☰ جدول المحتويات
- سنة إحدى وأربعين
- معاوية بن أبي سفيان وملكه
- فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
- خروج طائفة من الخوارج عليه
- رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان
- ركانة بن عبد العزيز
- صفوان بن أمية
- عثمان بن طلحة
- عمرو بن الأسود السكوني
- عاتكة بنت زيد
- سنة ثنتين وأربعين
- سنة ثلاث وأربعين
- أما عمرو بن العاص
- وممن توفي فيها عبد الله بن سلام أبو يوسف الإسرائيلي
- سنة أربع وأربعين
- وفى هذه السنة توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين
- سنة خمس وأربعين
- سنة ست وأربعين
- سراقة بن كعب شهد بدرا وما بعدها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
- سنة سبع وأربعين
- ثم دخلت سنة ثمان وأربعين
- سنة تسع وأربعين
- الحسن بن علي بن أبي طالب
- سنة خمسين من الهجرة
- وفيها توفي مدلاج بن عمرو السلمي صحابي جليل
- صفية بنت حيي بن أخطب
- وأما أم شريك الأنصارية
- وأما عمرو بن أمية الضمري
- أما جبير بن مطعم
- وأما حسان بن ثابت
- وأما الحكم بن عمر بن مجدع الغفاري
- وأما دحية بن خليفة الكلبي
- وأما عقيل بن أبي طالب
- وأما كعب بن مالك الأنصاري السلمي
- المغيرة بن شعبة
- جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية
- سنة إحدى وخمسين
- وذكر ابن عساكر له مراثي كثيرة
- فأما جرير بن عبد الله البجلي
- وأما جعفر بن أبي سفيان بن عبد المطلب
- وأما حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري
- وأما سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي
- وأما عبد الله أنيس بن الجهني أبو يحيى المدني
- وأما أبو بكرة نفيع بن الحارث
- وفيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية
- ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين
- خالد بن زيد بن كليب
- وفيها كانت وفاة أبي موسى الأشعري
- قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد
- الحطيئة الشاعر
- عبد الله بن مالك بن القشب
- قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي
- معقل بن يسار المزني
- أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه
- عبد الله بن المغفل المزني
- وفيها توفي عمران بن حصين بن عبيد
- كعب بن عجزة الأنصاري أبو محمد المدني
- معاوية بن خديج
- هانئ بن نيار أبو بردة البلوي
- ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
- وفيها توفي الربيع بن زياد الحارثي
- رويفع بن ثابت
- صعصعة بن ناجية
- جبلة بن الأيهم الغساني
- سنة أربع وخمسين
- أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي
- ثوبان بن مجدد
- جبير بن مطعم
- الحارث بن ربعي
- حكيم بن حزام
- حويطب بن عبد العزى العامري
- معبد بن يربوع بن عنكثة
- مرة بن شراحيل الهمداني
- النعيمان بن عمرو
- سودة بنت زمعة
- ثم دخلت سنة خمس وخمسين
- أرقم بن أبي الأرقم
- سحبان بن زفر بن إياس
- سعد بن أبي وقاص
- فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي
- قثم بن العباس بن عبد المطلب
- كعب بن عمرو أبو اليسر
- ثم دخلت سنة ست وخمسين
- سنة سبع وخمسين
- قال ابن الجوزي وفيها توفي عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي
- سنة ثمان وخمسين
- قصة غريبة
- توفي في هذا العام سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
- شداد بن أوس بن ثابت
- عبد الله بن عامر
- عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما
- قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام
- عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب
- أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق
- ثم دخلت سنة تسع وخمسين
- سنة ستين من الهجرة النبوية
- وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله
- ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له
- فصل قضاء معاوية
- صفوان بن المعطل بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو
- أبو مسلم الخولاني
- يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه
- قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله
- صفة مخرج الحسين إلى العراق
- ثم دخلت سنة إحدى وستين
- وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب
- فصل مقتل الحسين رضي الله عنه
- وأما قبر الحسين رضي الله عنه
- وأما رأس الحسين رضي الله عنه
- فصل شيء من فضائله
- فصل في شيء من أشعاره التي رويت عنه
- الحسين بن علي رضي الله عنهما
- جابر بن عتيك بن قيس
- حمزة بن عمرو الأسلمي
- شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري الحجبي
- الوليد بن عقبة بن أبي معيط
- أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية حذيفة
- ثم دخلت سنة ثنتين وستين
- بريدة بن الحصيب الأسلمي
- الربيع بن خيثم
- علقمة بن قيس أبو شبل النخعي الكوفي
- عقبة بن نافع الفهري
- عمرو بن حزم
- مسلم بن مخلد الأنصاري
- مسلم بن معاوية الديلمي
- ثم دخلت سنة ثلاث وستين
- ثم دخلت سنة أربع وستين
- وهذه ترجمة يزيد بن معاوية
- أولاد يزيد بن معاوية وعددهم
- إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية
- إمارة عبد الله بن الزبير
- ذكر بيعة مروان بن الحكم
- وقعة مرج راهط ومقتل الضحّاك بن قيس الفهري رضي الله عنه
- وفيها مقتل النعمان بن بشير الأنصاري
- وفيها توفي المسوَّر بن مخرمة بن نوفل
- المنذر بن الزبير بن العوام
- مصعب بن عبد الرحمن بن عوف
- وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين
- ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير
- ثم دخلت سنة خمس وستين
- وقعة عين وردة
- ترجمة مروان بن الحكم
- خلافة عبد الملك بن مروان
- ثم دخلت سنة ست وستين
- فصل تتبع قتلة الحسين رضي الله عنه
- مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسنا
- مقتل خولي بن يزيد الأصبحي الذي احتز رأس الحسين
- مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين
- فصل خداع المختار ومكره بابن الزبير
- فصل مسير إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد
- ثم دخلت سنة سبع وستين
- وهذه ترجمة ابن زياد
- مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير
- وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي
- فصل استقرار مصعب بن الزبير بالكوفة
- ثم دخلت سنة ثمان وستين
- عبد الله بن يزيد الأوسي
- وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي
- وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن
- ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل
- فصل تولي ابن عباس إمامة الحج
- صفة ابن عباس
- ثم دخلت سنة تسع وستين
- وهذه ترجمة الأشدق
- أبو الأسود الدؤلي
- جابر بن سمرة بن جنادة
- أسماء بنت يزيد
- حسان بن مالك
- ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة
- عاصم بن عمر بن الخطاب
- قبيصة بن دؤيب الخزاعي الكلبي
- قيس بن ذريج
- يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري
- بشير بن النضر
- مالك بن يخامر
- ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
- وهذه ترجمة مصعب بن الزبير
- إبراهيم بن الأشتر
- عبد الرحمن بن غسيلة
- عمر بن سلمة
- سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
- عمر بن أخطب
- يزيد بن الأسود الجرشي السكوني
- ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين
- وهذه ترجمة عبد الله بن خازم
- الأحنف بن قيس
- البراء بن عازب
- عبيدة السلماني القاضي
- عطية بن بشر
- عبيدة بن نضيلة
- عبد الله بن قيس الرقيّات
- عبد الله بن حمام
- ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
- وهذه ترجمة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير
- عبد الله بن صفوان
- عبد الله بن مطيع
- عوف بن مالك رضي الله عنه
- أسماء بنت أبي بكر
- عبد الله سعد بن جثم الأنصاري
- عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي
- مالك بن مسمع بن غسان البصري
- ثابت بن الضحاك الأنصاري
- زينب بنت أبي سلمى المخزومي
- توبة بنت الصمة
سنة إحدى وأربعين
قال ابن جرير: فيها سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية بن أبي سفيان.
ثم روى عن الزهري أنه قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم أنهم سامعون مطيعون مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب؟
فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه فازداد لهم بغضا وازداد منهم ذعرا، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه وبينه على ما يختاران.
وقال البخاري في كتاب الصلح: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا سفيان، عن أبي موسى.
قال: سمعت الحسن يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تُولِّي حتى تقتل أقرانها.
فقال معاوية: - وكان والله خير الرجلين -: إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟ من لي بضعفتهم؟ من لي بنسائهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس- عبد الرحمن بن سَمُرة، وعبد الله بن عامر - قال: اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه.
فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسالمك.
قال: فمن لي بهذا؟
قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به، فصالحه.
قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله ﷺ على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يُقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
قال البخاري: قال لي علي بن المديني: إنما ثبت عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث.
قلت: وقد روى هذا الحديث البخاري في كتاب الفتن عن علي بن عبد الله - وهو ابن المديني - وفي فضائل الحسن عن صدقة بن الفضل ثلاثتهم عن سفيان.
ورواه أحمد عن سفيان - وهو ابن عيينة - عن إسرائيل بن موسى البصري به.
ورواه أيضا في دلائل النبوة عن عبد الله بن محمد - وهو ابن أبي شيبة - ويحيى بن آدم كلاهما عن حسين بن علي الجعفي عن إسرائيل، عن الحسن وهو البصري به.
وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث حماد بن زيد، عن على بن زيد، عن الحسن البصري به.
ورواه أبو داود أيضا، والترمذي، من طريق أشعث، عن الحسن به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه النسائي من طريق عوف الأعرابي وغيره، عن الحسن البصري مرسلا.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أنا معمر أخبرني من سمع الحسن يحدث عن أبي بكرة قال: كان النبي ﷺ يحدثنا يوما والحسن بن علي في حجره فيقبل على أصحابه فيحدثهم ثم يقبل على الحسن فيقبله ثم قال: «إن ابني هذا سيد إن يعش يصلح بين طائفتين من المسلمين».
قال الحافظ ابن عساكر: كذا رواه معمر ولم يسم الذي حدثه به عن الحسن.
وقد رواه جماعة عن الحسن منهم: أبو موسى إسرائيل، ويونس بن عبيد، ومنصور بن زاذان، و علي بن زيد، وهشام بن حسان، وأشعث بن سوار، والمبارك بن فضالة، وعمرو بن عبيد القدري.
ثم شرع ابن عساكر في تطريق هذه الروايات كلها فأفاد وأجاد قلت: والظاهر أن معمرا رواه عن عمرو بن عبيد، فلم يفصح باسمه.
وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار عنه وسماه.
ورواه أحمد بن هاشم، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن بن أبي بكرة فذكر الحديث قال الحسن: فوالله والله بعد أن يولى لم يهراق في خلافته ملء محجمة بدم.
قال شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه: وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة.
وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ للحسن: «إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين».
وكذا رواه عبد الرحمن بن معمر، عن الأعمش به.
وقال أبو يعلى: ثنا أبو بكرة، ثنا زيد بن الحباب، ثنا محمد بن صالح التمار المدني، ثنا محمد بن مسلم بن أبي مريم، عن سعيد بن أبي سعيد المدني قال: كنا مع أبي هريرة إذ جاء الحسن بن علي قد سلم علينا قال: فتبعه فلحقه وقال: وعليك السلام يا سيدي.
وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنه سيد».
وقال أبو الحسن علي بن المديني: كان تسليم الحسن الأمر لمعاوية في الخامس من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين.
وقال غيره: في ربيع الآخر.
ويقال في غرة جمادى الأولى فالله أعلم.
قال: وحينئذ دخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها بعد البيعة.
وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن بن علي أن يخطب الناس ويعلمهم بنزوله عن الأمر لمعاوية، فأمر معاوية الحسن فقام في الناس خطيبا.
فقال في خطبته: بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله ﷺ: أما بعد أيها الناس!
فإن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه ﷺ: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [1]، فلما قالها غضب معاوية وأمره بالجلوس، وعتب على عمرو بن العاص في إشارته بذلك، ولم يزل في نفسه لذلك والله أعلم.
فأما الحديث الذي قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن يوسف بن سعدٍ قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين - أو يا مسود وجوه المؤمنين - فقال: لا تؤنبني رحمك الله، فإن النبي ﷺ أُري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [2] يا محمد - يعني نهرا في الجنة - ونزلت: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [3] يملكها بعدك بنو أمية يا محمد.
قال الفضل: فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص.
ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل وهو ثقة وثقة يحيى القطان، وابن مهدي، قال: وشيخه يوسف بن سعد، ويقال: يوسف بن ماذن - رجل مجهول - قال: ولا يعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه، فإنه حديث غريب، بل منكر جدا.
وقد تكلمنا عليه في كتاب التفسير بما فيه كفاية وبينا وجه نكارته، وناقشنا القاسم بن الفضل فيما ذكره، فمن أراد ذلك فليراجع التفسير والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ثنا إبراهيم بن مخلد بن جعفر، ثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي، ثنا عباس بن محمد، ثنا أسود بن عامر، ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو روق الهمداني، ثنا أبو العريف قال:
كنا في مقدمة الحسن بن علي اثنا عشر ألفا بمسكن، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام، وعلينا أبو الغمر طه فلما جاءنا بصلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ.
فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قال له رجل منا يقال له أبو عامر سعيد بن النتل: السلام عليك يا مذل المؤمنين.
فقال: لا تقل هذا يا عامر! لست بمذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك.
ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق، ورجع إليه قيس بن سعد أحد دهاة العرب - وقد كان عزم على الشقاق - وحصل على بيعة معاوية عامئذٍ الإجماع والاتفاق.
ترحل الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
وجعل كلما مر بحّيٍ من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية، وهو في ذلك هو البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجا ولا تلوما ولا ندما، بل هو راضٍ بذلك مستبشر به، وإن كان قد ساء هذا خلقا من ذويه وأهله وشيعتهم، ولا سيما بعد ذلك بمدد وهلم جرّا إلى يومنا هذا.
والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة، كما مدحه على ذلك رسول الله ﷺ كما تقدم في الحديث الصحيح ولله الحمد والمنة.
وسيأتي فضائل الحسن عند ذكر وفاته رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنات الفردوس متقلبه ومثواه، وقد فعل.
وقال محمد بن سعد: أنا أبو نعيم، ثنا شريك، عن عاصم، عن أبي رزين.
قال: خطبنا الحسن بن علي يوم الجمعة فقرأ سورة إبراهيم على المنبر حتى ختمها.
وروى ابن عساكر عن الحسن: أنه كان يقرأ كل ليلة سورة الكهف في لوح مكتوب يدور معه حيث دار من بيوت أزواجه قبل أن ينام وهو في الفراش رضي الله عنه.
معاوية بن أبي سفيان وملكه
قد تقدم في الحديث أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي؛ فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم.
قال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الفضل بن عياض، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة قالوا: قال رسول الله ﷺ: «إن هذا الأمر بدا رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير، والفروج، والخمور، ويرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل». إسناده جيد.
وقد ذكرنا في دلائل النبوة الحديث الوارد من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وفيه ضعف عن عبد الملك بن عمير قال: قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله ﷺ لي: «يا معاوية إن ملكت فأحسن».
رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن العباس بن محمد، عن محمد بن سابق، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسماعيل ثم قال البيهقي: وله شواهد من وجوه أخر.
منها: حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن جده سعيد أن معاوية أخذ الإداوة فتبع رسول الله فنظر إليه فقال له: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل». قال معاوية: فما زلت أظن أني مبتلىً بعمل لقول رسول الله ﷺ.
ومنها: حديث راشد بن سعد، عن معاوية قال: قال رسول الله ﷺ: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم».
قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله ﷺ فنفعه الله بها.
ثم روى البيهقي من طريق هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «الخلافة بالمدينة، والملك بالشام»، غريب جدا.
وروي من طريق أبي إدريس، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: «بينا أنا نائم رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعُمد به إلى الشام، وإن الإيمان حين تقع الفتنة بالشام».
وقد رواه سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الله بن عمرو.
ورواه الوليد بن مسلم، عن عفير بن معدان، عن سليمان، عن عامر، عن أبي أمامة.
وروى يعقوب بن سفيان، عن نصر بن محمد بن سليمان السلمي الحمصي، عن أبيه، عن عبد الله بن قيس، سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله ﷺ: «رأيت عمودا من نور خرج من تحت رأسي ساطعا حتى استقر بالشام».
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجل يوم صفين: اللهم العن أهل الشام، فقال له علي: لا تسب أهل الشام فإن بها الأبدال فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال.
وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مرفوعا.
فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
هو: معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أبو عبد الرحمن القرشي الأموي، خال أمير المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح.
وقد رُوي عن معاوية أنه قال: أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح، وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية، وآلت إليه رياسة قريش بعد يوم بدر، فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب، وكان رئيسا مطاعا ذا مالٍ جزيل، ولما أسلم قال: يا رسول الله مرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: «نعم»، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.
قال: «نعم».
ثم سأل أن يزوج رسول الله ﷺ بابنته، وهي عزة بنت أبي سفيان واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، فلم يقع ذلك، وبيّن رسول الله ﷺ أن ذلك لا يحل له.
وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع، وأفردنا له مصنفا على حدة ولله الحمد والمنة.
والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله ﷺ مع غيره من كتّاب الوحي رضي الله عنهم.
ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان، وأقره على ذلك عثمان بن عفان وزاده بلادا أخرى، وهو الذي بنى القبة الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة، قاله الحافظ ابن عساكر.
ولما ولي علي بن أبي طالب الخلافة أشار عليه كثير من أمرائه ممن باشر قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويولي عليها سهل بن حُنيف فعزله فلم ينتظم عزله والتف عليه جماعة من أهل الشام ومانع عليا عنها وقد قال: لا أبايعه حتى يسلمني قتلة عثمان فإنه قتل مظلوما، وقد قال الله تعالى: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا } [4].
وروى الطبراني عن ابن عباس أنه قال: ما زلت موقنا أن معاوية يلي الملك من هذه الآية.
أوردنا سنده ومتنه عند تفسير هذه الآية.
فلما امتنع معاوية من البيعة لعلي حتى يسلمه القتلة، كان من صفين ما قدمنا ذكره، ثم آل الأمر إلى التحكيم، فكان من أمر عمرو بن العاص وأبى موسى ما أسلفناه من قوة جانب أهل الشام في الصعدة الظاهرة.
واستفحل أمر معاوية، ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أصحابه حتى قتله ابن ملجم كما تقدم، فعند ذلك بايع أهل العراق الحسن بن علي، وبايع أهل الشام لمعاوية بن أبي سفيان.
ثم ركب الحسن في جنود العراق عن غير إرادة منه، وركب معاوية في أهل الشام.
فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما في الصلح فانتهى الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان.
وكان ذلك في ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة إحدى وأربعين - ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها خطبة بليغة بعد ما بايعه الناس - واستوثقت له الممالك شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وَسَمي هذا العام: عام الجامعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد الفرقة.
فولى معاوية قضاء الشام لفضالة بن عبيد، ثم بعده لأبي إدريس الخولاني.
وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور الرومي، ويقال إنه أول من اتخذ الحرس وأول من حزم الكتب وختمها، وكان أول الأحداث في دولته رضي الله عنه.
خروج طائفة من الخوارج عليه
وكان سبب ذلك أن معاوية لما دخل الكوفة وخرج الحسن وأهله منها قاصدين إلى الحجاز، قالت فرقة من الخوارج - نحو من خمسمائة -: جاء ما لا يشك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فساروا حتى قربوا من الكوفة وعليهم فروه بن نوفل، فبعث إليهم معاوية خيلا من أهل الشام فطردوا الشاميين، فقال معاوية: لا أمان لكم عندي حتى تكفوا بوائقكم.
فخرجوا إلى الخوارج فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون؟ أليس معاوية عدوكم وعدونا؟ فدعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكموه، وإن أُصبنا كنتم قد كفيتمونا.
فقالوا: لا والله حتى نقاتلكم.
فقالت الخوارج: يرحم الله إخواننا من أهل النهروان كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، فاقتتلوا فهزمهم أهل الكوفة وطردوهم.
ثم إن معاوية أراد أن يستخلف على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له المغيرة بن شعبة: توليه الكوفة وأباه مصر وتبقى أنت بين لحيي الأسد؟ فثناه عن ذلك وولى عليها المغيرة بن شعبة، فاجتمع عمرو بن العاص بمعاوية فقال: أتجعل المغيرة على الخراج؟
هلا وليت الخراج رجلا آخر؟
فعزله عن الخراج وولاه على الصلاة، فقال المغيرة لعمرو في ذلك، فقال له: ألست المشير على أمير المؤمنين في عبد الله بن عمرو؟
قال: بلى!
قال: فهذه بتلك.
وفي هذه السنة وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية جيشا ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية فسأله في الصفح والعفو، فعفى عنهم وأطلقهم وولى على البصرة بسر بن أبي أرطاة.
فتسلط على أولاد زياد يريد قتلهم، وذلك أن معاوية كتب إلى أبيهم ليحضر إليه فلبث، فكتب إليه بسر: لئن لم تسرع إلى أمير المؤمنين وإلا قتلت بنيك، فبعث أبو بكرة إلى معاوية في ذلك.
وقد قال معاوية لأبي بكرة: هل من عهد تعهده إلينا؟
قال: نعم!
أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيتك وتعمل صالحا فإنك قد تقلدت عظيما، خلافة الله في خلقه، فاتق الله فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث وأوشك أن يبلغ المدى فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عما كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تؤثرن على رضا الله شيئا.
ثم ولى معاوية في آخر هذه السنة البصرة لعبد الله بن عامر، وذلك أن معاوية أراد أن يوليها لعتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر: إن لي بها أموالا وودائع، وإن تولينها هلكتُ، فولاه إياها وأجابه إلى سؤاله في ذلك.
قال أبو معشر: وحج بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان.
وقال الواقدي: إنما حج بهم عنبسة بن أبي سفيان فالله أعلم.
من أعيان من توفي هذا العام
رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان
شهد العقبة وبدرا وما بعد ذلك
ركانة بن عبد العزيز
ابن هشام بن عبد المطلب القرشي، وهو الذي صارعه النبي ﷺ فصرعه، وكان هذا من أشد الرجال، وكان غلب رسول الله ﷺ له من المعجزات كما قدمنا في «دلائل النبوة»، أسلم عام الفتح، وقيل: قبل ذلك بمكة فالله أعلم.
صفوان بن أمية
ابن خلف بن وهب بن حدافة بن وهب القرشي، أحد الرؤساء تقدم أنه هرب من رسول الله ﷺ عام الفتح، ثم جاء فأسلم وحسن إسلامه، وكان الذي استأمن له عمير بن وهب الجمحي.
وكان صاحبه وصديقه في الجاهلية كما تقدم، وقدم به في وقت صلاة العصر فاستأمن له فأمّنه رسول الله ﷺ أربعة أشهر، واستعار منه أدرعا وسلاحا ومالا.
وحضر صفوان حنينا مشركا، ثم أسلم ودخل الإيمان قلبه، فكان من سادات المسلمين كما كان من سادات الجاهلية.
قال الواقدي: ثم لم يزل مقيما بمكة حتى توفي بها في أول خلافة معاوية.
عثمان بن طلحة
ابن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار العبدري الحجبي، أسلم هو وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص في أول سنة ثمان قبل الفتح.
وقد روى الواقدي حديثا طويلا عنه في صفة إسلامه، وهو الذي أخذ منه رسول الله مفتاح الكعبة عام الفتح ثم رده إليه وهو يتلو قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [5].
وقال له: «خذها يا عثمان خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلا ظالم».
وكان علي قد طلبها فمنعه من ذلك.
قال الواقدي: نزل المدينة حياة رسول الله، فلما مات نزل بمكة فلم يزل بها حتى مات في أول خلافة معاوية.
عمرو بن الأسود السكوني
كان من العباد الزهاد، وكانت له حلة بمائتي درهم يلبسها إذا قام إلى الصلاة الليل، وكان إذا خرج إلى المسجد وضع يمينه على شماله مخافة الخيلاء، روى عن معاذ، وعبادة بن الصامت، والعرباض بن سارية وغيرهم.
وقال أحمد في الزهد: ثنا أبو اليمان، ثنا ابن بكر عن حكيم بن عمير، وضمرة بن حبيب، قالا: قال عمر بن الخطاب: من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله ﷺ فلينظر إلى هدى عمرو بن الأسود.
عاتكة بنت زيد
ابن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، وهي: أخت سعيد بن زيد أحد العشرة، أسلمت وهاجرت وكانت من حسان النساء وعبادهن، تزوجها عبيد الله بن أبي بكر فتتيم بها.
فلما قتل في غزوة الطائف آلت أن لا تزوج بعده، فبعث إليها عمر بن الخطاب - وهو ابن عمها - فتزوجها، فلما قتل عنها خلف بعده عليها الزبير بن العوام، فقتل بوادي السباع، فبعث إليها علي بن أبي طالب يخطبها فقالت: إني أخشى عليك أن تقتل، فأبت أن تتزوجه ولو تزوجته لقتل عنها أيضا، فإنها لم تزل حتى ماتت في أول خلافة معاوية في هذه السنة رحمها الله.
سنة ثنتين وأربعين
فيها: غزا المسلمون اللان والروم فقتلوا من أمرائهم وبطارقتهم خلقا كثيرا، وغنموا وسلموا.
وفيها: ولي معاوية مروان بن الحكم نيابة المدينة.
وعلى مكة: خالد بن العاص بن هشام.
وعلى الكوفة: المغيرة بن شعبة.
وعلى قضائها: شريح القاضي.
وعلى البصرة: عبد الله بن عامر.
وعلى خراسان: قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر.
وفى هذه السنة تحركت الخوارج الذين كانوا قد عفى عنهم علي يوم النهروان، وقد عوفي جرحاهم وثابت إليهم قواهم، فلما بلغهم مقتل علي ترحموا على قاتله ابن ملجم وقال قائلهم: لا يقطع الله يدا علت قذال علي بالسيف، وجعلوا يحمدون الله على قتل علي، ثم عزموا على الخروج على الناس وتوافقوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يزعمون.
وفي هذه السنة قدم زياد بن أبيه على معاوية - وكان قد امتنع عليه قريبا من سنة في قلعة عرفت به يقال لها: قلعة زياد - فكتب إليه معاوية: ما يحملك على أن تهلك نفسك؟
أقدم عليَّ فأخبرني بما صار إليك من أموال فارس وما صرفت منها وما بقي عندك، فائتني به وأنت آمن، فإن شئت أن تقيم عندنا فعلت وإلا ذهبت حيث ما شئت من الأرض فأنت آمن.
فعند ذلك أزمع زياد السير إلى معاوية، فبلغ المغيرة قدومه فخشي أن يجتمع بمعاوية قبله، فسار نحو دمشق إلى معاوية فسبقه زياد إلى معاوية بشهر فقال معاوية للمغيرة: ما هذا وهو أبعد منك وأنت جئت بعده بشهر؟
فقال: يا أمير المؤمنين إنه ينتظر الزيادة وأنا أنتظر النقصان، فأكرم معاوية زيادا وقبض ما كان معه من الأموال وصدقه فيما صرفه.
سنة ثلاث وأربعين
فيها: غزا بسر بن أبي أرطاة بلاد الروم فتوغل فيها حتى بلغ مدينة قسطنطينية، وشتى ببلادهم فيما زعمه الواقدي، وأنكر غيره ذلك وقالوا: لم يكن بها مشتى لأحد قط، فالله أعلم.
قال ابن جرير: وفيها: مات عمرو بن العاص بمصر، ومحمد بن مسلمة، قلت: وسنذكر ترجمة كل منهما في آخرها، فولي معاوية بعد عمرو بن العاص على ديار مصر ولده عبد الله بن عمرو.
قال الواقدي: فعمل له عليها سنتين.
وقد كانت في هذه السنة - أعني سنة ثلاث وأربعين -وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمموا -كما قدمنا - على الخروج على الناس في هذا الحين.
فاجتمعوا في قريب من ثلثمائة عليهم المستورد بن علقمة، فجهز عليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلثمائة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له: المذار فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج.
ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج، ولكن لم يقتل أحد منهم، فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم.
فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس، فنزل وصلى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبي الرواع فقال له: أيها الأمير إن لهم شدات منكرة، فكن أنت ردأ الناس، ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك.
فقال معقل بن قيس: نعم ما رأيت، فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه، فانجفل عنه عامة أصحابه، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال: يا معشر المسلمين الأرض الأرض، فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس، منهم أبو الرواع الشاكري.
فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فدمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالا شديدا، والناس يتراجعون في أثناء الليل.
فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم وقال: لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم، فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا.
فسار معقل في طلبهم وقدم بين يديه أبا الرواع في ستمائة فالتقوا بهم عند طلوع الشمس فثار إليهم الخوارج فتبارزوا ساعة، ثم حملوا حملة رجل واحد فصبر لهم أبو الرواع بمن معه، وجعل يدمرهم ويعيرهم ويؤنبهم على الفرار ويحثهم على الصبر فصبروا وصدقوا في الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم.
فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم فما يكون دون قتلهم شيء، فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة في أرض نهر شير، وتبعهم أبو الرواع، ولحقه معقل بن قيس.
ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد - نائب المدائن - ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة.
وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.
وممن توفي بها: عمرو بن العاص، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما.
أما عمرو بن العاص
فهو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي السهمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد، أحد رؤساء قريش في الجاهلية، وهو الذي أرسلوه إلى النجاشي ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده فلم يجبهم إلى ذلك لعدله، ووعظ عمرو بن العاص في ذلك.
فيقال: إنه أسلم على يديه والصحيح أنه إنما أسلم قبل الفتح بستة أشهر هو وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة العبدري.
وكان أحد أمراء الإسلام، وهو أمير ذات السلاسل، وأمده رسول الله ﷺ بمدد عليهم أبو عبيدة، ومعه الصديق، وعمر الفاروق، واستعمله رسول الله ﷺ على عمان، فلم يزل عليها مدة حياة رسول الله ﷺ، وأقره عليها الصديق.
وقد قال الترمذي: ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة، ثنا مشرح بن عاهان، عن عقبة بن عامر قال:
قال رسول الله ﷺ: «أسلم الناس، وآمن عمرو بن العاص».
وقال أيضا: ثنا إسحاق بن منصور، ثنا أبو أسامة، عن نافع، عن عمر الجمحي، عن ابن أبي ملكية، قال: قال طلحة بن عبيد الله:
سمعت رسول الله يقول: «إن عمرو بن العاص من صالحي قريش».
وفى الحديث الآخر: «ابنا العاص مؤمنان».
وفى الحديث الآخر: «نِعم أهل البيت عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله».
رووه في فضائل عمرو بن العاص، ثم إن الصديق بعثه في جملة من بعث من أمراء الجيش إلى الشام فكان ممن شهد تلك الحروب، وكانت له الآراء السديدة، والمواقف الحميدة، والأحوال السعيدة.
ثم بعثه عمر إلى مصر فافتتحها واستنابه عليها وأقره فيها عثمان بن عفان أربع سنين، ثم عزله كما قدمنا، وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاعتزل عمرو بفلسطين وبقي في نفسه من عثمان رضي الله عنهما.
فلما قتل سار إلى معاوية فشهد مواقفه كلها بصفين وغيرها، وكان هو أحد الحكمين.
ثم لما أن استرجع معاوية مصر وانتزعها من يد محمد بن أبي بكر، استعمل عمرو بن العاص عليها، فلم يزل نائبها إلى أن مات في هذه السنة على المشهور.
وقيل: إنه توفي سنة سبع وأربعين.
وقيل: سنة ثمان وأربعين.
وقيل: سنة إحدى وخمسين رحمه الله.
وقد كان معدودا من دهاة العرب وشجعانهم، وذوي آرائهم وله أمثال حسنة، وأشعار جيدة.
وقد روي عنه أنه قال: حفظت من رسول الله ﷺ ألف مثل، ومن شعره:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه * ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منه وغادر سبة * إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وقال الإمام أحمد: حدثنا على بن إسحاق، ثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الرحمن بن شماسة حدثه قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة بكى فقال له ابنه عبد الله: لم تبكي؟ أجزعا على الموت
فقال: لا والله ولكن مما بعد الموت.
فقال له: قد كنت على خير، فجعل يذكره صحبة رسول الله وفتوحه الشام.
فقال عمرو: تركت أفضل من ذلك كله شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق ليس فيها طبق إلا عرفت نفسي فيه، كنت أول قريش كافرا، وكنت أشد الناس على رسول الله ﷺ فلومت حينئذ وجبت لي النار.
فلما بايعت رسول الله ﷺ كنت أشد الناس حياء منه، فما ملأت عيني من رسول الله ولا راجعته فيما أريد حتى لحق بالله حياء، فلو مت يومئذ قال الناس: هنيئا لعمرو أسلم، وكان على خير فمات عليه نرجو له الجنة.
ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدرى علي أم لي، فإذا مت فلا تبكين عليَّ باكية، ولا يتبعني مادح، ولا نار، وشدوا علي إزاري فأني مخاصم، وشنوا عليَّ التراب شنا، فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرا، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور أستأنس بكم.
وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه من حديث يزيد بن أبي حبيب بإسناده نحوه وفيه زيادات على هذا السياق.
فمنها: قوله: كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع رسل ربي عز وجل.
وفي رواية: أنه بعد هذا حول وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك.
وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم لا قوي فانتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستنكر بل مستغفر، لا إله إلا أنت فلم يزل يرددها حتى مات رضي الله عنه.
وأما محمد بن مسلمة الأنصاري فقد أسلم على يدي مصعب بن عمير قبل أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، شهد بدرا وما بعدها إلا تبوك، فإنه استخلفه رسول الله على المدينة في قوله.
وقيل: استخلفه في قرقرة الكدر، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف اليهودي.
وقيل: أنه الذي قتل مرحبا اليهودي يوم خيبر أيضا.
وقد أمره رسول الله ﷺ على نحو من خمس عشرة سرية، وكان ممن اعتزل تلك الحروب بالجمل وصفين ونحو ذلك، واتخذ سيفا من خشب.
وقد ورد في حديث قدمناه أنه أمره رسول الله ﷺ بذلك وخرج إلى الربذة.
وكان من سادات الصحابة، وكان هو رسول عمر إلى عماله، وهو الذي شاطرهم عن أمره، وله وقائع عظيمة، وصيانة وأمانة بليغة رضي الله عنه، واستعمله على صدقات جهينة.
وقيل: إنه توفي سنة ست أو سبع وأربعين.
وقيل: غير ذلك.
وقد جاوز السبعين، وترك بعده عشرة ذكور وست بنات، وكان أسمر، شديد السمرة، طويلا، أصلع رضي الله عنه.
وممن توفي فيها عبد الله بن سلام أبو يوسف الإسرائيلي
أحد أحبار اليهود، أسلم حين قدم رسول الله ﷺ المدينة.
قال: لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل إليه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: «أيها الناس، افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، تدخلوا الجنة بسلام».
وقد ذكرنا صفة إسلامه أول الهجرة، وماذا سأل عنه رسول الله ﷺ من الأسئلة النافعة الحسنة رضي الله عنه.
وهو ممن شهد له رسول الله بالجنة، وهو ممن يقطع له بدخولها.
سنة أربع وأربعين
فيها: غزا عبد الرحمن بن خالد الوليد بلاد الروم ومعه المسلمون، وشتوا هنالك.
وفيها: غزا بسر بن أبي أرطاة في البحر.
وفيها: عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة، وذلك أنه ظهر فيها الفساد وكان ليِّنَ العريكة سهلا، يقال: أنه كان لا يقطع لصا، ويريد أن يتألف الناس، فذهب عبد الله بن أبي أوفى المعروف بابن الكوا فشكاه إلى معاوية، فعزل معاوية ابن عامر عن البصرة، وبعث إليها الحرث ابن عبد الله الأزدي.
ويقال: إن معاوية استدعاه إليه ليزوره فقدم ابن عامر على معاوية دمشق، فأكرمه ورده على عمله.
فلما ودعه قال له معاوية: ثلاث أسألكهن فقل هي لك وأنا ابن أم حكيم ترد عليّ عملي ولا تغضب.
قال ابن عامر: قد فعلت.
قال معاوية: وتهب لي مالك بعرفة.
قال: قد فعلت.
قال: وتهب لي دورك بمكة.
قال: قد فعلت.
فقال له معاوية: وصلتك رحما.
فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين، وإني سائلك ثلاثا فقل هي لك وأنا ابن هند.
قال: ترد عليَّ مالي بعرفة.
قال: قد فعلت.
قال: ولا تحاسب لي عاملا ولا أميرا.
قال: قد فعلت.
قال: وتنكحني ابنتك هندا.
قال: قد فعلت.
ويقال: إن معاوية خيره بين هذه الثلاث وبين الولاية على بصرة فاختار هذه الثلاث، واعتزل عن البصرة.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه، فألحقه بأبي سفيان، وذلك أن رجلا شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهر بسمية أم زياد في الجاهلية، وأنها حملت بزياد هذا منه، فلما استلحقه معاوية قيل له: زياد بن أبي سفيان.
وقد كان الحسن البصري ينكر هذا الاستلحاق ويقول: قال رسول الله ﷺ: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر».
وقال أحمد: ثنا هشيم، ثنا خالد، عن أبي عثمان، قال: لما ادَّعى زياد، لقيت أبا بكرة، فقلت: ما هذا الذي صنعتم، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت أذني رسول الله ﷺ يقول: «من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله ﷺ، أخرجناه من حديث أبي عثمان عنهما.
قلت: أبو بكرة واسمه نفيع، وأمه سمية أيضا.
وحج بالناس في هذه السنة معاوية.
وفيها: عمل معاوية المقصورة بالشام ومروان مثلها بالمدينة.
وفى هذه السنة توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين
واسمها رملة أخت معاوية، أسلمت قديما، وهاجرت هي وزوجها عبد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر هناك زوجها وثبت على دينها رضي الله عنها، وحبيبة هي أكبر أولادها منه ولدتها بالحبشة، وقيل: بمكة قبل الهجرة، ومات زوجها هنالك لعنه الله وقبحه.
ولما تأيمت من زوجها بعث رسول الله ﷺ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجها منه، وولي العقد خالد بن سعيد بن العاص، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وحملها إليه في سنة سبع.
ولما جاء أبوها عام الفتح ليشهد العقد دخل عليها فثنت عنه فراش رسول الله فقال لها: والله يا بنية ما أدري أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟
فقالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك.
فقال لها: والله يا بنية لقد لقيت بعدي شرا.
وقد كانت من سيدات أمهات المؤمنين، ومن العابدات الورعات رضي الله عنها.
قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عوف بن الحارث، قال:
سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر.
فقلت: يغفر الله لي ولك ما كان من ذلك كله، وتجاوزت وحاللتك.
فقالت: سررتيني سرك الله وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك.
سنة خمس وأربعين
فيها: ولى معاوية البصرة للحارث بن عبد الله الأزدي، ثم عزله بعد أربعة أشهر، وولى زيادا فقدم زياد الكوفة، وعليها المغيرة فأقام بها ليأتيه رسول معاوية بولاية البصرة، فظن المغيرة أنه قد جاء على إمرة الكوفة، فبعث إليه وائل بن حجر ليعلم خبره.
فاجتمع به فلم يقدر منه على شيء، فجاء البريد إلى زياد: أن يسير إلى البصرة، واستعمله على خراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان.
ودخل زياد البصرة في مستهل جمادى الأول، فقام في أول خطبة خطبها - وقد وجد الفسق ظاهرا - فقال فيها:
أيها الناس، كأنكم لم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل الطاعة، والعذاب لأهل المعصية، تكونون كمن طرقت جبينه الدنيا، وفسدت مسامعه الشهوات، فاختار الفانية على الباقية.
ثم ما زال يقيم أمر السلطان، ويجرد السيف حتى خافه الناس خوفا عظيما، وتركوا ما كانوا فيه من المعاصي الظاهرة، واستعان بجماعة من الصحابة.
وولى عمران بن حصين القضاء بالبصرة.
وولى الحكم بن عمرو الغفاري نيابة خراسان.
وولى سمرة بن جندب، وعبد الرحمن بن سمرة، وأنس بن مالك، وكان حازم الرأي ذا هيبة داهية، وكان مفوها فصيحا بليغا.
قال الشعبي: ما سمعت متكلما قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا من أن يسيء إلا زيادا، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاما.
وقد كانت له وجاهة عند عمر بن الخطاب.
وفي هذه السنة غزا الحكم بن عمر نائب زياد على خراسان جبل الأسل عن أمر زياد فقتل منهم خلقا كثيرا، وغنم أموالا جمة، فكتب إليه زياد: إن أمير المؤمنين قد جاء كتابه أن يصطفى له كل صفراء أو بيضاء - يعني الذهب والفضة - يجمع كله من هذه الغنيمة لبيت المال.
فكتب الحكم بن عمرو: إن كتاب الله مقدم على كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السموات والأرض على عدو فاتقى الله يجعل له مخرجا، ثم نادى في الناس: أن اغدوا على قسم غنيمتكم.
فقسمها بينهم، وخالف زيادا فيما كتب إليه عن معاوية، وعزل الخمس كما أمر الله ورسوله.
ثم قال الحكم: إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، فمات بمرو من خراسان رضي الله عنه.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم وكان نائب المدينة.
وفي هذه السنة: توفي زيد بن ثابت الأنصاري، أحد كتَّاب الوحي وقد ذكرنا ترجمته فيهم في أواخر السيرة، وهو الذي كتب هذا المصحف الإمام الذي بالشام عن أمر عثمان بن عفان، وهو خط جيد قوي جدا فيما رأيته.
وقد كان زيد بن ثابت من أشد الناس ذكاءً تعلم لسان يهود وكتابهم في خمسة عشر يوما.
قال أبو الحسن بن البراء: تعلم الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوما، وتعلم الحبشية، والرومية، والقبطية، من خدام رسول الله ﷺ.
قال الواقدي: وأول مشاهده الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة.
وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي: «وأعلمهم بالفرائض زيد بن ثابت».
وقد استعمله عمر بن الخطاب على القضاء.
وقال مسروق: كان زيد بن ثابت من الراسخين.
وقال محمد بن عمرو: عن أبي سلمة، عن ابن عباس، أنه أخذ لزيد بن ثابت بالركاب.
فقال له: تنح يا ابن عم رسول الله.
فقال: لا! هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا.
وقال الأعمش: عن ثابت، عن عبيدة، قال: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته، ومن أذمها إذا خرج إلى الرجال.
وقال محمد بن سيرين: خرج زيد بن ثابت إلى الصلاة فوجد الناس راجعين منها فتوارى عنهم، وقال: من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله.
مات في هذه السنة.
وقيل: في سنة خمس وخمسين والصحيح الأول، وقد قارب الستين، وصلى عليه مروان.
وقال ابن عباس: لقد مات اليوم عالم كبير.
وقال أبو هريرة: مات حبر هذه الأمة.
وفيها: مات سلمة بن سلامة بن وقش عن سبعين، وقد شهد بدرا وما بعدها، ولا عقب له.
وعاصم بن عدي وقد استخلفه رسول الله حين خرج إلى بدر على قبا وأهل العالية، وشهد أحدا وما بعدها.
وتوفي عن خمس وعشرين ومائة، وقد بعثه رسول الله هو ومالك بن الدخشم إلى مسجد الضرار فحرقاه.
وفيها: توفيت حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين، وكانت قبل رسول الله ﷺ تحت حنيس بن حذافة السهمي، وهاجرت معه إلى المدينة فتوفي عنها بعد بدر.
فلما انقضت عدتها، عرضها أبوها على عثمان بعد وفاة زوجته رقية بنت الرسول الله ﷺ، فأبى أن يتزوجها؛ فعرضها على أبي بكر فلم يرد عليه شيئا، فما كان عن قريب حتى خطبها رسول الله ﷺ فتزوجها.
فعاتب عمر أبا بكر بعد ذلك في ذلك فقال له أبو بكر: إن رسول الله كان قد ذكرها فما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ، ولو تركها لتزوجتها.
وقد روينا في الحديث: أن رسول الله ﷺ طلق حفصة ثم راجعها.
وفى رواية: أن جبريل أمره بمراجعتها وقال: إنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة.
وقد أجمع الجمهور: أنها توفيت في شعبان من هذه السنة عن ستين سنة وقيل أنها توفيت أيام عثمان، والأول أصح.
سنة ست وأربعين
فيها شتى المسلمون ببلاد الروم مع أميرهم عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد.
وقيل: كان أميرهم غيره والله أعلم.
وحج بالناس عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، والعمال على البلاد هم المتقدم ذكرهم.
وممن توفي في هذه السنة سالم بن عمير أحد البكائين المذكورين في القرآن، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد كلها.
سراقة بن كعب شهد بدرا وما بعدها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
القرشي المخزومي، وكان من الشجعان المعروفين، والأبطال المشهورين كأبيه، وكان قد عظم ببلاد الشام لذلك حتى خاف منه معاوية، ومات وهو مسموم رحمه الله وأكرم مثواه.
قال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني: أدرك النبي ﷺ.
وقد روى ابن عساكر: من طريق أبي عمر، أن عمرو بن قيس روى عنه عن النبي ﷺ في الحجامة بين الكتفين.
قال البخاري: وهو منقطع - يعني مرسلا - وكان كعب بن جعيل مداحا له ولأخويه مهاجر وعبد الله.
وقال الزبير بن بكار: كان عظيم القدر في أهل الشام، شهد صفين مع معاوية.
وقال ابن سميع: كان يلي الصوائف زمن معاوية، وقد حفظ عن معاوية.
وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن رجلا يقال له: ابن أثال - وكان رئيس الذمة بأرض حمص - سقاه شربة فيها سم فمات.
وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح.
ورثاه بعضهم، فقال:
أبوك الذي قاد الجيوش مغريا * إلى الروم لما أعطت الخرج فارس
وكم من فتى نبهته بعد هجعةٍ * بقرع لجام وهو أكتع ناعس
وما يستوي الصفان صفٌ لخالدٍ * وصفُ عليه من دمشقُ البرانس
وقد ذكروا أن خالد بن عبد الرحمن بن خالد قدم المدينة، فقال له عروة بن الزبير: ما فعل ابن أثال؟
فسكت ثم رجع إلى حمص فثار على ابن أثال فقتله.
فقال: قد كفيتك إياه، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة ومحمد بن مسلمة في قول.
وقد تقدم هرم بن حبان العبدي وهو أحد عمال عمر بن الخطاب، ولقي أويسا القرني، وكان من عقلاء الناس وعلمائهم، ويقال: إنه لما دفن جاءت سحابة فروت قبره وحده، ونبت العشب عليه من وقته، والله أعلم.
سنة سبع وأربعين
فيها: شتى المسلمون ببلاد الروم.
وفيها: عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص عن ديار مصر، وولى عليها معاوية بن خديج، وحج بالناس عتبة.
وقيل: أخوه عنبسة بن أبي سفيان، فالله أعلم.
وممن توفي فيها: قيس بن عاصم المنقري، كان من سادات الناس في الجاهلية والإسلام، وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية والإسلام، وذلك أنه سكر يوما فعبث بذات محرم منه فهربت منه، فلما أصبح قيل له في ذلك، فقال في ذلك:
رأيت الخمر منقصةً وفيها * مقابح تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي * ولا أشفى بها أبدا سقيما
وكان إسلامه مع وفد بني تميم، وفي بعض الأحاديث أن رسول الله قال: «هذا سيد أهل الوبر».
وكان جوادا ممدحا كريما، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
وما كان قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ * ولكنهُ بنيانُ قومٍ تهدما
وقال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء يقولان:
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟
قال: من قيس بن عاصم المنقري، لقد اختلفنا إليه في الحكم كما يختلف إلى الفقهاء، فبينا نحن عنده يوما وهو قاعد بفنائه، محتبٍ بكسائه، أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف، فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك.
قال: فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم التفت إلى ابن له في المسجد، فقال: أطلق عن ابن عمك، ووار أخاك، واحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبةً.
ويقال: إنه لما حضرته الوفاة جلس حوله بنوه - وكانوا اثنين وثلاثين ذكرا - فقال لهم: يا بنيّ، سوِّدوا عليكم أكبركم تخلفوا أباكم، ولا تسوِّدوا أصغركم فيزدري بكم أكفاؤكم، وعليكم بالمال واصطناعه فإنه نعم ما يهبه الكريم، ويستغني به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس فإنها من أخس مكسبة الرجل، ولا تنوحوا علي فإن رسول الله لم ينح عليه، ولا تدفنوني حيث يشعر بكر بن وائل، فإني كنت أعاديهم في الجاهلية.
وفيه يقول الشاعر:
عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليتهُ منك منة * إذا ذكرت مثلها تملأ الفما
فما كان قيس هلكهُ هلكُ واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين
فيها: شتى أبو عبد الرحمن القتبي بالمسلمين ببلاد أنطاكيا.
وفيها: غزا عقبة بن عامر بأهل مصر البحر، وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.
سنة تسع وأربعين
فيها: غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم حتى بلغ قسطنطينية، ومعه جماعات من سادات الصحابة منهم: ابن عمرو بن عباس، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال: «أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» فكان هذا الجيش أول من غزاها، وما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهد.
وفيها توفي أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري
وقيل: لم يمت في هذه الغزوة بل بعدها سنة إحدى أو ثنتين أو ثلاث وخمسين كما سيأتي.
وفيها: عزل معاوية مروان عن المدينة، وولى عليها سعيد بن العاص، فاستقضى سعيد عليها أبا سلمة بن عبد الرحمن.
وفيها: شتى مالك بن هبيرة الفزاري بأرض الروم.
وفيها: كانت غزوة فضالة بن عبيد، وشتى هنالك ففتح البلد وغنم شيئا كثيرا.
وفيها: كانت صائفة عبد الله بن كرز.
وفيها: وقع الطاعون بالكوفة فخرج منها المغيرة فارا، فلما ارتفع الطاعون رجع إليها فأصابه الطاعون فمات، والصحيح أنه مات سنة خمسين كما سيأتي.
فجمع معاوية لزياد الكوفة إلى البصرة فكان أول من جمع له بينهما، فكان يقيم في هذه ستة أشهر وهذه ستة أشهر، وكان يستخلف على البصرة سمرة بن جندب. وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
الحسن بن علي بن أبي طالب
أبو محمد القرشي الهاشمي، سبط رسول الله ﷺ ابن ابنته فاطمة الزهراء، وريحانته، وأشبه خلق الله به في وجهه، ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فحنكه رسول الله بريقه وسماه حسنا، وهو أكبر ولد أبويه.
وقد كان رسول الله ﷺ يحبه حبا شديدا حتى كان يقبل ذبيبته وهو صغير، وربما مص لسانه واعتنقه وداعبه.
وربما جاء رسول الله ﷺ ساجد في الصلاة فيركب على ظهره فيُقره على ذلك ويطيل السجود من أجله.
وربما صعد معه إلى المنبر، وقد ثبت في الحديث أنه عليه السلام بينما هو يخطب، إذ رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتضنهما وأخذهما معه إلى المنبر وقال: «صدق الله { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [6] إني رأيت هذين يمشيان ويعثران فلم أملك أن نزلت إليهما» ثم قال: «إنكم لمن روح الله، وإنكم لتبجلون وتحببون».
وقد ثبت في صحيح البخاري: عن أبي عاصم، عن عمر ابن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، أن أبا بكر صلى بهم العصر بعد وفاة رسول الله بليالٍ، ثم خرج هو وعلي يمشيان فرأى الحسن يلعب مع الغلمان فاحتمله على عنقه، وجعل يقول: بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي.
قال: وعلي يضحك.
وروى سفيان الثوري وغير واحد قالوا: ثنا وكيع، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمعت أبا جحيفة يقول: رأيت النبي ﷺ وكان الحسن بن علي يشبهه.
ورواه البخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، قال وكيع: لم يسمع إسماعيل من أبي جحيفة إلا هذا الحديث.
وقال أحمد: ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا زمعة، عن ابن أبي مليكة قالت: كانت فاطمة تنقر للحسن بن علي وتقول: بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي.
وقال عبد الرزاق وغيره: عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال: كان الحسن بن علي أشبههم وجها برسول الله ﷺ.
ورواه أحمد: عن عبد الرزاق بنحوه.
وقال أحمد: ثنا حجاج، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن علي قال: الحسن أشبه برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله ما أسفل من ذلك.
ورواه الترمذي من حديث إسرائيل وقال: حسن غريب.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله ﷺ من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك.
وقد روي عن ابن عباس، وابن الزبير، أن الحسن بن علي كان يشبه النبي ﷺ.
وقال أحمد: ثنا حازم بن الفضيل، ثنا معتمر، عن أبيه، قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن أبي عثمان النهدي، يحدثه أبو عثمان، عن أسامة بن زيد، قال: كان النبي ﷺ يأخذني فيقعدني على فخده، ويقعد الحسن على فخده الأخرى، ثم يضمنا ثم يقول: «اللهم ارحمهما فإني أرحمهما».
وكذا رواه البخاري، عن النهدي، عن محمد بن الفضيل أخو حازم به، وعن علي بن المديني، عن يحيى القطان، عن سليمان التيمي، عن أبي تميمة، عن أبي عثمان، عن أسامة.
وأخرجه أيضا: عن موسى بن إسماعيل ومسدد، عن معتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن أسامة فلم يذكر أبا تميمة، والله أعلم.
وفي رواية: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».
وقال شعبة: عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: رأيت النبي ﷺ والحسن بن علي عاتقه، وهو يقول: «اللهم إني أحبه فأحبه». أخرجاه من حديث شعبة.
ورواه علي بن الجعد، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي، عن البراء، فزاد: «وأحب من أحبه».
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أحمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال للحسن بن علي: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه».
ورواه مسلم: عن أحمد، وأخرجاه من حديث شعبة، وقال أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا ورقاء، عن عبيد الله، عن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن أبي هريرة.
قال: كنت مع النبي ﷺ في سوق من أسواق المدينة، فانصرف وانصرفت معه، فجاء إلى فناء فاطمة، فقال: أي لكع، أي لكع، أي لكع، فلم يجبه أحد، فانصرف وانصرفت معه إلى فناء فقعد.
قال: فجاء الحسن بن علي - قال أبو هريرة: ظننا أن أمه حبسته لتجعل في عنقه السخاب - فلما دخل التزمه رسول الله، والتزم هو رسول الله، ثم قال: «إني أحبه وأحب من يحبه» ثلاث مرات.
وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد الله به.
وقال أحمد: ثنا حماد الخياط، ثنا هشام بن سعد، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة.
قال: خرج رسول الله إلى سوق بني قينقاع متكئا على يدي، فطاف فيها، ثم رجع فاحتبى في المسجد، وقال: «أين لكاع، ادعوا لي لكاع» فجاء الحسن فاشتد حتى وثب في حبوته فأدخل فمه في فمه، ثم قال: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه» ثلاثا.
قال أبو هريرة: ما رأيت الحسن إلا فاضت عينيّ، أو قال دمعت عينيّ، أو بكيت.
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقد رواه الثوري، عن نعيم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فذكر مثله، أو نحوه.
ورواه معاوية بن أبي برود، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه، وفيه زيادة.
وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوا من هذا.
ورواه عثمان بن أبي اللباب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة بنحوه، وفيه زيادة.
وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوا من هذا السياق.
وقال سفيان الثوري وغيره: عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ: «من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني» غريب من هذا الوجه.
وقال أحمد: ثنا ابن نمير، ثنا الحجاج - يعني: ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة قال:
خرج علينا رسول الله ومعه حسن وحسين هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة، وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله إنك لتحبهما.
فقال: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». تفرد به أحمد.
وقال أبو بكر ابن عياش: عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كان رسول الله ﷺ يصلي، فجاء الحسن والحسين، فجعلا يتوثبان على ظهره إذا سجد، فأراد الناس زجرهما، فلما سلم قال للناس: «هذان ابناي، من أحبهما فقد أحبني».
ورواه النسائي من حديث: عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن عاصم به.
وقد ورد عن عائشة، وأم سلمة أميّ المؤمنين، أن رسول الله اشتمل على الحسن والحسين وأمهما وأبيهما فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».
وقال محمد بن سعد: ثنا محمد بن عبد الله الأسدي، ثنا شريك، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله.
قال: قال رسول الله ﷺ: «من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي».
وقد رواه وكيع، عن الربيع بن سعد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر، فذكر مثله، وإسناده لا بأس به، ولم يخرجوه.
وجاء من حديث علي وأبي سعيد وبريده أن رسول الله قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما».
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن عمرو، ثنا إسماعيل ابن عياش، حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعد بن راشد، عن يعلى بن مرة.
قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله، فجاء أحدهما قبل الآخر فجعل يده تحت رقبته ثم ضمه إلى إبطه، ثم جاء الآخر فجعل يده إلى الأخرى في رقبته ثم ضمه إلى إبطه، وقبّل هذا، ثم قبّل هذا.
ثم قال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»، ثم قال: «أيها الناس إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة».
وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي خيثم، عن محمد بن الأسود بن خلف، عن أبيه: أن رسول الله أخذ حسنا فقبله، ثم أقبل عليهم فقال: «إن الولد مبخلة مجبنة».
وقال ابن خزيمة: ثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي، ثنا زيد بن الحباب ح، وقال أبو يعلى أبو خيثمة: ثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:
كان رسول الله ﷺ يخطب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر.
ثم قال: «صدق الله! { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ }، رأيت هذين الصبين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته».
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الحسين بن واقد.
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وقد رواه محمد الضمري، عن زيد بن أرقم، فذكر القصة للحسن وحده.
وفي حديث عبد الله بن شداد، عن أبيه، أن رسول الله صلى بهم إحدى صلاتي العشي فسجد سجدة أطال فيها السجود، فلما سلم قال الناس له في ذلك، قال: «إن ابني هذا - يعني: الحسن - ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».
وقال الترمذي: عن أبي الزبير، عن جابر، قال: دخلت على رسول الله وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع، فقلت: نعم الحمل حملكما فقال: «ونعم العدلان هما». على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقال أبو يعلى: ثنا أبو هاشم، ثنا أبو عامر، ثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: خرج رسول الله وهو حامل الحسن على عاتقه فقال له رجل: يا غلام، نعم المركب ركبت، فقال رسول الله: «ونعم الراكب هو».
وقال أحمد: حدثنا تليد بن سليمان، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.
قال: نظر رسول الله إلى علي وحسن وحسين وفاطمة فقال: «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم».
وقد رواه النسائي من حديث أبي نعيم، وابن ماجه من حديث وكيع، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي الحجاف داود بن أبي عوف، قال وكيع: وكان مريضا - عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله قال عن الحسن والحسين: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». وقد رواه أسباط عن السدي، عن صبيح مولى أم سلمة، عن زيد بن أرقم فذكره.
وقال بقية: عن بجير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله يقول: «الحسن مني والحسين من علي». فيه نكارة لفظا ومعنى.
وقال أحمد: ثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عوف، عن عمير بن إسحاق.
قال: كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال: أرني أقبّل منك حيث رأيت رسول الله يقبّل، فقال: بقميصه، قال: فقبّل سرته.
تفرد به أحمد، ثم رواه عن إسماعيل بن علية، عن ابن عوف.
وقال أحمد: ثنا هاشم بن القاسم، عن جرير، عن عبد الرحمن أبي عوف الجرشي، عن معاوية.
قال رأيت رسول الله يمص لسانه - أو قال شفته يعني: الحسن بن علي - وإنه لن يُعذب لسان أو شفتان يمصهما رسول الله ﷺ. تفرد به أحمد.
وقد ثبت في الصحيح عن أبي بكرة.
وروى أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
وقد تقدم هذا الحديث في دلائل النبوة، وتقدم قريبا عند نزول الحسن لمعاوية عن الخلافة، ووقع ذلك تصديقا لقوله ﷺ.
هذا، وكذلك ذكرناه في كتاب دلائل النبوة ولله الحمد والمنة.
وقد كان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه.
وكذلك عمر ابن الخطاب، فروى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبيه: أن عمر لما عمل الديوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف، وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما.
وقد كان الحسن بن علي يوم الدار - وعثمان بن عفان محصور - عنده ومعه السيف متقلدا به يحاجف عن عثمان فخشي عثمان عليه فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييبا لقلب علي، وخوفا عليه رضي الله عنهم.
وكان علي يكرم الحسن إكراما زائدا، ويعظمه ويبجله، وقد قال له يوما: يا بني ألا تخطب حتى أسمعك؟
فقال: إني أستحي أن أخطب وأنا أراك، فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيبا وعليّ يسمع، فأدى خطبة بليغة فصيحة.
فلما انصرف جعل علي يقول ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
وقد كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعم عليه.
وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما، رضي الله عنهما وأرضاهما.
وكان ابن الزبير يقول: والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي.
وقال غيره: كان الحسن إذا صلى الغداة في مسجد رسول الله يجلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلم عليهن وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله.
ولما نزل لمعاوية عن الخلافة من ورعه صيانة لدماء المسلمين، كان له على معاوية في كل عام جائزة، وكان يفد إليه، فربما أجازه بأربعمائة ألف درهم، وراتبه في كل سنة مائة ألف.
فانقطع سنة عن الذهاب، وجاء وقت الجائزة فاحتاج الحسن إليها - وكان من أكرم الناس - فأراد أن يكتب إلى معاوية ليبعث بها إليه.
فلما نام تلك الليلة رأى رسول الله في المنام فقال له: «يا بني أتكتب إلى مخلوق بحاجتك؟» وعلمه دعاء يدعو به.
فترك الحسن ما كان همّ به من الكتابة، فذكره معاوية وافتقده، وقال: ابعثوا إليه بمائتي ألف فلعل له ضرورة في تركه القدوم علينا، فحملت إليه من غير سؤال.
قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: الحسن بن علي مدني ثقة.
حكاه ابن عساكر في تاريخه.
قالوا: وقاسم الله ماله ثلاث مرات، وخرج من ماله مرتين، وحج خمسا وعشرين مرة ماشيا وإن الجنائب لتقاد بين يديه.
وروى ذلك البيهقي من طريق عبيد الله بن عمير، عن ابن عباس وقال: علي بن زيد بن جدعان.
وقد علق البخاري في صحيحه: أنه حج ماشيا والجنائب تقاد بين يديه.
وروى داود بن رشيد، عن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: حج الحسن بن علي ماشيا والجنائب تقاد بين يديه ونجائبه تقاد إلى جنبه.
وقال العباس بن الفضل: عن القاسم، عن محمد بن علي قال: قال الحسن بن علي: إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة إلى المدينة على رجليه.
قالوا: وكان يقرأ في بعض خطبه سورة إبراهيم، وكان يقرأ كل ليلة سورة الكهف قبل أن ينام، يقرأها من لوح كان يدور معه حيث كان من بيوت نسائه، فيقرأه بعد ما يدخل في الفراش قبل أن ينام رضي الله عنه.
وقد كان من الكرم على جانب عظيم
قال محمد بن سيرين: ربما أجاز الحسن بن علي على الرجل الواحد بمائة ألف.
وقال سعيد بن عبد العزيز: سمع الحسن رجلا إلى جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة آلاف درهم، فقام إلى منزله فبعث بها إليه.
وذكروا أن الحسن رأى غلاما أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلبا هناك لقمة، فقال له: ما حملك على هذا؟
فقال: إني أستحي منه أن آكل ولا أطعمه.
فقال له الحسن: لا تبرح من مكانك حتى آتيك، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملّكه الحائط.
فقال الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له.
قالوا: وكان كثير التزوج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقا مصداقا.
يقال: إنه أحصن سبعين امرأة.
وذكروا أنه طلق امرأتين في يوم، واحدة من بني أسد، وأخرى من بني فزارة - فزارية - وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرة آلاف، وبزقاق من عسل.
وقال للغلام: اسمع ما تقول كل واحدة منهما.
فأما الفزارية فقالت: جزاه الله خيرا، ودعت له.
وأما الأسدية فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
فرجع الغلام إليه بذلك فارتجع الأسدية وترك الفزارية.
وقد كان علي يقول لأهل الكوفة: لا تزوجوه فإنه مطلاق.
فيقولون: والله يا أمير المؤمنين لو خطب إلينا كل يوم لزوجناه منا من شاء ابتغاء في صهر رسول الله ﷺ.
وذكروا أنه نام مع امرأته خولة بنت منظور الفزاري -وقيل: هند بنت سهيل - فوق إجار فعمدت المرأة فربطت رجله بخمارها إلى خلخالها، فلما استيقظ قال لها: ما هذا؟
فقالت: خشيت أن تقوم من وسن النوم فتسقط فأكون أشأم سخلة على العرب، فأعجبه ذلك منها، واستمر بها سبعة أيام بعد ذلك.
وقال أبو جعفر الباقر: جاء رجل إلى الحسين بن علي فاستعان به في حاجة، فوجده معتكفا فاعتذر إليه، فذهب إلى الحسن فاستعان به فقضى حاجته، وقال: لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليّ من اعتكاف شهر.
وقال هشيم: عن منصور، عن ابن سيرين قال: كان الحسن بن علي لا يدعو إلى طعامه أحدا يقول: هو أهون من أن يدعى إليه أحد.
وقال أبو جعفر: قال علي: يا أهل الكوفة، لا تزوجوا الحسن بن علي فإنه مطلاق.
فقال رجل من همذان: والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، وما كره طلق.
وقال أبو بكر الخرائطي - في كتاب مكارم الأخلاق -: ثنا ابن المنذر - هو إبراهيم - ثنا القواريري، ثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد بن سيرين قال:
تزوج الحسن بن علي امرأة فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم.
وقال عبد الرزاق: عن الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: متع الحسن بن علي امرأتين بعشرين ألفا وزقاق من عسل، فقالت إحداهما - وأراها الحنفية - متاع قليل من حبيب مفارق.
وقال الواقدي: حدثني علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين قال: كان الحسن بن علي مطلاقا للنساء، وكان لا يفارق امرأة إلا وهي تحبه.
وقال جويرية بن أسماء: لما مات الحسن بكى عليه مروان في جنازته.
فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟
فقال: إني كنت أفعل إلى أحلم من هذا، وأشار هو إلى الجبل.
وقال محمد بن سعد: أنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن ابن عون، عن محمد بن إسحاق قال: ما تكلم عندي أحد كان أحب إليّ إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي.
وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بينه وبين عمرو بن عثمان خصومة فقال: ليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط.
قال محمد بن سعد: وأنا الفضل بن دكين، أنا مساور الجصاص، عن رزين بن سوار قال: كان بين الحسن ومروان خصومة، فجعل مروان يغلظ للحسن وحسن ساكت، فامتخط مروان بيمينه.
فقال له الحسن: ويحك! أما علمت أن اليمنى للوجه، والشمال للفرج؟ أفٍ لك.
فسكت مروان.
وقال أبو العباس: محمد بن يزيد المبرد، قيل للحسن بن علي: إن أبا زر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إليّ من الصحة، فقال: رحم الله أبا زر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَ أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له.
وهذا أحد الوقوف على الرضا بما تعرف به القضاء.
وقال أبو بكر محمد بن كيسان الأصم: قال الحسن ذات يوم لأصحابه:
إني أخبركم عن أخٍ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجا عن سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجا عن سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه.
وكان خارجا عن سلطان جهله فلا يمد يدا إلا على ثقة المنفعة، ولا يخطو خطاة إلا لحسنة، وكان لا يسخط ولا يتبرم.
كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على الصمت، كان أكثرهم دهره صامتا، فإذا قال يذر القائلين.
وكان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مراء، ولا يدلي بحجة، حتى يرى قاضيا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول تفضلا وتكرما، كان لا يغفل عن إخوانه ولا يستخص بشيء دونهم.
كان لا يكرم أحدا فيما يقع العذر بمثله، كان إذا ابتداه أمران لا يرى أيهما أقرب إلى الحق نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه.
رواه ابن عساكر والخطيب.
وقال أبو الفرج المعافي بن زكريا الحريري: ثنا بدر بن الهيثم الحضرمي، ثنا علي بن المنذر الطريفي، ثنا عثمان ابن سعيد الدارمي، ثنا محمد بن عبد الله أبو رجاء - من أهل تستر - ثنا شعبة بن الحجاج الواسطي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث الأعور أن عليا سأل ابنه - يعني الحسن - عن أشياء من المروءة فقال: يا بني ما السداد؟.
قال: يا أبة السداد دفع المنكر بالمعروف.
قال: فما الشرف؟.
قال: اصطناع العشيرة، وحمل الجريرة.
قال: فما المروءة؟.
قال: العفاف وإصلاح المرء ماله.
قال: فما الدنيئة؟.
قال: النظر في اليسير ومنع الحقير.
قال: فما اللوم؟.
قال: احتراز المرء نفسه وبذله عرسه.
قال: فما السماحة؟.
قال: البذل في العسر واليسر.
قال: فما الشح؟.
قال: أن ترى ما في يديك سرفا، وما أنفقته تلفا.
قال. فما الإخاء؟.
قال: الوفاء في الشدة والرخاء.
قال: فما الجبن؟.
قال: الجرأة على الصديق، والنكول عن العدو.
قال: فما الغنيمة؟.
قال: الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا.
قال: فما الحلم؟.
قال: كظم الغيظ، وملك النفس.
قال: فما الغنى؟.
قال: رضى النفس بما قسم الله لها، وإن قلّ، فإنما الغنى غنى النفس.
قال: فما الفقر؟.
قال: شره النفس في كل شيء.
قال: فما المنعة؟.
قال: شدة البأس ومقارعة أشد الناس.
قال: فما الذل؟.
قال: الفزع عند المصدوقية.
قال: فما الجرأة؟.
قال: موافقة الأقران.
قال: فما الكلفة؟.
قال: كلامك فيما لا يعنيك.
قال: فما المجد؟.
قال: أن تعطي في الغرم وأن تعفو عن الجرم.
قال: فما العقل؟.
قال: حفظ القلب كل ما استرعيته.
قال: فما الخرق؟.
قال: معاداتك إمامك، ورفعك عليه كلامك.
قال: فما الثناء؟.
قال: إتيان الجميل، وترك القبيح.
قال: فما الحزم؟.
قال: طول الأناة، والرفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم.
قال: فما الشرف؟.
قال: موافقة الإخوان، وحفظ الجيران.
قال: فما السفه؟.
قال: اتباع الدناة، ومصاحبة الغواة.
قال: فما الغفلة؟.
قال: تركك المسجد، وطاعتك المفسد.
قال: فما الحرمان؟.
قال: تركك حظك وقد عرض عليك.
قال: فمن السيد؟.
قال: الأحمق في المال المتهاون بعرضه، يشتم فلا يجيب، المتحرن بأمر العشيرة هو السيد.
قال: ثم قال علي: يا بني سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أفضل من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء، ورأس الإيمان الصبر، وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الطرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحب الفخر».
ثم قال علي: يا بني لا تستخفن برجل تراه أبدا، فإن كان أكبر منك فعدّه أباك، وإن كان مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك.
فهذا ما سأل علي ابنه عن أشياء من المروءة.
قال القاضي أبو الفرج: ففي هذا الخبر من الحكمة، وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه، وحفظه ووعاه وعمل به وأدب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده.
وفيما رواه أمير المؤمنين وأضعافه عن النبي ﷺ ما لا غنى لكل لبيب عليم، وقدرة حكيم، عن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتلقيه، والمجدود من وفق لامتثاله وتقبله.
قلت: ولكن إسناد هذا الأثر وما فيه من الحديث المرفوع ضعيف، ومثل هذه الألفاظ في عبارتها ما يدل ما في بعضها من النكارة على أنه ليس بمحفوظ، والله أعلم.
وقد ذكر الأصمعي والعتبي والمدائني وغيرهم: أن معاوية سأل الحسن عن أشياء تشبه هذا، فأجابه بنحو ما تقدم، لكن هذا السياق أطول بكثير مما تقدم، فالله أعلم.
وقال علي بن العباس الطبراني: كان على خاتم الحسن بن علي مكتوبا:
قدم لنفسك ما استطعت من التقى * إن المنية نازلة بك يا فتى
أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى * أحباب قلبك في المقابر والبلى
قال الإمام أحمد: حدثنا مطلب بن زياد بن محمد، ثنا محمد بن أبان، قال: قال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه: تعلموا فإنكم صغار قوم اليوم وتكونوا كبارهم غدا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب.
ورواه البيهقي: عن الحاكم، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه.
وقال محمد بن سعد: ثنا الحسن بن موسى، وأحمد بن يونس قالا: ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو إسحاق، عن عمرو الأصم، قال: قلت للحسن بن علي: إن هذه الشيعة تزعم أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة.
