وله من العمر مائة سنة.

الرفا الشاعر أحمد بن السري أبو الحسن

الكندي الرفا الشاعر الموصلي، أرخ وفاته ابن الأثير في هذه السنة، توفي في بغداد.

وذكر ابن الجوزي: أنه توفي سنة ثنتين وستين وثلاثمائة كما سيأتي.

محمد بن جعفر

ابن محمد بن الهيثم بن عمران بن يزيد أبو بكر بن المنذر أصله أنباري، سمع من أحمد بن الخليل بن البرجلاني، ومحمد بن العوام الرياحي، وجعفر بن محمد الصائغ، وأبي إسماعيل الترمذي.

قال ابن الجوزي: وهو آخر من روى عنهم.

قالوا: وكانت أصوله جيادا بخط أبيه، وسماعه صحيحا، وقد انتقى عنه أبو عمرو البصري.

توفي فجأة يوم عاشوراء وقد جاوز التسعين.

محمد بن الحسن بن عبد الله أبو بكر الآجري

سمع جعفر الفريابي، وأبا شعيب الحراني، وأبا مسلم الكجي وخلقا، وكان ثقة صادقا دينا، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها (الأربعون الآجرية)، وقد حدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة، ثم انتقل إلى مكة فأقام بها حتى مات بعد إقامته بها ثلاثين سنة رحمه الله.

محمد بن جعفر بن محمد

أبو عمرو الزاهد، سمع الكثير ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وسمع منه الحفاظ الكبار، وكان فقيرا متقللا يضرب اللبن بقبور الفقراء، ويتقوت برغيف وجزرة أو بصلة، ويقوم الليل كله.

توفي في جمادى الآخرة منها عن خمس وتسعين سنة.

محمد بن داود أبو بكر الصوفي

ويعرف بالدقي أصله من الدينور أقام ببغداد، ثم ارتحل وانتقل إلى دمشق، وقد قرأ على ابن مجاهد وسمع الحديث من محمد بن جعفر الخرائطي، صاحب ابن الجلاء، والدقاق.

توفي في هذه السنة وقد جاوز المائة.

محمد بن الفرحاني

ابن زرويه المروزي الطبيب، دخل بغداد وحدث بها عن أبيه بأحاديث منكرة، روى عن الجنيد وابن مرزوق، قال ابن الجوزي: وكان فيه ظرف ولباقة، غير أنهم كانوا يتهمونه بوضع الحديث.

أحمد بن الفتح

ويقال: ابن أبي الفتح الخاقاني، أبو العباس النجاد، إمام دمشق.

قال ابن عساكر: كان عابدا صالحا، وذكر أن جماعة جاؤوا لزيارته فسمعوه يتأوه من وجع كان به، فأنكروا عليه ذلك.

فلما خرج إليهم قال لهم: إن آه اسم من تستروح إليه الأعلى، قال: فزاد في أعينهم وعظموه.

قلت: لكن هذا الذي قال لا يؤخذ عنه مسلما إليه فيه، بل يحتاج إلى نقل صحيح عن المعصوم، فإن أسماء الله تعالى توقيفية على الصحيح.

ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة

في عاشر المحرم منها عملت الروافض بدعتهم كما تقدم، وفي المحرم منها أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقا من أهل الرها، وساروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك، ولم يغن عن تلك النواحي أبو تغلب بن حمدان متوليها شيئا، ولا دافع عنهم ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخون، فرثا لهم أهل بغداد وجاؤوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة مشغولا بالصيد، فذهبت الرسل وراءه فبعث الحاجب سبكتكين يستنفر الناس، فتجهز خلق كثير من العامة، وكتب إلى تغلب أن يعد الميرة والإقامة، فأظهر السرور والفرح، ولما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا: الشر كله منكم.

وثار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس، وتناقض النقيب أبو أحمد الموسوي والوزير أبو الفضل الشيرازي، وأرسل بختيار بن معز الدولة إلى الخليفة يطلب منه أموالا يستعين بها على هذه الغزوة، فبعث إليه يقول: لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه، ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك.

فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده، فاحتاج الخليفة أن يحصل له شيئا، فباع بعض ثياب بدنه وشيئا من أثاث بيته، ونقض بعض سقوف داره وحصل له أربعمائة ألف درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزاة، فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة وتركه الجهاد، فلا جزاه الله خيرا عن المسلمين.

وفيها: تسلم أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين فنقل حواصلها وما فيها إلى الموصل.

وفيها: اصطلح الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان وركن الدولة بن بويه وابنه عضد الدولة على أن يحملا إليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وتزوج بابنة ركن الدولة، فحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يعد ولا يحصى.

وفي شوال منها خرج المعز الفاطمي بأهله وحاشيته وجنوده من المدينة المنصورة من بلاد المغرب قاصدا البلاد المصرية، بعد ما مهد له مولاه جوهر أمرها وبنى له بها القصرين، واستخلف المعز على بلاد المغرب ونواحيها وصقلية وأعمالها نوابا من جهته وحزبه وأنصاره من أهل تلك البلاد، واستصحب معه شاعره محمد بن هانئ الأندلسي، فتوفي في أثناء الطريق، وكان قدوم المعز إلى القاهرة في رمضان من السنة الآتية على ما سيأتي.

وفيها حج بالناس الشريف أبو أحمد الموسوي النقيب على الطالبيين كلهم.

وفيها توفي من الأعيان:

سعيد بن أبي سعيد الجنابي

أبو القاسم القرمطي الهجري، وقام بالأمر من بعده أخوه أبو يعقوب يوسف، ولم يبق من سلالة أبي سعيد سواه.

عثمان بن عمر بن خفيف

أبو عمر المقري المعروف بالدراج، روى عن أبي بكر بن أبي داود وعنه ابن زرقويه، وكان من أهل القراءات والفقه والدراية والديانة والسيرة الجميلة، وكان يعد من الأبدال.

توفي يوم الجمعة في رمضان منها.

علي بن إسحاق بن خلف

أبو الحسين القطان الشاعر المعروف بالزاهي.

ومن شعره:

قم فهن عاشقين ** أصبحا مصطحبين

جمعا بعد فراق ** فجعا منه ببين

تم عادا في سرور ** من صدود آمنين

بهما روح ولكن ** ركبت في بدنين

أحمد بن سهل

ابن شداد أبو بكر المخرمي، سمع أبا خليفة وجعفر الفريابي، وابن أبي الفوارس وابن جرير وغيرهم، وعنه الدارقطني وابن زرقويه وأبو نعيم.

وقد ضعفه البرقاني وابن الجوزي وغيرهم.

ثم دخلت سنة ثنتين وستين وثلاثمائة

في عاشر محرمها عملت الروافض من النياحة وتعليق المسوح وغلق الأسواق ما تقدم قبلها.

وفيها: اجتمع الفقيه أبو بكر الرازي الحنفي وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني وابن الدقاق الحنبلي بعز الدولة بختيار بن بويه وحرضوه على غزو الروم، فبعث جيشا لقتالهم فأظفره الله بهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا وبعثوا برؤوسهم إلى بغداد فسكنت أنفس الناس.

وفيها: سارت الروم مع ملكهم لحصار آمد، وعليها هزرمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستنصره فبعث إليه أخاه أبا القاسم هبة الله ناصر الدولة بن حمدان، فاجتمعا لقتاله فلقياه في آخر يوم من رمضان في مكان ضيق لا مجال للخيل فيه، فاقتتلوا مع الروم قتالا شديدا، فعزمت الروم على الفرار فلم يقدروا فاستحر فيهم القتل وأخذ الدمستق أسيرا، فأودع السجن فلم يزل فيه حتى مرض ومات في السنة القابلة، وقد جمع أبو تغلب الأطباء فلم ينفعه شيء.

وفيها: أحرق الكرخ ببغداد، وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلا من العامة فمات فثارت عليه العامة وجماعة من الأتراك، فهرب منهم فدخل دارا فأخرجوه مسجونا وقتلوه وحرقوه، فركب الوزير أبو الفضل الشيرازي - وكان شديد التعصب للسنة - وبعث حاجبه إلى أهل الكرخ فألقى في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال من ذلك ثلاثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا، وسبعة عشر ألف إنسان.

فعند ذلك عزله بختيار عن الوزارة وولاها محمد بن بقية، فتعجب الناس من ذلك، وذلك أن هذا الرجل كان وضيعا عند الناس لا حرمة له، كان أبوه فلاحا بقرية كوثا، وكان هو ممن يخدم عز الدولة، كان يقدم له الطعام ويحمل منديل الزفر على كتفه، إلى أن ولي الوزارة، ومع هذا كان أشد ظلما للرعية من الذي قبله، وكثر في زمانه العيّارون ببغداد، وفسدت الأمور.

وفيها: وقع الخلاف بين عز الدولة وبين حاجبه سبكتكين ثم اصطلحا على دخن.

وفيها: كان دخول المعز الفاطمي الديار المصرية، وصحبته توابيت آبائه، فوصل إلى إسكندرية في شعبان، وقد تلقاه أعيان مصر إليها، فخطب الناس هنالك خطبة بليغة ارتجالا، ذكر فيها فضلهم وشرفهم، وقد كذب فقال فيها: إن الله أغاث الرعايا بهم وبدولتهم.

وحكى قاضي بلاد مصر وكان جالسا إلى جنبه فسأله: هل رأيت خليفة أفضل مني؟

فقال له: لم أر أحدا من الخلفاء سوى أمير المؤمنين.

فقال له: أحججت؟

قال: نعم.

قال: وزرت قبر الرسول؟

قال: نعم.

قال: وقبر أبي بكر وعمر؟

قال: فتحيرت ما أقول، فإذا ابنه العزيز مع كبار الأمراء، فقلت: شغلني عنهما رسول الله كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد من بعده، ونهضت إليه وسلمت عليه ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره.

ثم سار من الإسكندرية إلى مصر، فدخلها في الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل القصرين، فقيل: إنه أول ما دخل إلى محل ملكه خر ساجدا شكرا لله عز وجل.

ثم كان أول حكومة انتهت إليه أن امرأة كافور الأخشيدي ذكرت: أنها كانت أودعت رجلا من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوخ بالذهب، وأنه جحدها ذلك، فاستحضره وقرره، فجحد ذلك وأنكره.

فأمر أن تحفر داره ويستخرج منها ما فيها، فوجدوا القباء بعينة قد جعله في جرة ودفنه في بعض المواضع من داره، فسلمه المعز إليها ووفره عليها، ولم يتعرض إلى القباء فقدمته إليه فأبى أن يقبله منها، فاستحسن الناس منه ذلك.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».

وفيها توفي من الأعيان:

السري بن أحمد بن أبي السري

أبو الحسن الكندي الموصلي الرفا الشاعر، له مدائح في سيف الدولة بن حمدان، وغيره من الملوك والأمراء، وقد قدم بغداد فمات بها في هذه السنة.

وقيل: في سنة أربع.

وقيل: خمس.

وقيل: ست وأربعين.

وقد كان بينه وبين محمد بن سعيد معاداة وادعى عليه أنه سرق شعره، وكان مغنيا ينسج على ديوان كشاجم الشاعر، وربما زاد فيه من شعر الخالديين ليكثر حجمه.

قال ابن خلكان: وللسري الرفا هذا ديوان كبير جدا وأنشد من شعره:

يلقى الندى برقيقِ وجهٍ مسفر ** فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا

رحب المنازل ما أقام فإن سرى ** في جحفل ترك الفضاء مضيقا

محمد بن هاني

الأندلسي، الشاعر، استصحبه المعز الفاطمي من بلاد القيروان حين توجه إلى مصر، فمات ببعض الطريق، وجد مقتولا على حافة البحر في رجب منها.

وقد كان قوي النظم إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغته في مدحه الخلق، فمن ذلك قوله يمدح المعز:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار ** فاحكم فأنت الواحد القهار

وهذا من أكبر الكفر.

وقال أيضا قبحه الله وأخزاه:

ولطالما زاحمت تحت ركابه جبريلا

ومن ذلك قوله - قال ابن الأثير ولم أرها في شعره ولا في ديوانه:

جل بزيادة جل المسيح ** بها وجل آدم ونوح

جل بها الله ذو المعالي ** فكل شيء سواه ريح

وقد اعتذر عنه بعض المتعصبين له.

قلت: هذا الكلام إن صح عنه فليس عنه اعتذار، لا في الدار الآخرة ولا في هذه الدار.

وفيها توفي:

إبراهيم بن محمد

ابن شجنونة بن عبد الله المزكي أحد الحفاظ، أنفق على الحديث وأهله أموالا جزيلة، وأسمع الناس بتخريجه، وعقد له مجلس للإملاء بنيسابور، ورحل وسمع من المشايخ غربا وشرقا.

ومن مشايخه: ابن جرير وابن أبي حاتم، وكان يحضر مجلسه خلقٌ كثير من كبار المحدثين، منهم: أبو العباس الأصم وأضرابه، توفي عن سبع وستين سنة.

سعيد بن القاسم بن خالد

أبو عمرو البردعي أحد الحفاظ، روى عنه الدارقطني وغيره.

محمد بن الحسن بن كوثر بن علي

أبو بحر البربهاري، روى عن إبراهيم الحربي وتمام والباغندي، والكديمي، وغيرهم، وقد روى عنه ابن زرقويه وأبو نعيم، وانتخب عليه الدارقطني، وقال: اقتصروا على ما خرجته له، فقد اختلظ صحيح سماعه بفاسده.

وقد تكلم فيه غير واحد من حفاظ زمانه بسبب تخليطه وغفلته، واتهمه بعضهم بالكذب أيضا.

ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة

فيها: في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد، بين أهل السنة والرافضة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد، وذلك: أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقال: نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلقٌ كثير، وعاث العيارون في البلد فسادا، ونهبت الأموال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا، فسكنت الفتنة.

وفيها: أخذ بختيار بن معز الدولة الموصل، وزوج ابنته بابن أبي تغلب بن حمدان.

وفيها: وقعت الفتنة بالبصرة بين الديالم والأتراك، فقويت الديلم على الترك، بسبب أن الملك فيهم، فقتلوا خلقا كثيرا، وحبسوا رؤوسهم، ونهبوا كثيرا من أموالهم.

وكتب عز الدولة إلى أهله:

إني سأكتب إليكم أني قدمت، فإذا وصل إليكم الكتاب فأظهروا النوح، واجلسوا للعزاء، فإذا جاء سبكتكين للعزاء فاقبضوا عليه فإنه ركن الأتراك ورأسهم.

فلما جاء الكتاب إلى بغداد بذلك أظهروا النوح، وجلسوا للعزاء، ففهم سبكتكين أن هذه مكيدة فلم يقربهم، وتحقق العدواة بينه وبين عز الدولة، وركب من فوره في الأتراك فحاصر دار عز الدولة يومين، ثم أنزل أهله منها ونهب ما فيها، وأحدرهم إلى دجلة وإلى واسط منفيين.

وكان قد عزم على إرسال الخليفة المطيع معهم فتوسل إليه الخليفة، فعفا عنه، وأقره بداره، وقويت شوكة سبكتكين والأتراك ببغداد، ونهبت الأتراك دور الديلم، وخلع سبكتكين على رؤوس العامة، لأنهم كانوا معه على الديلم، وقويت السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ - لأنه محل الرافضة - ثانيا، وظهرت السنة على يدي الأتراك، وخلع المطيع وولي ولده على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.

خلافة الطائع وخلع المطيع

ذكر ابن الأثير: أنه لما كان الثالث عشر من ذي القعدة.

وقال ابن الجوزي: كان ذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من ذي القعدة من هذه السنة، خلع المطيع لله وذلك لفالج أصابه فثقل لسانه، فسأله سبكتكين أن يخلع نفسه، ويولي من بعده ولده الطائع، فأجاب إلى ذلك، فعقدت البيعة للطائع بدار الخلافة على يدي الحاجب سبكتكين.

وخلع أبوه المطيع بعد تسع وعشرين سنة كانت له في الخلافة، ولكن تعوض بولاية ولده.

واسم الطائع: أبو بكر عبد الكريم بن المطيع أبي القاسم، ولم يل الخلافة من اسمه عبد الكريم سواه، ولا من أبوه حي سواه، ولا من كنيته أبو بكر سواه، وسوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ولم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، كان عمره لما تولى ثمانيا وأربعين سنة، وكانت أمه أم ولد اسمها غيث تعيش يوم ولي، ولما بويع ركب وعليه البردة وبين يديه سبكتكين والجيش، ثم خلع من الغد على سبكتكين خلع الملوك، ولقبه ناصر الدولة، وعقد له الإمارة.

ولما كان يوم الأضحى ركب الطائع وعليه السواد، فخطب الناس بعد الصلاة خطبة خفيفة حسنة.

وحكى ابن الجوزي في (منتظمه): أن المطيع لله كان يسمى بعد خلعه: بالشيخ الفاضل.

الحرب بين المعز الفاطمي والحسين

لما استقر المعز الفاطمي بالديار المصرية، وابتنى فيها القاهرة والقصرين، وتأكد ملكه، سار إليه الحسين بن أحمد القرمطي من الأحساء في جمع كثيف من أصحابه، والتف معه أمير العرب ببلاد الشام وهو حسان بن الجراح الطائي في، عرب الشام بكمالهم.

فلما سمع بهم المعز الفاطمي أسقط في يده لكثرتهم، وكتب إلى القرمطي يستميله ويقول: إنما دعوة آبائك كانت إلى آبائي قديما، فدعوتنا واحدة، ويذكر فيه فضله وفضل آبائه.

فرد عليه الجواب: وصل كتابك الذي كثر تفضيله، وقل تحصيله، ونحن سائرون إليك على إثره والسلام.

فلما انتهوا إلى ديار مصر، عاثوا فيها قتلا ونهبا وفسادا، وحار المعز فيما يصنع، وضعف جيشه عن مقاومتهم، فعدل إلى المكيدة والخديعة، فراسل حسان بن الجراح أمير العرب، ووعده بمائة ألف دينار إن هو خذل بين الناس، فبعث إليه حسان يقول: أن ابعث إليَّ بما التزمت وتعال بمن معك، فإذا لقيتنا انهزمت بمن معي، فلا يبقى للقرمطي قوة فتأخذه كيف شئت.

فأرسل إليه بمائة ألف دينار في أكياسها، ولكن أكثرها زغل ضرب النحاس، وألبسه ذهبا، وجعله في أسفل الأكياس، وجعل في رؤوسها الدنانير الخالصة، ولما بعثها إليه ركب في إثرها في جيشه، فالتقى الناس فانهزم حسان بمن معه.

فضعف جانب القرمطي، وقوي عليه الفاطمي فكسره، وانهزمت القرامطة ورجعوا إلى أذرعات في أذل حال وأرذله، وبعث المعز في آثارهم القائد أبا محمود بن إبراهيم في عشرة آلاف فارس، ليحسم مادة القرامطة ويطفئ نارهم عنه.

المعز الفاطمي ينتزع دمشق من القرامطة

لما انهزم القرمطي بعث المعز سرية، وأمر عليهم ظالم بن موهوب العقيلي، فجاؤوا إلى دمشق فتسلمها من القرامطة بعد حصار شديد، واعتقل متوليها أبا الهيجاء القرمطي وابنه، واعتقل رجلا يقال له: أبو بكر من أهل نابلس، كان يتكلم في الفاطميين ويقول: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بواحد و رميت الفاطميين بتسعة.

فأمر به فسلخ بين يدي المعز وحشي جلده تبنا، وصلب بعد ذلك.

ولما تفرغ أبو محمود القائد من قتال القرامطة، أقبل نحو دمشق فخرج إليه ظالم بن موهوب، فتلقاه إلى ظاهر البلد وأكرمه، وأنزله ظاهر دمشق، فأفسد أصحابه في الغوطة ونهبوا الفلاحين، وقطعوا الطرقات، فتحول أهل الغوطة إلى البلد من كثرة النهب، وجيء بجماعة من القتلى فألقوا فكثر الضجيج، وغلقت الأسواق، واجتمعت العامة للقتال، والتقوا مع المغاربة، فقتل من الفريقين جماعة، وانهزمت العامة غير مرة.

وأحرقت المغاربة ناحية باب الفراديس، فاحترق شيءٌ كثير من الأموال والدور، وطال القتال بينهم إلى سنة أربع وستين وأحرقت البلد مرة أخرى بعد عزل ظالم بن موهوب، وتولية جيش بن صمصامة بن أخت أبي محمود قبحه الله.

وقطعت القنوات وسائر المياه عن البلد، ومات كثيرٌ من الفقراء في الطرقات من الجوع والعطش، ولم يزل الحال كذلك حتى ولي عليهم الطواشي ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي، فسكنت النفوس ولله الحمد.

ولما قويت الأتراك ببغداد، تحير بختيار بن معز الدولة في أمره وهو مقيم بالأهواز لا يستطيع الدخول إلى بغداد، فأرسل إلى عمه ركن الدولة يستنجده، فأرسل إليه بعسكر مع وزيره أبي الفتح ابن العميد، وأرسل إلى ابن عمه عضد الدولة ابن ركن الدولة، فأبطأ عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين فلم يجبه، وأرسل إلى أبي تغلب ابن حمدان فأظهر نصره، وإنما يريد في الباطن أخذ بغداد، وخرجت الأتراك من بغداد في جحفل عظيم ومعهم الخليفة المطيع وأبوه.

فلما انتهوا إلى واسط، توفي المطيع، وبعد أيام توفي سبكتكين، فحملا إلى بغداد، والتف الأتراك على أمير يقال له: أفتكين، فاجتمع شملهم، والتقوا مع بختيار، فضعف أمره جدا، وقوي عليه ابن عمه عضد الدولة، فأخذ منه ملك العراق، وتمزق شمله، وتفرق أمره.

وفيها: خطب للمعز الفاطمي بالحرمين مكة والمدينة النبوية.

وفيها: خرج طائفة من بني هلال وطائفة من العرب على الحجاج، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام.

وفيها: انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وأوله من سنة خمس وتسعين ومائتين، وهي أول دولة المقتدر.

وفيها: كانت زلزلة شديدة بواسط، وحج بالناس فيها الشريف أبو أحمد الموسوي، ولم يحصل لأحد حج في هذه السنة سوى من كان معه على درب العراق.

وقد أخذ بالناس على طريق المدينة، فتم حجهم.

وفيها توفي من الأعيان:

العباس بن الحسين

أبو الفضل السراجي، الوزير لعز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه، وكان من الناصرين للسنة المتعصبين لها، عكس مخدومه، فعزله وولى محمد بن بقية البابا، كما تقدم، وحبس هذا، فقتل في محبسه في ربيع الآخر منها، عن تسع وخمسين سنة، وكان فيه ظلم وحيف فالله أعلم.

أبو بكر عبد العزيز بن جعفر

الفقيه الحنبلي، المعروف: بغلام، أحد مشاهر الحنابلة الأعيان، وممن صنف وجمع وناظر، وسمع الحديث من أبي القاسم البغوي وطبقته، ومات وقد عدا الثمانين.

قال ابن الجوزي: وله (المقنع) في مائة جزء، و (الشافي) في ثمانين جزء، و(زاد المسافر)، و(الخلاف مع الشافعي)، و(كتاب القولين)، و(مختصر السنة)، وغير ذلك في التفسير والأصول.

علي بن محمد

أبو الفتح البستي، الشاعر المشهور، له ديوان جيد قوي، وله في المطابقة والمجانسة اليد الطولى، ومبتكرات أولى.

وقد ذكر ابن الجوزي له في (منتظمه): من ذلك قطعة كبيرة مرتبة على حروف المعجم، من ذلك قوله:

إذا قنعت بميسور من القوت ** بقيت في الناس حرا غير ممقوت

يا قوت يومي إذا مادر خلفك لي ** فلست آسي على در وياقوت

وقوله:

يا أيها السائل عن مذهبي ** ليقتدي فيه بمنهاجي

منهاجي الحق وقمع الهوى ** فهل لمنهاجي من هاجي

وقوله:

أفد طبعك المكدود بالجد راحة ** تجم وعلله بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيت ذلك فليكن ** بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

أبو فراس بن حمدان الشاعر

له ديوان مشهور.

استنابه أخوه سيف الدولة على حران ومنبج، فقاتل مرة الروم فأسروه ثم استنقذه سيف الدولة، واتفق موته في هذه السنة عن ثمان وأربعين سنة، وله شعر رائق ومعاني حسنة.

وقد رثاه أخوه سيف الدولة فقال:

المرء رهن مصائب لا تنقضي ** حتى يوارى جسمه في رمسه

فمؤجل يلقى الردى في أهله ** ومعجل يلقى الأذى في نفسه

فلما قالهما كان عنده رجل من العرب فقال: قل في معناهما، فقال الأعرابي:

من يتمنى العمر فليتخذ ** صبرا على فقد أحبابه

ومن يعمر يلق في نفسه ** ما يتمناه لأعدائه

كذا ذكر ابن الساعي هذين البيتين من شعر سيف الدولة في أخيه أبي فراس.

وذكرها ابن الجوزي: من شعر أبي فراس نفسه، وأن الأعرابي أجازهما بالبيتين المذكورين بعدهما.

ومن شعر أبي فراس:

سيفقدني قومي إذا جد جدهم ** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ولو سد غيري ما سددت اكتفوا ** به وما فعل النسر الرفيق مع الصقر

وقوله من قصيدة:

إلى الله أشكو إننا بمنازل ** تحكم في آسادهن كلاب

فليتك تحلو والحياة مريرة ** وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر ** وبيني وبين العالمين خراب

ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة

فيها: جاء عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه إلى واسط، ومعه وزير أبيه أبو الفتح بن العميد، فهرب منه الفتكين في الأتراك إلى بغداد، فسار خلفهم فنزل في الجانب الشرقي منها.

وأمر بختيار أن ينزل على الجانب الغربي، وحصر الترك حصرا شديدا، وأمر أمراء الأعراب أن يغيروا على الأطراف، ويقطعوا عن بغداد الميرة الواصلة إليها، فغلت الأسعار، وامتنع الناس من المعاش من كثرة العيارين والنهوب، وكبس الفتكين البيوت، لطلب الطعام، واشتد الحال ثم التفت الأتراك وعضد الدولة فكسرهم وهربوا إلى تكريت، واستحوذ عضد الدولة على بغداد، وما والاها من البلاد.

وكانت الترك قد أخرجوا معهم الخليفة، فرده عضد الدولة إلى دار الخلافة مكرما، ونزل هو بدار الملك، وضعف أمر بختيار جدا، ولم يبق معه شيء بالكلية، فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتاب عن بابه، واستعفى عن الإمارة، وكان ذلك بمشورة عضد الدولة، فاستعطفه عضد الدولة في الظاهر، وقد أشار عليه في الباطن أن لا يقبل فلم يقبل.

وترددت الرسل بينهما، فصمم بختيار على الامتناع ظاهرا، فألزم عضد الدولة بذلك وأظهر للناس أنه إنما يفعل هذا عجزا منه عن القيام بأعباء الملك، فأمر بالقبض على بختيار وعلى أهله وإخوته، ففرح بذلك الخليفة الطائع، وأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارسا، وجدد دار الخلافة حتى صار كل محل منها آنسا.

وأرسل إلى الخليفة بالأموال والأمتعة الحسنة العزيزة، وقتل المفسدين من مردة الترك وشطار العيارين.

قال ابن الجوزي: وفي هذه السنة عظم البلاء بالعيارين ببغداد وأحرقوا سوق باب الشعير، وأخذوا أموالا كثيرة، وركبوا الخيول، وتلقبوا بالقواد، وأخذوا الخفر من الأسواق والدروب، وعظمت المحنة بهم جدا، واستفحل أمرهم حتى أن رجلا منهم أسود كان مستضعفا نجم فيهم، وكثر ماله حتى اشترى جارية بألف دينار، فلما حصلت عنده حاولها عن نفسها فأبت عليه، فقال لها: ماذا تكرهين مني؟

قالت: أكرهك كلك.

فقال: فما تحبين؟

فقالت: تبيعني.

فقال: أو خير من ذلك؟

فحملها إلى القاضي فأعتقها وأعطاها ألف دينار وأطلقها، فتعجب الناس من حلمه وكرمه مع فسقه وقوته.

قال: وورد الخبر في المحرم بأنه خطب للمعز الفاطمي بمكة والمدينة في الموسم، ولم يخطب للطائع.

قال: وفي رجب منها: غلت الأسعار ببغداد، حتى بيع الكر الدقيق الحواري بمائة ونيف وسبعين دينارا.

قال: وفيها: اضمحل أمر عضد الدولة بن بويه، وتفرق جنده عنده، ولم يبق معه سوى بغداد وحدها، فأرسل إلى أبيه يشكو له ذلك، فأرسل يلومه على الغدر بابن عمه بختيار، فلما بلغه ذلك خرج من بغداد إلى فارس، بعد أن أخرج ابن عمه من السجن وخلع عليه وأعاده إلى ما كان عليه، وشرط عليه أن يكون نائبا له بالعراق يخطب له بها، وجعل معه أخاه أبا إسحاق أمير الجيوش لضعف بختيار عن تدبير الأمور، واستمر ذاهبا إلى بلاده، وذلك كله عن أمر أبيه له بذلك، وغضبه عليه بسبب غدره بابن عمه، وتكرار مكاتباته فيه إليه.

ولما سار ترك بعده وزير أبيه أبا الفتح ابن العميد، ولما استقر عز الدولة بختيار ببغداد وملك العراق، لم يف لابن عمه عضد الدولة بشيء مما قال، ولا ما كان التزم، بل تمادى على ضلاله القديم، واستمر على مشيه الذي هو غير مستقيم من الرفض وغيره.

قال: وفي يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة، تزوج الخليفة الطائع شاه باز بنت عز الدولة، على صداق مائة ألف دينار، وفي سلخ ذي القعدة عزل القاضي أبو الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان، وقلده أبو محمد معروف. وإمام الحج فيها أصحاب الفاطمي، وخطب له بالحرمين دون الطائع، والله سبحانه أعلم.

ذكر أخذ دمشق من أيدي الفاطميين

ذكر ابن الأثير في (كامله): أن الفتكين، غلام معز الدولة الذي كان قد خرج عن طاعته كما تقدم، والتف عليه عساكر وجيوش من الديلم والترك والأعراب، نزل في هذه السنة على دمشق، وكان عليها من جهة الفاطميين ريان الخادم، فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء أهلها وشيوخها، فذكروا له ما هم فيه من الظلم والغشم، ومخالفة الاعتقاد بسبب الفاطميين، وسألوه أن يصمم على أخذها ليستنقذها منهم.

فعند ذلك صمم على أخذها، ولم يزل حتى أخذها وأخرج منها ريان الخادم، وكسر أهل الشر بها، ورفع أهل الخير، ووضع في أهلها العدل، وقمع أهل اللعب واللهو، وكف أيدي الأعراب الذين كانوا قد عاثوا في الأرض فسادا، وأخذوا عامة المرج والغوطة، ونهبوا أهلها.

ولما استقامت الأمور على يديه، وصلح أمر أهل الشام، كتب إليه المعز الفاطمي يشكر سعيه، ويطلبه إليه ليخلع عليه، ويجعله نائبا من جهته، فلم يجبه إلى ذلك؛ بل قطع خطبته من الشام وخطب للطائع العباسي، ثم قصد صيدا، وبها خلق من المغاربة عليهم ابن الشيخ، وفيهم ظالم بن موهوب العقيلي، الذي كان نائبا على دمشق للمعز الفاطمي، فأساء بهم السيرة، فحاصرهم، ولم يزل حتى أخذ البلد منهم، وقتل منهم نحوا من أربعة آلاف من سراتهم.

ثم قصد طبرية، ففعل بأهلها مثل ذلك، فعند ذلك عزم المعز الفاطمي على المسير إليه، فبينما هو يجمع له العساكر إذ توفي المعز في سنة خمس وستين كما سيأتي.

وقام بعده ولده العزيز، فاطمأن عند ذلك الفتكين بالشام، واستفحل أمره، وقويت شوكته، ثم اتفق أمر المصريين على أن يبعثوا جوهرا القائد لقتاله، وأخذ الشام من يده، فعند ذلك حلف أهل الشام لأفتكين أنهم معه على الفاطميين، وأنهم ناصحون له غير تاركيه.

وجاء جوهر فحصر دمشق سبعة أشهر حصرا شديدا، ورأى من شجاعة الفتكين ما بهره، فلما طال الحال أشار من أشار من الدماشقة على الفتكين أن يكتب إلى الحسين بن أحمد القرمطي، وهو بالأحساء ليجيء إليه.

فلما كتب إليه أقبل لنصره، فلما سمع به جوهر لم يمكنه أن يبقى بين عدوين من داخل البلد وخارجها، فارتحل قاصدا الرملة، فتبعه ألفتكين والقرمطي في نحو من خمسين ألفا، فتواقعوا عند نهر الطواحين على ثلاث فراسخ من الرملة، وحصروا جوهرا بالرملة.

فضاق حاله جدا من قلة الطعام والشراب، حتى أشرف هو ومن معه على الهلاك، فسأل من الفتكين على أن يجتمع هو وهو على ظهور الخيل، فأجابه إلى ذلك، فلم يزل يترفق له أن يطلقه حتى يذهب بمن معه من أصحابه إلى أستاذه شاكرا له مثنيا عليه الخير، ولا يسمع من القرمطي فيه - وكان جوهر داهية - فأجابه إلى ذلك، فندمه القرمطي، وقال:

الرأي أنا كنا نحصرهم حتى يموتوا عن آخرهم، فإنه يذهب إلى أستاذه، ثم بجمع العساكر ويأتينا، ولا طاقة لنا به.

وكان الأمر كما قال، فإنه لما أطلقه الفتكين من الحصر لم يكن له دأب، إلا أنه حث العزيز على الخروج إلى الفتكين بنفسه، فأقبل في جحافل أمثال الجبال، وفي كثرة من الرجال والعدد والأثقال والأموال، وعلى مقدمته جوهر القائد.

وجمع الفتكين والقرمطي الجيوش والأعراب، وساروا إلى الرملة، فاقتتلوا في محرم سنة سبع وستين، ولما تواجهوا رأى العزيز من شجاعة الفتكين ما بهره، فأرسل إليه يعرض عليه إن أطاعه ورجع إليه أن يجعله مقدم عساكره، وأن يحسن إليه غاية الإحسان.

فترجل افتكين عن فرسه بين الصفين، وقبل الأرض نحو العزيز، وأرسل إليه يقول: لو كان هذا القول سبق قبل هذا الحال، لأمكنني وسارعت وأطعت، وأما الآن فلا.

ثم ركب فرسه، وحمل على ميسرة العزيز، ففرق شملها، وبدد خيلها ورجلها، فبرز عند ذلك العزيز من القلب، وأمر الميمنة فحملت حملة صادقة فانهزم القرمطي، وتبعه بقية الشاميين، وركبت المغاربة أقفيتهم يقتلون ويأسرون من شاؤوا، وتحول العزيز فنزل خيام الشاميين بمن معه، وأرسل السرايا وراءهم، وجعل لا يؤتى بأسير إلا خلع على من جاء به، وجعل لمن جاءه الفتكين مائة ألف دينار.

فاتفق أن الفتكين عطش عطشا شديدا، فاجتاز بمفرج بن دغفل، وكان صاحبه فاستسقاه فسقاه، وأنزله عنده في بيوته، وأرسل إلى العزيز يخبره بأن طلبته عنده، فليحمل المال إلي، وليأخذ غريمه.

فأرسل إليه بمائة ألف دينار، وجاء من تسلمه منه، فلما أحيط بالفتكين لم يشك أنه مقتول فما هو إلا أن حضر عند العزيز، أكرمه غاية الإكرام، ورد إليه حواصله وأمواله، لم يفقد منها شيئا، وجعله من أخص أصحابه وأمرائه، وأنزله إلى جانب منزله، ورجع به إلى الديار المصرية مكرما معظما، وأقطعه هنالك إقطاعات جزيلة.

وأرسل إلى القرمطي أن يقدم عليه ويكرمه، كما أكرم الفتكين، فامتنع عليه وخاف منه، فأرسل إليه بعشرين ألف دينار، وجعلها له عليه في كل سنة، يكف بها شره، ولم يزل الفتكين مكرما عند العزيز، حتى وقع بينه وبين الوزير ابن كلس، فعمل عليه حتى سقاه سما فمات، وحين علم العزيز بذلك غضب على الوزير، وحبسه بضعا وأربعين يوما وأخذ منه خمسمائة ألف دينار، ثم رأى أن لا غنى به عنه، فأعاده إلى الوزارة.

وهذا ملخص ما ذكره ابن الأثير.

وفيها توفي من الأعيان:

سبكتكين الحاجب التركي

مولى المعز الديلمي وحاجبه، وقد ترقى في المراتب حتى آل به الأمر إلى أن قلده الطائع الإمارة، وخلع عليه، وأعطاه اللواء، ولقبه: بنور الدولة، وكانت مدة أيامه في هذا المقام شهرين وثلاثة عشر يوما، ودفن ببغداد، وداره هي دار الملك ببغداد، وهي دار عظيمة جدا.

وقد اتفق له أنه سقط مرة عن فرسه، فانكسر صلبه، فداواه الطبيب حتى استقام ظهره، وقدر على الصلاة، إلا أنه لا يستطيع الركوع، فأعطاه شيئا كثيرا من الأموال، وكان يقول للطبيب: إذا ذكرت وجعي ومداواتك لي لا أقدر على مكافأتك، ولكن إذا تذكرت وضعك قدميك على ظهري اشتد غضبي منك.

توفي ليلة الثلاثاء لسبع بقين من المحرم منها.

وقد ترك من الأموال شيئا كثيرا جدا من ذلك ألف ألف دينار، وعشرة آلاف ألف درهم، وصندوقان من جوهر، وخمسة عشر صندوقا من البلور، وخمسة وأربعين صندوقا من آنية الذهب، ومائة وثلاثون كوكبا من ذهب، منها خمسون وزن كل واحد ألف دينار، وستمائة مركب من فضة، وأربعة آلاف ثوب من ديباج، وعشرة آلاف ديبقي وعتابي، وثلاثمائة عدل معكومة من الفرش، وثلاثة آلاف فرس وألف جمل، وثلاثمائة غلام وأربعون خادما، وذلك غير ما أودع عند أبي بكر البزار، وكان صاحبه.

ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة

فيها: قسم ركن الدولة ابن بويه ممالكه بين أولاده عندما كبرت سنه، فجعل لولده عضد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همدان والدينور، وجعل ولده أبا العباس في كنف عضد الدولة، وأوصاه به.

وفيها: جلس قاضي القضاة ببغداد، أبو محمد ابن معروف في دار عز الدولة لفصل الحكومات عن أمره له بذلك، فحكم بين يديه بين الناس.

وفيها: حج بالناس أمير المصريين من جهة العزيز الفاطمي، بعد ما حاصر أهل مكة، ولقوا شدةً عظيمة، وغلت الأسعار بها جدا.

وفيها: ذكر ابن الأثير: أن يوسف بلكين نائب المعز الفاطمي على بلاد إفريقية، ذهب إلى سبتة فأشرف عليها من جبل فطل عليها فجعل يتأمل من أين يحاصرها، فحاصرها نصف يوم فخافه أهلها خوفا شديدا، ثم انصرف عنها إلى مدينة هنالك يقال لها: بصرة في المغرب، فأمر بهدمها ونهبها.

ثم سار إلى مدينة برغواطة، وبها رجل يقال له: عيسى ابن أم الأنصار، وهو ملكها، وقد اشتدت المحنة به لسحره وشعبذته، وادعى أنه نبي فأطاعوه، ووضع لهم شريعة يقتدون بها، فقاتلهم بلكين فهزمهم، وقتل هذا الفاجر، ونهب أموالهم، وسبى ذراريهم، فلم يرَ سبي أحسن أشكالا منهم، فيما ذكره أهل تلك البلاد في ذلك الزمان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن جعفر بن محمد بن مسلم

أبو بكر الختلي، له مسند كبير، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبي محمد الكجي، وخلق، وروى عنه الدارقطني وغيره، وكان ثقة، وقد قارب التسعين.

ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي

المؤرخ فيما ذكره ابن الأثير في (الكامل).

الحسين بن محمد بن أحمد

أبو علي الماسرجسي الحافظ، رحل وسمع الكثير وصنف (مسندا) في ألف وثلاثمائة جزء بطرقه وعلله، وله (المغازي والقبائل)، وخرَّج على الصحيح وغيره.

قال ابن الجوزي: وفي بيته وسلفه تسعة عشر محدثا.

توفي في رجب منها.

أبو أحمد بن عدي الحافظ

أبو عبد الله بن محمد بن أبي أحمد الجرجاني - أبو أحمد بن عدي - الحافظ الكبير المفيد الإمام العالم، الجوال النقال الرحال، له كتاب (الكامل في الجرح والتعديل) لم يسبق إلى مثله، ولم يلحق في شكله.

قال حمزة عن الدارقطني: فيه كفاية لا يزاد عليه.

ولد أبو أحمد ابن عدي في سنة سبع وسبعين ومائتين، وهي السنة التي توفي فيها أبو حاتم الرازي، وتوفي ابن عدي في جمادى الآخرة من هذه السنة.

المعز الفاطمي

باني القاهرة، معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبد الله أبو تميم المدعي أنه فاطمي، صاحب الديار المصرية، وهو أول من ملكها من الفاطميين، وكان أول ملكا ببلاد إفريقية وما والاها من بلاد المغرب.

فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بعث بين يديه جوهرا القائد فأخذ له بلاد مصر من كافور الأخشيدي بعد حروب تقدم ذكرها، واستقرت أيدي الفاطميين عليها، فبنى بها القاهرة، وبنى منزل الملك، وهما القصران، ثم أقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي في سنة ثنتين وستين وثلاثمائة، ثم قدم المعز بعد ذلك ومعه جحافل من الجيوش، وأمراء من المغاربة والأكابر.

وحين نزل الإسكندرية تلقاه وجوه الناس، فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها: أنه ينصف المظلوم من الظالم، وافتخر فيها بنسبه، وأن الله قد رحم الأمة بهم، وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرا وباطنا.

كما قاله القاضي الباقلاني: إن مذهبهم الكفر المحض، واعتقادهم الرفض، وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه، قبحهم الله وإياه.

وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال له المعز: بلغني عنك أنك قلت: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة، ورميت المصريين بسهم.

فقال: ما قلت هذا، فظن أنه رجع عن قوله.

فقال: كيف قلت؟

قال: قلت: ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر.

وقال: ولِمَ؟

قال: لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بإشهاره في أول يوم، ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله.

فكان يقال له: الشهيد، وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم، ولم تزل فيهم بقايا خير.

وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة، وقوة حزم وشدة عزم، وله سياسة، وكان يظهر أنه يعدل وينصر الحق، ولكنه كان مع ذلك منجما، يعتمد على حركات النجوم.

قال له منجمه: إن عليك قطعا - أي: خوفا - في هذه السنة فتوار عن وجه الأرض حتى تنقضي هذه المدة، فعمل له سردابا، وأحضر الأمراء وأوصاهم بولده نزار، ولقبه العزيز، وفوض إليه الأمر، حتى يعود إليهم.

فبايعوه على ذلك، ودخل المعز ذلك السرداب، فتوارى فيه سنة، فكانت المغاربة إذا رأوا سحابا ترجل الفارس منهم له عن فرسه، وأومأ إليه بالسلام، ظانين أن المعز في ذلك الغمام، { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْما فَاسِقِينَ } [الزخرف: 54] .

ثم برز إليهم بعد سنة، وجلس في مقام الملك، وحكم على عادته أياما، ولم تطل مدته بل عاجله القضاء المحتوم، ونال رزقه المقسوم، فكانت وفاته في هذه السنة.

وكانت أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد ما ملكها ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، منها بمصر سنتان وتسعة أشهر، والباقي ببلاد المغرب، وجملة عمره كلها خمسة وأربعون سنة وستة أشهر، لأنه ولد بإفريقية في عاشر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكانت وفاته بمصر في اليوم السابع عشر من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة، وهي هذه السنة.

ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة

فيها: توفي ركن الدولة ابن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سنة، وكانت أيام ولايته نيفا وأربعين سنة، وقبل موته بسنة قسم ملكه بين أولاده كما ذكرنا.

وقد عمل ابن العميد مرة ضيافة في داره، وكانت حافلة حضرها ركن الدولة، وبنوه وأعيان الدولة، فعهد ركن الدولة في هذا اليوم إلى ابنه عضد الدولة.

وخلع عضد الدولة على إخوته وسائر الأمراء الأقبية والأكسية على عادة الديلم، وحفوه بالريحان على عادتهم أيضا، وكان يوما مشهودا.

وقد كان ركن الدولة قد أسن وكبر، وتوفي بعد هذه الوليمة بقليل في هذه السنة، وكان حليما وقورا كثير الصدقات، محبا للعلماء، فيه بر وكرم وإيثار، وحسن عشرة ورياسة، وحنو على الرعية وعلى أقاربه.

وحين تمكن ابنه عضد الدولة قصد العراق ليأخذها من ابن عمه بختيار لسوء سيرته، ورداءة سريرته، فالتقوا في هذه السنة بالأهواز فهزمه عضد الدولة وأخذ أثقاله وأمواله، وبعث إلى البصرة فأخذها وأصلح بين أهلها حيي ربيعة ومضر، وكان بينهما خلف متقادم من نحو مائة وعشرين سنة، وكانت مضر تميل إليه وربيعة عليه، ثم اتفق الحيان عليه، وقويت شوكته، وأذل بختيار، وقبض على وزيره ابن بقية، لأنه استحوذ على الأمور دونه، وجبى الأموال إلى خزائنه، فاستظهر عضد الدولة بما وجده في الخزائن والحواصل لابن بقية، ولم يبق له منها بقية.

وكذلك أمر عضد الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح ابن العميد لموجدة تقدمت منه إليه، وقد سلف ذكرها. ولم يبقَ لابن العميد أيضا في الأرض بقية، وقد كانت الأكابر تتقيه.

وقد كان ابن العميد من الفسوق والعصيان بأوفر مكان، فخانته المقادير، ونزل به غضب السلطان، ونحن نعوذ بالله من غضب الرحمن.

وفي منتصف شوال منها: توفي الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب بلاد خراسان وبخارى وغيرها، وكانت ولايته خمس عشر سنة، وقام بالأمر من بعده ولده أبو القاسم نوح، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة ولقب بالمنصور.

وفيها: توفي الحاكم وهو المستنصر بالله ابن الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي، وقد كان هذا من خيار الملوك وعلمائهم، وكان عالما بالفقه والخلاف والتواريخ محبا للعلماء محسنا إليهم، توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة وسبعة أشهر. ومدة خلافته منها خمسة عشر سنة وخمسة أشهر.

وقام بالأمر من بعده ولده هشام، وله عشر سنين، ولقب: بالمؤيد بالله، وقد اختلف عليه في أيامه واضطربت الرعايا عليه وحبس مدة، ثم أخرج وأعيد إلى الخلافة، وقام بأعباء أمره حاجبه المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المغافري، وابناه المظفر والناصر، فساسوا الرعايا جيدا وعدلا فيهم، وغزوا الأعداء، واستمر لهم الحال كذلك نحوا من ست وعشرين سنة.

وقد ساق ابن الأثير هنا قطعة من أخبارهم وأطال.

وفيها: رجع ملك حلب إلى أبي المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان، وذلك أنه لما مات أبوه، وقام هو من بعده تغلب قرعويه مولاهم، واستولى عليهم، سار إليه فأخرجه منها خائفا يترقب.

ثم جاء فنزل حماه وكانت الروم قد خربت حمص فسعى في عمارتها وترميمها وسكنها، ثم لما اختلفت الأمور على قرعويه كتب أهل حلب إلى أبي المعالي هذا، وهو بحمص أن يأتيهم، فسار إليهم فحاصر حلب أربعة أشهر فافتتحها، وامتنعت منه القلعة، وقد تحصن بها نكجور، ثم اصطلح مع أبي المعالي على أن يؤمنه على نفسه ويستنيبه بحمص، ثم انتقل إلى نيابة دمشق، وإليه تنسب هذه المزرعة ظاهر دمشق، التي تعرف بالقصر النكجوري.

ابتداء ملك بني سبكتكين

والد محمود صاحب غزنة.

وقد كان سبكتكين مولى الأمير أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة وأعمالها للسامانية، وليس هذا بحاجب معز الدولة ذاك.

توفي قبل هذه السنة كما تقدم، وأما هذا فإنه لما مات مولاه لم يترك أحدا يصلح للملك من بعده لا من ولده ولا من قومه، فاصطلح الجيش على مبايعة سبكتكين هذا لصلاحه فيهم، وخيره وحسن سيرته، وكمال عقله، وشجاعته، وديانته.

فاستقر الملك في يده، واستمر من بعده في ولده السعيد محمود بن سبكتكين، وقد غزا هذا بلاد الهند، وفتح شيئا كثيرا من حصونهم، وغنم أموالا كثيرة، وكسر من أصنامهم ونذورهم أمرا هائلا، وباشر من معه من الجيوش حربا عظيمة هائلة، وقد قصده جيبال ملك الهند الأعظم بنفسه، وجنوده التي تعم السهول والجبال، فكسره مرتين، وردهم إلى بلادهم في أسوأ حال وأردأ بال.

وذكر ابن الأثير في (كامله): أن سبكتكين لما التقى مع جيبال ملك الهند في بعض الغزوات، كان بالقرب منهم عين في عقبة باغورك، وكان من عادتهم أنها إذا وضعت فيها نجاسة أو قذرا اكفهرت السماء، وأرعدت، وأبرقت، وأمطرت، ولا تزال كذلك حتى تطهر تلك العين من ذلك الشيء الذي ألقي فيها، فأمر سبكتكين بإلقاء نجاسة فيها - وكانت قريبة من نحو العدو - فلم يزالوا في رعود وبروق وأمطار وصواعق، حتى ألجأهم ذلك إلى الهرب والرجوع إلى بلادهم خائبين هاربين.

وأرسل ملك الهند يطلب من سبكتكين الصلح، فأجابه بعد امتناع من ولده محمود على مال جزيل يحمله إليه، وبلاد كثيرة يسلمها إليه، وخمسين فيلا، ورهائن من رؤوس قومه يتركها عنده، حتى يقوم بما التزمه من ذلك.

وفيها توفي:

أبو يعقوب يوسف

ابن الحسين الجنابي صاحب هجر، ومقدم القرامطة، وقام بالأمر من بعده ستة من قومه، وكانوا يسمون: بالسادة، وقد اتفقوا على تدبير الأمر من بعده، ولم يختلفوا، فمشى حالهم.

وفيها كانت وفاة:

الحسين بن أحمد

ابن أبي سعيد الجنابي أبو محمد القرمطي.

قال ابن عساكر: واسم أبي سعيد: الحسين بن بهرام، ويقال: ابن أحمد، يقال: أصلهم من الفرس، وقد تغلب هذا على الشام في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، ثم عاد إلى الأحساء بعد سنة، ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين، وكسر جيش جعفر بن فلاح أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي وقتله.

ثم توجه إلى مصر فحاصرها في مستهل ربيع الأول من سنة إحدى وستين، واستمر محاصرها شهورا، وقد كان استخلف على دمشق ظالم بن موهوب، ثم عاد إلى الأحساء، ثم رجع إلى الرملة فتوفي بها في هذه السنة، وقد جاوز التسعين، وهو يظهر طاعة عبد الكريم الطائع لله العباسي.

وقد أورد له ابن عساكر أشعارا رائقة، من ذلك ما كتب به إلى جعفر بن فلاح قبل وقوع الحرب بينهما، وهي من أفحل الشعر:

الكتب معذرة والرسل مخبرة ** والحق متبع والخير محمود

والحرب ساكنة والخيل صافنة ** والسلم مبتذل والظل ممدود

فإن أنبتم فمقبول إنابتكم ** وإن أبيتم فهذا الكور مشدود

على ظهور المنايا أو يردن بنا ** دمشق والباب مسدود ومردود

إني امرؤ ليس من شأني ولا أربى ** طبل يرن ولا ناي ولا عود

ولا اعتكاف على خمر ومخمرة ** وذات دل لها غنج وتفنيد

ولا أبيت بطين البطن من شبع ** ولي رفيق خميص البطن مجهود

ولا تسامت بي الدنيا إلى طمع ** يوما ولا غرني فيها المواعيد

ومن شعره أيضا:

يا سكان البلد المنيف تعززا ** بقلاعه وحصونه وكهوفه

لا عز إلا للعزيز بنفسه ** وبخيله وبرجله وسيوفه

وبقية بيضاء قد ضربت على ** شرف الخيام بجاره وضيوفه

قوم إذا اشتد الوغا أردى العدا ** وشفى النفوس بضربه وزحوفه

لم يجعل الشرف التليد لنفسه ** حتى أفاد تليده بطريفه

وفيها: تملك قابوس بن وشمكير بلاد جرجان وطبرستان، وتلك النواحي.

وفيها: دخل الخليفة الطائع بشاه بار بنت عز الدولة ابن بويه، وكان عرسا حافلا.

وفيها: حجت جميلة بنت ناصر الدولة ابن حمدان في تجمل عظيم، حتى كان يضرب المثل بحجها، وذلك أنها عملت أربعمائة محمل وكان لا يدري في أيها هي.

ولما وصلت إلى الكعبة نثرت عشرة آلاف دينار على الفقراء والمجاورين، وكست المجاورين بالحرمين كلهم، وأنفقت أموالا جزيلة في ذهابها وإيابها.

وحج بالناس من العراق الشريف أحمد بن الحسين بن محمد العلوي، وكذلك حج بالناس إلى سنة ثمانين وثلاثمائة، وكانت الخطبة بالحرمين في هذه السنة للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين.

وممن توفي فيها من الأعيان:

إسماعيل بن نجيد

ابن أحمد بن يوسف أبو عمرو السلمي، صحب الجنيد وغيره، وروى الحديث، وكان ثقة، ومن جيد كلامه قوله: من لم تهدك رؤيته فليس بمهذب.

وقد احتاج شيخه أبو عثمان مرة إلى شيء، فسأل أصحابه فيه، فجاءه ابن نجيد بكيس فيه ألفا درهم فقبضه منه، وجعل يشكره إلى أصحابه، فقال له ابن نجيد بين أصحابه: يا سيدي إن المال الذي دفعته إليك كان من مال أمي، أخذته وهي كارهة، فأنا أحب أن ترده إليّ حتى أرده إليها فأعطاه إياه.

فلما كان الليل جاء به وقال: أحب أن تصرفها في أمرك ولا تذكرها لأحد. فكان أبو عثمان يقول: أنا أجتني من همة أبي عمرو بن نجيد رحمهم الله تعالى.

الحسن بن بويه

أبو علي ركن الدولة عرض له قولنج فمات في ليلة السبت الثامن والعشرين من المحرم منها، وكانت مدة ولايته أربعا وأربعين سنة وشهرا وتسعة أيام، ومدة عمره ثمان وسبعون سنة، وكان حليما كريما.

محمد بن إسحاق

ابن إبراهيم بن أفلح بن رافع بن رافع بن إبراهيم بن أفلح بن عبد الرحمن بن رفاعة بن رافع، أبو الحسن الأنصاري الزرقي، كان نقيب الأنصار، وقد سمع الحديث من أبي القاسم البغوي وغيره، وكان ثقة يعرف أيام الأنصار ومناقبهم، وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها.

محمد بن الحسن

ابن أحمد بن إسماعيل أبو الحسن السراج، سمع يوسف بن يعقوب القاضي وغيره، وكان شديد الاجتهاد في العبادة.

صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، توفي يوم عاشوراء منها.

القاضي منذر البلوطي

رحمه الله، قاضي قضاة الأندلس، كان إماما عالما فصيحا خطيبا شاعرا أديبا، كثير الفضل، جامعا لصنوف من الخير والتقوى والزهد، وله مصنفات واختيارات، منها: أن الجنة التي سكنها آدم وأهبط منها كانت في الأرض، وليست بالجنة التي أعدها الله لعباده في الآخرة، وله في ذلك مصنف مفرد، له وقع في النفوس، وعليه حلاوة وطلاوة.

دخل يوما على الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي، وقد فرغ من بناء المدينة الزهراء وقصورها، وقد بنى له فيها قصر عظيم منيف، وقد زخرف بأنواع الدهانات وكسي الستور، وجلس عنده رؤوس دولته وأمراؤه، فجاءه القاضي فجلس إلى جانبه وجعل الحاضرون يثنون على ذلك البناء ويمدحونه، والقاضي ساكت لا يتكلم، فالتفت إليه الملك وقال:

ما تقول أنت يا أبا الحكم؟

فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته وقال: ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهتك، المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك تمكنه من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين.

قال الله تعالى: { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ** وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابا وَسُرُرا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ**وَزُخْرُفا.. } الآية [الزخرف: 33-35] .

قال: فوجم الملك عند ذلك وبكى، وقال: جزاك الله خيرا وأكثر في المسلمين مثلك.

وقد قحط في بعض السنين، فأمره الملك أن يستسقي للناس.

فلما جاءته الرسالة مع البريد قال للرسول: كيف تركت الملك.

فقال: تركته أخشع ما يكون وأكثره دعاء وتضرعا.

فقال القاضي: سقيتم والله إذا خشع جبار الأرض، رحم جبار السماء.

ثم قال لغلامه: ناد في الناس الصلاة، فجاء الناس إلى محل الاستسقاء، وجاء القاضي منذر، فصعد المنبر والناس ينظرون إليه، ويسمعون ما يقول.

فلما أقبل عليهم كان أول ما خاطبهم به قال: سلام عليكم، { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 54] .

ثم أعادها مرارا فأخذ الناس في البكاء والنحيب والتوبة والإنابة، فلم يزالوا كذلك حتى سقوا ورجعوا يخوضون الماء.

أبو الحسن علي بن أحمد

ابن المرزبان الفقيه الشافعي تفقه بأبي الحسين ابن القطان وأخذ عنه الشيخ أبو حامد الإسفراييني.

قال ابن خلكان: كان ورعا زاهدا ليس لأحد عنده مظلمة، وله في المذهب وجه، وكان له درس ببغداد.

توفي في رجب منها.

ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة

فيها: دخل عضد الدولة إلى بغداد، وخرج منها عز الدولة بختيار واتبعه عضد الدولة وأخذ معه الخليفة فاستعفاه فأعفاه، وسار عضد الدولة وراءه فأخذه أسيرا، ثم قتل سريعا وتصرمت دولته واستقر أمر عضد الدولة ببغداد، وخلع عليه الخليفة الخلع السنية والأسورة والطوق، وأعطاه لواءين أحدهما ذهب والآخر فضة، ولم يكن هذا لغيره إلا لأولياء العهد، وأرسل إليه خليفة بتحف سنية.

وبعث عضد الدولة إلى الخليفة أموالا جزيلة من الذهب والفضة، واستقرت يده على بغداد وما والاها من البلاد، وزلزلت بغداد مرارا في هذه السنة، وزادت دجلة زيادة كثيرة غرق بسببها خلقٌ كثير.

وقيل لعضد الدولة: إن أهل بغداد قد قلوا كثيرا بسبب الطاعون، وما وقع بينهم من الفتن بسبب الرفض والسنة وأصابهم حريق وغرق، فقال: إنما يهيج الشر بين الناس هؤلاء القصاص والوعاظ، ثم رسم أن أحدا لا يقص ولا يعظ في سائر بغداد، ولا يسأل سائل باسم أحد من الصحابة، وإنما يقرأ القرآن فمن أعطاه أخذ منه.

فعمل بذلك في البلد، ثم بلغه أن أبا الحسين ابن سمعون الواعظ - وكان من الصالحين - لم يترك الوعظ بل استمر على عادته.

فأرسل إليه من جاء به، وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه، وقيل لابن سمعون: إذا دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبل التراب.

فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون في حقه كلام بحضرة الناس يؤثر عنه.

ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون وراءه، ثم استفتح القراءة بقوله: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ... } الآية [هود: 102] ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة ثم قرأ: { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس: 14] ثم أخذ في مخاطبة الملك ووعظه، فبكى عضد الدولة بكاءً كثيرا، وجزاه خيرا.

فلما خرج من عنده قال للحاجب: اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم، وعشرة أثواب وادفعها له فإن قبلها جئني برأسه.

قال الحاجب: فجئته.

فقلت: هذا أرسل به الملك إليك.

فقال: لا حاجة لي به، هذه ثيابي من عهد أبي منذ أربعين سنة، كلما خرجت إلى الناس لبستها، فإذا رجعت طويتها ولي دار آكل من أجرتها، تركها لي أبي، فأنا في غنية عما أرسل به الملك.

فقلت: فرقها في فقراء أهلك.

فقال: فقراء أهله أحق بها من فقراء أهلي، وأفقر إليها منهم.

فرجعت إلى الملك لأشاوره وأخبره بما قال، فسكت ساعة، ثم قال: الحمد لله الذي سلمه منا وسلمنا منه.

ثم إن عضد الدولة أخذ ابن بقية الوزير لعز الدولة، فأمر به فوضع بين قوائم الفيلة فتخبطته بأرجلها حتى هلك، ثم صلب على رأس الجسر في شوال منها، فرثاه أبو الحسين ابن الأنباري بأبيات يقول فيها:

علو في الحياة وفي الممات ** بحق أنت إحدى المعجزاتِ

كأن الناس حولك حين قاموا ** وفود نداك أيام الصلاتِ

كأنك واقف فيهم خطيبا ** وكلهم وقوف للصلاةِ

مددت يديك نحوهم احتفاء ** كمدهما إليهم بالهباتِ

وهي قصيدة طويلة، أورد كثيرا منها ابن الأثير في (كامله).

مقتل عز الدين بختيار

لما دخل عضد الدولة بغداد وتسلمها، خرج منها بختيار ذليلا طريدا في فلٍّ من الناس، و من عزمه أن يذهب إلى الشام فيأخذها، وكان عضد الدولة قد حلفه أن لا يتعرض لأبي تغلب لمودة كانت بينهما ومراسلات، فحلف له على ذلك.

وحين خرج من بغداد كان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان، فحسن لعز الدولة أخذ بلاد الموصل من أبي تغلب، لأنها أطيب، وأكثر مالا من الشام وأقرب إليه، وكان عز الدولة ضعيف العقل قليل الدين، فلما بلغ ذلك أبا تغلب أرسل إلى عز الدولة يقول له: لئن أرسلت إلى ابن أخي حمدان بن ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك ملك بغداد من عضد الدولة، وأردك إليها.

فعند ذلك أمسك حمدان وأرسله إلى عمه أبي تغلب، فسجنه في بعض القلاع.

وبلغ ذلك عضد الدولة، وأنهما قد اتفقا على حربه فركب إليهما بجيشه، وأراد إخراج الخليفة الطائع معه، فأعفاه فذهب إليهما، فالتقى معهما فكسرهما وهزمهما، وأخذ عز الدولة أسيرا وقتله من فوره، وأخذ الموصل ومعاملتها، وكان قد حمل معه ميرة كثيرة، وشرد أبا تغلب في البلاد، وبعث وراءه السرايا في كل وجه، وأقام بالموصل إلى أواخر سنة ثمان وستين.

وفتح ميافارقين وآمد وغيرهما من بلاد بكر وربيعة، وتسلم بلاد مضر من أيدي نواب أبي تغلب، وأخذ منهم الرحبة، ورد بقيتها على صاحب حلب سعد الدولة بن سيف الدولة، وتسلط على سعد الدولة.