قال: كذبوا، والله! ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني أبو علي سويد الطحان، ثنا علي بن عاصم، ثنا أبو ريحانة، عن سفينة، عن النبي ﷺ قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة».
فقال رجل كان حاضرا في المجلس: قد دخلت من هذه الثلاثين ستة شهور في خلافة معاوية.
فقال: من هاهنا أتيت تلك الشهور كانت البيعة للحسن بن علي، بايعه أربعون ألفا أو اثنان وأربعون ألفا.
وقال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: بايع الحسن تسعون ألفا فزهد في الخلافة وصالح معاوية، ولم يسل في أيامه محجمة من دم.
وقال ابن أبي خيثمة: وحدثنا أبي، ثنا وهب بن جرير قال: قال أبي: فلما قُتل علي بايع أهل الكوفة الحسن بن علي وأطاعوه، وأحبوه أشد من حبهم لأبيه.
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، عن ابن شوذب قال: لما قتل علي سار الحسن في أهل العراق، وسار معاوية في أهل الشام، فالتقوا فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن جعل العهد للحسن من بعده.
قال: فكان أصحاب الحسن يقولون: يا عار المؤمنين.
قال: فيقول لهم: العار خير من النار.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا العباس بن هشام، عن أبيه قال: لما قُتل علي بايع الناس الحسن بن علي فوليها سبعة وأحد عشر يوما.
وقال غير عباس: بايع الحسن أهل الكوفة، وبايع أهل الشام معاوية بإيلياء بعد قتل علي، وبويع بيعة العامة ببيت المقدس يوم الجمعة من آخر سنة أربعين.
ثم لقي الحسن معاوية بمسكن - من سواد الكوفة - في سنة إحدى وأربعين فاصطلحا، وبايع الحسن معاوية.
وقال غيره: كان صلحهما ودخول معاوية الكوفة في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين.
وقد تكلمنا على تفصيل ذلك فيما تقدم بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وحاصل ذلك أنه اصطلح مع معاوية على أن يأخذ ما في بيت المال الذي بالكوفة، فوفى له معاوية بذلك، فإذا فيه خمسة آلاف ألف.
وقيل: سبعة آلاف ألف، وعلى أن يكون خراج.
وقيل: دار أبجرد له في كل عام، فامتنع أهل تلك الناحية عن أداء الخراج إليه، فعوضه معاوية عن كل ستة آلاف ألف درهم في كل عام، فلم يزل يتناولها مع ماله في كل زيادة من الجوائز والتحف والهدايا، إلى أن توفي في هذا العام.
وقال محمد بن سعد: عن هودة بن خليفة، عن عوف، عن محمد بن سيرين قال: لما دخل معاوية الكوفة، وبايعه الحسن بن علي قال أصحاب معاوية لمعاوية:
مرْ الحسن بن علي أن يخطب فإنه حديث السن عيني، فلعله يتلعثم فيتضع في قلوب الناس.
فأمره فقام فاختطب فقال في خطبته: أيها الناس، لو اتبعتم بين جابلق وجابرس رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا لمعاوية، ورأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها، والله ما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين - وأشار إلى معاوية - فغضب من ذلك، وقال: ما أردت من هذه؟
قال: أردت منها ما أراد الله منها.
فصعد معاوية وخطب بعده.
وقد رواه غير واحد، وقدمنا أن معاوية عتب على أصحابه.
وقال محمد بن سعد: ثنا أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن يزيد قال:
سمعت جبير بن نفير الحضرمي يحدث عن أبيه قال: قلت للحسن بن علي: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة؟.
فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله، ثم أثيرها ثانيا من أهل الحجاز.
وقال محمد بن سعد: أنا علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أسلم قال:
دخل رجل على الحسن بن علي وهو بالمدينة، وفي يده صحيفة فقال: ما هذه؟
فقال: ابن معاوية يعدنيها ويتوعد.
قال: قد كنت على النّصف منه.
قال: أجل، ولكن خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا، أو ثمانون ألفا، أو أكثر أو أقل، تنضح أوداجهم دما، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه.
وقال الأصمعي: عن سلام بن مسكين، عن عمران بن عبد الله قال:
رأى الحسن بن علي في منامه أنه مكتوب بين عينيه «قل هو الله أحد»، ففرح بذلك، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: إن كان رأى هذه الرؤيا فقلّ ما بقي من أجله.
قال: فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلا أياما حتى مات.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن صالح العتكي، ومحمد بن عثمان العجلي قالا: ثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق.
قال: دخلت أنا ورجل آخر من قريش على الحسن بن علي، فقام فدخل المخرج ثم خرج، فقال: لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود، ولقد سقيت السم مرارا، وما سقيت مرة هي أشد من هذه.
قال: وجعل يقول لذلك الرجل: سلني قبل أن لا تسألني.
فقال: ما أسألك شيئا يعافيك الله.
قال: فخرجنا من عنده، ثم عدنا إليه من الغد.
وقد أخذ في السوق، فجاء حسين حتى قعد عند رأسه فقال: أي أخي! من صاحبك؟
قال: تريد قتله.
قال: نعم!.
قال: لئن كان صاحبي الذي أظن لله أشد نقمة.
وفي رواية: فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا، وإن لم يكنه ما أحب أن تقتل بي بريئا.
ورواه محمد بن سعد، عن ابن علية، عن أبي عون.
وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور.
قالت: الحسن سقي مرارا كل ذلك يفلت منه، حتى كانت المرة الآخرة التي مات فيها، فإنه كان يختلف كبده، فلما مات أقام نساء بني هاشم عليه النوح شهرا.
وقال الواقدي: وحدثنا عبدة بنت نائل، عن عائشة قالت: حد نساء بني هاشم على الحسن بن علي سنة.
قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن حسن قال: كان الحسن بن علي كثير نكاح النساء، وكان قل ما يحظين عنده، وكان قل امرأة تزوجها إلا أحبته وضنت به.
فيقال: أنه كان سُقي سما، ثم أفلت، ثم سُقي فأفلت، ثم كانت الآخرة توفي فيها.
فلما أحضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه: هذا رجل قطع السم أمعاءه.
فقال الحسين: يا أبا محمد أخبرني من سقاك؟
قال: ولما يا أخي؟
قال: أقتله والله قبل أن أدفنك، ولا أقدر عليه أو يكون بأرض أتكلف الشخوص إليه.
فقال: يا أخي إنما هذه الدنيا ليال فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يسميه.
وقد سمعت بعض من يقول: كان معاوية قد تلطف لبعض خدمه أن يسقيه سما.
قال محمد بن سعد: وأنا يحيى بن حمال أنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أم موسى أن جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم، فاشتكى منه شكاة، قال: فكان يوضع تحته طشت ويرفع آخر نحوا من أربعين يوما.
وروى بعضهم: أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث: أن سمي الحسن، وأنا أتزوجك بعده.
ففعلت، فلما مات الحسن، بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن افنرضاك لأنفسنا؟.
وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبي معاوية بطريق الأولى والأحرى، وقد قال كثير نمرة في ذلك:
يا جعد بكِّيه ولا تسأمي * بكاء حقٍ ليس بالباطل
لن تستري البيت على مثله * في الناس من حاف ولا ناعل
أعني الذي أسلمه أهله * للزمن المستخرج الماحل
كان إذا شبت له ناره * يرفعها بالنسب الماثل
كما يراها بائس مرمل * أو فرد قوم ليس بالآهل
تغلي بنيَّ اللحم حتى إذا * أنضج لم تغل على آكل
قال سفيان بن عيينة: عن رقبة بن مصقلة، قال لما احتضر الحسن بن علي قال:
أخرجوني إلى الصحن أنظر في ملكوت السموات.
فأخرجوا فراشه، فرفع رأسه فنظر، فقال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس عليّ.
قال: فكان مما صنع الله له أنه احتسب نفسه عنده.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لما اشتد بسفيان الثوري المرض جزع جزعا شديدا، فدخل عليه مرحوم بن عبد العزيز فقال: ما هذا الجزع يا أبا عبد الله؟ تقدم على رب عبدته ستين سنة، صمت له، صليت له، حججت له، قال: فسري عن الثوري.
وقال أبو نعيم: لما اشتد بالحسن بن علي الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له:
يا أبا محمد، ما هذا الجزع؟ ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك، فتقدم على أبويك علي وفاطمة، وعلى جديك النبي ﷺ وخديجة، وعلى أعمامك حمزة وجعفر، وعلى أخوالك القاسم الطيب ومطهر وإبراهيم، وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب، قال: فسرى عنه.
وفي رواية: أن القائل له ذلك الحسين، وأن الحسن قال له: يا أخي إني أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقا من خلق الله لم أر مثله قط.
قال: فبكى الحسين رضي الله عنهما.
رواه عباس الدوري، عن ابن معين، ورواه بعضهم عن جعفر بن محمد، عن أبيه فذكر نحوهما.
وقال الواقدي: ثنا إبراهيم بن الفضل، عن أبي عتيق قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول:
شهدنا حسن بن علي يوم مات وكادت الفتنة تقع بين الحسين بن علي ومروان بن الحكم، وكان الحسن قد عهد إلى أخيه أن يدفن مع رسول الله، فإن خاف أن يكون في ذلك قتال أو شر فليدفن بالبقيع.
فأبى مروان أن يدعه - ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية - ولم يزل مروان عدوا لبني هاشم حتى مات.
قال جابر: فكلمت يومئذ حسين بن علي فقلت: يا أبا عبد الله اتق الله ولا تثر فتنة، فإن أخاك كان لا يحب ما ترى، فادفنه بالبقيع مع أمه ففعل.
ثم روى الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن عمر قال:
حضرت موت الحسن بن علي فقلت للحسين بن علي: اتق الله، ولا تثر فتنة ولا تسفك الدماء، وادفن أخاك إلى جانب أمه، فإن أخاك قد عهد بذلك إليك، قال: ففعل الحسين.
وقد روى الواقدي: عن أبي هريرة نحوا من هذا.
وفي رواية: أن الحسن بعث يستأذن عائشة في ذلك، فأذنت له.
فلما مات لبس الحسين السلاح، وتسلح بنو أمية، وقالوا: لا ندعه يدفن مع رسول الله ﷺ، أيدفن عثمان بالبقيع، ويدفن الحسن بن علي في الحجرة؟
فلما خاف الناس وقوع الفتنة أشار سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر، على الحسين أن لا يقاتل، فامتثل ودفن أخاه قريبا من قبر أمه بالبقيع، رضي الله عنه.
وقال سفيان الثوري: عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم قال: رأيت الحسين بن علي قدّم يومئذ سعيد بن العاص فصلى على الحسن وقال: لولا أنها سنة ما قدمته.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني مساور مولى بني سعد بن بكر قال: رأيت أبا هريرة قائما على مسجد رسول الله يوم مات الحسن بن علي، وهو ينادى بأعلا صوته:
يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله فابكوا.
وقد اجتمع الناس لجنازته حتى ما كان البقيع يسع أحدا من الزحام.
وقد بكاه الرجال والنساء سبعا، واستمر نساء بني هاشم ينحن عليه شهرا، وحدّت نساء بني هاشم عليه سنة.
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال:
قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات لها حسن، وقتل لها الحسين رضي الله عنهم.
وقال شعبة: عن أبي بكر بن حفص قال: توفي سعد، والحسن بن علي في أيام بعد ما مضى من إمارة معاوية عشر سنين.
وقال علية: عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: توفي الحسن وهو ابن سبع وأربعين، وكذا قال غير واحد، وهو أصح.
والمشهور أنه مات سنة تسع وأربعين كما ذكرنا.
وقال آخرون: مات سنة خمسين.
وقيل: سنة إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين.
سنة خمسين من الهجرة
ففي هذه السنة توفي أبو موسى الأشعري في قول، والصحيح سنة ثنتين وخمسين كما سيأتي.
فيها: حج بالناس معاوية.
وقيل: ابنه يزيد، وكان نائب المدينة في هذه السنة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة، والبصرة، والمشرق، وسجستان، وفارس، والسند، والهند زياد.
وفي هذه السنة: اشتكى بنو نهشل على الفرزدق إلى زياد فهرب منه إلى المدينة، وكان سبب ذلك أنه عرّض بمعاوية في قصيدة له فتطلبه زياد أشد الطلب ففر منه إلى المدينة، فاستجار بسعيد بن العاص، وقال في ذلك أشعارا، ولم يزل فيما بين مكة والمدينة حتى توفي زياد فرجع إلى بلاده، وقد طول ابن جرير هذه القصة.
وقد ذكر ابن جرير في هذه السنة من الحوادث ما رواه من طريق الواقدي: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار عن أبيه أن معاوية كان قد عزم على تحويل المنبر النبوي من المدينة إلى دمشق وأن يأخذ العصاة التي كان النبي ﷺ يمسكها في يده إذا خطب فيقف على المنبر وهو ممسكها، حتى قال أبو هريرة، وجابر بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، نذكرك الله أن تفعل هذا فإن هذا، لا يصلح أن يخرج المنبر من موضع وضعه فيه رسول الله ﷺ، وأن يخرج عصاه من المدينة.
فترك ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ست درجات واعتذر إلى الناس.
ثم روى الواقدي: أن عبد الملك بن مروان في أيامه عزم على ذلك أيضا، فقيل له: إن معاوية كان قد عزم على هذا ثم ترك، وأنه لما حرك المنبر خسفت الشمس فترك.
ثم لما حج الوليد بن عبد الملك أراد ذلك أيضا، فقيل له: إن معاوية وأباك أرادا ذلك ثم تركاه، وكان السبب في تركه أن سعيد بن المسيب كلم عمر بن عبد العزيز أن يكلمه في ذلك ويعظه فترك.
ثم لما حج سليمان أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان عزم عليه الوليد، وأن سعيد بن المسيب نهاه عن ذلك.
فقال: ما أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد، وما يكون لنا أن نفعل هذا، مالنا وله، وقد أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، فنريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يفد إليه الناس فنحمله إلى ما قبلنا.
هذا ما لا يصلح رحمه الله.
وفي هذه السنة: عزل معاوية عن مصر معاوية بن خديج، وولى عليها من إفريقية مسلمة بن مخلّد.
وفيها: افتتح عقبة بن نافع الفهري عن أمر معاوية بلاد أفريقية، واختط القيروان - وكان غيضة تأوي إليها السباع والوحوش والحيات العظام.
فدعا الله تعالى فلم يبق فيها شيء من ذلك، حتى إن السباع صارت تخرج منها تحمل أولادها، والحيات يخرجن من أجمارهن هوارب - فأسلم خلق كثير من البربر فبنى في مكانها القيروان.
وفيها: غزا بسر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف أرض الروم.
وفيها: غزا فضالة بن عبيد البحر.
وفيها توفي مدلاج بن عمرو السلمي صحابي جليل
شهد المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ، ولم أر له ذكرا في الصحابة.
صفية بنت حيي بن أخطب
ابن شعبة بن ثعلبة بن عبد كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن نحوم، أم المؤمنين النضرية من سلالة هارون عليه السلام.
وكانت مع أبيها وابن عمها أخطب بالمدينة، فلما أجلى رسول الله ﷺ بني النضير ساروا إلى خيبر.
وقتل أبوها مع بني قريظة صبرا كما قدمنا فلما فتح رسول الله ﷺ خيبر كانت في جملة السبي، فوقعت في سهم دحية بن خليفة الكلبي، فذكر له جمالها، وأنها بنت ملكهم، فاصطفاها لنفسه وعوضه منها، وأسلمت وأعتقها وتزوجها.
فلما حلت بالصهباء بنى بها، وكانت ماشطتها أم سليم، وقد كانت تحت ابن عمها كنانة بن أبي الحقيق فقتل في المعركة، ووجد رسول الله بخدها لطمة فقال: «ما هذه؟»
فقالت: إني رأيت كأن القمر أقبل من يثرب فسقط في حجري فقصيّت المنام على ابن عمي فلطمني، وقال: تتمنين أن يتزوجك ملك يثرب؟ فهذه من لطمته.
وكانت من سيدات النساء عبادةً وورعا وزهادةً وبرا وصدقة، رضي الله عنها وأرضاها.
قال الواقدي: توفيت سنة خمسين.
وقال غيره: سنة ست وثلاثين، والأول أصح.
وأما أم شريك الأنصارية
ويقال: العامرية، فهي التي وهبت نفسها للنبي ﷺ، فقيل قبلها.
وقيل: لم يقبلها، ولم تتزوج حتى مات رضي الله عنها وهي التي سقيت بدلو من السماء لما منعها المشركون الماء، فأسلموا عند ذلك.
واسمها: غزية.
وقيل: عزيلة بني عامر على الصحيح.
قال ابن الجوزي: ماتت سنة خمسين ولم أره لغيره.
وأما عمرو بن أمية الضمري
فصحابي جليل، أسلم بعد أُحد، وأول مشاهدة بئر معونة، وكان ساعي رسول الله ﷺ بعثه إلى النجاشي في تزويج أم حبيبة، وأن يأتي بمن بقي من المسلمين، وله أفعال حسنة، وآثار محمودة رضي الله عنه، توفي في خلافة معاوية.
وذكر أبو الفرج ابن الجوزي - في كتابه المنتظم -: أن في هذه السنة توفي جبير بن مطعم وحسان بن ثابت، والحكم بن عمرو الغفاري، ودحية بن خليفة الكلبي، وعقيل بن أبي طالب، وعمرو بن أمية الضمري بدري، وكعب بن مالك، والمغيرة بن شعبة، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي، وأم شريك الأنصارية. رضي الله عنهم أجمعين.
أما جبير بن مطعم
ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي أبو محمد.
وقيل: أبو عدي المدني، فإنه قدم وهو مشرك في فداء أسارى بدر، فلما سمع قراءة رسول الله ﷺ في سورة الطور: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [7] دخل في قلبه الإسلام، ثم أسلم عام خيبر.
وقيل: زمن الفتح، والأول أصح.
وكان من سادات قريش وأعلمها بالأنساب، أخذ ذلك عن الصديق، والمشهور أنه توفي سنة ثمان وخمسين.
وقيل: سنة تسع وخمسين.
وأما حسان بن ثابت
شاعر الإسلام فالصحيح أنه توفي سنة أربع وخمسين كما سيأتي.
وأما الحكم بن عمر بن مجدع الغفاري
أخو رافع بن عمرو، ويقال له: الحكم بن الأقرع، فصحابي جليل له عند البخاري حديث واحد في النهي عن لحوم الحمر الأنسية.
استنابه زياد بن أبيه على غزو جبل الأشل فغنم شيئا كثيرا، فجاء كتاب زياد إليه على لسان معاوية أن يصطفي من الغنيمة لمعاوية ما فيها من الذهب والفضة لبيت ماله فرد عليه: إن كتاب الله قبل كتاب المؤمنين، أَوَلم يسمع لقوله عليه السلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؟»، وقسم في الناس غنائمهم.
فيقال: إنه حبس إلى أن مات بمرو في هذه السنة.
وقيل: في سنة إحدى وخمسين رحمه الله.
وأما دحية بن خليفة الكلبي
فصحابي جليل، كان جميل الصورة، فلهذا كان جبريل يأتي كثيرا في صورته، وكان رسول الله ﷺ أرسله إلى قيصر، أسلم قديما ولكن لم يشهد بدرا، وشهد ما بعدها، ثم شهد اليرموك، وأقام بالمزة - غربي دمشق - إلى أن مات في خلافة معاوية.
وفيها: توفي عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي أبو سعيد العبشمي، أسلم يوم الفتح.
وقيل: شهد موته، وغزا خراسان، وافتتح سجستان وكابل وغيرها، وكانت له دار بدمشق وأقام بالبصرة.
وقيل: بمرو، قال محمد بن سعد وغير واحد: مات بالبصرة سنة خمسين.
وقيل: سنة إحدى وخمسين، وصلى عليه زياد، وترك عدة من الذكور، وكان اسمه في الجاهلية عبد كلال.
وقيل: عبد كلوب.
وقيل: عبد الكعبة، فسماه رسول ﷺ عبد الرحمن.
وهو كان أحد السفيرين بين معاوية والحسن رضي الله عنهما.
وفيها: توفي عثمان بن أبي العاص الثقفي، أبو عبد الله الطائفي، له ولأخيه الحكم صحبة، قدم على رسول الله ﷺ في وفد ثقيف فاستعمله رسول الله على الطائف، وأمّره عليها أبو بكر وعمر، فكان أميرهم وإمامهم مدة طويلة حتى مات سنة خمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه.
وأما عقيل بن أبي طالب
أخو علي فكان أكبر من جعفر بعشر سنين، وجعفر أكبر من علي بعشر سنين، كما أن طالب أكبر من عقيل بعشر، وكلهم أسلم إلا طالبا، أسلم عقيل قبل الحديبية وشهد مؤتة.
وكان من أنسب قريش، وكان قد ورث أقرباءه الذين هاجروا وتركوا أموالهم بمكة، ومات في خلافة معاوية.
وفيها: كانت وفاة عمرو بن الحمق بن الكاهن الخزاعي، أسلم قبل الفتح وهاجر.
وقيل: إنه إنما أسلم عام حجة الوداع.
وورد في حديث أن رسول الله دعا له أن يمتعه الله بشبابه، فبقي ثمانين سنة لا يُرى في لحيته شعرة بيضاء.
ومع هذا كان أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان، ثم صار بعد ذلك من شيعة علي، فشهد معه الجمل وصفين، وكان من جملة من أعان حجر بن عدي فتطلبه زياد فهرب إلى الموصل.
فبعث معاوية إلى نائبها فوجدوه قد اختفى في غار فنهشته حية فمات، فقطع رأسه فبعث به إلى معاوية، فطيف به في الشام وغيرها، فكان أول رأس طيف به.
ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد -وكانت في سجنه - فأُلقي في حجرها، فوضعت كفها على جبينه ولثمت فمه وقالت: غيبتموه عني طويلا، ثم أهديتموه إليّ قتيلا، فأهلا بها من هدية غير قالية ولا مقيلة.
وأما كعب بن مالك الأنصاري السلمي
شاعر الإسلام، فأسلم قديما وشهد العقبة ولم يشهد بدرا كما ثبت في الصحيحين في سياق توبة الله عليه، فإنه كان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم من تخلفهم عن غزوة تبوك كما ذكرنا ذلك مفصلا في التفسير، وكما تقدم في غزوة تبوك.
وغلط ابن الكلبي في قوله: إنه شهد بدرا، وفي قوله: إنه توفي قبل إحدى وأربعين، فإن الواقدي - وهو أعلم منه - قال: توفي سنة خمسين.
وقال القاسم بن عدي سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه.
المغيرة بن شعبة
ابن أبي عامر بن مسعود أبو عيسى ويقال: أبو عبد الله الثقفي، وعروة بن مسعود الثقفي عم أبيه.
كان المغيرة من دهاة العرب، وذوي آرائها، أسلم عام الخندق بعد ما قتل ثلاثة عشر من ثقيف، مرجعهم من عند المقوقس وأخذ أموالهم فغرم دياتهم عروة بن مسعود، وشهد الحديبية، وكان واقفا يوم الصلح على رأس رسول الله ﷺ بالسيف صلتا.
وبعثه رسول الله ﷺ بعد إسلام أهل الطائف هو وأبو سفيان بن حرب فهدما اللات، وقدمنا كيفية هدمهما إياها.
وبعثه الصديق إلى البحرين، وشهد اليمامة واليرموك فأصيبت عينه يومئذ.
وقيل: بل نظر إلى الشمس وهي كاسفة فذهب ضوء عينه.
وشهد القادسية، وولاه عمر فتوحا كثيرة، منه همدان وميسان، وهو الذي كان رسول سعد إلى رستم فكلمه بذلك الكلام البليغ، فاستنابه عمر على البصرة.
فلما شهد عليه بالزنا ولم يثبت عزله عنها وولاه الكوفة، واستمر به عثمان حينا ثم عزله، فبقي معتزلا حتى كان أمر الحكمين فلحق بمعاوية.
فلما قتل علي وصالح معاوية الحسن ودخل الكوفة ولاه عليها فلم يزل أميرها حتى مات في هذه السنة على المشهور. قاله محمد بن سعد وغيره.
وقال الخطيب: أجمع الناس على ذلك، وذلك في رمضان منها عن سبعين سنة.
وقال أبو عبيد: مات سنة تسع وأربعين.
وقال ابن عبد البر: سنة إحدى وخمسين.
وقيل: سنة ثمان وخمسين.
وقيل: سنة ست وثلاثين وهو غلط.
قال محمد بن سعد: وكان أصهب الشعر جدا، أكشف، مقلص الشفتين، أهتم ضخم الهامة، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، وكان يفرق رأسه أربعة قرون.
وقال الشعبي: القضاة أربعة أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبو موسى.
والدهاة أربعة: معاوية، وعمرو، والمغيرة، وزياد.
وقال الزهري: الدهاة في الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وكان معتزلا، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن بديل بن ورقاء، وكانا مع علي.
قلت: والشيعة يقولون: الأشباح خمسة: رسول الله ﷺ، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين.
والأضداد خمسة: أبو بكر، وعمر، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة.
وقال الشعبي: سمعت المغيرة يقول: ما غلبني أحد إلا فتى مرة، أردت أن أتزوج امرأة فاستشرته فيها.
فقال: أيها الأمير! لا أرى لك أن تتزوجها.
فقلت له: لِمَ؟
فقال: إني رأيت رجلا يقبلها.
ثم بلغني عنه أنه تزوجها.
فقلت له: ألم تزعم أنك رأيت رجلا يقبلها؟
فقال: نعم! رأيت أباها يقبلها وهي صغيرة.
وقال أيضا: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها.
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: كان المغيرة بن شعبة يقول: صاحب المرأة الواحدة يحيض معها، ويمرض معها، وصاحب المرأتين بين نارين يشتعلان، وصاحب الأربعة قرير العين، وكان يتزوج أربعة معا ويطلقهن معا.
وقال عبد الله بن نافع الصائغ: أحصن المغيرة ثلثمائة امرأة.
وقال غيره: ألف امرأة.
وقيل: مائة امرأة.
وقيل: ثمانين امرأة.
جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية
وكان سباها رسول ﷺ في غزوة المريسيع، وهي غزوة المصطلق، وكان أبوها ملكهم فأسلمت فأعتقها رسول الله ﷺ وتزوجها.
وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وكاتبها فأتت رسول الله تستعينه في كتابتها فقال: «أو خير من ذلك؟»
قالت: وما هو يا رسول الله ﷺ؟
قال: «أشتريك وأعتقك وأتزوجك».
فأعتقها فقال الناس: أصهار رسول الله ﷺ فاعتقوا ما بأيديهم من سبي بني المصطلق نحوا من مائة أهل بيت.
فقالت عائشة: لا أعلم امرأة أعظم بركة على أهلها منها.
وكان اسمها: برة، فسماها رسول الله ﷺ جويرية.
وكانت امرأة ملاحة - أي حلوة الكلام - توفيت في هذا العام سنة خمسين كما ذكره ابن الجوزي وغيره عن خمس وستين سنة.
وقال الواقدي: سنة ست وخمسين رضي الله عنها وأرضاها، والله أعلم.
سنة إحدى وخمسين
فيها: كان مقتل حجر بن عدي بن جبل بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكبر بن الحارث بن معاوية بن ثور بن يزيغ بن كندي الكوفي.
ويقال له: حجر الخير.
ويقال له: حجر بن الأدبر، لأن أباه عديا طعن موليا فسمي الأدبر، وهو من كندة من رؤساء أهل الكوفة.
قال ابن عساكر: وفد إلى النبي ﷺ، وسمع عليا وعمارا وشراحيل بن مرة، ويقال: شرحبيل بن مرة.
وروى عنه أبو ليلى مولاه، وعبد الرحمن بن عباس، وأبو البختري الطائي.
وغزا الشام في الجيش الذين افتتحوا عذراء، وشهد صفين مع علي أميرا.
وقيل: بعذراء من قرا دمشق، ومسجد قبره بها معروف.
ثم ساق ابن عساكر بأسانيده إلى حجر يذكر طرفا صالحا من روايته عن علي وغيره، وقد ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وذكر له وفادة، ثم ذكره في الأول من تابعي أهل الكوفة.
قال: وكان ثقة معروفا، ولم يرو عن غير علي شيئا.
قال ابن عساكر: بل قد روى عن عمار وشراحيل بن مرة.
وقال أبو أحمد العسكري: أكثر المحدثين لا يصححون له صحبة، شهد القادسية وافتتح برج عذراء، وشهد الجمل وصفين، وكان مع علي حجر الخير، وهو حجر بن عدي هذا - وحجر الشرف - وهو حجر بن يزيد بن سلمة بن مرة -.
وقال المرزباني: قد روي أن حجر بن عدي وفد إلى رسول الله ﷺ مع أخيه هانئ بن عدي، وكان هذا الرجل من عباد الناس وزهادهم، وكان بارا بأمه، وكان كثير الصلاة والصيام.
قال أبو معشر: ما أحدث قط إلا توضأ، ولا توضأ إلا صلى ركعتين.
هكذا قال غير واحد من الناس.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثني الأعمش، عن أبي إسحاق.
قال: قال سلمان لحجر: يا ابن أم حجر لو تقطعت أعضاؤك ما بلغت الإيمان، وكان إذ كان المغيرة بن شعبة على الكوفة إذا ذكر عليا في خطبته يتنقصه بعد مدح عثمان وشيعته فيغضب حجر هذا ويظهر الإنكار عليه.
ولكن كان المغيرة فيه حلم وإناة، فكان يصفح عنه ويعظه فيما بينه وبينه، ويحذره غب هذا الصنيع، فإن معارضة السلطان شديد وبالها، فلم يرجع حجر عن ذلك.
فلما كان في آخر أيام المغيرة قام حجر يوما، فأنكر عليه في الخطبة وصاح به وذمه بتأخيره العطاء عن الناس، وقام معه فئام الناس لقيامه، يصدقونه ويشنعون على المغيرة.
ودخل المغيرة بعد الصلاة قصر الإمارة ودخل معه جمهور الأمراء، فأشاروا عليه بردع حجر هذا عما تعاطاه من شق العصى، والقيام على الأمير، وذمروه وحثوه على التنكيل فصفح عنه وحلم به.
وذكر يونس بن عبيد أن معاوية كتب إلى المغيرة يستمد بمالٍ يبعثه من بيت المال، فبعث عيرا تحمل مالا فاعترض لها حجر، فأمسك بزمام أولها وقال: لا والله حتى يوفى كل ذي حق حقه.
فقال شباب ثقيف للمغيرة: ألا نأتيك برأسه؟
فقال: ما كنت لأفعلن ذلك بحجر، فتركه.
فلما بلغ معاوية ذلك عزل المغيرة وولىّ زيادا، والصحيح أنه لم يعزل المغيرة حتى مات.
فلما توفي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وجمعت الكوفة مع البصرة لزياد دخلها وقد التف على حجر جماعات من شيعة علي يقولون أمره ويشدون على يده، ويسبون معاوية، ويتبرأون منه.
فلما كان أول خطبة خطبها زياد بالكوفة، ذكر في آخرها فضل عثمان وذم من قتله أو أعان على قتله.
فقام حجر كما كان يقوم في أيام المغيرة، وتكلم بنحو مما قال المغيرة، فلم يعرض له زياد، ثم ركب زياد إلى البصرة، وأراد أن يأخذ حجرا معه إلى البصرة لئلا يحدث حدثا.
فقال: إني مريض.
فقال: والله إنك لمريض الدين والقلب والعقل، والله لئن أحدثت شيئا لأسعين في قتلك.
ثم سار زياد إلى البصرة فبلغه أن حجرا وأصحابه أنكروا على نائبه بالكوفة - وهو عمرو بن حريث - وحصبوه وهو على المنبر يوم الجمعة.
فركب زياد إلى الكوفة فنزل في القصر ثم خرج إلى المنبر وعليه قباء سندس، ومطرف خز أحمر، قد فرق شعره.
وحجر جالس وحوله أصحابه أكثر ما كانوا يومئذ، وكان من لبس من أصحابه يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، وجلسوا حوله في المسجد في الحديد والسلاح، فخطب زياد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فإن غب البغي والغي وخيم، وإن هؤلاء أمنوني فاجترأوا عليّ، وأيم الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم.
ثم قال: ما أنا بشيء إن لم أمنع ساحة الكوفة من حجرٍ وأصحابه وأدعه نكالا لمن بعده، ويل أمك يا حجر، سقط بك العشاء على سرحان.
ثم قال: أبلغ نصحية أن راعي إبلها * سقط العشاء به على سرحان
وجعل زياد يقول في خطبته: إن من حق أمير المؤمنين - يعني كذا وكذا - فأخذ حجر كفا حصباء فحصبه وقال: كذبت! عليك لعنة الله.
فانحدر زياد فصلى، ثم دخل القصر واستحضر حجرا.
ويقال: إن زيادا لما خطب طول الخطبة وأخر الصلاة، فقال له حجر: الصلاة، فمضى في خطبته، فلما خشي فوت الصلاة عمد إلى كف حصباء ونادى الصلاة، وثار الناس معه.
فلما رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس.
فلما انصرف من صلاته كتب إلى معاوية في أمره وكثر عليه، فكتب إليه معاوية: أن شده في الحديد واحمله إليّ، فبعث إليه زياد وإلى الشرطة - وهو شداد بن الهيثم -ومعه أعوانه فقال له: إن الأمير يطلبك.
فامتنع من الحضور إلى زياد، وقام دونه أصحابه، فرجع الوالي إلى زياد فأعلمه، فاستنهض زياد جماعات من القبائل فركبوا مع الوالي إلى حجر وأصحابه فكان بينهم قتال بالحجارة والعصي، فعجزوا عنه.
فندب محمد بن الأشعث وأمهله ثلاثا وجهز معه جيشا، فركبوا في طلبه ولم يزالوا حتى أحضروه إلى زياد.
وما أغنى عنه قومه ولا من كان يظن أن ينصره، فعند ذلك قيده زياد وسجنه عشرة أيام وبعث به إلى معاوية، وبعث معه جماعة يشهدون عليه أنه سب الخليفة، وأنه حارب الأمير.
وأنه يقول: إن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب.
وكان من جملة الشهود عليه أبو بردة بن أبي موسى، ووائل بن حجر، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وإسحاق، وإسماعيل، وموسى بنو طلحة بن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وكثير بن شهاب، وثابت بن ربعي، في سبعين.
ويقال: إنه كتبت شهادة شريح القاضي فيهم، وأنه أنكر ذلك وقال: إنما قلت لزياد: إنه كان صواما قواما، ثم بعث زياد حجرا وأصحابه مع وائل بن حجر، وكثير بن شهاب إلى الشام.
وكان مع حجر بن عدي بن جبلة الكندي، من أصحابه جماعة.
قيل: عشرون.
وقيل: أربعة عشر رجلا منهم: الأرقم بن عبد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العريان - من بني تميم - ومحرز بن شهاب التميمي، وعبيد الله بن حوية السعدي التميمي أيضا.
فهؤلاء أصحابه الذين وصلوا معه، فساروا بهم إلى الشام.
ثم إن زيادا أتبعهم برجلين آخرين، عتبة بن الأخنس من بني سعد، وسعد بن عمران الهمداني، فكملوا أربعة عشر رجلا.
فيقال: إن حجرا لما دخل على معاوية قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فغضب معاوية غضبا شديدا وأمر بضرب عنقه هو ومن معه.
ويقال: إن معاوية ركب فتلقاهم في مرج عذراء.
ويقال: بل بعث إليهم من تلقاهم إلى عذراء تحت الثنية - ثنية العقاب - فقتلوا هناك.
وكان الذين بعث إليهم ثلاثة وهم: هدبة بن فياض القضاعي، وحضير بن عبد الله الكلابي، وأبو شريف البدوي، فجاؤوا إليهم فبات حجر وأصحابه يصلون طول الليل، فلما صلوا الصبح قتلوهم، وهذا هو الأشهر، والله أعلم.
وذكر محمد بن سعد أنهم دخلوا عليه ثم ردهم فقتلوا بعذراء، وكان معاوية قد استشار الناس فيهم حتى وصل بهم إلى برج عذراء فمن مشير بقتلهم، ومن مشير بتفريقهم في البلاد.
فكتب معاوية إلى زياد كتابا آخر في أمرهم، فأشار عليه بقتلهم إن كان له حاجة في ملك العراق، فعند ذلك أمر بقتلهم، فاستوهب منه الأمراء واحدا بعد واحد حتى استوهبوا منه ستة، وقتل منهم ستة أولهم حجر بن عدي، ورجع آخر فعفى عنه معاوية.
وبعث بآخر نال من عثمان وزعم أنه أول من جار في الكلم ومدح عليا، فبعث به معاوية إلى زياد وقال له: لم تبعث إليّ فيهم أردى من هذا.
فلما وصل إلى زياد ألقاه في الناطف حيا وهو عبد الرحمن بن حسان الفري.
وهذه تسمية الذين قتلوا بعذراء: حجر بن عدي، وشريك بن شداد، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة، ومحرز بن شهاب المنقري، وكرام بن حيان.
ومن الناس من يزعم أنهم مدفونون بمسجد القصب في عرفة، والصحيح بعذراء.
ويذكر أن حجرا لما أرادوا قتله قال: دعوني حتى أتوضأ.
فقالوا: توضأ.
فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين فصلاهما وخفف فيهما، ثم قال: لولا أن يقولوا ما بي جزع من الموت لطولتهما.
ثم قال: قد تقدم لهما صلوات كثيرة.
ثم قدموه للقتل وقد حفرت قبورهم ونشرت أكفانهم، فلما تقدم إليه السياف ارتعدت فرائصه فقيل له: إنك قلت لست بجازع.
فقال: ومالي لا أجزع وأنا أرى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا.
فأرسلها مثلا. ثم تقدم إليه السياف، وهو أبو شريف البدوي.
وقيل: تقدم إليه رجل أعور فقال له: أمدد عنقك.
فقال: لا أعين على قتل نفسي، فضربه فقتله.
وكان قد أوصى أن يدفن في قيوده، ففعل به ذلك.
وقيل: بل صلوا عليه وغسلوه.
وروي أن الحسن بن علي قال: أصلوا عليه ودفنوه في قيوده؟
قالوا: نعم!
قال: حجهم والله.
والظاهر أن الحسين قائل هذا فإن حجرا قتل في سنة إحدى وخمسين.
وقيل: سنة ثلاث وخمسين، وعلى كل تقدير فالحسن قد مات قبله، والله أعلم.
فقتلوه رحمه الله وسامحه.
وروينا أن معاوية لما دخل على أم المؤمنين عائشة فسلم عليها من وراء حجاب - وذلك بعد مقتله حجرا وأصحابه - قالت له: أين ذهب عنك حلمك يا معاوية حين قتلت حجرا وأصحابه؟.
فقال لها: فقدته حين غاب عني من قومي مثلك يا أماه.
ثم قال لها: فكيف برّي بك يا أمه؟
فقالت: إنك بي لبار.
فقال: يكفيني هذا عند الله، وغدا لي ولحجر موقف بين يدي الله عز وجل.
وفي رواية أنه قال: إنما قتله الذين شهدوا عليه.
وروى ابن جرير: أن معاوية جعل يغرغر بالموت، وهو يقول: إن يومي بك يا حجر بن عدي لطويل، قالها ثلاثا. فالله أعلم.
وقال محمد بن سعد في الطبقات: ذكر بعض أهل العلم أن حجرا وفد إلى رسول الله ﷺ مع أخيه هانئ بن عدي - وكان من أصحاب علي -.
فلما قدم زياد بن أبي سفيان واليا على الكوفة دعا بحجر بن عدي فقال: تعلم أني أعرفك، وقد كنت أنا وأباك على أمر قد علمت - يعني: من حُب علي - وأنه قد جاء غير ذلك، وإني أنشدك الله أن تقطر لي من دمك قطرة فأستفرغه كله، أملْك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، وحوائجك مقضية لدّي، فاكفني نفسك فإني أعرف عجلتك.
فأنشدك الله في نفسك، وإياك وهذه السقطة وهؤلاء السفهاء أن يستنزلوك عن رأيك.
فقال حجر: قد فهمت، ثم انصرف إلى منزله، فأتاه الشيعة.
فقالوا: ما قال لك؟.
قال: قال لي: كذا وكذا.
وسار زياد إلى البصرة ثم جعلوا يترددون إليه يقولون له: أنت شيخنا، وإذا جاء المسجد مشوا معه، فأرسل إليه عمرو بن حريث - نائب زياد على الكوفة - يقول: ما هذه الجماعة وقد أعطيت الأمير ما قد علمت؟
فقال للرسول: إنهم ينكرون ما أنتم عليه، إليك وراءك أوسع لك.
فكتب عمرو بن حريث إلى زياد: إن كان لك حاجة بالكوفة فالعجل العجل، فأعجل زياد السير إلى الكوفة.
فلما وصل بعث إليه عدي بن حاتم، وجرير بن عبد الله البجلي، وخالد بن عرفطة في جماعة من أشراف الكوفة لينهوه عن هذه الجماعة، فأتوه فجعلوا يحدثونه ولا يرد عليهم شيئا.
بل جعل يقول: يا غلام أعلفت البكرَ؟ لبكر مربوط في الدار.
فقال له عدي بن حاتم: أمجنون أنت؟
نكلمك وأنت تقول: أعلفت البكر.
ثم قال عدي لأصحابه: ما كنت أظن هذا البائس بلغ به الضعف كل ما أرى.
ثم نهضوا فأخبروا زيادا ببعض الخبر وكتموه بعضا، وحسنوا أمره وسألوه الرفق به فلم يقبل، بل بعث إليه الشرط والمحاربة، فأُتي به وبأصحابه فقال له: مالك ويلك؟.
قال: إني على بيعتي لمعاوية، فجمع زياد سبعين من أهل الكوفة، فقال: اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه، ففعلوا، ثم أوفدهم إلى معاوية، وبلغ الخبر عائشة فأرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية تسأله أن يخلي سبيلهم.
فلما دخلوا على معاوية قرأ كتاب زياد فقال معاوية: اخرجوا بهم إلى عذراء فاقتلوهم هناك، فذهبوا بهم ثم قتلوا منهم سبعة، ثم جاء رسول معاوية بالتخلية عنهم، وأن يطلقوهم كلهم.
فوجدوا قد قتلوا منهم سبعة، وأطلقوا السبعة الباقين، ولكن كان حجر فيمن قتل في السبعة الأول.
وكان قد سألهم أن يصلي ركعتين قبل أن يقتلوه، فصلى ركعتين فطوّل فيهما، وقال: إنهما لأخف صلاة صليتها.
وجاء رسول عائشة بعد ما فرغ من شأنهم.
فلما حج معاوية قالت له عائشة: أين عزب عنك حلمك حين قتلت حجرا؟.
فقال: حين غاب عني مثلك من قومي.
ويروى أن عبد الرحمن بن الحارث قال لمعاوية: أقتلت حجر بن الأدبر؟
فقال معاوية: قتله أحب إليّ من أن أقتل معه مائة ألف.
وقد ذكر ابن جرير وغيره عن حجر بن عدي وأصحابه أنهم كانوا ينالون من عثمان، ويطلقون فيه مقالة الجور، وينتقدون على الأمراء، ويسارعون في الإنكار عليهم، ويبالغون في ذلك، ويتولون شيعة علي، ويتشددون في الدين.
ويروى: أنه لما أخذ في قيوده سائرا من الكوفة إلى الشام، تلقته بناته في الطريق وهن يبكين، فمال نحوهن فقال: إن الذي يطعمكم ويكسوكم هو الله وهو باقٍ لكنّ بعدي، فعليكنّ بتقوى الله وعبادته، وإني إما أن أقتل في وجهي وهي شهادة، أو أن أرجع إليكن مكرما، والله خليفتي عليكم.
ثم انصرف مع أصحابه في قيوده.
ويقال: إنه أوصى أن يدفن في قيوده ففعل به ذلك، ولكن صلوا عليهم ودفنوهم مستقبل القبلة، رحمهم الله وسامحهم.
وقد قالت امرأة من المتشيعات ترثي حجرا - وهند بنت زيد بن مخرمة الأنصارية -.
ويقال: إنها لهند أخت حجر. فالله أعلم.
ترفع أيها القمر المنير * تبصر هل ترى حجرا يسير
يسير إلى معاوية بن حربٍ * ليقتله كما زعم الأمير
يرى قتل الخيار عليه حقا * له من شر أمته وزير
ألا يا ليت حجرا مات يوما * ولم يُنحر كما نحر البعير
تجبرت الجبابر بعد حجر * وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولا * كأن لم يحيها مزنٌ مطير
ألا يا حجر حجر بن عدي * تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى عديا * وشيخا في دمشق له زبير
فإن تهلك فكل زعيم قومٍ * من الدنيا إلى هلكٍ يصير
فرضوا أن الآله عليك ميتا * وجنات بها نعمٌ وحور
وذكر ابن عساكر له مراثي كثيرة
وقال يعقوب بن سفيان: حدثني حرملة أنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء، حجرا وأصحابه؟
فقال: يا أم المؤمنين إني رأيت في قتلهم صلاحا للأمة، وفي مقامهم فسادا للأمة.
فقالت: سمعت رسول الله يقول: «سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء». وهذا إسناد ضعيف منقطع.
وقد رواه عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود أن عائشة قالت: بلغني أنه سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء.
وقال يعقوب: حدثني ابن لهيعة، حدثني الحارث بن يزيد، عن عبد الله بن رزين الغافقي.
قال: سمعت عليا يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود.
قال: يقتل حجر وأصحابه - ابن لهيعة ضعيف -.
وروى الإمام أحمد: عن ابن علية، عن ابن عون، عن نافع قال: كان ابن عمر في السوق فنُعي له حجر فأطلق حبوته وقام وغلب عليه النحيب.
وروى أحمد: عن عفان، عن ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة - أو غيره - قال: لما قدم معاوية المدينة دخل على عائشة فقالت: أقتلت حجرا؟
فقال: يا أم المؤمنين، إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خير من استحيائه في فسادهم.
وقال حماد بن سلمة: عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن مروان.
قال: دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة فقالت: يا معاوية، قتلت حجرا وأصحابه وفعلت الذي فعلت، أما خشيت أن أخبأ لك رجلا يقتلك؟.
فقال: لا، إني في بيت الأمان، سمعت رسول الله يقول: «الإيمان ضد الفتك لا يفتك مؤمن».
يا أم المؤمنين كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك وأمرك؟.
قالت: صالح.
قال: فدعيني وحجرا حتى نلتقي عند ربنا عز وجل.
وفي رواية: أنها حجبته وقالت: لا يدخل عليّ أبدا، فلم يزل يتلطف حتى دخل فلامته في قتله حجرا، فلم يزل يعتذر حتى عذرته.
وفي رواية: أنها كانت تتوعده وتقول: لولا يغلبنا سفهاؤنا لكان لي ولمعاوية في قتله حجرا شأن، فلما اعتذر إليها عذرته.
وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه توفي في هذه السنة من الأكابر جرير بن عبد الله البجلي، وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث، وحارثة بن النعمان، وحجر بن عدي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن أنيس، وأبو بكرة نفيع بن الحارث الثقفي، رضي الله عنهم.
فأما جرير بن عبد الله البجلي
فأسلم بعد نزول المائدة، وكان إسلامه في رمضان سنة عشر، وكان قدومه ورسول الله يخطب، وكان قد قال في خطبته: «إنه يقدم عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن، وإن على وجهه مسحة ملك».
فلما دخل نظر الناس إليه، فكان كما وصف رسول الله ﷺ، وأخبروه بذلك فحمد الله تعالى.
ويروى: أن رسول الله ﷺ لما جالسه بسط له رداءه وقال: «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه».
وبعثه رسول الله إلى ذي الخلصة - وكان بيتا تعظمه دوس في الجاهلية - فذكر أنه لا يثبت على الخيل، فضرب في صدره وقال: «اللهم ثبته، واجعله هاديا مهديا» فذهب فهدمه.
وفي الصحيحين أنه قال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم.
وكان عمر بن الخطاب يقول: جرير يوسف هذه الأمة.
وقال عبد الملك بن عمير: رأيت جريرا كأن وجهه شقة قمر.
وقال الشعبي: كان جرير هو وجماعة مع عمر في بيت، فاشتم عمر من بعضهم ريحا، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ.
فقال جرير: أو نقوم كلنا فنتوضأ يا أمير المؤمنين؟.
فقال عمر: نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام.
وقد كان عاملا لعثمان على همدان، يقال: أنه أصيبت عينه هناك، فلما قتل عثمان اعتزل عليا معاوية، ولم يزل مقيما بالجزيرة حتى توفي بالسراة، سنة إحدى وخمسين، قاله الواقدي.
وقيل: سنة أربع.
وقيل: سنة ست وخمسين.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة ولي زياد على خراسان بعد موت الحكم بن عمرو الربيع بن زياد الحارثي، ففتح بلخ صلحا، وكانوا قد غلقوها بعد ما صالحهم الأحنف، وفتح قوهستان عنوة.
وكان عندها أتراك فقتلهم ولم يبق منهم إلا ترك طرخان، فقتله قتيبة بن مسلم بعد ذلك كما سيأتي.
وفي هذه السنة: غزا الربيع ما وراء النهر فغنم وسلم، وكان قد قطع ما وراء النهر قبله الحكم بن عمرو، وكان أول من شرب من النهر غلام للحكم، فسقى سيده وتوضأ الحكم وصلى وراء النهر ركعتين ثم رجع.
فلما كان الربيع هذا غزا ما وراء النهر فغنم وسلم.
وفي هذه السنة: حج بالناس يزيد بن معاوية فيما قاله أبو معشر والواقدي.
وأما جعفر بن أبي سفيان بن عبد المطلب
فأسلم مع أبيه حين تلقياه بين مكة والمدينة عام الفتح، فلما ردهما قال أبو سفيان: والله لئن لم يأذن لي عليه لآخذن بيد هذا فأذهبن في الأرض فلا يدري أين أذهب.
فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ ﷺ رق له وأذن له، وقبل إسلامهما فأسلما إسلاما حسنا، بعد ما كان أبو سفيان يؤذي رسول الله أذىً كثيرا، وشهد حنينا، وكان ممن ثبت يومئذ رضي الله عنهما.
وأما حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري
فشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد، وكان من فضلاء الصحابة.
وروى أنه رأى جبريل مع رسول الله بالمقاعد يتحدثان بعد خيبر، وأنه رآه يوم بني قريظة في صورة دحية.
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ سمع قراءته في الجنة.
قال محمد بن سعد: حدثنا عبد الرحمن بن يونس، ثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ثنا محمد بن عثمان، عن أبيه أن حارثة بن النعمان كان قد كف بصره فجعل خيطا من مصلاه إلى باب حجرته.
فإذا جاءه المسكين أخذ من ذلك التمر، ثم أخذ يمسك بذلك الخيط حتى يضع ذلك في يد المسكين.
وكان أهله يقولون له: نحن نكفيك ذلك.
فيقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مناولة المسكين تقي ميتة السوء».
وأما حجر بن عدي فقد تقدمت قصته مبسوطة.
وأما سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي
فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وأخته عاتكة زوجة عمر، وأخت عمر فاطمة زوجة سعيد.
أسلم قبل عمر هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة.
قال عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدرا لأنه قد كان بعثه رسول الله هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش، فلم يرجعا حتى فرغ من بدر، فضرب لهما رسول الله بسهمهما وأجرهما.
ولم يذكره عمر في أهل الشورى لئلا يحابى بسبب قرابته من عمر فيولى فتركه لذلك، وإلا فهو ممن شهد له رسول الله ﷺ بالجنة في جملة العشرة، كما صحت بذلك الأحاديث المتعددة الصحيحة.
ولم يتول بعده ولاية، وما زال كذلك حتى مات بالكوفة.
وقيل: بالمدينة وهو الأصح.
قال الفلاس وغيره: سنة إحدى وخمسين.
وقيل سنة ثنتين وخمسين، والله أعلم.
وكان رجلا طوالا أشعر، وقد غسله سعد، وحمل من العقيق على رقاب الرجال إلى المدينة، وكان عمره يومئذ بضعا وسبعين سنة.
وأما عبد الله أنيس بن الجهني أبو يحيى المدني
فصحابي جليل شهد العقبة ولم يشهد بدرا.
وشهد ما بعدها، وكان هو ومعاذ يكسران أصنام الأنصار، له في الصحيح حديث أن ليلة القدر ثلاث وعشرين.
وهو الذي بعثه رسول الله إلى خالد بن سفيان الهذلي، فقتله بعرنة، وأعطاه رسول الله مخصره وقال: «هذه آية ما بينى وبينك يوم القيامة» فأمر بها فدفنت معه في أكفانه.
وقد ذكر ابن الجوزي أنه توفي سنة إحدى وخمسين.
وقال غيره: سنة أربع وخمسين.
وقيل: سنة ثمانين.
وأما أبو بكرة نفيع بن الحارث
ابن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة الثقفي فصحابي جليل كبير القدر.
ويقال كان اسمه: مسروح وإنما قيل له: أبو بكرة لأنه تدلى في بكرة يوم الطائف فأعتقه رسول الله وكل مولى فر إليهم يومئذ.
وأمه سمية هي أم زياد وكانا ممن شهد على المغيرة بالزنا هو وأخوه زياد ومعهما سهل بن معبد، ونافع بن الحارث.
فلما تلكأ زياد في الشهادة جلد عمر الثلاثة الباقين، ثم استتابهم فتابوا إلا أبا بكرة فإنه صمم على الشهادة.
وقال المغيرة: يا أمير المؤمنين اشفني من هذا العبد.
فنهره عمر وقال له: اسكت! لو كملت الشهادة لرجمتك بأحجارك.
وكان أبو بكرة خير هؤلاء الشهود، وكان ممن اعتزل الفتن فلم يكن في خيرهما، ومات في هذه السنة.
وقيل: قبلها بسنة.
وقيل: بعدها بسنة، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي، وكان قد آخى بينهما رسول الله ﷺ.
وفيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية
تزوجها رسول الله ﷺ في عمرة القضاء سنة سبع.
قال ابن عباس - وكان ابن أختها أم الفضل لبابة بنت الحارث -: تزوجها رسول الله ﷺ وهو محرم، وثبت في صحيح مسلم عنها أنهما كانا حلالين، وقولها مقدم عند الأكثرين على قوله.
وروى الترمذي عن أبي رافع - وكان السفير بينهما -أنهما كانا حلالين.
ويقال: كان اسمها برة، فسماها رسول الله ميمونة، وتوفيت بسرف بين مكة والمدينة، حيث بنى بها رسول الله ﷺ في هذه السنة.
وقيل: في سنة ثلاث وستين.
وقيل: سنة ست وستين، والمشهور الأول، وصلى عليها ابن أختها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين
ففيها: غزا بلاد الروم وشتى بها سفيان بن عوف الأزدي، فمات هنالك، واستخلف على الجند بعده عبد الله بن مسعدة الفزاري.
وقيل: إن الذي كان أمير الغزو ببلاد الروم هذه السنة بُسر بن أبي أرطاة، ومعه سفيان بن عوف.
وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص نائب المدينة، قاله أبو معشر والواقدي وغيرهما.
وغزا الصائفة محمد بن عبد الله الثقفي.
وعمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة الماضية.
ذكر من توفي فيها من الأعيان:
خالد بن زيد بن كليب
أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بدرا والعقبة والمشاهد كلها، وشهد مع علي قتال الحرورية.
وفي داره كان نزول رسول الله ﷺ حين قدم المدينة فأقام عنده شهرا حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحول إليها.
وقد كان أبو أيوب أنزل رسول الله في أسفل داره، ثم تحرج من أن يعلو فوقه، فسأل من رسول الله ﷺ أن يصعد إلى العلو ويكون هو وأم أيوب في السفل فأجابه.
وقد روينا عن ابن عباس أنه قدم عليه أبو أيوب البصرة وهو نائبها، فخرج له عن داره وأنزله بها، فلما أراد الانصراف خرج له عن كل شيء بها.
وزاده تحفا وخدما كثيرا أربعين ألفا، وأربعين عبدا إكراما له، لما كان أنزل رسول الله ﷺ في داره، وقد كان من أكبر الشرف له.
وهو القائل لزوجته أم أيوب - حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة -؟
فقال: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
فقالت: لا والله.
فقال: والله لهي خير منك، فأنزل الله: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرا } الآية [8].
وكانت وفاته ببلاد الروم قريبا من سور قسطنطينية من هذه السنة.
وقيل: في التي قبلها.
وقيل: في التي بعدها.
وكان في جيش يزيد بن معاوية، وإليه أوصى، وهو الذي صلى عليه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان، ثنا همام، ثنا أبو عاصم، عن رجل من أهل مكة أن يزيد بن معاوية كان أميرا على الجيش الذي غزا فيه أبو أيوب.
فدخل عليه عند الموت، فقال له: إذا أنا مت فاقرأوا على الناس مني السلام، وأخبروهم أني سمعت رسول ﷺ يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا جعله الله في الجنة».
ولينطلقوا فيبعدوا بي في أرض الروم ما استطاعوا.
قال: فحدث الناس لما مات أبو أيوب فأسلم الناس وانطلقوا بجنازته.
وقال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: غزا أبو أيوب مع يزيد بن معاوية قال: فقال: إذا مت فأدخلوني في أرض العدو فادفنوني تحت أقدامكم حيث تلقون العدو، قال:
ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة».
ورواه أحمد عن ابن نمير، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش سمعت أبا ظبيان فذكره.
وقال فيه: سأحدثكم حديثا سمعته من رسول الله ﷺ لولا حالي هذا ما حدثتكموه، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة».
وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثني محمد بن قيس - قاضي عمر بن عبد العزيز - عن أبي صرمة، عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله ﷺ سمعته يقول: «لولا أنكم تذنبون لخلق الله قوما يذنبون فيغفر لهم».
وعندي أن هذا الحديث والذي قبله هو الذي حمل يزيد بن معاوية على طرف من الأرجاء، وركب بسببه أفعالا كثيرة أنكرت عليه، كما سنذكره في ترجمته، والله تعالى أعلم.
قال الواقدي: مات أبو أيوب بأرض الروم سنة ثنتين وخمسين، ودفن عند القسطنطينية، وقبره هنالك يستسقي به الروم إذا قحطوا.
وقيل: إنه مدفون في حائط القسطنطينية، وعلى قبره مزار ومسجد وهم يعظمونه.
وقال أبو زرعة الدمشقي: توفي سنة خمس وخمسين، والأول أثبت، والله أعلم.
وقال أبو بكر بن خلاد: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا داود بن المحبر، ثنا ميسرة بن عبد ربه، عن موسى بن عبيدة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي ﷺ.
قال: «إن الرجلين ليتوجهان إلى المسجد فيصليان فينصرف أحدهما وصلاته أوزن من صلاة الآخر، وينصرف الآخر، وما تعدل صلاته مثقال ذرة، إذا كان أورعهما عن محارم الله وأحرصهما على المسارعة إلى الخير».
وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله ﷺ لرجل سأله أن يعلمه ويوجز فقال له: «إذا صليت صلاة فصلِ صلاة مودعٍ، ولا تكلمن بكلام تعتذر منه، واجمع اليأس مما في أيدي الناس».
وفيها كانت وفاة أبي موسى الأشعري
عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضار بن حرب بن عامر بن غز بن بكر بن عامر بن عذر بن وائل بن وائل بن ناجية بن جماهر بن الأشعر الأشعري، أسلم ببلاده، وقدم مع جعفر وأصحابه عام خيبر.
وذكر محمد بن إسحاق أنه هاجر أولا إلى مكة، ثم هاجر إلى اليمن، وليس هذا بالمشهور.
وقد استعمله رسول الله ﷺ مع معاذ على اليمن، واستنابه عمر على البصرة، وفتح تستر، وشهد خطبة عمر بالجابية، وولاه عثمان الكوفة.
وكان أحد الحكمين بين علي ومعاوية، فلما اجتمعا خدع عمرو أبا موسى، وكان من قراء الصحابة وفقهائهم، وكان أحسن الصحابة صوتا في زمانه.
قال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار أطيب من صوت أبي موسى.
وثبت في الحديث أن رسول الله ﷺ قال: «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود».
وكان عمر يقول له: ذكرنا ربنا يا أبا موسى، فيقرأ وهم يسمعون.
وقال الشعبي: كتب عمر في وصيته أن لا يقر لي عامل أكثر من سنة إلا أبا موسى فليقر أربع سنين.
وذكر ابن الجوزي في المنتظم أنه توفي في هذه السنة وهو قول بعضهم.
وقيل: إنه توفي قبلها بسنة.
وقيل: في سنة ثنتين وأربعين.
وقيل: غير ذلك، والله أعلم.
وكانت وفاته بمكة لما اعتزل الناس بعد التحكيم.
وقيل: بمكان يقال له: الثوية على ميلين من الكوفة.
وكان قصيرا نحيف الجسم أسبط، أي: لا لحية له، رضي الله عنه.
وذكر ابن الجوري أنه توفي في هذه السنة أيضا من الصحابة.
قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد
ذكر ابن جرير: عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن هذا الرجل كان شاعرا، وكان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، وضاق على الناس علف الدواب، فقال ابن مفرغ شعرا يهجو به ابن زياد على ما كان منه فقال:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا * فنعلفها خيول المسلمينا
وكان عباد بن زياد عظيم اللحية كبيرها جدا، فبلغه ذلك فغضب وتطلبه فهرب منه وقال فيه قصائد يهجوه بها كثيرة فمن ذلك قوله:
إذا أودى معاوية بن حرب * فبشر شعب قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر * أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمرا فيه لبس * على خوف شديد وارتياع
وقال أيضا:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ * مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفً * وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الأتان
فكتب عباد بن زياد إلى أخيه عبيد الله وهو وافد على معاوية بهذه الأبيات، فقرأها عبيد الله على معاوية واستأذنه في قتله، فقال: لا تقتله، ولكن أدبه ولا تبلغ به القتل.
فلما رجع عبيد الله إلى البصرة استحضره وكان قد استجار بوالد زوجة عبيد الله بن زياد، وهو المنذر بن الجارود، وكانت ابنته بحرية عند عبيد الله، فأجاره وآواه إلى داره، وجاء الجارود مسلما على عبيد الله، وبعث عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فجاؤوا بابن مفرع فأوقف بين يديه.
فقال المنذر: إني قد أجرته.
فقال: يمدحك ويمدح أباك فترضى عنه، ويهجوني ويهجو إلى ثم تجيره عليّ.
ثم أمر عبيد الله بابن مفرع فسقي دواء مسهلا وحملوه على حمار عليه إكاف وجعلوا يطوفون به في الأسواق وهو يسلح والناس ينظرون إليه، ثم أمر به فنفي إلى سجستان إلى عند أخيه عباد، فقال ابن مفرغ لعبيد الله بن زياد:
يغسل الماء ما صنعت وقولي * راسخ منك في العظام البوالي
فلما أمر عبيد الله بنفي ابن مفرغ إلى سجستان، كلم اليمانيون معاوية في أمر ابن مفرغ، وأنه إنما بعثه إلى أخيه ليقتله، فبعث معاوية إلى ابن مفرغ وأحضره، فلما وقف بين يديه بكى وشكى إلى معاوية ما فعل به ابن زياد.
فقال له معاوية: إنك هجوته، ألست القائل كذا؟ ألست القائل كذا؟
فأنكر أن يكون قال من ذلك شيئا، وذكر أن القائل ذلك هو عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان، وأحب أن يسندها إليّ، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم ومنعه العطاء حتى يرضى عنه عبيد الله بن زياد، وأنشد ابن مفرع ما قاله في الطريق في معاوية يخاطب راحلته:
عدسٌ ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى * إمام وحبل للأنام وثيق سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ * ومثلي بشكر المنعمين حقيق
فقال له معاوية: أما لو كنا نحن الذين هجوتنا لم يكن من أذانا شيء يصل إليك، ولم نتعرض لذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه ارتكب فيّ ما لم يرتكب مسلم من مسلم على غير حدث ولا جرم، قال: ألست القائل كذا؟ ألست القائل كذا؟ فقد عفونا عن جرمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدا إلا بالحسنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحب إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فاختار الموصل فأرسله إليها، ثم استأذن عبيد الله في القدوم إلى البصرة والمقام فأذن له.
ثم إن عبد الرحمن ركب إلى عبيد الله فاسترضاه فرضي عنه وأنشده عبد الرحمن:
لأنت زيادة في آل حربٍ * أحب إليّ من إحدى بناني
أراك أخا وعما وابن عمٍ * فلا أدري بغيبٍ ما تراني
فقال له عبيد الله: أراك والله شاعر سوء، ثم رضي عنه وأعاد إليه ما كان منعه من العطاء.
قال أبو معشر، والواقدي: وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وكان نائب المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وقاضيها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور والحارثي، من قبل عبيد الله بن زياد.
من توفي في هذه السنة من الأعيان
قال ابن الجوزي: توفي فيها أسامة بن زيد، والصحيح قبلها كما تقدم.
الحطيئة الشاعر
واسمه جرول بن مالك بن جرول بن مالك بن جوية بن مخزوم بن مالك بن قطيعة بن عيسى بن مليكة، الشاعر الملقب بالحطيئة لقصره.
أدرك الجاهلية وأسلم في زمن الصديق، وكان كثير الهجاء حتى يقال إنه هجا أباه وأمه، وخاله وعمه، ونفسه وعرسه، فمما قال في أمه قوله:
تنحي فاقعدي عني بعيدا * أراح الله منك العالمينا
أغرْبالا إذا استودعت سرا * وكانونا على المتحدثينا
جزاك الله شرا من عجوزٍ * ولقاك العقوق من البنينا
وقال في أبيه وعمه وخاله:
لحاك الله ثمَّ لحاكَ حقا * أبا ولحاكَ من عمٍ وخالِ
فنعمَ الشيخُ أنتَ لدى المخازي * وبئس الشيخُ أنتَ لدى المعالي
ومما قال في نفسه يذمها
أبتْ شفتايَ اليوم أن تتكلما * بشرٍ فما أدري لمن أنا قائله؟
أرى ليَ وجها شوّهَ الله خلقه * فقبحَ من وجهٍ وقبحَ حاملهْ
وقد شكاه الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فأحضره وحبسه، وكان سبب ذلك أن الزبرقان بن بدر شكاه لعمر أنه قال له يهجوه:
دعْ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها * واقعدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
فقال له عمر: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعما كاسيا؟
فقال: يا أمير المؤمنين إنه لا يكون هجاء أشد من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله عن ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين ما هجاه ولكن سلح عليه، فعند ذلك حبسه عمر وقال: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين، ثم شفع فيه عمرو بن العاص فأخرجه وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه.
ويقال: إنه أراد أن يقطع لسانه فشفعوا فيه حتى أطلقه.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحرامي، عن عبد الله بن مصعب، حدثني عن ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أمر عمر بإخراج الحطيئة من الحبس وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرج وأنا حاضر فأنشأ يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ * زعب الحواصل لا ماء ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمةٍ * فارحم هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه * ألقى إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها * لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فامنن على صبيةٍ بالرمل مسكنهم * بين الأباطح يغشاهم بها القدر
نفسي فداؤك كم بيني وبينهم * من عرض واديةٍ يعمى بها الخبر
قال: فلما قال الحطيئة: ماذا تقول الأفراخ بذي مرخ، بكى عمر فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة.
ثم ذكروا أنه أراد قطع لسان الحطيئة لئلا يهجو به الناس فأجلسه على كرسي وجيء بالموس، فقال الناس: لا يعود يا أمير المؤمنين وأشاروا إليه قل: لا أعود.
فقال له عمر: النجا.
فلما ولى قال له عمر: ارجع يا حطيئة، فرجع فقال له: كأني بك عند شاب من قريش قد كسر لك نمرقة، وبسط لك أخرى.
وقال: يا حطيئة غننا، فاندفعت تغنيه بأعراض الناس.
قال أسلم: فرأيت الحطيئة بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر وقد كسر له نمرقة وبسط له أخرى.
وقال: يا حطيئة غننا فاندفع حطيئة يغني.
فقلت له: يا حطيئة أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال؟
ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء، لو كان حيا ما فعلنا هذا.
فقلت لعبيد الله: إني سمعت أباك يقول كذا وكذا فكنت أنت ذلك الرجل.
وقال الزبير: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: قال عمر للحطيئة: دع قول الشعر.
قال: لا أستطيع.
قال: لم؟
قال: هو مأكلة عيالي، وعلة لساني.
قال: فدع المدحة المجحفة.
قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟
قال: تقول بنو فلان أفضل من بني فلان، امدح ولا تفضل.
فقال: أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين.
ومن مديحه الجيد المشهور قوله:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم * من اللوم أوسدّوا المكان الذي سدوا
أولئك قومي إن بنوا أحسنوا البنا * وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها * وإن أنعموا لا كدروها ولا كدّوا
قالوا: ولما احتضر الحطيئة، قيل له: أوص.
قال: أوصيكم بالشعر، ثم قال:
الشعر صعب وطويل سلّمة * إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه * والشعر لا يستطبعه من يظلمه
أراد أن يعربه فأعجمه.
قال أبو الفرج الجوزي في المنتظم: توفي الحطيئة في هذه السنة.
وذكر أيضا فيها وفاة عبد الله بن عامر بن كريز، وقد تقدم في التي قبلها.
عبد الله بن مالك بن القشب
واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله بن رافع الأزدي، أبو محمد حليف بني عبد المطلب، المعروف بابن بحينة، وهي أمه بحينة بنت الأرت، واسمه الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، أسلم قديما، وصحب رسول الله ﷺ، وكان ناسكا قواما صوّاما، وكان ممن يسرد صوم الدهر كله.
قال ابن سعد: كان ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة، ومات في عمل مروان في المرة الثانية، ما بين سنة أربع وخمسين إلى ثمان وخمسين، والعجب: أن ابن الجوزي نقل من كلام محمد بن سعد، ثم إنه ذكر وفاته في هذه السنة - يعني: سنة تسع وخمسين - فالله أعلم.
قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي
صحابي جليل كأبيه، له في الصحيحينحديث، وهو القيام للجنازة، وله في المسند حديث في صوم عاشوراء، وحديث غسل رسول الله ﷺ في دارهم وغير ذلك، وخدم رسول الله ﷺ عشر سنين، وثبت في صحيح البخاري عن أنس قال: كان قيس بن سعد من النبي ﷺ بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.
وحمل لواء رسول الله ﷺ في بعض الغزوات، واستعمله على الصدقة، ولما بعث رسول الله ﷺ أبا عبيدة بن الجراح ومعه ثلثمائة من المهاجرين والأنصار، فأصابهم ذلك الجهد الكثير فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر، حتى وجدوا تلك الدابة على سيف البحر فأكلوا منها، وأقاموا عليها شهرا حتى سمنوا.
وكان قيس سيدا، مطاعا، كريما، ممدحا، شجاعا، ولاه عليّ نيابة مصر، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله علي عن مصر وولى عليها محمد بن أبي بكر الصديق، فاستخفه معاوية، ولم يزل حتى أخذ منه مصر كما قدمنا.
وأقام قيس عند علي فشهد معه صفين والنهروان ولزمه حتى قتل ثم صار إلى المدينة، فلما اجتمعت الكلمة على معاوية جاءه ليبايعه كما بايعه أصحابه.
قال عبد الرزاق: عن ابن عيينة قال: قدم قيس بن سعد على معاوية فقال له معاوية: وأنت يا قيس تلجم علي مع من ألجم؟ أما والله لقد كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع.
فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام فأحييك بهذه التحية.
فقال له معاوية: ولم؟ وهل أنت إلا حبر من أحبار اليهود؟
فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنما من أصنام الجاهلية، دخلت في الإسلام كارها، وخرجت منه طائعا.
فقال معاوية: اللهم غفرا، مديدك.
فقال له قيس بن سعد: إن شئت، زدت وزدت.
وقال موسى بن عقبة: قالت عجوز لقيس: أشكو إليك قلة فأر بيتي.
فقال قيس: ما أحسن هذه الكناية!! املأوا بيتها خبزا ولحما وسمنا وتمرا.
وقال غيره: كانت له صحفة يدار بها حيث دار، وكان ينادى له مناد: هلموا إلى اللحم والثريد، وكان أبوه وجده من قبله يفعلان كفعله.