وحين رجع من الموصل استناب عليها أبا الوفا، وعاد إلى بغداد فتلقاه الخليفة ورؤوس الناس إلى ظاهر البلد، وكان يوما مشهودا.

ومما وقع من الحوادث فيها: الوقعة التي كانت بين العزيز بن المعز الفاطمي وبين ألفتكين غلام معز الدولة، صاحب دمشق، فهزمه وأسره وأخذه معه إلى الديار المصرية، مكرما معظما كما تقدم، وتسلم العزيز دمشق وأعمالها، وقد تقدم بسط ذلك في سنة أربع وستين.

وفيها: خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي بقضاء قضاة الري وما تحت حكم مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وله مصنفات حسنة منها: (دلائل النبوة)، و(عمد الأدلة) وغيرها.

وحج بالناس فيها: نائب المصريين وهو الأمير باديس بن زيري، أخو يوسف بن بلكين.

ولما دخل مكة اجتمع إليه اللصوص، وسألوا منه أن يُضمِّنهم الموسم هذا العام بما شاء من الأموال.

فأظهر لهم الإجابة إلى ما سألوا وقال لهم: اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم كلكم، فاجتمع عنده بضع وثلاثون حراميا.

فقال: هل بقي منكم أحد؟

فحلفوا له إنه لم يبق منهم أحد، فأخذ عند ذلك بالقبض عليهم وبقطع أيديهم كلهم، ونعمّا ما فعل.

وكانت الخطبة في الحجاز للفاطميين دون العباسيين.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الملك عز الدولة بختيار بن بويه الديلمي

ملك بعد أبيه وعمره فوق العشرين سنة بقليل، وكان حسن الجسم، شديد البطش، وقوي القلب، يقال: إنه كان يأخذ بقوائم الثور الشديد فيلقيه في الأرض من غير أعوان، ويقصد الأسود في أماكنها، ولكنه كان كثير اللهو واللعب والإقبال على اللذات.

ولما كسره ابن عمه ببلاد الأهواز، كان في جملة ما أخذ منه أمرد كان يحبه حبا شديدا لا يهنأ بالعيش إلا معه، فبعث يترفق له في رده إليه، وأرسل إليه بتحفٍ كثيرة وأموالٍ جزيلة وجاريتين عوادتين لا قيمة لهما، فرد عليه الغلام المذكور، فكثر تعنيف الناس له عند ذلك، وسقط من أعين الملوك، فإنه كان يقول: ذهاب هذا الغلام مني أشد علي من أخذ بغداد من يدي، بل وأرض العراق كلها.

ثم كان من أمره بعد ذلك أن ابن عمه أسره كما ذكرنا، وقتله سريعا، فكانت مدة حياته ستا وثلاثين سنة، ومدة دولته منها إحدى وعشرين سنة وشهور، وهو الذي أظهر الرفض ببغداد، وجرى بسبب ذلك شرور كما تقدم.

محمد بن عبد الرحمن

أبو بكر القاضي، المعروف: بابن قُريعة، ولي القضاء بالسندية، وكان فصيحا يأتي بالكلام المسجوع من غير تكلف ولا تردد، وكان جميل المعاشرة، ومن شعره:

لي حيلة في من ينمـ ** ـم وليس في الكذاب حيله

من كان يخلق ما يقو ** ل فحيلتي فيه قليله

وكان يقول للرجل من أصحابه إذا تماشيا: إذا تقدمت بين يديك فإني حاجب، وإن تأخرت فواجب.

توفي يوم السبت لعشرٍ بقين من جمادى الآخرة منها.

ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة

في شعبان منها أمر الطائع لله أن يدعى لعضد الدولة بعد الخليفة على المنابر ببغداد، وأن تضرب الدبادب على بابه وقت الفجر وبعد المغرب والعشاء.

قال ابن الجوزي: وهذا شيء لم يتفق لغيره من بني بويه.

وقد كان معز الدولة سأل من الخليفة أن يضرب الدبادب على بابه فلم يأذن له، وقد افتتح عز الدولة في هذه السنة وهو مقيم بالموصل أكثر بلاد أبي تغلب بن حمدان، كآمد والرحبة وغيرهما، ثم دخل بغداد في سلخ في ذي القعدة، فتلقاه الخليفة والأعيان إلى أثناء الطريق.

قسّام التراب يملك دمشق

لما ذهب الفتكين إلى ديار مصر، نهض رجل من أهل دمشق يقال له: قسام التراب، كان الفتكين يقربه ويدنيه ويأمنه على أسراره، فاستحوذ على دمشق وطاوعه أهلها وقصدته عساكر العزيز من مصر فحاصروه فلم يتمكنوا منه، وجاء أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان فحاصره فلم يقدر أن يدخل دمشق، فانصرف عنه خائبا إلى طبرية، فوقع بينه وبين بني عقيل وغيرهم من العرب حروب طويلة، آل الحال إلى أن قتل أبو تغلب، وكانت معه أخته وجميلة امرأته وهي بنت سيف الدولة، فردتا إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب، فأخذ أخته وبعث بجميلة إلى بغداد فحبست في دار وأخذ منها أموال جزيلة.

وأما قسام التراب هذا - وهو من بني الحارث بن كعب من اليمن - فإنه أقام بالشام فسد خللها وقام بمصالحها مدة سنين عديدة، وكان مجلسه بالجامع يجتمع الناس إليه فيأمرهم وينهاهم فيمتثلون ما يأمر به.

قال ابن عساكر: أصله من قرية تلفيتا، وكان ترابا.

قلت: والعامة يسمونه قسيم الزبال، وإنما هو قسام، ولم يكن زبالا بل ترابا من قرية تلفيتا بالقرب من قرية منين، وكان بدو أمره أنه انتمى إلى رجل من أحداث أهل دمشق يقال له: أحمد بن المسطان، فكان من حزبه ثم استحوذ على الأمور وغلب على الولاة والأمراء، إلى أن قدم بلكتكين التركي من مصر في يوم الخميس السابع عشر من المحرم سنة ست وسبعين وثلاثمائة، فأخذها منه واختفى قسام التراب مدة ثم ظهر فأخذه أسيرا وأرسله مقيدا إلى الديار المصرية، فأطلق وأحسن إليه وأقام بها مكرما.

وممن توفي فيها من الأعيان:

العقيقي

صاحب الحمام والدار المنسوبتين إليه بدمشق بمحلة باب البريد، واسمه أحمد بن الحسن القعقيقي بن ضعقن بن عبد الله بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الشريف أبو القاسم الحسين القعقيق.

قال ابن عساكر: كان من وجوه الأشراف بدمشق وإليه تنسب الدار والحمام بمحلة باب البريد.

وذكر أنه توفي يوم الثلاثاء لأربع خلون من جمادى الأولى منها، وأنه دفن من الغد وأغلقت البلد لأجل جنازته، وحضرها نكجور وأصحابه - يعني نائب دمشق - ودفن خارج باب الصغير.

قلت: وقد اشترى الملك الظاهر بيبرس داره وبناها مدرسة ودار حديث وتربة وبها قبره، وذلك في حدود سنة سبعين وستمائة كما سيأتي بيانه.

أحمد بن جعفر

ابن مالك بن شبيب بن عبد الله أبو بكر بن مالك القطيعي - من قطيعة الدقيق ببغداد - راوي مسند أحمد عن ابنه عبد الله، وقد روى عنه غير ذلك من مصنفات أحمد، وحدث عن غيره من المشايخ، وكان ثقة كثير الحديث، حدث عنه الدارقطني، وابن شاهين، والبرقاني، وأبو نعيم، والحاكم، ولم يمتنع أحد من الرواية عنه ولا التفتوا إلى ما طعن عليه بعضهم وتكلم فيه، بسبب غرق كتبه حين غرقت القطيعة بالماء الأسود، فاستحدث بعضها من نسخ أخرى، وهذا ليس بشيء، لأنها قد تكون معارضة على كتبه التي غرقت والله اعلم.

ويقال: إنه تغير في آخر عمره فكان لا يدري ما جرى عليه، وقد جاوز التسعين.

تميم بن المعز الفاطمي

وبه كان يكنى، وقد كان من أكابر أمراء دولة أبيه وأخيه العزيز، وقد اتفقت له كائنة غريبة وهي أنه أرسل إلى بغداد فاشتريت له جارية مغنية بمبلغ جزيل، فلما حضرت عنده أضاف أصحابه ثم أمرها فغنت - وكانت تحب شخصا ببغداد -:

وبدا له من بعد ما انتقل الهوى ** برق تألق من هنا لمعانه

يبدو لحاشية اللواء ودونه ** صعب الذرى متمنع أركانه

فبدا لينظر كيف لاح فلم يطق ** نظرا إليه وشده أشجانه

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ** والماء ما سمحت به أجفانه

ثم غنته أبياتا غيرها فاشتد طرب تميم هذا، وقال لها: لا بد أن تسأليني حاجة، فقالت: عافيتك.

فقال: ومع العافية.

فقالت: تردني إلى بغداد حتى أغني بهذه الأبيات، فوجم لذلك ثم لم يجد بدا من الوفاء لها بما سألت، فأرسلها مع بعض أصحابه فأحجبها ثم سار بها على طريق العراق، فلما أمسوا في الليلة التي يدخلون فيها بغداد من صبيحتها، ذهبت في الليل فلم يدر أين ذهبت، فلما سمع تميم خبرها شق عليه ذلك وتألم ألما شديدا، وندم ندما شديدا حيث لا ينفعه الندم.

أبو سعيد السيرافي

النحوي الحسن بن عبد الله بن المرزبان، القاضي، سكن بغداد وولي القضاء بها نيابة، وله (شرح كتاب سيبويه)، و(طبقات النحاة)، روى عن أبي بكر بن دريد وغيره، وكان أبوه مجوسيا، وكان أبو سعيد هذا عالما باللغة والنحو والقراءات والفرائض والحساب وغير ذلك من فنون العلم.

وكان مع ذلك زاهدا لا يأكل إلا من عمل يده، كان ينسخ في كل يوم عشر ورقات بعشرة دراهم، تكون منها نفقته، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وكان ينتحل مذهب أهل العراق في الفقه، وقرأ القراءات على ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على ابن سراج وابن المرزبان، ونسبه بعضهم إلى الاعتزال وأنكره آخرون.

توفي في رجب منها عن أربع وثمانين سنة، ودفن بمقبرة الخيزران.

عبد الله بن إبراهيم

ابن أبي القاسم الريحاني، ويعرف بالأبندوني، رحل في طلب الحديث إلى الآفاق، ووافق ابن عدي في بعض ذلك، ثم سكن بغداد وحدث بها عن أبي يعلى، والحسن بن سفيان، وابن خزيمة وغيرهم، وكان ثقة ثبتا، له مصنفات زاهدا، روى عنه البرقاني وأثنى عليه خيرا، وذكر أن أكثر أدم أهله الخبز المأدوم بمرق الباقلا، وذكر أشياء من تقلله وزهده وورعه، توفي عن خمس وتسعين سنة.

عبد الله بن محمد بن ورقاء

الأمير أبو أحمد الشيباني من أهل البيوتات والحشمة، بلغ التسعين سنة، روى عن ابن الأعرابي أنه أنشد في صفة النساء:

هي الضلع العوجاء لست تقيمها ** ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

أيجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى ** أليس عجيبا ضعفها واقتدارها

قلت: وهذا المعنى أخذه من الحديث الصحيح:

«إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج».

محمد بن عيسى

ابن عمرويه الجلودي راوي صحيح مسلم، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، عن مسلم بن الحجاج، وكان من الزهاد، يأكل من كسب يده من النسخ، وبلغ ثمانين سنة.

ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة

في المحرم منها توفي الأمير عمر بن شاهين صاحب بلاد البطيحة منذ أربعين سنة، تغلب عليها وعجز عنه الأمراء والملوك والخلفاء، وبعثوا إليه الجنود والسرايا والجيوش غير مرة، فكل ذلك يفلها ويكسرها، وكل ما له في تمكن وزيادة وقوة، ومكث كذلك هذه المدة، ومع هذا كله مات على فراشه حتف أنفه، فلا نامت أعين الجبناء.

وقام بالأمر من بعده ولده الحسن، فرام عضد الدولة أن ينتزع الملك من يده، فأرسل إليه سرية حافلة من الجنود فكسرهم الحسن بن عمر بن شاهين، وكاد أن يتلفهم بالكلية حتى أرسل إليه عضد الدولة فصالحه على مال يحمله إليه في كل سنة، وهذا من العجائب الغريبة.

وفي صفر قبض على الشريف أبي أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين، وقد كان أمير الحج مدة سنين، اُتهم بأنه يفشي الأسرار وأن عز الدولة أودع عنده عقدا ثمينا، ووجدوا كتابا بخطه في إفشاء الأسرار، فأنكر أنه خطه وكان مزورا عليه، واعترف بالعقد فأخذ منه وعزل عن النقابة وولوا غيره، وكان مظلوما.

وفي هذا الشهر أيضا عزل عضد الدولة قاضي القضاة أبا محمد بن معروف وولى غيره.

وفي شعبان منها ورد البريد من مصر إلى عضد الدولة بمراسلات كثيرة، فرد الجواب بما مضمونه صدق النية وحسن الطوية، ثم سأل عضد الدولة من الطائع أن يجدد عليه الخلع والجواهر، وأن يزيد في إنشائه تاج الدولة، فأجابه إلى ذلك، وخلع عليه من أنواع الملابس ما لم يتمكن معه من تقبيل الأرض بين يدي الخليفة، وفوض إليه ما وراء بابه من الأمور ومصالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحضر ذلك أعيان الناس، وكان يوما مشهودا.

وأرسل في رمضان إلى الأعراب من بني شيبان وغيرهم فعقرهم وكسرهم، وكان أميرهم منبه بن محمد الأسدي متحصنا بعين التمر مدة نيف وثلاثين سنة، فأخذ ديارهم وأموالهم.

وفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة تزوج الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى، وعقد العقد بحضرة الأعيان على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وكان وكيل عضد الدولة الشيخ أبا علي الحسين بن أحمد الفارسي النحوي، صاحب (الإيضاح والتكملة) وكان الذي خطب خطبة العقد القاضي أبو علي الحسن بن علي التنوخي.

قال ابن الأثير: وفيها جدد عضد الدولة عمارة بغداد ومحاسنها، وجدد المساجد والمشاهد، وأجرى على الفقهاء الأزراق، وعلى الأئمة من الفقهاء والمحدثين والأطباء والحساب وغيرهم، وأطلق الصلات لأرباب البيوتات والشرف، وألزم أصحاب الأملاك بعمارة بيوتهم ودورهم، ومهد الطرقات وأطلق المكوس وأصلح الطريق للحجاج من بغداد إلى مكة، وأرسل الصدقات للمجاورين بالحرمين.

قال: وأذن لوزيره نصر بن هارون - وكان نصرانيا - بعمارة البيع والأديرة، وأطلق الأموال لفقرائهم.

وفيها: توفي حسنويه بن حسين الكردي، وكان قد استحوذ على نواحي بلاد الدينور وهمدان ونهاوند مدة خمسين سنة، وكان حسن السيرة كثير الصدقة بالحرمين وغيرهما، فلما توفي اختلف أولاده من بعده وتمزق شملهم، وتمكن عضد الدولة من أكثر بلادهم، وقويت شوكته في تلك الأرض.

وفيها: ركب عضد الدولة في جنود كثيفة إلى بلاد أخيه فخر الدولة، وذلك لما بلغه من ممالأته لعز الدولة واتفاقهم عليه، فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة وهمدان والري وما بينهما من البلاد، وسلم ذلك إلى مؤيد الدولة - وهو أخوه الآخر - ليكون نائبه عليها، ثم سار إلى بلاد حسنويه الكردي فتسلمها وأخذ حواصله وذخائره، وكانت كثيرة جدا، وحبس بعض أولاده وأسر بعضهم، وأرسل إلى الأكراد الهكارية فأخذ منهم بعض بلادهم، وعظم شأنه وارتفع صيته، إلا أنه أصابه في هذا السفر داء الصداع، وكان قد تقدم له بالموصل مثله، وكان يكتمه إلى أن غلب عليه كثرة النسيان فلا يذكر الشيء إلا بعد جهد جهيد، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر.

دار إذا ما أضحكت في يومها ** أبكت غدا، بعدا لها من دار

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن زكريا أبو الحسن اللغوي

صاحب كتاب (المجمل في اللغة) وغيره، ومن شعره قبل موته بيومين:

يا رب إن ذنوبي قد أحطت بها ** علما وبي وبإعلاني وأسراري

أنا الموحد لكني المقر بها ** فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري

ذكر ذلك ابن الأثير.

أحمد بن عطاء بن أحمد

أبو عبد الله الروذباري - ابن أخت أبي علي الروذباري - أسند الحديث، وكان يتكلم على مذهب الصوفية، وكان قد انتقل من بغداد فأقام بصور وتوفي بها في هذه السنة.

قال: رأيت في المنام كأن قائلا يقول: أي شيء أصح في الصلاة؟

فقلت: صحة القصد، فسمعت قائلا يقول: رؤية المقصود بإسقاط رؤية القصد أتم.

وقال: مجالسة الأضداد ذوبان الروح، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول، وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة، ولا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار، ولا يؤمن على الأسرار إلا الأمناء فقط.

وقال: الخشوع في الصلاة علامة الفلاح.

قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ** الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1-2] .

وترك الخشوع في الصلاة علامة النفاق وخراب القلب.

قال تعالى: { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون: 117] .

عبد الله بن إبراهيم

ابن أيوب بن ماسي أبو محمد البزاز، أسند الكثير وبلغ خمسا وتسعين سنة، وكان ثقة ثبتا، توفي في رجب منها.

محمد بن صالح

ابن علي بن يحيى أبو الحسن الهاشمي، يعرف بابن أم شيبان، كان عالما فاضلا، له تصانيف، وقد ولي الحكم ببغداد قديما وكان جيد السيرة، توفي فيها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين.

ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة

فيها: ورد الصاحب بن عباد من جهة مؤيد الدولة إلى أخيه عضد الدولة فتلقاه عضد الدولة إلى ظاهر البلد وأكرمه، وأمر الأعيان باحترامه، وخلع عليه وزاده في إقطاعه، ورد معه هدايا كثيرة.

وفي جمادى الآخرة منها رجع عضد الدولة إلى بغداد، فتلقاه الخليفة الطائع وضرب له القباب وزينت الأسواق.

وفي هذا الشهر أيضا وصلت هدايا من صاحب اليمن إلى عضد الدولة، وكانت الخطبة بالحرمين لصاحب مصر، وهو العزيز بن المعز الفاطمي.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو بكر الرازي الحنفي

أحمد بن علي أبو بكر الرازي الفقيه الحنفي الرازي أحد أئمة أصحاب أبي حنيفة، وله من المصنفات المفيدة كتاب (أحكام القرآن)، وهو تلميذ أبي الحسن الكرخي، وكان عابدا زاهدا ورعا، انتهت إليه رياسة الحنفية في وقته ورحل إليه الطلبة من الآفاق، وقد سمع الحديث من أبي العباس الأصم، وأبي القاسم الطبراني، وقد أراده الطائع على أن يوليه القضاء فلم يقبل، توفي في ذي الحجة من هذا العام، وصلى عليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي.

محمد بن جعفر

ابن محمد بن زكريا أبو بكر الوراق، ويلقب بغندر، كان جوالا رحالا، سمع الكثير ببلاد فارس وخراسان، وسمع الباغندي وابن صاعد وابن دريد وغيرهم، وعنه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، وكان ثقة حافظا.

ابن خالويه

الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عبد الله النحوي اللغوي صاحب المصنفات، أصله من همذان، ثم دخل بغداد فأدرك بها مشايخ هذا الشأن: كابن دريد وابن مجاهد، وأبي عمر الزاهد، واشتغل على أبي سعيد السيرافي، ثم صار إلى حلب فعظمت مكانته عند آل حمدان، وكان سيف الدولة يكرمه وهو أحد جلسائه، وله مع المتنبي مناظرات.

وقد سرد له ابن خلكان مصنفات كثيرة منها: كتاب (ليس في كلام العرب) - لأنه كان يكثر أن يقول ليس في كلام العرب كذا وكذا - وكتاب (الآل) تكلم فيه على أقسامه وترجم الأئمة الإثنى عشر، وأعرب ثلاثين سورة من القرآن، و(شرح الدريدية) وغير ذلك، وله شعر حسن، وكان به داء كانت به وفاته.

ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة

في ربيع الأول منها وقع حريق عظيم بالكرخ.

وفيها: سرق شيء نفيس لعضد الدولة فتعجب الناس من جرأة من سرقه مع شدة هيبة عضد الدولة، ثم مع هذا اجتهدوا كل الاجتهاد فلم يعرفوا من أخذ.

ويقال: إن صاحب مصر بعث من فعل ذلك فالله أعلم.

وممن توفي من الأعيان:

الإسماعيلي

أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ الكبير الرحال الجوال، سمع الكثير وحدث وخرج وصنف فأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد و الاعتقاد، صنف كتابا على صحيح البخاري فيه فوائد كثيرة، وعلوم غزيرة.

قال الدارقطني: كنت عزمت غير مرة على الرحلة إليه فلم أرزق.

وكانت وفاته يوم السبت عاشر رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، وهو ابن أربع وسبعين سنة رحمه الله.

الحسن بن صالح

أبو محمد السبيعي، سمع ابن جرر وقاسما المطرز وغيرهما، وعنه الدارقطني والبرقاني، وكان ثقة حافظا مكثرا، وكان عسر الرواية.

الحسن بن علي بن الحسن

ابن الهيثم بن طهمان أبو عبد الله الشاهد، المعروف بالبادي، سمع الحديث وكان ثقة، عاش سبعا وتسعين سنة، منها خمس عشرة سنة مقيدا أعمى.

عبد الله بن الحسين

ابن إسماعيل بن محمد أبو بكر الضبي، ولي الحكم ببغداد، وكان عفيفا نزها دينا.

عبد العزيز بن الحارث

ابن أسد بن الليث أبو الحسن التميمي الفقيه الحنبلي، له كلام ومصنف في الخلاف، وسمع الحديث وروى عن غير واحد.

وقد ذكر الخطيب البغدادي: أنه وضع حديثا.

وأنكر ذلك ابن الجوزي وقال: ما زال هذا دأب الخطيب في أصحاب أحمد بن حنبل.

قال: وشيخ الخطيب الذي حكى عنه هذا هو أبو القاسم عبد الواحد بن أسد العكبري لا يعتمد على قوله، فإنه كان معتزليا وليس من أهل الحديث، وكان يقول: بأن الكفار لا يخلدون في النار.

قلت: وهذا غريب فإن المعتزلة يقولون: بأن الكفار يخلدون في النار، بل يقولون بتخليد أصحاب الكبائر.

قال: وعنه حكى الكلام عن ابن بطة أيضا.

علي بن إبراهيم

أبو الحسن الحصري الصوفي الواعظ شيخ المتصوفة ببغداد، أصله من البصرة صحب الشبلي وغيره، وكان يعظ الناس بالجامع، ثم لما كبرت سنه بني له الرباط المقابل لجامع المنصور، ثم عرف بصاحبه المروزي، وكان لا يخرج إلا من الجمعة إلى الجمعة، وله كلام جيد في التصوف على طريقتهم.

ومما نقله ابن الجوزي عنه أنه قال: ما على مني؟وأي شيء لي في؟حتى أخاف وأرجو، وإن رحم رحم ماله، وإن عذب عذب ماله.

توفي في ذي الحجة وقد نيف على الثمانين، ودفن بمقبرة دار حرب من بغداد.

علي بن محمد الأحدب المزور

كان قوي الخط، له ملكة على التزوير لا يشاء يكتب على أحد كتابة إلا فعل، فلا يشك ذلك المزور عليه أنه خطه، وحصل للناس به بلاء عظيم، وختم السلطان على يده مرارا فلم يقدر، وكان يزور، ثم كانت وفاته في هذه السنة.

الشيخ أبو زيد المروزي الشافعي

محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد أبو زيد المروزي شيخ الشافعية في زمانه، وإمام أهل عصره في الفقه والزهد والعبادة والورع، سمع الحديث ودخل بغداد وحدث بها فسمع منه الدارقطني وغيره.

قال أبو بكر البزار: عادلت الشيخ أبا زيد في طريق الحج، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.

وقد ذكرت ترجمته بكمالها في طبقات الشافعية.

قال الشيخ أبو نعيم: توفي بمرو يوم الجمعة الثالث عشر من رجب من هذه السنة.

محمد بن خفيف

أبو عبد الله الشيرازي أحد مشاهير الصوفية، صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما.

قال ابن الجوزي: وقد ذكرت في كتابي المسمى (بتلبيس إبليس) عنه حكايات تدل على أنه كان يذهب مذهب الإباحية.

ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي: في المحرم منها جرى الماء الذي ساقه عضد الدولة إلى داره وبستانه.

وفي صفر فتح المارستان الذي أنشأه عضد الدولة في الجانب الغربي من بغداد، وقد رتب فيه الأطباء والخدم، ونقل إليه من الأدوية والأشربة والعقاقير شيئا كثيرا.

وقال: وفيها توفي عضد الدولة فكتم أصحابه وفاته حتى أحضروا ولده صمصامة فولوه الأمر، وراسلوا الخليفة فبعث إليه بالخلع والولاية.

شيء من أخبار عضد الدولة

أبو شجاع بن ركن الدولة أبو علي الحسين بن بويه الديلمي، صاحب ملك بغداد وغيرها، وهو أول من تسمى شاهنشاه، ومعناه: ملك الملوك.

وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أوضع اسم - وفي رواية: أخنع اسم - عند الله رجل تسمى ملك الملوك».

وفي رواية: «ملك الأملاك لا ملك إلا الله عز وجل».

وهو أول من ضربت له الدبادب ببغداد، وأول من خطب له بها مع الخليفة.

وذكر ابن خلكان: أنه امتدحه الشعراء بمدائح هائلة منهم المتنبي وغيره، فمن ذلك قول أبي الحسن محمد بن عبد الله السلامي في قصيدة له:

إليك طوى عرض البسيطة جاعل ** قصارى المطايا أن يلوح لها القصر

فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ** ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر

وبشرت آمالي بملك هو الورى ** ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر

وقال المتنبي أيضا:

هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ** ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

قال: وقال أبو بكر أحمد الأرجاني في قصيدة له بيتا فلم يلحق السلامي أيضا وهو قوله:

لقيته فرأيت الناس في رجل ** والدهر في ساعة والأرض في دار

قال: وكتب إليه افتكين مولى أخيه يستمده بجيش إلى دمشق يقاتل به الفاطميين، فكتب إليه عضد الدولة: غرك عزك فصار قصاراك ذلك، فاخش فاحش فعلك، فعلّك بهذا تهدأ.

قال ابن خلكان: ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وقد جرى له من التعظيم من الخليفة ما لم يقع لغيره قبله، وقد اجتهد في عمارة بغداد والطرقات، وأجرى النفقات على المساكين والمحاويج، وحفر الأنهار وبنى المارستان العضدي وأدار السور على مدينة الرسول، فعل ذلك مدة ملكه على العراق، وهي خمسة سنين.

وقد كان عاقلا فاضلا حسن السياسة شديد الهيبة بعيد الهمة، إلا أنه كان يتجاوز في سياسة الأمور الشرعية، كان يحب جارية فألهته عن تدبير المملكة، فأمر بتغريقها.

وبلغه أن غلاما له أخذ لرجل بطيخة فضربه بسيفه فقطعه نصفين، وهذه مبالغة.

وكان سبب موته الصرع.

وحين أخذ في علة موته لم يكن له كلام سوى تلاوة قوله تعالى: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ** هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة: 28-29] فكان هذا هجيراه حتى مات.

وحكى ابن الجوزي: أنه كان يحب العلم والفضيلة، وكان يقرأ عنده كتاب إقليدس وكتاب النحو لأبي علي الفارسي، وهو (الإيضاح والتكملة) الذي صنفه له.

وقد خرج مرة إلى بستان له فقال: أود لوجاء المطر، فنزل المطر فأنشأ يقول:

ليس شرب الراح إلا في المطر ** وغناء من جوار في السحر

غانيات سالبات للنهى ** ناعمات في تضاعيف الوتر

راقصات زاهرات نجل ** رافلات في أفانين الحبر

مطربات غنجات لحن ** رافضات الهم أمال الفكر

مبرزات الكاس من مطلعها ** مسقيات الخمر من فاق البشر

عضد الدولة وابن ركنها ** مالك الأملاك غلاب القدر

سهّل الله إليه نصره ** في ملوك الأرض مادام القمر

وأراه الخير في أولاده ** ولباس الملك فيهم بالغرر

قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده، فإنه قد اجترأ في أبياته هذه فلم يفلح بعدها، فيقال: إنه حين أنشد قوله: غلاب القدر، أخذه الله فأهلكه.

ويقال: إن هذه الأبيات إنما أنشدت بين يديه ثم هلك عقيبها.

مات في شوال من هذه السنة عن سبع أو ثمان وأربعين سنة، وحمل إلى مشهد علي فدفن فيه، وكان فيه رفض وتشيع، وقد كتب على قبره في تربته عند مشهد علي: هذا قبر عضد الدولة، وتاج المملكة أبي شجاع بن ركن الدولة، أحب مجاورة هذا الإمام المتقي لطمعه في الخلاص { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا... } [النحل: 111] والحمد لله وصلواته على محمد وعترته الطاهرة.

وقد تمثل عند موته بهذه الأبيات وهي للقاسم بن عبيد الله:

قتلت صناديد الرجال فلم أدع ** عدوا ولم أمهل على ظنه خلقا

وأخليت در الملك من كان باذلا ** فشردتهم غربا وشردتهم شرقا

فلما بلغت النجم عزا ورفعة ** وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقا

رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ** فها أنا ذا في حفرتي عاطلا ملقى

فأذهبت دنياي وديني سفاهة ** فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى؟

ثم جعل يكرر هذه الأبيات وهذه الآية { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ** هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة: 28-29] إلى أن مات.

وأجلس ابنه صمصامة على الأرض وعليه ثياب السواد، وجاءه الخليفة معزيا وناح النساء عليه في الأسواق حاسرات عن وجوههن أياما كثيرة، ولما انقضى العزاء ركب ابنه صمصامة إلى دار الخلافة، فخلع عليه الخليفة سبع خلع وطوقه وسوره وألبسه التاج ولقبه شمس الدولة، وولاه ما كان يتولاه أبوه، وكان يوما مشهودا.

محمد بن جعفر

ابن أحمد بن جعفر بن الحسن بن وهب أبو بكر الجريري المعروف بزوج الحرة، سمع ابن جرير والبغوي وابن أبي داود وغيرهم، وعنه ابن رزقويه وابن شاهين والبرقاني، وكان أحد العدول الثقات جليل القدر.

وذكر ابن الجوزي والخطيب سبب تسميته بزوج الحرة: أنه كان يدخل إلى مطبخ أبيه بدار مولاته التي كانت زوجة المقتدر بالله، فلما توفي المقتدر وبقيت هذه المرأة سالمة من الكتاب والمصادرات، وكانت كثيرة الأموال.

وكان هذا غلاما شابا حدث السن يحمل شيئا من حوائج المطبخ على رأسه، فيدخل به إلى مطبخها مع جملة الخدم، وكان شابا رشيقا حركا، فنفق على القهرمانة حتى جعلته كاتبا على المطبخ، ثم ترقى إلى أن صار وكيلا للست على ضياعها، وينظر فيها وفي أموالها.

ثم آل به الحال حتى صارت الست تحدثه من وراء الحجاب، ثم علقت به وأحبته وسألته أن يتزوج بها، فاستصغر نفسه وخاف من غائلة ذلك فشجعته هي وأعطته أموالا كثيرة ليظهر عليه الحشمة والسعادة مما يناسبها ليتأهل لذلك، ثم شرعت تهادي القضاة والأكابر، ثم عزمت على تزويجه ورضيت به عند حضور القضاة، واعترض أولياؤها عليها فغلبتهم بالمكارم والهدايا، ودخل عليها فمكثت معه دهرا طويلا، ثم ماتت قبله فورث منها نحو ثلاثمائة ألف دينار، وطال عمره بعدها حتى كانت وفاته في هذه السنة، والله أعلم.

ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة

فيها: غلت الأسعار ببغداد حتى بلغ الكر من الطعام إلى أربعة آلاف وثمانمائة، ومات كثير من الناس جوعا، وجافت الطرقات من الموتى من الجوع، ثم تساهل الحال في ذي الحجة منها، وجاء الخبر بموت مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وأن أبا القاسم بن عباد الوزير بعث إلى أخيه فخر الدولة فولاه الملك مكانه، فاستوزر ابن عباد أيضا على ما كان عليه.

ولما بلغ القرامطة موت عضد الدولة قصدوا البصرة ليأخذوها مع الكوفة، فلم يتم لهم ذلك، ولكن صولحوا على مال كثير فأخذوه وانصرفوا.

وممن توفي فيها من الأعيان:

بويه مؤيد الدولة بن ركن الدولة، وكان ملكا على بعض ما كان أبوه يملكه، وكان الصاحب أبو القاسم بن عباد وزيره، وقد تزوج مؤيد الدولة هذا ابنة عمه معز الدولة، فغرم على عرسه سبعمائة ألف دينار، وهذا سرف عظيم.

بُلُكِّين بن زيري بن منادي

الحميري الصنهاجي، ويسمى أيضا يوسف، وكان من أكابر أمراء المعز الفاطمي، وقد استخلفه على بلاد إفريقية حين سار إلى القاهرة، وكان حسن السيرة، له أربعمائة حظية، وقد بشر في ليلة واحدة بتسعة عشر ولدا، وهو جد باديس المغربي.

سعيد بن سلام

أبو عثمان المغربي، أصله من بلاد القيروان، ودخل الشام وصحب أبا الخير الأقطع، وجاور بمكة مدة سنين، وكان لا يظهر في المواسم، وكانت له كرامات، وقد أثنى عليه أبو سليمان الخطابي وغيره، وروى له أحوال صالحة رحمه الله تعالى.

عبد الله بن محمد

ابن عبد الله بن عثمان بن المختار بن محمد المري الواسطي، يعرف بابن السقا، سمع عبدان وأبا يعلي الموصلي وابن أبي داود والبغوي، وكان فهما حافظا، دخل بغداد فحدث بها مجالس كثيرة من حفظه، وكان يحضره الدارقطني وغيره من الحفاظ فلم ينكروا عليه شيئا، غير أنه حدث مرة عن أبي يعلى بحديث أنكروه عليه ثم وجدوه في أصله بخط الضبي، كما حدث به، فبرئ من عهدته.

ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة

فيها: جرى الصلح بين صمصامة وبين عمه فخر الدولة، فأرسل الخليفة لفخر الدولة خلعا وتحفا.

قال ابن الجوزي: وفي رجب منها عمل عرس في درب رياح فسقطت الدار على من فيها فهلك أكثر النساء بها، ونبش من تحت الردم فكانت المصيبة عامة.

وفيها كانت وفاة:

الحافظ أبي الفتح محمد بن الحسن

ابن أحمد بن الحسين الأزدي الموصلي المصنف في الجرح والتعديل، وقد سمع الحديث من أبي يعلى وطبقته، وضعفه كثير من الحفاظ من أهل زمانه، واتهمه بعضهم بوضع حديث رواه لابن بويه، حين قدم عليه بغداد، فساقه يإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أن جبريل كان ينزل عليه في مثل صورة ذلك الأمير»، فأجازه وأعطاه دراهم كثيرة.

والعجب إن كان هذا صحيحا كيف راج على أحد ممن له أدنى فهم وعقل؟

وقد أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، وقد قيل: إنه توفي سنة تسع وستين.

وفيها توفي:

الخطيب بن نباته الحذاء

في بطن من قضاعة، وقيل: إياد الفارقي، خطيب حلب في أيام سيف الدولة بن حمدان، ولهذا أكثر ديوانه الخطب الجهادية، ولم يسبق إلى مثل ديوانه هذا، ولا يلحق إلا أن يشاء الله شيئا، لأنه كان فصيحا بليغا دينا ورعا.

روى الشيخ تاج الدين الكندي عنه: أنه خطب يوم جمعة بخطبة المنام ثم رأى ليلة السبت رسول الله ﷺ في جماعة من أصحابه بين المقابر، فلما أقبل عليه قال له: مرحبا بخطيب الخطباء، ثم أومأ إلى قبور هناك فقال لابن نباتة: كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة، أبادهم الذي خلقهم، وأسكتهم الذي أنطقهم، وسيجدُّهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، فتم الكلام ابن نباتة حتى انتهى إلى قوله: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وأشار إلى الصحابة الذين مع الرسول { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا } [البقرة: 143] وأشار إلى رسول الله ﷺ.

فقال: أحسنت أحسنت أدنه أدنه، فقبّل وجهه وتفل في فيه، وقال: وفقك الله.

فاستيقظ وبه من السرور أمر كبير، وعلى وجهه بهاء ونور، ولم يعش بعد ذلك إلا سبعة عشر يوما لم يستطعم بطعام، وكان يوجد منه مثل رائحة المسك حتى مات رحمه الله.

قال ابن الأزرق الفارقي: ولد ابن نباتة في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وتوفي في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة.

حكاه ابن خلكان.

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة

فيها: خلع الخليفة على صمصامة الدولة، وسوره وطوقه وأركب على فرس بسرج ذهب، وبين يديه جنيب مثله.

وفيها: ورد الخبر بأن اثنين من سادة القرامطة وهما إسحاق وجعفر، دخلا الكوفة في حفل عظيم فانزعجت النفوس بسبب ذلك، وذلك لصرامتهما وشجاعتهما، ولأن عضد الدولة مع شجاعته كان يصانعهما، وأقطعهما أراضي من أراضي واسط، وكذلك عز الدولة من قبله أيضا.

فجهز إليهما صمصامة جيشا فطردهما عن تلك النواحي التي قد أكثروا فيها الفساد، وبطل ما كان في نفوس الناس منهما.

وفيها: عزم صمصامة الدولة على أن يضع مكسا على الثياب الابريسميات، فاجتمع الناس بجامع المنصور وأرادوا تعطيل الجمعة وكادت الفتنة تقع بينهم فأعفوا من ذلك.

وفي ذي الحجة ورد الخبر بموت مؤيد الدولة فجلس صمصامة للعزاء، وجاء إليه الخليفة معزيا له فقام إليه صمصامة وقبّل الأرض بين يديه، وتخاطبا في العزاء بألفاظ حسنة.

وفيها توفي الشيخ:

أبو علي بن أبي هريرة

واسمه الحسن بن الحسين، وهو أحد المشايخ الشافعية، وله اختيارات كثيرة غريبة في المذهب، وقد ترجمناه في طبقات الشافعية.

الحسين بن علي ابن محمد بن يحيى أبو أحمد النيسابوري

ابن محمد بن يحيى أبو أحمد النيسابوري المعروف بحسنك، كانت تربيته عند ابن خزيمة وتلميذا له، وكان يقدمه على أولاده ويقر له ما لا يقر لغيره، وإذا تخلف ابن خزيمة عن مجالس السلطان بعث حسنك مكانه.

ولما توفي ابن خزيمة كان عمر حسنك ثلاثا وعشرين سنة، ثم عمّر بعده دهرا طويلا، وكان من أكثر الناس عبادة وقراءة للقرآن، لا يترك قيام الليل حضرا ولا سفرا، كثير الصدقات والصِّلات، وكان يحكي وضوء ابن خزيمة وصلاته، ولم يكن في الأغنياء أحسن صلاة منه رحمه الله، وصلى عليه الحافظ أبو أحمد النيسابوري.

أبو القاسم الداركي

عبد العزيز بن عبد الله بن محمد: أبو القاسم الداركي أحد أئمة الشافعية في زمانه، نزل نيسابور ثم سكن بغداد إلى أن مات بها.

قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: ما رأيت أفقه منه.

وحكى الخطيب عنه أنه كان يُسأل عن الفتوى فيجيب بعد تفكر طويل، فربما كانت فتواه مخالفة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة فيقال له في ذلك فيقول: ويلكم روى فلان عن فلان عن رسول الله ﷺ كذا وكذا، فالأخذ به أولى من الأخذ بمذهب الشافعي وأبي حنيفة، ومخالفتهما أسهل من مخالفة الحديث.

قال ابن خلكان: وله في المذهب وجوه جيدة دالة على متانة علمه، وكان يُتهم بالاعتزال، وكان قد أخذ العلم عن الشيخ أبي إسحاق المروزي، والحديث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي، وهو أحد مشايخ أبي حامد الأسفراييني، وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل الآفاق، وكانت وفاته في شوال، وقيل: في ذي القعدة منها، وقد نيف على السبعين رحمه الله.

محمد بن أحمد بن محمد حسنويه

أبو سهل النيسابوري، ويعرف بالحسنوي، كان فقيها شافعيا أديبا محدثا مشتغلا بنفسه عما لا يعنيه.

محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح

أبو بكر الفقيه المالكي، سمع من أبي عمرويه والباغندي وأبي بكر بن أبي داود وغيرهم، وعنه البرقاني، وله تصانيف في شرح مذهب مالك، وانتهت إليه رياسة مذهب مالك، وعرض عليه القضاء فأباه وأشار بأبي بكر الرازي الحنفي، فلم يقبل الآخر أيضا.

توفي في شوال منها عن ست وثمانين سنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي: في محرمها كثرت الحيات في بغداد فهلك بسبب ذلك خلق كثير.

ولسبع خلون من ربيع الأول - وكان يوم العشرين من تموز - وقع مطر كثير ببرق ورعد.

وفي رجب غلت الأسعار جدا وورد الخبر فيه بأنه وقع بالموصل زلزلة عظيمة سقط بسببها عمران كثير، ومات من أهلها أمة عظيمة.

وفيها: وقع بين صمصام الدولة وبين أخيه شرف الدولة فاقتتلا فغلبه شرف الدولة ودخل بغداد فتلقاه الخليفة وهنأه بالسلامة، ثم استدعى شرف الدولة بفراش ليكحل صمصام الدولة فاتفق موته فأكحله بعد موته، وهذا من غريب ما وقع.

وفي ذي الحجة منها قبل قاضي القضاة أبو محمد ابن معروف شهادة القاضي الحافظ أبي الحسن الدارقطني، وأبي محمد بن عقبة، فذكر أن الدارقطني ندم على ذلك وقال: كان يقبل قولي على رسول الله ﷺ وحدي فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع غيري.

ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة

في صفرها عقد مجلس بحضرة الخليفة فيه القضاة وأعيان الدولة، وجددت البيعة بين الطائع وبين شرف الدولة بن عضد الدولة وكان يوما مشهودا، ثم في ربيعها الأول ركب شرف الدولة من داره إلى دار الخليفة وزينت البلد وضربت البوقات والطبول والدبادب، فخلع عليه الخليفة وسوره وأعطاه لواءين معه، وعقد له على ما وراء داره، واستخلفه على ذلك، وكان في جملة من قدم مع شرف الدولة القاضي أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، فلما رآه الخليفة قال:

مرحبا بالأحبة القادمينا ** أوحَشُونا وطال ما آنَسُونا

فقبّل الأرض بين يدي الخليفة، ولما قضيت البيعة دخل شرف الدولة على أخته امرأة الخليفة فمكث عندها إلى العصر والناس ينتظرونه، ثم خرج وسار إلى داره للتهنئة.

وفيها: اشتد الغلاء جدا ثم لحقه فناء كثير.

وفيها: توفيت أم شرف الدولة - وكانت تركية أم ولد - فجاءه الخليفة فعزاه.

وفيها: ولد لشرف الدولة ابنان توأمان.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن الحسين بن علي أبو حامد المروزي

أبو حامد المروزي، ويعرف بابن الطبري، كان حافظا للحديث مجتهدا في العبادة، متقنا بصيرا بالأثر، فقيها حنفيا، درس على أبي الحسين الكرخي وصنف كتبا في الفقه والتاريخ، وولي قضاء القضاة بخراسان، ثم دخل بغداد وقد علت سنه، فحدث الناس وكتب الناس عنه، منهم الدارقطني.

إسحاق بن المقتدر بالله

توفي ليلة الجمعة لسبع عشر من ذي الحجة عن ستين سنة، وصلى عليه ابنه القادر بالله وهو إذ ذاك أمير المؤمنين، ودفن في تربة جدته شغب أم المقتدر، وحضر جنازته الأمراء والأعيان من جهة الخليفة وشرف الدولة، وأرسل شرف الدولة من عزى الخليفة فيه، واعتذر من الحضور لوجع حصل له.

جعفر بن المكتفي بالله

كان فاضلا توفي فيها أيضا.

أبو علي الفارسي النحوي

صاحب (الإيضاح) والمصنفات الكثيرة، ولد ببلده ثم دخل بغداد وخدم الملوك وحظي عند عضد الدولة بحيث إن عضد الدولة كان يقول: أنا غلام أبي علي في النحو.

وحصلت له الأموال، وقد اتهمه قوم بالاعتزال وفضّله قوم من أصحابه على المبرِّد، وممن أخذ عنه أبو عثمان بن جني وغيره، توفي فيها عن بضع وتسعين سنة.

ستيتة

بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، وتكنى أم عبد الواحد، قرأت القرآن وحفظت الفقه والفرائض والحساب والدرر والنحو وغير ذلك، وكانت من أعلم الناس في وقتها بمذهب الشافعي، وكانت تفتي به مع الشيخ أبي علي بن أبي هريرة، وكانت فاضلة في نفسها كثيرة الصدقة، مسارعة إلى فعل الخيرات، وقد سمعت الحديث أيضا، وكانت وفاتها في رجب عن بضع وتسعين سنة.

ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة

في محرمها كثر الغلاء والفناء ببغداد إلى شعبان كثرت الرياح والعواصف، بحيث هدمت كثيرا من الأبنية، وغرق شيء كثير من السفن، واحتملت بعض الزوارق فألقته بالأرض من ناحية جوخى، وهذا أمر هائل وخطب شامل.

وفي هذا الوقت لحق أهل البصرة حر شديد بحيث سقط كثير من الناس في الطرقات، وماتوا من شدته.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن علي بن ثابت

أبو عبد الله المقري، ولد أعمى، وكان يحضر مجلس ابن الأنباري فيحفظ ما يقول وما يمليه كله، وكان ظريفا حسن الزي، وقد سبق الشاطبي إلى قصيدة عملها في القراءات السبع، وذلك في حياة النقاش، وكانت تعجبه جدا، وكذلك شيوخ ذلك الزمان أذعنوا إليها.

الخليل بن أحمد القاضي

شيخ الحنفية في زمانه، كان مقدما في الفقه والحديث، سمع ابن جرير والبغوي وابن صاعد وغيرهم، ولهذا سمي باسم النحوي المتقدم.

زياد بن محمد بن زياد بن الهيثم

أبو العباس الخرخاني - بخاءين معجمتين - نسبة إلى قرية من قرى قومس، ولهم الجرجاني بجيمين، وهم جماعة، ولهم الخرجاني بخاء معجمة ثم جيم، وقد حرر هذه المواضع الشيخ ابن الجوزي في (منتظمه).

ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة

فيها: كانت وفاة شرف الدولة بن عضد الدولة بن بويه الديلمي، وكان قد انتقل إلى قصر معز الدولة عن إشارة الأطباء لصحة الهواء، وذلك لشدة ما كان يجده من الداء، فلما كان في جمادى الأولى تزايد به ومات في هذا الشهر، وقد عهد إلى ابنه أبي نصر، وجاء الخليفة في طيارة لتعزيته في والده، فتلقاه أبو نصر والترك بين يديه والديلم، فقبل الأرض بين يدي الخليفة، وكذلك بقية العسكر والخليفة في الطيارة وهم يقبلون الأرض إلى ناحيته.

وجاء الرئيس أبو الحسين علي بن عبد العزيز من عند الخليفة إلى أبي نصر فبلغه تعزيته له في والده، فقبل الأرض أيضا ثانية، وعاد الرسول أيضا إلى الخليفة فبلغه شكر الأمير، ثم عاد من جهة الخليفة لتوديع أبي نصر فقبل الأرض ثالثا، ورجع الخليفة.

فلما كان يوم السبت عاشر هذا الشهر، ركب الأمير أبو نصر إلى حضرة الخليفة الطائع لله ومعه الأشراف والأعيان والقضاة والأمراء، وجلس الخليفة في الرواق، فلما وصل الأمير أبو نصر خلع عليه الخليفة سبع خلع أعلاهن السواد وعمامة سوداء، وفي عنقه طوق وفي يده سواران، ومشى الحجاب بين يديه بالسيوف والمناطق، فقبل الأرض ثانية ووضع له كرسي فجلس عليه، وقرأ الرئيس أبو الحسن عهده، وقدم إلى الطائع لواء فعقده بيده ولقبه بهاء الدولة وضياء الملة، ثم خرج من بين يديه والعسكر معه حتى عاد إلى دار المملكة، وأقر الوزير أبا منصور بن صالح على الوزارة، وخلع عليه.

وفيها: بنى جامع القطيعة - قطيعة أم جعفر - بالجانب الغربي من بغداد، وكان أصل بناء هذا المسجد أن امرأة رأت في منامها رسول الله ﷺ يصلي في مكانه، ووضع يده في جدار هناك، فلما أصبحت فذكرت ذلك فوجدوا أثر الكف في ذلك الموضع، فبني مسجدا ثم توفيت تلك المرأة في ذلك اليوم.

ثم إن الشريف أبا أحمد الموسوي جدده وجعله جامعا، وصلى الناس فيه في هذه السنة.

وفيها توفي من الأعيان:

شرف الدولة

ابن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الديلمي، تملك بغداد بعد أبيه، وكان يحب الخير ويبغض الشر، وأمر بترك المصادرات.

وكان مرضه بالاستسقاء، فتزايد به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة الثاني من جمادى الآخرة عن ثمان وعشرين سنة وخمسة أشهر، وكانت مدة ملكه سنتين وثمانية أشهر، وحمل تابوته إلى تربة أبيه بمشهد علي، وكلهم فيهم تشيع ورفض.

محمد بن جعفر بن العباس

أبو جعفر، وأبو بكر النجار، ويلقب: غندر أيضا، روى عن أبي بكر النيسابوري وطبقته، وكان فهما يفهم القرآن فهما حسنا، وهو من ثقات الناس.

عبد الكريم بن عبد الكريم

ابن بديل أبو الفضل الخزاعي الجرجاني، قدم بغداد وحدث بها.

قال الخطيب: كانت له عناية بالقراءات وصنف أسانيدها، ثم ذكر أنه كان يخلط ولم يكن مأمونا على ما يرويه، وأنه وضع كتابا في الحروف ونسبه إلى أبي حنيفة، فكتب الدارقطني وجماعة أن هذا الكتاب موضوع لا أصل له، فافتضح وخرج من بغداد إلى الجبل فاشتهر أمره هناك، وحبطت منزلته، وكان يسمي نفسه أولا جميلا، ثم غيره إلى محمد.

محمد بن المظفر

ابن موسى بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن سلمة بن إياس، أبو الحسين البزار الحافظ، ولد في محرم سنة ثلاثمائة، ورحل إلى بلاد شتى، وروى عن ابن جرير والبغوي وخلق، وروى عنه جماعة من الحفاظ - منهم الدارقطني - شيئا كثيرا، وكان يعظمه ويجله ولا يستند بحضرته، كان ثقة ثبتا، وكان قديما ينتقد على المشايخ، ثم كانت وفاته في هذه السنة ودفن يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الأولى أو الأخرى منها.

ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة من الهجرة

فيها: قلد الشريف أبو أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقابة الأشراف الطالبيين والنظر في المظالم وإمرة الحاج، وكتب عهده بذلك واستخلف ولداه المرتضى أبو القاسم والرضي أبو الحسين على النقابة، وخلع عليهما.

وفيها: تفاقم الأمر بالعيارين ببغداد، وصار الناس أحزابا في كل محلة أمير مقدم، واقتتل الناس وأخذت الأموال واتصلت الكبسات وأحرقت دور كبار، ووقع حريق بالنهار في نهر الدجاج، فاحترق بسببه شيء كثير للناس، والله أعلم.

وفيها توفي من الأعيان:

يعقوب بن يوسف

أبو الفتوح بن كلس، وزير العزيز صاحب مصر، وكان شهما فهما ذا همة وتدبير وكلمة نافذة عند مخدومه، وقد فوض إليه أموره في سائر مملكته، ولما مرض عاد العزيز ووصاه الوزير بأمر مملكته، ولما مات دفنه في قصره وتولى دفنه بيده، وحزن عليه كثيرا، وأغلق الديوان أياما من شدة حزنه عليه.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة

فيها: كان القبض على الخليفة الطائع لله وخلافة القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق ابن المقتدر بالله، وكان ذلك في يوم السبت التاسع عشر من شعبان منها، وذلك أنه جلس الخليفة على عادته في الرواق وقعد الملك بهاء الدولة على السرير، ثم أرسل من اجتذب الخليفة بحمائل سيفه عن السرير ولفوه في كساء وحملوه إلى الخزانة بدار المملكة.

وتشاغل الناس بالنهب، ولم يدر أكثر الناس ما الخطب وما الخبر، حتى أن كبير المملكة بهاء الدولة ظن الناس أنه هو الذي مسك، فنهبت الخزائن والحواصل وأشياء من أثاث دار الخلافة، حتى أخذت ثياب الأعيان والقضاة والشهود، وجرت كائنة عظيمة جدا، ورجع بهاء الدولة إلى داره وكتب على الطائع كتابا بالخلع من الخلافة، وأشهد عليه الأشراف وغيرهم أنه قد خلع نفسه من الخلافة وسلمها إلى القادر بالله، ونودي بذلك في الأسواق، وسبقت الديلم والأتراك وطالبوا برسم البيعة، وراسلوا بهاء الدولة في ذلك وتطاول الأمر في يوم الجمعة، ولم يمكنوا من الدعاء له على المنبر بصريح اسمه، بل قالوا: اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله.

ثم أرضوا وجوههم وأكابرهم وأخذت البيعة له واتفقت الكلمة، وأمر بهاء الدولة بتحويل جميع ما في دار الخلافة من الأواني والأثاث وغيره إلى داره، وأبيحت للعامة والخاصة، فقلعوا وشعثوا أبنيتها، هذا والخليفة القادر قد هرب إلى أرض البطيحة من الطائع حين كان يطلبه.

ولما رجع إلى بغداد ما نعته الديلم من الدخول إليها، حتى يعطيهم رسم البيعة وجرت بينهم خطوب طويلة، ثم رضوا عنه ودخل بغداد، وكانت مدة هربه إلى أرض البطيحة ثلاث سنين.

ولما دخل بغداد جلس في اليوم الثاني جلوسا عاما إلى التهنئة وسماع المدائح والقصائد فيه، وذلك في العشر الأخير من شوال، ثم خلع على بهاء الدولة وفوض إليه ما وراء بابه، وكان الخليفة القادر بالله من خيار الخلفاء وسادات العلماء في ذلك الزمان، وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد.

وصنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك، فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث كل جمعة في جامع المهدي، وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته، وكان ينشد هذه الأبيات يترنم بها وهي لسابق البربري:

سبق القضاء بكل ما هو كائن ** والله يا هذا لرزقك ضامن

تعنى بما تكفي وتترك ما به ** تعنى كأنك للحوادث آمن

أو ما ترى الدنيا ومصرع أهلها ** فاعمل ليوم فراقها يا خائن

واعلم بأنك لا أبا لك في الذي ** أصبحت تجمعه لغيرك خازن

يا عامر الدنيا أتعمر منزلا ** لم يبق فيه مع المنية ساكن

الموت شيء أنت تعلم أنه ** حق وأنت بذكره متهاون

إن المنية لا تؤامر من أتت ** في نفسه يوما ولا تستأذن

وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة - وهو يوم غدير خم - جرت فتنة بين الروافض والسنة واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واستظهر أهل باب البصرة وحرقوا أعلام السلطان، فقتل جماعة اُتهموا بفعل ذلك، وصلبوا على القناطر ليرتدع أمثالهم.

وفيها: ظهر أبو الفتوح الحسين بن جعفر العلوي أمير مكة، وادعى أنه خليفة، وسمى نفسه: الراشد بالله، فمالأه أهل مكة وحصل له أموال من رجل أوصى له بها، فانتظم أمره بها، وتقلد سيفا وزعم أنه ذو الفقار، وأخذ بيده قضيبا زعم أنه كان لرسول الله ﷺ، ثم قصد بلاد الرملة ليستعين بعرب الشام، فتلقوه بالرحب وقبلوا له الأرض، وسلموا عليه بأمير المؤمنين، وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود.

ثم إن الحاكم صاحب مصر - وكان قد قام بالأمر من بعد أبيه العزيز في هذه السنة - بعث إلى عرب الشام بملطفات ووعدهم من الذهب بألوف ومئات، وكذلك إلى عرب الحجاز، واستناب على مكة أميرا وبعث إليه بخمسين ألف دينار، فانتظم أمر الحاكم وتمزق أمر الراشد، وانسحب إلى بلاده كما بدأ منها، وعاد إليها كما خرج عنها، واضمحل حاله وانتقضت حباله، وتفرق عنه رجاله.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن الحسين بن مهران

أبو بكر المقري، توفي في شوال منها عن ست وثمانين سنة، واتفق له أنه مات في يوم وفاته أبو الحسن العامري الفيلسوف، فرأى بعض الصالحين أحمد بن الحسين بن مهران هذا في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟

فقال: أقام أبا الحسن العامري بجانبي، وقال: هذا فداؤك من النار.

عبد الله بن أحمد بن معروف

أبو محمد قاضي قضاة بغداد، روى عن ابن صاعد وعنه الخلال والأزهري وغيرهما، وكان من العلماء الثقات العقلاء الفطناء، حسن الشكل جميل اللبس، عفيفا عن الأموال، توفي عن خمس وسبعين سنة، وصلى عليه أبو أحمد الموسوي، فكبر عليه خمسا، ثم صلى عليه ابنه بجامع المنصور فكبر عليه أربعا، ثم دفن في داره سامحه الله.

جوهر بن عبد الله

القائد باني القاهرة، أصله أرمني، ويعرف: بالكاتب، أخذ مصر بعد موت كافور الأخشيدي، أرسله مولاه العزيز الفاطمي إليها في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فوصل إليها في شعبان منها في مائة ألف مقاتل، ومائتي صندوق لينفقه في عمارة القاهرة، فبرزوا لقتاله فكسرهم وجدد الأمان لأهلها، ودخلها يوم الثلاثاء لثمان عشرة خلت من شعبان، فشق مصر ونزل في مكان القاهرة اليوم، وأسس من ليلته القصرين، وخطب يوم الجمعة الآتية لمولاه، وقطع خطبة بني العباس، وذكر في خطبته الأئمة الاثني عشر، وأمر فأذن بحي على خير العمل.

وكان يظهر الإحسان إلى الناس، ويجلس كل يوم سبت مع الوزير ابن الفرات والقاضي.

واجتهد في تكميل القاهرة وفرغ من جامعها الأزهر سريعا، وخطب به في سنة إحدى وستين، وهو الذي يقال له: الجامع الأزهر، ثم أرسل جعفر بن فلاح إلى الشام فأخذها، ثم قدم مولاه المعز في سنة اثنتين وستين كما تقدم، فنزل بالقصرين، ولم تزل منزلته عالية عنده إلى أن مات في هذه السنة، وقام مكانه الحسين الذي كان يقال له: قائد القواد، وهو أكبر أمراء الحاكم.

ثم كان قتله على يديه في سنة إحدى وأربعمائة، وقتل معه صهره زوج أخته القاضي عبد العزيز بن النعمان، وأظن هذا القاضي هو الذي صنف (البلاغ الأكبر والناموس الأعظم) الذي فيه من الكفر ما لم يصل إبليس إلى مثله، وقد رد على هذا الكتاب أبو بكر الباقلاني رحمه الله.

ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وثلاثمائة

في عاشر محرمها أمر الوزير أبو الحسن علي بن محمد الكوكبي - ويعرف بابن المعلم - وكان قد استحوذ على السلطان أهل الكرخ وباب الطاق من الرافضة بأن لا يفعلوا شيئا من تلك البدع التي كانوا يتعاطونها في عاشوراء: من تعليق المسوح وتغليق الأسواق والنياحة على الحسين، فلم يفعلوا شيئا من ذلك ولله الحمد.

وقد كان هذا الرجل من أهل السنة إلا أنه كان طماعا، رسم أن لا يقبل أحدا من الشهود ممن أحدثت عدالته بعد ابن معروف، وكان كثيرا منهم قد بذل أموالا جزيلة في ذلك، فاحتاجوا إلى أن جمعوا له شيئا فوقع لهم بالاستمرار.

ولما كان في جمادى الآخرة سعت الديلم والترك على ابن المعلم هذا وخرجوا بخيامهم إلى باب الشماسية وراسلوا بهاء الدولة ليسلمه إليهم، لسوء معاملته لهم، فدافع عنه مدافعة عظيمة في أيام متعددة، ولم يزالوا يراسلونه في أمره حتى خنقه في حبل ومات ودفن بالمحرم.

وفي رجب منها سلم الخليفة الطائع الذي خلع إلى الخليفة القادر فأمر بوضعه في حجرة من دار الخلاقة وأمر أن تجري عليه الأرزاق والتحف والألطاف، مما يستعمله الخليفة القادر من مأكل وملبس وطيب وغيره، ووكل به من يحفظه ويخدمه، وكان يتعنت على القادر في تقلله في المأكل والملبس، فرتب من يحضر له من سائر الأنواع، ولم يزالوا كذلك حتى توفي وهو في السجن.

وفي شوال منها ولد للخليفة القادر ولد ذكر، وهو أبو الفضل محمد بن القادر بالله، وقد ولاه العهد من بعده وسماه الغالب بالله، فلم يتم له الأمر.

وفي هذا الوقت غلت الأسعار ببغداد حتى بيع رطل الخبز بأربعين درهما، والجزر بدرهم.

وفي ذي القعدة قام صاحب الصفراء الأعرابي والتزم بحراسة الحجاج في ذهابهم وإيابهم، وأن يخطب للقادر من اليمامة والبحرين إلى الكوفة، فأجيب إلى ذلك، وأطلقت له الخلع والأموال والأواني وغيرها.

وممن توفي فيها من الأعيان:

محمد بن العباس ابن حيوة

ابن محمد بن محمد بن زكريا بن يحيى بن معاذ أبو عمر الخزاز المعروف بابن حيوة، سمع البغوي والباغندي وابن صاعد وخلقا كثيرا، وانتقد عليه الدارقطني وسمع منه الأعيان، وكان ثقة دينا متيقظا ذا مروءة، وكتب من الكتب الكبار كثيرا بيده، وكانت وفاته في ربيع الآخر منها وقد قارب التسعين.

أبو أحمد العسكري

الحسن بن عبد الله بن سعيد أحد الأئمة في اللغة والأدب والنحو والنوادر، وله في ذلك تصانيف مفيدة، منها (التصحيف) وغيره، وكان الصاحب بن عباد يودّ الاجتماع به فسافر إلى عسكر خلفه حتى اجتمع به فأكرمه وراسله بالأشعار.

توفي فيها وله تسعون سنة.

كذا ذكره ابن خلكان.

وذكره ابن الجوزي فيمن توفي في سنة سبع وثمانين كما سيأتي.

ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة

فيها: أمر القادر بالله بعمارة مسجد الحربية وكسوته، وأن يجري مجرى الجوامع في الخطب وغيرهما، وذلك بعد أن استفتى العلماء في جواز ذلك.

قال الخطيب البغدادي: أدركت الجمعة تقام ببغداد في مسجد المدينة، ومسجد الرصافة، ومسجد دار الخلافة، ومسجد براثا، ومسجد قطيعة أم جعفر، ومسجد الحربية.

قال: ولم يزل الأمر على هذا إلى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، فتعطلت في مسجد براثا.

وفي جمادى الأولى فرغ من الجسر الذي بناه بهاء الدولة في مشرعة القطانين، واجتاز عليه هو بنفسه، وقد زين المكان.

وفي جمادى الآخرة شعثت الديالم والأتراك في نواحي البلد لتأخر العطاء عنهم، وغلت الأسعار وراسلوا بهاء الدولة فأزيحت عللهم.

وفي يوم الخميس الثاني من ذي القعدة تزوج الخليفة سكينة بنت بهاء الدولة على صداق مائة ألف دينار، وكان وكيل بهاء الدولة الشريف أبو أحمد الموسوي، ثم توفيت هذه المرأة قبل دخول الخليفة بها.

وفيها: ابتاع الوزير أبو نصر سابور بن أزدشير دارا بالكرخ وجدد عمارتها، ونقل إليها كتبا كثيرة، ووقفها على الفقهاء وسماها دار العلم.

وأظن أن هذه أول مدرسة وقفت على الفقهاء، وكانت قبل النظامية بمدة طويلة.

وفيها: في أواخرها ارتفعت الأسعار وضاق الحال وجاع العيال.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان بن حرب بن مهران

أبو بكر البزار، سمع الكثير من البغوي وابن صاعد وابن أبي داود وابن دريد، وعنه الدارقطني والبرقاني والأزهري وغيرهم، وكان ثبتا صحيح السماع، كثير الحديث، متحريا ورعا.

توفي عن خمس وثمانين سنة، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة

فيها: عظم الخطب بأمر العيارين، عاثوا ببغداد فسادا وأخذوا الأموال والعملات الثقال ليلا ونهارا، وحرقوا مواضع كثيرة، وأخذوا من الأسواق الجبايات، وتطلبهم الشرط فلم يفد ذلك شيئا ولا فكروا في الدولة، بل استمروا على ما هم عليه من أخذ الأموال، وقتل الرجال، وإرعاب النساء والأطفال في سائر المحال.

فلما تفاقم الحال بهم تطلبهم السلطان بهاء الدولة وألح في طلبهم، فهربوا بين يديه واستراح الناس من شرهم.

وأظن هذه الحكايات التي يذكرها بعض الناس عن أحمد الدنف عنهم، أو كان منهم والله أعلم.

وفي ذي القعدة عزل الشريف الموسوي وولداه عن نقابة الطالبيين.

وفيها: رجع ركب العراق من أثناء الطريق بعد ما فاتهم الحج، وذلك أن الأصيفر الأعرابي الذي كان قد تكفل بحراستهم اعترض لهم في الطريق، وذكر لهم أن الدنانير التي أقطعت له من دار الخلافة كانت دراهم مطلية، وأنه يريد من الحجيج بدلها وإلا لا يدعهم يتجاوزوا هذا المكان، فمانعوه وراجعوه، فحبسهم عن السير حتى ضاق الوقت ولم يبق فيه ما يدركوا فيه الحج فرجعوا إلى بلادهم.

ولم يحج منهم أحد، وكذلك ركب الشام وأهل اليمن لم يحج منهم أحد، وإنما حج أهل مصر والمغرب خاصة.

وفي يوم عرفة قلد الشريف أبو الحسين الزينبي محمد بن علي بن أبي تمام الزينبي نقابة العباسيين، وقرئ عهده بين يدي الخليفة بحضرة القضاة والأعيان.

وفيها توفي من الأعيان:

الصابئي الكاتب المشهور، صاحب التصانيف، وهو:

إبراهيم بن هلال

ابن إبراهيم بن زهرون بن حبون أبو إسحاق الحراني، كاتب الرسائل للخليفة ولمعز الدولة بن بويه، كان على دين الصابئة إلى أن مات عليه، وكان مع هذا يصوم رمضان ويقرأ القرآن من حفظه، وكان يحفظه حفظا حسنا، ويستعمل منه في الرسائل، وكانوا يحرضون عليه أن يسلم فلم يفعل.

وله شعر جيد قوي، توفي في شوال منها وقد جاوز السبعين، وقد رثاه الشريف الرضي وقال: إنما رثيت فضائله، وليس له فضائل ولا هو أهل لها ولا كرامة.

عبد الله بن محمد ابن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد

ورث من آبائه أموالا كثيرة فأنفقها كلها في وجوه الخير والقرب، وكان كثير العبادة، يقال: إنه مكث سبعين سنة لم يستند إلى حائط ولا إلى شيء، ولا اتكأ على وسادة.

وحج من نيسابور ماشيا حافيا، ودخل الشام وأقام ببيت المقدس شهورا، ثم دخل مصر وبلاد المغرب، وحج من هناك ثم رجع إلى بلاده بست، وكان له بها بقية أموال وأملاك فتصدق بها كلها.

ولما حضرته الوفاة جعل يتألم ويتوجع، فقيل له في ذلك فقال: أرى بين يدي أمورا هائلة، ولا أدري كيف أنجو منها.

توفي في المحرم من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، وليلة موته رأت امرأة أمها بعد موتها وعليها ثياب حسان وزينة فقالت: يا أمه ما هذه الزينة؟

فقالت: نحن في عيد لأجل قدوم عبيد الله بن محمد الزاهد البستي علينا، رحمه الله تعالى.

علي بن عيسى بن عبيد الله

أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني، روى عن ابن دريد، وكانت له يد طولى في النحو واللغة والمنطق والكلام، وله تفسير كبير وشهد عند ابن معروف فقبله، وروى عنه التنوخي والجوهري.

قال ابن خلكان: والرماني نسبة إلى بيع الرمان أو إلى قصر الرمان بواسط.

توفي عن ثمان وثمانين سنة، ودفن في الشونيزية عند قبر أبي علي الفارسي.

محمد بن العباس بن أحمد بن القزاز

أبو الحسن الكاتب المحدث الثقة المأمون.

قال الخطيب: كان ثقة، كتب الكثير وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته، بلغني أنه كتب مائة تفسير ومائة تاريخ، وخلف ثمانية عشر صندوقا مملوءة كتبا أكثرها بخطه سوى ما سرق له، وكان حفظه في غاية الصحة، ومع هذا كان له جارية تعارض معه - أي: تقابل ما يكتبه - رحمه الله تعالى.

محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله

أبو عبد الله الكاتب المعروف بابن المرزبان، روى عن البغوي وابن دريد وغيرهما، وكان صاحب اختيار وآداب، وصنف كتبا كثيرة في فنون مستحسنة، وهو مصنف كتاب (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، وكان مشايخه وغيرهم يحضرون عنده ويبيتون في داره على فرش وأطعمة وغير ذلك.

وكان عضد الدولة إذا اجتاز بداره لا يجوز حتى يسلم عليه، وكان يقف حتى يخرج إليه، وكان أبو علي الفارسي يقول عنه: هو من محاسن الدنيا.

وقال العقيقي: كان ثقة.

وقال الأزهري: ما كان ثقة.

وقال ابن الجوزي: ما كان من الكذابين، وإنما كان فيه تشيع واعتزال، ويخلط السماع بالإجازة، وبلغ الثمانين سنة رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة

فيها: استوزر ابن ركن الدولة بن بويه أبا العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، الملقب بالكافي، وذلك بعد وفاة الصاحب إسماعيل بن عباد، وكان من مشاهير الوزراء.

وفيها: قبض بهاء الدولة على القاضي عبد الجبار وصادره بأموال جزيلة، فكان من جملة ما بيع له في المصادرة ألف طيلسان وألف ثوب معدني، ولم يحج في هذه السنة وما قبلها وما بعدها، ركب العراق والخطبة في الحرمين للفاطميين.

وممن توفي من الأعيان:

الصاحب بن عباد

وهو إسماعيل بن عباد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني، أبو القاسم الوزير المشهور بكافي الكفاة، وزر لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، وقد كان من العلم والفضيلة والبراعة والكرم والإحسان إلى العلماء والفقراء على جانب عظيم.

كان يبعث في كل سنة إلى بغداد بخمسة آلاف دينار لتصرف على أهل العلم، وله اليد الطولى في الأدب، وله مصنفات في فنون العلم، واقتنى كتبا كثيرة، وكانت تحمل على أربعمائة بعير، ولم يكن في وزراء بني بويه مثله ولا قريب منه في مجموع فضائله، وقد كانت دولة بني بويه مائة وعشرين سنة وأشهرا، وفتح خمسين قلعة لمخدوميه مؤيد الدولة، وابنه فخر الدولة، بصرامته وحسن تدبيره وجودة رأيه، وكان يحب العلوم الشرعية، ويبغض الفلسفة وما شابهها من علم الكلام والآراء البدعية، وقد مرض مرة بالإسهال فكان كلما قام عن المطهرة وضع عندها عشرة دنانير لئلا يتبرم به الفراشون، فكانوا يتمنون لو طالت علته، ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره، وكان فيها ما يساوي نحوا من خمسين ألف دينار من الذهب.

وقد سمع الحديث من المشايخ الجياد العوالي الإسناد، وعقد له في وقت مجلس للإملاء فاحتفل الناس لحضوره، وحضره وجوه الأمراء، فلما خرج إليه لبس زي الفقهاء وأشهد على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السلطان، وذكر للناس أنه كان يأكل من حين نشأ إلى يومه هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان وهو تائب مما يمارسونه، واتخذ بناء في داره سماه بيت التوبة، ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته، وحين حدث استملى عليه جماعة لكثرة مجلسه، فكان في جملة من يكتب عنه ذلك اليوم القاضي عبد الجبار الهمداني وأضرابه من رؤوس الفضلاء وسادات الفقهاء والمحدثين.

وقد بعث إليه قاضي قزوين بهدية كتب سنية، وكتب معها:

العميدي عبد كافي الكفاة وأنه ** أعقل في وجوه القضاة

خدم المجلس الرفيع، بكتب ** منعمات، من حسنها مترعات

فلما وصلت إليه أخذ منها كتابا واحدا، ورد باقيها وكتب تحت البيتين:

قد قبلنا من الجميع كتابا ** ورددنا لوقتها الباقيات

لست أستغنم الكثير وطبعي ** قول: خذ ليس مذهبي قول هات

وجلس مرة في مجلس شراب فناوله الساقي كأسا، فلما أراد شربها قال له بعض خدمه: إن هذا الذي في يدك مسموم.

قال: وما الشاهد على صحة قولك؟

قال: تجربه.

قال: فيمن؟

قال: في الساقي.

قال: ويحك لا أستحل ذلك.

قال: ففي دجاجة.

قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز، ثم أمر بصب ما في ذلك القدح وقال للساقي: لا تدخل بعد اليوم داري، ولم يقطع عنه معلومه.

وقد عمل عليه الوزير أبو الفتح ابن ذي الكفايتين حتى عزله عن وزارة مؤيد الدولة في وقت وباشرها عوضه، واستمر فيها مدة.

فبينما هو ذات ليلة قد اجتمع عنده أصحابه وهو في أتم السرور، قد هيئ له في مجلس حافل بأنواع اللذات، وقد نظم أبياتا والمغنون يغنونه بها وهو في غاية الطرب والسرور والفرح، وهي هذه الأبيات:

دعوت الهنا ودعوت العلا ** فلما أجابا دعوت القدح

وقلت لأيام شرخ الشبا ** ب إليّ. فهذا أوان الفرح

إذا بلغ المرء آماله ** فليس له بعدها منتزح

ثم قال لأصحابه: باكروني غدا إلى الصبوح، ونهض إلى بيت منامه فما أصبح حتى قبض عليه مؤيد الدولة وأخذ جميع ما في داره من الحواصل والأموال، وجعله مثلة في العباد، وأعاد إلى وزارته ابن عباد.

وقد ذكر ابن الجوزي: أن ابن عباد هذا حين حضرته الوفاة جاءه الملك فخر الدولة بن مؤيد الدولة يعوده ليوصيه في أموره فقال له: إني موصيك أن تستمر في الأمور على ما تركتها عليه، ولا تغيرها، فإنك إن استمريت بها نسبت إليك من أول الأمر إلى آخره، وإن غيرتها وسلكت غيرها نسب الخير المتقدم إليَّ لا إليك، وأنا أحب أن تكون نسبة الخير إليك وإن كنت أنا المشير بها عليك.

فأعجبه ذلك منه واستمر بما أوصاه به من الخير، وكانت وفاته في عشية يوم الجمعة لست بقين من صفر منها.

قال ابن خلكان: وهو أول من تسمى من الوزراء بالصاحب، ثم استعمل بعده منهم، وإنما سمي بذلك لكثرة صحبته الوزير أبا الفضل بن العميد، ثم أطلق عليه أيام وزارته.

وقال الصابئ في كتابه (الناجي): إنما سماه الصاحب مؤيد الدولة لأنه كان صاحبه من الصغر، وكان إذ ذاك يسميه الصاحب، فلما ملك واستوزره سماه به واستمر فاشتهر به، وسمي به الوزراء بعده، ثم ذكر ابن خلكان قطعة صالحة من مكارمه وفضائله وثناء الناس عليه، وعدد له مصنفات كثيرة، منها كتابه (المحيط في اللغة) في سبع مجلدات، يحتوي على أكثر اللغة وأورد من شعره أشياء منها في الخمر:

رق الزجاج وراقت الخمر ** وتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح ** وكأنما قدح ولا خمر

قال ابن خلكان: توفي بالري في هذه السنة وله نحو ستين سنة، ونقل إلى أصبهان، رحمه الله.

الحسن بن حامد أبو محمد الأديب

كان شاعرا متجولا كثير المكارم، روى عن علي بن محمد بن سعيد الموصلي، وعنه الصوري، وكان صدوقا.

وهو الذي أنزل المتنبي داره حين قدم بغداد وأحسن إليه حتى قال له المتنبي: لو كنت مادحا تاجرا لمدحتك.

وقد كان أبو محمد هذا شاعرا ماهرا، فمن شعره الجيد قوله:

شربت المعالي غير منتظر بها ** كسادا ولا سوقا يقام لها أحرى

وما أنا من أهل المكاسب كلما ** توفرت الأثمان كنت لها أشرى

ابن شاهين الواعظ

عمر بن أحمد بن عثمان بن محمد بن أيوب بن زذان، أبو حفص المشهور، سمع الكثير وحدث عن الباغندي وأبي بكر بن أبي داود والبغوي، وابن صاعد، وخلق.

وكان ثقة أمينا، يسكن الجانب الشرقي من بغداد، وكانت له المصنفات العديدة.

ذكر عنه أنه صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفا منها (التفسير) في ألف جزء، و(المسند) في ألف وخمسمائة جزء، و(التاريخ) في مائة وخمسين جزءا، و(الزهد) في مائة جزء.

توفي في ذي الحجة منها وقد قارب التسعين رحمه الله.

الحافظ الدارقطني

علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الحافظ الكبير، أستاذ هذه الصناعة، وقبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا، سمع الكثير، وجمع وصنف وألف وأجاد وأفاد، وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد، وكان فريد عصره، ونسيج وحده، وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل، والجرح والتعديل، وحسن التصنيف والتأليف، واتساع الرواية، والاطلاع التام في الدراية، له كتابه المشهور من أحسن المصنفات في بابه، لم يسبق إلى مثله و لا يلحق في شكله إلا من استمد من بحره وعمل كعمله، وله كتاب (العلل) بيّن فيه الصواب من الدخل والمتصل من المرسل والمنقطع والمعضل، وكتاب (الأفراد) الذي لا يفهمه، فضلا عن أن ينظمه، إلا من هو من الحفاظ الأفراد، والأئمة النقاد، والجهابذة الجياد، وله غير ذلك من المصنفات التي هي كالعقود في الأجياد.

وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر، والفهم الثاقب، والبحر الزاخر، جلس مرة في مجلس إسماعيل الصفار وهو يملي على الناس الأحاديث، والدارقطني ينسخ في جزء حديث.

فقال له بعض المحدثين في أثناء المجلس: إن سماعك لا يصح وأنت تنسخ.

فقال الدارقطني: فهمي للإملاء أحسن من فهمك وأحضر، ثم قال له ذلك الرجل: أتحفظ كم أملى حديثا؟

فقال: إنه أملى ثمانية عشر حديثا إلى الآن، والحديث الأول منها عن فلان عن فلان، ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئا، فتعجب الناس منه.

وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: لم ير الدارقطني مثل نفسه.

وقال ابن الجوزي: وقد اجتمع له مع معرفة الحديث والعلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الإمامة والعدالة، وصحة العقيدة.

وقد كانت وفاته في يوم الثلاثاء السابع من ذي القعدة منها، وله من العمر سبع وسبعون سنة ويومان، ودفن من الغد بمقبرة معروف الكرخي رحمه الله.

قال ابن خلكان: وقد رحل إلى الديار المصرية فأكرمه الوزير أبو الفضل جعفر بن خُنزابة وزير كافور الأخشيدي، وساعده هو والحافظ عبد الغني على إكمال مسنده، وحصل للدارقطني منه مال جزيل.

قال: والدارقطني نسبة إلى دار القطن وهي محلة كبيرة ببغداد.

وقال عبد الغني بن سعيد الضرير: لم يتكلم على الأحاديث مثل علي بن المديني في زمانه، وموسى بن هارون في زمانه، والدارقطني في زمانه.

وسئل الدارقطني: هل رأى مثل نفسه؟

قال: أما في فن واحد فربما رأيت من هو أفضل مني، وأما فيما اجتمع لي من الفنون فلا.

وقد روى الخطيب البغدادي عن الأمير أبي نصر هبة الله بن ماكولا قال: رأيت في المنام كأني أسأل عن حال أبي الحسن الدارقطني وما آل أمره إليه في الآخرة، فقيل لي: ذاك يدعى في الجنة الإمام.

عباد بن عباس بن عباد

أبو الحسن الطالقاني، والد الوزير إسماعيل بن عباد المتقدم ذكره، سمع أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والأصفهانيين والرازيين وغيرهم، وحدث عنه ابنه الوزير أبو الفضل القاسم، وأبو بكر بن مردويه، ولعباد هذا كتاب في أحكام القرآن، وقد اتفق موته وموت ابنه في هذه السنة، رحمهما الله.

عقيل بن محمد بن عبد الواحد

أبو الحسن الأحنف العكبري الشاعر المشهور، له ديوان مفرد، ومن مستجاد شعره ما ذكره ابن الجوزي في (منتظمه) قوله:

أقضى علي من الأجل ** عذل العذول إذا عذل

وأشد من عذل العذو ** ل صدود إلف قد وصل

وأشد من هذا وذا ** طلب النوال من السفل

وقوله:

من أراد العز والرا ** حة من هم طويل

فليكن فردا في النا ** س ويرضى بالقليل

ويرى أن سيري ** كافيا عما قليل

ويرى بالحزم أن الحز ** م في ترك الفضول

ويداوي مرض الوحـ ** ـدة بالصبر الجميل

لا يمارى أحدا ما ** عاش في قال وقيل

يلزم الصمت فإن الصمـ ** ـت تهذيب العقول

يذر الكبر لأهل الكبـ ** ـر ويرضى بالخمول

أي عيش لامرئ ** يصبح في حال ذليل

بين قصد من عدو ** ومداراة جهول

واعتلال من صديـ ** ـق وتجنى من ملول

واحتراس من ظنون السو ** ء مع عذل العذول

ومقاسات بغيض ومداناة ثقيل ** أف من معرفة الناس على كل سبيل

وتمام الأمر لا يعـ ** ـرف سمحا من بخيل

فإذا أكمل هذا كا ** ن في ظل ظليل

محمد بن عبد الله بن سكرة

أبو الحسن الهاشمي، من ولد علي بن المهدي، كان شاعرا خليعا ظريفا، وكان ينوب في نقابة الهاشميين، فترافع إليه رجل اسمه علي وامرأة اسمها عائشة يتحاكمان في جمل، فقال: هذه قضية لا أحكم فيها بشيء لئلا يعود الحال خدعة.

ومن مستجاد شعره ولطيف قوله:

في وجه إنسانة كلفت بها ** أربعة ما اجتمعن في أحد

الوجه بدر والصدغ غالية ** والريق خمر والثغر من برد

وله قوله وقد دخل حماما فسرق نعليه فعاد إلى منزله حافيا فقال:

إليك أذم حمام ابن موسى ** وإن فاق المنى طيبا وحرا

تكاثرت اللصوص عليه حتى ** ليحفى من يطيف به ويعرى

ولم أفقد به ثوبا ولكن ** دخلت محمدا وخرجت بشرا

يوسف بن عمر بن مسرور

أبو الفتح القواس، سمع البغوي وابن أبي داود وابن صاعد وغيرهم، وعنه الخلال والعشاري والبغدادي والتنوخي وغيرهم، وكان ثقة ثبتا، يعد من الأبدال.

قال الدارقطني: كنا نتبرك به وهو صغير.

توفي لثلاث بقين من ربيع الآخر عن خمس وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.

يوسف بن أبي سعيد

السيرافي أبو محمد النحوي، وهو الذي تمم شرح أبيه لكتاب سيبويه، وكان يرجع إلى علم ودين، وكانت وفاته في ربيع الأول منها عن خمس وخمسين سنة.

ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة

في محرمها كشف أهل البصرة عن قبر عتيق فإذا هم بميت طري عليه ثيابه وسيفه، فظنوه الزبير بن العوام، فأخرجوه وكفنوه ودفنوه واتخذوا عند قبره مسجدا، ووقف عليه أوقاف كثيرة، وجعل عنده خدام وقوام وفرش وتنوير.

وفيها: ملك الحاكم العبيدي بلاد مصر بعد أبيه العزيز بن المعز الفاطمي، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشر سنة وستة أشهر، وقام بتدبير المملكة أرجوان الخادم، وأمين الدولة الحسن بن عمارة، فلما تمكن الحاكم قتلهما وأقام غيرهما، ثم قتل خلقا حتى استقام له الأمر على ما سنذكره.

وحج بالناس الأمير الذي من جهة المصريين والخطبة لهم.

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن إبراهيم ابن محمد بن يحيى بن سحنويه

أو حامد بن إسحاق بن المزكي النيسابوري، سمع الأصم وطبقته، وكان كثير العبادة من صغره إلى كبره، وصام في عمره سردا تسعا وعشرين سنة.

وقال الحاكم: وعندي أن الملائكة لم تكتب عليه خطيئة، توفي في شعبان منها عن ثلاث وستين سنة.

أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب

محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي الواعظ المذكر، الزاهد المتعبد، الرجل الصالح، سمع الحديث وروى عن غير واحد.

قال العتيقي: كان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة، وصنف كتابا سماه (قوت القلوب)، وذكر فيه أحاديث لا أصل لها، وكان يعظ الناس في جامع بغداد، وحكى ابن الجوزي أن أصله من الجبل، وأنه نشأ بمكة، وأنه دخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم، فانتمى إلى مقالته، ودخل بغداد فاجتمع عليه الناس وعقد له مجلس الوعظ بها، فغلط في كلام وحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق.

فبدعه الناس وهجروه، وامتنع من الكلام على الناس.

وقد كان أبو طالب هذا يبيح السماع، فدعا عليه عبد الصمد بن علي ودخل عليه فعاتبه على ذلك، فأنشد أبو طالب:

فيا ليل كم فيك من متعب ** ويا صبح ليتك لم تقرب

فخرج عبد الصمد مغضبا.

وقال أبو القاسم بن سرات: دخلت على شيخنا أبي طالب المكي وهو يموت فقلت له: أوص.

فقال: إذا ختم لي بخير فانثر على جنازتي لوزا وسكرا.

فقلت: كيف أعلم بذلك؟

فقال: اجلس عندي ويدك في يدي، فإن قبضت على يدك فاعلم أنه قد ختم لي بخير.

قال: ففعلت، فلما حان فراقه قبض على يدي قبضا شديدا، فلما رفع على جنازته نثرت اللوز والسكر على نعشه.

قال ابن الجوزي: توفي في جمادى الآخرة منها، وقبره ظاهر في جامع الرصافة.

العزيز صاحب مصر

نزار بن المعز معد أبي تميم، ويكنى نزار بأبي منصور، ويلقب بالعزيز، توفي عن اثنين وأربعين سنة منها، وكانت ولايته بعد أبيه إحدى وعشرين سنة، وخمسة أشهر وعشر أيام، وقام بالأمر من بعده ولده الحاكم قبحه الله.

والحاكم هذا هو الذي ينسب إليه الفرقة الضالة المضلة الزنادقة الحاكمية، واليه ينسب أهل وادي التيم من الدرزية أتباع هستكر غلام الحاكم الذي بعثه إليهم يدعوهم إلى الكفر المحض فأجابوه، لعنه الله وإياهم أجمعين.

أما العزيز هذا فإنه كان قد استوزر رجلا نصرانيا يقال له: عيسى بن نسطورس، وآخر يهوديا اسمه: ميشا، فعزّ بسببهما أهل هذين الملتين في ذلك الزمان على المسلمين، حتى كتبت إليه امرأة قصة في حاجة لها تقول فيها: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا، وأذل المسلمين بهما لما كشفت ظلامتي.

فعند ذلك أمر بالقبض على هذين الرجلين وأخذ من النصارى ثلاثمائة ألف دينار.

وفيها: توفيت بنت عضد الدولة امرأة الطائع، فحملت تركتها إلى ابن أخيها بهاء الدولة، وكان فيها جوهر كثير والله أعلم.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة

فيها: توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه، وأقيم ولده رستم في الملك مكانه، وكان عمره أربع سنين، وقام خواص أبيه بتدبير الملك في الرعايا.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو أحمد العسكري اللغوي الحسن بن عبد الله

ابن سعيد بن أحمد العسكري اللغوي، العلامة في فنه وتصانيفه، المفيد في اللغة وغيرها.

يقال: إنه كان يميل إلى الاعتزال، ولما قدم الصاحب بن عباد هو وفخر الدولة البلدة التي كان فيها أبو أحمد العسكري - وكان قد كبر وأسن - بعث إليه الصاحب رقعة فيها هذه الأبيات:

ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ** ضعفنا فما نقوى على الوحدان

أتيناكم من بعد أرض نزوركم ** فكم من منزل بكر لنا عوان

نناشدكم هل من قرى لنزيلكم ** بطول جوار لا يمل جفان

تضمنت بنت ابن الرشيد كأنما ** تعمد تشبيهي به وعناني

أهم بأمر الحزم لا أستطيعه ** وقد حيل بين العير والنزوان

ثم ركب بغلته تحاملا وصار إلى الصاحب فوجده مشغولا في خيمته بأبهة الوزارة، فصعد أكمة ثم نادى بأعلى صوته:

ما لي أرى القبة الفيحاء مقفلة ** دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها

كأنها جنة الفردوس معرضة ** وليس لي عمل زاك فأدخلها

فلما سمع الصاحب صوته ناداه: أدخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الأولى.

فلما صار إليه أحسن إليه، توفي في يوم التروية منها.

قال ابن خلكان: وكانت ولادته يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاثة وتسعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.

عبد الله بن محمد بن عبد الله

ابن إبراهيم بن عبيد الله بن زياد بن مهران، أبو القاسم الشاعر المعروف بابن الثلاج، لأن جده أهدى لبعض الخلفاء ثلجا، فوقع منه موقعا، فعرف عند الخليفة بالثلاج، وقد سمع أبو القاسم هذا من البغوي وابن صاعد وأبي داود، وحدث عن التنوخي والأزهري والعقيقي وغيرهم من الحفاظ.

قال ابن الجوزي: وقد اتهمه المحدثون منهم الدارقطني ونسبوه إلى أنه كان يركب الإسناد ويضع الحديث على الرجال.

توفي في ربيع الأول فجأة.

ابن زولاق

الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن بن علي بن خلد بن راشد بن عبيد الله بن سليمان بن زولاق، أبو محمد المصري الحافظ، صنف كتابا في قضاة مصر ذيل به كتاب أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي، إلى سنة ست وأربعين ومائتين، وذيل ابن زولاق من القاضي بكار إلى سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وهي أيام محمد بن النعمان قاضي الفاطميين، الذي صنف (البلاغ) الذي انتصب فيه للرد على القاضي الباقلاني، وهو أخو عبد العزيز بن النعمان والله أعلم.

وكانت وفاته في أواخر ذي القعدة من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة.

ابن بطة عبيد الله بن محمد

ابن حمران، أبو عبد الله العكبري، المعروف بابن بطة، أحد علماء الحنابلة، وله التصانيف الكثيرة الحافلة في فنون من العلوم، سمع الحديث من البغوي وأبي بكر النيسابوري وابن صاعد وخلق في أقاليم متعددة، وعنه جماعة من الحفاظ، منهم أبو الفتح بن أبي الفوارس، والأزجي والبرمكي، وأثنى عليه غير واحد من الأئمة.

وكان ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رأى بعضهم رسول الله، فقال: يا رسول الله قد اختلفت عليّ المذاهب.

فقال: عليك بأبي عبد الله بن بطة.

فلما أصبح ذهب إليه ليبشره بالمنام فحين رآه بن بطة تبسم إليه وقال له - قبل أن يخاطبه - صدق رسول الله ﷺ ثلاث مرات.

وقد تصدى الخطيب البغدادي للكلام في ابن بطة والطعن عليه، وفيه بسبب بعض الجرح في ابن بطة الذي أسنده إلى شيخه عبد الواحد بن علي الأسدي المعروف بابن برهان اللغوي، فانتدب ابن الجوزي للرد على الخطيب والطعن عليه أيضا بسبب بعض مشايخه والانتصار لابن بطة، فحكى عن أبي الوفا بن عقيل أن ابن برهان كان يرى مذهب مرجئة المعتزلة، في أن الكفار لا يخلدون في النار، وإنما قالوا ذلك لأن دوام ذلك إنما هو التشفي ولا معنى له هنا مع أنه قد وصف بأنه غفور رحيم، وأنه أرحم الراحمين.

ثم شرع ابن عقيل يرد على ابن برهان.

قال ابن الجوزي: فكيف يقبل الجرح من مثل هذا !؟.

ثم روى ابن الجوزي بسنده عن ابن بطة أنه سمع المعجم من البغوي، قال: والمثبت مقدم على النافي.

قال الخطيب: وحدثني عبد الواحد بن برهان قال: ثنا محمد بن أبي الفوارس روى عن ابن بطة، عن البغوي، عن أبي مصعب، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».

قال الخطيب: وهذا باطل من حديث مالك، والحمل فيه على ابن بطة.

قال ابن الجوزي: والجواب عن هذا من وجهين:

أحدهما أنه وجد بخط ابن برهان: ما حكاه الخطيب في القدح في ابن بطة وهو شيخي أخذت عنه العلم في البداية.

الثاني: أن ابن برهان قد تقدم القدح فيه بما خالف فيه الإجماع، فكيف قبلت القول في رجل قد حكيت عن مشايخ العلماء أنه رجل صالح مجاب الدعوة، نعوذ بالله من الهوى.

علي بن عبد العزيز بن مدرك

أبو الحسن البردعي، روى عن أبي حاتم وغيره، وكان كثير المال فترك الدنيا وأقبل على الآخرة، فاعتكف في المسجد، وكان كثير الصلاة والعبادة.

فخر الدولة بن بويه

علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي، ملك بلاد الري ونواحيها، وحين مات أخوه مؤيد الدولة كتب إليه الوزير ابن عباد بالإسراع إليه فولاه الملك بعده، واستوزر ابن عباد على ما كان عليه.

توفي عن ست وأربعين سنة، منها مدة ملكه ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة عشر يوما، وترك من الأموال شيئا كثيرا، من الذهب ما يقارب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الجواهر نحوا من خمسة عشر ألف قطعة، يقارب قيمتها ثلاث آلاف ألف دينار ذهبا.