وقال عروة بن الزبير: باع قيس بن سعد من معاوية أرضا بتسعين ألفا، فقدم المدينة فنادى مناديه: من أراد القرض فليأت، فأقرض منها خمسين ألفا وأطلق الباقي، ثم مرض بعد ذلك فقل عواده.
فقال لزوجته: - قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق -: إني أرى قلة من عادني في مرضي هذا، وإني لأرى ذلك من أجل مالي على الناس من القرض، فبعث إلى كل رجل ممن كان له عليه دين بصكه المكتوب عليه، فوهبهم ماله عليهم.
وقيل: إنه أمر مناديه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العواد.
وكان يقول: اللهم ارزقني مالا وفعالا، فإنه لا يصلح الفعال إلا بالمال.
وقال سفيان الثوري: اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفا فلما جاء ليوفيه إياها قال له قيس: إنا قوم ما أعطينا أحدا شيئا فنرجع فيه.
وقال الهيثم بن عدي: اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم، فقال أحدهم: عبد الله بن جعفر، وقال الآخر: قيس بن سعد، وقال الآخر: عرابة الأوسي، فتماروا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة.
فقال لهم رجل: فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره، فلينظر ما يعطيه وليحكم على العيان.
فذهب صاحب عبد الله بن جعفر إليه فوجده قد وضع رجله في الغرز ليذهب إلى ضيعة له، فقال له: يا بن عم رسول الله ابن سبيل ومنقطع به.
قال: فأخرج رجله في الغرز وقال: ضع رجلك واستو عليها فهي لك بما عليها، وخذ ما في الحقيبة، ولا تخدعن عن السيف فإنه من سيوف علي، فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة إذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار، ومطارف من خز وغير ذلك، وأجلُّ ذلك سيف علي بن أبي طالب.
ومضى صاحب قيس بن سعد إليه فوجده نائما، فقالت له الجارية: ما حاجتك إليه؟
قال: ابن سبيل ومنقطع به.
قالت: فحاجتك أيسر من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس مال غيره اليوم، واذهب إلى مولانا في معاطن الإبل فخذ لك ناقة وعبدا، واذهب راشدا.
فلما استيقظ قيس من نومه أخبرته الجارية بما صنعت فأعتقها شكرا على صنيعها ذلك.
وقال: هلا أيقظتني حتى أعطيه ما يكفيه أبدا، فلعل الذي أعطيتيه لا يقع منه موقع حاجته.
وذهب صاحب عرابة الأوسي إليه فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكأ على عبدين له - وكان قد كف بصره - فقال له: يا عرابة.
فقال: قل.
فقال: ابن سبيل ومنقطع به.
قال: فخلى عن العبدين ثم صفق بيديه، باليمنى على اليسرى، ثم قال: أوّه أوّه، والله ما أصبحت ولا أمسيت وقد تركت الحقوق من مال عرابة شيئا، ولكن خذ هذين العبدين.
قال: ما كنت لأفعل.
فقال: إن لم تأخذهما فهما حران، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ.
وأقبل يلتمس الحائط بيده.
قال: فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه.
قال: فحكم الناس على أن ابن جعفر قد جاد بمال عظيم، وأن ذلك ليس بمستنكر له، إلا أن السيف أجلها.
وأن قيسا أحد الأجواد حكم مملوكته في ماله بغير علمه واستحسن فعلها وعتقها شكرا لها على ما فعلت.
واجمعوا على أن أسخى الثلاثة عرابة الأوسي، لأنه جاد بجميع ما يملكه، وذلك جهد من مقل.
وقال سفيان الثوري: عن عمرو، عن أبي صالح قال: قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده وخرج إلى الشام فمات بها، فولد له ولد بعد وفاته، فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا: إن أباك قسم ماله ولم يعلم بحال هذا الولد إذا كان حملا، فاقسموا له معكم.
فقال قيس: إني لا أغير ما فعله سعد ولكن نصيبي له.
ورواه عبد الرزاق: عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين فذكره.
ورواه عبد الرزاق: عن ابن جريج، أخبرني عطاء فذكره.
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبو نعيم، ثنا مسعر، عن معبد بن خالد.
قال: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعا أصبعه المسبحة - يعني: يدعو -.
وقال هشام بن عمار: ثنا الجراح بن مليح، ثنا أبو رافع، عن قيس بن سعد.
قال: لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المكر والخديعة في النار»، لكنت من أمكر هذه الأمة.
وقال الزهري: دهات العرب حين ثارت الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل، وكانا مع علي، وكان المغيرة معتزلا بالطائف حتى حكم الخصمان فصارا إلى معاوية.
وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلب على مصر وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، نائب عثمان بعد عمرو بن العاص، فأقره عليها عليّ مدة يسيرة ثم عزله بقيس بن سعد.
فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها، وذلك سنة ست وثلاثين، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص فكاتباه ليكون معهما على علي فامتنع وأظهر للناس مناصحته لهما، وفي الباطن هو مع علي، فبلغ ذلك عليا فعزله.
وبعث إلى مصر الأشتر النخعي فمات الأشتر في الرملة قبل أن يصل إليها، فبعث علي محمد بن أبي بكر فخف أمره على معاوية وعمرو، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية، وقتل محمد بن أبي بكر هذا وأحرق في جيفة حمار.
ثم سار قيس إلى المدينة، ثم سار إلى علي بن أبي طالب إلى العراق، فكان معه في حروبه حتى قتل علي، ثم كان مع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقاتله، فكان قيس على مقدمة الجيش.
فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسا ذلك وما أحبه، وامتنع من طاعته معاوية، ثم ارتحل إلى المدينة، ثم قدم على معاوية في وفد من الأنصار فبايع معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما، وكلام فيه غلظة، ثم أكرمه معاوية وقدمه وحظي عنده، فبينما هو مع الوفود عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية وفيه: أن ابعث إليّ بسراويل أطول رجل في العرب.
فقال معاوية: ما أرانا إلا قد احتجنا إلا سراويلك؟ - وكان قيس مديد القامة جدا، لا يصل أطول الرجال إلى صدره - فقام قيس فتنحى ثم خلع سراويله فألقاها إلى معاوية فقال له معاوية: لو ذهبت إلى منزلك ثم أرسلت بها إلينا، فأنشأ قيس يقول عند ذلك:
أردت بها كي يعلم الناس أنها * سراويل قيسٍ والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيسٌ وهذه * سراويل غادي سمدٌ وثمود
وإني من الحي اليماني لسيدٌ * وما الناس إلا سيدٌ ومسود
فكدهم بمثلي إنَّ مثلي عليهم * شديدٌ وخلقي في الرجال مديد
وفضلني في الناس أصلٌ ووالد * وباعٌ به أعلو الرجال مديد
قال: فأمر معاوية أطول رجل في الوفد فوضعها على أنفه فوقعت بالأرض.
وفي رواية: أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم، والآخر أطول الروم فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا؟
فإن كان في قومك من يفوقهما بعثت إليك من الأسارى كذا وكذا، ومن التحف كذا وكذا، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما فهادني ثلاث سنين.
فلما حضرا عند معاوية قال: من لهذا القوي؟
فقالوا: ماله إلا أحد رجلين، إما محمد بن الحنفية، أو عبد الله بن الزبير، فجيء بمحمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب.
فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية: أتعلم فيم أرسلت إليك؟
قال: لا! فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه.
فقال للرومي: إما أن تجلس لي أو أجلس إليك وتناولني يدك أو أناولك يدي، فأينا قدر على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه، وإلا فقد غُلب.
فقال له: ماذا تريد؟ تجلس أو أجلس؟
فقال له الرومي: بل اجلس أنت، فجلس محمد بن الحنفية وأعطى الرومي يده فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك، ولا وجد إليه سبيلا، فغُلب الرومي: عند ذلك، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غُلب.
ثم قام محمد بن الحنفية فقال للرومي: اجلس لي، فجلس وأعطى محمدا يده فما أمهلة أن أقامه سريعا، ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض فسر بذلك معاوية سرورا عظيما.
ونهض قيس بن سعد فتنحى عن الناس ثم خلع سراويله وأعطاها لذلك الرومي الطويل فلبسها فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالأرض، فاعترف الرومي بالغلب.
وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية، وعاتب الأنصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس فقال: ذلك الشعر المتقدم معتذرا به إليهم، وليكون ذلك ألزم للحجة التي تقوم على الروم، وأقطع لما حاولوه.
ورواه الحميدي: عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: كان قيس بن سعد رجلا ضخما جسيما، صغير الرأس له لحية في ذقنه، وكان إذا ركب الحمار العالي خطت رجلاه بالأرض.
وقال الواقدي، وخليفة بن خياط وغير واحد: توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية.
وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، فتبعناه في ذلك.
معقل بن يسار المزني
صحابي جليل شهد الحديبية، وكان هو الذي كان يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول الله ﷺ وهو يبايع الناس تحتها، وكانت من السَّمُر، وهي المذكورة في القرآن في قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [9].
وقد ولاه عمر إمرة البصرة فحفر بها النهر المنسوب إليه، فيقال: نهر معقل، وله بها دار.
قال الحسن البصري: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار يعوده في مرضه الذي مات فيه.
فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله ﷺ، لو لم أكن على حالتي هذه لم أحدثك به، سمعته يقول: «من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام».
وممن توفي في هذه السنة:
أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه
وقد اختلف في اسمه في الجاهلية والإسلام، واسم أبيه على أقوال متعددة، وقد بسطنا أكثرها في كتابنا التكميل، وقد بسط ذلك ابن عساكر في تاريخه، والأشهر أن اسمه: عبد الرحمن بن صخر وهو من الأزد، ثم من دوس.
ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس.
وقيل: عبد نهم.
وقيل: عبد غنم، ويكنى بأبي الأسود، فسماه رسول الله ﷺ عبد الله.
وقيل: عبد الرحمن، وكناه بأبي هُريرة.
وروي عنه أنه قال: وجدت هُريرة وحشية فأخذت أولادها فقال لي أبي: ما هذه في حجرك؟ فأخبرته.
فقال: أنت أبو هريرة.
وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال له: «أبا هر»، وثبت أنه قال له: «يا أبا هريرة».
قال محمد بن سع، وابن الكلبي، والطبراني: اسم أمه ميمونة بنت صفيح بن الحارث بن أبي صعب بن هبة بن سعد بن ثعلبة، أسلمت وماتت مسلمة.
وروى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة، وروى عن أبي بكر، وعمر، وأبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد، ونضرة بن أبي نضرة، والفضل بن العباس، وكعب الأحبار، وعائشة أم المؤمنين.
وحدث عنه خلائق من أهل العلم قد ذكرناهم مرتبين على حروف المعجم في التكميل، كما ذكره شيخنا في تهذيبه.
قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وقال عمرو بن علي الفلاس: كان ينزل المدينة وكان إسلامه سنة خيبر.
قال الواقدي: وكان بذي الحليفة له دار.
وقال غيره: كان آدم اللون، بعيد ما بين المنكبين، ذا طفرتين، أقرن الثنيتين.
وقال أبو داود الطيالسي وغير واحد: عن أبي خلدة، خالد بن دينار، عن أبي العالية، عن أبي هريرة قال: لما أسلمتُ قال رسول الله ﷺ: «ممن أنت؟»
فقلت: من دوس.
فوضع يده على جبهته وقال: «ما كنت أرى أن في دوس رجلا فيه خير».
وقال الزهري: عن سعيد، عن أبي هريرة قال: شهدت مع رسول الله ﷺ خيبر.
وروى عبد الرزاق: عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل عن قيس.
قال: قال أبو هريرة: جئت يوم خيبر بعد ما فرغوا من القتال.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا الدراوردي.
قال: حدثني خيثم، عن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة.
قال: خرج رسول الله ﷺ واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة.
قال أبو هريرة: وقدمت المدينة فهاجروا فصليت الصبح وراء سباع فقرأ في السجدة الأولى سورة مريم، وفي الثانية ويل للمطففين.
قال أبو هريرة: فقلت في نفسي ويل لأبي فلان، لرجل كان بأرض الأزد - وكان له مكيالان مكيال يكيل به لنفسه، ومكيال يبخس به الناس -.
وقد ثبت في صحيح البخاري أنه ضل غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله ﷺ وأنه جعل ينشد:
يا ليلة من طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت
فلما قدم على رسول الله ﷺ قال له: «هذا غلامك؟».
فقال: هو حر لوجه الله عز وجل.
وقد لزم أبو هريرة رسول الله ﷺ بعد إسلامه، فلم يفارقه في حضر ولا سفر، وكان أحرص شيء على سماع الحديث منه، وتفقه عنه، وكان يلزمه على شبع بطنه.
وقال أبو هريرة: - وقد تمخط يوما في قميص له كتان - بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني أخر فيما بين المنبر والحجر من الجوع.
فيمر المار فيقول: به جنون وما بي إلا الجوع، والله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وأشد الحجر على بطني من الجوع.
ولقد كنت أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه، وما بي إلا أن يستتبعني إلى منزله فيطعمني شيئا، وذكر حديث اللبن مع أهل الصفة كما قدمناه في دلائل النبوة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، ثنا عكرمة بن عامر، حدثني أبو كثير - وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السحيمي الأعمى - حدثني أبو هريرة.
قال: والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟
قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى عليّ، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ﷺ ما أكره، فأتيت رسول الله ﷺ وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى عليّ وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.
فقال: «اللهم اهد أم أبي هريرة».
فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله ﷺ لها، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة خشخشة، وسمعت خشف رجل - يعني: وقعها - فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها أن تلبسه.
وقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله ﷺ أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن.
فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعاءك، قد هدى الله أم أبي هريرة.
وقلت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني وأمي إلى عبادة المؤمنين.
فقال: «اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما».
قال أبو هريرة: فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني.
وقد رواه مسلم من حديث عكرمة عن عمار نحوه.
وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس.
وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الأقاليم في الأنصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة، والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه.
وقال هشام بن عمار: حدثنا سعيد، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن المقبري، عن سالم مولى النضريين: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما محمد بشر أغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له قربة بها عندك يوم القيامة».
قال أبو هريرة: لقد رفع عليّ رسول الله ﷺ يوما الدرة ليضربني بها فلأن يكون ضربني بها أحب إليّ من حمر النعم، ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنا وأن يستجاب لرسول الله ﷺ دعوته.
وقال ابن أبي ذيب: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثا كثيرا فأنساه.
فقال: «أبسط رداءك»، فبسطته.
ثم قال: «ضمه» فضممته فما نسيت حديثا بعد، رواه البخاري.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج.
قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ﷺ، والله الموعد إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله ﷺ على ملء بطني.
وكان المهاجرون يشغلهم الصفق في الأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من رسول الله ﷺ يوما مجلسا.
فقال: «من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئا سمعه مني».
فبسطت بردة عليَّ حتى قضى مقالته، ثم قبضتها إليّ فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه بعد ذلك.
وقد رواه ابن وهب: عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة وله طرق أخر عنه.
وقد قيل: إن هذا كان خاصا بتلك المقالة لم ينس منها شيئا، بدليل أنه نسي بعض الأحاديث كما هو مصرح به في الصحيح، حيث نسي حديث: «لا عدوى ولا طيرة» مع حديثه: «لا يورد ممرض على مصح».
وقيل: إن هذا كان عاما في تلك المقالة وغيرها والله أعلم.
وقال الدراوردي: عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟
فقال: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن أحدا لا يسألني عن هذا الحديث أول منك، لما رأيت من حرصك على الناس، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه».
ورواه البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو به.
وقال ابن أبي ذيب: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: حفظت من رسول الله ﷺ وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. رواه البخاري من حديث ابن أبي ذيب.
ورواه غير واحد، عن أبي هريرة، وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق.
كما قال: لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني.
وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الأهواء والبدع الباطلة والأعمال الفاسدة، ويسندون ذلك إلى هذا الجواب الذي لم يقله أبو هريرة، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجواب الذي لم يخبر به أبو هريرة.
وما من مبطل مع تضاد أقوالهم إلا وهو يدّعي هذا وكلهم يكذبون، فإذا لم يكن أبو هريرة قد أخبر به فمن علمه بعده؟
وإنما كان الذي فيه شيء من الفتن والملاحم كما أخبر بها هو وغيره من الصحابة، مما ذكرناه ومما سنذكره في كتاب الفتن والملاحم.
وقال حماد بن زيد: حدثنا عمرو بن عبيد الأنصاري، ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة وأقعده خلف السرير.
وجعل مروان يسأل وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخّر.
وروى أبو بكر بن عياش وغيره، عن الأعمش، عن أبي صالح.
قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله ﷺ ولم يكن بأفضلهم.
وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو خيثمة، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول قال: تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة فحدثهم عن رسول الله ﷺ حتى أصبح.
وقال سفيان بن عيينة: عن معمر، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام بن منبه.
قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أحد من أصحاب رسول الله ﷺ أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، ثنا مروان بن محمد، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله ﷺ ولألحقنك بأرض دوس.
وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.
قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره، عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه ولم يسنده، وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص.
وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك.
وقد جاء أن عمر أذن بعد ذلك في التحديث، فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة.
قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إليّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله ﷺ في بيت فلان؟
قال: قلت: نعم! وقد علمت لِمَ تسألني عن ذلك؟
قال: ولِمَ سألتك؟
قلت: إن رسول الله ﷺ قال يومئذ: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
قال: أما إذا فاذهب فحدث.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا عبد الواحد - يعني: ابن زياد - ثنا عاصم بن كليب، حدثني أبي.
قال: سمعت أبا هريرة يقول - وكان يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله ﷺ الصادق المصدوق: «من كذب عليَّ عامدا فليتبوأ مقعده من النار».
وروى مثله من وجه آخر عنه.
وقال ابن وهب: حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي.
وقال صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله ﷺ حتى قبض عمر.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
قال: قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله ﷺ إلا فيما يعمل به.
قال: ثم يقول أبو هريرة: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذا لأيقنت أن المحففة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.
ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك.
هذا معروف عن عمر رضي الله عنه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر.
أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي ﷺ أنه قال: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيرطان، القيراط أعظم من أُحُد».
فقال له ابن عمر: أبا هِرّ انظر ما تحدث عن رسول الله ﷺ، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أسمعت رسول الله ﷺ يقول: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان»؟.
فقالت: اللهم نعم.
فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله ﷺ غرس بالوادي وصفق بالأسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول الله ﷺ كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها.
فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هر كنت ألزمنا رسول الله ﷺ وأعلمنا بحديثه.
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه.
قال: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه، ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله ﷺ على المسلمين.
وقد روي: أن عائشة تأولت أحاديث كثيرة من أن أبي هريرة ووهمته في بعضها.
وفي الصحيح: أنها عابت عليه سرد الحديث، أي الإكثار منه في الساعة الواحدة.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا إسحاق بن سعد، عن سعيد أن عائشة قالت لأبي هريرة: أكثرت الحديث عن رسول الله ﷺ يا أبا هريرة.
قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي.
قالت: لعله.
وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم الشامي، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله ﷺ، فهل سمعته يقول: «في حلتي هذه شيئا؟»
قال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } [10] ما حدثتكم بشيء، سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: «إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة».
فوالله ما أدري لعله كان من قومك أومن رهطك - شك أبو يعلى - وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح.
قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: والله ما أنت بوالٍ، وإن الوالي لغيرك فدعه - يعني: حين أرادوا يدفنون الحسن مع رسول الله ﷺ - ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك - يعني: معاوية -.
قال: فأقبل عليه مروان مغضبا فقال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله ﷺ الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبي ﷺ بيسير.
فقال أبو هريرة: نعم! قدمت ورسول الله ﷺ بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذٍ مقلٍ، وأصلي خلفه وأحج وأغزو معه.
فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم: عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير.
فلا والله ما يخفى عليّ كل حديث كان بالمدينة، وكل من أحب الله ورسوله، وكل من كانت له عند رسول الله ﷺ منزلة، وكل صاحب له، وكان أبو بكر صاحبه في الغار وغيره.
وقد أخرجه رسول الله ﷺ أن يساكنه -يعرض بأبي مروان الحكم بن العاص، -.
ثم قال أبو هريرة: ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه فإنه يجد عندي منه علما جما ومقالا.
قال: فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك ويخافه ويخاف جوابه.
وفي رواية: أن أبا هريرة قال لمروان: إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا، وأحببت رسول الله ﷺ حبا شديدا، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة، أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم.
فندم مروان على كلامه له واتقاه.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، ثنا محمد بن سلمة، ثنا محمد بن إسحاق، عن عمر أو عثمان بن عروة، عن أبيه - يعني: عروة بن الزبير بن العوام - قال: قال لي أبي الزبير: ادنني من هذا اليماني - يعني: أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله ﷺ.
قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب صدق، كذب.
قال: قلت: يا أبة ما قولك صدق كذب؟
قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله ﷺ فلا أشك، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه.
وقال علي بن المديني: عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي اليسر بن أبي عامر.
قال: كنت عند طلحة بن عبيد الله إذ دخل رجل فقال: يا أبا محمد والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله ﷺ منكم، أم يقول على رسول الله ﷺ ما لم يسمع، أو ما لم يقل؟
فقال طلحة: والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ﷺ ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله ﷺ طرفي النهار ثم نرجع.
وكان هو مسكينا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله ﷺ، وكان يدور معه حيث دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع.
وقد رواه الترمذي بنحوه.
وقال شعبة: عن أشعث بن سليم، عن أبيه قال: سمعت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة فقيل له: أنت صاحب رسول الله ﷺ وتحدث عن أبي هريرة؟
فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإني إن أحدث عنه أحب إليّ من أن أحدث عن رسول الله ﷺ - يعني: ما لم أسمعه منه -.
وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج.
قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ﷺ ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله ﷺ عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله ﷺ.
وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث.
وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي: يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ﷺ ولا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر.
وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه: «من أصبح جنبا فلا صيام له» فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله ﷺ.
وقال شريك: عن مغيرة، عن إبراهيم.
قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وروى الأعمش عن إبراهيم.
قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة.
وقال الثوري: عن منصور، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شرٍ جاء القرآن به.
وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي.
وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين، والجمهور على خلافهم.
وقد كان أبو هريرة من الصدق، والحفظ، والديانة، والعبادة، والزهادة، والعمل الصالح على جانب عظيم.
قال حماد بن زيد: عن عباس الجريري، عن أبي عثمان النهدي.
قال: كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل.
وامرأته ثلثه، وابنته ثلثه، يقوم هذا ثم يوقظ هذا، ثم يوقظ هذا.
وفي الصحيحين عنه أنه قال: أوصاني خليلي ﷺ بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.
وقال ابن جريج عمن حدثه.
قال: قال أبو هريرة: إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء فجزءا لقراءة القرآن، وجزءا أنام فيه، وجزءا أتذكر فيه حديث رسول الله ﷺ.
وقال محمد بن سعد: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن عثمان القرشي، ثنا أبو أيوب.
قال: كان لأبي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب داره إذا خرج صلى فيها جميعها، وإذا دخل صلى فيها جميعا.
وقال عكرمة: كان أبو هريرة يسبح كل ليلة ثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح على قدر ديتي.
وقال هشيم: عن يعلى بن عطاء، عن ميمون بن أبي ميسرة.
قال: كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار صيحة يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار.
وإذا كان العشي يقول: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة، عن زياد بن ثوبان، عن أبي هريرة.
قال: لا تغبطن فاجرا بنعمة فإن من ورائه طالبا حثيثا طلبه، جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا.
وقال ابن لهيعة: عن أبي يونس، عن أبي هريرة أنه صلى بالناس يوما فلما سلم رفع صوته فقال: الحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما، بعدما كان أجيرا لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: ثنا عفان، ثنا سليم بن حيان، قال: سمعت أبي يحدث، عن أبي هريرة قال: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا وأحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما.
ثم يقول: والله يا أهل الإسلام إن كانت إجارتي معهم إلا على كسرة يابسة، وعقبة في ليلة غبراء مظلمة، ثم زوجنيها الله فكنت أركب إذا ركبوا، وأخدم إذا خدموا، وأنزل إذا نزلوا.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجورجاني: حدثنا الحجاج بن نصر، ثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة.
قال: قال أبو هريرة وأبو ذر: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا، وباب نعلمه عملنا به أو لم نعمل به أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا.
وقالا: سمعنا رسول الله ﷺ يقول: «إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال مات وهو شهيد».
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وروى غير واحد عن أبي هريرة أنه كان يتعوذ في سجوده أن يزني أو يسرق، أو يكفر، أو يعمل كبيرة.
فقيل له: أتخاف ذلك؟
فقال: ما يؤمنني وإبليس حي، ومصرّف القلوب يصرفها كيف يشاء؟.
وقالت له ابنته: يا أبة إن البنات يعيرنني يقلن: لم لا يحليك أبوك بالذهب؟
فقال: يا بنية قولي لهن إن أبي يخشى عليّ حر اللهب.
وقال أبو هريرة: أتيت عمر بن الخطاب فقمت له وهو يسبح بعد الصلاة، فانتظرته فلما انصرف دنوت منه فقلت: اقرئني آيات من كتاب الله.
قال: وما أريد إلا الطعام.
قال: فأقرأني آيات من سورة آل عمران، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب.
فقلت: ينزع ثيابه ثم أمر لي بطعام، فلم أر شيئا، فلما طال عليّ قمت فمشيت فاستقبلني رسول الله ﷺ فكلمني.
فقال: «يا أبا هريرة إن خلوف فمك الليلة لشديد؟».
فقلت: أجل يا رسول الله، لقد ظللت صائما وما أفطرت بعد، وما أجد ما أفطر عليه.
قال: فانطلق، فانطلقت معه حتى أتى بيته فدعا جارية له سوداء فقال: إيتنا بتلك القصعة، فأتينا بقصعة فيها وضر من طعام أراه شعيرا قد أُكل وبقي في جوانبها بعضه وهو يسير، فسميت وجعلت أتتبعه فأكلت حتى شبعت.
وقال الطبراني: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين أن أبا هريرة قال لابنته: لا تلبسي الذهب فإني أخشى عليك حر اللهب.
وقد رُوي هذا عن أبي هريرة من طرق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة أنه قال: إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم - يعني: الشهوات وما يأكلونه -.
وروى الطبراني عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب دعاه ليستعمله فأبى أن يعمل له.
فقال: أتكره العمل وقد عمل من هو خير منك؟
أو قال: قد طلبه من هو خير منك -؟
قال: من؟
قال: يوسف عليه السلام.
فقال أبو هريرة: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، فأخشى ثلاثا أو اثنتين.
فقال عمر: أفلا قلت خمسا؟
قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي.
وقال سعيد بن أبي هند: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال له: «لا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟».
فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله.
قال: فنزع نمرة على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال: «اجمعها إليك فصرها» فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني».
وقال أبو عثمان النهدي: قلت لأبي هريرة: كيف تصوم؟
قال: أصوم أول الشهر ثلاثا، فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري.
وقال حمُاد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان النهدي: أن أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم، فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم فقال: إني صائم.
فلما كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه.
فقال لهم: أراكم تنظرون إليّ، قد والله أخبرني أنه صائم.
فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «صوم شهر صوم الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر».
وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله عز وجل.
وروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا عثمان الشحام، أبو سلمة، ثنا فرقد السبخي قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: ويل لي من بطني، إن أشبعته كهظني، وإن أجعته أضعفني.
وروى الإمام أحمد: عن عكرمة قال: قال أبو هريرة: إني لأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه كل يوم اثنتي عشرة ألف مرة، وذلك على قدر ديتي.
وروى عبد الله بن أحمد، عن أبي هريرة: أنه كان له خيط فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام.
وفي رواية: ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، وهو أصح من الذي قبله.
ولما حضره الموت بكى فقيل له: ما يبكيك؟
فقال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي علي بعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود ومهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي.
وروى قتيبة بن سعيد: ثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم.
وروى الطبراني عن معمر قال: بلغني عن أبي هريرة أنه كان إذا مر به جنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة، وعقلة سريعة، يذهب الأول ويبقى الآخر لا عقل له.
وقال الحافظ أبو بكر بن مالك: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو بكر ليث بن خالد البجلي، ثنا عبد المؤمن بن عبد الله السدوسي.
قال: سمعت أبا يزيد المديني يقول: قام أبو هريرة على منبر رسول الله ﷺ دون مقام رسول الله ﷺ بعتبة، فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، ويل لهم من إمارة الصبيان، يحكمون فيهم بالهوى ويقتلون بالغضب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، عن أسامة بن زيد، عن أبي زياد - مولى ابن عباس - عن أبي هريرة قال: كانت لي خمس عشرة ثمرة فأفطرت على خمس وتسحرت بخمس وأبقيت خمسا لفطري.
وقال أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل - يعني: العبدي - عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة كانت لهم زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها يوما السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، أجوج ما أكون إليه، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل.
وروى حماد بن سلمة: عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة مرض فدخلت عليه أعوده فقلت: اللهم اشف أبا هريرة.
فقال: اللهم لا ترجعها، ثم قال: يا أبا سلمة يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر.
وروى عطاء: عن أبي هريرة قال: إذا رأيتم ستا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني، إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشو يتخذون القرآن مزامير.
وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي: أن ثعلبة بن أبي مالك القرظي حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمتي حطب - وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم - فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك.
فقلت: يرحمك الله يكفي هذا!
فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه.
وله فضائل ومناقب كثيرة، وكلام حسن، ومواعظ جمة، أسلم كما قدمنا عام خيبر، فلزم رسول الله ﷺ ولم يفارقه إلا حين بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، ووصاه به فجعله العلاء مؤذنا بين يديه.
وقال له أبو هريرة: لا تسبقني بآمين أيها الأمير.
وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته، وقاسمه مع جملة العمال.
قال عبد الرزاق: حدثنا معمر: عن أيوب، عن ابن سيرين.
أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال أي: عدو الله وعدو كتابه؟.
فقال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما.
فقال: فمن أين هي لك؟
قال: خيل نتجت، وغلة ورقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ.
فنظروا فوجدوه كما قال.
فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له.
فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرا منك؟ طلبه يوسف عليه السلام.
فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أمية وأخشى ثلاثا واثنين.
قال عمر: فهلا قلت خمسة؟.
قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي.
وذكر غيره: أن عمر غرمه في العمالة الأولى اثني عشر ألفا فلهذا امتنع في الثانية.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن محمد بن زياد.
قال: كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة فإذا غضب عليه عزله، وولى مروان بن الحكم، فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه، فعزل مروان ورجع أبو هريرة.
فقال لمولاه: من جاءك فلا ترده وأحجب مروان، فلما جاء مروان دفع الغلام في صدره فما دخل إلا بعد جهد جهيد، فلما دخل قال: إن الغلام حجبنا عنك.
فقال له أبو هريرة: إنك أحق الناس أن لا تغضب من ذلك.
والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك والله أعلم.
وقال حماد بن سلمة: عن ثابت، عن أبي رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب الحمار، ويلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير - يعني: نفسه -.
وكان يمر بالصبيان، وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب، وهو أمير، فلا يشعرون إلا وقد ألقى نفسه بينهم، ويضرب برجليه كأنه مجنون، يريد أن يضحكهم، فيفزغ الصبيان منه ويفرون عنه ههنا وههنا يتضاحكون.
قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل فيقول: دع العراق للأمير - يعني: قطع اللحم - قال: فأنظر فإذا هو ثريد بالزيت.
وقال ابن وهب: حدثني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي أن ثعلبة بن أبي مالك، حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة مروان فقال: أوسع الطريق للأمير يا بن أبي مالك.
فقلت: أصلحك الله تلقى هذا.
فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه.
وقد تقدم هذا.
وروى نحوه من غير وجه.
وقال أبو الزعيزعة كاتب مروان: بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار، فلما كان الغد بعث إليه: إني غلطت ولم أردك بها، وإني إنما أردت غيرك.
فقال أبو هريرة: قد أخرجتها فإذا خرج عطائي فخذها منه - وكان قد تصدق بها - وإنما أراد مروان اختباره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الأعلا بن عبد الجبار، ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت، وإذا أمسك عنه تكلم.
وروى غير واحد: عن أبي هريرة أنه جاءه شاب فقال: يا أبا هريرة إني أصبحت صائما فدخلت على أبي فجاءني بخبز ولحم فأكلت ناسيا.
فقال: طعمة أطعمكها الله لا عليك.
قال: ثم دخلت دارا لأهلي فجيء بلبن لقحة فشربته ناسيا.
قال: لا عليك.
قال: ثم نمت فاستيقظت فشربت ماء.
وفي رواية: وجامعت ناسيا.
فقال أبو هريرة: إنك يا بن أخي لم تعتد الصيام.
وقال غير واحد: كان أبو هريرة إذا رأى الجنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون.
وروى غير واحد: أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل: ما يبكيك؟
قال: على قلة الزاد وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إما إلى جنة أو إلى نار، فما أدري إلى أيهما أصير.
وقال مالك: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
قال: دخل مروان على أبي هريرة في مرضه الذي مات فيه فقال: شفاك الله يا أبا هريرة.
فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
قال: فما بلغ مروان أصحاب القطن حتى مات أبو هريرة.
وقال يعقوب بن سفيان: عن دحيم، عن الوليد بن جابر، عن عمير بن هانئ.
قال: قال أبو هريرة: اللهم لا تدركني سنة ستين، قال: فتوفي فيها أو قبلها بسنة، وهكذا قال الواقدي: إنه توفي سنة تسع وخمسين، عن ثمان وسبعين سنة.
قال الواقدي: وهو الذي صلى على عائشة في رمضان، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع وخمسين، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها، كذا قال: والصواب أن أم سلمة تأخرت بعد أبي هريرة.
وقد قال غير واحد: إنه توفي سنة تسع وخمسين.
وقيل: ثمان.
وقيل: سبع وخمسين، والمشهور: تسع وخمسين.
قالوا: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة، وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق من الصحابة وغيرهم، وكان ذلك عند صلاة العصر.
وكانت وفاته في داره بالعقيق، فحمل إلى المدينة فصلي عليه، ثم دفن بالبقيع رحمه الله ورضي عنه.
وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، فكتب إليه معاوية: أن انظروا ورثته فأحسن إليهم، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، واعمل إليهم معروفا، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار رحمهما الله تعالى.
عبد الله بن المغفل المزني
وكان أحد البكائين وأحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة ليفقهوا الناس، وهو أول من دخل تستر من المسلمين حين فتحها.
لكن الصحيح ما حكاه البخاري عن مسدد أنه توفي سنة سبع وخمسين.
وقال ابن عبد البر: توفي سنة ستين.
وقال غيره: سنة إحدى وستين فالله أعلم.
ويروى عنه أنه رأى في منامه كأن القيامة قد قامت، وكان هناك مكان من وصل إليه نجا، فجعل يحاول الوصول إليه.
فقيل له: أتريد أن تصل إليه وعندك ما عندك من الدنيا؟
فاستيقظ فعمد إلى عيبة عنده فيها ذهب كثير، فلم يصبح عليه الصباح إلا وقد فرقها في المساكين والمحاويج والأقارب رضي الله عنه.
وفيها توفي عمران بن حصين بن عبيد
ابن خلف أبو نجيد الخزاعي، أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر، وشهد غزوات، وكان من سادات الصحابة.
استقضاه عبد الله بن عامر على البصرة فحكم له بها، ثم استعفاه فأعفاه، ولم يزل بها حتى مات في هذه السنة.
قال الحسن وابن سيرين البصري: ما قدم البصرة راكب خير منه، وقد كانت الملائكة تسلم عليه، فلما اكتوى انقطع عنه سلامهم، ثم عادوا قبل موته بقليل فكانوا يسلمون عليه رضي الله عنه وعن أبيه.
كعب بن عجزة الأنصاري أبو محمد المدني
صحابي جليل، وهو الذي نزلت فيه آية الفدية في الحج.
مات في هذه السنة.
وقيل: قبلها بسنة عن خمس أو سبع وسبعين سنة.
معاوية بن خديج
ابن جفنة بن قتيرة الكندي الخولاني المصري، صحابي على قول الأكثرين، وذكره ابن حبان في التابعين من الثقاة، والصحيح الأول، شهد فتح مصر، وهو الذي وفد إلى عمر بفتح الإسكندرية.
وشهد مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح قتال البربر، وذهبت عينه يومئذ، ووليّ حروبا كثيرة في بلاد المغرب.
وكان عثمانيا في أيام علي ببلاد مصر، ولم يبايع عليا بالكلية.
فلما أخذ معاوية بن أبي سفيان مصر أكرمه ثم استنابه بها بعد عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه ناب بها بعد أبيه سنتين، ثم عزله معاوية، وولى معاوية بن خديج هذا، فلم يزل بمصر حتى مات بها في هذه السنة.
هانئ بن نيار أبو بردة البلوي
المخصوص بذبح العناق وإجرزائها عن غيرها من الأضاحي، وشهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها، وكانت راية بني حارثة معه يوم الفتح، رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
ففيها: غزا عبد الرحمن بن أم الحكم بلاد الروم وشتى بها.
وفيها: افتتح المسلمون وعليهم جنادة ابن أبي أمية جزيرة رودس فأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيء على الكفار، يعترضون لهم في البحر، ويقطعون سبيلهم.
وكان معاوية يدر عليهم الأرزاق والأعطيات الجزيلة، وكانوا على حذر شديد من الفرنج، يبيتون في حصن عظيم عنده فيه حوائجهم ودوابهم وحواصلهم، ولهم نواطير على البحر ينذرونهم إن قدم عدو، أو كادهم أحد.
وما زالوا كذلك حتى كانت إمرة يزيد بن معاوية بعد أبيه، فحولهم من تلك الجزيرة، وقد كانت للمسلمين بها أموال كثيرة وزراعات غزيرة.
وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص والي المدينة أيضا، قاله أبو معشر والواقدي.
وفي هذه السنة: توفي جبلة ابن الأيهم الغساني كما ستأتي ترجمته في آخر هذه التراجم
وفيها توفي الربيع بن زياد الحارثي
اختلف في صحبته، وكان نائب زياد على خراسان، وكان قد ذكر حجر بن عدي فأسف عليه، وقال: والله لو ثارت العرب له لما قتل صبرا، ولكن أقرت العرب فذلت.
ثم لما كان يوم الجمعة دعا الله على المنبر أن يقبضه إليه، فما عاش إلى الجمعة الأخرى.
واستخلف على عمله ابنه عبد الله بن الربيع فأقره زياد على ذلك، فمات بعد ذلك بشهرين، واستخلف على عملهم بخراسان خليد بن عبد الله الحنفي فأقره زياد.
رويفع بن ثابت
صحابي جليل شهد فتح مصر، وله آثار جيدة في فتح بلاد المغرب، ومات ببرقة واليا من جهة مسلمة بن مخلد نائب مصر.
وفى هذه السنة أيضا: توفي زياد بن أبي سفيان، ويقال له: زياد بن أبيه وزياد بن سمية - وهي أمه - في رمضان من هذه السنة مطعونا.
وكان سبب ذلك أنه كتب إلى معاوية يقول له: إني قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة، فارع لي ذلك، وهو يعرض له أن يستنيبه على بلاد الحجاز أيضا.
فلما بلغ أهل الحجاز جاؤوا إلى عبد الله بن عمر فشكوا إليه ذلك، وخافوا أن يلي عليهم زياد، فيعسفهم كما عسف أهل العراق.
فقام ابن عمر فاستقبل القبلة فدعا على زياد والناس يؤمنون، فطعن زياد بالعراق في يده فضاق ذرعا بذلك، واستشار شريحا القاضي في قطع يده.
فقال له شريح: إني لا أرى ذلك، فإنه إن لم يكن في الأجل فسحة لقيت الله أجذم قد قطعت يدك خوفا من لقائه، وإن كان لك أجل بقيت في الناس أجذم فيعير ولدك بذلك.
فصرفه عن ذلك، فلما خرج شريح من عنده عاتبه بعض الناس: وقالوا: هلا تركته فقطع يده؟!
فقال: قال رسول الله ﷺ: «المستشار مؤتمن».
ويقال: إن زيادا جعل يقول: أأنام أنا والطاعون في فراش واحد؟
فعزم على قطع يده، فلما جيء بالمكاوي والحديد خاف من ذلك فترك ذلك.
وذكر أنه جمع مائة وخمسين طبيبا ليداووه مما يجد من الحر في باطنه، منهم ثلاثة ممن كان يطب كسرى بن هرمز، فعجزوا عن رد القدر المحتوم، والأمر المحموم.
فمات في ثالث شهر رمضان في هذه السنة، وقد قام في إمرة العراق خمس سنين.
ودفن بالثوية خارج الكوفة، وقد كان برز منها قاصدا إلى الحجاز أميرا عليها.
فلما بلغ خبر موته عبد الله بن عمر قال: اذهب إليك يا بن سمية، فلا الدنيا بقيت لك، ولا الآخرة أدركت.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي يمن هشام بن محمد، حدثني يحيى بن ثعلبة أبو المقدم الأنصاري، عن أمه، عن عائشة، عن أبيها عبد الرحمن بن السائب الأنصاري.
قال: جمع زياد أهل الكوفة، فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرض عليهم البراءة من علي بن أبي طالب.
قال عبد الرحمن: فإني لمع نفر من أصحابي من الأنصار، والناس في أمر عظيم من ذلك وفي حصر.
قال: فهومت تهويمة - أي: نعست نعسة - فرأيت شيئا أقبل طويل العنق، له عنق مثل عنق البعير، أهدب أهدل فقلت: ما أنت؟
فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر، فاستيقظت فزعا فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟
قالوا: لا! فأخبرتهم، وخرج علينا خارج من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم: انصرفوا عني: فإني عنكم مشغول.
وإذا الطاعون قد أصابه.
وروى ابن أبي الدنيا: أن زيادا لما ولي الكوفة سأل عن أعبدها فدل على رجل يقال له: أبو المغيرة الحميري، فجاء به فقال له: إلزم بيتك ولا تخرج منه، وأنا أعطيك من المال ما شئت.
فقال: لو أعطيتني ملك الأرض ما تركت خروجي لصلاة الجماعة.
فقال: الزم الجماعة ولا تتكلم بشيء.
فقال: لا أستطيع ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأمر به فضربت عنقه.
ولما احتضر قال له ابنه: يا أبة قد هيأت لك ستين ثوبا أكفنك فيها.
فقال: يا بني، قد دنا من أبيك أمر إما لباس خير من لباسه، وإما سلب سريع.
وهذا غريب جدا.
صعصعة بن ناجية
ابن عفان بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، كان سيدا في الجاهلية وفي الإسلام.
يقال: أنه أحيى في الجاهلية ثلثمائة وستين موؤدة.
وقيل: أربعمائة.
وقيل: ستا وتسعين موؤدة.
فلما أسلم قال له رسول الله ﷺ: «لك أجر ذلك إذ منّ الله عليك بالإسلام».
ويروى عنه: أنه أول ما أحيى الموؤدة أنه ذهب في طلب ناقتين شردتا له.
قال: فبينما أنا في الليل أسير، إذ أنا بنار تضيء مرة وتخبو أخرى.
فجعلت لا أهتدي إليها، فقلت: اللهم لك علي إن أوصلتني إليها أن أدفع عن أهلها ضيما إن وجدته بهم.
قال: فوصلت إليها وإذا شيخ كبير يوقد نارا، وعنده نسوة مجتمعات، فقلت: ما أنتن؟
فقلن: إن هذه امرأة قد حبستنا منذ ثلاث، تطلق ولم تخلص.
فقال الشيخ صاحب المنزل: وما خبرك؟
فقلت: إني في طلب ناقتين ندّتا لي.
فقال: قد وجدتهما، إنهما لفي إبلنا.
قال: فنزلت عنده.
قال: فما هو إلا أن نزلت إذ قلن: وضعت.
فقال الشيخ: إن كان ذكرا فارتحلوا، وإن كان أنثى فلا تسمعنني صوتها.
فقلت: علام تقتل ولدك ورزقه على الله؟
فقال: لا حاجة لي بها.
فقلت: أنا أفتديها منك وأتركها عندك حتى تبين عنك، أو تموت.
قال: بكم؟
قلت: بإحدى ناقتي.
قال: لا!.
قلت: فبهما.
قال: لا: إلا أن تزيدني بعيرك هذا فإني أراه شابا حسن اللون.
قلت: نعم على أن تردني إلى أهلي.
قال: نعم.
فلما خرجت من عندهم رأيت أن الذي صنعته نعمة من الله منَّ بها علي هداني إليها، فجعلت لله عليّ أن لا أجد موؤدة إلا افتديتها كما افتديت هذه.
قال: فما جاء الإسلام حتى أحييت مائة موؤدة إلا أربعا، ونزل القرآن بتحريم ذلك على المسلمين.
وممن توفي في هذه السنة من المشاهير المذكورين
جبلة بن الأيهم الغساني
ملك نصارى العرب وهو جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، واسمه المنذر بن الحارث.
وهو: ابن مارية ذات القرطين.
وهو: ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، واسمه: كعب أبو عامر بن حارثة بن امرئ القيس، ومارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة.
ويقال غير ذلك في نسبه، وكنيته جبلة أبو المنذر الغساني الجفني، وكان ملك غسان، وهم نصارى العرب أيام هرقل.
وغسان أولاد عم الأنصار أوسها وخزرجها، وكان جبلة آخر ملوك غسان، فكتب إليه رسول الله ﷺ، كتابا مع شجاع بن وهب يدعوه إلى الإسلام فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله ﷺ.
وقال ابن عساكر: إنه لم يسلم قط، وهكذا صرح به الواحدي وسعيد بن عبد العزيز.
وقال الواقدي: شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب ثم أسلم بعد ذلك في أيام عمر، فاتفق أنه وطء رداء رجل من مزينة بدمشق، فلطمه ذلك المزني، فدفعه أصحاب جبلة إلى أبي عبيدة فقالوا: هذا لطم جبلة.
قال أبو عبيدة: فيلطمه جبلة.
فقالوا: أو ما يقتل؟.
قال: لا!.
قالوا: فما تقطع يده؟.
قال: لا، إنما أمر الله بالقود.
فقال جبلة: أترون أني جاعل وجهي بدلا لوجه مازني جاء من ناحية المدينة؟ بئس الدين هذا.
ثم ارتد نصرانيا، وترحل بأهله حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق عليه وقال لحسان: إن صديقك جبلة ارتد عن الإسلام.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم قال: ولِمَ؟
قال: لطمه رجل من مزينة.
فقال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه.
ورواه الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وساق ذلك بأسانيده إلى جماعة من الصحابة.
وهذا القول هو أشهر الأقوال.
وقد روى ابن الكلبي وغيره: أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة.
وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه فأذن له، فركب في خلق كثير من قومه.
قيل: مائة وخمسين راكبا.
فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل.
ومن الناس من يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر فاعترف جبلة.
فقال له عمر: أقدته منك؟
فقال: كيف، وأنا ملك وهو سوقة؟.
فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى.
فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فقال عمر: دع ذاعنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك.
فقال: إذا أتنصر.
فقال: إن تنصرت ضربت عنقك.
فلما رأى الحد قال: سأنظر في أمري هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه فسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية، فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقا جزيلة، وأهدى إليه هدايا جميلة، وجعله من سمّاره، فمكث عنده دهرا.
ثم إن عمر كتب كتابا إلى هرقل مع رجل يقال له: جثامة بن مساحق الكناني.
فلما بلغ هرقل كتاب عمر بن الخطاب قال له هرقل: هل لقيت ابن عمك جبلة؟.
قال: لا!.
قال: فالقه، فذكر اجتماعه به وما هو فيه من النعمة والسرور والحبور الدنيوي، في لباسه وفرشه ومجلسه وطيبه وجواريه، حواليه الحسان من الخدم والقيان، ومطعمه وشرابه وسروره وداره التي تعوض بها عن دار الإسلام.
وذكر أنه دعاه إلى الإسلام والعود إلى الشام فقال: أبعد ما كان مني من الارتداد؟.
فقال: نعم! إن الأشعث بن قيس ارتد وقاتلهم بالسيوف، ثم لما رجع إلى الحق قبله منه وزوجه الصديق بأخته أم فروة.
قال: فالتهى عنه بالطعام والشراب، وعرض عليه الخمر فأبى عليه، وشرب جبلة من الخمر شيئا كثيرا حتى سكر، ثم أمر جواريه المغنيات فغنينه بالعيدان من قول حسان يمدح بني عمه من غسان، والشعر في والد جبلة هذا الحيوان:
لله در عصابةٍ نادمتهم * يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم * قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفّق بالرحيق السلسل
بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم * شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم * لا يسألون عن السواد المقبل
قال: فأعجبه قولهن ذلك.
ثم قال: هذا شعر حسان بن ثابت الأنصاري فينا وفي ملكنا.
ثم قال لي: كيف حاله؟
قلت: تركته ضريرا شيخا كبيرا.
ثم قال لهن: أطربنني، فاندفعن يغنين لحسان أيضا:
لمن الديار أوحشت بمغان * بين أعلا اليرموك فالصمان
فالقريات من بلامس فداريـ*ـا فكساء لقصور الدواني
فقفا جاسمٍ فأودية الصـ*ـفر مغنى قبائلٍ وهجان
تلك دار العزيز بعد أنيسٍ * وحلوكٍ عظيمة الأركان
صلوات المسيح في ذلك الديـ*ـر دعاء القسيس والرهبان
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهـ*ـر محاه تعاقب الأزمان
قد أراني هناك حق مكينٍ * عند ذي التاج مجلسي ومكاني
ثكلت أمهم وقد ثكلتهم * يوم حلوا بحارث الحولاني
وقددنا الفصح فالولائد ينظمـ*ـن سراعا أكلة المرجان
ثم قال: هذا لابن الفريعة حسان بن ثابت فينا وفي ملكنا وفي منازلنا بأكناف غوطة دمشق.
قال: ثم سكت طويلا، ثم قال لهن: بكينني، فوضعن عيدانهن ونكسن رؤوسهن وقلن:
تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوةٌ * وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ * وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعةٍ * وقد يصبر العود الكبير على الدبر
قال: فوضع يده على وجهه فبكى حتى بلّ لحيته بدموعه وبكيت معه، ثم استدعى بخمسمائة دينار هرقلية فقال: خذ هذه فأوصلها إلى حسان بن ثابت، وجاء بأخرى فقال: خذ هذه لك.
فقلت: لا حاجة لي فيها ولا أقبل منك شيئا وقد ارتددت عن الإسلام.
فيقال: إنه أضافها إلى التي لحسان، فبعث بألف دينار هرقلية، ثم قال له: أبلغ عمر بن الخطاب مني السلام وسائر المسلمين.
فلما قدمت على عمر أخبرته خبره فقال: ورأيته يشرب الخمر؟
قلت: نعم!
قال: أبعده الله، تعجل فانية بباقية فما ربحت تجارته.
ثم قال: وما الذي وجه به لحسان؟
قلت: خمسمائة دينار هرقلية، فدعا حسانا فدفعها إليه، فأخذها وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية معشرٍ * لم يغرهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها * كلا ولا منتصرا بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده * إلا كبعض عطية المحروم
وأتيته يوما فقرب مجلسي * وسقا فرواني من المذموم
ثم لما كان في هذه السنة من أيام معاوية بعث معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري رسولا إلى ملك الروم، فاجتمع بجبلة بن الأيهم، فرأى ما هو فيه من السعادة الدنيوية والأموال من الخدم والحشم والذهب والخيول.
فقال له جبلة: لو أعلم أن معاوية يقطعني أرض البثينة فإنها منازلنا، وعشرين قرية من غوطة دمشق ويفرض لجماعتنا، ويحسن جوائزنا، لرجعت إلى الشام.
فأخبر عبد الله بن مسعدة معاوية بقوله، فقال معاوية: أنا أعطيه ذلك، وكتب إليه كتابا مع البريد بذلك، فما أدركه البريد إلا وقد مات في هذه السنة قبحه الله.
وذكر أكثر هذه الأخبار الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم وأرخ وفاته هذه السنة - أعني: سنة ثلاث وخمسين - وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأطال الترجمة وأفاد.
ثم قال في آخرها: بلغني أن جبلة توفي في خلافة معاوية بأرض الروم بعد سنة أربعين من الهجرة.
سنة أربع وخمسين
ففيها: كان شتى محمد بن مالك بأرض الروم، وغزا الصائفة معن بن يزيد السلمي.
وفيها: عزل معاوية سعيد بن العاص عن إمرة المدينة ورد إليها مروان بن الحكم، وكتب إليه أن يهدم دار سعيد بن العاص، ويصطفي أمواله التي بأرض الحجاز، فجاء مروان إلى دار سعيد ليهدمها فقال سعيد: ما كنت لتفعل ذلك، فقال: إن أمير المؤمنين كتب إليّ بذلك، ولو كتب إليك في داري لفعلته.
فقام سعيد فأخرج إليه كتاب معاوية إليه حين ولاه المدينة أن يهدم دار مروان ويصطفي ماله، وذكر أنه لم يزل يحاجف دونه حتى صرف ذلك عنه، فلما رأى مروان الكتاب إلى سعيد بذلك، ثناه ذلك عن سعيد، ولم يزل يدافع عنه حتى تركه معاوية في داره وأقرّ عليه أمواله.
وفيها: عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة، وكان زياد استخلفه عليها فأقره معاوية ستة أشهر، وولى عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان.
وروى ابن جرير وغيره عن سمرة أنه قال لما عزله معاوية: لعن الله معاوية لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدا. وهذا لا يصح عنه.
وأقر عبد الله بن خالد بن أسيد على نيابة الكوفة، وكان زياد قد استخلفه عليها فأبقاه معاوية.
وقدم في هذه السنة عبيد الله بن زياد على معاوية فأكرمه وسأله عن نواب أبيه على البلاد فأخبره عنهم، ثم ولاه إمرة خراسان وهو ابن خمس وعشرين سنة.
فسار إلى مقاطعته وتجهز من فوره غاديا إليها، فقطع النهر إلى جبال بخارا، ففتح رامس ونصف بيكند - وهما من معاملة بخارا - ولقي الترك هناك فقاتلهم قتالا شديدا وهزمهم هزيمة فظيعة بحيث إن المسلمين أعجلوا امرأة الملك أن تلبس خفيها.
فلبست واحدة وتركت أخرى، فأخذها المسلمون فقوموا جواهرها بمائتي ألف درهم، وغنموا مع ذلك غنائم كثيرة، وأقام عبيد الله بخراسان سنتين.
وفي هذه السنة: حج بالناس مروان بن الحكم نائب المدينة.
وكان على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد.
وقيل: بل كان عليها الضحاك بن قيس، وكان على البصرة عبد الله بن غيلان.
ذكر من توفي فيها من الأعيان:
أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي
أبو محمد المدني مولى رسول الله ﷺ وابن مولاه، وحبه وابن حبه، وأمه بركة أم أيمن مولاة رسول الله ﷺ وحاضنته، ولاه رسول الله الإمرة بعد مقتل أبيه فطعن بعض الناس في إمرته.
فقال رسول الله ﷺ: «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمرة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ بعده».
وثبت في صحيح البخاري عنه أن رسول الله كان يجلس الحسن على فخذه ويجلس أسامة على فخذه الأخرى، ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»، وفضائله كثيرة.
توفي رسول الله وعمره تسع عشرة سنة، وكان عمر إذا لقيه يقول: السلام عليك أيها الأمير.
وصحح أبو عمر بن عبد البر أنه توفي في هذه السنة.
وقال غيره: سنة ثمان، أو تسع وخمسين. وقيل: توفي بعد مقتل عثمان. فالله أعلم.
ثوبان بن مجدد
مولى رسول الله ﷺ، تقدمت ترجمته في مواليه ومن كان يخدمه عليه السلام، أصله من العرب فأصابه سبي فاشتراه رسول الله ﷺ فأعتقه، فلزم رسول الله سفرا وحضرا.
فلما مات أقام بالرملة، ثم انتقل إلى حمص فابتنى بها دارا ولم يزل بها حتى مات في هذه السنة على الصحيح.
وقيل: سنة أربع وأربعين، وهو غلط.
ويقال: إنه توفي بمصر، والصحيح بحمص.
جبير بن مطعم
تقدم أنه توفي سنة خمسين.
الحارث بن ربعي
أبو قتادة الأنصاري، وقال الواقدي: اسمه النعمان بن ربعي.
وقال غيره: عمرو بن ربعي، وهو أبو قتادة الأنصاري السلمي المدني فارس الإسلام، شهد أحدا وما بعدها، وكان له يوم ذي قرد سعي مشكور كما قدمنا هناك.
قال رسول الله ﷺ: «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالاتنا سلمة بن الأكوع».
وزعم أبو أحمد الحاكم أنه شهد بدرا وليس بمعروف.
وقال أبو سعيد الخدري: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة الأنصاري أن رسول الله قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية».
قال الواقدي وغير واحد: توفي في هذه السنة - يعني: سنة أربع وخمسين - بالمدينة عن سبعين سنة.
وزعم الهيثم بن عدي وغيره توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي بن أبي طالب، وهذا غريب.
حكيم بن حزام
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي، أبو خالد المكي، أمه فاختة بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى.
وعمته خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله ﷺ، وأم أولاده سوى إبراهيم.
ولدته أمه في جوف الكعبة قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وذلك أنها دخلت تزور فضربها الطلق وهي في الكعبة فوضعته على نطع، وكان شديد المحبة لرسول الله ﷺ.
ولما كان بنو هاشم وبنو المطلب في الشعب لا يبايعوا ولا يناكحوا، كان حكيم يقبل بالعير يقدم من الشام فيشتريها بكمالها، ثم يذهب بها فيضرب أدبارها حتى يلج الشعب يحمل الطعام والكسوة تكرمة لرسول الله ﷺ، ولعمته خديجة بنت خويلد.
وهو الذي اشترى زيد بن حارثة فابتاعته منه عمته خديجة فوهبته لرسول الله فأعتقه، وكان اشترى حلة ذي يزن فأهداها لرسول الله ﷺ فلبسها، قال: فما رأيت شيئا أحسن منه فيها.
ومع هذا ما أسلم إلا يوم الفتح هو وأولاده كلهم.
قال البخاري وغيره: عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، وكان من سادات قريش وكرمائهم وأعلمهم بالنسب، وكان كثير الصدقة والبر والعتاقة، فلما أسلم سأل عن ذلك رسول الله فقال: «أسلمت على ما أسلمت من خير».
وقد كان حكيم شهد مع المشركين بدرا وتقدم إلى الحوض فكاد حمزة أن يقتله، فما سحب إلا سحبا بين يديه، فلهذا كان إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي نجاني يوم بدر.
ولما ركب رسول الله إلى فتح مكة ومعه الجنود بمر الظهران، خرج حكيم وأبو سفيان يتجسسان الأخبار، فلقيهما العباس، فأخذ أبا سفيان فأجاره، وأخذ له أمانا من رسول الله ﷺ، وأسلم أبو سفيان ليلتئذ كرها.
ومن صبيحة ذلك اليوم أسلم حكيم وشهد مع رسول الله ﷺ حنينا، وأعطاه مائة من الإبل، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه.
ثم قال: «يا حكيم إن هذه المال حلوة خضرة، وإنه من أخذه بسخاوة بورك له فيه، ومن أخذه بإسراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع».
فقال حكيم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ بعدك أبدا.
فلم يرزأ أحدا بعده، وكان أبو بكر يعرض عليه العطاء فيأبى، وكان عمر يعرض عليه العطاء فيأبى، فيشهد عليه المسلمين، ومع هذا كان من أغنى الناس.
مات الزبير يوم مات ولحكيم عليه مائة ألف، وقد كان بيده حين أسلم الرفادة ودار الندوة فباعها بعد من معاوية بمائة ألف.
وفي رواية: بأربعين ألف دينار، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش؟
فقال له حكيم: ابن أخي ذهبت المكارم فلا كرم إلا التقوى، يا بن أخي إني اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، ولأشترين بها دارا في الجنة، أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله.
وهذه الدار كانت لقريش بمنزلة دار العدل، وكان لا يدخلها أحد إلا وقد صار سنه أربعين سنة، إلا حكيم بن حزام فإنه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة، ذكره الزبير بن بكار.
وذكر الزبير أن حكيما حج عاما فأهدى مائة بدنة مجللة، وألف شاة، وأوقف معه بعرفات وصيف في أعناقهم أطوقة الفضة، وقد نقش فيها: هؤلاء عتقاء الله عن حكيم بن حزام، فأعتقهم وأهدى جميع تلك الأنعام رضي الله عنه.
توفي حكيم في هذه السنة على الصحيح.
وقيل: غير ذلك وله مائة وعشرون سنة.
حويطب بن عبد العزى العامري
صحابي جليل، أسلم عام الفتح، وكان قد عمّر دهرا طويلا، ولهذا جعله عمر في النفر الذين جددوا أنصاب الحرم، وقد شهد بدرا مع المشركين، ورأى الملائكة يومئذ بين السماء والأرض، وشهد الحديبية وسعى في الصلح.
فلما كان عمرة القضاء كان هو وسهيل هما اللذان أمرا رسول الله ﷺ بالخروج من مكة، فأمر بلالا أن لا تغرب الشمس وبمكة أحد من أصحابه.
قال: وفي كل هذه المواطن أهم بالإسلام ويأبى الله إلا ما يريد، فلما كان زمن الفتح خفت خوفا شديدا وهربت فلحقني أبو ذر - وكان لي خليلا في الجاهلية - فقال: يا حويطب مالك؟
فقلت: خائف.
فقال: لا تخف فإنه أبر الناس وأوصل الناس، وأنا لك جار فاقدم معي، فرجعت معه فوقف بي على رسول الله وهو بالبطحاء ومعه أبو بكر وعمر، وقد علمني أبو ذر أن أقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما قلت ذلك قال: حويطب؟
قلت: نعم! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال: الحمد لله الذي هداك.
وسُرَ بذلك واستقرضني مالا فأقرضته أربعين ألفا، وشهدت معه حنينا والطائف، وأعطاني من غنائم حنين مائة بعير.
ثم قدم حويطب بعد ذلك المدينة فنزلها وله بها دار، ولما ولي عليها مروان بن الحكم جاءه حويطب، وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل، فسلموا عليه وجعلوا يتحدثون عنده ثم تفرقوا، ثم اجتمع حويطب بمروان يوما آخر فسأله مروان عن عمره فأخبره، فقال له: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث.
فقال حويطب: الله المستعان، والله لقد هممت بالإسلام غير مرة كل ذلك يعوقني أبوك يقول تضع شرفك وتدع دين آبائك لدين محدث؟ وتصير تابعا؟
قال: فأسكت مروان وندم على ما كان قال له، ثم قال حويطب: أما كان أخبرك عثمان ما كان لقي من أبيك حين أسلم؟
قال: فازداد مروان غما.
وكان حويطب ممن شهد دفن عثمان، واشترى منه معاوية داره بمكة بأربعين ألف دينار فاستكثرها الناس.
فقال: وما هي في رجل له خمسة من العيال؟
قال الشافعي: كان حويطب جيد الإسلام، وكان أكثر قريش ريعا جاهليا.
وقال الواقدي: عاش حويطب في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، ومات حويطب في هذه السنة بالمدينة وله مائة وعشرون سنة.
وقال غيره: توفي بالشام.
له حديث واحد رواه البخاري، ومسلم، والنسائي من حديث السائب بن يزيد عنه عن عبد الله بن السعدي، عن عمر في العمالة، وهو من عزيز الحديث لأنه اجتمع فيه أربعة من الصحابة رضي الله عنهم.
معبد بن يربوع بن عنكثة
ابن عامر بن مخزوم، أسلم عام الفتح، وشهد حنينا، وأعطاه رسول الله خمسين من الإبل، وكان اسمه صرما، وفي رواية أصرم، فسماه معبدا.
وكان في جملة النفر الذين أمرهم عمر بتجديد أنصاب الحرم، وقد أصيب بصره بعد ذلك فأتاه عمر يعزيه فيه، رواه البخاري.
قال الواقدي وخليفة وغير واحد: مات في هذه السنة بالمدينة.
وقيل: بمكة وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وقيل: أكثر من ذلك.
مرة بن شراحيل الهمداني
يقال له: مرة الطيب، ومرة الخير.
روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود وغيرهم.
كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما كبر صلى أربعمائة ركعة، ويقال: إنه سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رُئي في المنام - وقد صار ذلك المكان نورا - فقيل له: أين منزلك؟
فقال: بدار لا يظعن أهلها ولا يموتون.
النعيمان بن عمرو
ابن رفاعة بن الحر، شهد بدرا وما بعدها، ويقال: إنه الذي كان يؤتى به في الشراب.
فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به!
فقال رسول الله ﷺ: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله».
سودة بنت زمعة
القرشية العامرية، أم المؤمنين، تزوجها رسول الله بعد خديجة، وكانت قبله عند السكران بن عمر وأخي سهيل بن عمرو، فلما كبرت همّ رسول الله بطلاقها.
ويقال: إنه طلقها، فسألته أن يبقيها في نسائه وتهب يومها لعائشة، فقبل ذلك رسول الله ﷺ حتى أنزل الله: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزا أَوْ إِعْرَاضا } الآية: [11].
وكانت ذات عبادة وورع وزهادة، قالت عائشة: ما من امرأة أحب إليّ أن أكون في مسلاخها غير أن فيها حدة تسرع منها الفيئة.
ذكر ابن الجوزي وفاتها في هذه السنة، وقال ابن أبي خيثمة: توفيت في آخر خلافة عمر بن الخطاب. فالله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين
فيها: عزل معاوية عبد الله بن غيلان عن البصرة وولى عليها عبيد الله بن زياد، وكان سبب عزل معاوية بن غيلان عن البصرة: أنه كان يخطب الناس فحصبه رجل من بني ضبة فأمر بقطع يده.
فجاء قومه إليه فقالوا له: إنه متى بلغ أمير المؤمنين أنك قطعت يده في هذا الصنع فعل به وبقومه نظير ما فعل بحجر بن عدي، فاكتب لنا كتابا أنك قطعت يده في شبهة، فكتب لهم فتركوه عندهم حينا ثم جاؤوا معاوية فقالوا له: إن نائبك قطع يد صاحبنا في شبهة فأقدنا منه.
قال: لا سبيل إلى القود من نوابي ولكن الدية، فأعطاهم الدية وعزل ابن غيلان.
وقال لهم: اختاروا من تريدون فذكروا رجالا فقال: لا!
ولكن أولي عليكم ابن أخي عبيد الله بن زياد، فولاه فاستخلف ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة، فلم يغز ولم يفتح شيئا، وولى قضاء البصرة لزرارة بن أوفى ثم عزله وولى ابن أذينة، وولى شرطتها عبد الله بن الحصين.
وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.
وفيها: عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة وولى عليها الضحاك بن قيس رضي الله عنه.
ذكر من توفي من الأعيان في هذه السنة
أرقم بن أبي الأرقم
عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسلم قديما، يقال: سابع سبعة.
وكانت داره كهفا للمسلمين يأوي إليها رسول الله ﷺ ومن أسلم من قريش، وكانت عند الصفا وقد صارت فيما بعد ذلك للمهدي فوهبها لامرأته الخيزران أم موسى الهادي وهارون الرشيد، فبنتها وجددتها فعرفت بها، ثم صارت لغيرها.
وقد شهد الأرقم بدرا وما بعدها من المشاهد، ومات بالمدينة في هذه السنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص أوصى به رضي الله عنهما، وله بضع وثمانون سنة.
سحبان بن زفر بن إياس
ابن عبد شمس بن الأجب الباهلي الوائلي، الذي يضرب بفصاحته المثل.
فيقال: أفصح من سحبان وائل، ووائل هو ابن معد بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار، وباهلة امرأة مالك بن أعصر، ينسب إليها ولدها، وهي باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة.
قال ابن عساكر: سحبان المعروف: بسحبان وائل، بلغني أنه وفد إلى معاوية فتكلم فقال معاوية: أنت الشيخ؟
فقال: إي والله وغير ذلك، ولم يزد ابن عساكر على هذا، وقد نسبه ابن الجوزي في كتابه المنتظم كما ذكرنا.
ثم قال: وكان بليغا بليغا يضرب المثل بفصاحته، دخل يوما على معاوية وعنده خطباء القبائل.
فلما رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه، فقال سحبان:
لقد علم الحي اليمانون أنني * إذا قلت أما بعد أني خطيبها
فقال له معاوية: أخطب!
فقال: أنظروا لي عصى تقيم من أودي.
فقالوا: وماذا تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟
فقال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، فأخذها وتكلم من الظهر إلى أن قاربت العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيت عليه بقية فيه.
فقال معاوية: الصلاة!
فقال: الصلاة أمامك، ألسنا في تحميد وتمجيد وعظة وتنبيه، وتذكير ووعد ووعيد؟
فقال معاوية: أنت أخطب العرب.
قال: العرب وحدها؟ بل أخطب الجن والإنس.
قال: كذلك أنت.
سعد بن أبي وقاص
واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب، أبو إسحاق القرشي الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله وهو عنهم راضٍ.
أسلم قديما، قالوا: وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام سابع سبعة.
وهو الذي كّوف الكوفة ونفى عنها الأعاجم، وكان مجاب الدعوة، وهاجر وشهد بدرا وما بعدها، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارسا شجاعا من أمراء رسول الله ﷺ، وكان في أيام الصديق معظما جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر، وقد استنابه على الكوفة، وهو الذي فتح المدائن، وكانت بين يديه وقعة جلولاء.
وكان سيدا مطاعا، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة، ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك.
وقد ذكره في الستة أصحاب الشورى، ثم ولاه عثمان بعدها، ثم عزله عنها.
وقال الحميدي: عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر دومة الجندل يوم الحكمين.
وثبت في صحيح مسلم: أن ابنه عمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال: الناس يتنازعون الإمارة وأنت هاهنا؟
فقال: يا بني إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي».
قال ابن عساكر: ذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جاءه فقال له: يا عم هاهنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر.
فقال: أريد من مائة ألف سيفا واحدا إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، وإذا ضربت به الكافر قطع.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني زكريا بن عمر وأن سعد بن أبي وقاص وفد على معاوية فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر.
وقال غيره: فبايعه وما سأله سعد شيئا إلا أعطاه إياه.
قال أبو يعلى: حدثنا زهير ثنا إسماعيل بن علية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم.
قال: قال سعد: إني لأول رجل رمى بسهم في المشركين، وما جمع رسول الله أبويه لأحد قبلي.
ولقد سمعته يقول: «إرم فداك أبي وأمي».
وقال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا إسماعيل، عن قيس سمعت سعد بن مالك يقول: والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السَّمرُ، حتى أن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خِلطٌ.
ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الدين، لقد خبت إذا وضلّ عملي.
وقد رواه شعبة، ووكيع، وغير واحد، عن إسماعيل بن أبي خالد به.
وقال أحمد: حدثنا ابن سعيد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن سعد.
قال: جمع لي رسول الله ﷺ أبويه يوم أُحد.
ورواه أحمد أيضا: عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري.
وقد رواه الليث وغير واحد عن يحيى الأنصاري.
ورواه غير واحد، عن سعيد بن المسيب، عن سعد.
ورواه الناس من حديث عامر بن سعد، عن أبيه.
وفي بعض الروايات: «فداك أبي وأمي».
وفي رواية: فقال: «إرم وأنت الغلام الحزور».
قال سعيد: وكان سعد جيد الرمي.
وقال الأعمش: عن أبي خالد، عن جابر بن سمرة.
قال: أول الناس رمى بسهم في سبيل الله سعد رضي الله عنه.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شداد سمعت عليا يقول: ما سمعت رسول الله يفدي أحدا بأبويه إلا سعد بن مالك، وإني سمعته يقول له يوم أحد: «ارم سعد فداك أمي وأبي».
ورواه البخاري: عن أبي نعيم، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم به.
ورواه شعبة: عن سعد بن إبراهيم.
ورواه سفيان بن عيينة وغير واحد عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن علي بن أبي طالب فذكره.
وقال عبد الرزاق: أنا معمر، عن أيوب أنه سمع عائشة بنت سعد تقول: أنا بنت المهاجر الذي فداه رسول الله ﷺ بالأبوين.