وغير ذلك من أواني الذهب زنته ألف ألف دينار، ومن الفضة زنته ثلاثة آلاف ألف درهم، كلها آنية، ومن الثياب ثلاثة آلاف حمل، وخزانة السلاح ألف حمل، ومن الفرش ألف وخمسمائة حمل، ومن الأمتعة مما يليق بالملوك شيئا كثيرا لا يحصر، ومع هذا لم يصلوا ليلة موته إلى شيء من المال، ولم يحصل له كفن إلا ثوب من المجاورين في المسجد، واشتغلوا عنه بالملك حتى تم لولده رستم من بعده، فأنتن الملك ولم يتمكن أحد من الوصول إليه فربطوه في حبال وجروه على درج القلعة من نتن ريحه، فتقطع جزاء وفاقا.

ابن سمعون الواعظ

محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو الحسين بن سمعون الواعظ، أحد الصلحاء والعلماء، كان يقال له: الناطق بالحكمة، روى عن أبي بكر بن داود وطبقته، وكان له يد طولى في الوعظ والتدقيق في المعاملات، وكانت له كرامات ومكاشفات، كان يوما يعظ على المنبر وتحته أبو الفتح بن القواس، وكان من الصالحين المشهورين، فنعس ابن القواس فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتى استيقظ، فحين استيقظ قال ابن سمعون: رأيت رسول الله ﷺ في منامك هذا؟

قال: نعم.

قال: فلهذا أمسكت عن الوعظ حتى لا أزعجك عما كنت فيه.

وكان لرجل ابنة مريضة مدنفة فرأى أبوها رسول الله ﷺ في المنام وهو يقول له: اذهب إلى ابن سمعون ليأتي منزلك فيدعو لابنتك تبرأ بإذن الله.

فلما أصبح ذهب إليه فلما رآه نهض ولبس ثيابه وخرج مع الرجل، فظن الرجل أنه يذهب إلى مجلس وعظه، فقال في نفسه: أقول له في أثناء الطريق.

فلما مر بدار الرجل دخل إليها فأحضر إليه ابنته فدعا لها وانصرف.

فبرأت من ساعتها، وبعث إليه الخليفة الطائع لله من أحضره إليه وهو مغضب عليه، فخيف على ابن سمعون منه، فلما جلس بين يديه أخذ في الوعظ، وكان أكثر ما أورده من كلام علي بن أبي طالب، فبكى الخليفة حتى سمع نشيجه، ثم خرج من بين يديه وهو مكرم، فقيل للخليفة: رأيناك طلبته وأن غضبان.

فقال: بلغني أنه ينتقص عليا فأردت أن أعاقبه، فلما حضر أكثر من ذكر علي فعلمت أنه موفق، فذكرني وشفى ما كان في خاطري عليه.

ورأى بعضهم في المنام رسول الله ﷺ وإلى جانبه عيسى بن مريم عليه السلام، وهو يقول: أليس من أمتي الأحبار، أليس من أمتي أصحاب الصوامع.

فبينما هو يقول ذلك إذ دخل ابن سمعون فقال رسول الله ﷺ لعيسى: أفي أمتك مثل هذا؟

فسكت عيسى.

ولد ابن سمعون في سنة ثلاثمائة، وتوفي يوم الخميس الرابع عشر من ذي القعدة في هذه السنة، ودفن بداره.

قال ابن الجوزي: ثم أخرج بعد سنتين إلى مقبرة أحمد بن حنبل وأكفانه لم تبل رحمه الله.

آخر ملوك السامانية نوح بن منصور

ابن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل، أبو القاسم الساماني، ملك خراسان وغزنة وما وراء النهر، ولي الملك وعمره ثلاث عشرة سنة، واستمر في الملك إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر، ثم قبض عليه خواصه وأجلسوا مكانه أخاه عبد الملك، فقصدهم محمود بن سبكتيكن فانتزع الملك من أيدهم، وقد كان لهم الملك مائة وستين سنة، فباد ملكهم في هذا العام، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أبو الطيب سهل بن محمد

ابن سليمان بن محمد بن سليمان الصعلوكي الفقيه الشافعي، إمام أهل نيسابور، وشيخ تلك الناحية، كان يحضر مجلسه خمسمائة محبرة، وكانت وفاته في هذه السنة على المشهور.

وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي في (الإرشاد): مات في سنة ستين وأربعمائة فالله أعلم.

ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي: في ذي الحجة منها سقط في بغداد برد عظيم، بحيث جمد الماء في الحمامات، وبول الدواب في الطرقات.

وفيها: جاءت رسل أبي طالب بن فخر الدولة في البيعة له، فبايعه الخليفة وأمّره على بلاد الري ولقبه مجد الدولة كهف الأمة، وبعث إليه بالخلع والألوية، وكذلك فعل ببدر بن حسنويه ولقبه ناصر الدين والدولة، وكان كثير الصدقات.

وفيها: هرب أبو عبد الله بن جعفر المعروف بابن الوثاب، المنتسب إلى جده الطائع، من السجن بدار الخلافة إلى البطيحة، فآواه صاحبها مهذب الدولة، ثم أرسل القادر بالله في أمره فجيء به مضيقا عليه فاعتقله، ثم هرب من الاعتقال أيضا فذهب إلى بلاد كيلان فادّعى أنه الطائع لله، فصدقوه وبايعوه وأدوا إليه العشر، وغير ذلك من الحقوق، ثم اتفق مجيء بعضهم إلى بغداد فسألوا عن الأمر فإذا ليس له أصل ولا حقيقة، فرجعوا عنه واضمحل أمره وفسد حاله فانهزم عنهم.

وحج بالناس فيها أمير المصريين، والخطبة بالحرمين للحاكم العبيدي قبحه الله.

وممن توفي فيها من الأعيان:

الخطابي

أبو سليمان حمد، ويقال: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي، أحد المشاهير الأعيان، والفقهاء المجتهدين المكثرين، له من المصنفات (معالم السنن) و(شرح البخاري) وغير ذلك.

وله شعر حسن فمنه قوله:

ما دمت حيا فدار الناس كلهم ** فإنما أنت في دار المداراة

من يدرِ دارى ومن لم يدر سوف يُرى ** عما قليل نديما للندامات

توفي بمدينة بست في ربيع الأول من هذه السنة، قاله ابن خلكان.

الحسين بن أحمد بن عبد الله

ابن عبد الرحمن بن بكير بن عبد الله الصيرفي الحافظ المطبق، سمع إسماعيل الصفار وابن السماك والنجاد والخلدي وأبا بكر الشاشي.

وعنه ابن شاهين والأزهري والتنوخي، وحكى الأزهري: أنه دخل عليه وبين يديه أجزاء كبار فجعل إذا ساق إسنادا أورد متنه من حفظه، وإذا سرد متنا ساق إسناده من حفظه.

قال: وفعلت هذا معه مرارا، كل ذلك يورد الحديث إسنادا ومتنا كما في كتابه.

قال: وكان ثقة فحسدوه وتكلموا فيه.

وحكى الخطيب: أن ابن أبي الفوارس اتهمه بأنه يزيد في سماع الشيوخ، ويلحق رجالا في الأحاديث ويصل المقاطيع.

توفي في ربيع الأول منها عن إحدى وسبعين سنة.

صمصامة الدولة

ابن عضد الدولة صاحب بلاد فارس، خرج عليه ابن عمه أبو نصر بن بختيار فهرب منه ونجا في جماعة من الأكراد، فلما وغلوا به أخذوا ما في خزائنه وحواصله، ولحقه أصحاب ابن بختيار فقتلوه وحملوا رأسه إليه، فلما وضع بين يدي ابن بختيار قال: هذه سنة سنها أبوك.

وكان ذلك في ذي الحجة من هذه السنة، وكان عمره يوم قتل خمسا وثلاثين سنة، ومدة ملكه منها تسع سنين وأشهر.

عبد العزيز بن يوسف الحطان

أبو القاسم، كاتب الإنشاء لعضد الدولة، ثم وزر لابنه بهاء الدولة خمسة أشهر، وكان يقول الشعر، توفي في شعبان منها.

محمد بن أحمد ابن إبراهيم أبو الفتح المعروف بغلام الشنبوذي

كان عالما بالقراءات وتفسيرها، يقال: إنه كان يحفظ خمسين ألف بيت من الشعر، شواهد للقرآن، ومع هذا تكلموا في روايته عن أبي الحسين بن شنبوذ، وأساء الدارقطني القول فيه.

توفي في صفر منها، وولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.

ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة

فيها: قصد محمود بن سبكتكين بلاد خراسان فاستلب ملكها من أيدي السامانية، وواقعهم مرات متعددة في هذه السنة وما قبلها، حتى أزال اسمهم ورسمهم عن البلاد بالكلية، وانقرضت دولتهم بالكلية، ثم صمد لقتال ملك الترك بما وراء النهر، وذلك بعد موت الخاقان الكبير الذي يقال له: فائق، وجرت له معهم حروب وخطوب.

وفيها: استولى بهاء الدولة على بلاد فارس وخوزستان.

وفيها: أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فيما يزعمونه، فقاتلهم جهلة آخرون من المنتسبين إلى السنة فادعوا أن في مثل هذا اليوم حصر النبي ﷺ وأبو بكر في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضا جهل من هؤلاء، فإن هذا إنما كان في أوائل ربيع الأول من أول سني الهجرة، فإنهما أقاما فيه ثلاثا، وحين خرجا منه قصدا المدينة فدخلاها بعد ثمانية أيام أو نحوها، وكان دخولهما المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهذا أمر معلوم مقرر محرر.

ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتما يظهرون فيه الحزن على الحسين بن علي، قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنة، فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير، فعملوا له مأتما كما تعمل الشيعة للحسين، وزاروا قبره كما زاروا قبر الحسين، وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها، ولا يرفع البدعة إلا السنة الصحيحة.

وفيها: وقع برد شديد مع غيم مطبق، وريح قوية، بحيث أتلفت شيئا كثيرا من النخيل ببغداد، فلم يتراجع حملها إلى عادتها إلا بعد سنتين.

وفيها: حج بركب العراق الشريفان الرضي والمرتضي فاعتقلهما أمير الأعراب ابن الجراح، فافتديا أنفسهما منه بتسعة آلاف دينار من أموالهما فأطلقهما.

وممن توفي فيها من الأعيان:

زاهر بن عبد الله

ابن أحمد بن محمد بن عيسى السرخسي المقرئ الفقيه المحدث، شيخ عصره بخراسان، قرأ على ابن مجاهد، وتفقه بأبي إسحاق المروزي إمام الشافعية، وأخذ اللغة والأدب والنحو عن أبي بكر بن الأنباري.

توفي في ربيع الآخر عن ست وتسعين سنة.

عبد الله بن محمد بن إسحاق

ابن سليمان بن مخلد بن إبراهيم بن مروز أبو القاسم المعروف بابن حبابة، روى عن البغوي وأبي بكر بن أبي داود وطبقتهما، وكان ثقة مأمونا مسندا، ولد ببغداد سنة تسع وتسعين ومائتين، ومات في جمادى الأولى من هذه السنة عن تسعين سنة، وصلى عليه الشيخ أبو حامد الأسفراييني شيخ الشافعية، ودفن في مقابر جامع المنصور.

ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة من الهجرة النبوية

فيها: ظهر بأرض سجستان معدن من ذهب كانوا يحفرون فيه مثل الآبار، ويخرجون منه ذهبا أحمر.

وفيها: قتل الأمير أبو نصر بن بختيار صاحب بلاد فارس، واستولى عليها بهاء الدولة.

وفيها: قلد القادر بالله القضاء بواسط وأعمالها أبا حازم محمد بن الحسن الواسطي، وقرئ عهده بدار الخلافة، وكتب له القادر وصية حسنة طويلة أوردها ابن الجوزي في (منتظمه)، وفيها مواعظ وأوامر ونواهي حسنة جيدة.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أحمد بن محمد ابن أبي موسى أبو بكر الهاشمي

الفقيه المالكي القاضي بالمدائن وغيرها، وخطب بجامع المنصور، وسمع الكثير، وروى عنه الجم الغفير، وعنه الدارقطني الكبير، وكان عفيفا نزها ثقة دينا.

توفي في محرم هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.

عبيد الله بن عثمان بن يحيى

أبو القاسم الدقاق، ويعرف بابن حنيفا، قال القاضي العلامة أبو يعلى بن الفراء - وهذا جده - وروي باللام لا بالنون - حليفا - وقد سمع الحديث سماعا صحيحا، وروى عنه الأزهري وكان ثقة مأمونا حسن الخلق، ما رأينا مثله في معناه.

الحسين بن محمد بن خلف

ابن الفراء والد القاضي أبي يعلى، وكان صالحا فقيها على مذهب أبي حنيفة، أسند الحديث وروى عنه ابنه أبو حازم محمد بن الحسين.

عبد الله بن أحمد ابن علي بن أبي طالب البغدادي

نزيل مصر، وحدث بها فسمع منه الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري.

عمر بن إبراهيم ابن أحمد أبو نصر المعروف بالكتاني المقري

ولد سنة ثلاثمائة، روى عن البغوي وابن مجاهد وابن صاعد، وعنه الأزهري وغيره، وكان ثقة صالحا.

محمد بن عبد الله بن الحسين ابن عبد الله بن هارون

أبو الحسين الدقاق، المعروف بابن أخي ميمي، سمع البغوي وغيره، وعنه جماعة، ولم يزل على كبر سنة يكتب الحديث إلى أن توفي وله تسعون سنة، وكان ثقة مأمونا دينا فاضلا حسن الأخلاق، توفي ليلة الجمعة لثمان وعشرين من شعبان منها.

محمد بن عمر بن يحيى

ابن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشريف أبو الحسين العلوي، الكوفي، ولد سنة خمس عشرة، وسمع من أبي العباس بن عقدة وغيره، وسكن بغداد، وكانت له أموال كثيرة وضياع، ودخل عظيم وحشمة وافرة، وهمة عالية، وكان مقدما على الطالبيين في وقته، وقد صادره عضد الدولة في وقت استحوذ على جمهور أمواله وسجنه، ثم أطلقه شرف الدولة بن عضد الدولة، ثم صادره بهاء الدولة بألف ألف دينار ثم سجنه، ثم أطلقه واستنابه على بغداد.

ويقال: إن غلاته كانت تساوي في كل سنة بألفي ألف دينار، وله وجاهة كبيرة جدا، ورياسة باذخة.

الأستاذ أبو الفتوح برجوان

الناظر في الأمور بالديار المصرية في الدولة الحاكمية، وإليه تنسب حارة برجوان بالقاهرة، كان أولا من غلمان العزيز بن المعز، ثم صار عند الحاكم نافذ الأمر مطاعا كبيرا في الدولة، ثم أمر بقتله في القصر فضربه الأمير ريدان - الذي تنسب إليه الريدانية خارخ باب الفتوح - بسكين في بطنه فقتله.

وقد ترك شيئا كثيرا من الأثاث والثياب، من ذلك ألف سراويل بيدقي بألف تكة من حرير، قاله ابن خلكان.

وولى الحاكم بعده في منصبه الأمير حسين بن القائد جوهر.

الجريري المعروف بابن طرار

المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود أبو الفرج النهرواني القاضي - لأنه ناب في الحكم - المعروف بابن طرار الجريري، لأنه اشتغل على ابن جرير الطبري، وسلك وراءه في مذهبه، فنسب إليه.

سمع الحديث من البغوي وابن صاعد وخلق، وروى عنه جماعة، وكان ثقة مأمونا عالما فاضلا كثير الآداب والتمكن في أصناف العلوم، وله المصنفات الكثيرة منها كتابه المسمى (بالجليس والأنيس)، فيه فوائد كثيرة جمة، وكان الشيخ أبو محمد الباقلاني أحد أئمة الشافعية يقول: إذا حضر المعافى حضرت العلوم كلها، ولو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس لوجب أن يصرف إليه.

وقال غيره: اجتمع جماعة من الفضلاء في دار بعض الرؤوساء وفيهم المعافى، فقالوا: هل نتذاكر في فن من العلوم؟

فقال المعافى لصاحب المنزل - وكان عنده كتب كثيرة في خزانة عظيمة -: مر غلامك أن يأتي بكتاب من هذه الكتب، أي كتاب كان نتذاكر فيه.

فتعجب الحاضرون من تمكنه وتبحره في سائر العلوم، وقال الخطيب البغدادي: أنشدنا الشيخ أبو الطيب الطبري، أنشدنا المعافى بن زكريا لنفسه:

ألا قل لمن كان لي حاسدا ** أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله سبحانه ** لأنك لا ترضى لي ما وهب

فجازاك عني بأن زادني ** وسد عليك وجوه الطلب

توفي في ذي الحجة من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، رحمه الله.

ابن فارس

صاحب المجمل، وقيل: إنه توفي في سنة خمس وتسعين كما سيأتي.

أم السلامة

بنت القاضي أبي بكر بن أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة، أم الفتح، سمعت من محمد بن إسماعيل النصلاني وغيره، وعنها الأزهري والتنوخي وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم، وأثنى عليها غير واحد في دينها وفضلها وسيادتها، وكان مولدها في رجب من سنة ثمان وتسعين، وتوفيت في رجب أيضا من هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة، رحمها الله تعالى.

ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة

فيها: بايع الخليفة القادر بالله أبي الفضل بولاية العهد من بعده، وخطب له على المنابر بعد أبيه، ولقب بالغالب بالله، وكان عمره حينئذ ثماني سنين وشهورا، ولم يتم له ذلك.

وكان سبب ذلك أن رجلا يقال له: عبد الله بن عثمان الواقفي، ذهب إلى بعض الأطراف من بلاد الترك، وادعى أن القادر بالله جعله ولي العهد من بعده، فخطبوا له هنالك فلما بلغ القادر أمره بعث يتطلبه فهرب في البلاد وتمزق، ثم أخذه بعض الملوك فسجنه في قلعة إلى أن مات، فلهذا بادر القادر إلى هذه البيعة.

وفي يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة ولد الأمير أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله، وهذا هو الذي صارت إليه الخلافة، وهو القائم بأمر الله.

وفيها: قتل الأمير حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلة ببلاد الأنبار، وكان قد عظم شأنه بتلك البلاد، ورام المملكة فجاءه القدر المحتوم فقتله بعض غلمانه الأتراك، وقام بالأمر من بعده ولده قرواش.

وحج بالناس المصريون.

وفيها توفي من الأعيان:

جعفر بن الفضل بن جعفر

ابن محمد بن الفرات أبو الفضل، المعروف بابن خنزابة الوزير، ولد سنة ثمان وثلاثمائة ببغداد، ونزل الديار المصرية ووزر بها للأمير كافور الأخشيدي، وكان أبوه وزيرا للمقتدر، وقد سمع الحديث من محمد بن هارون الحضرمي وطبقته من البغداديين، وكان قد سمع مجلسا من البغوي، ولم يكن عنده، وكان يقول: من جاءني به أغنيته.

وكان له مجلس للإملاء بمصر، وبسببه رحل الدارقطني إلى مصر فنزل عنده وخرّج له مسندا، وحصل له منه مال جزيل، وحدّث عنه الدارقطني وغيره من الأكابر.

ومن مستجاد شعره قوله:

من أخمل النفس أحياها وروّحها ** ولم يبت طاويا منها على ضجر

إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ** فليس ترمي سوى العالي من الشجر

قال ابن خلكان: كانت وفاته في صفر، وقيل: في ربيع الأول منها، عن ثنتين وثمانين سنة ودفن بالقرافة، وقيل: بداره، وقيل: إنه كان قد اشترى بالمدينة النبوية دارا فجعل له فيها تربة، فلما نقل إليها تلقته الأشراف لإحسانه إليهم، فحملوه وحجوا به ووقفوا به بعرفات، ثم أعادوه إلى المدينة فدفنوه بتربته.

ابن الحجاج الشاعر

الحسين بن أحمد بن الحجاج أبو عبد الله الشاعر الماجن المقذع في نظمه، يستنكف اللسان عن التلفظ بها والأذنان عن الاستماع لها، وقد كان أبوه من كبار العمال، وولي هو حسبة بغداد في أيام عز الدولة، فاستخلف عليها نوابا ستة، وتشاغل هو بالشعر السخيف والرأي الضعيف، إلا أن شعره جيد من حيث اللفظ، وفيه قوة تدل على تمكين واقتدار على سبك المعاني القبيحة التي هي في غاية الفضيحة في الألفاظ الفصيحة، وله غير ذلك من الأشعار المستجادة، وقد امتدح مرة صاحب مصر فبعث إليه بألف دينار.

وقول ابن خلكان: بأنه عزل عن حسبة بغداد بأبي سعيد الأصطخري قول ضعيف لا يسامح بمثله، فإن أبا سعيد توفي في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، فكيف يعزل به ابن الحجاج وهو لا يمكن ادعاء أن يلي الحسبة بعده أبو سعيد الأصطخري، وابن خلكان قد أرخ وفاة هذا الشاعر بهذه السنة، ووفاة الاصطخري بما تقدم.

وقد جمع الشريف الرضي أشعاره الجيدة على حدة في ديوان مفرد، ورثاه حين توفي هو وغيره من الشعراء.

عبد العزيز بن أحمد بن الحسن الجزري

القاضي بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك من الجهات، كان ظاهريا على مذهب داود، وكان لطيفا تحاكم إليه وكيلان، فبكى أحدهما في أثناء الخصومة فقال له القاضي: أرني وكالتك.

فناوله فقرأها ثم قال له: لم يجعل إليك أن تبكي عنه.

فاستضحك الناس ونهض الوكيل خجلا.

عيسى بن الوزير علي بن عيسى

ابن داود بن الجراح، أبو القاسم البغدادي، وكان أبوه من كبار الوزراء، وكتب هو للطائع أيضا، وسمع الحديث الكثير، وكان صحيح السماع كثير العلوم، وكان عارفا بالمنطق وعلم الأوائل، فاتهموه بشيء من مذهب الفلاسفة، ومن جيد شعره قوله:

رب ميت قد صار بالعلم حيا ** ومبقى قد مات جهلا وغيا

فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا ** لا تعدوا الحياة في الجهل شيا

ولد في سنة ثنتين وثلاثمائة، وتوفي في هذه السنة عن تسع وثمانين سنة، ودفن في داره ببغداد.

ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وثلاثمائة

في محرمها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند، فقصده ملكها جيبال في جيش عظيم فاقتتلوا قتالا شديدا ففتح الله على المسلمين، وانهزمت الهنود، وأسر ملكهم جيبال، وأخذوا من عنقه قلادة قيمتها ثمانون ألف دينار، وغنم المسلمون منهم أموالا عظيمة، وفتحوا بلادا كثيرة.

ثم إن محمودا سلطان المسلمين أطلق ملك الهند احتقارا له واستهانة به، ليراه أهل مملكته والناس في المذلة، فحين وصل جيبال إلى بلاده ألقى نفسه في النار التي يعبدونها من دون الله فاحترق، لعنه الله.

وفي ربيع الأول منها ثارت العوام على النصارى ببغداد، فنهبوا كنيستهم التي بقطيعة الدقيق وأحرقوها، فسقطت على خلق فماتوا، وفيهم جماعة من المسلمين رجال ونساء وصبيان.

وفي رمضان منها قوي أمر العيارين، وكثرت العملات ونهبت بغداد وانتشرت الفتنة.

قال ابن الجوزية: وفي ليلة الاثنين منها ثالث القعدة انقض كوكب أضاء كضوء القمر ليلة التمام، ومضى الشعاع وبقي جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراعين في رأي العين، ثم توارى بعد ساعة.

وفي هذا الشهر قدم الحجاج من خراسان إلى بغداد ليسيروا إلى الحجاز، فبلغهم عيث الأعراب في الأرض بالفساد، وأنه لا ناضر لهم ولا ناظر ينظر في أمرهم، فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحج من بلاد المشرق أحد في هذه السنة.

وفي يوم عرفة منها ولد لبهاء الدولة ابنان توأمان فمات أحدهما بعد سبع سنين، وأقام الآخر حتى قام بالأمر من بعد أبيه، ولقب شرف الدولة.

وحج المصريون فيها بالناس.

وممن توفي فيها من الأعيان:

ابن جني

أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف الفائقة المتداولة في النحو واللغة، وكان جنى عبد ا روميا مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي، ومن شعره في ذلك قوله:

فإن أُصبح بلا نسب ** فعلمي في الورى نسبي

على أني أؤول إلى ** قروم سادة نجب

قياصرة إذا نطقوا ** أرمُّوا الدهر ذا الخطب

أولاك دعا النبي لهم ** كفى شرفا دعاء نبي

وقد أقام ببغداد ودرس بها العلم إلى أن توفي ليلة الجمعة لليلتين خلتا من صفر منها.

قال ابن خلكان: ويقال: إنه كان أعور وله في ذلك:

صدودك عني ولا ذنب لي ** يدل على نية فاسدة

فقد - وحياتك -مما بكيت ** خشيت على عيني الواحدة

ولولا ومخافة أن لا أرا ** ك لما كان في تركها فائدة

ويقال: إن هذه الأبيات لغيره، وكان قائلها أعور.

وله في مملوك حسن الصورة أعور قوله:

له عين أصابت كل عين ** وعين قد أصابتها العيون

أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر:

علي بن عبد العزيز القاضي بالري

سمع الحديث وترقى في العلوم حتى أقر له الناس بالتفرد، وله أشعار حسان من ذلك قوله:

يقولون لي فيك انقباض وإنما ** رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم ** ومن أكرمته عزة النفس أكرما

ولم أقض حق العلم إن كان كلما ** بدا طمع صيرته لي سلما

إذا قيل لي هذا مطمع قلت قد أرى ** ولكن نفس الحر تحتمل الظما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ** لأَخدم من لاقيت ولكن لأُخدما

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلةً ** إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظموه في النفس عظما

ولكن أهانوه، فهان، ودنسوا ** محياه بالأطماع حتى تجهما

ومن مستجاد شعره أيضا:

ما تطمَّعت لذة العيش حتى ** صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس عندي شيء ألذ من الـ ** ـعلم فما أبتغي سواه أنيسا

ومن شعره أيضا:

إذا شئت أن تستقرض المال منفقا ** على شهوات النفس في زمن العسر

فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها ** عليك وإنظارا إلى زمن اليسر

فإن فعلت كنت الغني وإن أبت ** فكل منوع بعدها واسع العذر

توفي رحمه الله في هذه السنة، وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها.

ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة

وفيها: كانت وفاة الطائع لله على ما سنذكره.

وفيها: منع عميد الجيوش الشيعة من النوح على الحسين في يوم عاشوراء، ومنع جهلة السنة بباب البصرة وباب الشعير من النوح على مصعب بن الزبير بعد ذلك بثمانية أيام، فامتنع الفريقان ولله الحمد والمنة.

وفي أواخر المحرم خلع بهاء الدولة وزيره أبا غالب محمد بن خلف عن الوزارة وصادره بمائة ألف دينار قاشانية.

وفي أوائل صفر منها غلت الأسعار ببغداد جدا، وعدمت الحنطة حتى بيع الكر بمائة وعشرين دينارا.

وفيها: برز عميد الجيوش إلى سر من رأى واستدعى سيد الدولة أبا الحسن، علي بن مزيد، وقرر عليه في كل سنة أربعين ألف دينار، فالتزم بذلك فقرره على بلاده.

وفيها: هرب أبو العباس الضبي وزير مجد الدولة بن فخر الدولة من الري إلى بدر بن حسنويه، فأكرمه، وولى بعد ذلك وزارة مجد الدولة أبو علي الخطير.

وفيها: استناب الحاكم على دمشق وجيوش الشام أبا محمد الأسود، ثم بلغه أنه عزر رجلا مغربيا سبّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وطاف به في البلد، فخاف من معرة ذلك فبعث إليه فعزله مكرا وخديعة.

وانقطع الحج فيها من العراق بسبب الأعراب.

وممن توفي فيها من الأعيان:

إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو إسحاق الطبري الفقيه المالكي

مقدم المعدلين ببغداد، وشيخ القراءات، وقد سمع الكثير من الحديث، وخرج له الدارقطني خمسمائة جزء حديث، وكان كريما مفضلا على أهل العلم.

الطائع لله عبد الكريم بن المطيع

تقدم خلعه وذكر ما جرى له، توفي ليلة عيد الفطر منها عن خمس أو ست وسبعين سنة، منها سبع عشر سنة وستة أشهر وخمسة أيام خليفة، وصلى عليه الخليفة القادر فكبر عليه خمسا، وشهد جنازته الأكابر، ودفن بالرصافة.

محمد بن عبد الرحمن بن العباس بن زكريا

أبو طاهر المخلص، شيخ كبير الرواية، سمع البغوي وابن صاعد وخلقا، وعنه البرقاني والأزهري والخلال والتنوخي، وكان ثقة من الصالحين.

توفي في رمضان منها عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله.

محمد بن عبد الله أبو الحسن السلامي

الشاعر المجيد، له شعر مشهور، ومدائح في عضد الدولة وغيره.

ميمونة بنت شاقولة

الواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يوما في وعظها أن ثوبها الذي عليها - وأشارت إليه - له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها.

قالت: والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعا.

وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا حائط يريد أن ينقض فقلت لأمي: ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار؟

فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئا ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار، فوضعتها فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } [فاطر: 41] اللهم ممسك السموات والأرض أمسكه.

ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة

وفيها: ولى بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن أحمد بن موسى الموسوي، قضاء القضاة والحج والمظالم، ونقابة الطالبيبن، ولقب بالطاهر الأوحد، ذوي المناقب، وكان التقليد له بسيراج، فلما وصل الكتاب إلى بغداد لم يأذن له الخليفة القادر في قضاء القضاة، فتوقف حاله بسبب ذلك.

وفيها: ملك أبو العباس بن واصل بلاد البطيحة، وأخرج منها مهذب الدولة فقصده زعيم الجيوش ليأخذها منه، فهزمه ابن واصل ونهب أمواله وحواصله، وكان في جملة ما أصاب في خيمة الخزانة ثلاثون ألف دينار، وخمسون ألف درهم.

وفيها: خرج الركب العراقي إلى الحجاز في جحفل عظيم كبير وتجمل كثير، فاعترضهم الأصيفر أمير الأعراب، فبعثوا إليه بشابين قارئين مجيدين كانا معهم، يقال لهما: أبو الحسن الرفا وأبو عبد الله بن الزجاجي، وكانا من أحسن الناس قراءة، ليكلماه في شيء يأخذه من الحجيج، ويطلق سراحهم ليدركوا الحج.

فلما جلسا بين يديه قرآ جميعا عشرا بأصوات هائلة مطربة مطبوعة، فأدهشه ذلك وأعجبه جدا، وقال لهما: كيف عيشكما ببغداد؟

فقالا: بخير لا يزال الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والفضة والتحف.

فقال لهما: هل أطلق لكما أحد منهم بألف ألف دينار في يوم واحد؟

فقالا: لا، ولا ألف درهم في يوم واحد.

قال: فإني أطلق لكما ألف ألف دينار في هذه اللحظة، أطلق لكما الحجيج كله، ولولاكما لما قنعت منهم بألف ألف دينار.

فأطلق الحجيج كله بسببهما فلم يتعرض أحد من الأعراب لهم، وذهب الناس إلى الحج سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرئين.

ولما وقف الناس بعرفات قرأ هذان الرجلان قراءة عظيمة على جبل الرحمة، فضج الناس بالبكاء من سائر الركوب لقراءتهما، وقالوا لأهل العراق: ما كان ينبغي لكم أن تخرجوا معكم بهذين الرجلين في سفرة واحدة، لاحتمال أن يصابا جميعا، بل كان ينبغي أن تخرجوا بأحدهما وتدعوا الآخر، فإذا أصيب سلم الآخر.

وكانت الحجة والخطبة للمصرييين كما هي لهم من سنين متقدمة.