وقال الواقدي: حدثني عبيدة بن نابل، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها.
قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أُحد فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد ذلك فظننت أنه ملك.
وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، ثنا إبراهيم، عن سعد، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص.
قال: لقد رأيت عن يمين رسول الله ﷺ وعن يساره يوم أُحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.
ورواه الواقدي: حدثني إسحاق بن أبي عبد الله، عن عبد العزيز - جد ابن أبي عون - عن زياد مولى سعد، عن سعد قال: رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن رسول الله ﷺ أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وإني لأراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة مسرورا بما ظفره الله عزّ وجلّ.
وقال سفيان: عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، عن أبيه.
قال: اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة، فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء.
وقال الأعمش: عن إبراهيم بن علقمة، عن ابن مسعود.
قال: لقد رأيت سعد بن أبي وقاص يوم بدر يقاتل قتال الفارس للراجل.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد، أنه سمع عبد الله بن عامر يقول: قالت عائشة: بات رسول الله أرقا ذات ليلة ثم قال: «ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة؟».
قالت: إذ سمعنا صوت السلاح.
فقال: من هذا؟
قال: أنا سعد بن أبي وقاص، أنا أحرسك يا رسول الله.
قالت: فنام رسول الله ﷺ حتى سمعت غطيطه. أخرجاه من حديث يحيى بن سعيد.
وفي رواية: فدعا له رسول الله ﷺ ثم نام.
وقال أحمد: حدثنا قتيبة، ثنا رشدين بن سعد، عن يحيى بن الحجاج بن شداد، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: «أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة»، فدخل سعد بن أبي وقاص.
وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الله بن قيس الرقاشي الخراز، بصري: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر.
قال: كنا جلوسا عند رسول الله ﷺ فقال: «يدخل عليكم من ذا الباب رجل من أهل الجنة».
قال: فليس منا أحد إلا وهو يتمنى أن يكون من أهل بيته، فإذا سعد بن أبي وقاص قد طلع.
وقال حرملة: عن ابن وهب، أخبرني حيوة، أخبرني عقيل، عن ابن شهاب، حدثني من لا أتهم عن أنس بن مالك.
قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله ﷺ فقال: «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة»، فاطلع سعد بن أبي وقاص، حتى إذا كان الغد قال رسول الله مثل ذلك.
قال: فاطلع سعد بن أبي وقاص على ترتيبه الأول، حتى إذا كان الغد قال رسول الله مثل ذلك.
قال: فطلع على ترتيبه.
فلما قام رسول الله ﷺ ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني غاضبت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليالٍ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تنحل يميني فعلت.
قال أنس: فزعم عبد الله بن عمرو أنه بات معه ليلة حتى إذا كان الفجر فلم يقم تلك الليلة شيئا، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبره حتى يقوم مع الفجر، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه ثم يصبح مفطرا.
قال عبد الله بن عمرو: فرمقته ثلاث ليال وأيامهن لا يزيد على ذلك، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله، قلت: إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر.
ولكني سمعت رسول الله قال ذلك في ثلاث مرات في ثلاث مجالس: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة» فاطلعت أنت أولئك المرات الثلاث.
فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك لأنال ما نلت، فلم أرك تعمل كثير عمل، ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟
فقال: ما هو إلا الذي رأيت.
قال: فلما رأيت ذلك انصرفت فدعا بي حين وليت، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي سوءا لأحد من المسلمين، ولا أنوي له شرا ولا أقوله.
قال: قلت: هذه التي بلغت بك وهي التي لا أطيق.
وهكذا رواه صالح المزي، عن عمر بن دينار - مولى الزبير - عن سالم، عن أبيه فذكر مثل رواية أنس بن مالك.
وثبت في صحيح مسلم من طريق سفيان الثوري، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد في قوله تعالى: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [12] نزلت في ستة، أنا وابن مسعود منهم.
وفي رواية: أنزل الله فيَّ: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [13].
وذلك أنه لما أسلم امتنعت أمه من الطعام والشراب أياما، فقال لها: تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء، إن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فنزلت هذه الآية.
وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنة فثبت في الصحيح عن سعيد بن زيد.
وجاء من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة في قصة حراء ذكر سعد بن أبي وقاص منهم.
وقال هشيم وغير واحد: عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر.
قال: كنا مع رسول الله فأقبل سعد فقال رسول الله ﷺ: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله».رواه الترمذي.
وقال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عبد الوهاب بن الضحاك، ثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي، عن جابر قال: كنا مع رسول الله ﷺ إذ أقبل سعد فقال: «هذا خالي».
وثبت في الصحيح من حديث مالك وغيره، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه: أن رسول الله جاءه يعوده عام حجة الوداع من وجع اشتد به.
فقلت: يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟
قال: «لا»!
قلت: فالشطر يا رسول الله ﷺ؟
قال: «لا»!
قلت: فالثلث؟
قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك».
قلت: يا رسول الله ﷺ أخلف بعد أصحابي؟
فقال: «إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون».
ثم قال: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خوّلة يرثي له رسول الله أن مات بمكة».
ورواه أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن الجعد بن أوس، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها فذكر نحوه، وفيه قال: فوضع يده على جبهته فمسح وجهه وصدره وبطنه وقال: «اللهم اشف سعدا وأتم له هجرته».
قال سعد: فما زلت يخيل إليّ أني أجد برده على كبدي حتى الساعة.
وقال ابن وهب: حدثني موسى بن علي بن رباح، عن أبيه: «أن رسول الله ﷺ عاد سعدا فقال: «اللهم أذهب عنه البأس، إله الناس، ملك الناس، أنت الشافي لا شافي له إلا أنت، بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من حسد وعين، اللهم أصح قلبه وجسمه، واكشف سقمه وأجب دعوته».
وقال ابن وهب: أخبرني عمر، وعن بكر بن الأشج قال: سألت عامر بن سعد عن قول رسول الله لسعد: «وعسى أن تبقى وينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون».
فقال: أُمِّرَ سعد على العراق فقتل قوما على الردة فضرهم، واستتاب قوما كانوا سجعوا سجع مسيلمة الكذاب فتابوا فانتفعوا به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا المغيرة، ثنا معاذ بن رفاعة، حدثني علي بن زيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة.
قال: جلسنا إلى رسول الله فذكَّرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء وقال: يا ليتني مت، فقال رسول الله ﷺ: «يا سعد إن كنت للجنة خلقت فما طال عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك».
وقال موسى بن عقبة وغيره: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن سعد: إن رسول الله ﷺ قال: «اللهم سدد رميته وأجب دعوته».
ورواه سيار بن بشير: عن قيس، عن أبي بكر الصديق.
قال: سمعت رسول الله يقول لسعد: «اللهم سدد سهمه وأجب دعوته، وحببه إلى عبادك».
وروي من حديث ابن عباس، وفي رواية محمد بن عائد الدمشقي، عن الهيثم بن حميد، عن مطعم، عن المقدام وغيره أن سعدا قال: يا رسول الله ادع الله أن يجيب دعوتي.
فقال: «إنه لا يستجيب الله دعوة عبد حتى يطيب مطعمه».
فقال: يا رسول الله ادع الله أن يطيب مطعمي، فدعا له».
قالوا: فكان سعد يتورع من السنبلة يجدها في زرعه فيردها من حيث أخذت.
وقد كان كذلك مجاب الدعوة لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له، فمن أشهر ذلك ما رُوي في الصحيحين من طريق عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سلمة: أن أهل الكوفة شكوا سعدا إلى عمر في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي.
فقال سعد: أما إني لا آلو أن أصلي بهم صلاة رسول الله ﷺ أطيل الأوليين وأحذف الأخرتين.
فقال: الظن بك يا أبا إسحاق، وكان قد بعث من يسأل عنه بمحال الكوفة، فجعلوا لا يسألون أهل مسجد إلا أثنوا خيرا، حتى مروا بمسجد لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أبو سعدة أسامة بن قتادة فقال: إن سعدا كان لا يسير في السرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية القضية.
فبلغ سعدا فقال: اللهم إن كان عبدك هذا قام مقام رياء وسمعة فأطل عمره، وأدم فقره، وأعمِ بصره، وعرضه للفتن.
قال: فأنا رأيته بعد ذلك شيخا كبيرا قد سقطت حاجباه على عينيه يقف في الطريق فيغمز الجواري فيقال له، فيقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد.
وفي رواية غريبة أنه أدرك فتنة المختار بن أبي عبيد فقتل فيها.
وقال الطبراني: ثنا يوسف القاضي، ثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن المسيب.
قال: خرجت جارية لسعد يقال لها زبراء، وعليها قميص جديد فكشفتها الريح فشد عليها عمر بالدرة، وجاء سعد ليمنعه فتناوله عمر بالدرة فذهب سعد يدعو على عمر، فناوله الدرة وقال: اقتص مني فعفى عن عمر.
وروي أيضا: أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام فهمّ سعد أن يدعو عليه فخاف ابن مسعود وجعل يشتد في الهرب.
وقال سفيان بن عيينة: لما كان يوم القادسية كان سعد على الناس وقد أصابته جراح فلم يشهد يوم الفتح، فقال رجل من بجيلة:
ألم تر أن الله أظهر دينه * وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد أيمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فقال سعد: اللهم اكفنا يده ولسانه، فجاءه سهم غرب فأصابه فخرس ويبست يداه جميعا.
وقد أسند زياد البكائي وسيف بن عمر، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، عن ابن عمر فذكر مثله.
وفيه: ثم خرج سعد فأرى الناس ما به من القروح في ظهره ليعتذر إليهم.
وقال هشيم: عن أبي بلح، عن مصعب بن سعد: أن رجلا نال من علي فنهاه سعد فلم ينته، فقال سعد: أدعو عليك فلم ينته، فدعا الله عليه حتى جاء بعير نادٍ فتخبطه.
وجاء من وجه آخر عن عامر بن سعد: أن سعدا رأى جماعة عكوفا على رجل فأدخل رأسه من بين اثنين فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير، فنهاه عن ذلك فلم ينته، فقال: أدعو عليك، فقال الرجل: تتهددني كأنك نبي؟ فانصرف سعد فدخل دار آل فلان فتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه فقال: اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى، وأنه قد أسخطك سبه إياهم، فاجعله اليوم آية وعبرة.
قال: فخرجت بختية نادة من دار آل فلان لا يردها شيء حتى دخلت بين أضعاف الناس، فافترق الناس فأخذته بين قوائمها، فلم يزل تتخبطه حتى مات.
قال: فلقد رأيت الناس يشتدون وراء سعد يقولون: استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق.
ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب فذكر نحوه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر القرشي، ثنا عبد الرزاق، عن أبيه، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف: أن امرأة كانت تطلع على سعد فنهاها فلم تنته، فاطلعت يوما وهو يتوضأ، فقال: شاه وجهك، فعاد وجهها في قفاها.
وقال كثير النوري: عن عبد الله بن بديل قال: دخل سعد على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل معنا؟
فقال: إني مرت بي ريح مظلمة فقلت: أخ أخ.
فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ثم عرفت الطريق فسرت.
فقال معاوية: ليس في كتاب الله أخ أخ.
ولكن قال الله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [14]، فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.
فقال سعد: ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله ﷺ: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي».
فقال معاوية: من سمع هذا معك؟
فقال: فلان، وفلان، وأم سلمة.
فقال معاوية: أما إني لو سمعته منه ﷺ لما قاتلت عليا.
وفي رواية من وجه آخر: أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية، وأنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها فحدثتهما بما حدث به سعد.
فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت.
وفي إسناد هذا ضعف والله أعلم.
وقد روي عن سعد أنه سمع رجلا يتكلم في علي وفي خالد، فقال: إنه لم يبلغ ما بيننا إلى ديننا.
وقال محمد بن سيرين: طاف سعد على تسع جوار في ليلة، فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم فاستحيت أن توقظه.
ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب: يا بني إذا طلبت شيئا فاطلبه بالقناعة، فإنه من لا قناعة له لم يغنه المال.
وقال حماد بن سلمة عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد.
قال: كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت، فقال: ما يبكيك يا بني؟ والله إن الله لا يعذبني أبدا، وإني من أهل الجنة، إن الله يدين للمؤمنين بحسناتهم فاعملوا لله، وأما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم، فإذا نفدت قال: ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له.
وقال الزهري: لما حضرت سعدا الوفاة، دعا بخلق جبة فقال: كفنوني في هذه فإني لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما خبأتها لهذا اليوم.
وكانت وفاة سعد بالعقيق خارج المدينة، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال فصلى عليه مروان، وصلى بصلاته أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات، ودفن بالبقيع، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على المشهور الذي عليه الأكثرون، وقد جاوز الثمانين على الصحيح.
قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة.
وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
وقال الهيثم بن عدي: سنة خمسين.
وقال أبو معشر، وأبو نعيم مغيث بن المحرر: توفي سعد سنة ثمان وخمسين.
زاد مغيث: وفيها: توفي الحسن بن علي، وعائشة، وأم سلمة، والصحيح الأول - خمس وخمسين - قالوا: وكان قصيرا، غليظا، شثن الكفين، أفطس، أشعر الجسد، يخضب بالسواد، وكان ميراثه مائتي ألف وخمسين ألفا.
فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي
أول مشاهده أُحد وشهد بيعة الرضوان، ودخل الشام، وتولى القضاء بدمشق في أيام معاوية بعد أبي الدرداء.
قال أبو عبيد: مات سنة ثلاث وخمسين، وقال غيره: سنة سبع وستين.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: توفي في هذه السنة والله أعلم.
قثم بن العباس بن عبد المطلب
كان أشبه الناس برسول الله ﷺ، تولى نيابة المدينة في أيام علي، وشهد فتح سمرقند فاستشهد بها.
كعب بن عمرو أبو اليسر
الأنصاري السلمي، شهد العقبة وبدرا، وأسر يومئذٍ العباس بن عبد المطلب، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد كلها مع رسول الله ﷺ.
قال أبو حاتم وغيره: مات سنة خمس وخمسين، زاد غيره وهو آخر من مات من أهل بدر.
ثم دخلت سنة ست وخمسين
وذلك في أيام معاوية.
ففيها: شتى جُنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن بن مسعود. ويقال:
فيها: غزا في البحر يزيد بن سمرة، وفي البر عياض بن الحارث.
وفيها: اعتمر معاوية في رجب، وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وفيها: ولى معاوية سعيد بن عثمان بلاد خراسان، وعزل عنها عبيد الله بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان والتقى مع الترك عند صغد سمرقند، فقتل منهم خلقا كثيرا، واستشهد معه جماعة منهم فيما قيل: قثم بن العباس بن عبد المطلب.
قال ابن جرير: سأل سعيد بن عثمان بن عفان معاوية أن يوليه خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد.
فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه، ولا جازيته بآلائه، وقدمت عليّ هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له، ووالله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له معاوية: أما بلاء أبيك عندي فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور ولست بلائم لنفسي في التشمير.
وأما فضل أبيك على أبيه، فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله ﷺ، وأما فضل أمك على أمه، فما لا ينكر، فإن امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك - يعني أن الغوطة لو ملئت رجالا مثل سعيد بن عثمان - كان يزيد خيرا وأحب إليّ منهم.
فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره، وقد عتب عليك فيَّ فأعتبه.
فولاه حرب خراسان، فأتى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد من الترك فقاتلهم وهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا خمسين غلاما يكونون في يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالترمذ ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة.
وفيها: دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولي عهده من بعده، - وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة - فروى ابن جرير: من طريق الشعبي، أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة، فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص.
فلما بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون ولي العهد، فسأل ذلك من أبيه.
فقال: من أمرك بهذا؟
قال: المغيرة، فأعجب ذلك معاوية من المغيرة، ورده إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك.
وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك، وهو عُبيد بن كعب بن النميري - وكان صاحبا أكيدا لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولا.
فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإن تركه خير له من السعي فيه، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا الوقت.
فلما مات زياد وكانت هذه السنة، شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس في سائر الأقاليم، إلا عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس.
فركب معاوية إلى مكة معتمرا، فلما اجتاز بالمدينة - مرجعه من مكة - استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده، فكان من أشدهم عليه ردا وأجلدهم في الكلام، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافا، لمّا تهددهم وتوعدهم، فاتسقت البيعة ليزيد في سائر البلاد.
ووفدت الوفود من سائر الأقاليم إلى يزيد، فكان فيمن قدم الأحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا ثم خرج الأحنف فقال له معاوية: ماذا رأيت من ابن أخيك؟
فقال: إنا نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا، وأنت أعلم به في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم به بما أردت، وإنما علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للأمة.
وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي، أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهلا، وذاك من شدة محبة الوالد لولده.
ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى.
ولهذا قال لعبد الله بن عمر فيما خاطبه به: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ.
فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الأطراف.
وقد عاتب معاوية في ولايته يزيد، سعيد بن عثمان بن عفان وطلب منه أن يوليه مكانه.
وقال له سعيد فيما قال: إن أبي لم يزل معتنيا بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك عليّ وأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له: أما ما ذكرت من إحسان أبيك إليّ فإنه أمر لا ينكر، وأما كون أبيك خير من أبيه فحق، وأمك قرشية وأمه كلبية فهي خير منها، وأما كونك خيرا منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك، لكان يزيد أحب إليّ منكم كلكم.
وروينا عن معاوية أنه قال يوما في خطبته: اللهم إن كنت تعلم أني وليته لأنه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته، وإن كُنت وليته لأني أحبه فلا تتمم له ما وليته.
وذكر الحافظ ابن عساكر: أن معاوية كان قد سمر ليلة فتكلم أصحابه في المرأة التي يكون ولدها نجيبا، فذكروا صفة المرأة التي يكون ولدها نجيبا.
فقال معاوية: وددت لو عرفت بامرأة تكون بهذه المئابة؟.
فقال أحد جلسائه: قد وجدت ذلك يا أمير المؤمنين.
قال: ومن؟
قال: ابنتي يا أمير المؤمنين.
فتزوجها معاوية فولدت له يزيد بن معاوية فجاء نجيبا ذكيا حاذقا.
ثم خطب امرأة أخرى فحظيت عنده وولدت له غلاما آخر، وهجر أم يزيد فكانت عنده في جنب داره، فبينما هو في النظارة ومعه امرأته الأخرى، إذ نظر إلى أم يزيد وهي تسرحه.
فقالت امرأته: قبحها الله وقبح ما تسرح.
فقال: ولم؟ فوالله إن ولدها أنجب من ولدك، وإن أحببت بينت لك ذلك، ثم استدعى ولدها.
فقال له: إن أمير المؤمنين قد عنَّ له أن يطلق لك ما تتمناه عليه فاطلب مني ما شئت.
فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يطلق لي كلابا للصيد وخيلا ورجالا يكونون معي في الصيد.
فقال: قد أمرنا لك بذلك، ثم استدعى يزيد، فقال له كما قال لأخيه.
فقال يزيد: أو يعفيني أمير المؤمنين في هذا الوقت عن هذا؟.
فقال: لا بد لك أن تسأل حاجتك؟.
فقال: أسأل - وأطال الله عمر أمير المؤمنين - أن أكون ولي عهده من بعده، فإنه بلغني أن عدل يوم في الرعية كعبادة خمسمائة عام.
فقال: قد أجبتك إلى ذلك.
ثم قال لامرأته: كيف رأيت؟ فعلمت وتحققت فضل يزيد على ولدها.
وقد ذكر ابن الجوزي في هذه السنة وفاة أم حرام بنت ملحان الأنصارية امرأة عبادة بن عُبادة بن الصامت، والصحيح الذي لم يذكر العلماء غيره أنها توفيت سنة سبع وعشرين، في خلافة عثمان.
وكانت هي وزوجها مع معاوية حين دخل قبرص، وقصتها بغلتها فماتت هناك وقبرها بقبرص.
والعجب أن ابن الجوزي أورد في ترجمتها حديثها المخرج في الصحيحين في قيلولة النبي ﷺ في بيتها، ورؤياه منامه قوما من أمته يركبون ثبج البحر مثل الملوك على الأسرة غزاة في سبيل الله، وأنها سألته أن يدعو لها أن تكون منهم فدعا لها، ثم نام فرأى كذلك.
فقالت: ادعو الله أن يجعلني منهم.
فقال: «لا! أنت من الأولين».
وهم الذين فتحوا قبرص فكانت معهم، وذلك في سنة سبع وعشرين، ولم تكن من الآخرين الذين غزوا بلاد الروم سنة إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية ومعهم أبو أيوب.
وقد توفي هناك فقبره قريب من سور قسطنطينية وقد ذكرنا هذا مقرارا في دلائل النبوة.
سنة سبع وخمسين
فيها: كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم، قال الواقدي: وفي شوالها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة، وولى عليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، لأنه صارت إليه إمرة المدينة.
وكان على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان.
قال ابن الجوزي وفيها توفي عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي
وهو أخو عبادة وسهل ابني حُنيف، بعثه عمر لمساحة خراج السواد بالعراق، واستنابه عمر على الكوفة.
فلما قدم طلحة والزبير صحبة عائشة وامتنع من تسليم دار الإمارة، نتفت لحيته وحواجبه وأشفار عينيه ومُثل به.
فلما جاء علي وسلمه البلد قال له: يا أمير المؤمنين فارقتك ذا لحية واجتمعت بك أمرد.
فتبسم علي رضي الله عنه وقال: لك أجر ذلك عند الله.
وله في المسند والسنن حديث الأعمى الذي سأل رسول الله ﷺ أن يدعو له ليرد الله عليه ضوء بصره فرده الله عليه.
وله حديث آخر عند النسائي، ولم أر أحدا أرّخ وفاته بهذه السنة سوى ابن الجوزي والله أعلم.
سنة ثمان وخمسين
فيها: غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم.
قال الواقدي: وفيها: قيل: شتى يزيد بن شجرة في البحر.
وقيل: بل غزا البحر وبلاد الروم جنادة بن أبي أمية.
وقيل: إنما شتى بأرض الروم عمرو بن يزيد الجهني.
قال أبو معشر والواقدي: وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وفيها: ولي معاوية الكوفة لعبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، ابن أم الحكم، وأم الحكم هي أخت معاوية، وعزل عنها الضحاك بن قيس، فولى ابن أم الحكم على شرطته زائدة بن قدامة، وخرجت الخوارج في أيام ابن أم الحكم.
وكان رئيسهم في هذه الوقعة حيان بن ضبيان السلمي، فبعث إليهم جيشا فقتلوا الخوارج جميعا، ثم إن ابن أم الحكم أساء السيرة في أهل الكوفة فأخرجوه من بين أظهرهم طريدا، فرجع إلى خاله معاوية فذكر له ذلك.
فقال: لأولينك مصرا هو خير لك، فولاه مصر.
فلما سار إليها تلقاه معاوية بن خديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك معاوية، فلعمري لا ندعك تدخلها فتسير فيها، وفينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة.
فرجع ابن أم الحكم إلى معاوية ولحقه معاوية بن خديج وافدا على معاوية، فلما دخل عليه وجد عنده أخته أم الحكم، وهي أم عبد الرحمن الذي طرده أهل الكوفة وأهل مصر، فلما رآه معاوية قال: بخ بخ، هذا معاوية بن خديج.
فقالت أم الحكم: لأمر حبابه، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.
فقال معاوية بن خديج: على رسلك يا أم الحكم، أما والله لقد تزوجتِ فما أُكرمتِ، وولدتِ فما أنجبتِ، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا أهل الكوفة.
فما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضربا يطأطئ منه رأسه - أو قال: لضربنا ما صاصا منه - وإن كره ذلك الجالس - فالتفت إليها معاوية فقال: كفى.
قصة غريبة
ذكرها ابن الجوزي في كتابه المنتظم بسنده؛ وهو أن شابا من بني عذرة جرت له قصة مع ابن أم الحكم، وملخصها: أن معاوية بينما هو يوما على السماط إذا شاب من بني عذرة قد تمثل بين يديه فأنشده شعرا مضمونه التشوق إلى زوجته سعاد، فاستدناه معاوية واستحكاه عن أمره.
فقال: يا أمير المؤمنين إني كنت مزوجا بابنة عمٍ لي، وكان لي إبل وغنم، وأنفقت ذلك عليها.
فلما قل ما بيدي رغب عني أبوها، وشكاني إلى عاملك بالكوفة، ابن أم الحكم، وبلغه جمالها فحبسني في الحديد وحملني على أن أطلقها.
فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم فزوجه إياها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحزون الملهوف المكروب، وسند المسلوب، فهل من فرج؟
ثم بكى وأنشأ يقول:
في القلب مني نارٌ * والنار فيها شرار
والجسم مني نحيلٌ * واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجوٍ * فدمعها مدرار
والحب ذا عبر * فيه الطبيب يحار
حملت فيه عظيما * فما عليه اصطبار
فليس ليلي بليلٍ * ولا نهاري نهار
قال: فرقّ له معاوية وكتب إلى ابن أم الحكم يؤنبه على ذلك ويعيبه عليه، ويأمره بطلاقها قولا واحدا.
فلما جاءه كتاب معاوية تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة، ثم عرضني على السيف، وجعل يؤامر نفسه على طلاقها فلا يقدر على ذلك ولا تجيبه نفسه، وجعل البريد الذي ورد عليه بالكتاب يستحثه، فطلقها وأخرجها عنه وسيرها مع الوفد إلى معاوية.
فلما وقفت بين يديه رأى منظرا جميلا، فلما استنطقها فإذا أفصح الناس وأحلاهم كلاما، وأكملهم جمالا ودلالا.
فقال لابن عمها: يا أعرابي هل من سلُوٍّ عنها بأفضل الرغبة؟
قال: نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي ثم أنشأ يقول:
لا تجعلني والأمثال تضرب بي * كالمستغيث من الرمضاء بالنار
اردد سعاد على حيران مكتئبٍ * يمسي ويصبح في همٍ وتذكار
قد شفه قلقٌ ما مثله قلقٌ * وأسعر القلب منه أي إسعار
والله والله لا أنسى محبتها * حتى أغيب في رمسي وأحجاري
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها * وأصبح القلب عنها غير صبار؟
فقال معاوية: فإنا نخيرها بيني وبينك وبين ابن أم الحكم فأنشأت تقول:
هذا وإن أصبح في إطارٍ * وكان في نقصٍ من اليسار
أحب عندي من أبي وجاري * وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حر النار
قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، ومركب ووطاء، ولما انقضت عدتها زوجه بها وسلمها إليه.
حذفنا منها أشعارا كثيرة مطولة.
وجرت في هذه السنة فصول طويلة بين عبيد الله بن زياد والخوارج، فقتل منهم خلقا كثيرا، وجمعا غفيرا، وحبس منهم آخرين، وكان صارما كأبيه مقداما في أمرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
توفي في هذا العام سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
القرشي الأموي، قتل أبوه يوم بدر كافرا، قتله علي بن أبي طالب، ونشأ سعيد في حجر عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وكان عمر سعيد يوم مات رسول الله ﷺ تسع سنين، وكان من سادات المسلمين والأجواد المشهورين.
وكان جده سعيد بن العاص - ويكنى: بأبي أجنحة - رئيسا في قريش، يقال له: ذو التاج، لأنه كان إذا أعتم لا يعتم أحد يومئذٍ إعظاما له.
وكان سعيد هذا من عمال عمر على السواد، وجعله عثمان فيمن يكتب المصاحف لفصاحته، وكان أشبه الناس لحية برسول الله ﷺ، وكان في جملة الاثني عشر رجلا، الذين يستخرجون القرآن ويعلمونه ويكتبونه، منهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
واستنابه عثمان على الكوفة بعد عزله الوليد بن عقبة، فافتتح طبرستان وجرجان، ونقض العهد أهل أذربيجان فغزاهم ففتحها.
فلما مات عثمان اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفين، فلما استقر الأمر لمعاوية وفد إليه فعتب عليه فاعتذر إليه فعذره في كلام طويل جدا، وولاّه المدينة مرتين، وعزله عنها مرتين بمروان بن الحكم.
وكان سعيد هذا لا يسبُّ عليا، ومروان يسبّه.
وروى عن النبي ﷺ، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعائشة، وعنه ابناه عمرو بن سعيد الأشدق، وأبو سعيد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير وغيرهم، وليس له في المسند ولا في الكتب الستة شيء.
وقد كان حسن السيرة، جيد السريرة، وكان كثيرا ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبر الكثير، وكان يصر الصرر فيضعها بين يدي المصلين من ذوي الحاجات في المسجد.
قال ابن عساكر: وقد كانت له دار بدمشق تعرف بعده بدار نعيم، وحمام نعيم، بنواحي الديماس، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات، وكان كريما جوادا ممدحا.
ثم أورد شيئا من حديثه من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو سعيد الجعفي، ثنا عبد الله بن الأجلح، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن سعيد بن العاص قال: إن رسول الله ﷺ قال: «خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية».
وفي طريق الزبير بن بكار: حدثني رجل، عن عبد العزيز بن أبان، حدثني خالد بن سعيد، عن أبيه، عن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ ببرد.
فقالت: إني نذرت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب.
فقال: «أعطه هذا الغلام» يعني - سعيد بن العاص - وهو واقف، فلذلك سميت الثياب السعيدية.
وأنشد الفرزدق قوله فيه:
ترى الغُرَّ الجحاجح من قريشٍ * إذا ما الخطب في الحدثان عالا
قياما ينظرون إلى سعيد * كأنهم يرون به هلالا
وذكر أن عثمان عزل عن الكوفة المغيرة وولاها سعيد بن أبي وقاص، ثم عزله وولاها الوليد بن عتبة، ثم عزله وولى سعيد بن العاص، فأقام بها حينا، ولم تحمد سيرته فيهم ولم يحبوه.
ثم ركب مالك بن الحارث - وهو الأشتر النخعي - في جماعة إلى عثمان وسألوه أن يعزل عنهم سعيدا فلم يعزله، وكان عنده بالمدينة فبعثه إليهم، وسبق الأشتر إلى الكوفة فخطب الناس وحثهم على منعه من الدخول إليهم، وركب الأشتر في جيش يمنعوه من الدخول.
قيل: تلقوه إلى العذيب، - وقد نزل سعيد بالرعثة - فمنعوه من الدخول إليهم، ولم يزالوا به حتى ردّوه إلى عثمان، وولى الأشتر أبا موسى الأشعري على الصلاة والثغر وحذيفة بن اليمان على الفيء.
فأجاز ذلك أهل الكوفة وبعثوا إلى عثمان في ذلك فأمضاه وسره ذلك فيما أظهره، ولكن هذا كان أول وهن دخل على عثمان.
وأقام سعيد بن العاص بالمدينة حتى كان زمن حصر عثمان فكان عنده بالدار.
ثم لما ركب طلحة والزبير مع عائشة من مكة يريدون قتلة عثمان ركب معهم، ثم انفرد عنهم هو والمغيرة بن شعبة وغيرهما، فأقام بالطائف حتى انقضت تلك الحروب كلها.
ثم ولاه معاوية إمرة المدينة سنة تسع وأربعين، وعزل مروان فأقام سبعا ثم رد مروان.
وقال عبد الملك بن عمير: عن قبيضة بن جابر قال: بعثني زياد في شغل إلى معاوية، فلما فرغت من أموري قلت: يا أمير المؤمنين لمن يكون الأمر من بعدك؟
فسكت ساعة ثم قال: يكون بين جماعة، إما كريم قريش سعيد بن العاص، وإما فتى قريش حياء ودهاء وسخاء، عبد الله بن عامر، وإما الحسن بن علي فرجل سيد كريم.
وإما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله مروان بن الحكم، وإما رجل فقيه عبد الله بن عمر، وإما رجل يتردد الشريعة مع دواهي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.
وروينا أنه استسقى يوما في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من دار ماء فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك يعرض داره للبيع فسأل عنه لِمَ يبيع داره؟
فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال: هي لك عليّ، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك.
وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة.
فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا يوصف بكرم، فلو ذكرت له حالك فلعله يسمح لك بشيء.
فقال: ويحك! لا تحلقي وجهي، فألحت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلما انصرف الناس عنه مكث الرجل جالسا في مكانه.
فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة؟
فسكت الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبق غيري وغيرك، فسكت، فأطفأ المصباح ثم قال له: رحمك الله لست ترى وجهي فاذكر حاجتك.
فقال: أصلح الله الأمير أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت.
فقال له: إذا أصبحت فالق وكيلي فلانا، فلما أصبح الرجل لقي الوكيل فقال له الوكيل: إن الأمير قد أمر لك بشيء فأت بمن يحمله معك.
فقال: ما عندي من يحمله.
ثم انصرف الرجل إلى امرأته فلامها وقال: حملتيني على بذل وجهي للأمير، فقد أمر لي بشيء يحتاج إلى من يحمله.
وما أراه أمر لي إلا بدقيق أو طعام، ولو كان مالا لما احتاج إلى من يحمله، ولأعطانيه.
فقالت له المرأة: فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل، فقال له الوكيل: إني أخبرت الأمير أنه ليس لك أحد يحمله، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السودان يحملونه معك، فذهب الرجل.
فلما وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف درهم.
فقال للغلمان: ضعوا ما معكم وانصرفوا.
فقالوا: إن الأمير قد أطلقنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد، إلا كان الخادم الذي يحملها من جملتها.
قال: فحسن حال ذلك الرجل.
وذكر ابن عساكر: أن زياد بن أبي سفيان بعث إلى سعيد بن العاص هدايا وأموالا وكتابا ذكر فيه أنه يخطب إليه ابنته أم عثمان من آمنة بنت جرير بن عبد الله البجلي.
فلما وصلت الهدايا والأموال والكتاب قرأه، ثم فرق الهدايا في جلسائه، ثم كتب إليه كتابا لطيفا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم! قال الله تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [15] والسلام.
وروينا: أن سعيدا خطب أم كلثوم بنت علي من فاطمة، التي كانت تحت عمر بن الخطاب، فأجابت إلى ذلك وشاورت أخويها فكرها ذلك.
وفي رواية: إنما كره ذلك الحسين وأجاب الحسن، فهيأت دارها ونصبت سريرا وتواعدوا للكتاب، وأمرت ابنها زيد بن عمر أن يزوجها منه، فبعث إليها بمائة ألف.
وفي رواية: بمائتي ألف مهرا، واجتمع عنده أصحابه ليذهبوا معه، فقال: إني أكره أن أخرج أمي فاطمة، فترك التزويج وأطلق جميع ذلك المال لها.
وقال ابن معين، وعبد الأعلى بن حماد: سأل أعرابي سعيد بن العاص فأمر له بخمسمائة.
فقال الخادم: خمسمائة درهم أو دينار؟.
فقال: إنما أمرتك بخمسمائة درهم، وإذ قد جاش في نفسك أنها دنانير فادفع إليه خمسمائة دينار.
فلما قبضها الأعرابي جلس يبكي.
فقال له: مالك؟ ألم تقبض نوالك؟
قال: بلى والله! ولكن أبكي على الأرض كيف تأكل مثلك.
وقال عبد الحميد بن جعفر: جاء رجل في حمالة أربع ديات سأل فيها أهل المدينة، فقيل: له عليك بالحسن بن علي، أو عبد الله بن جعفر، أو سعيد بن العاص، أو عبد الله بن عباس.
فانطلق إلى المسجد فإذا سعيد داخل إليه، فقال: من هذا؟
فقيل: سعيد بن العاص فقصده فذكر له ما أقدمه فتركه حتى انصرف من المسجد إلى المنزل فقال للأعرابي: ائت بمن يحمل معك.
فقال: رحمك الله! إنما سألتك مالا لا تمرا.
فقال: أعرف، ائت بمن يحمل معك؟ فأعطاه أربعين ألفا فأخذها الأعرابي وانصرف ولم يسأل غيره.
وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني أجر لله المعروف إذا لم يكن ابتداء من غير مسألة، فأما إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أوجاءك مخاطرا لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته.
وقال سعيد: لجليسي علي ثلاث، إذا دنا رحبت به، وإذا جلس أوسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه.
وقال أيضا: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فتهون عليه.
وفي رواية: فيجترئ عليك.
وخطب يوما فقال: من رزقه الله رزقا حسنا فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين، إما مصلح فيسعد بما جمعت له وتخيب أنت، والمصلح لا يقل عليه شيء، وإما مفسد فلا يبقى له شيء.
فقال أبو معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.
وروى الأصمعي: عن حكيم بن قيس.
قال سعيد بن العاص: موطنان لا أستحي من رفقي فيهما والتأني عندهما، مخاطبتي جاهلا أو سفيها، وعند مسألتي حاجة لنفسي.
ودخلت عليه امرأة من العابدات وهو أمير الكوفة فأكرمها وأحسن إليها، فقالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببا لردها عليه.
وقد كان له عشرة من الولد ذكورا وإناثا، وكانت إحدى زوجاته أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص - أخت مروان بن الحكم - ولما حضرت سعيدا الوفاة جمع بنيه.
وقال لهم: لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصلوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم ما كنت أجري عليهم، واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه، وارتعدت فرائصه مخافة أن يرد، فوالله لرجل يتململ على فراشه يراكم موضعا لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه.
ثم أوصاهم بوصايا كثيرة منها: أن يوفوا ما عليه من الدين والوعود، وأن لا يزوجوا أخواتهم إلا من الأكفاء، وأن يسودوا أكبرهم.
فتكفل بذلك كله ابنه عمرو بن سعيد الأشدق.
فلما دفنه بالبقيع، ثم ركب عمرو إلى معاوية فعزاه فيه واسترجع معاوية وحزن عليه قال: هل ترك من دين عليه؟
قال: نعم!
قال: وكم هو؟
قال: ثلاثمائة ألف درهم، وفي رواية: ثلاث آلاف ألف درهم.
فقال معاوية: هي عليّ!
فقال ابنه: يا أمير المؤمنين، إنه أوصاني أن لا أقضي دينه إلا من ثمن أراضيه، فاشترى منه معاوية أراضي بمبلغ الدين، وسأل منه عمرو أن يحملها إلى المدينة فحملها له، ثم شرع عمرو يقضي ما على أبيه من الدين حتى لم يبق أحد، فكان من جملة من طالبه شاب معه رقعة من أديم فيها عشرون ألفا.
فقال له عمرو: كيف استحققت هذه على أبي؟
فقال الشاب: إنه كان يوما يمشي وحده، فأحببت أن أكون معه حتى يصل إلى منزله، فقال: أبغني رقعة من أدم، فذهبت إلى الجزارين فأتيته بهذه، فكتب لي فيها هذا المبلغ، واعتذر بأنه ليس عنده اليوم شيء.
فدفع إليه عمرو ذلك المال وزاده شيئا كثيرا، ويروى أن معاوية قال لعمرو بن سعيد: من ترك مثلك لم يمت.
ثم قال: رحم الله أبا عثمان، ثم قال: قد مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني، وأنشد قول الشاعر:
إذا سار من دون امرئ وإمامه * وأوحش من إخوانه فهو سائر
وكانت وفاة سعيد بن العاص في هذه السنة.
وقيل: في التي قبلها وقيل: في التي بعدها.
وقال بعضهم: كانت وفاته قبل عبد الله بن عامر بجمعة.
شداد بن أوس بن ثابت
ابن المنذر بن حرام، أبو يعلى الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وهو ابن أخي حسان بن ثابت.
وحكى ابن منده: عن موسى بن عقبة أنه قال: شهد بدرا.
قال ابن منده: وهو وهم، وكان من الاجتهاد في العبادة على جانب عظيم، كان إذا أخذ مضجعه تعلق على فراشه ويتقلب عليه ويتلوى كما تتلوى الحية ويقول: اللهم إن خوف النار قد أقلقني، ثم يقوم إلى صلاته.
قال عبادة بن الصامت: كان شداد من الذين أوتوا العلم والحلم.
نزل شداد فلسطين وبيت المقدس، ومات في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة.
وقيل: مات سنة أربع وستين.
وقيل: سنة إحدى وأربعين، فالله أعلم.
عبد الله بن عامر
ابن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان بن عفان، ولد في حياة رسول الله ﷺ وتفل في فيه، فجعل يبتلع ريق رسول الله ﷺ، فقال: إنه لمسقاء، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء، وكان كريما ممدحا ميمون النقيبة.
استنابه عثمان على البصرة بعد أبي موسى، وولاه بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص، وعمره إذ ذاك خمسا وعشرين سنة، ففتح خراسان كلها، وأطراف فارس وسجستان وكرمان وبلا غزنة.
وقتل كسرى ملك الملوك في أيامه - وهو يزدجرد - ثم أحرم عبد الله بن عامر بحجة.
وقيل: بعمرة من تلك البلاد شكرا لله عز وجل، وفرق في أهل المدينة أموالا كثيرةً جزيلةً، وهو أول من لبس الخز بالبصرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها الماء المعين والعين، ولم يزل على البصرة حتى قتل عثمان، فأخذ أموال بيت المال وتلقى بها طلحة والزبير وحضر معهم الجمل.
ثم سار إلى دمشق ولم يسمع له ذكر في صفين، ولكن ولاه معاوية البصرة بعد صلحه مع الحسن، وتوفي في هذه السنة بأرضه بعرفات، وأوصى إلى عبد الله بن الزبير.
له حديث واحد، وليس له في الكتب شيء، وروى مصعب الزبيري عن أبيه، عن حنظلة بن قيس، عن عبد الله بن عامر، أن رسول الله ﷺ قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد».
وقد زوجه معاوية بابنته هند، وكانت جميلة، فكانت تلي خدمته بنفسها من محبتها له، فنظر يوما في المرآة فرأى صباحة وجهها وشيبة في لحيته فطلقها، وبعث إلى أبيها أن يزوجها بشاب كأن وجهه ورقة مصحف.
توفي في هذه السنة.
وقيل: بعدها بسنة.
عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما
وهو أكبر ولد أبي بكر الصديق، قاله الزبير بن بكار، قال: وكانت فيه دعابة، وأمه أم رومان، وأم عائشة فهو شقيقها، بارز يوم بدر، وأخذ مع المشركين، وأراد قتل أبيه أبي بكر، فتقدم إليه أبوه أبو بكر فقال له رسول الله ﷺ: «أمتعنا بنفسك».
ثم أسلم عبد الرحمن بعد ذلك في الهدنة، وهاجر قبل الفتح، ورزقه رسول الله ﷺ من خيبر كل سنة أربعين وسقا، وكان من سادات المسلمين، وهو الذي دخل على رسول الله ﷺ يوم مات وعائشة مسندته إلى صدرها، ومع عبد الرحمن سواك رطب فأخذه بصره، فأخذت عائشة ذلك السواك فقضمته وطيبته.
ثم دفعته إلى رسول الله ﷺ فاستن به أحسن استنان ثم قال: «اللهم في الرفيق الأعلا»، ثم قضى.
قالت: فجمع الله بين ريقي وريقه، ومات بين سحري ونحري، في بيتي ويومي لم أظلم فيه أحدا.
وقد شهد عبد الرحمن فتح اليمامة وقتل يومئذ سبعة، وهو الذي قتل محكم بن الطفيل.
صديق مسيلمة على باطله، كان محكم واقفا في ثلمة حائط فرماه عبد الرحمن فسقط محكم، فدخل المسلمون من الثلمة فخلصوا إلى مسيلمة فقتلوه.
وقد شهد فتح الشام، وكان معظما بين أهل الإسلام ونفل ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام، نفله إياها خالد بن الوليد عن أمر عمر بن الخطاب كما سنذكره مفصلا.
وقد قال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي بكر - ولم يجرب عليه كذبة قط - ذكر عنه حكاية: أنه لما جاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة.
قال عبد الرحمن لمروان: جعلتموها والله هرقلية وكسروية - يعني: جعلتم ملك الملك لمن بعده من ولده -.
فقال له مروان: اسكت فإنك أنت الذي أنزل الله فيك { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } [16].
فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أنه أنزل عذري، ويروى أنها بعثت إلى مروان تعتبه وتؤنبه وتخبره بخبر فيه ذم له ولأبيه لا يصح عنها.
قال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه، عن جده.
قال: بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد بن معاوية، فردها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها، وقال: أبيع ديني بدنياي؟
وخرج إلى مكة فمات بها.
وقال أبو زرعة الدمشقي: ثنا أبو مسهر، ثنا مالك قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها.
ورواه أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد فذكره وزاد: فأعتقت عنه عائشة رقابا.
ورواه الثوري: عن يحيى بن سعيد، عن القاسم فذكره.
ولما توفي كانت وفاته بمكان يقال له الحبشي - على ستة أميال من مكة، وقيل: اثني عشر ميلا - فحمله الرجال على أعناقهم حتى دفن بأعلا مكة.
فلما قدمت عائشة مكة زارته وقالت: أما والله لو شهدتك لم أبكِ عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي مت فيه، ثم تمثلت بشعر متمم بن نويرة في أخيه مالك: وكنا كند ماني جذيمة برهةً * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكٍ * لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا رواه الترمذي وغيره.
وروى ابن سعد: أن ابن عمر مرة رأى فسطاسا مضروبا على قبر عبد الرحمن - ضربته عائشة بعد ما ارتحلت - فأمر ابن عمر بنزعه وقال: إنما يظله عمله.
وكانت وفاته في هذا العام في قول كثير من علماء التاريخ.
ويقال: إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين قاله الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد.
وقيل: سنة أربع وخمسين فالله أعلم.
قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام
قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الحزامي، عن أبيه: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قدم الشام في تجارة - يعني: في زمان جاهليته - فرأى امرأة يقال لها: ليلى ابنة الجودي على طنفسة لها، وحولها ولائدها فأعجبته.
قال ابن عساكر: رآها بأرض بصرى، فقال فيها:
تذكرت ليلى والسماوة دونها * فمال ابنة الجودي ليلى وماليا
وإني تعاطى قلبه حارثية * تؤمن بصرى أوتحل الحوابيا
وإني بلاقيها بلى ولعلها * إن الناس حجوا قابلا أن توافيا
قال: فلما بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال للأمير على الجيش: إن ظفرت بليلى بنت الجودي عنوة فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فظفر بها فدفعها إليه فأعجب بها وآثرها على نسائه حتى جعلن يشكونها إلى عائشة، فعاتبته عائشة على ذلك.
فقال: والله كأني أرشف بأنيابها حب الرمان، فأصابها وجع سقط له فوها، فجفاها حتى شكته إلى عائشة، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن، لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها.
قال الزبيري: وحدثني عبد الله بن نافع، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال.
إن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي حين فتح دمشق، وكانت ابنة ملك دمشق - يعني: ابنة ملك العرب الذين حول دمشق - والله أعلم.
عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب
القرشي الهاشمي، ابن عم النبي ﷺ، وكان أصغر من أخيه عبد الله بسنة، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية.
وكان عبيد الله كريما جميلا وسيما يشبه أباه في الجمال، روينا أن رسول الله ﷺ كان يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا صفا ويقول: «من سبق إليّ فله كذا» فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم.
وقد استنابه علي بن أبي طالب في أيام خلافته على اليمن.
وحج بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وثلاثين اختلف هو ويزيد بن سمرة الرهاوي الذي قدم على الحج من جهة معاوية.
ثم اصطلحا على شيبة بن عثمان الحجبي، فأقام للناس الحج عامئذٍ، ثم لما صارت الشوكة لمعاوية تسلط على عبيد الله بسر بن أبي أرطأة فقتل له ولدين، وجرت أمور باليمن قد ذكرنا بعضها.
وكان يقدم هو وأخوه عبد الله المدينة فيوسعهم عبد الله علما، ويوسعهم عبيد الله كرما.
وقد روي أنه نزل في مسير له مع مولى له على خيمة رجل من الأعراب، فلما رآه الأعرابي أعظمه وأجله، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته: ويحك ماذا عندك لضيفنا هذا؟
فقالت: ليس عندنا إلا هذه الشويهة التي حياة ابنتك من لبنها.
فقال: إنه لا بد من ذبحها.
فقالت: أتقتل ابنتك؟
فقال: وإن فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحها ويسلخها، وهو يقول مرتجزا:
يا جارتي لا توقظي البنية * إن توقظيها تنتحب عليه
وتنتزع الشفرة من يديه
ثم هيأها طعاما فوضعها بين يدي عبيد الله ومولاه فعشاهما، وكان عبيد الله قد سمع محاورته لامرأته في الشاة، فلما أراد الارتحال قال لمولاه: ويلك ماذا معك من المال؟
فقال: معي خمسمائة دينار فضلت من نفقتك.
فقال: ادفعها إلى الأعرابي.
فقال: سبحان الله! تعطيه خمسمائة دينار، وإنما ذبح لك شاة واحدة تساوي خمسة دراهم؟
فقال: ويحك والله لهو أسخى منا وأجود، لأنا إنما أعطيناه بعض ما نملك، وجاد هو علينا بجميع ما يملك، وآثرنا على مهجة نفسه وولده.
فبلغ ذلك معاوية فقال: لله در عبيد الله من أي بيضة خرج؟ ومن أي شيء درج.
قال خليفة بن خياط: توفي سنة ثمان وخمسين.
وقال غيره: توفي في أيام يزيد بن معاوية.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفي في سنة سبع وثمانين، وكانت وفاته بالمدينة.
وقيل: باليمن، وله حديث واحد.
قال أحمد: ثنا هشيم، ثنا يحيى بن إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس قال: جاءت العميصا - أو الرميصا - إلى رسول الله ﷺ تشكو زوجها تزعم أنه لا يصل إليها.
فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة وأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول.
فقال رسول الله ﷺ: «ليس لك ذلك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره».
وأخرجه النسائي، عن علي بن حجرة، عن هشيم به وممن توفي فيها.
أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق
وزوجة رسول الله ﷺ، وأحب أزواجه إليه، المبرّأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها، وعن أبيها.
وأمها: هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، تكنى عائشة: بأم عبد الله.
قيل: كناها بذلك رسول الله ﷺ بابن أختها عبد الله بن الزبير.
وقيل: إنها أسقطت من رسول الله سقطا فسماه عبد الله، ولم يتزوج رسول الله ﷺ بكرا غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها.
تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حريرة مرتين أو ثلاثا فيقول: هذه زوجتك.
قال: فأكشف عنك فإذا هي أنت، فأقول: «إن يكن هذا من عند الله يمضه» فخطبها من أبيها.
فقال: يا رسول الله أو تحل لك؟
قال: «نعم!»
قال: أولست أخوك؟
قال: «بلى في الإسلام، وهي لي حلال»، فتزوجها رسول الله ﷺ فحظيت عنده.
وقد قدمنا ذلك في أول السيرة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين.
وقيل: بسنة ونصف.
وقيل: بثلاث سنين، وكان عمرها إذ ذاك ست سنين، ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر، في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها.
ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل لها براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان.
وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف، وشرحنا الآيات والأحاديث الواردة في ذلك في غزوة المريسيع، وبسطنا ذلك أيضا في كتاب التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة.
وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين، هل يكفر من قذفهن أم لا؟
على قولين، وأصحهما أنه يكفر، لأن المقذوفة زوجة رسول الله ﷺ، والله تعالى إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله ﷺ، فهي وغيرها منهن سواء.
ومن خصائصها: رضي الله عنها أنها كان لها في القسم يومان يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقربا إلى رسول الله ﷺ، وأنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة، عن النبي ﷺ: قال: «إنه ليهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة» تفرد به أحمد.
وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة.
ومن خصائصها: أنها أعلم نساء النبي ﷺ، بل هي أعلم النساء على الإطلاق.
قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة.
وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا طب، ولا شعر من عائشة.
ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله ﷺ من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها.
وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.
رواه الترمذي، وقال أبو الضحى: عن مسروق رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.
فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء» فإنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال: لا أصل له.
ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها عمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة.
وقد تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضا، وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل.
وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة، فمن ذلك قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات.
وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص قال:
قلت: يا رسول الله أي الناس أحب عليك؟
قال: «عائشة».
قلت: ومن الرجال؟
قال: «أبوها».
وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة على خديجة بهذا الحديث، قال: فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن.
ويعضد ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري، حدثنا إسماعيل بن خليل، ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله ﷺ فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: «اللهم هالة».
قالت عائشة: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر الأول، قد أبدلك الله خيرا منها؟
هكذا رواه البخاري، فأما ما يروى فيه من الزيادة: «والله ما أبدلني خيرا منها» فليس يصح سندها.
وقد ذكرنا ذلك مطولا عند وفاة خديجة، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادته ههنا.
وروى البخاري: عن عائشة، أن النبي ﷺ قال يوما: «يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام».
فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى.
وثبت في صحيح البخاري أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواجه إلى أم سلمة وقلن لها: قولي له يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان.
فقالت أم سلمة: فلما دخل عليّ قلت له ذلك فأعرض عني، ثم قلن لها ذلك فقالت له فأعرض عنها، ثم لما دار إليها قالت له، فقال: «يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي في بيت وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها».
وذكر: «أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه فقالت: إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي بكر بن أبي قحافة.
فقال: «يا بنية ألا تحبين من أحب؟»
قالت: قلت: بلى!.
قال: «فأحبي هذه».
ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله ﷺ وعنده عائشة فتكلمت زينب ونالت من عائشة، فانتصرت عائشة منها وكلمتها حتى أفحمتها، فجعل رسول الله ﷺ ينظر إلى عائشة ويقول: «إنها ابنة أبي بكر».
وذكرنا أن عمارا لما جاء يستصرخ الناس ويستفزهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة، فسمع عمار رجلا ينال من عائشة فقال له: اسكت مقبوحا منبوذا، والله إنها لزوجة رسول الله ﷺ في الدنيا وفي الآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، ثنا عبد الله بن خيثم، حدثني عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان - حاجب عائشة -: أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت - وعند رأسها عبد الله بن أخيها عبد الرحمن -
فقلت: هذا ابن عباس يستأذن فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن وهي تموت، فقالت: دعني من ابن عباس.
فقال: يا أماه!! إن ابن عباس من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك.
فقالت: ائذن له إن شئت.
قال: فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري.
فقالت: بماذا؟
فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمدا والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله ﷺ إليه، ولم يكن رسول الله ﷺ يحب إلا طيبا.
وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله ﷺ وأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.
فقالت: دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا.
والأحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدا.
وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين.
وقيل: قبله بسنة.
وقيل: بعده بسنة، والمشهور في رمضان منه.
وقيل: في شوال، والأشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان.
وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها خمسة، وهم عبد الله، وعروة ابنا الزبير بن العوام، من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم، وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر.
وكان عمرها يومئذ سبعا وستين سنة، لأنه توفي رسول الله ﷺ وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين فالله أعلم، ورضي الله تعالى عن أبيها وعن الصحابة أجمعين.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين
فيها: شتى عمرو بن مرة الجهني في أرض الروم في البر، قاله الواقدي: ولم يكن فيها غزو في البحر، وقال غيره: بل غزا في البحر عامئذ جنادة بن أبي أمية.
وفيها: عزل معاوية ابن أم الحكم عن الكوفة لسوء سيرته فيهم، وولى عليهم النعمان بن بشير.
وفيها: ولي معاوية عبد الرحمن بن زياد ولاية خراسان وعزل عنها سعيد بن عثمان بن عفان، فصار عبيد الله على البصرة، وأخوه عبد الرحمن هذا على خراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولم يزل عبد الرحمن عليها واليا إلى زمن يزيد، فقدم عليه بعد مقتل الحسين فقال له: كم قدمت به من هذا المال؟
قال: عشرون ألف ألف.
فقال له: إن شئت حاسبناك، وإن شئت سوغناكها وعزلناك عنها، على أن تعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم.
قال: بل سوغها.
وأما عبد الله بن جعفر فأعطيه ما قلت ومثلها معها، فعزله وولى غيره.
وبعث عبد الرحمن بن زياد إلى عبد الله بن جعفر بألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من جهة أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف من قبلي.
وفي هذه السنة: وفد عبيد الله بن زياد على معاوية ومعه أشراف أهل البصرة والعراق، فاستأذن لهم عبد الله عليه على منازلهم منه، وكان آخر من أدخله على معاوية الأحنف بن قيس، - ولم يكن عبيد الله يجله -
فلما رأى معاوية الأحنف رحّب به وعظمه وأجله وأجلسه معه على السرير، ورفع منزلته، ثم تكلم القوم فأثنوا على عبيد الله والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: مالك يا أبا بحر لا تتكلم؟
فقال له: إن تكلمت خالفت القوم.
فقال معاوية: انهضوا فقد عزلته عنكم فاطلبوا واليا ترضونه، فمكثوا أياما يترددون إلى أشراف بني أمية، يسألون كل واحد أن يتولى عليهم فلم يقبل أحد منهم ذلك، ثم جمعهم معاوية فقال: من اخترتم؟
فاختلفوا عليه، والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: مالك لا تتكلم؟
فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد غير أهل بيتك فرأيك.
فقال معاوية: قد أعدته إليكم.
وقال ابن جرير: قال الأحنف: يا أمير المؤمنين إن وليت علينا من أهل بيتك فإنا لا نعدل بعبيد الله بن زياد أحدا، وإن وليت علينا من غيرهم فانظر لنا في ذلك.
فقال معاوية: قد أعدته إليكم.
ثم إن معاوية أوصى عبيد الله بن زياد بالأحنف خيرا، وقبح رأيه فيه وفي مباعدته، فكان الأحنف بعد ذلك أخص أصحاب عبيد الله، ولما وقعت الفتنة لم يفِ لعبيد الله غير الأحنف بن قيس والله أعلم.
سنة ستين من الهجرة النبوية
فيها: كانت غزوة مالك بن عبد الله مدينة سورية.
قال الواقدي: وفيها: دخل جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس.
وفيها: أخذ معاوية البيعة ليزيد من الوفد الذين قدموا صحبة عبيد الله بن زياد إلى دمشق.
وفيها: مرض معاوية مرضه الذي توفي فيه في رجب منها كما سنبينه.
فروى ابن جرير: من طريق أبي مخنف: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها، دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال.
ووطأت لك الأشياء، ودللت لك الأعزاء، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
كذا قال، والصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كما قدمنا، فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك.
وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجونه عليك، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.
وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللهو.
وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا.
قال غير واحد: فحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد في الصيد، فاستدعى معاوية الضحاك بن قيس الفهري - وكان على شرطة دمشق - ومسلم بن عقبة فأوصى إليهما أن يبلغا يزيد السلام ويقولان له يتوصى بأهل الحجاز، وإن سأله أهل العراق في كل يوم أن يعزل عنهم عاملا ويولي عليهم عاملا فليفعل.
فعزل واحد وأحب إليك من أن يُسل عليك مائة سيف، وأن يتوصى بأهل الشام، وأن يجعلهم أنصاره، وأن يعرف لهم حقهم، ولست أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة: الحسين، وابن عمر، وابن الزبير.
ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا أصح، فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف، وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.
وقرابة من محمد ﷺ، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فافصح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه.
وأما ابن الزبير: فإنه خب ضب فإن شخص لك فانبذ إليه إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت.
وكان موت معاوية لاستهلال رجب من هذه السنة، قاله هشام بن الكلبي.
وقيل: للنصف منه، قاله الواقدي.
وقيل: يوم الخميس لثمان بقين منه، قاله المدائني.
قال ابن جرير: وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها، وكان مدة ملكه استقلالا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي باذرج، فذلك تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر.
وكان نائبا في الشام عشرين سنة تقريبا.
وقيل: غير ذلك.
وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة.
وقيل: خمسا وسبعين سنة.
وقيل: ثمانيا وسبعين سنة.
وقيل: خمسا وثمانين سنة، وسيأتي بقية الكلام في آخر ترجمته.
وقال أبو السكن زكريا بن يحيى: حدثني عم أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب.
قال: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة.
ثم خرج الفاكه لبعض شأنه، وأقبل رجل ممن كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة فيه ولى هاربا، ورآه الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند وهي مضطجعة فضربها برجله وقال: من هذا الذي عندك؟
قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت.
فقال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك القالة فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فينقطع عنك القالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فعند ذلك حلفت هند لأبيها بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها.
فقال عتبة بن ربيعة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، وعار كبير، لا يغسله الماء، وقد جعلتنا في العرب بمكان ذلة ومنقصة، ولولا أنك مني ذو قرابة لقتلتك، ولكن سأحاكمك إلى كاهن اليمن.
فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في بعض جماعة من بني مخزوم -أقاربه - وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا بهند ونسوة معها من أقاربهم، ثم ساروا قاصدين بلاد اليمن.
فلما شارفوا بلاد الكاهن قالوا: غدا نأتي الكاهن، فلما سمعت هند ذلك تنكرت حالها وتغير وجهها، وأخذت في البكاء.
فقال لها أبوها: يا بنية، قد أرى ما بك من تنكر الحال وكثرة البكاء، وما ذاك أراه عندك إلا لمكروه أحدثتيه، وعمل اقترفتيه، فهلا كان هذا قبل أن يشيع في الناس ويشتهر مسيرنا؟
فقالت: والله يا أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني، وإني لبريئة، ولكن هذا الذي تراه من الحزن وتغير الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن وهو بشر يخطئ ويصيب، وأخاف أن يخطئ في أمري بشيء يكون عاره عليّ إلى آخر الدهر، ولا آمنه أن يسمني ميسما تكون عليّ سبة في العرب.
فقال لها أبوها: لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنه قبل أن يتكلم في شأنك وأمرك، فإن أخطأ فيما أمتحنه به لم أدعه يتكلم في أمرك.
ثم إنه انفرد عن القوم - وكان راكبا مهرا - حتى توارى عنهم خلف رابية فنزل عن فرسه ثم صفر له حتى أدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليل المهر، وأوكى عليها بسير حتى أحكم ربطها.
ثم صفر له حتى اجتمع إحليله، ثم أتى القوم فظنوا أنه ذهب ليقضي حاجة له، ثم أتى الكاهن فلما قدموا عليه أكرمهم ونحر لهم.
فقال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر، ولكن لا أدعك تتكلم فيه حتى تبين لنا ما خبأت لك، فإني قد خبأت لك خبيئا فانظر ما هو، فأخبرنا به.
قال الكاهن: ثمرة في كمرة.
قال: أريد أبين من هذا
قال: حبات بر في إحليل مهر.
قال: صدقت، فخذ لما جئناك له، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فأجلس النساء خلفه وهند معهم لا يعرفها، ثم جعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها ويبريها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال: انهضي حصان رزان، غير رسخا، ولا زانية، ولتلدنّ ملكا يقال له معاوية.
فوثب إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنترت يدها من يده، وقالت له: إليك عني، والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة، والله لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب فجاءت منه بمعاوية هذا.
وفي رواية: أن أباها هو الذي قال للفاكه ذلك والله سبحانه أعلم.
وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله
وهو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشي الأموي، أبو عبد الرحمن، خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين.
وأمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
أسلم معاوية عام الفتح، ورُوي عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية، ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي: هذا أخوك يزيد وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: لم آلَ نفسي جهدا.
قال معاوية: ولقد دخل عليّ رسول الله ﷺ مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته فرحب بي، وكتبت بين يديه.
قال الواقدي: وشهد معه حنينا، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب، وزنها بلال، وشهد اليمامة.
وزعم بعضهم أنه هو الذي قتل مسيلمة، حكاه ابن عساكر، وقد يكون له شرك في قتله، وإنما الذي طعنه وحشي، وجلله أبو دجانة سماك بن خرشة بالسيف.
وكان أبوه من سادات قريش، وتفرد بالسؤدد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسن بعد ذلك إسلامه، وكان له مواقف شريفة، وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله وما بعده.
وصحب معاوية رسول الله ﷺ، وكتب الوحي بين يديه مع الكتّاب، وروى عن رسول الله ﷺ أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كان معاوية طويلا، أبيض، جميلا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب.
حدثني محمد بن يزيد الأزدي، ثنا أبو مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد رب قال: رأيت معاوية يصفر لحيته كأنها الذهب.
وقال غيره: كان أبيض طويلا، أجلح أبيض الرأس واللحية، يخضبهما بالحناء والكتم.
وقد أصابته لوقة في آخر عمره، فكان يستر وجهه ويقول: رحم الله عبدا دعا لي بالعافية، فقد رميت في أحسني وما يبدو مني ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.
وكان حليما وقورا رئيسا سيدا في الناس، كريما عادلا شهما.
وقال المدائني عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه.
فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.
وقال الشافعي: قال أبو هريرة: رأيت هندا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلاما إن عاش ليسودن قومه.
فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال: نظر أبو سفيان يوما إلى معاوية وهو غلام فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه.
فقالت هند: قومه فقط، ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.
وكانت هند تحمله وهو صغير وتقول:
إنّ بني معرقٍ كريمٌ * محببٌ في أهله حليم
ليس بفاحشٍ ولا لئيمٌ * ولا ضجورٌ ولا سؤوم
صخر بني فهرٍ به زعيمٌ * لا يخلف الظن ولا يخيم
قال: فلما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولاه من الشام، خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت صار ابنك تابعا لابني؟
فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني.
فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، رد عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزّى أبا سفيان في ابنه يزيد.
فقال: يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟
قال: أخوه معاوية.
قال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين.
وقالت هند لمعاوية فيما كتبت به إليه: والله يا بني إنه قل أن تلد حرة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت.
وقال له أبوه: يا بني إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله، وقصر بنا تأخيرنا فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعا، وقد ولوك جسيما من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافس فإن بلغته أورثته عقبك.
فلم يزل معاوية نائبا على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان.
وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريبا من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها.
فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي ما كان لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم.
فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت.
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.
ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا.
فلم يزل مستقلا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية.
والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو.
وقد ثبت في صحيح مسلم: من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس.
قال: قال أبو سفيان: يا رسول الله ثلاثا أعطنيهن.
قال: «نعم»
قال: تؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: «نعم!»
قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.
قال: «نعم»: وذكر الثالثة، وهو أنه أراد أن يزوج رسول الله ﷺ بابنته الأخرى عزة بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة.
فقال: «إن ذلك لا يحل لي»، وقد تكلمنا على ذلك في جزء مفرد وذكرنا أقوال الأئمة واعتذارهم عنه ولله الحمد.
والمقصود منه: أن معاوية كان من جملة الكتّاب بين يدي رسول الله ﷺ الذين يكتبون الوحي.
وروى الإمام أحمد، ومسلم، والحاكم في مستدركه من طريق أبي عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن أبي حمزة عمران بن أبي عطاء، عن ابن عباس.
قال: كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله ﷺ قد جاء فقلت: ما جاء إلا إليّ، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين، ثم قال: «اذهب فادع لي معاوية» - وكان يكتب الوحي - قال: فذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل.
فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: إنه يأكل.
فقال: «اذهب فادعه»، فأتيته الثانية فقيل: إنه يأكل فأخبرته.
فقال في الثالثة: «لا أشبع الله بطنه».
قال: فما شبع بعدها؛ وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه.
أما في دنياه: فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.
وأما في الآخرة: فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة.
أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارةً وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة».
فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك.
وقال المسيب بن واضح: عن أبي إسحاق الفزاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.
قال: أتى جبريل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد أقرئ معاوية السلام واستوص به خيرا؛ فإنه أمين الله على كتابه ووحيه ونعم الأمين.
ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان، ثم أورده أيضا من رواية علي، وجابر بن عبد الله: أن رسول الله ﷺ استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال: استكتبه فإنه أمين.
ولكن في الأسانيد إليهما غرابة، ثم أورد عن علي في ذلك غرائب كثيرة عن غيره أيضا.
وقال أبو عوانة: عن سليمان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر الزبيدي، عن عبد الله بن عمرو.
قال: كان معاوية يكتب للنبي ﷺ.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد الصيدلاني، ثنا السري، عن عاصم، ثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه هشام بن عروة، عن عائشة.
قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي ﷺ، دق الباب داق، فقال النبي ﷺ: «انظروا من هذا؟»
قالوا: معاوية.
قال: «ائذنوا له»، فدخل وعلى أذنه قلم يخط به، فقال: «ما هذا القلم على أذنك يا معاوية؟»
قال: قلم أعددته لله ولرسوله.
فقال له: «جزاك الله عن نبيك خيرا، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله، كيف بك لو قمصك الله قمصا» - يعني: الخلافة -؟
فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه وقالت: يا رسول الله، وإن الله مقمصه قميصا؟
قال: «نعم! ولكن فيه هنات وهنات».
فقالت: يا رسول الله فادع الله له.
فقال: «اللهم اهده بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى».
قال الطبراني: تفرد به السري، عن عاصم، عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، عن هشام.
وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث موضوعة، والعجب منه مع حفظه واطلاعه كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها، والله الموفق للصواب.
وقد أوردنا من طريق أبي هريرة، وأنس، وواثلة بن الأسقع مرفوعا: «الأمناء ثلاثة: جبريل، وأنا، ومعاوية».
ولا يصح من جميع وجوهه.
ومن رواية ابن عباس: «الأمناء سبعة: القلم، واللوح، وإسرافيل، وميكائيل، وجبريل، وأنا، ومعاوية».
وهذا أنكر من الأحاديث التي قبله، وأضعف إسنادا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية - يعني: ابن صالح - عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية السلمي.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يدعونا إلى السحور في شهر رمضان: «هلم إلى الغداء المبارك»، ثم سمعته يقول: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب»، تفرد به أحمد.
ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي.
وكذلك رواه أسد بن موسى، وبشر بن السري، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بإسناده مثله.
وفي رواية بشر بن السري: «وأدخله الجنة».
ورواه ابن عدي وغيره من حديث عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عن عطاء، عن ابن عباس.
قال: قال رسول الله ﷺ: «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب».
وقال محمد بن سعد: ثنا سليمان بن حرب والحسين بن موسى الأشيب قال: ثنا أبو هلال محمد بن سليم، ثنا جبلة بن عطية، عن مسلمة بن مخلد.
وقال الأشهب: قال أبو هلال: أو عن رجل عن مسلمة بن مخلد، وقال سليمان بن حرب: أو حدثه مسلمة عن رجل أنه رأى معاوية يأكل، فقال لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لمخضد.
قال: أما إني أقول لك هذا وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اللهم علمه الكتاب ومكن له في البلاد وقه العذاب».
وقد أرسله غير واحد من التابعين منهم الزهري، وعروة بن رويم، وجرير بن عثمان الرحبي الحمصي، ويونس بن ميسرة بن حلبس.
وقال الطبراني: ثنا أبو زرعة، وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الدمشقيان قالا: ثنا أبو مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني - وكان من أصحاب النبي ﷺ - أن رسول الله ﷺ قال لمعاوية: «اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب».
قال ابن عساكر: وهذا غريب، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث العرباض الذي تقدم.
ثم روي من طريق الطبراني، عن أبي زرعة، عن أبي مسهر، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لمعاوية: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به».
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبي ﷺ أنه ذكر معاوية فقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».
وهكذا رواه الترمذي: عن محمد بن يحيى، عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز به.
وقال: حسن غريب.
وقد رواه عمر بن عبد الواحد، ومحمد بن سليمان الحراني، كما رواه الوليد بن مسلم، وأبو مسهر، عن سعيد، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة.
ورواه محمد بن المصفى، عن مروان بن محمد الطاطري، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن ابن أبي عميرة: أن رسول الله ﷺ دعا لمعاوية فقال: «اللهم علمه العلم، واجعله هاديا مهديا، واهده واهد به».
وقد رواه سلمة بن شبيب، وصفوان بن صالح، وعيسى بن هلال، وأبو الأزهر، عن مروان الطاطري، ولم يذكر أبا إدريس في إسناده.
ورواه الطبراني: عن عبدان بن أحمد، عن علي بن سهل الرملي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني.
أنه سمع رسول الله ﷺ وذكر معاوية فقال: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهده».
قال ابن عساكر: وقول الجماعة هو الصواب.
وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه، وأطيب وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم له من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد.
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن الشام وولى معاوية، قال للناس: عزل عمر عميرا وولى معاوية.
فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اللهم اهد به».
تفرد به الترمذي، وقال: غريب.
وعمرو بن واقد ضعيف، هكذا ذكره أصحاب الأطراف في مسند عمير بن سعد الأنصاري.
وعندي: أنه ينبغي أن يكون من رواية عمر بن الخطاب، ويكون الصواب فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلا بخير، ليكون عذرا له في توليته له.
ومما يقوي هذا أن هشام بن عمار قال: حدثنا ابن أبي السائب - وهو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان - قال: وسمعت أبي يذكر أن عمر بن الخطاب ولى معاوية بن أبي سفيان فقالوا: ولى حدث السن.
فقال: تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول الله ﷺ يقول: «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به».
وهذا منقطع يقويه ما قبله.
قال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا نعيم بن حماد، ثنا محمد بن شعيب بن سابور، ثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن عبد الله بن بسر أن رسول الله ﷺ: استشار أبا بكر وعمر في أمر، فقال: «أشيروا عليَّ».
فقالا: الله ورسوله أعلم.
فقال: «ادعوا معاوية؟».
فقال أبو بكر وعمر: أما في رسول الله ﷺ ورجلين من رجال قريش ما يتقنون أمرهم، حتى يبعث رسول الله ﷺ إلى غلام من غلمان قريش؟
فقال: «ادعو لي معاوية».
فدعي له، فلما وقف بين يديه قال رسول الله ﷺ: «أحضروه أمركم وأشهدوه أمركم، فإنه قوي أمين».
ورواه بعضهم: عن نعيم وزاد: «وحملوه أمركم».
ثم ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة موضوعة بلا شك في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحا، واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواها من الموضعات والمنكرات.
ثم قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي جمرة، عن ابن عباس: أنه كان كاتب النبي ﷺ منذ أسلم.
أخرجه مسلم في صحيحه.
وبعده حديث العرباض: «اللهم علم معاوية الكتاب».
وبعده حديث ابن أبي عمير: «اللهم اجعله هاديا مهديا».
قلت: وقد قال البخاري في كتاب المناقب: ذكر معاوية بن أبي سفيان: حدثنا الحسن بن بشر، ثنا المعافى، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: أوتر معاوية بركعة بعد العشاء، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله ﷺ.
حدثنا ابن أبي مريم: ثنا نافع بن عمر، ثنا ابن أبي مليكة.
قال: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟
فإنه ما أوتر إلا بواحدة!
قال: أصاب، إنه فقيه.
ثنا عمرو بن عباس، ثنا جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التياح قال: سمعت حمران، عن أبان، عن معاوية.
قال: إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله ﷺ فما رأيناه يصليهما، ولقد نهى عنهما - يعني: الركعتين بعد العصر -.
ثم قال البخاري بعد ذلك: ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة: حدثنا عبدان، ثنا عبد الله يونس، عن الزهري حدثني عروة أن عائشة قالت: «جاءت هند بنت عتبة - امرأة أبي سفيان إلى رسول الله ﷺ - فقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إليّ من أن يذلُّوا من أهل خبائك.
ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك.
فقال: «وأيضا والذي نفسي بيده».
فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل عليّ من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟
قال: «لا إلا بالمعروف».
فالمدحة في قوله: «وأيضا والذي نفسي بيده»، وهو أنه كان يود أن هندا وأهلها وكل كافر يذلوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحب أن يعزوا فأعزهم الله - يعني: أهل خبائها -.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، ثنا أبو أمية، عمرو بن يحيى بن سعيد قال: سمعت جدي يحدث: أن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة فتبع رسول الله ﷺ بها - وكان أبو هريرة قد اشتكى - فبينما هو يوضئ رسول الله ﷺ إذ رفع رأسه إليه مرة أو مرتين وهو يتوضأ فقال: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل».
قال معاوية: فما زلت أظن أني سأبتلي بعملٍ لقول النبي ﷺ حتى ابتليت. تفرد به أحمد.
ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي إسحاق الهمذاني، سعيد بن زنبور بن ثابت، عن عمرو بن يحيى بن سعيد.
ورواه ابن منده من حديث بشر بن الحكم، عن عمرو بن يحيى به.
وقال أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده عن معاوية قال: اتبعت رسول الله ﷺ بوضوء، فلما توضأ نظر إليّ فقال: «يا معاوية إن وليت أمرا فاتق واعدل».
فما زلت أظن أني مبتلى بعمل حتى وليت.
ورواه غالب القطان عن الحسن.
قال: سمعت معاوية يخطب وهو يقول: صببت يوما على رسول الله ﷺ وضوءه، فرفع رأسه إليّ فقال: «أما إنك ستلي أمر أمتي بعدي، فإذا كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم».
وقال: فما زلت أرجو حتى قمت مقامي هذا.
وروى البيهقي عن الحاكم بسنده إلى إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير.
قال قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله ﷺ: «إن ملكت فأحسن».
قال البيهقي: إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف، إلا أن للحديث شواهد.
وروى ابن عساكر بإسناده عن نعيم بن حماد: ثنا محمد بن حرب، عن أبي بكر بن أبي مريم، ثنا محمد بن زياد، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: بينما أنا راقد في كنيسة يوحنا - وهي يومئذٍ مسجد يصلى فيها - إذا انتبهت من نومي فإذا أنا بأسد يمشي بين يدي، فوثبت إلى سلاحي، فقال الأسد: مه! إنما أرسلت إليك برسالة لتبلغها.
قلت: ومن أرسلك؟
قال: الله أرسلني إليك لتبلغ معاوية السلام وتعلمه أنه من أهل الجنة.
فقلت له: ومن معاوية؟
قال: معاوية بن أبي سفيان.
ورواه الطبراني عن أبي يزيد القراطيسي عن المعلى بن الوليد القعقاعي، عن محمد بن حبيب الخولاني، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، وفيه ضعف وهذا غريب جدا، ولعل الجميع مناما، ويكون قوله إذا انتبهت من نومي مدرجا لم يضبطه ابن أبي مريم، والله أعلم.
وقال محمد بن عائذ: عن الوليد، عن ابن لهيعة، عن يونس، عن الزهري قال: قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، ونفى الشام على أميرين أبي عبيدة ويزيد، ثم توفي أبو عبيدة فاستخلف عياض بن غنم، ثم توفي يزيد فأمر معاوية مكانه، ثم نعاه عمر لأبي سفيان، فقال لأبي سفيان: احتسب يزيد بن أبي سفيان.
قال: من أمرت مكانه؟
قال: معاوية.
فقال: وصلت رحما يا أمير المؤمنين، فكان معاوية على الشام وعمير بن سعد حتى قتل عمر رضي الله عنهم.
وقال محمد بن إسحاق: مات أبو عبيدة في طاعون عمواس واستخلف معاذا، فمات معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان فمات، واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر، وولى عمرو بن العاص فلسطين والأردن، ومعاوية دمشق وبعلبك والبلقاء، وولى سعد بن عامر بن جذيم حمص، ثم جمع الشام كلها لمعاوية بن أبي سفيان، ثم أمره عثمان بن عفان على الشام.
وقال إسماعيل بن أمية: أفرد عمر معاوية بإمرة الشام، وجعل له في كل شهر ثمانين دينارا.
والصواب أن الذي جمع لمعاوية الشام كلها عثمان بن عفان، وأما عمر فإنه إنما ولاه بعض أعمالها.
وقال بعضهم: لما عزيت هند في يزيد بن أبي سفيان - ولم يكن منها - قيل لها: إنه قد جعل معاوية أميرا مكانه، فقالت: أو مثل معاوية يجعل خلفا من أحد؟ فوالله لو أن العرب اجتمعت متوافرة ثم رُمي به فيها لخرج من أي أعراضها - نواحيها - شاء.
وقال آخرون: ذكر معاوية عند عمر، فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا، ومن لا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة الجوهري، حدثني عبد العزيز بن يحيى، عن شيخ له.
قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟
قال: هو ما بلغك من ذلك.
قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيا إلى بلاد الحجاز.
قال: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت.
فقال له عمر: يا معاوية ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريت، ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديت.
قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت.
قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه؟!
فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه.
وفي رواية: أن معاوية تلقى عمر حين قدم الشام، ومعاوية في موكب كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له: إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجل وجعل يقول له ما ذكرنا.
فقال عبد الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين؟!
فقال: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه.
وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: أخبرنا محمد بن ذئب، عن مسلم بن جندب، عن أسلم مولى عمر قال: قدم علينا معاوية وهو أبيض نص وبّاص؛ أبضّ الناس وأجملهم.
فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعه على متن معاوية ثم يرفعها عن مثل الشراك، فيقول: بخ بخ، نحن إذا خير الناس، أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة.
فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك إنا بأرض الحمامات والريف والشهوات.
فقال عمر: سأحدثك ما بك إلا إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبحك حتى تضرب الشمس متنيك، وذووا الحاجات وراء الباب.
فقال: يا أمير المؤمنين علمني امتثل.
قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها، فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب.
فقال: يعمد أحدكم فيخرج حاجا مقلا حتى إذا جاء أعظم بلدان الله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما؟!.
فقال معاوية: إنما لبستهما لأدخل فيهما على عشيرتي وقومي، والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام، فالله يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه، ثم نزع معاوية ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي، عن هشام بن محمد، عن أبي عبد الرحمن المدني.
قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
وهكذا حكى المدائني عن عمر أنه قال ذلك.
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جده.
قال: دخل معاوية على عمر وعليه حلة خضراء؛ فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدرة فجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين الله الله فيّ.
فرجع عمر إلى مجلسه فقال له القوم: لم ضربته يا أمير المؤمنين؟ وما في قومك مثله؟
فقال: والله ما رأيت إلا خيرا، وما بلغني إلا خير، ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليه غير ما رأيتم، ولكن رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه ما شمخ.
وقد قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، ثنا يحيى بن حمزة، ثنا ابن أبي مريم: أن القاسم بن مخيمرة أخبره، أن أبا مريم الأزدي أخبره.
قال: دخلت على معاوية فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان - وهي كلمة تقولها العرب - فقلت: حديث سمعته أخبرك به، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره».
قال: فجعل معاوية حين سمع هذا الحديث رجلا على حوائج الناس. ورواه الترمذي وغيره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، ثنا حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز.
قال: خرج معاوية على الناس فقاموا له.
فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».
وفي رواية: قال: خرج معاوية على ابن عامر وابن الزبير، فقام له ابن عامر ولم يقم له ابن الزبير.
فقال معاوية لابن عامر: اجلس! فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أحب أن يتمثل له العباد قياما فليتبوأ مقعده من النار».
ورواه أبو داود والترمذي من حديث حبيب بن الشهيد. وقال الترمذي: حديث حسن.
وروى أبو داود من حديث الثوري، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المقري الحمصي، عن معاوية.
قال: قال رسول الله ﷺ: «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم».
قال: كلمة سمعها معاوية نفعه الله بها.
تفرد به أحمد - يعني: أنه كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر رحمه الله تعالى - وثبت في الصحيحين من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن معاوية.
أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون».
وفي رواية: «وهم على ذلك».
وقد خطب معاوية بهذا الحديث مرة ثم قال: وهذا مالك بن يخامر يخبر عن معاذ أن رسول الله ﷺ قال وهم بالشام - يحث بهذا أهل الشام على مناجزة أهل العراق: «وإن أهل الشام هم الطائفة المنصورة على من خالفها» وهذا مما كان يحتج به معاوية لأهل الشام في قتالهم أهل العراق.
وقال الليث بن سعد: فتح معاوية قيسارية سنة تسع عشرة في دولة عمر بن الخطاب.
وقال غيره: وفتح قبرص سنة خمس.
وقيل: سبع.
وقيل: ثمان وعشرين في أيام عثمان.
قالوا: وكان عام غزوة المضيق - يعني: مضيق القسطنطينية - في سنة ثنتين وثلاثين في أيامه، وكان هو الأمير على الناس عامئذ.
وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام.
وقيل: إن عمر هو الذي جمعها له، والصحيح: عثمان.
واستقضى معاوية فضالة بن عبيد بعد أبي الدرداء، ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم كما قدمنا، وكان الحق والصواب مع علي، ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفا وخلفا، وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين - أهل العراق وأهل الشام -كما ثبت في الحديث الصحيح: «تمرق مارقة على خير فُرقة من المسلمين، فيقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق» فكانت المارقة الخوارج وقتلهم علي وأصحابه.
ثم قُتل علي، فاستقل معاوية بالأمر سنة إحدى وأربعين، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر رجلا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين.
وفيها: أوفى التي بعدها أغزاه بلاد الروم، فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية.
وقد ثبت في الصحيح: «أول جيش يغزو القسطنطينة مغفور لهم».
وقال وكيع: عن الأعمش، عن أبي صالح.
قال: كان الحادي يحدو بعثمان فيقول:
إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ
فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشهباء - يعني: معاوية -.
فقال: يا أبا إسحاق تقول هذا وههنا علي والزبير وأصحاب محمد ﷺ؟.
فقال: أنت صاحبها.
ورواه سيف عن بدر بن الخليل، عن عثمان بن عطية الأسدي، عن رجل من بني أسد.
قال: ما زال معاوية يطمع فيها منذ سمع الحادي في أيام عثمان يقول:
إن الأمير بعده عليٌ * وفي الزبير خلفٌ مرضيُ
فقال كعب: كذبت! بل صاحب البغلة الشهباء بعده - يعني: معاوية - فقال له معاوية في ذلك فقال: نعم! أنت الأمير بعده، ولكنها والله لا تصل إليك حتى تكذب بحديثي هذا، فوقعت في نفس معاوية.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عباد المكي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي هارون قال:
قال عمر: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فإن معاوية بالشام، وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم.
ورواه الواقدي من وجه آخر: عن عمر رضي الله عنه.
وقد روى ابن عساكر عن عامر الشعبي: أن عليا حين بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية قبل وقعة صفين - وذلك حين عزم علي على قصد الشام، وجمع الجيوش لذلك -.
وكتب معه كتابا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعته، لأنه قد بايعه المهاجرون والأنصار، فإن لم تبايع استعنت بالله عليك وقاتلتك.
وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب الله، في كلام طويل.
وقد قدمنا أكثره، فقرأه معاوية على الناس وقام جرير فخطب الناس، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضا بالسيوف.
فقال معاوية: انتظر حتى آخذ برأي أهل الشام، فلما كان بعد ذلك أمر معاوية مناديا فنادى في الناس: الصلاة جامعة.
فلما اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال: الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا، والشرائع للإيمان برهانا، يتوقد مصباحه بالسنة في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها، ورضيها لهم؛ لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابين عن دينه وحرماته.
ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما، وفي أعلام الخير عظاما، يردع الله بهم الناكثين، ويجمع بهم الألفة بين المؤمنين، والله نستعين على إصلاح ما تشعث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة، اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائما، ويخيفون آمنا، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبلنا.
وقد يعلم الله أنا لا نريد لهم عقابا، ولا نهتك لهم حجابا، غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى، وسقط الندى، وعرف الهدى، وقد علمنا أن الذي حملهم على خلافنا البغي والحسد لنا، فالله نستعين عليهم.
أيها الناس: قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أقم رجلا منكم على خزائه قط، وإني ولي عثمان وابن عمه.
قال الله تعالى في كتابه: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا } [17] وقد علمتم أنه قتل مظلوما، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك.
فلما رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى، أفزعه ذلك، وعجب منه.
وقال معاوية لجرير: إن ولاني عليّ الشام ومصر بايعته على أن لا يكون لأحد بعده على بيعة.
فقال: اكتب إلى علي بما شئت، وأنا أكتب معك، فلما بلغ عليا الكتاب قال: هذه خديعة، وقد سألني المغيرة بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدا } [18].
ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلا وقد اجتمعت العساكر إلى علي.
وكتب معاوية إلى عمرو بن العاص - وكان معتزلا بفلسطين حين قتل عثمان - وكان عثمان قد عزله عن مصر فاعتزل بفلسطين، فكتب إليه معاوية يستدعيه ليستشيره في أموره، فركب إليه فاجتمعا على حرب علي.
وقد قال عقبة بن أبي معيط في كتاب معاوية إلى علي حين سأله نيابة الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ذلك ويعرض بأشياء فيه:
معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
فإن عليا ناظر ما تجيبه * فأهد له حربا يشيب النواصيا
وحام عليها بالقتال وبالقنا * ولا تكُ مخشوش الذراعين وانيا
وإلاّ فسلم إن في الأمن راحةً * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
وإن كتابا يا بن حربٍ كتبته * على طمع جانٍ عليك الدواهيا
سألت عليا فيه ما لا تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا
إلى أن ترى منه الذي ليس بعدها * بقاءٌ فلا تكثر عليك الأمانيا
ومثل علي تغترره بخدعةٍ * وقد كان ما خربت من قبل بانيا
ولو نشبت أظفاره فيك مرةً * فراك ابن هندٍ بعد ما كنت فاريا
وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليا أم أنت مثله؟
فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وأنا أطلب بدمه وأمره إليَّ؟
فقولوا له: فليسلم إليَّ قتلة عثمان، وأنا أسلم له أمره.
فأتوا عليا فكلموه في ذلك فلم يدفع إليهم أحدا، فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية.
وعن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، وأبي جعفر الباقر.
قال: بعث علي رجلا إلى دمشق ينذرهم أن عليا قد نهد في أهل العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلما قدم أمر معاوية فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فملأوا المسجد، ثم صعد المنبر فقال في خطبته: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما الرأي؟
فضرب كل منهم على صدره، ولم يتكلم أحد منهم، ولا رفعوا إليه أبصارهم، وقام ذو الكلاع فقال: يا أمير المؤمنين عليك الرأي وعلينا الفعال.
ثم نادى معاوية في الناس: أن أخرجوا إلى معسكركم في ثلاث، فمن تخلف بعدها فقد أحل بنفسه، فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى علي فأخبره.
فأمر علي مناديا فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فقال: إن معاوية قد جمع الناس لحربكم، فما الرأي؟
فقال كل فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدر علي مما قالوا شيئا، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله بها ابن آكلة الأكباد.
ثم كان من أمر الفريقين بصفين ما كان، كما ذكرناه مبسوطا في سنة ست وثلاثين.
وقد قال أبو بكر بن دريد: أنبأنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة.
قال: قال معاوية: لقد وضعت رجلي في الركاب وهممت يوم صفين بالهزيمة، فما منعني إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول:
أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإكراهي على المكروه نفسي * وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي
وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: الخلفاء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.
فقيل له: فمعاوية؟
قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، رحم الله معاوية.
وقال علي بن المديني: سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما كانت في علي خصلة تقصر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلة ينازع بها عليا.
وقيل لشريك القاضي: كان معاوية حليما؟
فقال: ليس بحليم من سفه الحق وقاتل عليا.
رواه ابن عساكر.
وقال سفيان الثوري: عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه ذكر معاوية وأنه لبى عشية عرفة فقال فيه قولا شديدا، ثم بلغه أن عليا لبى عشية عرفة فتركه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عباد بن موسى، ثنا علي بن ثابت الجزري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عمر بن عبد العزيز.
قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينما أنا جالس إذ أُتي بعلي ومعاوية، فأدخلا بيتا وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة.
ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة.
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي، أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية.
فقال له: ولم؟
قال: لأنه قاتل عليا.
فقال له أبو زرعة: ويحك إن معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما.
وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [19].
وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال الأوزاعي: سئل الحسن عما جرى بين علي وعثمان فقال: كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة، ولهذا قرابة ولهذا قرابة، فابتلى هذا وعوفي هذا.
وسئل عما جرى بين علي ومعاوية فقال: كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقة ولم يكن لهذا سابقة، فابتلينا جميعا.
وقال كلثوم بن جوشن: سأل النضر أبو عمر الحسن البصري فقال: أبو بكر أفضل أم علي؟
فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق يشركه فيها أبو بكر، وأحدث علي حوادث لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل.
قال: فعمر أفضل أم علي؟
فقال: مثل قوله في أبي بكر، ثم قال: عمر أفضل.
ثم قال: عثمان أفضل أم علي؟
فقال: مثل قوله الأول، ثم قال: عثمان أفضل.
قال: فعلي أفضل أم معاوية؟
فقال: سبحان الله ولا سواء، سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية، وأحدث علي أحداثا شركه فيها معاوية، علي أفضل من معاوية.
وقد رُوي عن الحسن البصري: أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء: قتاله عليا، وقتله حجر بن عدي، واستلحاقه زياد بن أبيه، ومبايعته ليزيد ابنه.
وقال جرير بن عبد الحميد: عن مغيرة.
قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي.
فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟
فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم.
وفي رواية: أنها قالت له: بالأمس تقاتلنه، واليوم تبكينه؟.
قلت: وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين، ولهذا قال الليث بن سعد: إن معاوية بويع له بإيليا بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين.
والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور أنه بويع له بإيليا في رمضان سنة أربعين، حين بلغ أهل الشام مقتل علي، ولكنه إنما دخل الكوفة بعد مصالحة الحسن له في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة، وذلك بمكان يقال له: أدرج.
وقيل: بمسكن من أرض سواد العراق من ناحية الأنبار، فاستقل معاوية بالأمر إلى أن مات سنة ستين.
قال بعضهم: كان نقش خاتم معاوية: لكل عمل ثواب.
وقيل: بل كان: لا قوة إلا بالله.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور قالا: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن سويد.
قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة - يعني: خارج الكوفة - الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.
رواه محمد بن سعد عن يعلى بن عبيد، عن الأعمش به.
وقال محمد بن سعد: حدثنا عارم، ثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري، أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه، ثم إنه بَعُدَ عن ذلك.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا ابن فضيل، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن علي لما قدم من الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين.
قال: لا تقل ذلك، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك معاوية».
فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تهراق بيني وبينه دماء المسلمين.
وقال مجالد: عن الشعبي، عن الحارث الأعور.
قال: قال علي بعد ما رجع من صفين: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل.
وقال ابن عساكر: بإسناده عن أبي داود الطيالسي، ثنا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله ﷺ في الخلافة؟
فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة، وكذلك غيره من الكفار.
وقال الزهري: حدثني القاسم بن محمد: أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما أحد، إلا ذكوان أبو عمر عمرو، ومولى عائشة.
فقالت: أمنت أن أخبأ لك رجلا يقتلك بقتلك أخي محمدا؟
فقال: صدقتي، فلما قضى معاوية كلامه معها تشهدت عائشة ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه ﷺ من الهدى ودين الحق، والذي سن الخلفاء بعده، وحضّت معاوية على العدل واتباع أثرهم.
فقالت في ذلك: فلم يترك له عذرا، فلما قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت والله العالمة العاملة بأمر رسول الله ﷺ، الناصحة المشفقة، البلوغة الموعظة، حضضت على الخير، وأمرت به، ولم تأمرينا إلا بالذي هو لنا مصلحة، وأنت أهل أن تطاعي.
وتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا.
فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان وقال: والله ما سمعت خطيبا ليس رسول الله ﷺ أبلغ من عائشة.
وقال محمد بن سعد: حدثنا خالد بن مخلد البجلي، ثنا سليمان بن بلال، حدثني علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة فأرسل إلى عائشة أن أرسلي بأنبجانية رسول الله ﷺ وشعره.
فأرسلت به معي أحمله، حتى دخلت به عليه، فأخذ الانبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده.
وقال الأصمعي: عن الهذلي، عن الشعبي قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلا أمرك.
فما رد عليهم جوابا حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد!
فإني والله ما وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه.
وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت أشد نفورا وأعظم هربا من ذلك، وحاولتها على مثل سنيات عثمان فأبت عليّ وأين مثل هؤلاء؟
ومن يقدر على أعمالهم؟
هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم؟
رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك.
ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم.
والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه، فإنها بقاببة قوبها، وإن السيل إذا جاء يبرى، وإن قل أغنى، وإياكم والفتنة فلا تهتموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستيصال، أستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله. ثم نزل.
قال أهل اللغة: القاببة البيضة، والقوب الفرخ، قابت البيضة تقوب إذا انفلقت عن الفرخ -.
والظاهر: أن هذه الخطبة كانت عام حج في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة.
وقال الليث: حدثني علوان بن صالح بن كيسان أن معاوية قدم المدينة أول حجة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجه إلى دار عثمان بن عفان، فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها.
فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإن لي حاجة في هذه الدار، فانصرفوا ودخل فسكن عائشة بنت عثمان، وأمرها بالكف وقال لها: يا بنت أخي إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا.
فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا؟
وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين أحب إليّ أن تكوني أمة من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك.
وقد روى ابن عدي من طريق علي بن زيد، وهو ضعيف، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، ومن حديث مجالد، وهو ضعيف أيضا، عن أبي الوداك أبي سعيد.
أن رسول الله ﷺ قال: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».
وأسنده أيضا من طريق الحكم بن ظهير - وهو متروك - عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعا.
وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحا لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
وأرسله عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، قال أيوب: وهو كذب.
ورواه الخطيب البغدادي بإسناد مجهول، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا: «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه، فإنه أمين مأمون».
وقال أبو زرعة الدمشقي: عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي قال: أدركت خلافة معاوية عدة من الصحابة منهم: أسامة، وسعد، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وسلمة بن مخلد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة، وأنس بن مالك.
ورجال أكثر وأطيب ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم، وأخذوا عن رسول الله ﷺ تأويل القرآن.
ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء الله، منهم: المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن محيريز، وفي أشباه لهم لم ينزعوا يدا من جماعة في أمة محمد ﷺ.
وقال أبو زرعة: عن دحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز.
قال: لما قتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سرية في الصيف ويُشَتُّوا بأرض الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى.
وكان في جملة من أغزى ابنه يزيد ومعه خلق من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعا إلى الشام، وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم.
وقال ابن وهب: عن يونس، عن الزهري قال: حج معاوية بالناس في أيام خلافته مرتين، وكانت أيامه عشرين سنة إلا شهرا.
وقال أبو بكر بن عياش: حج بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين.
وقال غيره: سنة إحدى وخمسين فالله أعلم.
وقال الليث بن سعد: حدثنا بكير، عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب - يعني: معاوية -.
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، ثنا المسور بن مخرمة: أنه وفد على معاوية.
قال: فلما دخلت عليه - حسبت أنه قال: سلمت عليه - فقال: ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟
قال: قلت: ارفضنا من هذا وأحسن فيما قدمنا له.
فقال: لتكلمني بذات نفسك.
قال: فلم أدع شيئا أعيبه عليه إلا أخبرته به.
فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من الذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها الله لك؟
قال: قلت: نعم!
إن لي ذنوبا إن لم تغفرها هلكت بسببها.
قال: فما الذي يجعلك أحق بأن ترجو أنت المغفرة مني، فوالله لما إليّ من إصلاح الرعايا وإقامة الحدود والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي لا يحصيها إلا الله ولا نحصيها أكثر مما تذكر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات ويعفو عن السيئات.
والله على ذلك ما كنت لأخيَّر بين الله وغيره إلا اخترت الله على غيره مما سواه.
قال: ففكرت حين قال لي ما قال فعرفت أنه قد خصمني.
قال: فكان المسور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير.
وقد رواه شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بنحوه.
وقال ابن دريد: عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: يا أيها الناس!
ما أنا بخيركم وإن منكم لمن هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدركم حلبا.
وقد رواه أصحاب محمد، عن ابن سعد، عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى معاوية: أنه سمع معاوية يقول نحو ذلك.
وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: حدثنا عمرو بن واقد، ثنا يونس بن حلبس قال: سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول:
أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن الله عليكم عدوكم فليسومنكم سوء العذاب.
تصدقوا ولا يقولن الرجل إني مقلٌ، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني، وإياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لسئل عنها يوم القيامة.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يزيد بن طهمان الرقاشي، ثنا محمد بن سيرين.
قال: كان معاوية إذا حدث عن رسول الله ﷺ لم يتهم.
ورواه أبو القاسم البغوي: عن سويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي قبيل.
قال: كان معاوية يبعث رجلا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود؟
أو قدم أحد من الوفود؟
فإذا أخبر بذلك أثبت في الديوان - يعني: ليجري عليه الرزق -.
وقال غيره: كان معاوية متواضعا ليس له مجالد إلا كمجالد الصبيان التي يسمونها المخاريق فيضرب بها الناس.
وقال هشام بن عمار: عن عمرو بن واقد، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.
قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردف وراءه وصفيا عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق.
وقال الأعمش: عن مجاهد أنه قال: لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي.
وقال هشيم: عن العوام، عن جبلة بن سحيم، عن ابن عمرو.
قال: ما رأيت أحدا أسود من معاوية.
قال: قلت: ولا عمر؟
قال: كان عمر خيرا منه، وكان معاوية أسود منه.
ورواه أبو سفيان الحيري: عن العوام بن حوشب به.
وقال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية.
قيل: ولا أبو بكر؟
قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرا منه، وهو أسود.
وروى من طرق عن ابن عمر مثله.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن همام: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلا كان أخلق بالملك من معاوية.
وقال حنبل بن إسحاق: حدثنا أبو نعيم، حدثنا ابن أبي عتيبة، عن شيخ من أهل المدينة قال: قال معاوية: أنا أول الملوك.
وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا حمزة، عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول: أنا أول الملوك وآخر خليفة.
قلت: والسُنَّة أن يقال لمعاوية: ملك، ولا يقال له خليفة حديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا».
وقال عبد الملك بن مروان يوما وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه.
وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحدا أعظم حلما ولا أكثر سؤددا ولا أبعد أناة ولا ألين مخرجا، ولا أرحب باعا بالمعروف من معاوية.
وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاما سيئا شديدا، فقيل له: لو سطوت عليه؟
فقال: إني لأستحيي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي.
وفي رواية: قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟
فقال: إني لأستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي.
وقال الأصمعي عن الثوري: قال: قال معاوية: إني لأستحيي أن يكون ذنب أعظم من عفوي، أو جهل أكبر من حلمي، أو تكون عورة لا أواريها بستري.
وقال الشعبي والأصمعي: عن أبيه قالا: جرى بين رجل يقال له: أبو الجهم وبين معاوية كلام فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية، فأطرق معاوية.
ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وإن قليله يغلب كثير الناس.
ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمالٍ.
فقال أبو جهم في ذلك يمدح معاوية:
نميل على جوانبه كأنا * نميل إذا نميل على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه * فنخبر منهما كرما ولينا
وقال الأعمش: طاف الحسن بن علي مع معاوية فكان معاوية يمشي بين يديه، فقال الحسن: ما أشبه أليتيه بأليتي هند؟!
فالتفت إليه معاوية فقال: أما إن ذلك كان يعجب أبا سفيان.
وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أم الحكم لمعاوية: أن فلانا يشتمني.
فقال له: طأطئ لها فتمر فتجاوزك.
وقال ابن الأعرابي: قال رجل لمعاوية: ما رأيت أنذل منك.
فقال معاوية: بلى من واجه الرجال بمثل هذا.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قال معاوية: ما يسرني بذل الكرم حمر النعم.
وقال: ما يسر بي بذل الحلم عز النصر.
وقال بعضهم: قال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشا بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتما وأوسعه حلما، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي، وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرما.
وقال: آفة الحلم الذل.
وقال: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم.
وقال عبد الله بن الزبير: لله در ابن هند، إن كنا لنفرقه وما الليث على براثنه بأجرأ منه، فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منة فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قبيس -.
وقال رجل لمعاوية: من أسود الناس؟
فقال: أسخاهم نفسا حين يسأل، وأحسنهم في المجالس خلقا، وأحلمهم حين يستجهل.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان معاوية يتمثل بهذه الأبيات كثيرا:
فما قتل السفاهة مثل حلمٍ * يعود به على الجهل الحليم
فلا تسفه وإن ملِّئت غيظا * على أحدٍ فإن الفحش لوم
ولا تقطع أخا لك عند ذنبٍ * فإن الذنب يغفره الكريم
وقال القاضي الماوردي في الأحكام السلطانية: وحكي أن معاوية أتي بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد من بينهم، فقال:
يميني أمير المؤمنين أعيذها * بعفوك أن تلقى مكانا يشينها
يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترها * ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة * إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فقال معاوية: كيف أصنع بك؟
قد قطعنا أصحابك؟
فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين! اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها.
فخلى سبيله، فكان أول حد ترك في الإسلام.
وعن ابن عباس أنه قال: قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقع طاروا.
وقال غيره: كتب معاوية إلى نائبه زياد:
إنه لا ينبغي أن يسوس الناس سياسة واحدة باللين فيمرحوا، ولا بالشدة فيحمل الناس على المهالك، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد بابا يدخل منه.
وقال أبو مسهر: عن سعيد بن عبد العزيز.
قال: قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدين الذي كانت تعطيه الناس.
وقال هشام بن عروة: عن أبيه قال: بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم.
فقالت لها خادمتها: هلا أبقيت لنا درهما نشتري به لحما تفطري عليه؟
فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.
وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة وهي بمكة بطوق قيمته مائة ألف فقبلته.
وقال زيد بن الحباب: عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة.
قال: قدم الحسن بن علي على معاوية فقال له: لأجيزنك بجائزة لم يجزها أحد كان قبلي، فأعطاه أربعمائة ألف ألف.
ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف، وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي.
فقال له الحسين: ولم تعط أحد أفضل منا.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا يوسف ابن موسى، ثنا جرير بن مغيرة.
قال: أرسل الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال، فبعث إليهما - أو إلى كل منهما - بمائة ألف، فبلغ ذلك عليا فقال لهما: ألا تستحيان؟
رجل نطعن في عينه غدوةً وعشيةً تسألانه المال؟
فقالا: بل حرمتنا أنت وجاد هولنا.
وروى الأصمعي قال: وفد الحسن وعبد الله بن الزبير على معاوية فقال للحسن: مرحبا وأهلا بابن رسول الله، وأمر له بثلاثمائة ألف.
وقال لابن الزبير: مرحبا وأهلا بابن عمة رسول الله ﷺ، وأمر له بمائة ألف.
وقال أبو مروان المرواني: بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف فقسمها على جلسائه، وكانوا عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف.
وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستوهبتها منه امرأته فاطمة فأطلقها لها، وبعث إلى مروان بن الحكم بمائة ألف فقسم منها خمسين ألفا وحبس خمسين ألفا، وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف ففرق منها تسعين واستبقى عشرة آلاف.
فقال معاوية: إنه لمقتصد يحب الاقتصاد.
وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف فقال للرسول: لم جئت بها بالنهار؟
هلا جئت بها بالليل؟
ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحدا شيئا.
فقال معاوية: إنه لخب ضبّ، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله.
وقال ابن دآب: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، ويقضي له معها مائة حاجة، فقدم عليه عاما فأعطاه المال وقضى له الحاجات، وبقيت منها واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم أصبغهند سجستان يطلب من معاوية أن يملكه على تلك البلاد، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف.
فطاف على رؤوس الأشهاد والأمراء من أهل الشام وأمراء العراق، ممن قدم مع الأحنف بن قيس، فكلهم يقولون: عليك بعبد الله بن جعفر، فقصده الدهقان فكلم فيه ابن جعفر معاوية فقضى حاجته تكملة المائة حاجة.
وأمر الكاتب فكتب له عهده، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان فسجد له وحمل إليه ألف ألف درهم.
فقال له ابن جعفر: اسجد لله واحمل مالك إلى منزلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن.
فبلغ ذلك معاوية فقال: لأن يكون يزيد قالها أحب إليّ من خراج العراق، أبت بنو هاشم إلا كرما.
وقال غيره: كان لعبد الله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض الأوقات دين خمسمائة ألف، فألحّ عليه غرماؤه فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية فيسأله أن يسلفه شيئا من العطاء، فركب إليه فقال له: ما أقدمك يا بن جعفر؟
فقال: دين ألحّ علي غرماؤه.
فقال: وكم هو؟
قال: خمسمائة ألف.
فقضاها عنه وقال له: إن الألف ألف ستأتيك في وقتها.
وقال ابن سعيد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا ابن هلال، عن قتادة.
قال: قال معاوية: يا عجبا للحسن بن علي!! شرب شربة عسل يمانية بماء رومة فقضى نحبه، ثم قال لابن عباس: لا يسؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي.
فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوءني ما أبقى الله أمير المؤمنين.
قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضا وأشياء.
وقال: خذها فاقسمها في أهلك.
وقال أبو الحسن المدايني: عن سلمة بن محارب قال: قيل لمعاوية: أيكم كان أشرف، أنتم أو بنو هاشم؟
قال: كنا أكثر أشرافا وكانوا هم أشرف، فيهم واحد لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلما هلك كنا أكثر عددا وأكثر أشرافا، وكان فيهم عبد المطلب لم يكن فينا مثله.
فلما مات صرنا أكثر عددا وأكثر أشرافا، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي.
فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد ﷺ، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف؟.
وروى ابن أبي خيثمة: عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن عمرو بن العاص قصّ على معاوية مناما رأى فيه أبا بكر، وعمر، وعثمان، وهم يحاسبون على ما وَلَّوه في أيامهم، ورأى معاوية وهو موكل به رجلان يحاسبانه على ما عمل في أيامه.
فقال له معاوية: وما رأيت ثم دنانير مصر؟.
وقال ابن دريد: عن أبي حاتم، عن العتبي.
قال: دخل عمرو على معاوية وقد ورد عليه كتاب فيه تعزية له في بعض الصحابة، فاسترجع معاوية فقال عمرو بن العاص:
تموت الصالحون وأنت حي * تخطاك المنايا لا تموت
فقال له معاوية:
أترجو أن أموت وأنت حي* فلست بميت حتى تموت
وقال ابن السماك: قال معاوية: كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
وقال الزهري: عن عبد الملك، عن أبي بحرية.
قال: قال معاوية: المروءة في أربع: العفاف في الإسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وحفظ الجار.
وقال أبو بكر الهذلي: كان معاوية يقول الشعر فلما ولي الخلافة قال له أهله: قد بلغت الغاية فماذا تصنع بالشعر؟
فارتاح يوما فقال:
صرمت سفاهتي وأرحت حلمي * وفيّ على تحملي اعتراض
على أني أجيب إذا دعتني * إلى حاجاتها الحدق المراض
وقال مغيرة: عن الشعبي: أول من خطب جالسا معاوية حين كثر شحمه وعظم بطنه.
وكذا روي عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال: أول من خطب جالسا يوم الجمعة معاوية.
وقال أبو المليح عن ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية واستأذن الناس في الجلوس.
وقال قتادة: عن سعيد بن المسيب: أول من أذن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية.
وقال أبو جعفر الباقر: كانت أبواب مكة لا أغلاق لها، وأول من اتخذ الأبواب معاوية.
وقال أبو اليمان: عن شعيب، عن الزهري: مضت السُنَّة أن لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، وأول من ورث المسلم من الكافر معاوية، وقضى بذلك بنو أمية بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فراجع السنة، وأعاد هشام ما قضى به معاوية وبنو أمية من بعده.
وبه قال الزهري، ومضت السنة: أن دية المعاهد كدية المسلم، وكان معاوية أول من قصرها إلى النصف، وأخذ النصف لنفسه.
وقال ابن وهب: عن مالك، عن الزهري قال: سألت سعيد بن المسيب عن أصحاب رسول الله ﷺ فقال لي: اسمع يا زهري، من مات محبا لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحم على معاوية، كان حقا على الله أن لا يناقشه الحساب.
وقال سعيد بن يعقوب الطالقاني: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: تراب في أنف معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز.
وقال محمد بن يحيى بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية فقال: ما أقول في رجل قال رسول الله ﷺ سمع الله لمن حمده، فقال خلفه: ربنا ولك الحمد.
فقيل له: أيهما أفضل؟
هو أو عمر بن عبد العزيز؟
فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله ﷺ خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز.
وقال غيره: عن ابن المبارك، قال معاوية: عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه شزرا اتهمناه على القول - يعني: الصحابة -.
وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وغيره: سئل المعافى بن عمران أيهما أفضل؟
معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟
فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلا من الصحابة مثل رجل من التابعين؟ معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله.
وقد قال رسول الله ﷺ: «دعوا لي أصحابي وأصهاري، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
وكذا قال الفضل بن عتيبة.
وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: معاوية ستر لأصحاب محمد ﷺ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.
وقال الميموني: قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن إذا رأيت رجلا يذكر أحدا من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له رافضي؟
فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من الصحابة إلا وله داخلة سوء.
وقال ابن مبارك: عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة.
قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسان شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطا.
وقال بعض السلف: بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفا يقول: من أبغض الصديق فذاك زنديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنم زمرا، ومن أبغض عثمان فذاك خصمه الرحمن، ومن أبغض عليا فذاك خصمه النبي ﷺ، ومن أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنم الحامية، يرمى به في الحامية الهاوية.
وقال بعضهم: رأيت رسول الله ﷺ وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل فقال عمر: يا رسول الله هذا يتنقصنا، فكأنه انتهره رسول الله ﷺ.
فقال: يا رسول الله إني لا أتنقص هؤلاء ولكن هذا - يعني: معاوية -.
فقال: «ويلك أوليس هو من أصحابي؟» قالها ثلاثا، ثم أخذ رسول الله ﷺ حربة فناولها معاوية فقال: «جابها في لبته».
فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي.
وروى ابن عساكر: عن الفضيل بن عياض أنه كان يقول: معاوية من الصحابة، من العلماء الكبار، ولكن ابتلى بحب الدنيا.
وقال العتبي: قيل لمعاوية أسرع إليك الشيب؟
فقال: كيف لا ولا أزال أرى رجلا من العرب قائما على رأسي يلقح لي كلاما يلزمني جوابه، فإن أصبت لم أحمد، وإن أخطأت سارت بها البرود.
وقال الشعبي وغيره: أصابت معاوية في آخر عمره لوقة.
وروى ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال: اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني: فرجها - ويقول: هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن معاوية.
ثم قال: لا!
ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإنها لا تصلح له.
فقال: نعم ما رأيت.
قال: ثم وهبها لعبد الله بن مسعدة الفزاري مولى فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وكان أسود.
فقال له: بيض بها ولدك، وهذا من فقه معاوية ونحريه، حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنه استضعف نفسه عنها، فتحرج أن يهبها من ولده يزيد لقوله تعالى: { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [20].
وقد وافقه على ذلك الفقيه ربيعة بن عمرو الجرشي الدمشقي.
وذكر ابن جرير: أن عمرو بن العاص قدم في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال لهم في الطريق: إذا دخلتم على معاوية فلا تسلموا عليه بالخلافة فإنه لا يحب ذلك، فلما دخل عليه عمرو قبلهم.
قال معاوية لحاجبه: أدخلهم، وأوعز إليه أن يخوفهم في الدخول ويرعبهم.
وقال: إني لأظن عمرا قد تقدم إليهم في شيء؟.
فلما أدخلوهم عليه - وقد أهانوهم - جعل أحدهم إذا دخل يقول: السلام عليك يا رسول الله ﷺ.
فلما نهض عمرو من عنده قال: قبحكم الله! نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلمتم عليه بالنبوة.
وذكر أن رجلا سأل من معاوية أن يساعده في بناء داره باثني عشر ألف جذع من الخشب.
فقال له معاوية: أين دارك؟
قال: بالبصرة.
قال: وكم اتساعها؟
قال: فرسخان في فرسخين.
قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري.
وذكر أن رجلا دخل بابن معه فجلسا على سماط معاوية فجعل ولده يأكل أكلا ذريعا، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلما خرجا لامه أبوه وقطعه عن الدخول.
فقال له معاوية! أين ابنك التلقامة؟
قال: اشتكى.
قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.
قال: ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عباءة فجعل يزدريه.
فقال: يا أمير المؤمنين إنك لا تخاطب العباءة، إنما يخاطبك من بها.
وقال معاوية: أفضل الناس من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا وعد أنجز، وإذا أساء استغفر.
وكتب رجل من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
إذا الرجال ولدت أولادها * واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها * فهي زروع قد دنا حصادها.
فقال معاوية: نعى إليّ نفسي.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني هارون بن سفيان، عن عبد الله السهمي، حدثني ثمامة بن كلثوم أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيها الناس! إن من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي خير مني.
وإنما يليكم من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيرا مني، ويا يزيد إذا دنا أجلي فولِّ غسلي رجلا لبيبا، فإن اللبيب من الله بمكان، فلينعم الغسل وليجهر بالتكبير.
ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله ﷺ، وقراضة من شعره وأظفاره، فاستودع القراضة أنفي وفمي، وأذني وعيني، واجعل ذلك الثوب مما يلي جلدي دون لفافي.
ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي ووضعتموني في حفرتي، فخلوا معاوية وأرحم الراحمين.
وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل يقول:
لعمري لقد عمرت في الدهر برهةً * ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
وأعطيت حمر المال والحكم والنهى * ولي سلمت كل الملوك الجبابر
فأضحى الذي قد كان مما يسرني * كحكمٍ مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أعنِ في الملك ساعةً * ولم أسمع في لذات عيشٍ نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ * فلم يك حتى زار ضيق المقابر
وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد، عن محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال - كأنه أراد أن يطيب له - لأن عمر بن الخطاب قاسم عماله.
وذكروا: أنه في آخر عمره اشتد به البرد فكان إذا لبس أو تغطى بشيء ثقيل يغمه، فاتخذ له ثوبا من حواصل الطير، ثم ثقل عليه بعد ذلك.
فقال: تبا لك من دار، ملكتك أربعين سنة، عشرين أميرا، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تبا للدنيا ولمحبيها.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير.
قال: لما ثقل معاوية وتحدث الناس بموته قال لأهله: احشوا عيني إثمدا، وأوسعوا رأسي دهنا، ففعلوا وغرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له مجلس وقال: أسندوني.
ثم قال: إيذنوا للناس فليسلموا عليّ قياما ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما فيراه مكتحلا متدهنا فيقول متقول الناس: إن أمير المؤمنين لما به وهو أصح الناس.
فلما خرجوا من عنده، قال معاوية في ذلك:
وتجلدي للشامتين أريهم * أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
قال: وكان به النقابة - يعني: لوقة - فمات من يومه ذلك رحمه الله.
وقال موسى بن عقبة: لما نزل بمعاوية الموت قال: يا ليتني كنت رجلا من قريش بذي طوى، ولم ألِ من هذا الأمر شيئا.
وقال أبو السائب المخزومي: لما حضرت معاوية الوفاة تمثل بقول الشاعر:
إن تناقش يكن نقاشك يا رب * عذابا لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز تجاوز العفو واصفح * عن مسيءٍ ذنوبه كالتراب
وقال بعضهم: لما احتضر معاوية جعل أهله يقلبونه.
فقال لهم: أي شيخ تقلبون؟ إن نجاه الله من عذاب النار غدا.
وقال محمد بن سيرين: جعل معاوية لما احتضر يضع خدا على الأرض ثم يقلب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: { اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [21] اللهم فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له.
وقال العتبي عن أبيه: تمثل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السياق:
هو الموت لا منجا من الموت والذي * نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرج غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك.
ورواه ابن دريد: عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء فذكر مثله، وزاد: ثم مات.
وقال غيره: أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله: اتقوا الله فإن الله تعالى يقي من اتقاه، ولا يقي من لا يتقي، ثم مات رحمه الله.
وقد روى أبو مخنف: عن عبد الله بن نوفل.
قال: لما مات معاوية صعد الضحاك بن قيس المنبر فخطب الناس - وأكفانُ معاوية على يديه -
فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن معاوية الذي كان سُور العرب وعونهم وجدهم، قطع الله به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد، إلا إنه قد مات وهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله.
ثم هول البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى.
ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يعلمه ويستحثه على المجيء.
ولا خلاف أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين.
فقال جماعة: ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين.
وقيل: ليلة الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين.
قاله ابن إسحاق وغير واحد.
وقيل: لأربع خلت من رجب، قاله الليث.
وقال سعد بن إبراهيم: لمستهل رجب.
قال محمد بن إسحاق والشافعي: صلى عليه ابنه يزيد، وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفن في ثوب رسول الله ﷺ الذي كساه إياه، وكان مُدَّخرا عنده لهذا اليوم، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه.
وقال آخرون: بل كان ابنه يزيد غائبا فصلى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن فقيل: بدار الإمارة وهي الخضراء.
وقيل: بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم.
وكان عمره إذ ذاك ثمانيا وسبعين سنة.
وقيل: جاوز الثمانين وهو الأشهر والله أعلم.
ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية - وكان يزيد بحوارين - فلما وصلوا إلى ثنية العُقاب تلقتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر، فسلم عليه الناس بالإمارة وعزوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس.
فانتهى إلى باب توما، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه لأنه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه.
فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه بعد ما دفن ثم انفتل، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب.
ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين.
فقال: بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس! إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده ودون من قبله، ولا أزكيه على الله عزّ وجلّ فإنه أعلم به، إن عفى عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه.
وقد وليت الأمر من بعده، ولستُ آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئا كان.
وقال لهم في خطبته هذه: وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملا أحدا من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتيا أحدا بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا وأنا أجمعه لكم كله.
قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: بعث معاوية وهو مريض إلى ابنه يزيد، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول:
جاء البريد بقرطاس يخب به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم * قال الخليفة أمسى مثقلا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا * كأن أغبر من أركانها انقلعا
ثم انبعثنا إلى خوص مضمرة * نرمي الفجاج بها ما نأتلي سرعا
فما نبالي إذا بلغن أرجلنا * ما مات منهن بالمرمات أو طلعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق * بصوت رملة ريع القلب فانصدعا
من لا تزل نفسه توفي على شرف * توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه * كأنا جميعا خليطا سالمين معا
أغر أبلج يستسقى الغمام به * لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
لا يرقع الناس ما أوهى وإن جهدوا * أن يرقعوه ولا يوهون ما رقعا
وقال الشافعي: سرق يزيد هذين البيتين من الأعشى، ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق وأنه أوصى إليه، وهذا قد قاله ابن إسحاق وغير واحد.
ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا بعد موت أبيه، وأنه صلى على قبره بالناس كما قدمناه والله أعلم.
وقال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه:
ألا أنعى معاوية بن حربٍ * نعاة الحل للشهر الحرام
نعاه الناعيات بكل فجٍ * خواضع في الأزمة كالسهام
فهاتيك النجوم وهن خرسٌ * ينحن على معاوية الهمام
وقال أيمن بن خريم يرثيه أيضا:
رمى الحدثان نسوة آل حربٍ * بمقدارٍ سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا
فإنك لو شهدت بكاء هندٍ * ورملة إذ يصفقن الخدودا
بكيت بكاء معولةٍ قريحٍ * أصاب الدهر واحدها الفريدا
ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له
كان له عبد الرحمن وبه كان يكنى، وعبد الله، وكان ضعيف العقل.
وأمهما: فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، وقد تزوج بأختها منفردة عنها بعدها، وهي كنوة بنت قرظة، وهي التي كانت معه حين افتتح قبرص، وتزوج نائلة بنت عمارة الكلبية فأعجبته وقال لميسون بنت بحدل: ادخلي فانظري إلى ابنة عمك.
فدخلت فسألها عنها فقالت: إنها لكاملة الجمال، ولكن رأيت تحت سرتها خالا، وإني لأرى هذه يقتل زوجها ويوضع رأسه في حجرها.
فطلقها معاوية فتزوجها بعده حبيب بن سلمة الفهري، ثم خلف عليها بعده النعمان بن بشير فقُتل ووضع رأسه في حجرها.
ومن أشهر أولاده: يزيد وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن دلجة بن قنافة الكلبي، وهي التي دخلت على نائلة فأخبرت معاوية عنها بما أخبرته، وكانت حازمة عظيمة الشأن جمالا ورياسة وعقلا ودينا، دخل عليها معاوية يوما ومعه خادم خصي فاستترت منه وقالت: ما هذا الرجل معك؟
فقال: إنه خصي فأظهري عليه.
فقالت: ما كانت المثلة لتحل له ما حرم الله عليه، وحجبته عنها.
وفي رواية: أنها قالت له: إن مجرد مثلتك له لن تحل ما حرمه الله عليه، فلهذا أولى الله ابنها يزيد الخلافة بعد أبيه.
وذكر ابن جرير: أن ميسون هذه ولدت لمعاوية بنتا أخرى يقال لها: أمة رب المشارق، ماتت صغيرة.
ورملة تزوجها عمرو بن عثمان بن عفان، كانت دارها بدمشق عند عقبة السمك تجاه زقاق الرمان، قاله ابن عساكر، قال: ولها طاحون معروفة إلى الآن.
وهند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر، فلما أدخلت عليه بالخضراء جوار الجامع، أرادها على نفسها فتمنعت عليه وأبت أشد الإباء، فضربها فصرخت، فلما سمع الجواري صوتها صرخن وعلت أصواتهن، فسمع معاوية فنهض إليهن فاستعلمهن ما الخبر؟
فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصحنا، فدخل فإذا بها تبكي من ضربه.
فقال لابن عامر: ويحك!! مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟
ثم قال له: أخرج من ههنا، فخرج ابن عامر وخلا بها معاوية فقال لها: يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك، أَوَ ما سمعت قول الشاعر:
من الخفرات البيض أّما حرامها * فصعب وأما حلها فذلول؟
ثم خرج معاوية من عندها وقال لزوجها: ادخل فقد مهدت لك خلقها ووطأته.
فدخل ابن عامر فوجدها قد طابت أخلاقها فقضى حاجته منها رحمهم الله تعالى.
كان على قضاء معاوية أبو الدرداء بولاية عمر بن الخطاب، فلما حضره الموت أشار على معاوية بتولية فضالة بن عبيد، ثم مات فضالة فولى أبا إدريس الخولاني.
فصل قضاء معاوية
وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له: المختار، وقيل: مالك، ويكنى أبا المخارق - مولى لحمير -.
وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وعلى حجابته سعد مولاه وعلى الشرطة قيس بن حمزة، ثم زُميل بن عمرو العذري، ثم الضحاك بن قيس الفهري، وكان صاحب أمره سرجون بن منصور الرومي.
وكان معاوية أول من اتخذ ديوان الخاتم وختم الكتب.
وممن ذكر أنه توفي في هذه السنة - أعني: سنة ستين -
صفوان بن المعطل بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو
وأول مشاهده المريسي، وكان في الساقة يومئذ، وهو الذي رماه أهل الإفك بأم المؤمنين فبرأه الله وإياها مما قالوا.
وكان من سادات المسلمين، وكان ينام نوما شديدا حتى كان ربما طلعت عليه الشمس وهو نائم لا يستيقظ.
فقال له رسول الله ﷺ: «إذا استيقظت فصلّ» وقد قتل صفوان شهيدا.
أبو مسلم الخولاني
عبد بن ثُوَب الخولاني من خولان ببلاد اليمن.
دعاه الأسود العنسي إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال له: أتشهد أني رسول الله؟
فقال: لا أسمع، أشهد أن محمدا رسول الله، فأجج له نارا وألقاه فيها فلم تضره، وأنجاه الله منها فكان يشبه بإبراهيم الخليل.
ثم هاجر فوجد رسول الله ﷺ قد مات، فقدم على الصديق فأجلسه بينه وبين عمر وقال له عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل، وقبّله بين عينيه، وكانت له أحوال ومكاشف والله سبحانه أعلم.
ويقال: إنه توفي فيها: النعمان بن بشير، والأظهر أنه مات بعد ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه
بويع له بالخلافة بعد أبيه في رجب سنة ستين، وكان مولده سنة ست وعشرين، فكان يوم بويع ابن أربع وثلاثين سنة، فأقر نواب أبيه على الأقاليم، لم يعزل أحدا منهم، وهذا من ذكائه.
قال هشام بن محمد الكلبي: عن أبي مخنف لوط بن يحيى الكوفي الأخباري: ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان بن بشير، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية البيعة ليزيد.
فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن عتبة:
بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد.
فإن معاوية كان عبدا من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكن له، فعاش بقدرٍ ومات بأجلٍ فرحمه الله، فقد عاش محمودا ومات برا تقيا والسلام.
وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن الفأرة:
أما بعد:
فخذ حُسينا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام.
فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكَبرُ عليه، فبعث إلى مروان فقرأ عليه الكتاب واستشاره في أمر هؤلاء النفر، فقال: أرى أن تدعوهم قبل أن يعلموا بموت معاوية إلى البيعة، فإن أبَو ضربت أعناقهم.
فأرسل من فوره عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان إلى الحسين وابن الزبير - وهما في المسجد - فقال لهما: أجيبا الأمير.
فقالا: انصرف الآن نأتيه.
فلما انصرف عنهما قال الحسين لابن الزبير: إني أرى طاغيتهم قد هلك.
قال ابن الزبير: وأنا ما أظن غيره.
قال: ثم نهض حسين فأخذ معه مواليه وجاء باب الأمير، فاستأذن فأذن له، فدخل وحده، وأجلس مواليه على الباب.
وقال: إن سمعتم أمرا يريبكم فادخلوا، فسلم وجلس ومروان عنده، فناوله الوليد بن عتبة الكتاب ونعى إليه معاوية، فاسترجع وقال: رحم الله معاوية، وعظم لك الأجر، فدعاه الأمير إلى البيعة.
فقال له الحسين: إن مثلي لا يبايع سرا، وما أراك تجتزئ مني بهذا، ولكن إذا اجتمع الناس دعوتنا معهم فكان أمرا واحدا.
فقال له الوليد: - وكان يحب العافية - فانصرف على اسم الله حتى تأتينا في جماعة الناس.
فقال مروان للوليد: والله لئن فارقك ولم يبايع الساعة ليكثرن القتل بينكم وبينه، فاحبسه ولا تخرجه حتى يبايع وإلا ضربت عنقه، فنهض الحسين وقال: يا ابن الزرقاء أنت تقتلني؟ كذبت والله وأثمت، ثم انصرف إلى داره، فقال مروان للوليد: والله لا تراه بعدها أبدا.
فقال الوليد: والله يا مروان ما أحب أن لي الدنيا وما فيها وأني قتلت الحسين، سبحان الله! أقتل حسينا أن قال لا أبايع؟ والله إني لأظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة.
وبعث الوليد إلى عبد الله بن الزبير فامتنع عليه وماطله يوما وليلة، ثم إن ابن الزبير ركب في مواليه واستصحب معه أخاه جعفرا، وسار إلى مكة على طريق الفُرع، وبعث الوليد خلف ابن الزبير الرجال والفرسان فلم يقدروا على رده، وقد قال جعفر لأخيه عبد الله وهما سائران متمثلا بقول صبرة الحنظلي:
وكل بني أمٍ سيمسون ليلةً * ولم يبق من أعقابهم غير واحد
فقال: سبحان الله! ما أردت إلى هذا؟
فقال: والله ما أردت به شيئا يسوءك.
فقال: إن كان إنما جرى على لسانك فهو أكره إليّ، أن قالوا وتطير به.
وأما الحسين بن علي فإن الوليد تشاغل عنه بابن الزبير وجعل كلما بعث إليه يقول: حتى تنظر وننظر، ثم جمع أهله وبنيه.
وركب ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب من هذه السنة، بعد خروج ابن الزبير بليلة، ولم يتخلف عنه أحد من أهله سوى محمد بن الحنفية.
فإنه قال له: والله يا أخي لأنت أعز أهل الأرض عليّ، وإني ناصح لك لا تدخلن مصرا من هذه الأمصار، ولكن اسكن البوادي والرمال، وابعث إلى الناس، فإذا بايعوك واجتمعوا عليك فادخل المصر، وإن أبيت إلا سكنى المصر فاذهب إلى مكة، فإن رأيت ما تحب وإلا ترفعت إلى الرمال والجبال.
فقال له: جزاك الله خيرا فقد نصحت وأشفقت.
وسار الحسين إلى مكة فاجتمع هو وابن الزبير بها، وبعث الوليد إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد.
فقال: إذا بايع الناس بايعت.
فقال رجل: إنما تريد أن تختلف الناس ويقتتلون حتى يتفانوا، فإذا لم يبق غيرك بايعوك؟
فقال ابن عمر: لا أحب شيئا مما قلت، ولكن إذا بايع الناس، فلم يبق غيري بايعت، وكانوا لا يتخوّفونه.
وقال الواقدي: لم يكن ابن عمر بالمدينة حين قدم نعي معاوية، وإنما كان هو وابن عباس بمكة فلقيهما وهما مقبلان منها الحسين وابن الزبير، فقال: ما وراءكما؟
قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد بن معاوية.
فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا بين جماعة المسلمين، وقدم ابن عمر وابن عباس إلى المدينة، فلما جاءت البيعة من الأمصار بايع ابن عمر مع الناس.
وأما الحسين وابن الزبير فإنهما قدما مكة فوجدا بها عمرو بن سعيد بن العاص فخافاه وقالا: إنا جئنا عواذا بهذا البيت.
وفى هذه السنة في رمضان منها: عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن إمرة المدينة لتفريطه، وأضافها إلى عمرو بن سعيد بن العاص نائب مكة، فقدم المدينة في رمضان.
وقيل: في ذي القعدة، وكان متآلها متكبرا، وسلط عمرو بن الزبير - وكان عدوا لأخيه عبد الله - على حربه وجرده له، وجعل عمرو بن سعيد يبعث البعوث إلى مكة لحرب ابن الزبير.
وقد ثبت في الصحيحين: أن أبا شريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إيذن لي أيها الأمير أن أحدثك حديثا قام به رسول الله ﷺ الغد من يوم الفتح.
سمعته أذناي ووعاه قلبي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه وقال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، وأنه لم يحل القتال فيها لأحد كان قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم قد صارت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب».
وفي رواية: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم».
فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟
فقال: قال لي نحن أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة.
قال الواقدي: ولىّ عمرو بن سعيد شرطة المدينة عمرو بن الزبير فتتبع أصحاب أخيه ومن يهوى هواه، فضربهم ضربا شديدا حتى ضرب من جملة من ضرب أخاه المنذر بن الزبير، وأنه لا بد أن يأخذ أخاه عبد الله في جامعة من فضة حتى يقدم به على الخليفة.
فضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم، ضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين جلدة.
وفرَّ منه عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس من مكة، ثم جاء العزم من يزيد إلى عمرو بن سعيد في تطلب ابن الزبير، وأنه لا يقبل منه وإن بايع حتى يؤتى به إليّ في جامعة من ذهب أو من فضة تحت برنسه، فلا ترى إلا أنه يسمع صوتها.
وكان ابن الزبير قد منع الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة، وكان نائب عمرو بن سعيد عليها فحينئذ صمم عمرو على تجهيز سرية إلى مكة بسبب ابن الزبير، فاستشار عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير: من يصلح أن نبعثه إلى مكة لأجل قتاله؟.
فقال له عمرو بن الزبير: إنك لا تبعث إليه من هو أنكى له مني.
فعينه على تلك السرية وجعل على مقدمته أُنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة مقاتل.
وقال الواقدي: إنما عينهما يزيد بن معاوية نفسه، وبعث بذلك إلى عمرو بن سعيد، فعسكر أنيس بالجرف وأشار مروان بن الحكم على عمرو بن سعيد أن لا يغزو مكة، وأن يترك ابن الزبير بها، فإنه عما قليل إن لم يقتل يمت.
فقال أخوه عمرو بن الزبير: والله لنغزونه ولو في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم.
فقال مروان: والله إن ذلك ليسرني.
فسار أنيس واتبعه عمرو بن الزبير في بقية الجيش - وكانوا ألفين - حتى نزل بالأبطح.
وقيل: بداره عند الصفا، ونزل أنيس بذي طوى، فكان عمرو بن الزبير يصلي بالناس، ويصلي وراءه أخوه عبد الله بن الزبير.
وأرسل عمرو إلى أخيه يقول له: برّ يمين الخليفة، وأتهِ وفي عنقك جامعة من ذهب أو فضة، ولا تدع الناس يضرب بعضهم بعضا، واتق الله فإنك في بلد حرام.
فأرسل عبد الله يقول لأخيه: موعدك المسجد.
وبعث عبد الله بن الزبير عبد الله بن صفوان بن أمية في سرية فاقتتلوا مع عمرو بن أنيس الأسلمي، فهزموا أنيسا هزيمة قبيحة، وتفرق عن عمرو بن الزبير أصحابه، وهرب عمرو إلى دار ابن علقمة.
فأجاره أخوه عبيدة بن الزبير، فلامه أخوه عبد الله بن الزبير وقال: تجير من في عنقه حقوق الناس؟
ثم ضربه بكل من ضربه بالمدينة إلا المنذر بن الزبير وابنه فإنهما أبيا أن يستقيدا من عمرو، وسجنه ومعه عارم، فسمي سجن عارم.
وقد قيل: إن عمرو بن الزبير مات تحت السياط والله أعلم.
قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله
ولنبدأ قبل ذلك بشيء من ترجمته ثم نتبع الجميع بذكر مناقبه وفضائله.
هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبو عبد الله، القرشي الهاشمي، السبط الشهيد بكربلاء ابن بنت رسول الله ﷺ فاطمة الزهراء، وريحانته من الدنيا.
ولد بعد أخيه الحسن، وكان مولد الحسن في سنة ثلاث من الهجرة.
وقال بعضهم: إنما كان بينهما طهر واحد ومدة الحمل، وولد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع.
وقال قتادة: ولد الحسين لست سنين وخمسة أشهر ونصف من التاريخ.
وقتل يوم الجمعة، يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين، وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف رضي الله عنه.
وروي عن النبي ﷺ أنه حنكه وتفل في فيه ودعا له وسماه حسينا، وقد كان سماه أبوه قبل ذلك حربا.
وقيل: جعفرا.
وقيل: إنما سماه يوم سابعه وعق عنه.
وقال جماعة: عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه برسول الله ﷺ ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه به ما بين أسفل من ذلك.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الحزامي.
قال: كان وجه الحسن يشبه وجه رسول الله ﷺ، وكان جسد الحسين يشبه جسد رسول الله ﷺ.
وروى محمد بن سيرين، وأخته حفصة، عن أنس.
قال: كنت عند ابن زياد فجيء برأس الحسين، فجعل يقول بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حسنا.
فقلت له: إنه كان من أشبههم برسول الله ﷺ.
وقال سفيان: قلت لعبيد الله بن أبي زياد: رأيت الحسين؟
قال: نعم، أسود الرأس واللحية، إلا شعرات ههنا في مقدم لحيته، فلا أدري أخضب وترك ذلك المكان تشبها برسول الله ﷺ، أولم يكن شاب منه غير ذلك؟.
وقال ابن جريج: سمعت عمر بن عطاء قال: رأيت الحسين بن علي يصبغ بالوشمة، أما هو فكان ابن ستين سنة، وكان رأسه ولحيته شديدي السواد.
فأما الحديث الذي روي من طريقين ضعيفين أن فاطمة سألت رسول الله ﷺ في مرض الموت أن يَنْحَل ولديها شيئا فقال: «أما الحسن فله هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فله جُرأتي وجودي» فليس بصحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب المعتبرة.
وقد أدرك الحسين من حياة النبي ﷺ خمس سنين أو نحوها، وروى عنه أحاديث.
وقال مسلم بن الحجاج: له رؤية من النبي ﷺ.
وقد روى صالح بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أنه قال في الحسن بن علي: إنه تابعي ثقة، وهذا غريب فلأن يقول في الحسين إنه تابعي بطريق الأولى.
وسنذكر ما كان رسول الله ﷺ يكرمهما به، وما كان يظهر من محبتهما والحنو عليهما.
والمقصود: أن الحسين عاصر رسول الله ﷺ وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راضٍ، ولكنه كان صغيرا.
ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها، في الجمل وصفين، وكان معظما موقرا، ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل.
فلما آلت الخلافة إلى أخيه وأراد أن يصالح شق ذلك عليه ولم يسدد رأي أخيه في ذلك، بل حثّه على قتل أهل الشام.
فقال له أخوه: والله لقد هممت أن أسجنك في بيتٍ وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك.
فلما رأى الحسين ذلك سكت وسلم، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكراما زائدا، ويقول لهما: مرحبا وأهلا، ويعطيهما عطاء جزيلا.
وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال: خذاها وأنا ابن هند، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا بعدي.
فقال الحسين: والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلا أفضل منا.
ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه، وقد كان في الجيش الذين غزوا القسطنطينية مع ابن معاوية يزيد، في سنة إحدى وخمسين.
ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية كان الحسين ممن امتنع من مبايعته، هو وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عمر، وابن عباس، ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك.
فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها، فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد.
وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين، لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه.
غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه، ولكن أظفره الله بهم كما تقدم آنفا، فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين.
وضرب أخاه عمرا وسجنه واقتص منه وأهانه، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز، واشتهر أمره وبُعد صيته، ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين.
بل الناس إنما ميلهم إلى الحسين لأنه السيد الكبير، وابن بنت رسول الله ﷺ، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساميه ولا يساويه، ولكن الدولة اليزيدية كانت كلها تناوئه.
وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يدعونه إليهم - وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد - فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمذاني، وعبد الله بن والٍ معمها كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية.
فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة، ثم بعثوا بعدهما نفرا منهم: قيس بن مسهر الضدائي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكوا الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين.
ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم، وكتب إليه شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث و يزيد بن رويم، وعمرو بن حجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي:
أما بعد: فقد أخضرت الجنان، وأينعت الثمار، ولطمت الجمام، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجندة والسلام عليك.
فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية، وينالون منه ويتكلمون في دولته، وأنهم لم يبايعوا أحدا إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم.
فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما، بعث إليه ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه.
وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلين فسارا به على براري مهجورة المسالك.
فكان أحد الدليلين منهما أول هالك، وذلك من شدة العطش، وقد أضلوا الطريق فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له: المضيق، من بطن خبيت، فتطير به مسلم بن عقيل، فتلبث مسلم على ما هنالك ومات الدليل الآخر.
فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق، وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم.
فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له: مسلم بن عوسجة الأسدي.
وقيل: نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي فالله أعلم.
فتسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا.
فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور، فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره.
وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير خّبره رجل بذلك، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به، ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسنة.
وقال: إني لا أقاتل من لا يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليّ، ولا آخذكم بالظنة، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته.
فقام إليه رجل يقال له: عبد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي.
فقال له: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشمة، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين.
فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأقوياء الأعزين في معصية الله.
ثم نزل فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة، وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، فبعث يزيد فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية، وكان يزيد يستشيره.
فقال سرجون: أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا؟
قال: نعم!
قال: فاقبل مني فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، فوله إياها.
وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره.
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمت الكوفة فاطلب مسلم بن عقيل، فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه، وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة.
فلما دخلها متلثما بعمامة سوداء، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال: سلام عليكم.
فيقولون: وعليكم السلام مرحبا بابن رسول الله - يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه - وتكاثر الناس عليه، ودخلها في سبعة عشر راكبا.
فقال لهم مسلم بن عمرو: من جهة يزيد، تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد، فتحقق عبيد الله الخبر، ونزل قصر الإمارة من الكوفة.
فلما استقر أمره أرسل مولى أبي رهم - وقيل: كان مولى له يقال له: معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص، وأنه إنما جاء لهذه البيعة، فذهب ذلك المولى فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بها مسلم بن عقيل حتى دخلها، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى.
فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم، فدفع المال إلى أبي ثمامة العامري بأمر مسلم بن عقيل - وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح - وكان من فرسان العرب، فرجع ذلك المولى وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها.
وقد تحول مسلم بن عقيل إلى دار هانئ بن حميد بن عروة المرادي، ثم إلى دار شريك بن الأعور، وكان من الأمراء الأكابر، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته.
فبعث إلى هانئ يقول له: ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني.
فبعثه إليه فقال له شريك: كن أنت في الخباء، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء وهي إشارتي إليك، فاخرج فاقتله.
فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة، وقام من بين يديه غلام يقال له مهران، فتحدث عنده ساعة.
ثم قال شريك: اسقوني، فتجبن مسلم عن قتله، وخرجت جارية بكوز من ماء، فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثا.
ثم قال: اسقوني، ولو كان فيه ذهاب نفسي أتحمونني من الماء؟
ففهم مهران الغدر، فغمز مولاه فنهض سريعا وخرج.
فقال شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك.
فقال: سأعود!