وقد كان أمير العراق عزم على العود سريعا إلى بغداد على طريقهم التي جاؤوا منها، وأن لا يسيروا إلى المدينة النبوية خوفا من الأعراب، وكثرة الخفارات، فشق ذلك على الناس، فوقف هذان الرجلان القارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية، وقرآ: { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } الآيات [التوبة: 120] . فضج الناس بالبكاء، وأمالت النوق أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة.

ولما رجع هذان القارئان رتبهما ولي الأمر مع أبي بكر بن البهلول -وكان مقرئا مجيدا أيضا - ليصلوا بالناس صلاة التراويح في رمضان، فكثر الجمع وراءهم لحسن تلاوتهم وكانوا يطيلون الصلاة جدا ويتناوبون في الإمامة، يقرؤون في كل ركعة بقدر ثلاثين آية، والناس لا ينصرفون من التراويح إلا في الثلث الأول من الليل، أو قريب النصف منه.

وقد قرأ ابن البهلول يوما في جامع المنصور قوله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } [الحديد: 16] فنهض إليه رجل صوفي وهو يتمايل فقال: كيف قلت؟

فأعاد الآية، فقال الصوفي: بلى والله، وسقط ميتا رحمه الله.

قال ابن الجوزي: وكذلك وقع لأبي الحسن بن الخشاب شيخ ابن الرفا، وكان تلميذا لأبي بكر بن الأدمي المتقدم ذكره، وكان جيد القراءة حسن الصوت أيضا، قرأ ابن الخشاب هذا في جامع الرصافة في الأحياء هذه الآية: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [الحديد: 16] فتواجد رجل صوفي وقال: بلى والله قد آن، وجلس وبكى بكاء طويلا، ثم سكت سكتة فإذا هو ميت رحمه الله.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو علي الإسكافي

ويلقب بالموفق، وكان مقدما عند بهاء الدولة، فولاه بغداد فأخذ أموالا كثيرة من اليهود ثم هرب إلى البطيحة، فأقام بها سنتين ثم قدم بغداد فولاه بهاء الدولة الوزارة، وكان شهما منصورا في الحرب ثم عاقبه بعد ذلك وقتله في هذه السنة، عن تسع وأربعين سنة.

ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة

فيها: عاد مهذب الدولة إلى البطيحة ولم يمانعه ابن واصل، وقرر عليه في كل سنة لبهاء الدولة خمسين ألف دينار.

وفيها: كان غلاء عظيم بإفريقية، بحيث تعطلت المخابز والحمامات، وذهب خلق كثير من الفناء، وهلك آخرون من شدة الغلاء، فنسأل الله حسن العافية والخاتمة آمين.

وفيها: أصاب الحجيج في الطريق عطش شديد بحيث هلك كثير منهم.

وكانت الخطبة للمصريين.

وممن توفي فيها من الأعيان:

محمد بن أحمد بن موسى بن جعفر

أبو نصر البخاري، المعروف بالملاحمي، أحد الحفاظ قدم بغداد وحدث بها عن محمود بن إسحاق عن البخاري، وروى عن الهيثم بن كليب وغيره، وحدث عنه الدارقطني، وكان من أعيان أصحاب الحديث.

توفي ببخارى في شعبان منها، وقد جاوز الثمانين.

محمد بن أبي إسماعيل علي بن الحسين بن الحسن بن القاسم أبي الحسن العلوي

ولد بهمذان ونشأ ببغداد، وكتب الحديث عن جعفر الخلدي وغيره، وسمع بنيسابور من الأصم وغيره، ودرس فقه الشافعي على علي بن أبي هريرة، ثم دخل الشام فصحب الصوفية حتى صار من كبارهم، وحج مرات على الوحدة، توفي في محرم هذه السنة.

أبو الحسين أحمد بن فارس ابن زكريا

بن محمد بن حبيب اللغوي الرازي، صاحب (المجمل في اللغة)، وكان مقيما بهمذان، وله رسائل حسان، أخذ عنه البديع صاحب المقامات، ومن رائق شعره قوله:

مرت بنا هيفاء مجدولة ** تركية تنمى لتركي

ترنو بطرف فاتر فاتن ** أضعف من حجة نحوي

وله أيضا:

إذا كنت في حاجة مرسلا ** وأنت بها كلف مغرم

فأرسل حكيما ولا توصه ** وذاك الحكيم هو الدرهم

قال ابن خلكان: توفي سنة تسعين وثلاثمائة، وقيل: سنة خمس وتسعين، والأول أشهر.

ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة

قال ابن الجوزي: في ليلة الجمعة مستهل شعبان طلع نجم يشبه الزهرة في كبره وكثرة ضوئه عن يسار القبلة يتموج، وله شعاع على الأرض كشعاع القمر، وثبت إلى النصف من ذي القعدة، ثم غاب.

وفيها: ولي محمد بن الأكفاني قضاء جميع بغداد.

وفيها: جلس القادر بالله للأمير قرواش بن أبي حسان وأقره في إمارة الكوفة، ولقبه معتمد الدولة.

وفيها: قلد الشريف الرضي نقابة الطالبيين، ولقب بالرضي ذي الحسنيين، ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين.

وفيها: غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند فافتتح مدنا كبارا، وأخذ أموالا جزيلة، وأسر بعض ملوكهم وهو ملك كراشى حين هرب منه لما افتتحها، وكسر أصنامها، فألبسه منطقته وشدها على وسطه بعد تمنع شديد وقطع خنصره ثم أطلقه إهانة له، وإظاهرا لعظمة الإسلام وأهله.

وفيها: كانت الخطبة للحاكم العبيدي، وتجدد في الخطبة أنه إذا ذكر الخطيب الحاكم يقوم الناس كلهم إجلالا له، وكذلك فعلوا بديار مصر مع زيادة السجود له، وكانوا يسجدون عند ذكره، يسجد من هو في الصلاة ومن هو في الأسواق يسجدون لسجودهم، لعنه الله وقبحه.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو سعد الإسماعيلي إبراهيم بن إسماعيل أبو سعد الجرجاني

المعروف بالإسماعيلي، ورد بغداد والدارقطني حيّ فحدث عن أبيه أبي بكر الإسماعيلي والأصم بن عدي، وحدث عنه الخلال والتنوخي، وكان ثقة فقيها فاضلا، على مذهب الشافعي، عارفا بالعربية، سخيا جوادا على أهل العلم، وله ورع ورياسة إلى اليوم في بلده إلى ولده.

قال الخطيب: سمعت الشيخ أبا الطيب يقول: ورد أبو سعد الإسماعيلي بغداد فعقد له الفقهاء مجلسين تولى أحدهما أبو حامد الأسفراييني، وتولى الثاني أبو محمد الباجي، فبعث الباجي إلى القاضي المعافى بن زكريا الجريري يستدعية إلى حضور المجلس ليجمل المجلس، وكانت الرسالة مع ولده أبي الفضل، وكتب على يده هذين البيتين:

إذا أكرم القاضي الجليل وليه ** وصاحبه ألفاه للشكر موضعا

ولي حاجة يأتي بني بذكرها ** ويسأله فيها التطول أجمعا

فأجابه الجريري مع ولد الشيخ:

دعا الشيخ مطواعا سميعا لأمره ** نواتيه طوعا حيث يرسم أصنعا

وها أنا غاد في غد نحو داره ** أبادر ما قد حده لي مسرعا

توفي الإسماعيلي فجأة بجرجان في ربيع الآخر وهو قائم يصلي في المحراب، في صلاة المغرب، فلما قرأ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] فاضت نفسه فمات رحمه الله.

محمد بن أحمد ابن محمد بن جعفر بن محمد بن محمد بن بحير

أبو عمرو المزكي، الحافظ النيسابوري، ويعرف بالحيري، رحل إلى الآفاق في طلب العلم، وكان حافظا جيد المذاكرة، ثقة ثبتا، حدث ببغداد وغيرها من البلاد، وتوفي في شعبان عن ثلاث وسبعين سنة.

أبو عبد الله بن منده

الحافظ محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، أبو عبد الله الأصفهاني الحافظ، كان ثبت الحديث والحفظ، رحل إلى البلاد الشاسعة، وسمع الكثر وصنف التاريخ، والناسخ والمنسوخ.

قال أبو العباس جعفر بن محمد: ما رأيت أحفظ من ابن منده، توفي في أصفهان في صفر منها.

ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة

فيها: كان خروج أبي ركوة على الحاكم العبيدي صاحب مصر، وملخص أمر هذا الرجل أنه كان من سلالة هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، واسمه الوليد، وإنما لقب بأبي ركوة لركوة كان يصحبها في أسفاره على طريق الصوفية، وقد سمع الحديث بالديار المصرية، ثم أقام بمكة ثم رحل إلى اليمن ثم دخل الشام، وهو في غضون ذلك يبايع من انقاد له، ممن يرى عنده همة ونهضة للقيام في نصرة ولد هشام، ثم إنه أقام ببعض بلاد مصر في محلة من محال العرب، يعلم الصبيان ويظهر التقشف والعبادة والورع، ويخبر بشيء من المغيبات، حتى خضعوا له وعظموه جدا.

ثم دعا إلى نفسه وذكر لهم أنه الذي يدعى إليه من الأمويين، فاستجابوا له وخاطبوه بأمير المؤمنين، ولقب بالثائر بأمر الله المنتصر من أعداء الله، ودخل برقة في جحفل عظيم، فجمع له أهلها نحوا من مائتي ألف دينار، وأخذ رجلا من اليهود اتهم بشيء من الودائع فأخذ منه مائتي ألف دينار أيضا، ونقشوا الدراهم والدنانير بألقابه، وخطب بالناس يوم الجمعة ولعن الحاكم في خطبته ونعما فعل، فالتف على أبي ركوة من الجنود نحو من ستة عشر ألفا.

فلما بلغ الحاكم أمره وما آل إليه حاله بعث بخمسمائة ألف دينار وخمسة آلاف ثوب إلى مقدم جيوش أبي ركوة وهو الفضل بن عبد الله يستميله إليه ويثنيه عن أبي ركوة، فحين وصلت الأموال إليه رجع عن أبي ركوة وقال له: إنا لا طاقة لنا بالحاكم، وما دمت بين أظهرنا فنحن مطلوبون بسببك، فاختر لنفسك بلدا تكون فيها.

فسأل أن يبعثوا معه فارسين يوصلانه إلى النوبة فإن بينه وبين ملكها مودة وصحبة، فأرسله، ثم بعث وراءه من رده إلى الحاكم بمصر، فلما وصل إليه أركبه جملا وشهّره ثم قتله في اليوم الثاني، ثم أكرم الحاكم الفضل وأقطعه أقطاعا كثيرة.

واتفق مرض الفضل فعاده الحاكم مرتين، فلما عوفي قتله وألحقه بصاحبه، وهذه مكافأة التمساح.

وفي رمضان منها عزل قرواش عما كان بيده ووليه أبو الحسن علي بن يزيد، ولقب بسند الدولة.

وفيها: هزم يمين الدولة محمود بن سبكتكين ملك الترك عن بلاد خراسان، وقتل من الأتراك خلقا كثيرا.

وفيها: قتل أبو العباس بن واصل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة فطيف به بخراسان وفارس.

وفيها: ثارت على الحجيج وهم بالطريق ريح سوداء مظلمة جدا، واعترضهم ابن الجراح أمير الأعراب فاعتاقهم عن الذهاب ففاتهم الحج فرجعوا إلى بلادهم فدخلوها في يوم التروية.

وكانت الخطبة بالحرمين للمصريين.

وفيها توفي من الأعيان:

عبد الصمد بن عمر بن إسحاق

أبو القاسم الدينوري الواعظ الزاهد، قرأ القرآن ودرس على مذهب الشافعي على أبي سعيد الاصطخري، وسمع الحديث من النجاد، وروى عنه الصيمري، وكان ثقة صالحا، يضرب به المثل في مجاهدة النفس، واستعمال الصدق المحض، والتعفف والتفقه والتقشف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن وعظه ووقعه في القلوب، جاءه يوما رجل بمائة دينار فقال: أنا غني عنها.

قال: خذها ففرقها على أصحابك هؤلاء.

فقال: ضعها على الأرض.

فوضعها ثم قال للجماعة: ليأخذ كل واحد منكم حاجته منها، فجعلوا يأخذون بقدر حاجاتهم حتى أنفذوها، وجاء ولده بعد ذلك فشكى إليه حاجتهم فقال: اذهب إلى البقال فخذ على ربع رطل تمر.

ورآه رجل وقد اشترى دجاجة وحلواء فتعجب من ذلك فاتبعه إلى دار فيها امرأة ولها أيتام فدفعها إليهم، وقد كان يدق السعد للعطارين بالأجرة ويقتات منه، ولما حضرته الوفاة جعل يقول: سيدي لهذه الساعة خبأتك.

توفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة منها، وصلى عليه بالجامع المنصوري، ودفن بمقبرة الإمام أحمد.

أبو العباس بن واصل

صاحب سيراف والبصرة وغيرهما، كان أولا يخدم بالكرخ، وكان منصورا له أنه سيملك، كان أصحابه يهزؤون به، فيقول أحدهم: إذا ملكت فأي شيء تعطيني؟

ويقول الآخر: ولني، ويقول الآخر: استخدمني، ويقول الآخر: اخلع عليّ.

فقدر له أنه تقلبت به الأحوال حتى ملك سيراف والبصرة، وأخذ بلاد البطيحة من مهذب الدولة، وأخرجه منها طريدا، بحيث إنه احتاج في أثناء الطريق إلى أن ركب بقرة.

واستحوذ ابن واصل على ما هناك، وقصد الأهواز وهزم بهاء الدولة، ثم ظفر به بهاء الدولة فقتله في شعبان منها، وطيف برأسه في البلاد.

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة

فيها: غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند، ففتح حصونا كثيرة، وأخذ أموالا جزيلة وجواهر نفيسة، وكان في جملة ما وجد بيت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه خمسة عشر ذراعا مملوءا فضة، ولما رجع إلى غزنة بسط هذه الأموال كلها في صحن داره وأذن لرسل الملك فدخلوا عليه فرأوا ما بهرهم وهالهم.

وفي يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الآخر وقع ببغداد ثلج عظيم، بحيث بقي على وجه الأرض ذراعا ونصفا، ومكث أسبوعا لم يذب، وبلغ سقوطه إلى تكريت والكوفة وعبادان والنهروان.

وفي هذا الشهر كثرت العملات جهرة وجفية، حتى من المساجد والمشاهد، ثم ظفر أصحاب الشرطة بكثير منهم فقطعوا أيديهم وكحلوهم.

قصة مصحف ابن مسعود وتحريقه

على فتيا الشيخ أبي حامد الأسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في (منتظمه):

وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة، سببها أن بعض الهاشميين قصد أبا عبد الله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم - وكان فقيه الشيعة - في مسجده بدرب رباح، فعرض له بالسب فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الأسفراييني، وجرت فتنة عظيمة طويلة، وأحضرت الشيعة مصحفا ذكروا أنه مصحف عبد الله بن مسعود، وهو مخالف للمصاحف كلها.

فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء في يوم جمعة لليلة بقيت من رجب، وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو حامد الأسفراييني والفقهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، فغضب الشيعة من ذلك غضبا شديدا، وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على من فعل ذلك ويسبونه، وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا: يا حاكم يا منصور.

وبلغ ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة، فحرقت دور كثيرة من دور الشيعة وجرت خطوب شديدة، وبعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم فقيه الشيعة، فأخرج منها ثم شفع فيه، ومنعت القصاص من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين، وعلي رضي الله عنهم، وعاذ الشيخ أبو حامد إلى داره على عادته.

وفي شعبان منها زلزلت الدينور زلزالا شديدا، وسقطت منها دور كثيرة، وهلك للناس شيء كثير من الأثاث والأمتعة، وهبت ريح سوداء بدقوقي وتكريت وشيراز، فأتلفت كثيرا من المنازل والنخيل والزيتون، وقتلت خلقا كثيرا، وسقط بعض شيراز، ووقعت رجفة بشيراز غرق بسببها مراكب كثيرة في البحر.

ووقع بواسط برد زنة الواحدة مائة درهم وستة دراهم، ووقع ببغداد في رمضان - وذلك في أيار - مطر عظيم سالت منه المزاريب.

تخريب قمامة في هذه السنة

وفيها: أمر الحاكم بتخريب قُمامة وهي كنيسة النصارى ببيت المقدس، وأباح للعامة ما فيها من الأموال والأمتعة وغير ذلك، وكان سبب ذلك البهتان الذي يتعاطاه النصارى في يوم الفصح من النار التي يحتالون بها، وهي التي يوهمون جهلتهم أنها نزلت من السماء، وإنما هي مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الإبريسم، والرقاع المدهونة بالكبريت وغيره، بالصنعة اللطيفة التي تروج على الطغام منهم والعوام، وهم إلى الآن يستعملونها في ذلك المكان بعينه.

وكذلك هدم في هذه السنة عدة كنائس ببلاد مصر، ونودي في النصارى: من أحب الدخول في دين الإسلام دخل ومن لا يدخل فليرجع إلى بلاد الروم آمنا، ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما شرط عليهم من الشروط التي زادها الحاكم على العمرية، من تعليق الصلبان على صدورهم، وأن يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال، وعلى اليهود تعليق رأس العجل زنته ستة أرطال.

وفي الحمام يكون في عنق الواحد منهم قربة زنة خمس أرطال، بأجراس، وأن لا يركبوا خيلا.

ثم بعد هذا كله أمر بإعادة بناء الكنائس التي هدمها وأذن لمن أسلم منهم في الارتداد إلى دينه.

وقال: ننزه مساجدنا أن يدخلها من لا نية له، ولا يعرف باطنه، قبحه الله.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو محمد الباجي

سبق ذكره، اسمه عبد الله بن محمد الباجي البخاري الخوارزمي، أحد أئمة الشافعية، تفقه على أبي القاسم الداركي ودرس مكانه، وله معرفة جيدة بالأدب والفصاحة والشعر، جاء مرة ليزور بعض أصحابه فلم يجده في المنزل فكتب هذه الأبيات:

قد حضرنا وليس نقضي التلاقي ** نسأل الله خير هذا الفراق

إن تغب لم أغب وإن لم تغب ** غبت كأن افتراقنا باتفاق

توفي في محرم هذه السنة، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية.

عبد الله بن أحمد ابن علي بن الحسين

أبو القاسم المعروف بالصيدلاني، وهو آخر من حدث عن ابن صاعد من الثقات، وروى عنه الأزهري، وكان ثقة مأمونا صالحا.

توفي في رجب من هذه السنة وقد جاوز التسعين.

الببغاء الشاعر عبد الواحد بن نصر بن محمد

أبو الفرج المخزومي، الملقب بالببغاء، توفي في شعبان من هذه السنة، وكان أديبا فاضلا مترسلا شاعرا مطبقا، فمن ذلك قوله:

يا من تشابه منه الخلْقُ والخُلُق ** فما تسافر إلا نحوه الحدق

فورد دمعي من خديك مختلس ** وسقم جسمي من جفنيك مسترق

لم يبق لي رمق أشكو هواك به ** وإنما يتشكى من به رمق

محمد بن يحيى أبو عبد الله الجرجاني

أحد العلماء الزهاد العباد، المناظرين لأبي بكر الرازي، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وقد فلج في آخر عمره، وحين مات دفن مع أبي حنيفة.

بديع الزمان صاحب المقامات

أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد.

أبو الفضل الهمذاني، الحافظ المعروف ببديانه. (الرسائل الرائقة)، و(المقامات الفائقة)، وعلى منواله نسج الحريري، واقتفى أثره وشكر تقدمه، واعترف بفضله، وقد كان أخذ اللغة عن ابن فارس، ثم برز، وكان أحد الفضلاء الفصحاء، ويقال: أنه سم وأخذ ه سكتة، فدفن سريعا.

ثم عاش في قبره وسمعوا صراخه فنبشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخذ على لحيته من هول القبر، وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة منها، رحمه الله تعالى.

ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة

فيها: قتل علي بن ثمال نائب الرحبة من طرف الحاكم العبيدي، قتله عيسى بن خلاط العقيلي، وملكها، فأخرجه منها عباس بن مرداس صاحب حلب وملكها.

وفيها: صرف عمرو بن عبد الواحد عن قضاء البصرة ووليه أبو الحسن بن أبي الشوارب، فذهب الناس يهنون هذا ويعزون هذا، فقال في ذلك العصفري:

عندي حديث ظريف ** بمثله يُتغنى

من قاضيين يعزى ** هذا وهذا يُهنّا

فذا يقول أكرهوني ** وذا يقول استرحنا

ويكذبان جميعا ** ومن يصدّق منا؟

وفي شعبان من هذه السنة عصفت ريح شديدة فألقت وحلا أحمر في طرقات بغداد.

وفيها: هبت على الحجاج ريح سوداء مظلمة واعترضهم الأعراب فصدوهم عن السبيل، واعتاقوهم حتى فاتهم الحج فرجعوا، وأخذت بنو هلال طائفة من حجاج البصرة نحوا من ستمائة واحد، وأخذوا منهم نحوا من ألف ألف دينار، وكانت الخطبة فيها للمصريين.

وممن توفي فيها من الأعيان:

عبد الله بن بكر بن محمد بن الحسين

أبو أحمد الطبراني، سمع بمكة وبغداد وغيرهما من البلاد، وكان مكرما، سمع منه الدارقطني وعبد الغني بن سعيد، ثم أقام بالشام بالقرب من جبل عند بانياس يعبد الله تعالى إلى أن مات في ربيع الأول منها.

محمد بن علي بن الحسين أبو مسلم كاتب الوزير بن خنزابة

روى عن البغوي وابن صاعد وابن دريد وابن أبي داود وابن عرفة وابن مجاهد وغيرهم، وكان آخر من بقي من أصحاب البغوي، وكان من أهل العلم والحديث والمعرفة والفهم، وقد تكلم بعضهم في روايته عن البغوي لأن أصله كان غالبا مفسودا.

وذكر الصوري أنه خلط في آخر عمره.

أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الواحد

بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، صاحب كتاب (الزيج الحاكمي) في أربع مجلدات، كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ، وفد وضع لمصر تاريخا نافعا يرجع العلماء إليه فيه، وأما هذا فإنه اشتغل في علم النجوم فنال من شأنه منالا جيدا، وكان شديد الاعتناء بعلم الرصد وكان مع هذا مغفلا سيء الحال، رث الثياب، طويلا يتعمم على طرطور طويل، ويتطيلس فوقه، ويركب حمارا، فمن رآه ضحك منه، وكان يدخل على الحاكم فيكرمه ويذكر من تغفله ما يدل على اعتنائه بأمر نفسه، وكان شاهدا معدلا، وله شعر جيد، فمنه ما ذكره ابن خلكان:

أحمل نشر الريح عد هبوبه ** رسالة مشتاق إلى حبيبه

بنفسي من تحيا النفوس بريقه ** ومن طابت الدنيا به وبطيبه

يجدد وجدي طائف منه في الكرا ** سرى موهنا في جفنه من رقيبه

لعمري لقد عطلت كأسي بعده ** وغيبتها عني لطول مغيبه

تمني أم أمير المؤمنين القادر بالله

مولاة عبد الواحد بن المقتدر كانت من العابدات الصالحات، ومن أهل الفضل والدين، توفيت ليلة الخميس الثاني والعشرين من شعبان منها، وصلى عليها ابنها القادر، وحملت بعد العشاء إلى الرصافة.

ثم دخلت سنة أربعمائة من الهجرة

في ربيع الآخر منها نقصت دجلة نقصا كثيرا، حتى ظهرت جزائر لم تغرق، وامتنع سير السفن في أعاليها من أذنة والراشدية، فأمر بكرى تلك الأماكن.

وفيها: كمل السور على مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام، الذي بناه أبو إسحاق الأرجاني، وذلك أن أبا محمد بن سهلان مرض فنذر إن عوفي ليبنينه فعوفي.

وفي رمضان أرجف الناس بالخليفة القادر بالله بأنه مات فجلس للناس يوم جمعة بعد الصلاة وعليه البردة وبيده القضيب، وجاء الشيخ أبو حامد الأسفراييني فقبل الأرض بين يديه وقرأ: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } الآيات [الأحزاب: 60] .

فتباكى الناس ودعوا وانصرفوا وهم فراحا.

وفيها: ورد الخبر بأن الحاكم أنفذ إلى دار جعفر بن محمد الصادق بالمدينة فأخذ منها مصحفا وآلات كانت بها، وهذه الدار لم تفتح بعد موت صاحبها إلى هذا الآن، وكان مع المصحف قعب خشب مطوق بحديد ودرقة خيزران وحربة وسرير، حمل ذلك كله جماعة من العلويين إلى الديار المصرية، فأطلق لهم الحاكم أنعاما كثيرة ونفقات زائدة، وردّ السرير وأخذ الباقي، وقال: أنا أحق به.

فردوا وهم ذامون له داعون عليه.

وبنى الحاكم فيها دارا للعلم وأجلس فيها الفقهاء، ثم بعد ثلاث سنين هدمها وقتل خلقا كثيرا ممن كان فيها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير.

وفيها: عمر الجامع المنسوب إليه وهو جامع الحاكم، وتأنق في بنائه.

وفي ذي الحجة منها أعيد المؤيد هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الأموي إلى ملكه بعد خلعه وحبسه مدة طويلة، وكانت الخطبة بالحرمين للحاكم صاحب مصر والشام.

وممن توفي فيها من الأعيان:

أبو أحمد الموسوي النقيب

الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن حعفر الموسوي، والد الرضي والمرتضى، ولي نقابة الطالبيين مرات نحوا من خمس مرات، يعزل ويعاد، ثم أخر في آخر عمره، وتوفي عن سبع وتسعين سنة، وصلى عليه ابنه المرتضى، ودفن في مشهد الحسين.

وقد رثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة قوية المنزع والمطلع فمنها:

سلام الله تنقله الليالي ** وتهديه الغدو إلى الرواح

على جدث حسيب من لؤي ** لينبوع العبادة والصلاح

فتى لم يروَ إلا من حلال ** ولم يك زاده إلا المباح

ولا دنست له أزر لزور ** ولا علقت له راح براح

خفيف الظهر من ثقل الخطايا ** وعريان الجوارح من جناج

مشوق في الأمور إلى أعلاها ** ومدلول على باب النجاح

من القوم الذين لهم قلوب ** بذكر الله عامرة النواحي

بأجسام من التقوى مراض ** لنصرتها وأديان صحاح

الحجاج بن هرمز أبو جعفر

نائب بهاء الدولة على العراق، وكان تليده لقتال الأعراب والأكراد، وكان من المقدمين في أيام عضد الدولة، وكانت له خبرة تامة بالحرب، وحزمة شديدة، وشجاعة تامة وافرة، وهمة عالية وآراء سديدة.

ولما خرج من بغداد في سنة ثنتين وسبعين وثلاثمائة كثرت بها الفتن.

توفي بالأهواز عن مائة سنة وخمس سنين، رحمه الله.

أبو عبد الله القمي المصري التاجر

كان ذا مال جزيل جدا، اشتملت تركته على أزيد من ألف ألف دينار، من سائر أنواع المال.

توفي بأرض الحجاز ودفن بالمدينة النبوية عند قبر الحسن بن علي، رضي الله عنهم.

أبو الحسن بن الرفا المقري

تقدم ذكره وقراءته على كبير الأعراب في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وأحلاهم أداء، رحمه الله.

ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة

في يوم الجمعة الرابع من المحرم منها خطب بالموصل للحاكم العبيدي عن أمر صاحبها قرواش بن مقلد أبي منيع، وذلك لقهره رعيته، وقد سرد ابن الجوزي صفة الخطبة بحروفها.

وفي آخر الخطبة صلوا على آبائه المهدي ثم ابنه القائم ثم المنصور، ثم ابنه المعز، ثم ابنه العزيز، ثم ابنه الحاكم صاحب الوقت، وبالغوا في الدعاء لهم، ولا سيما للحاكم، وكذلك تبعته أعمالها من الأنبار والمدائن وغيرها.

وكان سبب ذلك أن الحاكم ترددت مكاتباته ورسله وهداياه إلى قرواش يستميله إليه، وليقبل بوجهه عليه، حتى فعل ما فعل من الخطبة وغيرها، فلما بلغ الخبر القادر بالله العباسي كتب يعاتب قرواش على ما صنع، ونفذ بهاء الدولة إلى عميد الجيوش بمائة ألف دينار لمحاربة قرواش.

فلما بلغ قرواشا رجع عن رأيه وندم على ما كان منه، وأمر بقطع الخطبة للحاكم من بلاده، وخطب للقادر على عادته.

قال ابن الجوزي: ولخمس بقين من رجب زادت دجلة زيادة كثيرة، واستمرت الزيادة إلى رمضان، وبلغت أحدا وعشرين ذراعا وثلثا، ودخل إلى أكثر دور بغداد.

وفيها: رجع الوزير أبو خلف إلى بغداد ولقب فخر الملك بعميد الجيوش.

وفيها: عصى أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي ودعا إلى نفسه، وتلقب بالراشد بالله.

ولم يحج فيها أحد من أهل العراق، والخطبة للحاكم.

وممن توفي فيها من الأعيان: أبو مسعود صاحب (الأطراف).

إبراهيم بن محمد بن عبيد

أبو مسعود الدمشقي الحافظ الكبير، مصنف كتاب (الأطراف على الصحيحين)، رحل إلى بلاد شتى كبغداد والبصرة والكوفة وواسط وأصبهان وخراسان، وكان من الحفاظ الصادقين، والأمناء الضابطين، ولم يرو إلا اليسير، روى عنه أبو القاسم وأبو ذر الهروي، وحمزة السهمي وغيرهم.

توفي ببغداد في رجب، وأوصى إلى أبي حامد الأسفراييني فصلى عليه، ودفن في مقبرة جامع المنصور قريبا من السكك.

وقد ترجمه ابن عساكر وأثنى عليه.

عميد الجيوش الوزير

الحسن بن أبي جعفر أستاذ هرمز، ولد سنة خمسين وثلاثمائة، وكان أبوه من حجاب عضد الدولة، وولاه بهاء الدولة وزارته سنة ثنتين وتسعين، والشرور كثيرة منتشرة، فمهد البلاد وأخاف العيارين واستقامت به الأمور، وأمر بعض غلمانه أن يحمل صينية فيها دراهم مكشوفة من أول بغداد إلى آخرها، وأن يدخل بها في جميع الأزقة، فإن اعترضه أحد فليدفعها إليه وليعرف ذلك المكان.

فذهب الغلام فلم يعترضه أحد، فحمد الله وأثنى عليه، ومنع الروافض النياحة في يوم عاشوراء، وما يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر ذي الحجة الذي يقال له: عيد غدير خم، وكان عادلا منصفا.

خلف الواسطي صاحب الأطراف

أيضا، خلف بن محمد بن علي بن حمدون، أبو محمد الواسطي، رحل إلى البلاد وسمع الكثير ثم عاد إلى بغداد، ثم رحل إلى الشام ومصر، وكتب الناس عنه بانتخابه، وصنف أطرافا على الصحيحين، وكانت له معرفة تامة، وحفظ جيد، ثم عاد إلى بغداد واشتغل بالتجارة وترك النظر في العلم حتى توفي في هذه السنة، سامحه الله.

روى عنه الأزهري.

أبو عبيد الهروي صاحب الغريبين

أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي أبو عبيد الهروي اللغوي البارع، كان من علماء الناس في الأدب واللغة، وكتابه (الغريبين) في معرفة القرآن والحديث، يدل على اطلاعه وتبحره في هذا الشأن، وكان من تلامذة أبي منصور الأزهري.

قال ابن خلكان: وقيل: كان يحب التنزه ويتناول في خلوته ما لا يجوز، ويعاشر أهل الأدب في مجلس اللذة والطرب، والله أعلم، سامحه الله.