فخرج به مولاه فأركبه وطرد به - أي ساق به - وجعل يقول له مولاه: إن القوم أرادوا قتلك.
فقال: ويحك إني بهم لرفيق، فما بالهم؟
وقال شريك لمسلم: ما منعك أن تخرج فتقتله؟
قال: حديث بلغني عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الإيمان ضد الفتك، لا يفتك مؤمن»، وكرهت أن أقتله في بيتك.
فقال: أَما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد وليكفينك أمر البصرة، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا، ومات شريك بعد ثلاث.
ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم، فأغلق باب القصر وقال: ما أنا بمسلم إليك أمانتي.
فقال له عبيد الله: افتح لأفتحنه، ففتح وهو يظنه الحسين، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة وأمر مناديا فنادى: إن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فإن أمير المؤمنين قد ولاني أمركم وثغركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده.
ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الزورية وأهل الريب والخلاف والشقاق، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب أو نفي، وأسقطت عرافته من الديوان - وكان هانئ أحد الأمراء الكبار - ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض، فذكره عبيد الله وقال: ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء؟
فقالوا: أيها الأمير إنه يشتكي.
فقال: إنه بلغني أنه يجلس على باب داره.
وزعم بعضهم: أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده، وقد هموا بقتله فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره.
فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد، فالتفت عبيد الله إلى القاضي فقال متمثلا بقول الشاعر:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
فلما سلم هانئ على عبيد الله قال: يا هانئ أين مسلم بن عقيل؟
قال: لا أدري.
فقام ذلك المولى التميمي الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص فبايع في داره، ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلى مسلم.
فقال: أتعرف هذا؟
قال: نعم!
فلما رآه هانئ قطع وأسقط في يده.
فقال: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه عليَّ.
فقال عبيد الله: فأتني به.
فقال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه.
فقال: أدنوه مني، فأدنوه فضربه بحربة على وجهه فشجه على حاجبه وكسر أنفه، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله فدفع عن ذلك.
وقال عبيد الله: قد أحل الله لي دمك، لأنك حروري، ثم أمر به فحبسه في جانب الدار، وجاء قومه من بني مذحج مع عمرو بن الحجاج فوقفوا على باب القصر يظنون أنه قد قتل.
فسمع عبيد الله لهم جلبة، فقال لشريح القاضي وهو عنده: أخرج إليهم فقل لهم إن الأمير لم يحبسه إلا ليسأله عن مسلم بن عقيل.
فقال لهم: إن صاحبكم حي، وقد ضربه سلطاننا ضربا لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم.
فتفرقوا إلى منازلهم، وسمع مسلم بن عقيل الخبر فركب ونادى بشعاره: يا منصور أمت.
فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عبيد، ومعه راية خضراء، عبد الله بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتبهم ميمنة وميسرة وسار هو في القلب إلى عبيد الله، وهو يخطب الناس في أمر هانئ ويحذرهم من الاختلاف، وأشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره.
فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون: جاء مسلم بن عقيل، فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه وأغلقوا عليهم الباب.
فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم.
وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك.
ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟
فتخاذل الناس وقصّروا وتصرّموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل، حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس.
ثم تقالّوا حتى بقي في ثلاثمائة، ثم تقالّوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة.
ثم انصرفوا عنه فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤانسه بنفسه، ولا من يأويه إلى منزله، فذهب على وجهه واختلط الظلام وهو وحده يتردد في الطريق لا يدري أين يذهب.
فأتى بابا فنزل عنده وطرقه، فخرجت منه امرأة يقال لها: طوعة، كانت أم ولد للأشعث بن قيس، وقد كان لها ابن من غيره يقال له: بلال بن أسيد، خرج مع الناس وأمه قائمة بالباب تنتظره.
فقال لها مسلم بن عقيل: اسقني ماء فسقته، ثم دخلت وخرجت فوجدته.
فقالت: ألم تشرب؟
قال: بلى!
قالت: فاذهب إلى أهلك عافاك الله، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أجمله لك.
فقام فقال: يا أمة الله ليس لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة، فهل إلى أجر ومعروف وفعل نكافئك به بعد اليوم؟
فقالت: يا عبد الله وما هو؟
قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغرّوني.
فقالت: أنت مسلم؟
قال: نعم!
قالت: ادخل! فأدخلته بيتا من دارها غير البيت الذي يكون فيه وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، فلم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول والخروج، فسألها عن شأنها.
فقالت: يا بني اله عن هذا، فألح عليها فأخذت عليه أن لا يحدث أحدا، فأخبرته خبر مسلم، فاضطجع إلى الصباح ساكتا لا يتكلم.
وأما عبيد الله بن زياد فإنه نزل من القصر بمن معه من الأمراء والأشراف بعد العشاء الآخرة، فصلى بهم العشاء في المسجد الجامع.
ثم خطبهم وطلب منهم مسلم بن عقيل وحث على طلبه، ومن وجد عنده ولم يعلم به فدمه هدر، ومن جاء به فله ديته، وطلب الشرط وحثهم على ذلك وتهددهم.
فلما أصبح ابن تلك العجوز ذهب إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأعلمه بأن مسلم بن عقيل في دارهم، فجاء عبد الرحمن فسارّ أباه بذلك وهو عند ابن زياد.
فقال ابن زياد: ما الذي سارّك به؟
فأخبره الخبر فنخس بقضيب في جنبه وقال: قم فأتني به الساعة.
وبعث ابن زياد عمر بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطته - ومعه عبد الرحمن، ومحمد بن الأشعث في سبعين أو ثمانين فارسا، فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط بالدار التي هو فيها.
فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات، وأصيبت شفته العليا والسفلى.
ثم جعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطناب القصب فضاق بهم ذرعا، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم.
فأعطاه عبد الرحمن الأمان فأمكنه من يده، وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه، فلم يبق يملك من نفسه شيئا.
فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول، فيئس من نفسه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال بعض من حوله: إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به هذا.
فقال: أما والله لست أبكي على نفسي، ولكن أبكي على الحسين، وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة، ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال: إن استطعت أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل.
فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدق الرسول في ذلك، وقال: كل ما حم الإله واقع.
قالوا: ولما انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر، إذا على بابه جماعة من الأمراء من أبناء الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يؤذن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضب بالدماء في وجهه وثيابه، وهو مثخن بالجراح، وهو في غاية العطش، وإذا قلة من ماء بارد هنالك فأراد أن يتناولها ليشرب منها.
فقال له رجل من أولئك: والله لا تشرب منها حتى تشرب من الحميم.
فقال له: ويلك يا ابن ناهلة، أنت أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم مني.
ثم جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكلال والعطش، فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط مولى له إلى داره فجاء بقلة عليها منديل، ومعه قدح.
فجعل يفرغ له في القدح ويعطيه فيشرب فلا يستطيع أن يسيغه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرتين أو ثلاثا، فلما شرب سقطت ثناياه مع الماء.
فقال: الحمد لله لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماء.
ثم أدخل على ابن زياد، فلما وقف بين يديه لم يسلم عليه.
فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟!
فقال: لا! إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه، وإن لم يرد قتلي فسأسلم عليه كثيرا.
فأقبل ابن زياد عليه فقال: إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم على قتل بعض؟
قال: كلا لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.
قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لم لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟.
فقال: أنا أشرب الخمر؟! والله إن الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأنت أحق بذلك مني، فإني لست كما ذكرت، وإن أولى بها مني من يلغ في دماء المسلمين ولغا، ويقتل النفس التي حرم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا.
فقال له ابن زياد: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونك ودونه، ولم يرك أهله.
قال: فمن أهله يا ابن زياد؟
قال: أمير المؤمنين يزيد.
قال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم.
قال: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا؟
قال: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين.
قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس.
قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة المكتسبة عن كتابكم وجهالكم.
وأقبل ابن زياد يشتمه، ويشتم حسينا وعليا، ومسلم ساكت لا يكلمه.
رواه ابن جرير، عن أبي مخنف وغيره من رواة الشيعة.
ثم قال له ابن زياد: إني قاتلك.
قال: كذلك؟
قال: نعم.
قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي.
قال: أوص.
فنظر في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص.
فقال: يا عمر إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك. فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد.
فقام فتنحى قريبا من ابن زياد، فقال له مسلم: إنّ عليّ دينا في الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا.
فقام عمر فعرض على ابن زياد ما قال له، فأجاز ذلك له كله.
وقال: أما الحسين فإنه لم يردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه.
ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل فأصعد إلى أعلا القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا.
ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران، ثم ألقي رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.
ثم أمر بهانئ بن عروة المذحجي فضربت عنقه بسوق الغنم، وصُلب بمكان من الكوفة يقال له: الكناسة.
فقال رجل شاعر في ذلك قصيدة:
فان كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا * أحاديث من يغشى بكل سبيل
إلى بطلٍ قد هشم السيف وجهه * وآخر يهوي في طمار قتيل
ترى جسدا قد غير الموت لونه * ونضح دمٍ قد سال كلّ مسيل
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم * فكونوا بغيا أرضيت بقليل
ثم إن ابن زياد قتل معهما أناسا آخرين، ثم بعث برؤوسهما إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، وكتب له كتابا صورة ما وقع من أمرهما.
وقد كان عبيد الله قبل أن يخرج من البصرة بيوم خطب أهلها خطبة بليغة، ووعظهم فيها وحذرهم، وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرق.
وذلك لما رواه هشام بن الكلبي وأبو مخنف، عن الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهدي.
قال: بعث الحسين مع مولى له يقال له: سلمان كتابا إلى أشراف أهل البصرة فيه:
أما بعد:
فإن الله اصطفى محمدا على خلقه وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به، وكنا أهله وأولياءه وورثته وأحق الناس به وبمقامه في الناس.
فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم.
وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحييت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله.
وعندي في صحة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنه مطرز بكلام مريد من بعض رواة الشيعة.
قال: فكل من قرأ ذلك من الأشراف كتمه إلا المنذر بن الجارود فإنه ظن أنه دسيسة من ابن زياد، فجاء به إليه، فبعث خلف الرسول الذي جاء به من حسين فضرب عنقه، وصعد عبيد الله بن زياد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فوالله ما بي تقرن الصعبة، وما يقعقع لي بالشنان، وإني لنكال لمن عاداني، وسهام لمن حاربني، أنصف القارة من رماها.
يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإياكم والخلاف والإرجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى.
حتى يستقيم لي الأمر، ولا يكن فيكم مخالف ولا مشاقق، أنا ابن زياد أشبهته من بين مَنْ وطئ الحصى، ولم يتنزعني شبه خالٍ ولا عمٍ.
ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي فكان من أمره ما تقدم.
قال أبو مخنف: عن الصقعب بن زهير، عن عون بن جحيفة قال: كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة، وقتل يوم الأربعاء لتسع مضين من ذي الحجة، وذلك يوم عرفة سنة ستين.
وكان ذلك بعد مخرج الحسين من مكة قاصدا أرض العراق بيوم واحد، وكان خروج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة بقية شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة.
وخرج من مكة لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية.
وفي رواية ذكرها ابن جرير: أن مسلم بن عقيل لما بكى قال له عبيد الله بن عباس السلمي: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذ أنزل به مثل الذي نزل بك.
قال: إني والله ما لنفسي أبكي، ومالها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكنني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي الحسين وآل حسين.
ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله! إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلا على لساني يبلغ حسينا عني رسالة؟
فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غدا هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول له: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل.
وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي.
فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك.
قال أبو مخنف: فدعا محمد بن الأشعث إياس بن العباس الطائي من بني مالك بن ثمامة - وكان شاعرا - فقال له: اذهب فالق حسينا فأبلغه هذا الكتاب - وكتب فيه الذي أمره به ابن عقيل - ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره.
فخرج حتى لقي الحسين بزبالة، لأربع ليال من الكوفة فأخبره الخبر وأبلغه الرسالة.
فقال الحسين: كل ما حم نازل، عند الله نحتسب وأنفسنا وفساد أئمتنا.
ولما انتهى مسلم إلى باب القصر وأراد شرب الماء قال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها؟ والله لا تذوقها أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم.
فقال ابن عقيل: ويحك من أنت؟
قال: أنا من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.
فقال له مسلم: لأمك الويل! ما أجفاك وأفظّك، وأغلظك يا ابن ناهلة!! أنت والله أولى بالحميم ونار الجحيم.
صفة مخرج الحسين إلى العراق
لما تواترت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق وتكررت الرسل بينهم وبينه، وجاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، ثم وقع في غبون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عقيل، والحسين لا يعلم بشيء من ذلك.
بل قد عزم على المسير إليهم، والقدوم عليهم، فاتفق خروجه من مكة أيام التروية قبل مقتل مسلم بيوم واحد - فإن مسلما قتل يوم عرفة - ولما استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك، وحذروه منه، وأشار عليه ذوو الرأي منهم والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق، وأمروه بالمقام بمكة، وذكره ما جرى لأبيه وأخيه معهم.
قال سفيان بن عيينة: عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس، عن ابن عباس.
قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج.
فقلت: لولا أن يزري بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب.
فكان الذي ردّ عليّ أن قال: لأن أقتل في مكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أقتل بمكة.
قال: فكان هذا الذي سلَّى نفسي عنه.
وروى أبو مخنف: عن الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان: أن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عباس فقال: يا ابن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟
فقال: إني قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين إن شاء الله تعالى.
فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان قد دعوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك.
فقال الحسين: إني أستخير الله وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عباس عنه، ودخل ابن الزبير فقال له: ما أدري ما تركنا لهؤلاء القوم ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم، أخبرني ما تريد أن تصنع؟.
فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتي بها وأشرافها بالقدوم عليهم، وأستخير الله.
فقال ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت عنها.
فلما خرج من عنده، قال الحسين: قد علم ابن الزبير أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوا بي غيري، فود أني خرجت لتخلو له.
فلما كان من العشي أو من الغد، جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له: يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونا وشعابا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب.
فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير.
فقال له: فإن كنت ولا بد سائرا فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
ثم قال ابن عباس: أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه بالحجاز، فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليّ وعليك الناس أطعتني وأقمت لفعلت ذلك.
قال: ثم خرج من عنده فلقي ابن الزبير فقال: قرت عينك يا ابن الزبير؟ ثم قال:
يالك من قنبرةٍ بمعمرٍ * خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري * صيادك اليوم قتيل فابشري
ثم قال ابن عباس: هذا حسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز.
وقال غير واحد: عن شبابة بن سوار.
قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي.
قال: سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر: أنه كان بمكة فبلغه أن الحسين بن علي قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليالٍ، فقال: أين تريد؟
قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم.
فقال: لا تأتهم؛ فأبى.
فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا، إن جبريل أتى النبي ﷺ فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله ﷺ؛ والله ما يليها أحد منكم أبدا؛ وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع.
قال: فاعتنقه ابن عمر وبكى قال: أستودعك الله من قتيل.
وقال يحيى بن معين: حدثنا أبو عبيدة، ثنا سليم بن حيان، عن سعيد بن مينا.
قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: عجل حسين قدره، والله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني، ببني هاشم فتح هذا الأمر، وببني هاشم يختم، فإذا رأيت الهاشمي قد ملك فقد ذهب الزمان.
قلت: وهذا مع حديث ابن عمر يدل على أن الفاطميين أدعياء كذبة، لم يكونوا من سلالة فاطمة كما نص عليه غير واحد من الأئمة على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، ثنا أبو سفيان، ثنا عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب.
قال: قال ابن الزبير للحسين: أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟
فقال: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن تستحل بي - يعني: مكة -.
وقال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله أخبرني من سمع هشام بن يوسف يقول عن معمر قال: سمعت رجلا يحدّث عن الحسين أنه قال لعبد الله بن الزبير: أتتني بيعة أربعين ألفا يحلفون بالطلاق والعتاق إنهم معي.
فقال له ابن الزبير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟
قال هشام: فسألت معمرا عن الرجل فقال: هو ثقة.
قال الزبير: وقال عمي: وزعم بعض الناس أن ابن عباس هو الذي قال هذا.
وقد ساق محمد بن سعد كاتب الواقدي هذا سياقا حسنا مبسوطا.
فقال: أنبأنا علي بن محمد، عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المهاجر، عن أبيه، وعن لوط يحيى العامري، عن محمد بن بشير الهمداني وغيره، وعن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، عن هارون بن عيسى، عن يونس بن إسحاق، عن أبيه، وعن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي.
قال محمد بن سعد: وغير هؤلاء قد حدثني أيضا في هذا الحديث بطائفة فكتبت جوامع حديثهم في مقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
قالوا: لما بايع الناس معاوية ليزيد كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفية يطلبون إليه أن يخرج معهم فأبى، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم.
فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا، فأقام حسين على ما هو عليه من الهموم، مرة يريد أن يسير إليهم، ومرة يجمع الإقامة عنهم.
فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد الله! إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم، وملوني وأبغضوني، وما يكون منهم وفاء قط، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله ما لهم نيات ولا عزم على أمر، ولا صبر على السيف.
قال: وقدم المسيب بن عتبة الفزاري في عدة معه إلى الحسين بعد وفاة الحسن، فدعوه إلى خلع معاوية وقالوا: قد علمنا رأيك ورأي أخيك.
فقال: إني لأرجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه الكف، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين.
وكتب مروان إلى معاوية: إني لست آمن أن يكون حسين مرصدا للفتنة، وأظن يومكم من حسين طويلا.
فكتب معاوية إلى الحسين: إن من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء، وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتق الله واذكر الميثاق، فإنك متى تكدني أكدك.
فكتب إليه الحسين: أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير، والحسنات لا يهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافا، وما أظن لي عند الله عذرا في ترك جهادك، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة.
فقال معاوية: إن أثرنا بأبي عبد الله إلا شرا.
وكتب إليه معاوية أيضا في بعض ما بلغه عنه: إني لأظن أن في رأسك نزوة، فوددت أني أدركها فأغفرها لك.
قالوا: فلما احتضر معاوية دعا يزيد فأوصاه بما أوصاه به، فقال له: انظر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله، فإنه أحب الناس إلى الناس، فصِلْ رحمه، وارفق به، يصلح لك أمره، فإن يكن منه شيء فإني أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه.
وتوفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستين، وبايع الناس يزيد، فكتب يزيد مع عبد الله بن عمرو بن أويس العامري عامر بن لؤي، إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة: أن ادع الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أول من تبدأ به الحسين بن علي، فإن أمير المؤمنين عهد إليّ في أمره الرفق به واستصلاحه.
فبعث الوليد من ساعته نصف الليل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير فأخبرهما بوفاة معاوية، ودعاهما إلى البيعة ليزيد بن معاوية.
فقالا: إلى أن نصبح وننظر ما يصنع الناس، ووثب الحسين فخرج وخرج معه ابن الزبير وقالا: هو يزيد الذي نعرف، والله ما حدث له عزم ولا مروءة.
وقد كان الوليد أغلظ للحسين فشتمه الحسين وأخذ عمامته فنزعها من رأسه.
فقال الوليد: إن هجنا بأبي عبد الله إلا شرا.
فقال له مروان - أو بعض جلسائه - اقتله.
فقال: إن ذلك لدم مضنون به مصون في بني عبد مناف.
قالوا: وخرج الحسين وابن الزبير من ليلتهما إلى مكة، وأصبح الناس فغدوا على البيعة ليزيد، وطلب الحسين وابن الزبير فلم يوجدا.
فقال المسور بن مخرمة: عجل الحسين وابن الزبير يلفته ويرجيه ليخلو بمكة، فقدما مكة فنزل الحسين دار العباس، ولزم ابن الزبير الحجر، ولبس المعافري وجعل يحرض الناس على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين ويشير عليه أن يقدم العراق، ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك.
وكان ابن عباس ينهاه عن ذلك، وقال له عبد الله بن مطيع: إني فداؤك وأبي وأمي، فأمتعنا بنفسك ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذونا عبيدا وخولا.
قالوا: ولقيهما عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وابن أبي ربيعة بالأبواء، منصرفين من العمرة.
فقال لهما ابن عمر: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا فإن اجتمع الناس عليه فلم تشذا، وإن افترقوا عليه كان الذي تريدان.
وقال ابن عمر للحسين: لا تخرج فإن رسول الله ﷺ خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها - يعني: الدنيا - واعتنقه وبكى وودعه، فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، فرأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير.
وقال له ابن عباس: وأين تريد يا ابن فاطمة؟
فقال: العراق وشيعتي.
فقال: إني لكاره لوجهك هذا تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملالة لهم؟ أذكرك الله أن تغرر بنفسك.
وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك ولا تخرج على إمامك.
وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين بن علي فأدركته بملل، فناشدته الله أن لا يخرج فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما خرج يقتل نفسه.
فقال: لا أرجع.
وقال جابر بن عبد الله: كلمت حسينا فقلت: اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم، فعصاني.
وقال سعيد بن المسيب: لو أن حسينا لم يخرج لكان خيرا له.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: وقد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم، ولكن شجعه على ذلك ابن الزبير.
وكتب إليه المسور بن مخرمة: إياك أن تغتر بكتب أهل العراق وبقول ابن الزبير: الحق بهم فإنهم ناصروك.
وقال له ابن عباس: لا تبرح الحرم، فإنهم إن كانت بهم إليك حاجة فسيضربون إليك أباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة.
فجزاه خيرا وقال: أستخير الله في ذلك.
وكتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن تعظم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إن لم يفعل إنما يساق إلى مصرعه.
وتقول: أشهد لسمعت عائشة تقول: إنها سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يقتل الحسين بأرض بابل».
فلما قرأ كتابها قال: فلا بد لي إذا من مصرعي ومضى.
وأتاه بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: يا ابن عم قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فأذكرك الله في نفسك.
فقال: جزاك الله يا ابن عم خيرا، مهما يقضي الله من أمر يكن.
فقال أبو بكر: إنا لله وإنا إليه راجعون، نحتسب أباه عبد الله عند الله.
وكتب إليه عبد الله بن جعفر كتابا يحذره أهل العراق ويناشده الله إن شخص إليهم.
فكتب إليه الحسين: إني رأيت رؤيا، ورأيت رسول الله ﷺ أمرني بأمر وأنا ماضٍ له، ولست بمخبر بها أحدا حتى ألاقي عملي.
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص نائب الحرمين: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عما يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق، وإني أعيذك الله من الشقاق، فإنك إن كنت خائفا فأقبل إليّ، فلك عندي الأمان والبر والصلة.
فكتب إليه الحسين: إن كنت أردت بكتابك بري وصلتي فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة، وأنه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، وخير الأمان أمان الله، ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانا يوم القيامة عنده.
قالوا: وكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس يخبره بخروج الحسين إلى مكة، وأحسبه قد جاءه رجال من أهل المشرق فمنوه الخلافة، وعندك منهم خبر وتجربة، فإن كان قد فعل فقد قطع راسخ القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة.
وكتب لهذه الأبيات إليه وإلى من بمكة والمدينة من قريش:
يا أيها الراكب العادي مطيته * على غدافرةٍ في سيرها فحم
أبلغ قريشا على نأي المزار بها * بيني وبين حسين الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده * عهد الإله وما توفي به الذمم
عنيتم قومكم فخرا بأمكم * أم لعمري حصان برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحدٌ * بنت الرسول وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغيركم * من قومكم لهم في فضلها قسم
إني لأعلم أو ظنا كعالمه * والظن يصدق أحيانا فينتظم
أن سوف يترككم ما تدعون بها * قتلى تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ مسكت * ومسكوا بحبال السلم واعتصموا
قد جرب الحرب من قد كان قبلكم * من القرون وقد باذت بها الأمم
فانصفوا قومكم لا تهلكوا برحا * فرب ذي برحٍ زلت به القدم
قال: فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما تجتمع به الألفة وتطفي به الثائرة.
ودخل ابن عباس على الحسين فكلمه طويلا وقال له: أنشدك أن تهلك غدا بحال مضيعة لا تأتي العراق، وإن كنت لا بد فاعلا فأقم حتى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون، ثم ترى رأيك، وذلك في عشر ذي الحجة.
فأبى الحسين إلا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عباس: والله إني لأظنك ستقتل غدا بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان بين نسائه وبناته، والله إني لأخاف أن تكون أنت الذي يقاد به عثمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال له الحسين: أبا العباس إنك شيخ قد كبرت.
فقال له ابن عباس: لولا أن يزري ذلك بي وبك لنشبت يدي في رأسك، ولو أعلم أنا إذا تباصينا أقمت لفعلت، ولكن لا أخال ذلك مانعك.
فقال الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أقتل بمكة وتستحل بي.
قال: فبكى ابن عباس وقال: أقررت عين ابن الزبير بذلك، وذلك الذي سلى نفسي عنه.
قال: ثم خرج ابن عباس عنه وهو مغضب وابن الزبير على الباب، فلما رآه قال: يا ابن الزبير قد أتى ما أحببت، قرت عينك، هذا أبو عبد الله خارج ويتركك والحجاز، ثم قال:
يالكِ من قنبرةٍ بمعمر * خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري * صيادك اليوم قتيل فأبشري
قال: وبعث الحسين إلى المدينة يقدم عليه من خفّ من بني عبد المطلب، وهم تسعة عشر رجلا ونساء وصبيان من إخوته وبناته ونسائه، وتبعهم محمد بن الحنفية، فأدرك حسينا بمكة، فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا.
فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمد بن الحنفية ولده فلم يبعث أحدا منهم حتى وجد الحسين في نفسه على محمد، وقال: ترغب بولدك عن موضع أُصاب فيه؟
فقال: وما حاجتي إلى أن تصاب ويصابون معك؟
وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم؟
قالوا: وبعث أهل العراق إلى الحسين الرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج متوجها إليهم في أهل بيته وستين شخصا من أهل الكوفة صحبته، وذلك يوم الاثنين في عشر ذي الحجة.
فكتب مروان إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله ﷺ، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، فإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء، ولا تنساه العامة، ولا تدع ذكره آخر الدهر، والسلام.
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص: أما بعد فقد توجه إليك الحسين، وفي مثلها تعتق أو تكون عبدا تسترق كما يسترق العبيد.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه.
قال: كتب يزيد إلى ابن زياد: إنه قد بلغني أن حسينا قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت أنت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبدا كما ترق العبيد وتعبّد، فقتله ابن زياد وبعث برأسه إليه.
قلت: والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام كما سيأتي.
وفي رواية: أن يزيد كتب إلى ابن زياد: قد بلغني أن الحسين قد توجه إلى نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس واحبس على الظنة وخذ على التهمة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إليّ في كل ما يحدث من خبر والسلام.
قال الزبير بن بكار: وحدثني محمد بن الضحاك قال: لما أراد الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة مر بباب المسجد الحرام وقال:
لا ذعرت السوام في فلق الصبح * مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما * والمنايا ترصدنني أن أحيدا
وقال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي خيثمة: عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم، والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا: خرجنا حاجين من الكوفة فقدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فإذا نحن بالحسين وابن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر فوازرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك؟
فقال الحسين: إن أبي حدثني أن لها كبشا يستحل حرمتها يقتل، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش.
فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وولني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى.
فقال: وما أريد هذا أيضا.
ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دُعَاةَ الناس متوجهين إلى منى عند الظهيرة.
قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصَّر من شعره، وحل من عمرته، ثم توجه نحو الكوفة وتوجهنا نحن مع الناس إلى منى.
وقال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان.
قال: لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد - يعني: نائب مكة - عليهم أخوه يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف أين تريد؟
فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان وتضاربوا بالسياط والعصي، ثم إن حسينا وأصحابه امتنعوا منهم امتناعا قويا، ومضى الحسين على وجهه ذلك، فناداه: يا حسين ألا تتقي الله؟
تخرج من الجماعة وتفرق بين الأمة بعد اجتماع الكلمة؟
قال: فتأول الحسين هذه الآية: { لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [22].
قال: ثم إن الحسين مر بالتنعيم فلقي بها عيرا قد بعث بها بجير بن زياد الحميري نائب اليمن قد أرسلها من اليمن إلى يزيد بن معاوية، عليها ورس وحلل كثيرة، فأخذها الحسين وانطلق بها، واستأجر أصحاب الجمال عليها إلى الكوفة، ودفع إليهم أجرتهم.
ثم ساق أبو مخنف بإسناده الأول: أن الفرزدق لقي الحسين في الطريق فسلم عليه وقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب.
فسأله الحسين عن أمر الناس وما وراءه فقال له: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.
فقال له: صدقت، لله الأمر من قبل ومن بعد، يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحق نيته، والتقوى سريرته، ثم حرك الحسين راحلته وقال: السلام عليكم ثم افترقا.
وقال هشام بن الكلبي: عن عوانة بن الحكم، عن ليطة بن غالب بن الفرزدق، عن أبيه.
قال: حججت بأمي فبينما أنا أسوق بها بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج، وذلك في سنة ستين، إذ لقيت الحسين خارجا من مكة معه أسيافه وأتراسه، فقلت له: بأبي وأمي يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحج؟
فقال: لو لم أعجل لأخِذتُ، ثم سألني ممن أنت؟
فقلت: امرؤ من العراق، فسألني عن الناس فقلت له: القلوب معك والسيوف مع بني أمية، وذكر نحو ما تقدم.
قال الفرزدق: وسألت الحسين عن أشياء وعن المناسك فأخبرني بها، قال: وإذا هو ثقيل اللسان من برسام كان أصابه بمن بالعراق.
قال: ثم مضيت فإذا فسطاط مضروب في الحرم وهيئة حسنه، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني فأخبرته أني لقيت الحسين، قال: فهلا أتبعته؟ فإن الحسين لا يحيك فيه السلاح ولا يجوز فيه وفي أصحابه.
فندم الفرزدق وهمَّ أن يلحق به، ووقع في قلبه مقالة ابن عمرو، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم فصدني ذلك عن اللحاق به.
فلما بلغه أنه قتل لعن ابن عمرو، وكان ابن عمرو يقول: والله لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يبلغ هذا الأمر ويظهر، وإنما أراد ابن عمرو بقوله: لا يحيك فيه السلاح، أي: السلاح الذي لم يقدر أن يقتل به.
وقيل: غير ذلك.
وقيل: أراد الهزل بالفرزدق.
قالوا: ثم سار الحسين لا يلوي على شيء حتى نزل ذات عرق.
قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن على بن الحسين بن علي.
قال: لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر إلى الحسين مع ابنه عون ومحمد:
أما بعد:
فإني أسائلك بالله لما انصرفت حتى تنظر في كتابي هذا، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفئ نور الإسلام، فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في أثر كتابي والسلام.
ثم نهض عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد نائب مكة، فقال له: اكتب إلى الحسين كتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه في البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع.
فقال له عمرو: اكتب عني ما شئت وأتني به حتى أختمه.
فكتب ابن جعفر على لسان عمرو بن سعيد ما أراد عبد الله، ثم جاء بالكتاب إلى عمرو فختمه بخاتمة، وقال عبد الله لعمرو بن سعيد: ابعث معي أمانك، فبعث معه أخاه يحيى، فانصرفا حتى لحقا الحسين فقرآ عليه الكتاب فأبى أن يرجع وقال: إني رأيت رسول الله ﷺ في المنام وقد أمرني فيها بأمر وأنا ماضٍ له.
فقالا: وما تلك الرؤيا؟
فقال: لا أحدث بها أحدا حتى ألقى ربي عز وجل.
قال أبو مخنف: وحدثني محمد بن قيس: أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن ذي الرمة، بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر.
وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال: وكان كتاب مسلم قد وصل إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، ومضمونه:
أما بعد:
فإن الرائد لا يكذب أهله، وإن جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي هذا والسلام عليكم.
قال: وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي بكتاب الحسين إلى الكوفة، حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد فقال له ابن زياد: اصعد إلى أعلا القصر فسب الكذاب ابن الكذاب علي بن أبي طالب وابنه الحسين.
فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله ﷺ وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر من بطن ذي الرمة، فأجيبوه واسمعوا له وأطيعوا.
ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي والحسين.
فأمر به ابن زياد فأُلقي من رأس القصر فتقطع، ويقال: بل تكسرت عظامه وبقي فيه بقية رمق، فقام إليه عبد الملك بن عمير البجلي فذبحه.
وقال: إنما أردت إراحته من الألم.
وقيل: إنه رجل يشبه عبد الملك بن عمير وليس به، وفي رواية: أن الذي قدم بكتاب الحسين إنما هو عبد الله بن بقطر أخو الحسين من الرضاعة، فأُلقي من أعلى القصر، والله أعلم.
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء مما وقع من الأخبار.
قال أبو مخنف: عن أبي علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المزني.
قال: وكان الحسين لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه.
قال: قال أبو مخنف: عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم، والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا: لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين، فأدركناه وقد مر برجل من بني أسد فهمّ الحسين أن يكلمه ويسأله ثم ترك، فجئنا ذلك الرجل فسألناه عن أخبار الناس فقال: والله لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق.
قالا: فلحقنا الحسين فأخبرناه، فجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون مرارا.
فقلنا له: الله الله في نفسك.
فقال: لا خير في العيش بعدهما.
قلنا: خار الله لك.
وقال له بعض أصحابه: والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قد قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.
وقال غيرهما: لما سمع أصحاب الحسين بمقتل مسلم بن عقيل، وثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب وقالوا: لا والله لا ترجع حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا.
فسار الحسين حتى إذا كان بزرود بلغه أيضا مقتل الذي بعثه بكتابه إلى أهل الكوفة بعد أن خرج من مكة ووصل إلى حاجر، فقال: خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه، وليس عليه منا ذمام.
قال: فتفرق الناس عنه أيادي سبا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أن من اتبعه من الأعراب إنما اتبعوه لأنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون، وقد علم أنه إذا بينّ لهم الأمر لم يصحبه إلا من يريد مواساته في الموت معه.
قال: فلما كان السحر أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا منه، ثم سار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها.
وقال محمد بن سعد: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جعفر بن سليمان، عن يزيد الرشك قال: حدثني من شافه الحسين قال: رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض فقلت: لمن هذه؟
قالوا: هذه لحسين.
قال: فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خديه ولحيته.
قال: قلت بأبي وأمي يا بن بنت رسول الله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟
فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولا أراهم إلا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلا انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة - يعني: مقنعتها -.
وأخبرنا علي بن محمد، عن الحسن بن دينار، عن معاوية بن قرة.
قال: قال الحسين: والله لتعتدنّ عليّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت.
وحدثنا علي بن محمد، عن جعفر بن سليمان الضبعي.
قال: قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قرم الأمة.
فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، ثنا سفيان، ثنا شهاب بن حراش، عن رجل من قومه.
قال: كنت في الجيش الذين بعثهم ابن زياد إلى الحسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون قتال الديلم، فعينهم ابن زياد وصرفهم إلى قتال الحسين، فلقيت حسينا فرأيته أسود الرأس واللحية.
فقلت له: السلام عليك أبا عبد الله.
فقال: وعليك السلام - وكانت فيه غنة -.
فقال: لقد باتت فيكم سللة منذ الليلة - يعني: سراقا -.
قال شهاب: فحدثت به زيد بن علي فأعجبه - وكانت فيه غنة -.
قال سفيان بن عيينة: وهي في الحسينيين.
قال أبو مخنف عن أبي خالد الكاهلي.
قال: لما صبحت الخيل الحسين بن علي رفع يديه فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي من كل أمر نزل ثقة وعدة، فكم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبة فيه إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت لي وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني حجاج بن محمد، عن أبي معشر، عن بعض مشيخته.
قال: قال الحسين حين نزلوا كربلاء: ما اسم هذه الأرض؟
قالوا: كربلاء.
قال: كرب وبلاء.
وبعث عبيد الله بن زياد عمر بن سعد لقتالهم، فقال له الحسين: يا عمر اختبرني إحدى ثلاث خصال: إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيت هذه فسيّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده فيحكم فيّ ما رأى، فإن أبيت هذه فسيّرني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت.
فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمّ أن يسيره إلى يزيد، فقال شمر بن ذي الجوشن: لا! إلا أن ينزل على حكمك، فأرسل إلى الحسين بذلك.
فقال الحسين: والله لا أفعل، وأبطأ عمر عن قتاله فأرسل ابن زياد شمر بن ذي الجوشن وقال له: إن تقدم عمر فقاتل وإلا فاقتله وكن مكانه، فقد وليتك الإمرة.
وكان مع عمر قريب من ثلاثين رجلا من أعيان أهل الكوفة، فقالوا له: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله ﷺ ثلاث خصال فلا تقبلوا منها شيئا؟ فتحولوا مع الحسين يقاتلون معه.
وقال أبو زرعة: حدثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، عن حصين قال: أدركت من مقتل الحسين قال: فحدثني سعد بن عبيدة قال: فرأيت الحسين وعليه جبة برود ورماه رجل يقال له: عمرو بن خالد الطهوي بسهمٍ، فنظرت إلى السهم معلقا بجبته.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمار الرازي، حدثني سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، ثنا حصين: أن الحسين بعث إليه أهل الكوفة: إن معك مائة ألف.
فبعث إليهم مسلم بن عقيل فذكر قصة مقتل مسلم كما تقدم.
قال حصين: فحدثني هلال بن يساف: أن ابن زياد أمر الناس أن يأخذوا ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة حفظا فلا يدعون أحدا يلج ولا أحدا يخرج، وأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتى أتى الأعراب فسألهم عن الناس.
فقالوا: والله لا ندري، غير أنك لا تستطيع أن تلج ولا تخرج.
قال: فانطلق يسير نحو يزيد بن معاوية، فتلقته الخيول بكربلاء فنزل يناشدهم الله والإسلام.
قال: وكان بعث إليه ابن زياد عمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وحصين بن نمير، فناشدهم الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده، فقالوا له: لا! إلا أن تنزل على حكم ابن زياد، وكان في جملة من معهم الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي على خيل.
فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم: ألا تتقون الله؟ ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم، والله لو سألتكم هذا الترك والديلم ما حلّ لكم أن تردوهم فأبوا إلا حكم ابن زياد؟ فضرب الحرّ وجه فرسه وانطلق إلى الحسين، فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم، فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم ثم كرّ على أصحاب ابن زياد فقتل منهم رجلين ثم قتل رحمه الله.
وذكر: أن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجا فأقبل معه، وخرج إليه ابن أبي مخرمة المرادي ورجلان آخران، وهما: عمرو بن الحجاج، ومعن السلمي، وأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد وعليه جبة من برود.
فلما كلمهم انصرف فرماه رجل من بني تميم يقال له: عمرو الطهوي بسهم بين كتفيه، فإني لأنظر إلى السهم بين كتفيه متعلقا بجبته، فلما أبوا عليه رجع إلى مصافّه وإني لأنظر إليهم وهم قريب من مائة رجل، فيهم لصلب علي خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سُليم حليف لهم، ورجل من بني كنانة حليف لهم، وابن عم ابن زياد.
وقال حصين، حدثني سعد بن عبيدة قال: إنا لمستنقعون الماء مع عمر بن سعد إذ أتاه رجل فسارّه فقال له: قد بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك.
قال: فوثب إلى فرسه فركبها ثم دعا بسلاحه فلبسه وأنه لعلى فرسه، ونهض بالناس إليهم فقاتلوهم فجيء برأس الحسين إلى ابن زياد فوضع بين يديه فجعل يقول بقضيبه في أنفه ويقول: إن أبا عبد الله كان قد شمط.
قال: وجيء بنسائه وبناته وأهله قال: وكان أحسن شيء صنعه أن أمر لهم بمنزل في مكانٍ معتزلٍ وأجرى عليهم رزقا، وأمر لهم بنفقة وكسوة.
قال: وانطلق غلامان منهم من أولاد عبد الله بن جعفر - أو ابن أبي جعفر - فأتيا رجلا من طيء فلجآ إليه مستجيران به، فضرب أعناقهما وجاء برأسيهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد.
قال: فهمَّ ابن زياد بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت.
قال: وحدثني مولى لمعاوية بن أبي سفيان قال: لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه رأيته يبكي ويقول: لو كان بين ابن زياد وبينه رحم ما فعل هذا - يعني: ابن زياد -.
قال الحصين: ولما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع.
قال أبو مخنف: حدثني لوذان، حدثني عكرمة أن أحد عمومته سأل الحسين: أين تريد؟
فحدثه، فقال له: أنشدك الله لما انصرفت راجعا، فوالله ما بين يديك من القوم أحد يذب عنك ولا يقاتل معك، وإنما والله أنت قادم على الأسنة والسيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطأوا لك الأشياء، ثم قدمت عليهم بعد ذلك كان ذلك رأيا، فأما على هذه الصفة فإني لا أرى لك أن تفعل.
فقال له الحسين: إنه ليس بخفي عليّ ما قلت وما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره، ثم ارتحل قاصدا الكوفة.
وقال خالد بن العاص:
رُبَّ مستنصح يغش ويردي * وظنينٍ بالغيب يلقى نصيحا
وقد حج بالناس في هذه السنة عمرو بن سعيد بن العاص وكان عامل المدينة ومكة ليزيد، وقد عزل يزيد عن إمرة المدينة الوليد بن عتبة وولاها عمرو بن سعيد بن العاص في شهر رمضان منها والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وستين
استهلت هذه السنة والحسين بن علي سائر إلى الكوفة فيما بين مكة والعراق ومعه أصحابه وقراباته، فقتل في يوم عاشوراء من شهر المحرم من هذه السنة على المشهور الذي صححه الواقدي وغير واحد، وزعم بعضهم أنه قتل في صفر منها والأول أصح.
وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب
قال أبو مخنف: عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن حرملة، عن عبد الله بن سليم، والمذرى بن المشمعل الأسديين قالا: أقبل الحسين فلما نزل شرف قال لغلمانه وقت السحر: استقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا إلى صدر النهار فسمع الحسين رجلا يكبر فقال له: مم كبرت؟
فقال: رأيت النخيلة، فقال له الأسديان: إن هذا المكان لم ير أحد منه نخيلة.
فقال الحسين: فماذا تريانه رأى؟
فقالا: هذه الخيل قد أقبلت.
فقال الحسين: أما لنا ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟
فقالا: بلى: ذو حسم.
فأخذ ذات اليسار إليها فنزل، وأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي، وهم مقدمة الجيش الذين بعثهم ابن زياد، حتى وقفوا في مقابلته في نحو الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يرتووا من الماء ويسقوا خيولهم، وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضا.
وروى هو وغيره قالوا: لما دخل وقت الظهر أمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي فأذن ثم خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم في مجيئه هذا إلى ههنا، بأنه قد كتب إليه أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، وإن أنت قدمت علينا بايعناك وقاتلنا معك، ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحر: تريد أن تصلي بأصحابك؟
قال: لا! ولكن صلّ أنت ونحن نصلي وراءك.
فصلى بهم الحسين، ثم دخل إلى خيمته واجتمع به أصحابه، وانصرف الحر إلى جيشه وكلُّ على أهبته، فلما كان وقت العصر صلى بهم الحسين ثم انصرف فخطبهم وحثهم على السمع والطاعة له وخلع من عاداهم من الأدعياء السائرين فيكم بالجور.
فقال له الحر: إنا لا ندري ما هذه الكتب، ولا من كتبها، فأحضر الحسين خرجين مملوءين كتبا فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة.
فقال الحر: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك في شيء، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد.
فقال الحسين: الموت أدنى من ذلك.
ثم قال الحسين لأصحابه: اركبوا! فركبوا و ركب النساء، فلما أراد الانصراف حال القوم بينه وبين الانصراف.
فقال الحسين للحر: ثكلتك أمك، ماذا تريد؟
فقال له الحر: أما والله لو غيرك يقولها لي من العرب وهو على مثل الحال التي أنت عليها لأقتصن منه، ولما تركت أمه، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمك إلا بأحسن ما نقدر عليه.
وتقاول القوم وتراجعوا.
فقال له الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد، فإذا أبيت فخذ طريقا لا يقدمك الكوفة ولا تردك إلى المدينة، واكتب أنت إلى يزيد، وأكتب أنا إلى ابن زياد إن شئت، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك.
قال: فأخذ الحسين يسارا عن طريق العُذيب والقادسية، والحر بن يزيد يسايره وهو يقول له: يا حسين إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى.
فقال له الحسين: أفبالموت تخوفني؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وقد لقيه وهو يريد نصرة رسول الله ﷺ فقال: أين تذهب فإنك مقتول؟
فقال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق خوفا أن يعيش ويرغما
ويروى على صفة أخرى:
سأمضي وما بالموت عارٌ على امرئ * إذا ما نوى حقا ولم يلف مجرما
فإن مت أندم وإن عشت لم ألمْ * كفى بك موتا أن تذل وترغما
فلما سمع ذلك الحر منه تنحى عنه وجعل يسير بأصحابه ناحية عنه، فانتهوا إلى عذيب الهجانات وإذا سفر أربعة - أي: أربعة نفر - قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يخبون ويجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له: الكامل، قد أقبلوا من الكوفة يقصدون الحسين ودليلهم رجل يقال له: الطرماح بن عدي، راكب على فرس وهو يقول:
يا ناقتي لا تذعري من زجري * وشمّري قبل طلوع الفجر
بخير ركبانٍ وخير سفر * حتى تحلي بكريم النجر
الماجد الحرّ رحيب الصدر * أتى به الله لخير أمر
ثمت أبقاه بقاء الدهر
فأراد الحر أن يحول بينهم وبين الحسين، فمنعه الحسين من ذلك، فلما خلصوا إليه قال لهم: أخبروني عن الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله العامري - أحد النفر الأربعة -:
أما أشراف الناس فهم إلب عليك، لأنهم قد عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستميل بذلك ودهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلب واحد عليك، وأما سائر الناس فأفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك.
قال لهم: فهل لكم برسولي علم؟
قالوا: ومن رسولك؟
قال: قيس بن مسهر الصيداوي.
قالوا: نعم أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك ولعن زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك فأمر به فأُلقي من رأس القصر فمات، فترقرت عينا الحسين، وقرأ قوله تعالى: { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } الآية [23].
ثم قال: اللهم اجعل منازلهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مدخور ثوابك.
ثم إن الطرماح بن عدي قال للحسين: أنظر فما معك؟ لا أرى معك أحدا إلا هذه الشرذمة اليسيرة، وإني لأرى هؤلاء القوم الذين يسايرونك أكفاء لمن معك، فكيف وظاهر الكوفة مملوء بالخيول والجيوش يعرضون ليقصدونك، فأنشدك الله، إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبرا فافعل، فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر.
والله إن دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم تبعث إلى الرجال من بأجأ وسلمى من طيء، ثم أقم معنا ما بدا لك، فأنا زعيم بعشرة آلاف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف.
فقال له الحسين: جزاك الله خيرا، فلم يرجع عما هو بصدده، فودعه الطرماح، ومضى الحسين، فلما كان من الليل أمر فتيانه أن يستقوا من الماء كفايتهم، ثم سرى فنعس في مسيره حتى خفق برأسه، واستيقظ وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.
ثم قال: رأيت فارسا على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعيت إلينا.
فلما طلع الفجر صلى بأصحابه وعجل الركوب ثم تياسر في مسيره حتى انتهى إلى نينوى، فإذا راكب متنكب قوسا قد قدم من الكوفة، فسلم على الحر بن يزيد ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحر كتابا من ابن زياد ومضمونه: أن يعدل بالحسين في السير إلى العراق في غير قرية ولا حصن، حتى تأتيه رسله وجنوده، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
فلما كان من الغد قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف، وكان قد جهّزه ابن زياد في هؤلاء إلى الديلم، وخيم بظاهر الكوفة، فلما قدم عليهم أمر الحسين قال له: سر إليه، فإذا فرغت منه فسر إلى الديلم، فاستعفاه عمر بن سعد من ذلك.
فقال له ابن زياد: إن شئت عفيتك وعزلتك عن ولاية هذه البلاد التي قد استنبتك عليها.
فقال: حتى أنظر في أمري، فجعل لا يستشير أحدا إلا نهاه عن المسير إلى الحسين، حتى قال له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة: إياك أن تسير إلى الحسين فتعصي ربك، وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من سلطان الأرض كلها أحب إليك من أن تلقى الله بدم الحسين.
فقال: إني أفعل إن شاء الله تعالى.
ثم أن عبيد الله بن زياد تهدده وتوعده بالعزل والقتل، فسار إلى الحسين فنازله في المكان الذي ذكرنا، ثم بعث إلى الحسين الرسل: ما الذي أقدمك؟
فقال: كتب إليّ أهل الكوفة أن أقدم عليهم، فإذ قد كرهوني فأنا راجع إلى مكة وأذركم.
فلما بلغ عمر بن سعد هذا قال: أرجو أن يعافيني الله من حربه، وكتب إلى ابن زياد ذلك، فرد عليه ابن زياد: أن حل بينهم وبين الماء كما فعل بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأعرض على الحسين أن يبايع هو ومن معه لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فإذا فعلوا ذلك رأينا رأينا.
وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين من الماء، وعلى سرية منهم عمرو بن الحجاج، فدعا عليهم بالعطش فمات هذا الرجل من شدة العطش.
ثم إن الحسين طلب من عمر بن سعد أن يجتمع به بين العسكرين، فجاء كل واحد منهما في نحو من عشرين فارسا، فتكلما طويلا حتى ذهب هزيع من الليل، ولم يدر أحد ما قالا، ولكن ظن بعض الناس أنه سأله أن يذهب معه إلى يزيد بن معاوية إلى الشام ويتركا العسكرين متواقفين.
فقال عمر: إذا يهدم ابن زياد داري.
فقال الحسين: أنا أبنيها لك أحسن مما كانت.
قال: إذا يأخذ ضياعي.
قال: أنا أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز.
قال: فتكره عمر بن سعد من ذلك.
وقال بعضهم: بل سأل منه إما أن يذهبا إلى يزيد، أو يتركه يرجع إلى الحجاز أو يذهب إلى بعض الثغور فيقاتل الترك.
فكتب عمر إلى عبيد الله بذلك، فقال: نعم! قد قبلت، فقام الشمر بن ذي الجوشن فقال: لا والله حتى ينزل على حكمك هو وأصحابه.
ثم قال: والله لقد بلغني أن حسينا وابن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل.
فقال له ابن زياد: فنعم ما رأيت.
وقد روى أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قال: لقد صحبت الحسين من مكة إلى حين قتل، والله ما من كلمة قالها في موطن إلا وقد سمعتها، وأنه لم يسأل أن يذهب إلى يزيد فيضع يده إلى يده، ولا أن يذهب إلى ثغر من الثغور، ولكن طلب منهم أحد أمرين، إما أن يرجع من حيث جاء، وإما أن يدعوه يذهب في الأرض العريضة حتى ينظر ما يصير أمر الناس إليه.
ثم إن عبيد الله بعث شمر بن ذي الجوشن فقال: اذهب فإن جاء حسين وأصحابه على حكمي وإلا فمر عمر بن سعد أن يقاتلهم، فإن تباطأ عن ذلك فاضرب عنقه، ثم أنت الأمير على الناس.
وكتب إلى عمر بن سعد يتهدده على توانيه في قتال الحسين، وأمره إن لم يجئ الحسين إليه أن يقاتله ومن معه، فإنهم مشاقون.
فاستأمن عبيد الله بن أبي المحل لبني عمته أم البنين بنت حزام من علي: وهم: العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان.
فكتب لهم ابن زياد كتاب أمان وبعثه عبيد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له: كرمان، فلما بلغهم ذلك قالوا: أما أمان ابن سمية، فلا نريده، وإنا لنرجو أمانا خيرا من أمان ابن سمية.
ولما قدم شمر بن ذي الجوشن على عمر بن سعد بكتاب عبيد الله بن زياد، قال عمر: أبعد الله دارك، وقبح ما جئت به، والله إني لأظنك الذي صرفته عن الذي عرضت عليه من الأمور الثلاثة التي طلبها الحسين.
فقال له شمر: فأخبرني ما أنت صانع؟ أتقاتلهم أنت أو تاركي وإياهم؟
فقال له عمر: لا ولا كرامة لك! أنا أتولى ذلك.
وجعله على الرجالة ونهضوا إليهم عشية يوم الخميس التاسع من المحرم، فقام شمر بن ذي الجوشن، فقال: أين بنو أختنا؟
فقام إليه العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان بنو علي بن أبي طالب، فقال: أنتم آمنون.
فقالوا: إن أمنتنا وابن رسول الله ﷺ، وإلا فلا حاجة لنا بأمانك.
قال: ثم نادى عمر بن سعد في الجيش: يا خيل الله اركبي وابشري، فركبوا وزحفوا إليهم بعد صلاة العصر من يومئذ، هذا وحسين جالس أمام خيمته محتبيا بسيفه، ونعس فخفق برأسه وسمعت أخته الضجة فدنت منه فأيقظته، فرجع برأسه كما هو، وقال: إني رأيت رسول الله ﷺ في المنام فقال لي: «إنك تروح إلينا» فلطمت وجهها وقالت: يا ويلتنا.
فقال: ليس لك الويل يا أختاه: اسكتي رحمك الرحمن.
وقال له أخوة العباس بن علي: يا أخي جاءك القوم.
فقال: اذهب إليهم فسلهم ما بدا لهم، فذهب إليهم في نحو من عشرين فارسا فقال: ما لكم؟
فقالوا: جاء أمر الأمير إما أن تأتوا على حكمه، وإما أن نقاتلكم.
فقال: مكانكم حتى أذهب إلى أبي عبد الله فأعلمه، فرجع ووقف أصحابه فجعلوا يتراجعون القول ويؤنب بعضهم بعضا.
يقول أصحاب الحسين: بئس القوم، أنتم تريدون قتل ذرّية نبيكم وخيار الناس في زمانهم؟
ثم رجع العباس بن علي من عند الحسين إليهم فقال لهم: يقول لكم أبو عبد الله: انصرفوا عشيتكم هذه حتى ينظر في أمره الليلة.
فقال عمر بن سعد لشمر بن ذي الجوشن: ما تقول؟
فقال: أنت الأمير والرأي رأيك.
فقال عمر بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله لو سألكم ذلك رجل من الدليم لكان ينبغي إجابته.
وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة.
وهكذا جرى الأمر، فإن الحسين لما رجع العباس قال له: ارجع فارددهم هذه العشية لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ونستغفره وندعوه، فقد علم الله مني إني أحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، والاستغفار والدعاء.
وأوصى الحسين في هذه الليلة إلى أهله، وخطب أصحابه في أول الليل فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على رسوله بعبارة فصيحة بليغة، وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له فإن القوم إنما يريدونني.
فقال مالك بن النضر: عليّ دين ولي عيال.
فقال: هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه حجلا، ليأخذ كل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم اذهبوا في بسيط الأرض في سواد هذا الليل إلى بلادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يريدونني، فلو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري، فاذهبوا حتى يفرج الله عزّ وجل.
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره.
فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم.
قالوا: فما تقول الناس إنا تركنا شيخنا، وسيدنا، وبني عمومتنا خير الأعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، رغبة في الحياة الدنيا، لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
وقال نحو ذلك مسلم بن عوسجة الأسدي.
وكذلك قال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله ﷺ فيك، والله لو علمت أني أقتل دونك ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عنك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك، لأحببت ذلك، وإنما هي قتلة واحدة.
وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا من وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك، وأنفسنا الفداء لك، نقيك بنحورنا وجباهنا، وأيدينا وأبداننا، فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا.
وقال أخوه العباس: لا أرانا الله يوم فقدك ولا حاجة لنا في الحياة بعدك.
وتتابع أصحابه على ذلك.
وقال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب، وأبو الضحاك، عن علي بن الحسين زين العابدين.
قال: إني لجالس تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرضني إذا اعتزل أبي في خبائه ومعه أصحابه، وعنده حويّ مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يا دهر أفٍ لك من خليلٍ * كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل * وكل حيٍ سالك السبيل
فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى حفظتها وفهمت ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل.
وأما عمتي فقامت حاسرة حتى انتهت إليه فقالت: واثكلاه!! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت أمي فاطمة، وعلي أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي.
فنظر إليها وقال: يا أُخيّة، لا يذهبن حلمك الشيطان.
فقالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله، استقتلت؟
ولطمت وجهها، وشقت جيبها وخرت مغشيا عليها، فقام إليها فصبّ على وجهها الماء وقال: يا أُخيّه اتق الله واصبري وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته، ويميتهم بقهره وعزته، ويعيدهم فيعبدونه وحده، وهو فرد وحده.
واعلمي أن أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة حسنة.
ثم حرج عليها أن لا تفعل شيئا من هذا بعد مهلكه، ثم أخذ بيدها فردّها إلى عندي.
ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يدنوا بيوتهم بعضا من بعض حتى تدخل الأطناب بعضها في بعض، وأن لا يجعلوا للعدو مخلصا إليهم إلا من جهة واحدة، وتكون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن ورائهم.
وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم، عليها عزرة بن قيس الأحمسي، والحسين يقرأ: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْما وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } الآية [24].
فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرس من أصحاب ابن زياد فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا الله منكم.
قال: فعرفته، فقلت لزيد بن حضير: أتدري من هذا؟
قال: لا!
فقلت: هذا أبو حرب السبيعي عبيد الله بن شمير - وكان مضحاكا بطالا - وكان شريفا شجاعا فاتكا.
وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في خبائه.
فقال له يزيد بن حصين: يا فاسق متى كنت من الطيبين؟
فقال: من أنت ويلك؟
قال: أنا يزيد بن حصين.
قال: إنا لله! هلكت والله عدو الله! علام يريد قتلك؟
قال: فقلت له: يا أبا حرب هل لك أن تتوب من ذنوبك العظام؟ فوالله إنا لنحن الطيبون وأنكم لأنتم الخبيثون.
قال: نعم وأنا على ذلك من الشاهدين.
قال: ويحك أفلا ينفعك معرفتك؟
قال: فانتهره عزرة بن قيس أمير السرية التي تحرسنا فانصرف عنا.
قالوا: فلما صلى عمر بن سعد الصبح بأصحابه يوم الجمعة.
وقيل: يوم السبت - وكان يوم عاشوراء - انتصب للقتال.
وصلى الحسين أيضا بأصحابه وهم اثنان وثلاثون فارسا، وأربعون راجلا، ثم انصرف فصفّهم فجعل على ميمنته زهير بن القين، وعلى الميسرة حبيب بن المطهر، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم.
وقد أمر الحسين من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقا، وقذفوا فيه حطبا وخشبا وقصبا، ثم أضرمت فيه النار لئلا يخلص أحد إلى بيوتهم من ورائها.
وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن - واسم ذي الجوشن شرحبيل بن الأعور بن عمرو بن معاوية من بني الضباب بن كلاب - وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجالة شبيث بن ربعي.
وأعطى الراية لوردان مولاه، وتواقف الناس في ذلك الموضع.
فعدل الحسين إلى خيمة قد نصبت فاغتسل فيها وانطلى بالنورة وتطيب بمسك كثير، ودخل بعده بعض الأمراء ففعلوا كما فعل.
فقال بعضهم لبعض: ما هذا في هذه الساعة؟
فقال بعضهم: دعنا منك، والله ما هذه بساعة باطل.
فقال يزيد بن حصين: والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاحقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا.
ثم ركب الحسين على فرسه وأخذ مصحفا فوضعه بين يديه، ثم استقبل القوم رافعا يديه يدعو بما تقدم ذكره:
اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة إلى آخره.
وركب ابنه علي بن الحسين - وكان ضعيفا مريضا - فرسا يقال له: الأحمق، ونادى الحسين أيها الناس:
اسمعوا مني نصيحة أقولها لكم، فأنصت الناس كلهم، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس إن قبلتم مني وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } [25]، { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [26].
فلما سمع ذلك أخواته وبناته ارتفعت أصواتهن بالبكاء.
فقال عند ذلك: لا يبعد الله ابن عباس - يعني: حين أشار عليه أن لا يخرج بالنساء معه ويدعهن بمكة إلى أن ينتظم الأمر - ثم بعث أخاه العباس فسكتهن، ثم شرع يذكر للناس فضله وعظمة نسبه وعلو قدره وشرفه، ويقول:
راجعوا أنفسكم وحاسبوها.
هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نبيكم، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري؟ وعلي أبي، وجعفر ذو الجناحين عمي، وحمزة سيد الشهداء عم أبي؟ وقال لي رسول الله ﷺ ولأخي: «هذان سيدا شباب أهل الجنة».
فإن صدقتموني بما أقول فهو الحق، فوالله ما تعمدت كذبةً منذ علمت أن الله يمقت عليّ الكذب، وإلا فاسألوا أصحاب رسول الله ﷺ عن ذلك: جابر بن عبد الله، وأبا سعيد، وسهل بن سعد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم بذلك، ويحكم! أما تتقون الله؟ أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟.
فقال عند ذلك شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف: إن كنت أدري ما يقول؟
فقال له حبيب بن مطهر: والله يا شمر إنك لتعبد الله على سبعين حرفا، وأما نحن فوالله إنا لندري ما يقول، وأنه قد طبع على قلبك.
ثم قال: أيها الناس ذروني أرجع إلى مأمني من الأرض.
فقالوا: ما يمنعك أن تنزل على حكم بني عمك؟
فقال: معاذ الله { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } [27].
ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، ثم قال: أخبروني أتطلبوني بقتيل لكم قتلته؟
أو مال لكم أكلته؟
أو بقصاصة من جراحه؟
قال: فأخذوا لا يكلمونه.
قال: فنادى يا شبيث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أنه قد أينعت الثمار واخضر الجناب، فأقدم علينا فإنك إنما تقدم على جند مجندة؟
فقالوا له: لم نفعل.
فقال: سبحان الله! والله لقد فعلتم، ثم قال: يا أيها الناس: إذ قد كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم.
فقال له قيس بن الأشعث: ألا تنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يؤذوك، ولا ترى منهم إلا ما تحب؟
فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن تطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟
لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لهم إقرار العبيد.
قال: وأقبلوا يزحفون نحوه وقد تحيز إلى جيش الحسين من أولئك طائفة قريب من ثلاثين فارسا فيما قيل، منهم: الحر بن يزيد أمير مقدمة جيش ابن زياد، فاعتذر إلى الحسين مما كان منهم، قال: ولو أعلم أنهم على هذه النية لسرت معك إلى يزيد، فقبل منه الحسين.
ثم تقدم بين يدي أصحاب الحسين فخاطب عمر بن سعد فقال: ويحكم ألا تقبلون من ابن بنت رسول الله ﷺ ما يعرض عليكم من الخصال الثلاث واحدة منها؟
فقال: لو كان ذلك إليّ قبلت.
قال: وخرج من أصحاب الحسين زهير بن القين على فرس له شاك في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة، وعلى دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة.
إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيِّه لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصره وخذلان الطاغية ابن الطاغية، عبيد الله بن زياد، فإنكم لم تدركوا منهما إلاّ سوء عموم سلطانهما، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه.
قال: فسبوه وأثنوا على ابن زياد ودعوا له، وقالوا: لا ننزع حتى نقتل صاحبك ومن معه.
فقال لهم: إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن أنتم لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، خلّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، نذهب حيث شاء، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين.
قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال له: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.
فقال له زهير: يا ابن البوَّال على عقبيه، إياك أخاطب؟ إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحُكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.
فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك بعد ساعة.
فقال له زهير: أبالموت تخوفني؟ فوالله للموت معه أحب إليّ من الخلد معكم.
ثم إن زهيرا أقبل على الناس رافعا صوته يقول: عباد الله لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا ينال شفاعة محمد ﷺ قوم أهرقوا دماء ذريته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم.
وقال الحر بن يزيد لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟
قال: إي والله، قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
وكان الحر من أشجع أهل الكوفة، فلامه بعض أصحابه على الذهاب إلى الحسين.
فقال له: والله إني أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها، ولو قطعت وحرقت.
ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين فاعتذر إليه بما تقدم، ثم قال: يا أهل الكوفة لأمكم الهبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير وقد صرعهم العطش؟
بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وترجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.
فحملت عليه رجال لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين.
وقال لهم عمر بن سعد: لو كان الأمر لي لأجبت الحسين إلى ما طلب، ولكن أبى عليّ عبيد الله بن زياد، وقد خاطب أهل الكوفة وأنبهم ووبخهم وسبهم.
فقال لهم الحر بن يزيد: ويحكم منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات الذي يشرب منه اليهود والنصارى، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهو كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.
قال: فتقدم عمر بن سعد وقال لمولاه: يا دريد أدن رايتك، فأدناها، ثم شمر عمر عن ساعده ورمى بسهم وقال: اشهدوا أني أول من رمى القوم.
قال: فترامى الناس بالنبال، وخرج يسار مولى زياد، وسالم مولى عبيد الله، فقالا: من يبارز؟
فبرز لهما عبيد الله بن عمر الكلبي بعد استئذانه الحسين فقتل يسارا أولا، ثم قتل سالما بعده، وقد ضربه سالم ضربة أطار أصابع يده اليسرى، وحمل رجل يقال له: عبد الله بن حوزة حتى وقف بين يدي الحسين فقال له: يا حسين أبشر بالنار!
فقال له الحسين: كلا ويحك إني أقدم على ربٍ رحيمٍ وشفيعٍ مطاعٍ، بل أنت أولى بالنار.
قالوا: فانصرف فوقصته فرسه فسقط وتعلقت قدمه بالركاب، وكان الحسين قد سأل عنه فقال: أنا ابن حوزة، فرفع الحسين يده وقال: اللهم حزه إلى النار، فغضب ابن حوزة وأراد أن يقحم عليه الفرس وبينه وبينه نهر.
فحالت به الفرس فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب، وشد عليه مسلم بن عوسجة فضربه فأطار رجله اليمنى، وغارت به فرسه فلم يبقى حجر يمر به إلا ضربه في رأسه حتى مات.
وروى أبو مخنف عن أبي جناب قال: كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير من بني عليم، كان قد نزل الكوفة واتخذ دارا عند بئر الجعد من همدان، وكانت معه امرأة له من النمر بن قاسط.
فرأى الناس يتهيئون للخروج إلى قتال الحسين، فقال: والله لقد كنت على قتال أهل الشرك حريصا، وإني لأرجو أن يكون جهادي مع ابن بنت رسول الله ﷺ لهؤلاء أفضل من جهاد المشركين، وأيسر ثوابا عند الله.
فدخل إلى امرأته فأخبرها بما هو عازم عليه، فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك.
قال: فخرج بها ليلا حتى أتى الحسين، ثم ذكر قصة رمي عمر بن سعد بالسهم، وقصة قتله يسار مولى ابن زياد، وسالم مولى ابن زياد، وأن عبد الله بن عمير استأذن الحسين في الخروج إليهما فنظر إليه الحسين، فرأى رجلا آدم طويلا، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين.
فقال الحسين: إني لأحسبه للأقران قتّالا، اخرج إن شئت، فخرج فقالا له: من أنت؟
فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك إلا من خير منكما، ثم شد على يسار فكان كأمس الذاهب، فإنه لمشتغل به إذ حمل عليه سالم مولى ابن زياد فصاح به صائح قد رهقك العبد.
قال: فلم ينتبه حتى غشيته فضربه على يده اليسرى فأطار أصابعه، ثم مال على الكلبي فضربه حتى قتله وأقبل يرتجز ويقول:
إن تنكراني فأنا ابن كلبٍ * نسبي بيتي في عليم حسبي
إني امرؤ ذو مروءةٍ وعضب * ولست بالخوّار عند الكرب
إني زعيمٌ لك أم وهب * بالطعن فيهم مقدما والضرب
ضرب غلام مؤمن بالرب
فأخذت أم وهب عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: فداؤك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين ذرية محمد عليه السلام، فأقبل إليها يردها نحو النساء، فأقبلت تجاذبه ثوبه، قالت: دعني أكون معك، فناداها الحسين انصرفي إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن.
قال: وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم، وأنهم مستميتون لا عاصم لهم إلا سيوفهم، فأشار بعض الأمراء على عمر بن سعد بعدم المبارزة، وحمل عمر بن الحجاج أمير ميمنة جيش ابن زياد.
وجعل يقول: قاتلوا من مرق من الدين وفارق الجماعة.
فقال له الحسين: ويحك يا حجاج أعليّ تحرض الناس؟ أنحن مرقنا الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقت أرواحنا أجسادنا من أولى بصلي النار.
وقد قتل في هذه الحملة مسلم بن عوسجة، وكان أول من قتل من أصحاب الحسين، فمشى إليه الحسين فترحم عليه، وهو على آخر رمق، وقال له حبيب بن مطهر: أبشر بالجنة.
فقال له بصوت ضعيف: بشرك الله بالخير.
ثم قال له حبيب: لولا أني أعلم أني على أثرك لاحقك لكنت أقضي ما توصي به.
فقال له مسلم بن عوسجة: أوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين - إلى أن تموت دونه.
قالوا: ثم حمل شمر بن ذي الجوشن بالميسرة وقصدوا نحو الحسين فدافعت عنه الفرسان من أصحابه دفاعا عظيما، وكافحوا دونه مكافحة بليغة، فأرسلوا يطلبون من عمر بن سعد طائفة من الرماة الرجالة.
فبعث إليهم نحوا من خمسمائة، فجعلوا يرمون خيول أصحاب الحسين فعقروها كلها حتى بقي جميعهم رجالة، ولما عقروا جواد الحر بن يزيد نزل عنه وفي يده السيف كأنه ليث، وهو يقول:
إن تعقروا بي فأنا ابن الحر * أشجع من ذي لبد هزبر
ويقال: إن عمر بن سعد أمر بتقويض تلك الأبنية التي تمنع من القتال من أتى ناحيتها، فجعل أصحاب الحسين يقتلون من يتعاطى ذلك، فأمر بتحريقها فقال الحسين: دعوهم يحرقونها فإنهم لا يستطيعون أن يجوزوا منها وقد أحرقت.
وجاء شمر بن ذي الجوشن قبحه الله إلى فسطاط الحسين فطعنه برمحه - يعني: الفسطاط - وقال: إيتوني بالنار لأحرقه على من فيه، فصاحت النسوة وخرجن منه.
فقال له الحسين: أحرقك الله بالنار.
وجاء شبيث بن ربعي إلى شمر قبحه الله فقال له: ما رأيت أقبح من قولك ولا من فعلك وموقفك هذا أتريد أن ترعب النساء؟ فاستحي وهمّ بالرجوع.
وقال حميد بن مسلم قلت لشمر: سبحان الله! إن هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين؟ تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء؟ والله إن في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك.
قال: فقال لي: من أنت؟
قلت: لا أخبرك من أنا - وخشيت أني إن أخبرته فعرفني أن يسوءني عند السلطان - وشد زهير بن القين في رجال من أصحاب الحسين على شمر بن ذي الجوشن فأزالوه عن موقفه، وقتلوا أبا عزة الضبابي - وكان من أصحاب شمر - وكان الرجل من أصحاب الحسين إذا قتل بان فيهم الخلل، وإذا قتل من أصحاب ابن زياد الجماعة الكثيرة لم يتبين ذلك فيهم لكثرتهم، ودخل عليهم وقت الظهر.
فقال الحسين: مروهم فليكفوا عن القتال حتى نصلي.
فقال رجل من أهل الكوفة: إنها لا تقبل منكم.
فقال له حبيب بن مطهر: ويحك!! أتقبل منكم ولا تقبل من آل رسول الله ﷺ؟
وقاتل حبيب قتالا شديدا حتى قتل رجلا يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وجعل يقول:
أنا حبيبٌ وأبي مطهرٌ * فارس هيجاء وحرب مسعر
أنتم أوفر عدة وأكثر * ونحن أوفى منكم وأصبر
ونحن أعلى حجةً وأظهر * حقا وأبقى منكم وأطهر
ثم حمل على حبيب هذا رجل من بني تميم فطعنه فوقع، ثم ذهب ليقوم فضربه الحصين بن عمير على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه وحمله إلى ابن زياد، فرأى ابن حبيب رأس أبيه فعرفه، فقال لحامله: أعطني رأس أبي حتى أدفنه، ثم بكى.
وقال: فمكث الغلام إلى أن بلغ أشده ثم لم تكن له همة إلا قتل قاتل أبيه.