قال: وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة، وذكر ابن خلكان: أن في السنة أو التي قبلها كانت وفاة البستي الشاعر وهو:

علي بن محمد بن الحسين بن يوسف الكاتب

صاحب (الطريقة الأنيقة والتجنيس الأنيس)، البديع التأسيس، والحذاقة والنظم والنثر، وقد ذكرناه، ومما أورد له ابن خلكان قوله: من أصلح فاسده أرغم حاسده، ومن أطاع غضبه أضاع أدبه.

من سعادة جدك وقوفك عند حدك.

المنية تضحك من الأمنية.

الرشوة رشا الحاجات، حد العفاف الرضى بالكفاف.

ومن شعره:

إن هز أقلامه يوما ليعملها ** أنساك كل كميٍ هز عامله

وإن أمر على رق أنامله ** أقر بالرق كتاب الأنام له

وله:

إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم ** بما تحدث من ماض ومن آت

فلا تعد لحديث إن طبعهم ** موكل بمعاداة المعادات

ثم دخلت سنة ثنتين وأربعمائة

في المحرم منها أذن فخر الملك الوزير للروافض أن يعملوا بدعتهم الشنعاء، والفضيحة الصلعاء، من الانتحاب والنوح والبكاء، وتعليق المسوح، وأن تغلق الأسواق من الصباح إلى المساء، وأن تدور النساء حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن، يلطمن خدودهن، كفعل الجاهلية الجهلاء، على الحسين بن علي، فلا جزاه الله خيرا، وسود الله وجهه يوم الجزاء، إنه سميع الدعاء.

وفي ربيع الآخر أمر القادر بعمارة مسجد الكف بقطيعة الدقيق، وأن يعاد إلى أحسن ما كان، ففعل ذلك وزخرف زخرفة عظيمة جدا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الطعن من أئمة بغداد وعلمائهم في نسب الفاطميين

وفي ربيع الآخر منها كتب هؤلاء ببغداد محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك، وإنما نسبهم إلى عبيد بن سعد الجرمي، وكتب في ذلك جماعة من العلماء والقضاة والأشراف والعدول، والصالحين والفقهاء، والمحدثين، وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر هو منصور بن نزار الملقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار، ابن معد بن إسماعيل بن عبد الله بن سعيد، لا أسعده الله، فإنه لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أحدا من أهل بيوتات علي بن أبي طالب توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة.

وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعا في الحرمين، وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يدلس أمرهم على أحد، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه، وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية.

وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة، وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير، فمن العلويين: المرتضى والرضي، وابن الأزرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطيب، ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلى.

ومن القضاة: أبو محمد بن الأكفاني، وأبو القاسم الجزري، وأبو العباس بن الشيوري.

ومن الفقهاء: أبو حامد الأسفراييني، وأبو محمد بن الكسفلي، وأبو الحسن القدوري، وأبو عبد الله الصيمري، وأبو عبد الله البيضاوي، وأبو علي بن حمكان.

ومن الشهود: أبو القاسم التنوخي في كثير منهم، وكتب فيه خلق كثير.

هذه عبارة أبي الفرج ابن الجوزي.

قلت: ومما يدل على أن هؤلاء أدعياء كذبة، كما ذكر هؤلاء السادة العلماء، والأئمة الفضلاء، وأنهم لا نسب لهم إلى علي بن أبي طالب، ولا إلى فاطمة كما يزعمون، قول ابن عمر للحسين بن علي حين أراد الذهاب إلي العراق، وذلك حين كتب عوام أهل الكوفة بالبيعة إليه فقال له ابن عمر: لا تذهب إليهم فإني أخاف عليك أن تقتل، وإن جدك قد خُيّر بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة على الدنيا، وأنت بضعة منه، وإنه والله لا تنالها لا أنت ولا أحد من خلفك ولا من أهل بيتك.

فهذا الكلام الحسن الصحيح المتوجه المعقول، من هذا الصحابي الجليل، يقتضي أنه لا يلي الخلافة أحد من أهل البيت إلا محمد بن عبد الله المهدي الذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم، رغبة بهم عن الدنيا، وأن لا يدنسوا بها.

ومعلوم أن هؤلاء قد ملكوا ديار مصر مدة طويلة، فدل ذلك دلالة قوية ظاهرة على أنهم ليسوا من أهل البيت، كما نص عليه سادة الفقهاء.

وقد صنف القاضي الباقلاني كتابا في الرد على هؤلاء وسماه (كشف الأسرار وهتك الأستار) بيّن فيه فضائحهم وقبائحهم، ووضح أمرهم لكل أحد، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوي أفعالهم وأقوالهم، وقد كان الباقلاني يقول في عبارته عنهم: هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، والله سبحانه أعلم.

وفي رجب وشعبان ورمضان أجرى الوزير فخر الملك صدقات كثيرة على الفقراء والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمساجد وغير ذلك، وزار بنفسه المساجد والمشاهد، وأخرج خلقا من المحبوسين وأظهر نسكا كثيرا، وعمر دارا عظيمة عند سوق الدقيق.

وفي شوال عصفت ريح شديدة فقصفت كثيرا من النخل وغيره، أكثر من عشرة آلاف نخلة، وورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بأنه ركب بجيشه إلى أرض العدو فجازوا بمفازة فأعوزهم الماء حتى كادوا يهلكون عن آخرهم عطشا، فبعث الله لهم سحابة فأمطرت عليهم حتى شربوا وسقوا واستقوا، ثم تواقفوا هم وعدوهم، ومع عدوهم نحو من ستمائة فيل، فهزموا العدو وغنموا شيئا كثيرا من الأموال، ولله الحمد.

وفيها: عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يوم غديرخم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وزينت الحوانيت وتمكنوا بسبب الوزير وكثير من الأتراك تمكنا كثيرا.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن الحسن بن علي بن العباس ابن نوبخت

أبو محمد النوبختي، ولد سنة عشرين وثلاثمائة، وروى عن المحاملي وغيره، وعنه البرقاني، وقال: كان شيعيا معتزليا، إلا أنه تبين لي أنه كان صدوقا، وروى عنه الأزهري وقال: كان رافضيا، رديء المذهب.

وقال العقيقي: كان فقيرا في الحديث، ويذهب إلى الاعتزال والله أعلم.

عثمان بن عيسى أبو عمرو الباقلاني

أحد الزهاد الكبار المشهورين، كان له نخلات يأكل منها ويعمل بيده في البواري، ويأكل من ذلك، وكان في غاية الزهادة والعبادة الكثيرة، وكان لا يخرج من مسجده إلا من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، لأجل صلاة الجمعة ثم يعود إلى مسجده، وكان لا يجد شيئا يشعله في مسجده، فسأله بعض الأمراء أن يقبل شيئا ولو زيتا يشعله في قناديل مسجده، فأبى الشيخ ذلك.

ولهذا وأمثاله لما مات رأى بعضهم بعض الأموات من جيرانه في القبور فسأله عن جواره فقال: وأين هو، لما مات ووضع في قيره سمعنا قائلا يقول: إلى الفروس الأعلى، إلى الفروس الأعلى.

أو كما قال: توفي في رجب منها عن ستة وثمانين سنة.

محمد بن جعفر بن محمد ابن هارون بن فروة بن ناجية

أبو الحسن النحوي، المعروف بابن النجار التميمي الكوفي، قدم بغداد وروى عن ابن دريد والصولي ونفطويه وغيرهم، توفي في جمادى الأولى منها عن سبع وسبعين سنة.

أبو الطيب سهل بن محمد

الصعلوكي النيسابوري، قال أبو يعلى الخليلي: توفي فيها، وقد ترجمناه في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.

ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة

في سادس عشر محرمها قلد الشريف الرضي أبو الحسن الموسوي نقابة الطالبيين في سائر الممالك، وقرئ تقليده في دار الوزير فخر الملك، بمحضر الأعيان، وخلع عليه السواد، وهو أول طالبي خلع عليه السواد.

وفيها: جيء بأمير بني خفاجة أبو قلنبة قبحه الله وجماعة من رؤوس قومه أسارى، وكانوا قد اعترضوا للحجاج في السنة التي قبلها وهم راجعون، وغوروا المناهل التي يردها الحجاج، ووضعوا فيها الحنظل بحيث إنه مات من الحجاج من العطش نحو من خمسة عشر ألفا، وأخذوا بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم في أسوأ حال، وأخذوا جميع ما كان معهم.

فحين حضروا عند دار الوزير سجنهم ومنعهم الماء، ثم صلبهم يرون صفاء الماء ولا يقدون على شيء منه، حتى ماتوا عطشا جزاء وفاقا، وقد أحسن في هذا الصنع اقتداء بحديث أنس في الصحيحين.

ثم بعث إلى أولئك الذين اعتقلوا في بلاد بني خفاجة من الحجاج فجيء بهم، وقد تزوجت نساؤهم وقسمت أموالهم، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم.

قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها انقض كوكب من المشرق إلى المغرب عليه ضوء على ضوء القمر، وتقطع قطعا وبقي ساعة طويلة.

قال: وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤوساء النصارى، فخرجت النوائح والصلبان معها جهارا، فأنكر ذلك بعض الهاشميين فضربه بعض غلمان ذلك الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه، فثار المسلمون بهم فانهزموا حتى لجأوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها، وما قرب منها من دور النصارى، وتتبعوا النصارى في البلد، وقصدوا الناصح وابن أبي إسرائيل فقاتلهم غلمانهم، وانتشرت الفتنة ببغداد، ورفع المسلمون المصاحف في الأسواق، وعطلت الجمع في بعض الأيام، واستعانوا بالخليفة فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل فامتنع، فعزم الخليفة على الخروج من بغداد، وقويت الفتنة جدا ونهبت دور كثير من النصارى، ثم أحضر ابن أبي إسرائيل فبذل أموالا جزيلة، فعفى عنه وسكنت الفتنة.

وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود إلى الخليفة يذكر أنه ورد إليه رسول من الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يدعوه إلى طاعته، فبصق فيه وأمر بتحريقه، وأسمع رسوله غليظ ما يقال.

وفيها: قلد أبو نصر بن مروان الكردي آمد وميافارقين وديار بكر، وخلع عليه طوق وسواران، ولقب بناصر الدولة، ولم يتمكن ركب العراق وخراسان من الذهاب إلى الحج لفساد الطريق، وغيبة فخر الملك في إصلاح الأراضي.

وفيها: عادت مملكة الأمويين ببلاد الأندلس فتولى فيها سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، ولقب بالمستعين بالله، وبايعه الناس بقرطبة.

وفيها: مات بهاء الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد وغيرها، وقام بالأمر من بعده ولده سلطان الدولة أبو شجاع.

وفيها: مات ملك الترك الأعظم واسمه إيلك الخان، وتولى مكانه أخوه طغان خان.

وفيها: هلك شمس المعالي قابوس بن وشمكير، أدخل بيتا باردا في الشتاء وليس عليه ثياب حتى مات كذلك، وولي الأمر من بعده منوجهر، ولقب فلك المعالي، وخطب لمحمود بن سبكتكين، وقد كان شمس المعالي قابوس عالما فاضلا أديبا شاعرا، فمن شعره قوله:

قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ** هل عاند الدهر إلا من له خطر

أما ترى البحر يطفو فوقه جيف ** ويستقر بأقصى قعره الدرر

فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا ** ومسنا من توالي صرفها ضرر

ففي السماء نجوم غير ذي عدد ** وليس يكسف إلا الشمس والقمر

ومن مستجاد شعره قوله:

خطرات ذكرك تستثير مودتي ** فأحس منها في الفؤاد دبيبا

لا عضو لي إلا وفيه صبابة ** وكأن أعضائي خلقن قلوبا

وفيها توفي من الأعيان:

أحمد بن علي أبو الحسن الليثي

كان يكتب للقادر وهو بالبطيحة، ثم كتب له على ديوان الخراج والبريد، وكان يحفظ القرآن حفظا حسنا، مليح الصوت والتلاوة، حسن المجالسة، ظريف المعاني، كثير الضحك والمجانة.

خرج في بعض الأيام هو والشريفان الرضي والمرتضى وجماعة من الأكابر لتلقي بعض الملوك، فخرج بعض اللصوص فجعلوا يرمونهم بالحرّاقات، ويقولون: يا أزواج القحاب.

فقال الليثي: ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين.

فقالوا: ومن أين علمت هذا؟

فقال: وإلا من أين علموا أنّا أزواج قحاب.

الحسن بن حامد بن علي بن مروان

الورّاق الحنبلي، كان مدرس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه، وله المصنفات المشهورة، منها كتاب (الجامع في اختلاف العلماء) في أربعمائة جزء، وله في أصول الفقه والدين، وعليه اشتغل أبو يعلى بن الفراء، وكان معظما في النفوس، مقدما عند السلطان، وكان لا يأكل إلا من كسب يديه من النسج، وروى الحديث عن أبي بكر الشافعي، وابن مالك القطيعي، وغيرهما.

وخرج في هذه السنة إلى الحج فلما عطش الناس في الطريق استند هو إلى حجر هناك في الحر الشديد، فجاءه رجل بقليل من ماء فقال له ابن حامد: من أين لك؟

فقال: ما هذا وقت سؤالك اشرب.

فقال: بلى هذا وقته عند لقاء الله عز وجل، فلم يشرب ومات من فوره رحمه الله.

الحسين بن الحسن ابن محمد بن حليم، أبو عبد الله الحليمي

صاحب (المنهاج في أصول الديانة)، كان أحد مشايخ الشافعية، ولد بجرجان وحمل إلى بخارى، وسمع الحديث الكثير حتى انتهت إليه رياسة المحدثين في عصره، وولي القضاء ببخارى.

قال ابن خلكان: انتهت إليه الرياسة فيما وراء النهر، وله وجوه حسنة في المذهب، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله.

فيروز أبو نصر

الملقب ببهاء الدولة بن عضد الدولة الديلمي، صاحب بغداد وغيرها، وهو الذي قبض على الطائع وولى القادر، وكان يحب المصادرات فجمع من الأموال ما لم يجمعه أحد قبله من بني بويه، وكان بخيلا جدا.

توفي بأرجان في جمادى الآخرة منها عن ثنتين وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وكان مرضه بالصرع، ودفن بالمشهد إلى جانب أبيه.

قابوس بن وشمكير

كان أهل دولته قد تغيروا عليه فبايعوا ابنه منوجهر وقتلوه كما ذكرنا، وكان قد نظر في النجوم فرأى أن ولده يقتله، وكان يتوهم أنه ولده دارا، لما يرى من مخالفته له، ولا يخطر بباله منوجهر لما يرى من طاعته له، فكان هلاكه على يد منوجهر، وقد قدمنا شيئا من شعره في الحوادث.

القاضي أبو بكر الباقلاني

محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني رأس المتكلمين على مذهب الشافعي، وهو من أكثر الناس كلاما وتصنيفا في الكلام، يقال: إنه كان لا ينام كل ليلة حتى يكتب عشرين ورقة من مدة طويلة من عمره، فانتشرت عنه تصانيف كثيرة، منها (التبصرة)، و(دقائق الحقائق)، و(التمهيد في أصول الفقه)، و(شرح الإبانة)، وغير ذلك من المجاميع الكبار والصغار، ومن أحسنها كتابه في الرد على الباطنية، الذي سماه: (كشف الأسرار وهتك الأستار).

وقد اختلفوا في مذهبه في الفروع، فقيل: شافعي، وقيل: مالكي، حكى ذلك عنه أبو ذر الهروي، وقيل: إنه كان يكتب على الفتاوى: كتبه محمد بن الطيب الحنبلي، وهذا غريب جدا.

وقد كان في غاية الذكاء والفطنة، ذكر الخطيب وغيره عنه أن عضد الدولة بعثه في رسالة إلى ملك الروم، فلما انتهى إليه إذا هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصير كهيئة الراكع، ففهم الباقلاني أن مراده أن ينحني الداخل عليه له كهيئة الراكع لله عز وجل، فدار إسته إلى الملك ودخل الباب بظهره يمشي إليه القهقرا، فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه، فعرف الملك ذكاءه ومكانه من العلم والفهم، فعظمه.

ويقال: إن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة بالأرغل، ليستفز عقله بها، فلما سمعها الباقلاني خاف على نفسه أن يظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك، فجعل لا يألوا جهدا أن جرح رجله حتى خرج منها الدم الكثير، فاشتغل بالألم عن الطرب، ولم يظهر عليه شيء من النقص والخفة، فعجب الملك من ذلك، ثم إن الملك استكشف الأمر فإذا هو قد جرح نفسه بما أشغله عن الطرب، فتحقق الملك وفور همته وعلو عزيمته، فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى.

وقد سأله بعض الأساقفة بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم؟وما كان من أمرها بما رميت به من الإفك؟

فقال الباقلاني مجيبا له على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء مريم وعائشة، فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج - يعني: أن عائشة أولى بالبراءة من مريم - وكلاهما بريئة مما قيل فيها، فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال ريبة إلى هذه فهو إلى تلك أسرع، وهما بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز وجل، عليهما السلام.

وقد سمع الباقلاني الحديث من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي وغيرهما، وقد قبله الدارقطني يوما وقال: هذا يرد على أهل الأهواء باطلهم، ودعا له.

وكانت وفاته يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة، ودفن بداره ثم نقل إلى مقبرة باب حرب.

محمد بن موسى بن محمد أبو بكر الخوارزمي شيخ الحنفية وفقيههم

أخذ العلم عن أحمد بن علي الرازي، وانتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد، وكان معظما عند الملوك، ومن تلامذة الرضي والصيمري، وقد سمع الحديث من أبي بكر الشافعي وغيره، وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة السلف.

ويقول في الاعتقاد: ديننا دين العجائز، لسنا من الكلام في شيء، وكان فصيحا حسن التدريس، دُعي إلى ولاية القضاء غير مرة فلم يقبل، توفي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة، ودفن بداره من درب عبده.

الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف العامري

القابسي مصنف (التلخيص)، أصله قرويني وإنما غلب عليه القابسي لأن عمه كان يتعمم قابسية، فقيل لهم ذلك.

وقد كان حافظا بارعا في علم الحديث، رجلا صالحا جليل القدر، ولما توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عكف الناس على قبره ليالي يقرؤون القرآن ويدعون له، وجاء الشعراء من كل أوب يرثون ويترحمون، ولما أجلس للمناظرة أنشد لغيره:

لعمر أبيك ما نسب المعلى ** إلى كرم وفي الدنيا كريم

ولكن البلاد إذا اقشعرت ** وصوّح نبتها رعي الهشيم

ثم بكى وأبكى، وجعل يقول: أنا الهشيم أنا الهشيم.

رحمه الله.

الحافظ ابن الفرضي

أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي الفرضي، قاضي بلنسية، سمع الكثير وجمع وصنف التاريخ، وفي المؤتلف والمختلف، ومشتبه النسبة وغير ذلك، وكان علامة زمانه، قتل شهيدا على يد البربر فسمعوه وهو جريح طريح يقرأ على نفسه الحديث الذي في الصحيح: «ما يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي، اللون لون الدم، والريح ريح المسك».

وقد كان سأل الله الشهادة عند أستار الكعبة فأعطاه إياها، ومن شعره قوله:

أسير الخطايا عند بابك واقف ** على وجل مما به أنت عارف

يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيها ** ويرجوك ففيها وهو راج وخائف

ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقي ** ومالك في فصل القضاء مخالف

فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي ** إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ** يصد ذوو القربى ويجفو الموالف

لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ** أرجى لإسرافي فإني تالف

ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة

في يوم الخميس غرة ربيع الأول منها جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة، وأحضر بين يديه سلطان الدولة والحجبة، فخلع عليه سبع خلع على العادة، وعممه بعمامة سوداء، وقلد سيفا وتاجا مرصعا وسوارين وطوقا، وعقد له لواءين بيده، ثم أعطاه سيفا وقال للخادم: قلده به، فهو شرف له ولعقبه، يفتح شرق الأرض وغربها.

وكان ذلك يوما مشهودا، حضره القضاة والأمراء والوزراء.

وفيها: غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند ففتح وقتل وسبى وغنم وسلم، وكتب إلى الخليفة أن يوليه ما بيده من مملكة خراسان وغيرها من البلاد، فأجابه إلى ما سأل.

وفيها: عاثت بنو خفاجة ببلاد الكوفة، فبرز إليهم نائبها أبو الحسن بن مزيد فقتل منهم خلقا وأسر محمد بن يمان وجماعة من رؤوسهم، وانهزم الباقون، فأرسل الله عليهم ريحا حارة فأهلك منهم خمسمائة إنسان.

وحج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي.

وفيها توفي من الأعيان:

الحسن بن أحمد أبو جعفر بن عبد الله المعروف بابن البغدادي

سمع الحديث، وكان زاهدا عابدا كثير المجاهدة، لا ينام إلا عن غلبة، وكان لا يدخل الحمام ولا يغسل ثيابه إلا بماء، وجده الحسن بن عثمان بن علي أبو عبد الله المقري الضرير المجاهدي، قرأ على ابن مجاهد القرآن وهو صغير، وكان آخر من بقي من أصحابه، توفي في جمادى الأولى منها، وقد جاوز المائة سنة، ودفن في مقابر الزرادين.

علي بن سعيد الاصطخري

أحد شيوخ المعتزلة، صنف للقادر بالله (الرد على الباطنية) فأجرى عليه جراية سنية، وكان يسكن درب رباح، توفي في شوال وقد جاوز الثمانين.

ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة

فيها: منع الحاكم صاحب مصر النساء من الخروج من منازلهم، أو أن يطلعن من الأسطحة أو من الطاقات، ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن، ومنعهن من الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وجهز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن، بأسمائهن وأسماء من يتعرض لهن، فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها.

ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلا ونهارا في البلد، في طلب ذلك، وغرق خلقا من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم، فضاق الحال واشتد على النساء، وعلى الفساق ذلك، ولم يتمكن أحد منهن أن يصل إلى أحد إلا نادرا، حتى أن امرأة كانت عاشقة لرجل عشقا قويا كادت أن تهلك بسببه، لما حيل بينها وبينه، فوقفت لقاضي القضاة وهو مالك بن سعد الفارقي وحلفته بحق الحاكم لما وقف لها واستمع كلامها، فرحمها فوقف لها فبكت إليه بكاء شديدا مكرا وحيلة وخداعا، وقالت له: أيها القاضي إن لي أخا ليس لي غيره، وهو في السياق وإني أسألك بحق الحاكم عليك لما أوصلتني إلى منزله، لأنظر إليه قبل أن يفارق الدنيا، وأجرك على الله.

فرق لها القاضي رقة شديدة، وأمر رجلين كانا معه يكونان معها حتى يبلغانها إلى المنزل الذي تريده، فأغلقت بابها وأعطت المفتاح لجارتها، وذهبت معهما حتى وصلت إلى منزل معشوقها، فطرقت الباب ودخلت وقالت لهما: اذهبا هذا منزله فإذا رجل كانت تهواه وتحبه ويهواها ويحبها، فقال لها: كيف قدرت على الوصول إلي؟

فأخبرته بما احتالت به من الحيلة على القاضي، فأعجبه ذلك من مكرها وحيلتها، وجاء زوجها من آخر النهار فوجد بابه مغلقا وليس في بيته أحد، فسأل الجيران عن أمرها فذكرت له جارتها ما صنعت فاستغاث على القاضي وذهب إليه وقال له: ما أريد امرأتي إلا منك الساعة، وإلا عرفت الحاكم، فإن امرأتي ليس لها أخ بالكلية، وإنما ذهبت إلى معشوقها، فخاف القاضي من معرة هذا الأمر، فركب إلى الحاكم وبكى بين يديه، فسأله عن شأنه فأخبره بما اتفق له من الأمر مع المرأة، فأرسل الحاكم مع ذينك الرجلين من يحضر المرأة والرجل جميعا، على أي حال كانا عليه، فوجدهما متعانقين سكارى، فسألهما الحاكم عن أمرهما فأخذا يعتذران بما لا يجدي شيئا، فأمر بتحريق المرأة في بادية وضرب الرجل ضربا مبرحا حتى أتلفه، ثم ازداد احتياطا وشدة على النساء حتى جعلهن في أضيق من جحر ضب، و لا زال هذا دأبه حتى مات.

ذكره ابن الجوزي.

وفي رجب منها ولي أبو الحسن أحمد بن أبي الشوارب قضاء الحضرة بعد موت أبي محمد الأكفاني.

وفيها: عمّر فخر الدولة مسجد الشرقية ونصب عليه الشبابيك من الحديد.

وممن توفي فيها من الأعيان:

بكر بن شاذان بن بكر

أبو القاسم المقري الواعظ، سمع أبا بكر الشافعي، وجعفر الخلدي، وعنه الأزهري والخلال، وكان ثقة أمينا صالحا عابدا زاهدا، له قيام ليل، وكريم أخلاق.

مات فيها عن نيف وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.

بدر بن حسنويه بن الحسين

أبو النجم الكردي، كان من خيار الملوك بناحية الدينور وهمدان، وله سياسة وصدقة كثيرة، كناه القادر بأبي النجم، ولقبه ناصر الدولة، وعقد له لواء وأنفذه إليه، وكانت معاملاته وبلاده في غاية الأمن والطيبة، بحيث إذا أعيى جمل أحد من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه، ولو بعد حين لا ينقص منه شيء.

ولما عاثت أمراؤه في الأرض فسادا عمل لهم ضيافة حسنة، فقدمها إليهم ولم يأتهم بخبز، فجلسوا ينتظرون الخبز، فلما استبطاؤه سألوا عنه فقال لهم: إذا كنتم تهلكون الحرث وتظلمون الزراع، فمن أين تؤتون بخبز؟

ثم قال لهم: لا أسمع بأحد أفسد في الأرض بعد اليوم إلا أرقت دمه.

واجتاز مرة في بعض أسفاره برجل قد حمل حزمة حطب وهو يبكي فقال له: مالك تبكي؟

فقال: إني كان معي رغيفان أريد أن أتقوتهما فأخذهما مني بعض الجند.

فقال له: أتعرفه إذا رأيته؟

قال: نعم.

فوقف به في موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل الذي أخذ رغيفيه، قال: هذا هو، فأمر به أن ينزل عن فرسه وأن يحمل حزمته التي احتطبها حتى يبلغ بها إلى المدينة، فأراد أن يفتدي من ذلك بمال جزيل فلم يقبل منه، حتى تأدب به الجيش كلهم.

وكان يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل، وفي كل شهر عشرين ألف درهم في تكفين الموتى، ويصرف في كل سنة ألف دينار إلى عشرين نفسا يحجون عن والدته، وعن عضد الدولة، لأنه كان السبب في تمليكه، وثلاثة آلاف دينار في كل سنة إلى الحدادين والحذاءين لأجل المنقطعين من همذان وبغداد، يصلحون الأحذية ونعال دوابهم، ويصرف في كل سنة مائة ألف دينار إلى الحرمين صدقة على المجاورين، وعمارة المصانع، وإصلاح المياه في طريق الحجاز، وحفر الآبار وما اجتاز في طريقه وأسفاره بماء إلا بنى عنده قرية، وعمر في أيامه من المساجد والخانات ما ينيف على ألفي مسجد وخان، هذا كله خارجا عما يصرف من ديوانه من الجرايات والنفقات والصدقات، والبر والصلات، على أصناف الناس من الفقهاء والقضاة والمؤذنين والأشراف، والشهود والفقراء، والمساكين والأيتام والأرامل.

وكان مع هذا كثير الصلاة والذكر، وكان له من الدواب المربوطة في سبيل الله وفي الحشر ما ينيف على عشرين ألف دابة.

توفي في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين سنة، ودفن في مشهد علي، وترك من الأموال أربعة عشر ألف بدرة، ونيفا وأربعين بدرة، والبدرة عشرة آلاف، رحمه الله.

الحسن بن الحسين بن حمكان

أبو علي الهمذاني، أحد الفقهاء الشافعية ببغداد، عني أولا بالحديث فسمع منه أبو حامد المروزي، وروى عنه الأزهري وقال: كان ضعيفا ليس بشيء في الحديث.

عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم

أبو محمد الأسدي المعروف بابن الأكفاني، قاضي قضاة بغداد، ولد سنة ست عشرة وثلاثمائة، وروى عن القاضي المحاملي، ومحمد بن خلف، وابن عقدة وغيرهم، وعنه البرقاني والتنوخي، يقال: إنه أنفق على طلب العلم مائة ألف دينار، وكان عفيفا نزها، صين العرض.

توفي في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة، ولى الحكم منها أربعين سنة نيابة واستقلالا، رحمه الله.

عبد الرحمن بن محمد ابن محمد بن عبد الله بن إدريس بن سعد

الحافظ الاستراباذي المعروف بالإدريسي، رحل في طلب العلم والحديث، وعني به وسمع الأصم وغيره، وسكن سمرقند، وصنف لها تاريخا وعرضه على الدارقطني فاستحسنه، وحدث ببغداد فسمع منه الأزهري والتنوخي، وكان ثقة حافظا.

أبو نصر عبد العزيز بن عمر

ابن أحمد بن نباتة الشاعر المشهور، امتدح سيف الدولة بن حمدان، أظنه أخو الخطيب ابن نباتة أو غيره، وهو القائل البيت المطروق المشهور:

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ** تنوعت الأسباب والموت واحد

عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نباتة

أبو نصر السعدي الشاعر، وشعره موقوف ومن شعره قوله:

وإذا عجزت عن العدو فداره ** وامزج له إن المزاج وفاق

كالماء بالنار الذي هو ضدها ** يعطي النضاج وطبعها الإحراق

توفي فيها: عبد الغفار بن عبد الرحمن أبو بكر الدينوري الفقيه السفياني، وهو آخر من كان يفتي بمذهب سفيان الثوري ببغداد، في جامع المنصور، وكان إليه النظر في الجامع والقيام بأمره، توفي فيها ودفن خلف جامع الحاكم.

الحاكم النيسابوري

صاحب (المستدرك) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، بن نعيم بن الحكم، أبو عبد الله الحاكم الضبي الحافظ، ويعرف بابن البيع، من أهل نيسابور، وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وأول سماعه من سنة ثلاثين وثلاثمائة، سمع الكثير وطاف الآفاق، وصنف الكتب الكبار والصغار، فمناه (المستدرك على الصحيحين)، و(علوم الحديث والإكليل)، و(تاريخ نيسابور)، وقد روى عن خلق، ومن مشايخه: الدارقطني وابن أبي الفوارس وغيرهما.

وقد كان من أهل الدين والأمانة والصيانة، والضبط، والتجرد، والورع، لكن قال الخطيب البغدادي: كان ابن البيع يميل إلى التشيع، فحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرموي، قال: جمع الحاكم أبو عبد الله أحاديث زعم أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم، يلزمهما إخراجها في صحيحيهما، فمنها: حديث الطير، «ومن كنت مولاه فعليّ مولاه»، فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله ولاموه في فعله.

وقال محمد بن طاهر المقدسي: قال الحاكم: حديث الطير لم يخرج في الصحيح وهو صحيح.

قال ابن طاهر: بل موضوع لا يروى إلا عن أسقاط أهل الكوفة من المجاهيل، عن أنس، فإن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل، وإلا فهو معاند كذاب.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: دخلت على الحاكم وهو مختف من الكرامية لا يستطيع أن يخرج منهم.

فقلت له: لو خرجت حديثا في فضائل معاوية لاسترحت مما أنت فيه.

فقال: لا يجيء من قبلي.

توفي فيها عن أربع وثمانين سنة.

ابن كج

وهو يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي، أحد أئمة الشافعية، وله في المذهب وجوه غريبة، وكانت له نعمة عظيمة جدا، وولي القضاء بالدينور لبدر بن حسنويه فلما تغيرت البلاد بعد موت بدر وثب عليه جماعة من العيارين فقتلوه ليلة سبع وعشرين من رمضان من هذه السنة.

(تم الجزء الحادي عشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني عشر وأوله سنة ست وأربعمائة، وبالله التوفيق)