قال: فلما كان زمن مصعب بن عمير دخل الغلام عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فدخل عليه وهو قائل فضربه بسيفه حتى برد.
وقال أبو مخنف: حدثني محمد بن قيس قال: لما قتل حبيب بن مطهر هدّ ذلك الحسين وقال عند ذلك: أحتسب نفسي، وأخذ الحر يرتجز ويقول للحسين:
آليت لا تقتل حتى أقتلا * ولن أصاب اليوم إلا مقبلا
أضربهم بالسيف ضربا مقصلا * لأنا كلا عنهم ولا مهملا
ثم قاتل هو وزهير بن القين قتالا شديدا، فكان إذا شد أحدهما حتى استلحم شد الآخر حتى يخلصه، فعلا ذلك ساعة، ثم إن رجالا شدوا على الحر بن يزيد فقتلوه، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدو له، ثم صلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالا شديدا، ودافع عن الحسين صناديد أصحابه.
وقاتل زهير بن القين بين يدي الحسين قتالا شديدا، ورمى بعض أصحابه بالنبل حتى سقط بين يدي الحسين، وجعل زهير يرتجز ويقول:
أنا زهير وأنا ابن القين * أذودكم بالسيف عن الحسين
قال: وأخذ يضرب على منكب الحسين ويقول:
أقدم هديت هاديا مهديا * فاليوم تلقى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا * وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا
قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه.
قال: وكان من أصحاب الحسين نافع بن هلال الجملي، وكان قد كتب على فوق نبله فجعل يرمي بها مسمومة وهو يقول:
أرمي بها معلما أفواقها * والنفس لا ينفعها شقاقها
أنا الجملي أنا على دين علي
فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح، ثم ضرب حتى كسرت عضداه، ثم أسروه فأتوا به عمر بن سعد فقال له: ويحك يا نافع، ما حملك على ما صنعت بنفسك؟
فقال: إن ربي يعلم ما أردت، والدماء تسيل عليه وعلى لحيته، ثم قال: والله لقد قتلت من جندكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني.
فقال شمر لعمر: اقتله.
قال: أنت جئت به، فإن شئت اقتله.
فقام شمر: فأنضى سيفه فقال له نافع: أما والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه.
ثم قتله، ثم أقبل شمر فحمل على أصحاب الحسين وتكاثر معه الناس حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا عليهم، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا أن يقتلوا بين يديه.
فجاء عبد الرحمن، وعبد الله ابنا عزرة الغفاري، فقالا: أبا عبد الله عليك السلام حازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك وندفع عنك.
فقال: مرحبا بكما ادن مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه وهما يقولان:
قد علمت حقا بنو غفار * وخندفٍ بعد بني نزار
لنضربن معشر الفجار * بكل عضبٍ قاطع بتار
يا قوم ذودوا عن بني الأخيار * بالمشرفي والقنا الخطار
ثم أتاه أصحابه مثنى وفرادى يقاتلون بين يديه وهو يدعو لهم ويقول: جزاكم الله أحسن جزاء المتقين، فجعلوا يسلمون على الحسين ويقاتلون حتى يقتلوا.
ثم جاء عابس بن أبي شبيب فقال: يا أبا عبد الله! أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد لي أني على هديك.
ثم مشى بسيفه صلتا وبه ضربة على جبينه - وكان أشجع الناس - فنادى: ألا رجل لرجل؟ ألا ابرزوا إلي.
فعرفوه فنكلوا عنه، ثم قال عمر بن سعد: أرضخوه بالحجارة، فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، والله لقد رأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس بين يديه.
ثم إنهم عطفوا عليه من كل جانب فقتل رحمه الله، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدد، كل يدعي قتله، فأتوا به عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا فيه، فإنه لم يقتله إنسان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.
ثم قاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانوا ولم يبق معه أحد إلا سويد بن عمرو بن أبي مطاع الخثعمي، وكان أول قتيل قتل من أهل الحسين من بني أبي طالب علي الأكبر بن الحسين بن علي، وأمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدي فقتله، لأنه جعل يقي أباه، وجعل يقصد أباه، فقال علي بن الحسين:
أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي * كيف ترون اليوم ستري عن أبي
فلما طعنه مرة احتوشته الرجال فقطعوه بأسيافهم، فقال الحسين: قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك محارمه؟! فعلى الدنيا بعدك العفاء.
قال: وخرجت جارية كأنها الشمس حسنا، فقالت: يا أخياه ويا ابن أخاه، فإذا هي زينب بنت علي من فاطمة، فأكبت عليه وهو صريع.
قال: فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط، وأمر به الحسين فحول من هناك إلى بين يديه عند فسطاطه، ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل.
ثم قتل عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر، ثم قتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبي طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي: أن يزيد بن زياد وكان راميا، وهو أبو الشعثاء الكناني من بني بهدلة، جث على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها على الأرض خمسة أسهم، فلما فرغ من الرمي قال: قد تبين لي أني قتلت خمسة نفر:
أنا يزيد وأنا المهاجر * أشجع من ليث قوي حادر
بربي إني للحسين ناصر * ولابن سعد تارك وهاجر
قالوا: ومكث الحسين نهارا طويلا وحده لا يأتي أحد إليه إلا رجع عنه، لا يحب أن يلي قتله، حتى جاءه رجل من بني بداء يقال له: مالك بن البشر، فضرب الحسين على رأسه بالسيف فأدمى رأسه، وكان على الحسين برنس فقطعه وجرح رأسه فامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين.
ثم ألقى الحسين ذلك البرنس ودعا بعمامةٍ فلبسها.
وقال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه فلقة قمر، في يده السيف، وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى.
فقال لنا عمر بن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه.
فقلت له: سبحان الله! وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم.
فقال: والله لأشدن عليه، فشد عليه عمر بن سعد أمير الجيش، فضربه وصاح الغلام يا عماه.
قال: فشد الحسين على عمر بن سعد شدة ليث أعضب، فضرب عمر بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق فصاح ثم تنحى عنه.
وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين فاستقبلت عمر بصدورها وحركت حوافرها، وجالت بفرسانها عليه، ثم انجلت الغبرة، فإذا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله، والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك.
ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك، صوت، والله كثر واتره وقل ناصره.
ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره، ثم جاء به حتى ألقاه مع ابنه علي الأكبر ومع من قتل من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وقال هانئ بن ثبيت الحضرمي: إني لواقف يوم مقتل الحسين عاشر عاشرة ليس منا رجل إلا على فرس، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، وعليه إزار وقميص، وهو مذعور يلتفت يمينا وشمالا، فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض فرسه حتى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه ثم أخذ الغلام فقطعه بالسيف.
قال هشام السكوني: هانئ بن ثبيت هو الذي قتل الغلام، خاف أن يعاب ذلك عليه فكنى عن نفسه.
قال: ثم إن الحسين أعيا فقعد على باب فسطاطه، وأتي بصبي صغير من أولاده اسمه عبد الله، فأجلسه في حجره، ثم جعل يقبله ويشمه ويودعه ويوصي أهله، فرماه رجل من بني أسد يقال له: ابن موقد النار بسهم فذبح ذلك الغلام.
فتلقى حسين دمه في يده وألقاه نحو السماء، وقال: رب إن تك قد حبست عنا النصر من السماء فاجعله لما هو خير، وانتقم لنا من الظالمين.
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله أيضا، ثم قتل عبد الله، والعباس، وعثمان، وجعفر، ومحمد بنو علي بن أبي طالب إخوة الحسين، وقد اشتد عطش الحسين فحاول أن يصل إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه.
فخلص إلى شربه منه، فرماه رجل يقال له: حصين بن تميم بسهم في حنكة فأثبته، فانتزعه الحسين من حنكة ففار الدم فتلقاه بيديه، ثم رفعهما إلى السماء وهما مملوءتان دما، ثم رمى به إلى السماء وقال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا، ودعا عليهم دعاء بليغا.
قال: فوالله إن مكث الرجل الرامي إلا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى ويسقى الماء مبردا، وتارة يبرد له اللبن والماء جميعا ويسقى فلا يروى بل يقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ.
قال: فوالله ما لبث إلا يسيرا حتى انفذ بطنه انفداد بطن البعير، ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نحو من عشرة من رجالة الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقلة عياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله.
فقال لهم الحسين: ويلكم!! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في دنياكم أحرارا وذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم.
فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا ابن فاطمة، ثم أحاطوا به فجعل شمر يحرضهم على قتله.
فقال له أبو الجنوب: وما يمنعك أنت من قتله؟
فقال له شمر: إلي تقول ذا؟
فقال أبو الجنوب: إلي تقول ذا؟ فاستبا ساعة.
فقال له أبو الجنوب - وكان شجاعا -: والله لقد هممت أن أخضخض هذا السنان في عينك، فانصرف عنه شمر.
ثم جاء شمر ومعه جماعة من الشجعان حتى أحاطوا بالحسين، وهو عند فسطاطه، ولم يبق معه أحد يحول بينهم وبينه، فجاء غلام يشتد من الخيام كأنه البدر، وفي أذنيه درتان فخرجت زينب بنت علي لترده فامتنع عليها، وجاء يحاجف عن عمه فضربه رجل منهم بالسيف فاتقاه بيده فأطنها سوى جلده.
فقال: يا أبتاه.
فقال له الحسين: يا بني احتسب أجرك عند الله، فإنك تلحق بآبائك الصالحين.
ثم حمل على الحسين الرجال من كل جانب وهو يجول فيهم بالسيف يمينا وشمالا، فيتنافرون عنه كتنافر المعزى عن السبع، وخرجت أخته زينب بنت فاطمة إليه فجعلت تقول: ليت السماء تقع على الأرض.
وجاءت عمر بن سعد فقالت: يا عمر، أرضيت أن يقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فتحادرت الدموع على لحيته وصرف وجهه عنها، ثم جعل لا يقدم أحد على قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل، فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.
فحملت الرجال من كل جانب على الحسين، وضربه زرعة بن شريك التميمي على كتفه اليسرى، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبي عمرو بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه وحز رأسه، ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد.
وقيل: إن الذي قتله شمر بن ذي الجوشن.
وقيل: رجل من مذحج.
وقيل: عمرو بن سعد بن أبي وقاص، وليس بشيء، وإنما كان عمر أمير السرية التي قتلت الحسين فقط. والأول أشهر.
وقال عبد الله بن عمار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على من على يمينه حتى انذعروا عنه، فوالله ما رأيت مكثورا قط قد قتل أولاده وأصحابه أربط جأشا منه، ولا أمضى جنانا منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله.
وقال: ودنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت له زينب: يا عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر؟ فبكى وصرف وجهه عنها.
وقال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم قال: جعل الحسين يشد على الرجال وهو يقول: أعلى قتلي تحابون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم بقتله مني، وأيم الله إني أرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم الله لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: ولقد مكث طويلا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكن كان يتقي بعضهم ببعض دمه، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء مؤنة قتله، حتى نادى شمر بن ذي الجوشن: ماذا تنتظرون بقتله؟
فتقدم إليه زرعة بن شريك التميمي فضربه بالسيف على عاتقه، ثم طعنه سنان بن أنس بن عمرو النخعي بالرمح، ثم نزل فاحتز رأسه ودفعه إلى خولي.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة شمر بن ذي الجوشن، وذو الجوشن صحابي جليل، قيل: اسمه شرحبيل.
وقيل: عثمان بن نوفل.
ويقال: ابن أوس بن الأعور العامري الضبابي، بطن من كلاب، ويكنى شمر بأبي السابغة.
ثم روى من طريق عمر بن شبة: ثنا أبو أحمد، حدثني عمي فضيل بن الزبير، عن عبد الرحيم بن ميمون، عن محمد بن عمرو بن حسن قال: كنا مع الحسين بنهري كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله، قال رسول الله ﷺ: «كأني أنظر إلى كلب أبقع بلغ في دماء أهل بيتي».
وكان شمر - قبحه الله - أبرص.
وأخذ سنان وغيره سلبه، وتقاسم الناس ما كان من أمواله وحواصله وما في خبائه، حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة.
وقال أبو مخنف: عن جعفر بن محمد قال: وجدنا بالحسين حين قتل ثلاث وثلاثين طعنة، وأربع وثلاثين ضربة، وهَمَّ شمر بن ذي الجوشن بقتل علي بن الحسين الأصغر زين العابدين، وهو صغير مريض حتى صرفه عن ذلك حميد بن مسلم أحد أصحابه.
وجاء عمر بن سعد فقال: ألا لا يدخلن على هذه النسوة أحد، ولا يقتل هذا الغلام أحد، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم.
قال: فوالله ما رد أحد شيئا.
فقال له علي بن الحسين: جزيت خيرا، فقد دفع الله عني بمقالتك شرا.
قالوا: ثم جاء سنان بن أنس إلى باب فسطاط عمر بن سعد، فنادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضة وذهبا * أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال عمر بن سعد: أدخلوه علي، فلما دخل رماه بالسوط، وقال: ويحك! أنت مجنون، والله لو سمعك ابن زياد تقول هذا لضرب عنقك.
ومنَّ عمر بن سعد على عقبة بن سمعان حين أخبره أنه مولى، فلم ينج منهم غيره.
والمرقع بن يمانة أسر فمنَّ عليه ابن زياد، وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفسا، فدفنهم أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم واحد.
قال: ثم أمر عمر بن سعد أن يوطأ الحسين بالخيل ولا يصح ذلك والله أعلم.
وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون نفسا.
وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال: قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من أولاد فاطمة.
وعن الحسن البصري أنه قال: قتل مع الحسين ستة عشر رجلا كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض يومئذٍ لهم شبه.
وقال غيره: قتل معه من ولده إخوته، وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلا.
فمن أولاد علي رضي الله عنه: جعفر، والحسين، والعباس، ومحمد، وعثمان، وأبو بكر.
ومن أولاد الحسين: علي الأكبر، وعبد الله.
ومن أولاد أخيه الحسن ثلاثة: عبد الله، والقاسم، وأبو بكر بنو الحسن بن علي بن أبي طالب.
ومن أولاد عبد الله بن جعفر اثنان: عون، ومحمد.
ومن أولاد عقيل: جعفر، وعبد الله، وعبد الرحمن، ومسلم قتل قبل ذلك كما قدمنا.
فهؤلاء أربعة لصلبه، واثنان آخران هما: عبد الله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل، فكملوا ستة من ولد عقيل، وفيهم يقول الشاعر:
واندبي تسعة لصلب علي * قد أصيبوا وستة لعقيل
وسمى النبي غودر فيهم * قد علوه بصارم مصقول
وممن قتل مع الحسين بكربلاء، أخوه من الرضاعة عبد الله بن بقطر، وقد قيل: إنه قتل قبل ذلك حيث بعث معه كتابا إلى أهل الكوفة، فحمل إلى ابن زياد فقتله، وقتل من أهل الكوفة من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم.
ويقال: إن عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة، وأمر برأسه أن يحمل من يومه إلى ابن زياد مع خولي بن يزيد الأصبحي، فلما انتهى به إلى القصر وجده مغلقا، فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجانة، وقال لامرأته نوار بنت مالك: جئتك بعز الدهر.
فقالت: وما هو؟
فقال: برأس الحسين.
فقالت: جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت أنت برأس ابن بنت رسول الله ﷺ؟ والله لا يجمعني وإياك فراش أبدا، ثم نهضت عنه من الفراش واستدعى بامرأة له أخرى من بني أسد فنامت عنده.
قالت المرأة الثانية الأسدية: والله ما زلت أرى النور ساطعا من تلك الإجانة إلى السماء، وطيورا بيضاء ترفرف حولها، فلما أصبح غدا به إلى ابن زياد فأحضره بين يديه.
ويقال: إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه، وهو المشهور، ومجموعها اثنان وسبعون رأسا، وذلك أنه ما قتل قتيل إلا احتزوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية إلى الشام.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسين، ثنا جرير، عن محمد، عن أنس قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئا، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله ﷺ، وكان مخضوبا بالوشمة.
ورواه البخاري في المناقب عن محمد بن الحسين بن إبراهيم - هو ابن إشكاب - عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس فذكره.
وقد رواه الترمذي، من حديث حفصة بنت سيرين، عن أنس قال: حسن صحيح، وفيه: فجعل ينكت بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيت مثل هذا حسنا.
وقال البزار: حدثنا مفرج بن شجاع بن عبيد الله الموصلي، ثنا غسان بن الربيع، ثنا يونس بن عبيدة، عن ثابت وحميد، عن أنس قال: لما أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه ويقول: لقد كان - أحسبه قال جميلا -
فقلت: والله لأسوءنك، إني رأيت رسول الله ﷺ يلثم حيث يقع قضيبك.
قال: فانقبض.
تفرد به البزار من هذا الوجه، وقال: لا نعلم رواه عن حميد غير يونس بن عبدة، وهو رجل من أهل البصرة مشهور، وليس به بأس.
ورواه أبو يعلى الموصلي: عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس فذكره.
ورواه قرة بن خالد، عن الحسن، عن أنس فذكره.
وقال أبو مخنف: عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال.
دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بما فتح الله عليه وبعافيته، فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وقد دخل عليه الوفد الذين قدموا عليه فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين ثناياه ساعة.
فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله ﷺ على هاتين الثنيتين يقبلهما، ثم انفضخ الشيخ يبكي.
فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.
قال: فنهض فخرج، فلما خرج قال الناس: والله لقد قال زيد بن أرقم كلاما لو سمعه ابن زياد لقتله.
قال: فقلت ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول:
ملك عبد عبيدا * فاتخذهم تليدا
أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شرار كم، فبعدا لمن رضي بالذل.
وقد روي من طريق أبي داود بإسناده عن زيد بن أرقم بنحوه.
ورواه الطبراني من طريق ثابت عن زيد.
وقد قال الترمذي: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير قال.
لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فنصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيب.
ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا.
ثم قال الترمذي: حسن صحيح.
وأمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم، فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي.
فقال: ويحك يا ابن زياد!! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين! فأمر به ابن زياد فقتل وصلب.
ثم أمر برأس الحسين فنصب بالكوفة وطيف به في أزقتها، ثم سيره مع زحر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية بالشام، وكان مع زحر جماعة من الفرسان، منهم: أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بالرؤوس كلها على يزيد بن معاوية.
قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير.
قال: والله إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد: ويحك ما وراءك؟
فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علي بن أبي طالب وثمانية عشر من أهل بيته، وستون رجلا من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال.
فغدونا إليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمام من صقر.
فوالله ما كانوا إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم.
قال: فدمعت عينا يزيد بن معاوية وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، ورحم الله الحسين.
ولم يصل الذي جاء برأسه بشيء.
ولما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد قال: أما والله لو إني صاحبك ما قتلتك، ثم أنشد قول الحسين بن الحمام المري الشاعر:
يفلقن هاما من رجالٍ أعزّةٍ * علينا وهم كانوا أعق وأظلما
قال أبو مخنف: فحدثني أبو جعفر العبسي قال: وقام يحيى بن الحكم -أخو مروان بن الحكم - فقال:
لهام بجنب الطف أدنى قرابةً * من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سميةً أضحى نسلها عدد الحصى * وليس لآل المصطفى اليوم من نسل
قال: فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال له: اسكت.
وقال محمد بن حميد الرازي - وهو شيعي -: حدثنا محمد بن يحيى الأحمري، ثنا ليث، عن مجاهد قال: لما جيء برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد تمثل بهذه الأبيات:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج في وقع الأسل
فأهلّوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا لي هنيا لا تسل
حين حكت بفناء بركها * واستحر القتل في عبد الأسل
قد قتلنا الضعف من أشرافكم * وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل
قال مجاهد: نافق فيها، والله ثم والله ما بقي في جيشه أحد إلا تركه أي: ذمه وعابه.
وقد اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين هل سّيره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا؟
على قولين، الأظهر منهما أنه سيره إليه، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة فالله أعلم.
وقال أبو مخنف: عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الله اليماني، عن القاسم بن بخيت، قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين ابن الحمام المري:
يفلقن هاما من رجال أعزةٍ * علينا وهم كادونا أعق وأظلما
فقال له أبو برزة الأسلمي: أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذا لقد رأيت رسول الله ﷺ يرشفه، ثم قال: ألا إن هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعه محمد، وتجيء وشفيعك ابن زياد.
ثم قام فولى.
وقد رواه ابن أبي الدنيا، عن أبي الوليد، عن خالد بن يزيد بن أسد، عن عمار الدهني، عن جعفر.
قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة، وجعل ينكت بالقضيب فقال له: ارفع قضيبك فلقد رأيت رسول الله ﷺ يلثمه.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني مسلمة بن شبيب، عن الحميدي، عن سفيان، سمعت سالم بن أبي حفصة قال: قال الحسن: لما جيء برأس الحسين جعل يزيد يطعن بالقضيب. [28]؟؟.
قال سفيان: وأخبرت أن الحسن كان ينشد على إثر هذا:
سمية أمسى نسلها عدد الحصى * وبنت رسول الله ليس لها نسل
وأما بقية أهله ونسائه فإن عمر بن سعد وكّل بهم من يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم على الرواحل في الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين هنالك بكته النساء، وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها.
فقالت وهي تبكي:
يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك الله، ومليك السماه، هذا حسين بالعراه، مزمل بالدماه، مقطع الأعضاء يا محمده، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا.
قال: فأبكت والله كل عدوٍ وصديق.
قال قرة بن قيس: لما مرت النسوة بالقتلى صحن ولطمن خدودهن.
قال: فما رأيت من منظر من نسوة قط أحسن من منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله إنهن لأحسن من مهابيرين.
وذكر الحديث كما تقدم.
ثم قال: ثم ساروا بهم من كربلاء حتى دخلوا الكوفة فأكرمهم ابن زياد وأجرى عليهم النفقات والكساوى وغيرها.
قال: دخلت زينب ابنة فاطمة في أرذل ثيابها قد تنكرت وحفّت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد الله بن زياد قال: من هذه؟
فلم تكلمه.
فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة.
فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وكذّب أحدوثتكم.
فقالت: بل الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.
قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم؟
فقالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله.
فغضب ابن زياد واستشاط.
فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل.
وقال أبو مخنف: عن المجالد، عن سعيد: إن ابن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين زين العابدين قال لشرطي: أنظر أأدرك هذا الغلام، فإن كان أدرك فانطلقوا به فاضربوا عنقه؟
فكشف إزاره عنه فقال: نعم!
فقال: اذهب به فاضرب عنقه.
فقال له علي بن الحسين: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن.
فقال له ابن زياد: تعال أنت! فبعثه معهن.
قال أبو مخنف: وأما سليمان بن أبي راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين، فقال له: ما اسمك؟
قال: أنا علي بن الحسين.
قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟
فسكت.
فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلم؟
قال: كان لي أخ يقال له: علي أيضا، قتله الناس.
قال: إن الله قتله.
فسكت.
فقال: مالك لا تتكلم؟
فقال: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [29]
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [30].
قال: أنت والله منهم، ويحك!! انظروا هذا أدرك؟ والله إني لأحسبه رجلا.
فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك.
فقال: اقتله.
فقال علي بن الحسين: من يوكل بهذه النسوة؟
وتعلقت به زينب عمته فقالت: يا ابن زياد حسبك منا ما فعلت بنا، أما رويت من دمائنا؟
وهل أبقيت منا أحدا؟
قال: واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلني معه.
وناداه علي فقال: يا ابن زياد!! إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام.
قال: فنظر إليهن ساعة، ثم نظر إلى القوم فقال: عجبا للرحم!! والله إني لأظن أنها ودّت لو إني قتلته أن أقتلها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك.
قال: ثم إن ابن زياد أمر بنساء الحسين وصبيانه وبناته فجهزن إلى يزيد، وأمر بعلي بن الحسين فغل بغلٍ إلى عنقه، وأرسلهم مع محقر بن ثعلبة العائذي - من عائذة قريش - ومع شمر بن ذي الجوشن قبحه الله.
فلما بلغوا باب يزيد بن معاوية رفع محقر بن ثعلبة صوته فقال: هذا محقر بن ثعلبة، أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة.
فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدت أم محقر شر وألأم.
فلما دخلت الرؤوس والنساء على يزيد، دعا أشراف الشام فأجلسهم حوله، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلن عليه والناس ينظرون.
فقال لعلي بن الحسين: يا علي أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال علي: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ } [31].
فقال يزيد لابنه خالد: أجبه.
قال: فما درى خالد ما يرد عليه.
فقال له يزيد: قل: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [32] فسكت عنه ساعة، ثم دعا بالنساء والصبيان فرأى هيئة قبيحة.
فقال: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينهم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بهم، ولا بعث بكم هكذا.
وروى أبو مخنف: عن الحارث بن كعب، عن فاطمة بنت علي قالت: لما أجلسنا بين يدي يزيد رق لنا وأمر لنا بشيء وألطفنا، ثم إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه - يعنيني - وكنت جارية وضيئة، فارتعدت فزعة من قوله، وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب أختي زينب - وكانت أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يجوز -.
فقالت: لذلك الرجل كذبت والله ولؤمت، وما ذلك لك وله.
فغضب يزيد، فقال لها: كذبتِ! والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت.
قالت: كلا! والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا.
قالت: فغضب يزيد واستطار.
ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.
فقالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك.
قال: كذبتِ يا عدوة الله.
قالت: أنت أمير المؤمنين مسلط تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك.
قالت: فوالله لكأنه استحي فسكت، ثم قام ذلك الرجل فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه.
فقال له يزيد: اعزب وهب الله لك حتفا قاضيا.
ثم أمر يزيد النعمان بن بشير أن يبعث معهم إلى المدينة رجلا أمينا معه رجال وخيل، ويكون علي بن الحسين معهن.
ثم أنزل النساء عند حريمه في دار الخلافة فاستقبلهن نساء آل معاوية يبكين وينحن علي الحسين، ثم أقمن المناحة ثلاثة أيام، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر بن الحسين.
فقال يزيد يوما لعمر بن الحسين: - وكان صغيرا جدا- أتقاتل هذا؟ يعني: ابنه خالد بن يزيد - يريد ذلك ممازحته وملاعبته.
فقال: أعطني سكينا وأعطه سكينا حتى نتقاتل، فأخذه يزيد فضمه إليه وقال: شِنشنةٌ أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية؟.
ولما ودعهم يزيد قال لعلي بن الحسين: قبح الله ابن سمية، أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت.
ثم جهزه وأعطاه مالا كثيرا وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وقال له: كاتبني بكل حاجة تكون لك، فكان ذلك الرسول الذي أرسله معهن يسير عنهن بمعزل من الطريق، ويبعد عنهن بحيث يدركهن طرفه وهو في خدمتهم حتى وصلوا المدينة.
فقالت فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: إن هذا الرجل أرسل معنا قد أحسن صحبتنا فهل لك أن نصله؟
فقالت: والله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا.
قالت وقلت لها: نعطيه حلينا.
قالت: فأخذت سواري ودملجي، وأخذت أختي سوارها ودملجها، وبعثنا به إليه واعتذرنا إليه وقلنا: هذا جزاؤك بحسن صحبتك لنا.
فقال: لو كان الذي صنعت معكم إنما هو للدنيا كان في هذا الذي أرسلتموه ما يرضيني وزيادة، ولكن والله ما فعلت ذلك إلا لله تعالى ولقرابتكم من رسول الله ﷺ.
وقيل: إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة؟
وما الحامل له على ما فعل؟
وما الذي أوقعه فيما وقع فيه؟
قالوا: لا!
قال: يزعم أن أباه خير من أبي، وأمه فاطمة بنت رسول الله ﷺ خير من أمي، وجده رسول الله خير من جدي، وأنه خير مني وأحق بهذا الأمر مني.
فأما قوله: أبوه خير من أبي فقد حاج أبي أباه إلى الله عز وجل، وعلم الناس أيهما حكم له.
وأما قوله: أمه خير من أمي فلعمري إن فاطمة بنت رسول الله ﷺ خير من أمي.
وأما قوله: جده رسول الله خير من جدي، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى أن رسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه إنما أتى من قلة فقهه لم يقرأ: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } الآية [33].
وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } [34].
فلما دخلت النساء على يزيد قالت فاطمة بنت الحسين - وكانت أكبر من سكينة -: يا يزيد! بنات رسول الله ﷺ سبايا.
فقال يزيد: يا بنت أخي، أنا لهذا كنت أكره.
قالت: قلت والله ما تركوا لنا خرصا.
فقال: ابنة أخي! ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك.
ثم أدخلهن داره، ثم أرسل إلى كل امرأة منهن ماذا أخذ لك؟ فليس منهن امرأة تدّعي شيئا بالغا ما بلغ إلا أضعفه لها.
وقال هشام عن أبي مخنف: حدثني أبو حمزة الثمالي، عن عبد الله الثمالي، عن القاسم بن نجيب.
قال: لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين دخلوا به مسجد دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟
قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا.
فوثب مروان وانصرف، وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم فقال: ما صنعتم؟
فقالوا له: مثل ما قالوا لأخيه.
فقال لهم: حجبتم عن محمد ﷺ يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبدا، ثم قام فانصرف.
قال: ولما بلغ أهل المدينة مقتل الحسين بكى عليه نساء بني هاشم ونُحْنَ عليه.
وروي: أن يزيد استشار الناس في أمرهم فقال رجال ممن قبحهم الله: يا أمير المؤمنين لا يتخذن من كلب سوء جروا، اقتل علي بن الحسين حتى لا يبقى من ذرية الحسين أحد.
فسكت يزيد.
فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين اعمل معهم كما كان يعمل معهم رسول الله ﷺ لو رآهم على هذه الحال.
فرق عليهم يزيد وبعث بهم إلى الحمام وأجرى عليهم الكساوى والعطايا والأطعمة، وأنزلهم في داره.
وهذا يرد قول الرافضة: إنهم حملوا على جنائب الإبل سبايا عرايا، حتى كذب من زعم منهم أن الإبل البخاتي إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوراتهن من قبلهن ودبرهن.
ثم كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد أمير الحرمين يبشره بمقتل الحسين، فأمر مناديا فنادى بذلك.
فلما سمع نساء بني هاشم ارتفعت أصواتهن بالبكاء والنوح، فجعل عمرو بن سعيد يقول: هذا بكاء نساء عثمان بن عفان.
وقال عبد الملك بن عمير: دخلت على عبيد الله بن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوالله ما لبث إلا قليلا حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد، وإذا رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار على ترس، ووالله ما لبثت إلا قليلا حتى دخلت على عبد الملك بن مروان وإذا رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يديه.
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تاريخه: حدثني زكريا بن يحيى الضرير، ثنا أحمد بن جناب المصيصي، ثنا خالد بن يزيد، عن عبد الله القسري، ثنا عمار الدهني قال: قلت لأبي جعفر: حدثني عن مقتل الحسين كأني حضرته.
فقال: أقبل الحسين بكتاب مسلم بن عقيل الذي كان قد كتبه إليه يأمره فيه بالقدوم عليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يزيد التميميي، فقال له: أين تريد؟
فقال: أريد هذا المصر.
فقال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه.
فهَمَّ الحسين أن يرجع، وكان معه أخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: والله لا نرجع حتى نأخذ بثأرنا ممن قتل أخانا أو نقتل.
فقال: لا خير في الحياة بعدكم، فسار فلقيه أوائل خيل ابن زياد، فلما رأى ذلك عاد إلى كربلاء، فأسند ظهره إلى قصيتا وحلفا ليقاتل من جهة واحدة.
فنزل وضرب أبنيته وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه بن زياد الريّ وعهد إليه عهده، فقال: اكفني هذا الرجل واذهب إلى عملك.
فقال: اعفني.
فأبى أن يعفيه، فقال: أنظرني الليلة، فأخره فنظر في أمره، فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمره به، فتوجه إليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين: اختر واحدة من ثلاث، إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور.
فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله بن زياد: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي.
فقال الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدا.
فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وجاءه سهم فأصاب ابنا له في حجره فجعل يمسح الدم ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا.
ثم أمر بحبرة فشقها ثم لبسها وخرج بسيفه فقاتل حتى قتل، قتله رجل من مذحج وحز رأسه، فانطلق به إلى ابن زياد وقال في ذلك:
أوقر ركابي فضةً وذهبا * فقد قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا
قال: فأوفده إلى يزيد بن معاوية فوضع رأسه بين يديه، وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعل يزيد ينكت بالقضيب على فيه ويقول:
يفلقن هاما من رجالٍ أعزةٍ * علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
فقال أبو برزة: ارفع قضيبك، فوالله لربما رأيت رسول الله ﷺ واضعا فيه على فيه يلثمه.
قال: وأرسل عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى ابن زياد، ولم يكن بقي من آل الحسين إلا غلام، وكان مريضا مع النساء، فأمر به ابن زياد ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه وقالت: والله لا يقتل حتى تقتلوني.
فرقّ لها وكف عنه، قال: فأرسلهم إلى يزيد فجمع يزيد من كان بحضرته من أهل الشام، ثم دخلوا عليه فهنوه بالفتح، فقام رجل منهم أحمر أزرق - ونظر إلى وصيفة من بناته - فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه.
فقالت زينب: لا ولا كرامة لك ولا له، إلا أن تخرجا من دين الله.
قال: فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كف عن هذا.
ثم أدخلهم على عياله، ثم حملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها واضعة كُمها على رأسها تتلقاهم وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحم
وقد روى أبو مخنف: عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود: أن بنت عقيل هي التي قالت هذا الشعر.
وهكذا حكى الزبير بن بكار: أن زينب الصغرى بنت عقيل بن أبي طالب هي التي قالت ذلك حين دخل آل الحسين المدينة النبوية.
وروى أبو بكر بن الأنباري بإسناده: أن زينب بنت علي بن أبي طالب من فاطمة - وهي زوج عبد الله بن جعفر أم بنيه - رفعت سجف خفائها يوم كربلاء يوم قتل الحسين، وقالت هذه الأبيات فالله أعلم.
وقال هشام بن الكلبي: حدثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن المقدام قال: حدثني عمر بن عكرمة قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة فإذا مولاة لنا تحدثنا قالت: سمعت البارحة مناديا ينادي وهو يقول:
أيها القاتلون ظلما حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم* من نبيٍ ومالكٍ وقبيل
لقد لعنتم على لسان بن داود * وموسى وحامل الإنجيل
قال ابن هشام: حدثني عمرو بن حيزوم الكلبي، عن أمه قالت: سمعت هذا الصوت، وقال الليث وأبو نعيم: يوم السبت.
ومما أنشده الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيره لبعض المتقدمين في مقتل الحسين:
جاؤوا برأسك يا ابن بنت محمدٍ * متزملا بدمائه تزميلا
وكأن بك يا ابن بنت محمدٍ * قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا ولم يتدبروا * في قتلك القرآن والتنزيلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما * وقتلوا بك التكبير والتهليلا
فصل مقتل الحسين رضي الله عنه
وكان مقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين.
وقال هشام بن الكلبي: سنة اثنتين وستين، وبه قال علي بن المديني.
وقال ابن لهيعة: سنة ثنتين أو ثلاث وستين.
وقال غيره: سنة ستين.
والصحيح الأول.
بمكان من الطّفّ يقال له: كربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة أو نحوها.
وأخطأ أبو نعيم في قوله: إنه قتل وله من العمر خمس أو ست وستون سنة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة - يعني: ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: استأذن ملك القطر أن يأتي النبي ﷺ فأذن له فقال لأم سلمة: «احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد»، فجاء الحسين بن علي فوثب حتى دخل، فجعل يصعد على منكب النبي ﷺ.
فقال الملك: أتحبه؟
قال: «نعم!»
فقال: إن أمتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه.
قال: فضرب بيده فأراه ترابا أحمر، فأخذت أم سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها.
قال: فكنا نسمع أنه يقتل بكربلاء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثني عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة - أو أم سلمة -: أن رسول الله ﷺ قال: «لقد دخل عليّ البيت ملك لم يدخل قبلها»، فقال لي: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك الأرض التي يقتل بها.
قال: فأخرج تربة حمراء.
وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أم سلمة.
ورواه الطبراني: عن أبي أمامة وفيه قصة أم سلمة.
ورواه محمد بن سعد، عن عائشة بنحو رواية أم سلمة فالله أعلم.
وروى ذلك من حديث زينب بنت جحش، ولبابة أم الفضل امرأة العباس.
وأرسله غير واحد من التابعين.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا محمد بن هارون، أبو بكر، ثنا إبراهيم بن محمد الرقي، وعلي بن الحسن الرازي قالا: ثنا سعيد بن عبد الملك أبو واقد الحراني، ثنا عطاء بن مسلم، ثنا أشعث بن سحيم، عن أبيه قال: سمعت أنس بن الحارث يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن ابني- يعني: الحسين - يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره».
قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقتل مع الحسين.
قال: ولا أعلم رواه غيره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا شراحيل بن مدرك، عن عبد الله بن يحيى، عن أبيه: أنه سار مع علي - وكان صاحب مطهرته - فلما جاؤوا نينوى وهو منطلق إلى صفين.
فنادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله، بشط الفرات.
قلت: وماذا تريد؟
قال: دخلت على رسول الله ﷺ ذات يوم وعيناه تفيضان فقلت: ما أبكاك يا رسول الله؟
قال: «بلى، قام من عندي جبريل قبل، فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات».
قال: فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟
قال: «فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا». تفرد به أحمد.
وروى محمد بن سعد: عن علي بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن رجل، عن عامر الشعبي، عن علي مثله.
وقد روى محمد بن سعد وغيره من غير وجه عن علي بن أبي طالب أنه مر بكربلاء عند أشجار الحنظل، وهو ذاهب إلى صفين، فسأل عن اسمها، فقيل: كربلاء.
فقال: كربٌ وبلاء.
فنزل فصلى عند شجرة هناك ثم قال: يقتل ههنا شهداء هم خير الشهداء غير الصحابة، يدخلون الجنة بغير حساب -وأشار إلى مكان هناك - فعلّموه بشيء فقتل فيه الحسين.
وقد روي عن كعب الأحبار آثار في كربلاء.
وقد حكى أبو الجناب الكلبي وغيره: أن أهل كربلاء لا يزالون يسمعون نوح الجن على الحسين وهن يقلن:
مسح الرسول جبينه * فله بريقٌ في الخدود
أبواه من عليا قريشٍ * جده خير الجدود
وقد أجابهم بعض الناس فقال:
خرجوا به وفدا إليـ*ـه فهم له شر الوفود
قتلوا ابن بنت نبيهم * سكنوا به ذات الخدود
وروى ابن عساكر: أن طائفة من الناس ذهبوا في غزوة إلى بلاد الروم، فوجدوا في كنسية مكتوبا:
أترجو أمةٌ قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب؟
فسألوهم من كتب هذا؟
فقالوا: إن هذا مكتوب ههنا من قبل مبعث نبيكم بثلاثمائة سنة.
وروي: أن الذين قتلوه رجعوا فباتوا وهم يشربون الخمر والرأس معهم، فبرز لهم قلم من حديد فرسم لهم في الحائط بدم هذا البيت:
أترجو أمةٌ قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب؟
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعفان، ثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.
قال: رأيت رسول الله ﷺ في المنام نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما هذا؟
قال: «هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم».
قال عمار: فأحصينا ذلك اليوم فوجدناه قد قتل في ذلك اليوم.
تفرد به أحمد، وإسناده قوي.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الله بن محمد بن هانىء أبو عبد الرحمن النحوي، ثنا مهدي بن سليمان، ثنا علي بن زيد بن جدعان.
قال: استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع وقال: قتل الحسين والله.
فقال له أصحابه: لِمَ يا ابن عباس؟
فقال: رأيت رسول الله ﷺ ومعه زجاجة من دم.
فقال: «أتعلم ما صنعت أمتي من بعدي؟ قتلوا الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعهما إلى الله».
فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه، وتلك الساعة، فما لبثوا إلا أربعة وعشرين يوما حتى جاءهم الخبر بالمدينة أنه قتل في ذلك اليوم وتلك الساعة.
وروى الترمذي: عن أبي سعيد الأشج، عن أبي خالد الأحمر، عن رزين، عن سلمى قالت: دخلت على أم سلمة وهي تبكي فقلت: ما يبكيك؟
فقالت: رأيت رسول الله ﷺ وعلى رأسه ولحيته التراب.
فقلت: ما لك يا رسول الله؟
قال: «شهدت قتل الحسين آنفا».
وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أنبأنا قرة بن خالد، أخبرني عامر بن عبد الواحد، عن شهر بن حوشب قال: إنا لعند أم سلمة زوج النبي ﷺ فسمعنا صارخةً فأقبلت حتى انتهت إلى أم سلمة، فقالت: قتل الحسين.
فقالت: قد فعلوها، ملأ الله قبورهم - أو بيوتهم -عليهم نارا، ووقعت مغشيا عليها، وقمنا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا ابن مسلم، عن عمار قال: سمعت أم سلمة قالت: سمعت الجن يبكين على الحسين، وسمعت الجن تنوح على الحسين.
رواه الحسين بن إدريس، عن هاشم بن هاشم، عن أمه، عن أم سلمة قالت: سمعت الجن ينحن على الحسين وهن يقلن:
أيها القاتلون جهلا حسينا * أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم * ونبي ومرسل وقبيل
قد لعنتم على لسان ابن داود * وموسى وصاحب الإنجيل
وقد روي من طريق أخرى، عن أم سلمة بشعر غير هذا فالله أعلم.
وقال الخطيب: أنبأنا أحمد بن عثمان بن ساج السكري، ثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، ثنا محمد بن شداد المسمعي، ثنا أبو نعيم، ثنا عبيد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: أوحى الله تعالى إلى محمد إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وأنا قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.
هذا حديث غريب جدا، وقد رواه الحاكم في مستدركه.
وقد ذكر الطبراني ههنا آثارا غريبة جدا، ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبا فاحشا.
من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذٍ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه دم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضا، وأمطرت السماء دما أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذٍ، ونحو ذلك.
وروى ابن لهيعة: عن أبي قبيل المعافري: أن الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم وقت الظهر.
وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دما، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس بما كان معه يومئذٍ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم.
إلى غير ذلك من الأكاذيب، والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.
وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قل من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون.
وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة، وفيما ذكرنا كفاية.
وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروه ما سقته، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى، وقد كان شيعيا، وهو ضعيف الحديث عند الأئمة، ولكنه أخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده والله أعلم.
وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشانا.
ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في دولتهم.
وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون، ويتطيبون، ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم.
وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها، وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه.
وقد ورد في صحيح مسلم الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه، وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه، ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاثة المتقدم ذكرها.
فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها وتتهم على نبيها ﷺ، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قديما وحديثا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.
فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون من الدنيا، وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه.
وليس كل ذلك الجيش كان راضيا كما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبرا عن نفسه بذلك.
وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك والله أعلم.
فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله ﷺ التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء.
وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة.
وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما.
وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما.
وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما، ورسول الله ﷺ سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين.
ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء، وغير ذلك.
وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه علي بن الحسين: عن جده رسول الله ﷺ أنه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها».
رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
وأما قبر الحسين رضي الله عنه
فقد اشتهر عند كثير من المتأخرين أنه في مشهد علي بمكان من الطف عند نهر كربلاء، فيقال: إن ذلك المشهد مبني على قبره فالله أعلم.
وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه بخبر.
وقد كان أبو نعيم، الفضل بن دكين، ينكر على من يزعم أنه يعرف قبر الحسين.
وذكر هشام بن الكلبي: أن الماء لما أجري على قبر الحسين ليمحي أثره نضب الماء بعد أربعين يوما، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمها حتى وقع على قبر الحسين فبكى، وقال: بأبي أنت وأمي، ما كان أطيبك تربتك!!
ثم أنشأ يقول:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه * فطيب تراب القبر دل على القبر
وأما رأس الحسين رضي الله عنه
فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السير أنه بعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، ومن الناس من أنكر ذلك.
وعندي: أن الأول أشهر فالله أعلم.
ثم اختلفوا بعد ذلك في المكان الذي دفن فيه الرأس، فروى محمد بن سعد: أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة فدفنه عند أمه بالبقيع.
وذكر ابن أبي الدنيا من طريق عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمر بن صالح - وهما ضعيفان -: أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي، فأخذ من خزانته فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق.
قلت: ويعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس الثاني.
وذكر ابن عساكر في تاريخه: في ترجمته ريّا حاضنة يزيد بن معاوية، أن يزيد حين وضع رأس الحسين بين يديه تمثل بشعر ابن الزبعري يعني قوله:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
قال: ثم نصبه بدمشق ثلاثة أيام، ثم وضع في خزائن السلاح، حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك جيء به إليه، وقد بقي عظما أبيض، فكفنه وطيبه، وصلى عليه ودفنه في مقبرة المسلمين، فلما جاءت المسودّة - يعني: بني العباس - نبشوه وأخذوه معهم.
وذكر ابن عساكر: أن هذه المرأة بقيت بعد دولة بني أمية، وقد جاوزت المائة سنة فالله أعلم.
وادّعت الطائفة المسمون بالفاطميين الذين ملكوا الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستين وستمائة، أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها، وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر، الذي يقال له: تاج الحسين بعد سنة خمسمائة.
وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة.
وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء، في دولتهم في حدود سنة أربعمائة، كما سنبين ذلك كله إذا انتهينا إليه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
قلت: والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فإنهم جاؤوا برأس فوضعوه في مكان المسجد المذكور، وقالوا: هذا رأس الحسين.
فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم.
فصل شيء من فضائله
روى البخاري من حديث شعبة، ومهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب: سمعت ابن أبي نعيم قال: سمعت عبد الله بن عمر، وسأله رجل من أهل العراق عن المحرم يقتل الذباب.
فقال: أهل العراق يسألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ، وقد قال رسول الله ﷺ: «هما ريحانتاي من الدنيا».
ورواه الترمذي: عن عقبة بن مكرم، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن أبي يعقوب به نحوه: أن رجلا من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب.
فقال ابن عمر: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن بنت محمد ﷺ.
وذكر تمام الحديث.
ثم قال: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن أبي الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله ﷺ: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني» - يعني: حسنا وحسينا -.
وقال الإمام أحمد: حدثنا تليد بن سليمان، كوفي، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.
قال: نظر النبي ﷺ إلى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال: «أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم».
تفرد بهما الإمام أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن عمير، ثنا الحجاج - يعني: ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة.
قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه الواحد، وهذا على عاتقه الآخر، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله! والله إنك لتحبهما.
فقال: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». تفرد به أحمد.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثني عقبة بن خالد، حدثني يوسف بن إبراهيم التميمي: أنه سمع أنس بن مالك يقول: سئل رسول الله ﷺ: أي أهل بيتك أحب إليك؟
قال: «الحسن والحسين».
قال: وكان يقول: «ادع لي ابنيَّ فيشمهما ويضمهما إليه».
وكذا رواه الترمذي عن أبي سعيد الأشج به، وقال: حسن غريب من حديث أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، وعفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس.
أن رسول الله ﷺ كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر فيقول: «الصلاة يا أهل البيت، { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا } [35]».
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن عفان به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة.
وقال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أسامة، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي، عن ثابت، عن البراء: أن رسول الله ﷺ أبصر حسنا وحسينا، فقال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».
ثم قال: حسن صحيح.
وقد روى الإمام أحمد: عن زيد بن الحباب، عن الحسين بن واقد.
وأهل السنن الأربعة من حديث الحسين بن واقد، عن بريدة، عن أبيه.
قال: كان رسول الله ﷺ يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله ﷺ عن المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [36] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتها».
وهذا لفظ الترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد.
ثم قال: حدثنا الحسين بن عرفة، ثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن راشد، عن يعلى بن مرة.
قال: قال رسول الله ﷺ: «حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط».
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.
ورواه أحمد عن عفان، عن وهب، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم به.
ورواه الطبراني عن بكر بن سهل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بن راشد بن سعد، عن يعلى بن مرة أن رسول الله ﷺ قال: «الحسن والحسين سبطان من الأسباط».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري.
قال: قال رسول الله ﷺ: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».
ورواه الترمذي: من حديث سفيان الثوري وغيره، عن يزيد بن أبي زياد، وقال: حسن صحيح.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد، عن مروان الفزاري، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد.
قال: قال رسول الله ﷺ: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة، يحيى وعيسى ﷺ».
وأخرجه النسائي من حديث مروان بن معاوية الفزاري به.
ورواه سويد بن سعيد، عن محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن ربيع بن سعد، عن أبي سابط قال: دخل حسين بن علي المسجد، فقال جابر بن عبد الله: من أحب أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى هذا، سمعته من رسول الله ﷺ. تفرد به أحمد.
وروى الترمذي والنسائي من حديث إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن حذيفة: أن أمه بعثته ليستغفر له رسول الله ﷺ ولها، قال: فأتيته فصليت معه المغرب ثم صلى حين صلى العشاء، ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال: «من هذا؟ حذيفة؟»
قلت: نعم!
قال: «ما حاجتك غفر الله لك ولأمك؟» إن هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قبل هذه الليلة استأذن ربه بأن يسلم عليّ ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا يعرف إلا من حديث إسرائيل.
وقد رُوي مثل هذا من حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث الحسين نفسه، وعمر وابنه عبد الله، وابن عباس، وابن مسعود وغيرهم، وفي أسانيده كلها ضعف، والله أعلم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا موسى بن عطية، عن أبيه، عن أبي هريرة.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في الحسن والحسين: «من أحبني فليحب هذين».
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، ثنا إسماعيل - يعني: ابن جعفر - أخبرني محمد - يعني: ابن حرملة - عن عطاء.
أن رجلا أخبره أنه رأى النبي ﷺ يضم إليه حسنا وحسينا ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».
وقد رُوي عن أسامة بن زيد، وسلمان الفارسي شيء يشبه هذا وفيه ضعف وسقم والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، ثنا كامل وأبو المنذر ابنا كامل، قال أسود: أنبأنا المعنى عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: كنا نصلي مع رسول الله ﷺ العشاء فإذا سجد وثب الحسين والحسن على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما أخذا رفيقا فيضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته أقعدهما على فخذيه.
قال: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله أردهما إلى أمهما؟
قال: فبرقت برقة فقال لهما: «الحقا بأمكما».
قال: فمكث ضؤها حتى دخلا على أمهما.
وقد روى موسى بن عثمان الحضرمي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة نحوه.
وقد روي عن أبي سعيد، وابن عمر قريب من هذا.
فقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا معاذ بن معاذ، ثنا قيس بن الربيع، عن أبي المقدام عبد الرحمن الأزرق، عن علي قال: دخل علي رسول الله ﷺ وأنا نائم، فاستسقى الحسن أو الحسين فقام رسول الله ﷺ إلى شاةٍ لنا كي يحلبها فدرت فجاءه الآخر فنحاه.
فقالت فاطمة: يا رسول الله كأنه أحبهما إليك؟
قال: «لا ولكنه استسقى قبله» ثم قال: «إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة»
تفرد به أحمد.
ورواه أبو داود الطيالسي: عن عمر بن ثابت، عن أبيه، عن أبي فاختة، عن علي فذكر نحوه.
وقد ثبت: أن عمر بن الخطاب كان يكرمهما ويحملهما، ويعطيهما كما يعطي أباهما، وجيء مرة بحلل من اليمن فقسمها بين أبناء الصحابة ولم يعطهما منها شيئا، وقال: ليس فيها شيء يصلح لهما، ثم بعث إلى نائب اليمن فاستعمل لهما حلتين تناسبهما.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا قبيصة بن عقبة، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين مقبلا فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء.
وقال الزبير بن بكار: حدثني سليمان بن الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ بايع الحسن والحسين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر وهم صغار لم يبلغوا، ولم يبايع صغيرا إلا منا.
وهذا مرسل غريب.
وقال محمد بن سعد: أخبرني يعلى بن عبيد، ثنا عبد الله بن الوليد الرصافي، عن عبد الله بن عبيد الله بن عميرة.
قال: حج الحسين بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا ونجائبه تقاد بين يديه.
وحدثنا أبو نعيم - الفضل بن دكين - ثنا حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن الحسين بن علي حج ماشيا وأن نجائبه لتقاد وراءه.
والصواب: أن ذلك إنما هو الحسن أخوه، كما حكاه البخاري.
وقال المدائني: جرى بين الحسن والحسين كلام فتهاجرا، فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن إلى الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقام الحسين فقبله أيضا.
وقال: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا، أني رأيت أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني.
وحكى الأصمعي: عن ابن عون: أن الحسن كتب إلى الحسين يعيب عليه إعطاء الشعراء فقال الحسين: إن أحسن المال ما وقى العرض.
وقد روى الطبراني: حدثنا أبو حنيفة محمد بن حنيفة الواسطي، ثنا يزيد بن البراء بن عمرو ابن البراء الغنوي، ثنا سليمان بن الهيثم قال: كان الحسين بن علي يطوف بالبيت فأراد أن يستلم فما وسع له الناس.
فقال رجل: يا أبا فراس من هذا؟
فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم
في كفه خيزران ريحها عبق * بكف أورع في عرنينه شمم
مشتقة من رسول الله نسبته * طابت عناصره والخيم والشيم
لا يستطيع جواد بعد غايته * ولا يدانيه قوم إن هموا كرموا
من يعرف الله يعرف أوّلية ذا * فالدين من بيت هذا ناله أمم
أيُّ العشائر هم ليست رقابهم * لأولية هذا أوله نعم
هكذا أوردها الطبراني في ترجمة الحسين في معجمه الكبير، وهو غريب، فإن المشهور أنها من قيل الفرزدق في علي بن الحسين لا في أبيه، وهو أشبه فإن الفرزدق لم ير الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسين ذاهب إلى العراق.
فسأل الحسين الفرزدق عن الناس فذكر له ما تقدم ثم أن الحسين قتل بعد مفارقته له بأيام يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت والله أعلم.
وروى هشام عن عوانة قال: قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد: أين الكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين؟
فقال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب.
فقال له ابن زياد: لتجيئن به.
قال: ضاع.
قال: والله لتجيئن به.
قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش أعتذر إليهن بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها إلى سعد بن أبي وقاص لكنت قد أديت حقه.
فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله، صدق عمر والله.
ولوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأن حسينا لم يقتل.
قال: فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله بن زياد.
فصل في شيء من أشعاره التي رويت عنه
فمن ذلك ما أنشده أبو بكر بن كامل، عن عبد الله بن إبراهيم وذكر أنه للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
إغنَ عن المخلوق بالخالق * تسد على الكاذب والصادق
واسترزق الرحمن من فضله * فليس غير الله من رازق
من ظن أن الناس يغنونه * فليس بالرحمن بالواثق
أو ظن أن المال من كسبه * زلت به النعلان من حالق
عن الأعمش أن الحسين بن علي قال:
كلما زيد صاحب المال مالا * زيد في همه وفي الاشتغال
قد عرفناك يا منغصة العيـ*ـش ويا دارَ كل فانٍ وبالي
ليس يصفو لزهدٍ طلب الزهـ * ـد إذا كان مثقلا بالعيال
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: بلغني أن الحسين زار مقابر الشهداء بالبقيع فقال:
ناديت سكان القبور فأسكتوا * وأجابني عن صمتهم ترب الحصا
قالت أتدري ما فعلت بساكني * مزقت لحمهم وخرقت الكسا
وحشوت أعينهم ترابا بعد ما * كانت تأذى باليسير من القذا
أما العظام فإنني مزقتها * حتى تباينت المفاصل والشوا
قطعت ذا زادٍ من هذا كذا * فتركتها رمما يطوف بها البلا
وأنشد بعضهم للحسين رضي الله عنه أيضا:
لئن كانت الدنيا تعد نفيسةً * فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت * فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
وإن كانت الأرزاق شيئا مقدرا * فقله سعي المرء في الرزق أجمل
وإن كانت الأموال للترك جمعها * فما بال متروك به المرء يبخل
ومما أنشد الزبير بن بكار من شعره في امرأته الرباب بنت أنيف، ويقال: بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبي أم ابنته سكينة:
لعمرك إنني لأحب دارا * تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي * وليس للائمي فيها عتاب
ولست لهم وإن عتبوا مطيعا * حياتي أو يعليني التراب
وقد أسلم أبوها على يدي عمر بن الخطاب وأمره عمر على قومه، فلما خرج من عنده خطب إليه علي بن أبي طالب أن يزوج ابنه الحسن أو الحسين من بناته، فزوج الحسن ابنته سلمى، والحسين ابنته الرباب، وزوج عليا ابنته الثالثة، وهي المحياة بنت امرئ القيس في ساعة واحدة، فأحب الحسين زوجته الرباب حبا شديدا وكان بها معجبا يقول فيها الشعر.
ولما قتل بكربلاء كانت معه فوجدت عليه وجدا شديدا، وذكر أنها أقامت على قبره سنة، ثم انصرفت وهي تقول:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقد خطبها بعده خلق كثير من أشراف قريش فقالت: ما كنت لأتخذ حموا بعد رسول الله ﷺ، ووالله لا يؤويني رجلا بعد الحسين سقف أبدا.
ولم تزل عليه كمدة حتى ماتت، ويقال: أنها إنما عاشت بعده أياما يسيرة فالله أعلم.
وابنتها سكينة بنت الحسين كانت من أجمل النساء حتى إنه لم يكن في زمانها أحسن منها فالله أعلم.
وروى أبو مخنف: عن عبد الرحمن بن جندب أن ابن زياد بعد مقتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة فلم ير عبيد الله بن الحر بن يزيد، فتطلبه حتى جاءه بعد أيام فقال: أين كنت يا ابن الحر؟
قال: كنت مريضا.
قال: مريض القلب أم مريض البدن؟
قال: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد منَّ الله عليه بالعافية.
فقال له ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا.
قال: لو كنت مع عدوك لم يخف مكان مثلي، ولكان الناس شاهدوا ذلك.
قال: وعقل عن ابن زياد عقلةً فخرج ابن الحر فقعد على فرسه.
ثم قال: أبلغوه أني لا آتيه والله طائعا.
فقال ابن زياد: أين ابن الحر؟
قال: خرج.
فقال: عليَّ به، فخرج الشرط في طلبه فأسمعهم غليظ ما يكرهون، وترضى عن الحسين وعن أخيه وأبيه، ثم أسمعهم في ابن زياد غليظا من القول، ثم امتنع منهم وقال في الحسين وفي أصحابه شعرا:
يقول أميرٌ غادرٌ حق غادرٍ * ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه
فيا ندمي أن لا أكون نصرته * لذو حسرةٍ ما أن تفارق لازمه
سقى الله أرواح الذين تبارزوا * على نصره سقيا من الغيث دائمه
وقفت على أجداثهم وقبورهم * فكان الحشى ينقض والعين ساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى * سراعا إلى الهيجا حماة حضارمه
تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم * بأسيافهم أسَّاد غبل ضراغمه
فإن يقتلوا تلك النفوس التقية * على الأرض قد أضحت لذلك واجمة
فما إن رأى الراؤون أفضل منهم * لدى الموت سادات وزهر قمامه
أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا * فذى خطة ليست لنا بملائمه
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم * فكم ناقمٍ منا عليكم وناقمه
أهمُّ مرارا أن أسير بجحفلٍ * إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه
فيا بن زيادٍ استعد لحربنا * وموقف ضنكٍ تقصم الظهر قاصمه
وقال الزبير بن بكار: قال سليمان بن قتيبة يرثي الحسين رضي الله عنه:
وإن قتيل ألطفِّ من آل هاشم * أذل رقابا من قريشٍ فذلت
فإن تتبعوه عائذا لبيتٍ تصبحوا * كعادٍ تعمت عن هداها فضلت
مررت على أبيات آل محمدٍ * فألفيتها أمثالها حيث حلت
وكانوا لنا غنما فعادوا رزيةً * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها * وإن أصبحت منهم بزعمي تحلت
إذا افتقرت قيس خبرنا فقيرها * وتقتلنا قيس إذا النعل زلت
وعند يزيد قطرةٌ من دمائنا * سنجزيهم يوما بها حيث حلت
ألم تر أن الأرض أضحت مريضةً * لقتل حسينٍ والبلاد اقشعرت
ومما وقع من الحوادث في هذه السنة - أعني: سنة إحدى وستين - بعد مقتل الحسين.
ففيها: ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان وخراسان حين وفد عليه، وله من العمر أربعة وعشرون سنة، وعزل عنها أخويه عبادا وعبد الرحمن، وسار سلم إلى عمله فجعل ينتخب الوجوه والفرسان، ويحرض الناس على الجهاد.
ثم خرج في جحفل عظيم ليغزو بلاد الترك، ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص، فكانت أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وولدت هناك ولدا أسموه صغدى، وبعثت إليها امرأة صاحب صغدى بتاجها من ذهب ولآلئ؟؟.
وكان المسلمون قبل ذلك لا يشتون في تلك البلاد، فشتى بها سلم بن زياد.
وبعث المهلب بن أبي صفرة إلى تلك المدينة التي هي للترك، وهي: خوارزم فحاصرهم حتى صالحوه على نيف وعشرين ألف ألف، وكان يأخذ منهم عروضا عوضا، فيأخذ الشيء بنصف قيمته فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بذلك المهلب عند سلم بن زياد.
ثم بعث من ذلك ما اصطفاه ليزيد بن معاوية مع مرزبان ومعه وفد، وصالح سلم أهل سمرقند في هذه الغزوة على مالٍ جزيل.
وفيها: عزل يزيد عن إمرة الحرمين عمرو بن سعيد، وأعاد إليها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فولاه المدينة، وذلك أن ابن الزبير لما بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس ويعظم قتل الحسين وأصحابه جدا، ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين، ويترحم على الحسين ويلعن من قتله.
ويقول: أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا في النهار صيامه، أما والله ما كان يستبدل بالقرآن الغنا والملاهي، ولا بالبكاء من خشية الله اللغو والحداء، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حلق الذكر طلب الصيد، - يُعرّض في ذلك بيزيد بن معاوية - فسوف يلقون غيا، ويؤلب الناس على بني أمية ويحثهم على مخالفته، وخلع يزيد.
فبايعه خلق كثير في الباطن، وسألوه أن يظهرها فلم يمكنه ذلك مع وجود عمرو بن سعيد، وكان شديدا عليه ولكن فيه رفق، وقد كان كاتبه أهل المدينة وغيرهم.
وقال الناس: أما إذ قتل الحسين فليس ينازع أحد ابن الزبير، فلما بلغ ذلك يزيد شق ذلك عليه.
وقيل له: إن عمرو بن سعيد لو شاء لبعث إليك برأس ابن الزبير، أو يحاصره حتى يخرجه من الحرم، فبعث فعزله وولى الوليد بن عُتبة فيها.
وقيل: في مستهل ذي الحجة، فأقام للناس الحج فيها، وحلف يزيد ليأتيني ابن الزبير في سلسلة من فضة، وبعث بها مع البريد ومعه برنس من خزٍ ليبر يمينه، فلما مر البريد على مروان وهو بالمدينة وأخبره بما هو قاصد له وما معه من الغل، أنشأ مروان يقول:
فخذها فما هي للعزيز بخطةٍ * وفيها مقال لامرئ متذلل
أعامر إنَّ القوم ساموك خطةً * وذلك في الجيران غزل بمغزل
أراك إذا ما كنت في القوم ناصحا * يقال له بالدلو أدبر وأقبل
فلما انتهت الرسل إلى عبد الله بن الزبير بعث مروان ابنيه عبد الملك، وعبد العزيز ليحضرا مراجعته في ذلك، وقال: أسمعاه قولي في ذلك.
قال عبد العزيز: فلما جلس الرسل بين يديه جعلت أنشده ذلك، وهو يسمع ولا أشعره، فالتفت إليّ فقال: أخبرا أباكما أني أقول:
إني لمن نبعةٍ صمٌ مكاسرها * إذا تناوحت القصباء والعشر
ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
قال عبد العزيز: فما أدري أيما كان أعجب!!
قال أبو معشر: لا خلاف بين أهل السير أن الوليد بن عتبة حج بالناس في هذه السنة، وهو أمير الحرمين وعلى البصرة والكوفة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان وسجستان سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الحسين بن علي رضي الله عنهما
ومعه بضعة عشر من أهل بيته قتلوا جميعا بكربلاء. وقيل: بضعة وعشرون كما تقدم. وقتل معهم جماعة من الأبطال والفرسان.
جابر بن عتيك بن قيس
أبو عبد الله الأنصاري السلمي، شهد بدرا وما معه، وكان حامل راية الأنصار يوم الفتح، كذا قال ابن الجوزي، قال: وتوفي في هذه السنة عن إحدى وسبعين سنة.
حمزة بن عمرو الأسلمي
صحابي جليل ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: سأل حمزة بن عمرو رسول الله ﷺ فقال: إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟
فقال له: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر».
وقد شهد فتح الشام، وكان هو البشير للصديق يوم أجنادين.
قال الواقدي: وهو الذي بشر كعب بن مالك بتوبة الله عليه فأعطاه ثوبيه.
وروى البخاري في التاريخ بإسناد جيد عنه أنه قال: كنا مع رسول الله ﷺ في ليلة مظلمة فأضاءت لي أصابعي حتى جمعت عليها كل متاع كان للقوم.
اتفقوا على أنه توفي في هذه السنة - أعني: سنة إحدى وستين -.
شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري الحجبي
صاحب مفتاح الكعبة، كان أبوه ممن قتله علي بن أبي طالب يوم أحد كافرا، وأظهر شيبة الإسلام يوم الفتح، وشهد حنينا وفي قلبه شيء من الشك، وقد همَّ بالفتك برسول الله ﷺ، فأطلع الله على ذلك رسوله فأخبره بما همَّ به، فأسلم باطنا وجاد إسلامه، وقاتل يومئذ وصبر فيمن صبر.
قال الواقدي عن أشياخه: إن شيبة قال: كنت أقول والله لو آمن بمحمد جميع الناس ما آمنت به.
فلما فتح مكة وخرج إلى هوازن خرجت معه رجاء أن أجد فرصة آخذ بثأر قريش كلها منه.
قال: فاختلط الناس ذات يوم ونزل رسول الله ﷺ عن بغلته فدنوت منه وانتضبت سيفي لأضربه به، فرفع لي شواظ من نار كاد يمحشني، فالتفت إليّ رسول الله ﷺ وقال: «يا شيبة ادن مني»، فدنوت منه فوضع يده على صدري وقال: «اللهم أعذه من الشيطان».
قال: فوالله ما رفع يده حتى لهو يومئذ أحب إليّ من سمعي وبصري.
ثم قال: «اذهب فقاتل».
قال: فتقدمت إلى العدو والله لو لقيت أبي لقتلته لو كان حيا، فلما تراجع الناس، قال لي: «يا شيبة الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك».
ثم حدثني بكل ما كان في نفسي مما لم يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل، فتشهدت وقلت: أستغفر الله.
فقال: «غفر الله لك».
وليَ الحجابة بعد عثمان بن طلحة واستقرت الحجابة في بنيه وبيته إلى اليوم، وإليه ينسب بنو شيبة، وهم حجبة الكعبة.
قال خليفة بن خياط وغير واحد: توفي سنة تسع وخمسين.
وقال محمد بن سعد: بقي إلى أيام يزيد بن معاوية.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: مات في هذه السنة عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، صحابي انتقل إلى دمشق وله بها دار، ولما مات أوصى إلى يزيد بن معاوية وهو أمير المؤمنين.
الوليد بن عقبة بن أبي معيط
ابن أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو وهب القرشي العبشمي، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس.
وأمها: أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وللوليد من الأخوة خالد، وعمارة، وأم كلثوم.
وقد قتل رسول الله ﷺ أباه بعد وقعة بدر من بين الأسرى صبرا بين يديه، فقال: يا محمد من للصبية؟
فقال: «لهم النار»
وكذلك فعل بالنضر بن الحارث.
وأسلم الوليد هذا يوم الفتح، وقد بعثه رسول الله ﷺ على صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فظن أنهم إنما خرجوا لقتاله فرجع، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فأراد أن يجهز إليهم جيشا، فبلغهم ذلك فجاء من جاء منهم ليعتذروا إليه ويخبرونه بصورة ما وقع، فأنزل الله تعالى في الوليد: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ } الآية [37].
ذكر ذلك غير واحد من المفسرين والله أعلم بصحة ذلك.
وقد حكى أبو عمرو بن عبد البر على ذلك الإجماع. وقد ولاه عمر صدقات بني تغلب، وولاه عثمان نيابة الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، سنة خمس وعشرين، ثم شرب الخمر وصلى بأصحابه، ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم؟ ووقع منه تخبيط.
ثم إن عثمان جلده وعزله عن الكوفة بعد أربع سنين فأقام بها، فلما جاء علي إلى العراق سار إلى الرقة واشترى له عندها ضيعة، وأقام بها معتزلا جميع الحروب التي كانت أيام علي ومعاوية وما بعدها إلى أن توفي بضيعته في هذه السنة، ودفن بضيعته وهي على خمسة عشر ميلا من الرقة.
ويقال: إنه توفي في أيام معاوية فالله أعلم.
روى له الإمام أحمد، وأبو داود حديثا واحدا في فتح مكة، وقد ذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة.
وذكر أيضا وفاة أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وقد تقدم ذكر وفاتها في سنة إحدى وخمسين.
وقيل: إنها توفيت سنة ثلاث وستين.
وقيل: سنة ست وستين، والصواب ما ذكرناه.
أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية حذيفة
وقيل: سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشية المخزومية كانت أولا تحت ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد فمات عنها، فتزوجها رسول الله ﷺ ودخل بها في شوال سنة ثنتين بعد وقعة بدر.
وقد كانت سمعت من زوجها أبي سلمة: حديثا عن رسول الله ﷺ.
أنه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أبدله الله خيرا منها».
قالت: فلما مات أبو سلمة قلت ذلك، ثم قلت: ومن هو خير من أبي سلمة أول رجل هاجر؟
ثم عزم الله لي فقلتها فأبدلني الله خيرا منه، رسول الله ﷺ، وكانت من حسان النساء وعابداتهن.
قال الواقدي: توفيت سنة تسع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة.
وقال ابن أبي خيثمة: توفيت في أيام يزيد بن معاوية.
قلت: والأحاديث المتقدمة في مقتل الحسين تدل على أنها عاشت إلى ما بعد مقتله، والله أعلم.
ورضي الله عنها، والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة ثنتين وستين
يقال: فيها قدم وفد المدينة النبوية على يزيد بن معاوية، فأكرمهم وأجازهم بجوائز سنية.
ثم عادوا من عنده بالجوائز فخلعوه وولوا عليهم عبد الله بن حنظلة الغسيل، فبعث إليهم يزيد جندا في السنة الآتية إلى المدينة فكانت وقعة الحرة على ما سنبينه في التي بعدها إن شاء الله تعالى.
وقد كان يزيد عزل عن الحجاز عمرو بن سعيد بن العاص، وولى عليهم الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما دخل المدينة احتاط على الأموال والحواصل والأملاك، وأخذ العبيد الذين لعمرو بن سعيد فحبسهم، - وكانوا نحو ثلاثمائة عبد - فتجهز عمرو بن سعيد إلى يزيد وبعث إلى عبيده أن يخرجوا من السجن ويلحقوا به، وأعد لهم إبلا يركبونها، ففعلوا ذلك.
فما لحقوه حتى وصل إلى يزيد فأكرمه واحترمه ورحب به يزيد، وأدنى مجلسه، ثم أنه عاتبه في تقصيره في شأن ابن الزبير.
فقال له: يا أمير المؤمنين الشاهد يرى مالا يرى الغائب، وإن جل أهل مكة والحجاز ما لأوه علينا وأحبوه ولم يكن لي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذرني ويحترس مني، وكنت أرفق به كثيرا وأداريه لأستمكن منه فأثب عليه، مع أني قد ضيقت عليه ومنعته من أشياء كثيرة.
وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا اسمه واسم أبيه، ومن أي بلاد هو وما جاء له، وماذا يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن عرف أنه يريده رددته صاغرا، إلا خليت سبيله.
وقد وليت الوليد وسيأتيك من عمله وأمره ما لعلك تعرف به فضل مسارعتي واجتهادي في أمرك ومناصحتي لك إن شاء الله، والله يصنع لك ويكبت عدوك.
فقال له يزيد: أنت أصدق ممن رماك وحملني عليك، وأنت ممن أثق به وأرجو معونته وأدخره لذات الصدع، وكفاية المهم وكشف نوازل الأمور العظام، في كلام طويل.
وأما الوليد بن عتبة: فإنه أقام بالحجاز وقد همَّ مرارا أن يبطش بعبد الله بن الزبير فيجده متحذرا ممتنعا قد أعد للأمور أقرانها.
وثار باليمامة رجل آخر يقال له: نجدة بن عامر الحنفي حين قتل الحسين، وخالف يزيد بن معاوية، ولم يخالف ابن الزبير بل بقي على حدة، له أصحاب يتبعونه، فإذا كان ليلة عرفة دفع الوليد بن عتبة بالجمهور وتخلف عنه ابن الزبير وأصحاب نجدة، ثم يدفع كل فريق وحدهم.
ثم كتب نجدة إلى يزيد: إنك بعثت إلينا رجلا أخرق لا يتجه لأمر رشد، ولا يرعوي لعظة الحكيم، فلو بعثت إلينا رجلا سهل الخلق لين الكنف، رجوت أن يسهل به من الأمور ما استوعر منها وأن يجتمع ما تفرق، فانظر في ذلك فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله تعالى.
قالوا: فعزل يزيد الوليد وولى عثمان محمد بن أبي سفيان، فسار إلى الحجاز وإذا هو فتى غرٌ حدثٌ غمر لم يمارس الأمور، فطمعوا فيه، ولما دخل المدينة بعث إلى يزيد منها وفدا فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم وعظم جوائزهم.
ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة، إلا المنذر بن الزبير فإنه سار إلى صاحبه عبيد الله بن زياد بالبصرة، وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف نظير أصحابه من أولئك الوفد، ولما رجع وفد المدينة إليها أظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر وتعزف عنده القينات بالمعازف، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه.
فتابعهم الناس على خلعه، وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على الموت، وأنكر عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، ورجع المنذر بن الزبير من البصرة إلى المدينة فوافق أولئك على خلع يزيد، وأخبرهم عنه أنه يشرب الخمر ويسكر حتى ترك الصلاة، وعابه أكثر مما عابه أولئك.
فلما بلغ ذلك يزيد قال: اللهم إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيت، فأدركه وانتقم منه.
ثم أن يزيدا بعث إلى أهل المدينة النعمان بن بشير ينهاهم عما صنعوا ويحذرهم غب ذلك ويأمرهم بالرجوع إلى السمع والطاعة ولزوم الجماعة، فسار إليهم ففعل ما أمره يزيد وخوفهم الفتنة.
وقال لهم: إن الفتنة وخيمة، وقال: لا طاقة لكم بأهل الشام.
فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا؟
فقال له النعمان: أما والله لكأني وقد تركت تلك الأمور التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب التي تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين، وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلي وخلفت هؤلاء المساكين - يعني: الأنصار - يقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم.
فعصاه الناس فلم يسمعوا منه فانصرف وكان الأمر والله كما قال سواء.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة كذا قال وفيه نظر، فإنه إن كان في وفد أهل المدينة وقد رجعوا من عند يزيد فإنما وفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وإن كان قد حج بالناس فيها الوليد فما قدم وفد المدينة إلى يزيد إلا في أول سنة ثلاث وستين وهو أشبه والله أعلم.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان
بريدة بن الحصيب الأسلمي
كان إسلامه حين اجتاز به رسول الله ﷺ وهو مهاجر إلى المدينة عند كراع الغميم، فلما كان هناك تلقاه بريدة في ثمانين نفسا من أهله فأسلموا، وصلى بهم صلاة العشاء وعلمه ليلتئذٍ صدرا من سورة مريم.
ثم قدم على رسول الله ﷺ المدينة بعد أُحد فشهد معه المشاهد كلها وأقام بالمدينة، فلما فتحت البصرة نزلها واختط بها دارا، ثم خرج إلى غزو خراسان فمات بمرو في خلافة يزيد بن معاوية.
ذكر موته غير واحد في هذه السنة.
الربيع بن خيثم
أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد أصحاب ابن مسعود قال له عبد الله بن مسعود: ما رأيتك قط إلا ذكرت المخبتين، ولو رآك رسول الله ﷺ لأحبك.
وكان ابن مسعود يجله كثيرا.
وقال الشعبي: كان الربيع من معادن الصدق، وكان أورع أصحاب ابن مسعود.
وقال ابن معين: لا يسأل عن مثله، وله مناقب كثيرة جدا، أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة.
علقمة بن قيس أبو شبل النخعي الكوفي
كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم وكان يشبه بابن مسعود، وقد روى علقمة عن جماعة من الصحابة وعنه خلق من التابعين.
عقبة بن نافع الفهري
بعثه معاوية إلى إفريقية في عشرة آلاف فافتتحها، واختط القيروان، وكان موضعها غيضة لا ترام من السباع، والحيات، والحشرات، فدعا الله تعالى فجعلن يخرجن منها بأولادهن من الأوكار والحجار، فبناها ولم يزل بها حتى هذه السنة، غزا أقواما من البربر والروم فقتل شهيدا رضي الله عنه.
عمرو بن حزم
صحابي جليل استعمله رسول الله ﷺ على نجران وعمره سبع عشرة سنة وأقام بها مدة، وأدرك أيام يزيد بن معاوية.
مسلم بن مخلد الأنصاري
الزرقي ولد عام الهجرة، وسمع من رسول الله ﷺ، وشهد فتح مصر، وولي الجند بها لمعاوية ويزيد، ومات في ذي القعدة من هذه السنة.
مسلم بن معاوية الديلمي
صحابي جليل شهد بدرا وأُحدا والخندق مع المشركين، وكانت له في المسلمين نكاية، ثم أسلم وحسن إسلامه، وشهد فتح مكة وحنينا، وحج مع أبي بكر سنة تسع، وشهد حجة الوداع، وعَمَّر ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام قاله الواقدي.
قال: وأدرك أيام يزيد بن معاوية، وقال ابن الجوزي: مات في هذه السنة.
وفيها: توفيت الرباب بنت أنيف امرأة الحسين بن علي التي كانت حاضرة أهل العراق إذ هم يعدون في السبت أو في الجمعة على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول الله ﷺ.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين
ففيها كانت وقعة الحرة: وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية وولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر.
فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك واجتمعوا عند المنبر فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه.
ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة.
فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم، واعتزل الناس علي بن الحسين زين العابدين، وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر.
وقد قال ابن عمر لأهله: لا يخلعن أحد منكم يزيد فتكون الفيصل ويوري الصيلم بيني وبينه، وسيأتي هذا الحديث بلفظه وإسناده في ترجمة يزيد، وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت.
وقال: إنما كنا نبايع رسول الله ﷺ على أن لا نفر، وكذلك لم يخلع يزيد أحد من بني عبد المطلب.
وقد سئل محمد بن الحنفية في ذلك فامتنع من ذلك أشد الامتناع، وناظرهم وجادلهم في يزيد ورد عليهم ما اتهموا يزيد به من شرب الخمر وتركه بعض الصلوات كما سيأتي مبسوطا في ترجمة يزيد قريبا إن شاء الله.
وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه من الحصر والإهانة، والجوع والعطش، وأنه لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه وإلا استؤصلوا عن آخرهم، وبعثوا ذلك مع البريد.
فلما قدم بذلك على يزيد وجده جالسا على سريره ورجلاه في ماء يتبرد به مما به من النقرس في رجليه، فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك وقال: ويلك! ما فيهم ألف رجل؟
قال: بلى.
قال: فهل لا قاتلوا ساعة من نهار؟
ثم بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص فقرأ عليه الكتاب واستشاره فيمن يبعثه إليهم، وعرض عليه أن يبعثه إليهم فأبى عليه ذلك، وقال: إن أمير المؤمنين عزلني عنها وهي مضبوطة وأمورها محكمة، فأما الآن فإنما دماء قريش تراق بالصعيد فلا أحب أن أتولى ذلك منهم، ليتول ذلك من هو أبعد منهم مني.
قال: فبعث البريد إلى مسلم بن عقبة المزني وهو شيخ كبير ضعيف فانتدب لذلك وأرسل معه يزيد عشرة آلاف فارس.
وقيل: اثنا عشر ألفا وخمسة عشر ألف رجل، وأعطى كل واحد منهم مائة دينار.
وقيل: أربعة دنانير، ثم استعرضهم وهو على فرس له.
قال المدائني: وجعل على أهل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيش بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم مسلم بن عقبة المزني من غطفان، وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة.
فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين ولني عليهم أكفك - وكان النعمان أخا عبد الله بن حنظلة لأمه عمرة بنت رواحة - فقال يزيد: لا! ليس لهم إلا هذا الغشمة، والله لأقتلنهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة.
فقال النعمان: يا أمير المؤمنين أنشدك الله في عشيرتك وأنصار رسول الله ﷺ.
وقال عبد الله بن جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل منهم؟
قال: إن فعلوا فلا سبيل عليهم.
وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثا فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثا ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه واستوص به خيرا، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه.
وأمر مسلم إذا فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة لحصار ابن نمير.
وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني.
وقد كان يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد أن يسير إلى الزبير فيحاصره بمكة، فأبى عليه وقال: والله لا أجمعهما للفاسق أبدا، أقتل ابن بنت رسول الله ﷺ، وأغزو البيت الحرام؟
وقد كانت أمه مرجانة قالت له حين قتل الحسين: ويحك ماذا صنعت وماذا ركبت؟
وعنفته تعنيفا شديدا.
قالوا: وقد بلغ يزيد أن ابن الزبير يقول في خطبته: يزيد القرود، شارب الخمور، تارك الصلوات، منعكف على القينات.
فلما جهز مسلم بن عقبة واستعرض الجيش بدمشق جعل يقول:
أبلغ أبا بكرٍ إذا الجيش سرى * وأشرف الجيش على وادي القرى
أجمع سكران من القوم ترى * يا عجبا من ملحد في أم القرى
مخادعٌ للدين يقضي بالفرى
وفي رواية:
أبلغ أبا بكرٍ إذا الأمر انبرى * ونزل الجيش على وادي القرى
عشرون ألفا بين كهلٍ وفتى * أجمع سكران من القوم ترى
قالوا: وسار مسلم بمن معه من الجيوش إلى المدينة، فلما اقترب منها اجتهد أهل المدينة في حصار بني أمية.
وقالوا لهم: والله لنقتلنكم عن آخركم أو تعطونا موثقا أن لا تدلوا علينا أحدا من هؤلاء الشاميين، ولا تمالئوهم علينا، فأعطوهم العهود بذلك.
فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية فجعل مسلم يسألهم عن الأخبار فلا يخبره أحد، فانحصر لذلك.
جاءه عبد الملك بن مروان فقال له: إن كنت تريد النصر فأنزل شرقي المدينة في الحرة، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس في أقفيتكم وفي وجوههم، فادعهم إلى الطاعة، فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، فإن الله ناصرك عليهم إذ خالفوا الإمام وخرجوا عن الطاعة.
فشكره مسلم بن عقبة على ذلك، وامتثل ما أشار به، فنزل شرقي المدينة في الحرة، ودعا أهلها ثلاثة أيام، كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة.
فلما مضت الثلاثة قال لهم في اليوم الرابع - وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين -.
قال لهم: يا أهل المدينة مضت الثلاث وإن أمير المؤمنين قال لي: إنكم أصله وعشيرته، وأنه يكره إراقة دمائكم، وأنه أمرني أن أؤجلكم ثلاثا فقد مضت، فماذا أنتم صانعون؟
أتسالمون أم تحاربون؟
فقالوا: بل نحارب.
فقال: لا تفعلوا بل سالموا ونجعل جدنا وقوتنا على هذا الملحد - يعني: ابن الزبير -.
فقالوا: يا عدو الله، لو أردت ذلك لما مكناك منه، أنحن نذركم تذهبون فتلحدون في بيت الله الحرام، ثم تهيأوا للقتال، وقد كانوا اتخذوا خندقا بينهم وبين ابن عقبة، وجعلوا جيشهم أربعة أرباع على كل ربع أمير، وجعلوا أجمل الأرباع الربع الذي فيه عبد الله بن حنظلة الغسيل، ثم اقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزم أهل المدينة إليها.
وقد قتل من الفريقين خلق من السادات والأعيان، منهم: عبد الله بن مطيع، وبنون له سبعة بين يديه، وعبد الله بن حنظلة الغسيل، وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شماس، ومحمد بن عمرو بن حزم، وقد مر به مروان وهو مجندل فقال: رحمك الله، فكم من سارية قد رأيتك تطيل عندها القيام والسجود.
ثم أباح مسلم بن عقبة، الذي يقول فيه السلف: مسرف بن عقبة - قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله - المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد، لا جزاه الله خيرا، وقتل خيرا خلقا من أشرافها وقرائها، وانتهب أموالا كثيرة منها، ووقع شرُّ عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد.
فكان ممن قتل بين يديه صبرا معقل بن سنان، وقد كان صديقه قبل ذلك، ولكن أسمعه في يزيد كلاما غليظا، فنقم عليه بسببه، واستدعى بعلي بن الحسين فجاء يمشي بين مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ليأخذ له بهما عنده أمانا، ولم يشعر أن يزيد أوصاه به.
فلما جلس بين يديه استدعى مروان بشراب - وقد كان مسلم بن عقبة حمل معه من الشام ثلجا إلى المدينة فكان يشاب له بشرابه - فلما جيء بالشراب شرب مروان قليلا ثم أعطى الباقي لعلي بن الحسين ليأخذ له بذلك أمانا، وكان مروان موادا لعلي بن الحسين.
فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قد أخذ الإناء في يده قال له: لا تشرب من شرابنا.
ثم قال له: إنما جئت مع هذين لتأمن بهما؟
فارتعدت يد علي بن الحسين وجعل لا يضع الإناء من يده ولا يشربه.
ثم قال له: لولا أن أمير المؤمنين أوصاني بك لضربت عنقك، ثم قال له: إن شئت أن تشرب فاشرب، وإن شئت دعونا لك بغيرها.
فقال: هذه الذي في كفي أريد، فشرب.
ثم قال له مسلم بن عقبة: قم إلى ههنا فاجلس، فأجلسه معه على السرير، وقال له: إن أمير المؤمنين أوصاني بك، وإن هؤلاء شغلوني عنك.
ثم قال لعلي بن الحسين: لعل أهلك فزعوا.
فقال: إي والله.
فأمر بدابته فأسرجت ثم حمله عليها حتى ردّه إلى منزله مكرما.
ثم استدعى بعمرو بن عثمان بن عفان - ولم يكن خرج مع بني أمية - فقال له: إنك إن ظهر أهل المدينة قلت: أنا معكم، وإن ظهر أهل الشام، قلت: أنا ابن أمير المؤمنين، ثم أمر به فنتفت لحيته بين يديه - وكان ذا لحية كبيرة -.
قال المدائني: وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال.
فأرسلت سعدى بنت عوف المرية إلى مسلم بن عقبة تقول له: أنا بنت عمك فمر أصحابك أن لا يتعرضوا لإبلنا بمكان كذا وكذا.
فقال لأصحابه: لا تبدأوا إلا بأخذ إبلها أولا.
وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك، وابني في الأسارى، فقال: عجلوه لها، فضربت عنقه.
وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين أن لا يقتل حتى تتكلمي في ابنك؟
ووقعوا على النساء حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج والله أعلم.
قال المدائني: عن أبي قرة قال: قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج.
وقد اختفى جماعة من سادات الصحابة منهم: جابر بن عبد الله، وخرج أبو سعيد الخدري فلجأ إلى غار في جبل، فلحقه رجل من أهل الشام، قال: فلما رأيته انتضيت سيفي فقصدني.
فلما رآني صمم على قتلي، فشممت سيفي ثم قلت: «إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين» فلما رأى ذلك، قال: من أنت؟
قلت: أنا أبو سعيد الخدري.
قال: صاحب رسول الله ﷺ.
قلت: نعم! فمضى وتركني.
قال المدائني: وجيء إلى مسلم بسعيد بن المسيب فقال له: بايع!
فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر.
فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل إنه مجنون فخلى سبيله.
وقال المدائني: عن عبد الله القرشي وأبي إسحاق التميمي قالا: لما انهزم أهل المدينة يوم الحرة صاح النساء والصبيان، فقال ابن عمر: بعثمان ورب الكعبة.
قال المدائني: عن شيخ من أهل المدينة.
قال: سألت الزهري: كم كان القتلى يوم الحرة؟
قال: سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف.
قال: وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام.
قال الواقدي، وأبو معشر: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة، سنة ثلاث وستين.
قال الواقدي: عن عبد الله بن جعفر، عن ابن عوف قال: وحج بالناس في هذه السنة: عبد الله بن الزبير، وكانوا يسمونه العائذ - يعني: العائذ بالبيت - ويرون الأمر شورى، وجاء خبر الحرة إلى أهل مكة ليلة مستهل المحرم مع سعيد مولى المسور بن مخرمة، فحزنوا حزنا شديدا وتأهبوا لقتال أهل الشام.
قال ابن جرير: وقد رويت قصة الحرة على غير ما رواه أبو مخنف: فحدثني أحمد بن زهير، ثنا أبي، سمعت وهب بن جرير، ثنا جويرية بن أسماء قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا ابنه يزيد.
فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته لنا، فلما هلك معاوية وفد إلى يزيد وفد من أهل المدينة، وكان ممن وفد إليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر -وكان شريفا فاضلا سيدا عابدا - ومعه ثمانية بنين له، فأعطاه يزيد مائة ألف درهم، وأعطى بنيه كل واحد منهم عشرة آلاف، سوى كسوتهم وحملاتهم.
ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدمها أتاه الناس فقالوا له: ما وراءك؟
فقال: جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم.
قالوا: قد بلغنا أنه أعطاك وأخدمك وأجزاك وأكرمك.
قال: قد فعل وما قبلت منه إلا لأتقوى له على قتاله، ثم فحض الناس فبايعوه.
فبلغ ذلك يزيد فبعث إليهم مسلم بن عقبة، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام فصبوا فيه زقا من قطران وغوَّروه، فأرسل الله على جيش الشام السماء مدرارا بالمطر، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة.
فخرج أهل المدينة بجموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم، وكان أميرهم مسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، قد أقحم عليهم بنو حارثة من أهل الشام وهم على الجدر، فانهزم الناس، فكان من أصيب في الخندق أعظم ممن قتل.
فدخلوا المدينة وعبد الله بن حنظلة مستند إلى الجدار يغط نوما، فنبهه ابنه، فلما فتح عينيه ورأى ما صنع الناس، أمر أكبر بنيه فتقدم فقاتل حتى قتل.
فدخل مسلم بن عقبة المدينة فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية، ويحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد الصمد من تاريخه من كتاب المجالسة لأحمد بن مروان المالكي: ثنا الحسين بن الحسن اليشكري، ثنا الزيادي عن الأصمعي ح.
وحدثني محمد بن الحارث، عن المدائني قال: لما قتل أهل الحرة هتف هاتف بمكة على أبي قبيس مساء تلك الليلة، وابن الزبير جالس يسمع:
والصائمون القانتو* ن أولو العبادة والصلاح
المهتدون المحسنو* ن السابقون إلى الفلاح
ماذا بواقم والبقيـ*ـع من الجحاجحة الصباح
وبقاع يثرب ويحهنـ*ـن من النوادب والصياح
قتل الخيار بنوا الخيا * ر ذوي المهابة والسماح
فقال ابن الزبير: يا هؤلاء قتل أصحابكم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أخطأ يزيد خطأً فاحشا في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا خطأ كبير فاحش، مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم، وقد تقدم أنه قتل الحسين وأصحابه على يدي عبيد الله بن زياد.
وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه، ودوام أيامه من غير منازع، فعاقبه الله بنقيض قصده، وحال بينه وبين ما يشتهيه، فقصمه الله قاصم الجبابرة، وأخذه أخذً عزيز مقتدر، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا الحسين بن حريث، ثنا الفضل بن موسى، ثنا الجعد، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء».
وقد رواه مسلم من حديث أبي عبد الله القراظ المديني - واسمه دينار - عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله ﷺ قال: «لا يريد أحد المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص - أو ذوب الملح في الماء -».
وفي رواية لمسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن سعد وأبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: «من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، ثنا يزيد بن خصيفة، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد: أن رسول الله ﷺ قال: «من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا». ورواه النسائي من غير وجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن عطاء بن يسار، عن خلاد بن منجوف بن الخزرج أخبره فذكره.
وكذلك رواه الحميدي، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن خصيفة.
ورواه النسائي أيضا: عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن أبي مريم، عن عطاء بن يسار، عن ابن خلاد - وكان من أصحاب النبي ﷺ - فذكره.
وقال ابن وهب: أخبرني حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن أبي بكر، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
وقال الدار قطني: ثنا علي بن أحمد بن القاسم، ثنا أبي، ثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، ثنا أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن أنيس الأنصاري، عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله قالا: خرجنا مع أبينا يوم الحرة وقد كف بصره فقال: تعس من أخاف رسول الله ﷺ.
فقلنا: يا أبة وهل أحد يخيف رسول الله ﷺ؟
فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أخاف أهل هذا الحي من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين» - ووضع يده على جبينه -.
قال الدار قطني: تفرد به سعد بن عبد العزيز لفظا وإسنادا.
وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وابنه القاضي أبو الحسين، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد، وجوز لعنته.
ومنع من ذلك آخرون وصنفوا فيه أيضا لئلا يجعل لعنة وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول وأخطأ.
وقالوا: إنه كان مع ذلك إماما فاسقا، والإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا.
وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرة من مسلم بن عقبة وجيشه، فرح بذلك فرحا شديدا، فإنه كان يرى أنه الإمام وقد خرجوا عن طاعته، وأمروا عليهم غيره، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة.
كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة كما تقدم، وقد جاء في الصحيح: «من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان».
وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك واستشهاده بشعر ابن الزبعري في وقعة أُحد التي يقول فيها:
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حلت بفنائهم برَّكها * واستحر القتل في عبد الأشل
قد قتلنا الضعف من أشرافهم * وعدنا ميل بدرٍ فاعتدل
وقد زاد بعض الروافض فيها فقال:
لعبت هاشم بالملك فلا * ملك جاءه ولا وحيٌ نزل
فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنه اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنه الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه.
وسيذكر في ترجمة يزيد بن معاوية قريبا، وما ذكر عنه وما قيل فيه، وما كان يعانيه من الأفعال والقبائح والأقوال في السنة الآتية، فإنه لم يمهل بعد وقعة الحرة وقتل الحسين إلا يسيرا حتى قصمه الله الذي قصم الجبابرة قبله وبعده، إنه كان عليما قديرا.
وقد توفي في هذه السنة خلق من المشاهير والأعيان من الصحابة وغيرهم في وقعة الحرة مما يطول ذكرهم.
فمن مشاهيرهم من الصحابة عبد الله بن حنظلة أمير المدينة في وقعة الحرة، ومعقل بن سنان، وعبيد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، ومسروق بن الأجدع.
ثم دخلت سنة أربع وستين
ففيها: في أول المحرم منها سار مسلم بن عقبة إلى مكة قاصدا قتال ابن الزبير ومن التفَّ عليه من الأعراب، على مخالفة يزيد بن معاوية، واستخلف على المدينة روح بن زنباع.
فلما بلغ ثنية هرشا بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، فقال: إن أمير المؤمنين عهد إليّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حُصين بن نمير السكوني، ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت.
ثم دعا به فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به، ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث.
ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أحب إليّ من قتل أهل المدينة، وأجزى عندي في الآخرة.
وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي، ثم مات قبحه الله ودفن بالمسلك فيما قاله الواقدي.
ثم أتبعه الله بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الأول لأربع عشرة ليلة خلت منه، فما متعهما الله بشيء مما رجوه وأملوه، بل قهرهم القاهر فوق عباده، وسلبهم الملك، ونزعه منهم من ينزع الملك ممّن يشاء.
وسار حصين بن نمير بالجيش نحو مكة فانتهى إليها لأربع بقين من المحرم فيما قاله الواقدي.
وقيل: لسبع مضين منه.
وقد تلاحق بابن الزبير جماعات ممن بقي من أشراف أهل المدينة، وانضاف إليه نجدة بن عامر الحنفي - من أهل اليمانة - في طائفة من أهلها ليمنعوا البيت من أهل الشام، فنزل حصين بن نمير ظاهر مكة، وخرج إليه ابن الزبير في أهل مكة ومن التفّ معه فاقتتلوا عند ذلك قتالا شديدا.
وتبارز المنذر بن الزبير ورجل من أهل الشام فقتل كل واحد منهما صاحبه، وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة.
فانكشف أهل مكة، وعثرت بغلة عبد الله بن الزبير به، فكرّ عليه المسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف وطائفة فقاتلوا دونه حتى قتلوا جميعا، وصابرهم ابن الزبير حتى الليل فانصرفوا عنه ثم اقتتلوا في بقية شهر المحرم وصفرا بكماله.
فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على الكعبة ورموها حتى بالنار، فاحترق جدار البيت في يوم السبت، وهذا قول الواقدي، وهم يقولون:
خطَّاره مثل الفتيق المزبد * ترمى بها جدران هذا المسجد
وجعل عمر بن حوطة السدوسي يقول:
كيف ترى صنيع أم فروة * تأخذهم بين الصفا والمروة
وأم فروة اسم المنجنيق.
وقيل: إنما احترقت لأن أهل المسجد جعلوا يوقدون النار وهم حول الكعبة، فعلقت النار في بعض أستار الكعبة فسرت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت.
وقيل: إنما احترقت لأن ابن الزبير سمع التكبير على بعض جبال مكة في ليلة ظلماء، فظن أنهم أهل الشام، فرفعت نار على رمح لينظروا من هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت الريح شررة من رأس الرمح إلى ما بين الركن اليماني والأسود من الكعبة، فعلقت في أستارها وأخشابها فاحترقت، وأسود الركن وانصدع في ثلاثة أمكنة منه.
واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء الناس نعُي يزيد بن معاوية، وأنه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن خمس أو ثمان، أو تسع وثلاثين سنة.
فكانت ولايته ثلاث سنين وستة أو ثمانية أشهر، فغُلب أهل الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة.
ويقال: إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة، ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام، فنادى فيهم: يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع، فلم يصدق الشاميون أهل مكة فيما أخبروهم به.
حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع بالخبر اليقين.
ويذكر أن حصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدثه بين الصفين فاجتمعا حتى اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفها.
فقال له ابن الزبير: مالك؟
فقال: أن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل من الروث فأكره أن أطأ حمام الحرم.
فقال له: تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين؟
فقال له حصين: فأذن لنا فلنطف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا.
وذكر ابن جرير أن حصينا وابن الزبير اتعدا ليلة أن يجتمعا فاجتمعا بظاهر مكة، فقال له حصين: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر بعده، فهلم فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك اثنان.
فيقال: إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك، وأغلظ له في المقال فنفر منه ابن نمير وقال: أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال؟
ثم كر بالجيش راجعا إلى الشام.
وقال: أعده بالملك، ويتواعد بالقتل؟
ثم ندم ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له: أما الشام فلست آتية، ولكن خذ لي البيعة على من هناك، فإني أؤمنكم وأعدل فيكم.
فبعث إليه يقول له: إن من يبتغيها من أهل البيت بالشام لكثير.
فرجع فاجتاز بالمدينة فطمع فيه أهلها وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم علي بن الحسين زين العابدين، وأهدى لحصين ابن نمير قتا وعلفا وارتحلت، بنو أمية مع الجيش إلى الشام فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد استخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك، والله سبحانه أعلم بالصواب.
وهذه ترجمة يزيد بن معاوية
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أمير المؤمنين أبو خالد الأموي.
ولد سنة خمس أو ست أو سبع وعشرين، وبويع له بالخلافة في حياة أبيه أن يكون ولي العهد من بعده، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين، فاستمر متوليا إلى أن توفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة أربع وستين.
وأمه ميسون بنت مخول بن أنيف بن دلجة بن نفاثة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي.
روى عن أبيه معاوية أن رسول الله ﷺ قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».
وحديثا آخر في الوضوء.
وعنه ابنه خالد، وعبد الملك بن مروان، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، وهي العليا، وقال: له أحاديث، وكان كثير اللحم، عظيم الجسم، كثير الشعر، جميلا طويلا، ضخم الهامة، محدد الأصابع غليظها مجدرا.
وكان أبوه قد طلق أمه وهي حامل به، فرأت أمه في المنام أنه خرج منها قمر من قُبلها، فقصّت رؤياها على أمها فقالت: إن صدقت رؤياك لتلدن من يبايع له بالخلافة.
وجلست أمه ميسون يوما تمشطه وهو صبي صغير، وأبوه معاوية مع زوجته الحظية عنده في المنظرة، وهي فاختة بنت قرظة، فلما فرغت من مشطه نظرت أمه إليه فأعجبها فقبلته بين عينيه، فقال معاوية عند ذلك:
إذا مات لم تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما
وانطلق يزيد يمشي وفاختة تتبعه بصرها ثم قالت: لعن الله سواد ساقي أمك.
فقال معاوية: أما والله إنه لخير من ابنك عبد الله - وهو ولده منها وكان أحمق -.
فقالت فاختة: لا والله لكنك تؤثر هذا عليه.
فقال: سوف أبين لك ذلك حتى تعرفينه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم استدعى بابنها عبد الله فقال له: إنه قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا.
فقال: حاجتي أن تشتري لي كلبا فارها وحمارا فارها.
فقال: يا بني أنت حمار وتشتري لك حمارا؟ قم فاخرج.
ثم قال لأمه: كيف رأيت؟
ثم استدعى بيزيد فقال: إني قد بدا لي أن أعطيك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فسلني ما بدا لك.
فخر يزيد ساجدا ثم قال حين رفع رأسه: الحمد لله الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة، وأراه فيّ هذا الرأي.
حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتوليني العام صائفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتوليني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل في عطائه، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتعرض لأيتام بني جمح، وأيتام بني سهم، وأيتام بني عدي.
فقال: مالك ولأيتام بني عدي؟
فقال: لأنهم حالفوني وانتقلوا إلى داري.
فقال معاوية: قد فعلت ذلك كله، وقبّل وجهه.
ثم قال لفاختة بنت قرظة: كيف رأيت؟
فقالت: يا أمير المؤمنين أوصه بي فأنت أعلم به مني، ففعل.
وفي رواية: أن يزيد لما قال له أبوه: سلني حاجتك.
قال له يزيد: اعتقني من النار أعتق الله رقبتك منها.
قال: وكيف؟
قال: لأني وجدت في الآثار أنه من تقلد أمر الأمة ثلاثة أيام حرّمه الله على النار، فاعهد إليّ بالأمر من بعدك ففعل.
وقال العتبي: رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما له فقال له: اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك!! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟
والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الأحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر.
قلت: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ رأى أبا مسعود يضرب غلاما له فقال: «اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه».
قال العتبي: وقدم زياد بأموال كثيرة وبسفط مملوء جواهر على معاوية فسرّ بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر ثم أفتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية.
فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بني أمية.
فقال له معاوية: اجلس فداك أبي وأمي.
وعن عطاء بن السائب قال: غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره.
فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين إنما هم أولادنا، ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فارضهم، وإن طلبوا فأعطهم، ولا تكن عليهم ثقلا فيملوا حياتك ويتمنوا موتك.
فقال معاوية: لله درك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأقره مني السلام وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائة ألف درهم، ومائة ثوب.
فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين؟
فقال الأحنف، فقال يزيد: لا جرم لأقاسمنه، فبعث إلى الأحنف بخمسين ألفا وخمسين ثوبا.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا ابن عائشة، عن أبيه.
قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب يأخذ مأخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك فأحب أن يعظه في رفق، فقال: يا بني ما أقدرك على أن تصل إلى حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ويشمت بك عدوك، ويسيء بك صديقك، ثم قال: يا بني إني منشدك أبياتا فتأدب بها واحفظها، فأنشده:
أنصب نهارا في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجا * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسقٍ تحسبه ناسكا * قد باشر الليل بأمرٍ عجيب
غطى عليه الليل أستاره * فبات في أمنٍ وعيشٍ خصيب
ولذة الأحمق مكشوفةٌ * يسعى بها كل عدوٍ مريب
قلت: وهذا كما جاء في الحديث «من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز وجل».
وروى المدائني: أن عبد الله بن عباس وفد إلى معاوية فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحَّب به وأكرمه، وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المعزي لا المهني.
ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاك، وعوضك من مصابك ما هو خيرٌ لك ثوابا وخير عقبى.
فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس، ثم أنشد متمثلا:
مغاض عن العوراء لا ينطقوا بها * وأصل وراثات الحلوم الأوائل
وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة و تسع وأربعين في قول يعقوب بن سفيان.
وقال خليفة بن خياط: سنة خمسين.
ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم.
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله ﷺ قال: «أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور لهم».
وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله ﷺ في منامه عند أم حرام فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.
فقال: «أنت من الأولين».
يعني: جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا.
وهذا من أعظم دلائل النبوة.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الأعمش، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله: أن رسول الله ﷺ قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
وكذلك رواه عبد الله بن شفيق عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ مثله.
ثم أورد من طريق حماد بن سلمة عن أبي محمد، عن زرارة بن أوفى قال: القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله ﷺ في قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية.
قال: قال أبو بكر بن عياش: حج بالناس يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين وثنتين وخمسين وثلاث خمسين.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو كريب، ثنا رشد بن عمرو بن الحارث، عن أبي بكير بن الأشج أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلا إن وليت؟
قال: يمتع الله بك يا أمير المؤمنين.
قال: لتخبرني.
قال: كنت والله يا أبة عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب.
فقال معاوية: سبحان الله يا بنيَّ والله لقد جهدت على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها فكيف بك وسيرة عمر؟
وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى.
قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد!! اتق الله فقد وطأت لك هذا الأمر، ووليتُ من ذلك ما وليت، فإن يك خيرا فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به.
فارفق بالناس وأغمض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطأ عليه يهنك عيشك، وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإياك وخيرة أهل الشرف واستهانتهم والتكبر عليهم، ولنْ لهم لينا بحيث لا يروا منك ضعفا ولا خورا، وأوطئهم فراشك وقربهم إليك وأدنهم منك فإنهم يعلموا لك حقك، ولا تهنهم ولا تستخف بحقهم فيهينوك ويستخفوا بحقك ويقعوا فيك.
فإذا أردت أمرا فادع أهل السن والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل التقوى فشاورهم ولا تخالفهم، وإياك والاستبداد برأيك فإن الرأي ليس في صدر واحد، وصدق من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزن ذلك عن نسائك وخدمك؛ وشمر إزارك، وتعاهد جندك، وأصلح نفسك تصلح لك الناس، لا تدع لهم فيك مقالا فإن الناس سراع إلى الشر.
واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلت ما أوصيك به عرف الناس لك حقك، وعظمت مملكتك، وعظمت في أعين الناس.
واعرف شرف أهل المدينة ومكة فإنهم أصلك وعشيرتك، واحفظ لأهل الشام شرفهم فإنهم أهل طاعتك، واكتب إلى أهل الأمصار بكتاب تعدهم فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم، وإن وفد عليك وافد من الكور كلها فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن ورائهم، ولا تسمعن قول قاذف ولا ما حل فإني رأيتهم وزراء سوء.
ومن وجه آخر أن معاوية قال ليزيد: إن لي خليلا من أهل المدينة فأكرمه.
قال: ومن هو؟
قال: عبد الله بن جعفر.
فلما وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمائة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف.
فقال له: بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى.
فقال له ابن جعفر: والله لا أجمع أبوي لأحد بعدك.
ولما خرج ابن جعفر من عند يزيد وقد أعطاه ألفي ألف، رأى على باب يزيد بخاتي مبركات قد قدم عليها هدية من خراسان، فرجع عبد الله بن جعفر إلى يزيد فسأله منها ثلاث بخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة، وإذا وفد إلى الشام على يزيد.
فقال يزيد للحاجب: ما هذه البخاتي التي على الباب؟ - ولم يكن شعر بها -.
فقال: يا أمير المؤمنين هذه أربعمائة بختية جاءتنا من خراسان تحمل أنواع الألطاف - وكان عليها أنواع من الأموال كلها -.
فقال: اصرفها إلى أبي جعفر بما عليها.
فكان عبد الله بن جعفر يقول: أتلومونني على حسن الرأي في هذا؟ - يعني: يزيد -.
وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك.
وكان ذا جمال حسن المعاشرة، وكان فيه أيضا إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، ثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني: أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يكون خلفٌ من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق وفاجر».
فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟
قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به. تفرد به أحمد.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير بن حرب، ثنا الفضل بن دكين، ثنا كامل أبو العلاء: سمعت أبا صالح سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: «تعوذوا بالله من سنة سبعين، ومن إمارة الصبيان».
وروى الزبير بن بكار، عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال في يزيد بن معاوية:
لست منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات
قال: وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن يسار، ويعرف بموسى شهوات.
وروي عن عبد الله بن الزبير أنه سمع جارية له تغني بهذا البيت فضربها وقال قولي:
أنت منا وليس خالك منا * يا مضيع الصلوات للشهوات
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحكم بن موسى، ثنا يحيى بن حمزة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي عبيدة: أن رسول الله ﷺ قال: «لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد».
وهذا منقطع بين مكحول وأبي عبيدة بل معضل.
وقد رواه ابن عساكر من طريق صدقة بن عبد الله الدمشقي عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة.
عن رسول الله ﷺ قال: «لا يزال أمر هذه الأمة قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد».
ثم قال: وهو منقطع أيضا بين مكحول وأبي ثعلبة.
وقال أبو يعلى: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عوف، عن خالد بن أبي المهاجر، عن أبي العالية.
قال: كنا مع أبي ذر بالشام فقال أبو ذر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «أول من يغير سنتي رجل من بني أمية».
ورواه ابن خزيمة: عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن عوف: حدثنا مهاجر بن أبي مخلد، حدثني أبو العالية، حدثني أبو مسلم، عن أبي ذر فذكر نحوه.
وفيه قصة وهي: أن أبا ذر كان في غزاة عليهم يزيد بن أبي سفيان فاغتصب يزيد من رجل جارية، فاستعان الرجل بأبي ذر على يزيد أن يردّها عليه، فأمره أبو ذر أن يردها عليه، فتلكأ فذكر أبو ذر له الحديث فردها.
وقال يزيد لأبي ذر: نشدتك بالله أهو أنا؟
قال: لا.
وكذا رواه البخاري في التاريخ وأبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب.
ثم قال البخاري: والحديث معلول ولا نعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب.
قال: وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر فولى مكانه أخاه معاوية.
وقال عباس الدوري: سألت ابن معين: أسمع أبو العالية من أبي ذر؟
قال: لا إنما يروي عن أبي مسلم عنه.
قلت: فمن أبو مسلم هذا؟
قال: لا أدري.
وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح شيء منها، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه والله أعلم.
قال الحارث بن مسكين: عن سفيان، عن شبيب، عن عرقدة بن المستظل.
قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب، إذا ساسهم من لم يدرك الجاهلية ولم يكن له قدم في الإسلام.
قلت: يزيد بن معاوية أكثر ما نقم عليه في عمله شرب الخمر، وإتيان بعض الفواحش، فأما قتل الحسين فإنه كما قال جده سفيان يوم أُحد لم يأمر بذلك ولم يسؤه.
وقد قدمنا أنه قال: لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله ابن مرجانة - يعني: عبيد الله بن زياد -.
وقال للرسل الذين جاؤوا برأسه: قد كان يكفيكم من الطاعة دون هذا، ولم يعطهم شيئا، وأكرم آل بيت الحسين، وردّ عليهم جميع ما فقد لهم وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عظيمة، وقد ناح أهله في منزله على الحسين حين كان أهل الحسين عندهم ثلاثة أيام.
وقيل: إن يزيد فرح بقتل الحسين أول ما بلغه ثم ندم على ذلك.
فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إن يونس بن حبيب الجرمي حدثه قال: لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسرّ بقتله أولا وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى ندم!
فكان يقول: وما كان عليّ لو احتملت الأذى وأنزلته في داري وحكمته فيما يريده، وإن كان عليّ في ذلك وكف ووهن في سلطاني، حفظا لرسول الله ﷺ، ورعاية لحقه وقرابته.
ثم يقول: لعن الله ابن مرجانة فإنه أحرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلي سبيله أو يأتيني أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسينا، مالي ولابن مرجانة قبحه الله وغضب عليه.
ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة، لم يذكروا عنه - وهم أشد الناس عداوة له - إلا ما ذكروه عنه من شرب الخمر، وإتيانه بعض القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض.
بل قد كان فاسقا والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة ووقوع الهرج، كما وقع زمن الحرة، فإنه بعث إليهم من يردّهم إلى الطاعة وأنظرهم ثلاثة أيام، فلما رجعوا قاتلهم وغير ذلك، وقد كان في قتال أهل الحرة كفاية، ولكن تجاوز الحد بإباحة المدينة ثلاثة أيام، فوقع بسبب ذلك شر عظيم كما قدمنا.
وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحدا بعد بيعته ليزيد.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية، عن نافع.
قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال: أما بعد، فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله يقول: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان، وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الإشراك بالله، أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته».
فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه.
وقد رواه مسلم والترمذي من حديث صخر بن جويرية، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني: عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر فذكر مثله.
ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب.
فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبا على الصلاة، متحريا للخير، يسأل عن الفقه، ملازما للسنة.
قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعا لك.
فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟
أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟
فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.
قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه.
فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة.
فقال: { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [38]، ولست من أمركم في شيء.
قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا.
قال: ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعا ولا متبوعا.
قالوا: فقد قاتلت مع أبيك.
قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه.
فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا.
قال: لو أمرتهما قاتلت.
قالوا: فقم معنا مقاما تحض الناس فيه على القتال.
قال: سبحان الله!! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذا ما نصحت لله في عباده.
قالوا: إذا نكرهك.
قال: إذا آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا مصعب الزبيري، ثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن ابن عمر دخل وهو معه على ابن مطيع، فلما دخل عليه.
قال: مرحبا بأبي عبد الرحمن ضعوا له وسادة.
فقال: إنما جئتك لأحدثك حديثا سمعته من رسول الله ﷺ يقول: «من نزع يدا من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت موتة جاهلية».
وهكذا رواه مسلم من حديث هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر به.
وتابعه إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه.
وقد رواه الليث عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر فذكره.
وقال أبو جعفر الباقر:لم يخرج أحد من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرمه وأدنى مجلسه وأعطاه كتاب أمان.
وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة، فلما أخبره بما وقع قال: وا قوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة؟ فما الذي يجبرهم؟
قال: الطعام والأعطية.
فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته.
وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكرا وأثرا شعر ابن الزبعري المتقدم ذكره.
وقال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان بن بسام: حدثني محمد بن القاسم، سمعت الأصمعي يقول: سمعت هارون الرشيد ينشد ليزيد بن معاوية:
إنها بين عامر بن لؤيٍ * حين تمنى وبين عبد مناف
ولها في الطيبين جدودٌ * ثم نالت مكارم الأخلاف
بنت عم النبي أكرم من * يمشي بنعلٍ على التراب وحافي
لن تراها على التبدل والغلـ*ـظة إلا كدرة الأصداف
وقال الزبير بن بكار: أنشدني عمي مصعب ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان:
آب هذا الهم فاكتنفا * ثمَّ مر النوم فامتنعا
راعيا للنجم أرقبه * فإذا ما كوكبٌ طلعا
حام حتى أنني لأرى * أنه بالغور قد وقعا
ولها بالمطارون إذا * أكل النمل الذي جمعا
نزهه حتى إذا بلغت * نزلت من خلّق تبعا
في قبابٍ وسط دسكرةٍ *حولها الزيتون قد ينعا
ومن شعره:
وقائلةٌ لي حين شبهت وجهها * ببدر الدجى يوما وقد ضاق منهجي
تشبهني بالبدر هذا تناقصٌ * بقدري ولكن لست أول من هجي
ألم تر أنَّ البدر عند كماله * إذا بلغ التشبيه عاد كدملجي
فلا فخر إن شبهت بالبدر مبسمي * وبالسحر أجفاني وبالليل مدعجي
قد ذكره الزبير بن بكار، عن أبي محمد الجزري قال: كانت بالمدينة جارية مغنية يقال لها: سلامة، من أحسن النساء وجها، وأحسنهن عقلا، وأحسنهن قدا، قد قرأت القرآن.
وروت الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن بن حسان، والأحوص بن محمد يجلسان إليها.
فعلقت الأحوص فصدت عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام فامتدحه ودله على سلامة وجمالها وحسنها وفصاحتها.
وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمارك، فأرسل يزيد فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعا عظيما، وفضلها على جميع من عنده، ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمر بالأحوص فوجده مهموما، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم هما فقال:
يا مبتلى بالحب مقروحا * لاقى من الحب تباريحا
أفحمه الحب فما ينثني * إلا بكاس الحب مصبوحا
وصار ما يعجبه مغلقا * عنه وما يكره مفتوحا
قد حازها من أصبحت عنده * ينال منها الشمَّ والريحا
خليفة الله فسل الهوى * وعزَّ قلبا منك مجروحا
قال: فأمسك الأحوص عن جوابه ثم غلبه وجدة عليها فسار إلى يزيد فامتدحه فأكرمه يزيد وحظي عنده، فدست إليه سلامة خادما وأعطته مالا على أن يدخله إليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك.
فقال: امض لرسالتها، ففعل وأدخل الأحوص عليها وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فأُلقي له كرسي فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه فلم يزالا يتحدثان إلى السحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا همَّ الأحوص بالخروج قال:
أمسى فؤادي في همٍ وبلبال * من حب من لم أزل منه على بال
فقالت:
صحا المحبُّون بعد النأي إذ يئسوا * وقد يئست وما أضحوا على حال
فقال:
من كان يسلو بيأس عن أخي ثقةٍ * فعنك سلامٌ ما أمسيت بالسالي
فقالت:
والله والله لا أنساك يا شجني * حتى تفارق مني الروح أوصالي
فقال:
والله ما خاب من أمسى وأنت له * يا قرة العين في أهلٍ وفي مال
قال: ثم ودعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال: أخبراني عما كان في ليلتكما وأصدقاني، فأخبراه وأنشداه ما قالا، فلم يحرفا منه حرفا ولا غّيرا شيئا مما سمعه.
فقال لها يزيد: أتحبينه؟
قالت: إي والله يا أمير المؤمنين:
حبا شديدا جرى كالروح في جسدي * فهل يفرق بين الروح والجسد؟
فقال له: أتحبها؟
فقال: إي والله يا أمير المؤمنين:
حبا شديدا تليدا غير مطرفٍ * بين الجوانح مثل النار يضطرم
فقال يزيد: إنكما لتصفان حبا شديدا خذها يا أحوص فهي لك، ووصله صلة سنية.
فرجع بها الأحوص إلى الحجاز وهو قرير العين.
وقد روي أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد، واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخمورا.
وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه.
وقيل: إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقزها فعضته.
وذكروا عنه غير ذلك والله أعلم بصحة ذلك.
وقال عبد الرحمن بن أبي مدعور: حدثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه، ولم أرده، واحكم بيني وبين عبيد الله بن زياد.
وكان نقش خاتمه آمنت بالله العظيم.
مات يزيد بحوارين من قرى دمشق في رابع عشر ربيع الأول.
وقيل: يوم الخميس للنصف منه، سنة أربع وستين.
وكانت ولايته بعد موت أبيه في منتصف رجب سنة ستين، وكان مولده في سنة خمس.
وقيل: سنة ست.
وقيل: سبع وعشرين.
ومع هذا فقد اختلف في سنّه ومبلغ أيامه في الإمارة على أقوال كثيرة، وإذا تأملت ما ذكرته لك من هذه التحديدات انزاح عنك الإشكال من هذا الخلاف، فإن منهم من قال: جاوز الأربعين حين مات فالله أعلم.
ثم حمل بعد موته إلى دمشق وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد أمير المؤمنين يومئذٍ، ودفن بمقابر باب الصغير.
وفي أيامه وسع النهر المسمى بيزيد في ذيل جبل قاسيون، وكان جدولا صغيرا فوسعه أضعاف ما كان يجري فيه من الماء.
وقال ابن عساكر: حدثنا أبو الفضل محمد بن محمد بن الفضل بن المظفر العبدي قاضي البحرين من لفظه وكتبه لي بخطه - قال: رأيت يزيد بن معاوية في النوم فقلت له: أنت قتلت الحسين؟
فقال: لا!
فقلت له: هل غفر الله لك؟
قال: نعم، وأدخلني الجنة.
قلت: فالحديث الذي يروى أن رسول الله ﷺ رأى معاوية يحمل يزيد.
فقال: «رجل من أهل الجنة يحمل رجلا من أهل النار؟»
فقال: ليس بصحيح.
قال ابن عساكر: وهو كما قال، فإن يزيد بن معاوية لم يولد في حياة النبي ﷺ.
وإنما ولد بعد العشرين من الهجرة.
أولاد يزيد بن معاوية وعددهم
فمنهم معاوية بن يزيد بن معاوية يكنى أبا ليلى، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
إني أرى فتنة قد حان أولها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وخالد بن يزيد يكنى أبا هاشم كان يقال: إنه أصاب علم الكيمياء، وأبو سفيان، وأمهما أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
وقد تزوجها بعد يزيد بن مروان بن الحكم وهي التي يقول فيها الشاعر:
أنعمي أم خالدٍ * ربَّ ساعٍ كقاعد
وعبد العزيز بن يزيد ويقال له: الأسوار، وكان من أرمى العرب، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهو الذي يقول فيه الشاعر:
زعم الَّناس أنَّ خير قريشٍ * كلهم حين يذكرون الأساور
وعبد الله الأصغر، وأبو بكر، وعتبة، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد، لأمهات أولاد شتىَّ.
ويزيد، وحرب، وعمر، وعثمان.
فهؤلاء خمسة عشر ذكرا، وكان له من البنات: عاتكة، ورملة، وأم عبد الرحمن، وأم يزيد، وأم محمد، فهؤلاء خمس بنات.
وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب، والله سبحانه أعلم.
إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية
أبي عبد الرحمن ويقال: أبو يزيد.
ويقال: أبو يعلى القرشي الأموي، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، بويع له بعد موت أبيه - وكان ولي عهده من بعده - في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين.
وكان رجلا صالحا ناسكا، ولم تطل مدته.
قيل: إنه مكث في الملك أربعين يوما.
وقيل: عشرين يوما.
وقيل: شهرين.
وقيل: شهرا ونصف.
وقيل: ثلاثة أشهر وعشرون يوما.
وقيل: أربعة أشهر فالله أعلم.
وكان في مدة ولايته مريضا لم يخرج إلى الناس، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس ويسد الأمور، ثم مات معاوية بن يزيد هذا عن إحدى وعشرين.
وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوما.
وقيل: تسع عشرة سنة.
وقيل: ثلاث وعشرون سنة.
وقيل: إنما عاش ثماني عشرة سنة.
وقيل: تسع عشرة سنة.
وقيل: عشرون.
وقيل: خمس وعشرون فالله أعلم.
وصلى عليه أخوه خالد.
وقيل: عثمان بن عنبسة.
وقيل: الوليد بن عتبة وهو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك، وشهد دفنه مروان بن الحكم، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس بعده حتى استقر الأمر لمروان بالشام.
ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق، ولما حضرته الوفاة، قيل له: ألا توصي.
فقال: لا أتزوّد مرارتها إلى آخرتي وأترك حلاوتها لبني أمية.
وكان رحمه الله أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الرأس، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه، كثير شعر الوجه دقيقه، حسن الجسم.
قال أبو زرعة الدمشقي: معاوية، وعبد الرحمن، وخالد أخوه، وكانوا من صالحي القوم، وقال فيه بعض الشعراء - وهو عبد الله بن همام البلوي -:
تلقاها يزيدٌ عن أبيه * فدونكها معاوي عن يزيدا
أديروها بني حربٍ عليكم * ولا ترموا بها الغرض البعيدا
ويروى أن معاوية بن يزيد هذا نادى في الناس: الصلاة جامعة ذات يوم، فاجتمع الناس فقال لهم فيما قال: يا أيها الناس! إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم.
ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج منه حتى مات رحمه الله تعالى.
ويقال: إنه سقي.
ويقال: إنه طعن.
ولما دفن حضر مروان دفنه، فلما فرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم؟
قالوا: نعم معاوية بن يزيد.
فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أرثم الفزاري:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
قالوا: فكان الأمر كما قال، وذلك أن أبا ليلى توفي من غير عهد منه إلى أحد، فتغلب إلى الحجاز عبد الله بن الزبير، وعلى دمشق وأعمالها مروان بن الحكم، وبايع أهل خراسان سلم بن زياد حتى يتولى على الناس خليفة، وأحبوه محبة عظيمة، وسار فيهم سلم سيرة حسنة أحبوه عليها، ثم أخرجوه من بين أظهرهم.
وخرج القراء والخوارج بالبصرة وعليهم نافع بن الأزرق، وطردوا عنهم عبيد الله بن زياد بعدما كانوا بايعوه عليهم حتى يصير للناس إمام، فأخرجوه عنهم، فذهب إلى الشام بعد فصول يطول ذكرها.
وقد بايعوا بعده عبد الله بن الحارث بن نوفل المعروف ببَّة، وأمه هند بنت أبي سفيان، وقد جعل على شرطة البصرة هميان بن عدي السدوسي، فبايعه الناس في مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وستين.
وقد قال الفرزدق:
وبايعت أقواما وفيت بعهدهم * وببة قد بايعته غير نادم
فأقام فيها أربعة أشهر ثم لزم بيته، فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم شهرين، ثم كان ما سنذكره.
وخرج نجدة بن عامر الحنفي باليمامة، وخرج بنو ماحورا في الأهواز وفارس وغير ذلك على ما سيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.
إمارة عبد الله بن الزبير
وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك.
قد قدمنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة، وهم الذين كانوا يحاصرون ابن الزبير هو عائذ بالبيت، فلما رجع حصين بن نمير السكوني بالجيش إلى الشام، استفحل ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس بعد يزيد بيعة هناك.
واستناب على أهل المدينة أخاه عبيد الله بن الزبير، وأمره بإجلاء بني أمية عن المدينة فأجلاهم فرحلوا إلى الشام، وفيهم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك.
ثم بعث أهل البصرة إلى ابن الزبير بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها، غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحوا من أربعة أمراء من بينهم ثم تضطرب أمورهم.
ثم بعثوا إلى ابن الزبير وهو بمكة يخطبونه لأنفسهم، فكتب إلى أنس بن مالك ليصلي بهم.
ويقال: إن أول من بايع الزبير مصعب بن عبد الرحمن.
فقال الناس: هذا أمر فيه صعوبة، وبايعه عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن علي بن أبي طالب، وبعث إلى ابن عمر، وابن الحنفية، وابن عباس ليبايعوا فأبوا عليه.
وبويع في رجب بعد أن أقام الناس نحو ثلاثة أشهر بلا إمام.
وبعث ابن الزبير إلى أهل الكوفة عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، واستوثق له المصران جميعا، وأرسل إلى مصر فبايعوه.
واستناب عليها عبد الرحمن بن جحدر، وأطاعت له الجزيرة، وبعث على البصرة الحارث بن عبد الله بن ربيعة، وبعث إلى اليمن فبايعوه، وإلى خراسان فبايعوه، وإلى الضحاك بن قيس بالشام فبايع.
وقيل: إن أهل دمشق وأعمالها من بلاد الأردن لم يبايعوه، لأنهم بايعوا مروان بن الحكم لما رجع الحصين بن نمير من مكة إلى الشام.
وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم: نافع بن الأزرق، وعبد الله بن أباض، وجماعة من رؤوسهم.
فلما استقر أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان - وكانوا ينتقصون عثمان - فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفا به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له.
فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم، ومسالكهم المختلفة المنتشرة، التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله.
ذكر بيعة مروان بن الحكم
وكان سبب ذلك أن حصين بن نمير لما رجع من أرض الحجاز وارتحل عبيد الله بن زياد من البصرة إلى الشام، وانتقلت بنو أمية من المدينة إلى الشام، اجتمعوا إلى مروان بن الحكم بعد موت معاوية بن يزيد.
وقد كان معاوية بن يزيد قد عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق، وقد بايع أهلها الضحاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس على إمام، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير.
وقد بايع لابن الزبير النعمان بن بشير بحمص، وبايع له زفر بن عبد الله الكلابي بقنسرين، وبايع له نائل بن قيس بفلسطين، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، فلم يزل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير بمروان بن الحكم يحسنون له أن يتولى، حتى ثنوه عن رأيه وحذروه من دخول سلطان ابن الزبير وملكه إلى الشام.
وقالوا له: أنت شيخ قريش وسيدها: فأنت أحق بهذا الأمر.
فرجع عن البيعة لابن الزبير، وخاف ابن زياد الهلاك إن تولى غير بني أمية، فعند ذلك التف هؤلاء كلهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن على مروان، فوافقهم على ما أرادوا، وجعل يقول: ما فات شيء.
وكتب حسان بن مالك بن بحدل الكلبي إلى الضحاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير، ويعرفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم، ويذكر فضلهم وشرفهم.
وقد بايع حسان بن مالك أهل الأردن لبني أمية، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وبعث الضحاك كتابا بذلك، وأمره أن يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر، وبعث بالكتاب مع رجل يقال له: ناغضة بن كريب الطابجي.
وقيل: هو من بني كلب وقال له: إن لم يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت، فأعطاه الكتاب فسار إلى الضحاك فأمره بقراءة الكتاب فلم يقبل، فقام ناغض فقرأه على الناس فصدقه جماعة من أمراء الناس، وكذبه آخرون.
وثارت فتنة عظيمة بين الناس، فقام خالد بن يزيد بن معاوية وهو شاب حدث على درجتين من المنبر فسكن الناس، ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يسجنوا.
فثارت قبائلهم فأخرجوهم من السجن، واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية، وكان اجتماع الناس لذلك ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب الجيرون، فسمي هذا اليوم يوم جيرون.
قال المدائني: وقد أراد الناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يتولى عليهم فأبى، وهلك في تلك الليالي، ثم أن الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع فخطبهم به، ونال من يزيد بن معاوية.
فقام إليه شاب من بني كلب فضربه بعصى كانت معه، والناس جلوس متقلدي سيوفهم، فقام بعضهم إلى بعض فاقتتلوا في المسجد قتالا شديدا، فقيس ومن لف لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون الضحاك بن قيس، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، ويتعصبون ليزيد وأهل بيته.
فنهض الضحاك بن قيس فدخل دار الإمارة وأغلق الباب، ولم يخرج إلى الناس إلا يوم السبت لصلاة الفجر.
ثم أرسل إلى بني أمية فجمعهم إليه فدخلوا عليه وفيهم مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد، وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية.
قال المدائني: فاعتذر إليهم مما كان منه، واتفق معهم أن يركب معهم إلى حسان بن مالك الكلبي فيتفقوا على رجل يرتضونه من بني أمية للإمارة، فركبوا جميعا إليه، فبينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان، إذ جاء معن بن ثور بن الأخنس في قومه قيس.
فقال له: إنك دعوتنا إلى بيعة ابن الزبير فأجبناك، وأنت الآن ذاهب إلى هذا الأعرابي ليستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية.
فقال له الضحاك: وما الرأي؟
قال: الرأي أن نظهر ما كنا نسر، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها من أباها.
فمال الضحاك بمن معه فرجع إلى دمشق، فأقام بها بمن معه من الجيش من قيس ومن لف لفيفها، وبعث إلى أمراء الأجناد وبايع الناس لابن الزبير، وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك، فذكره ابن الزبير لأهل مكة وشكره على صنيعه، وكتب إليه بنيابة الشام.
وقيل: بل بايع لنفسه بالخلافة فالله أعلم.
والذي ذكره المدائني أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولا، ثم حسن له عبيد الله بن زياد أن يدعو إلى نفسه، وذلك إنما فعله مكرا منه وكبارا ليفسد عليه ما هو بصدده، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام، فنقم الناس عليه ذلك وقالوا: دعوتنا إلى بيعة رجل فبايعناه، ثم خلعته بلا سبب ولا عذر، ثم دعوتنا إلى نفسك؟
فرجع إلى البيعة لابن الزبير فسقط بذلك عند الناس، وذلك الذي أراد ابن زياد.
وكان اجتماع عبيد الله بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه، ثم فارق مروان ليخدع له الضحاك، فنزل عنده بدمشق وجعل يركب إليه كل يوم، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له.
فركب الضحاك إلى مرج راهط فنزل بمن معه من الجنود، وعند ذلك اجتمع بنو أمية ومن اتبعهم بالأردن، واجتمع إليهم من هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب.
ولما رأى مروان بن الحكم ما أنتظم من البيعة لابن الزبير، وما استوثق له من الملك، وعزم على الرحيل إليه لمبايعته وليأخذ منه أمانا لبني أمية.
فسار حتى بلغ أذرعات فلقيه ابن زياد مقبلا من العراق فصده عن ذلك وهجّن رأيه، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص، وحصين بن نمير، وابن زياد، وأهل اليمن وخلق.
فقالوا لمروان: أنت كبير قريش، وخالد بن يزيد غلام، وعبد الله بن الزبير كهل، فإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تناوئه بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه بالجابية في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة، سنة أربع وستين، قاله الواقدي.
فلما تمهد له الأمر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس فالتقيا بمرج راهط، فغله مروان بن الحكم وقتله وقتل من قيس مقتلة لم يسمع بمثلها، على ما سيأتي تفصيله في أول سنة خمس وستين.
فإن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من أول سنة خمس وستين.
وفي رواية محمد بن سعد: وعن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت في أواخر هذه السنة.
وقال الليث بن سعد، والواقدي، والمدائني، وأبو سليمان بن يزيد، وأبو عبيدة وغير واحد: كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقعة مرج راهط ومقتل الضحّاك بن قيس الفهري رضي الله عنه
قد تقدم أن الضحاك كان نائب دمشق لمعاوية بن أبي سفيان، وكان يصلي عنهم إذا اشتغلوا أو غابوا، ويقيم الحدود ويسد الأمور، فلما مات معاوية قام بأعباء بيعة يزيد ابنه، ثم لما مات يزيد بايع الناس لمعاوية بن يزيد، فلما مات معاوية بن يزيد بايعه الناس من دمشق حتى تجتمع الناس على إمام.
فلما اتسعت البيعة لابن الزبير عزم على المبايعة له، فخطب الناس يوما وتكلم في يزيد بن معاوية وذمه.
فقامت فتنة في المسجد الجامع حتى اقتتل الناس فيه بالسيوف، فسكن الناس ثم دخل دار الإمارة من الخضراء وأغلق عليه الباب، ثم اتفق مع بني أمية على أن يركبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل وهو بالأردن فيجتمعوا عنده على من يراه أهلا للإمارة.
وكان حسان يريد أن يبايع لابن أخته خالد بن يزيد، ويزيد بن ميسون، وميسون بنت بحدل، أخت حسان، فلما ركب الضحاك معهم انخذل بأكثر الجيش فرجع إلى دمشق فامتنع بها، وبعث إلى أمراء الأجناد فبايعهم لابن الزبير.
وسار بنو أمية ومعهم مروان، وعمرو بن سعيد، وخالد، وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية، حتى اجتمعوا بحسان بن مالك بالجابية.
وليس لهم قوة طائلة بالنسبة إلى الضحاك بن قيس، فعزم مروان على الرحيل إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ أمانا منه لبني أمية، فإنه كان قد أمر بإجلائهم عن المدينة.
فسار حتى وصل إلى أذرعات، فلقيه عبيد الله بن زياد مقبلا من العراق، فاجتمع به ومعه حصين بن نمير، وعمرو بن سعيد بن العاص، فحسنوا إليه أن يدعو إلى نفسه، فإنه أحق بذلك من ابن الزبير الذي قد فارق الجماعة، وخلع ثلاثة من الخلفاء، فلم يزالوا بمروان حتى أجابهم إلى ذلك.
وقال له عبيد الله بن زياد: وأنا ذاهب لك إلى الضحاك إلى دمشق فأخدعه لك وأخذل أمره، فسار إليه وجعل يركب إليه كل يوم ويظهر له الود والنصحية والمحبة، ثم حسن له أن يدعو إلى نفسه ويخلع ابن الزبير فإنك أحق بالأمر منه، لأنك لم تزل في الطاعة مشهورا بالأمانة، وابن الزبير خارج عن الناس.
فدعا الضحاك الناس إلى نفسه ثلاثة أيام فلم يصمد معه، فرجع إلى الدعوة لابن الزبير، ولكن انحط بها عند الناس.
ثم قال له ابن زياد: إن من يطلب ما تطلب لا ينزل المدن والحصون، وإنما ينزل الصحراء ويدعو إليه بالجنود، فبرز الضحاك إلى مرج راهط فنزله، وأقام ابن زياد بدمشق، وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد الله عند خالهم حسان بالجابية.
فكتب ابن زياد إلى مروان يأمره أن يظهر دعوته، فدعا إلى نفسه، وتزوج بأم خالد بن يزيد - وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة - فعظم أمره وبايعه الناس واجتمعوا عليه.
وسار إلى مرج راهط نحوه الضحاك بن قيس، وركب إليه عبيد الله بن زياد، وأخوه عباد بن زياد، حتى اجتمع مع مروان ثلاثة عشر ألفا، وبدمشق من جهته يزيد بن أبي النمر، وقد أخرج عامل الضحاك منها وهو يمد مروان بالسلاح والرجال وغير ذلك.
ويقال: كان نائبه على دمشق يومئذٍ عبد الرحمن بن أم الحكم، وجعل مروان على ميمنته عبيد الله بن زياد، وعلى ميسرته عمرو بن سعيد بن العاص، وبعث الضحاك إلى النعمان بن بشير فأمده النعمان بأهل حمص عليهم شرحبيل بن ذي الكلاع.
وركب إليه زفر بن الحارث الكلابي في أهل قنسرين.
فكان الضحاك في ثلاثين ألفا، على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زكريا بن شمر الهلالي، فتصافوا وتقاتلوا بالمرج عشرين يوما، يلتقون بالمرج في كل يوم فيقتتلون قتالا شديدا.
ثم أشار عبيد الله على مروان أن يدعوهم إلى الموادعة خديعة فإن الحرب خديعة، وأنت وأصحابك على الحق، وهم على الباطل، فنودي الناس بذلك، ثم غدر أصحاب مروان فمالوا يقتلونهم قتالا شديدا، وصبر الضحاك صبرا بليغا.
فقتل الضحاك بن قيس في المعركة، قتله رجل يقال له: زحمة بن عبد الله من بني كلب، طعنه بحربة فأنفذه ولم يعرفه.
وصبر مروان وأصحابه صبرا شديدا حتى فر أولئك بين يديه، فنادى مروان: ألا لا تتبعوا مدبرا، ثم جيء برأس الضحاك.
ويقال: أن أول من بشره بقتله روح بن زنباع الجذامي، واستقر ملك الشام بيد مروان بن الحكم.
وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط، فقال: أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك؟.
قلت: ولم تطل مدته في الملك إلا تسعة أشهر على ما سنذكره.
وقد كان الضحاك بن قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك، أبو أنيس الفهري أحد الصحابة على الصحيح.
وقد سمع من النبي ﷺ، وروى عنه أحاديث عدة، وروى عنه جماعة من التابعين.
وهو أخو فاطمة بنت قيس وكانت أكبر منه بعشر سنين، وكان أبو عبيدة بن الجراح عمه.
حكاه ابن أبي حاتم.
وزعم بعضهم أنه لا صحبة له.
وقال الواقدي: أدرك النبي ﷺ وسمع منه قبل البلوغ.
وفي رواية عن الواقدي أنه قال: ولد الضحاك قبل وفاة النبي ﷺ بسنتين.
وقد شهد فتح دمشق وسكنها وله بها دار عند حجر الذهب مما يلي نهر بردى، وكان أميرا على أهل دمشق يوم صفين مع معاوية، ولما أخذ معاوية الكوفة استنابه بها في سنة أربع وخمسون.
وقد روى البخاري في التاريخ: أن الضحاك قرأ سورة «ص» في الصلاة فسجد فيها فلم يتابعه علقمة وأصحاب ابن مسعود في السجود.
ثم استنابه معاوية عنده على دمشق فلم يزل عنده حتى مات معاوية وتولى ابنه يزيد، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم صار أمره إلى ما ذكرنا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن أن الضحاك بن قيس كتب إلى الهيثم حين مات يزيد بن معاوية: السلام عليك، أما بعد:
فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، فتنا كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا قليل».
وإن يزيد بن معاوية قد مات وأنتم إخواننا وأشقاؤنا فلا تسبقونا حتى نحتال لأنفسنا.
وقد روى ابن عساكر من طريق ابن قتيبة عن العباس بن الفرج الرياشي، عن يعقوب بن إسحاق بن ثوبة، عن حماد بن زيد.
قال: دخل الضحاك بن قيس على معاوية فقال معاوية منشدا له:
تطاولت للضحاك حتى رددته * إلى حسبٍ في قومه متقاصر
فقال الضحاك: قد علم قومنا أنا أحلاس الخيل.
فقال: صدقت، أنتم أحلاسها ونحن فرسانها يريد معاوية أنتم راضة وساسة، ونحن الفرسان.
ورأى أن أصل الكلمة من الحلس وهو كساء يكون تحت البرذعة أي أنه لازم ظهر الفرس كما يلزم الحلس ظهر البعير والدابة.
وروى أن مؤذن دمشق قال للضحاك بن قيس: والله أيها الأمير، إني لأحبك في الله.
فقال له الضحاك: ولكني والله أبغضك في الله.
قال: ولِمَ أصلحك الله؟
قال: لأنك تتراءى في أذانك وتأخذ على تعليمك أجرا.
قتل الضحاك رحمه الله يوم مرج راهط، وذلك للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد، وأبو عبيدة، والواقدي، وابن زير، والمدائني.
وفيها مقتل النعمان بن بشير الأنصاري
وأمه عمرة بنت رواحة، كان النعمان أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة للأنصار، في جمادى الأول سنة ثنتين من الهجرة، فأتت به أمه تحمله إلى النبي ﷺ فحنكه وبشرها بأنه يعيش حميدا، ويقتل شهيدا، ويدخل الجنة، فعاش في خير وسعة.
ولي نيابة الكوفة لمعاوية تسعة أشهر، ثم سكن الشام، وولي قضاءها بعد فضالة بن عبيد، وفضالة بعد أبي الدرداء.
وناب بحمص لمعاوية، وهو الذي رد آل رسول الله ﷺ إلى المدينة بأمر يزيد له في ذلك، وهو الذي أشار على يزيد بالإحسان إليهم فرق لهم يزيد وأحسن إليهم وأكرمهم، ثم لما كانت وقعة مرج راهط وقتل الضحاك بن قيس، وكان النعمان قد أمده بأهل حمص.
فقتلوه بقرية يقال لها: بيرين، قتله رجل يقال له: خالد بن خلي المازني، وقتل خلي بن داود وهو جد خالد بن خلي.
وقد رثته ابنته فقالت:
ليت ابن مرنة وابنه * كانوا لقتلك واقية
وبني أمية كلهم * لم تبق منهم باقية
جاء البريد بقتله * يا للكلاب العاوية
يستفتحون برأسه * دارت عليهم فانية
فلأبكين سريرةً * ولأبكين علانية
ولا بكينك ما حييـ*ـت مع السباع العادية
وقيل: إن أعشى همدان قدم على النعمان بن بشير وهو على حمص وهو مريض.
فقال له النعمان: ما أقدمك؟
قال: لتصلني وتحفظ قرابتي وتقضي ديني.
فقال: والله ما عندي، ولكني سائلهم لك شيئا.
ثم قام فصعد المنبر ثم قال: يا أهل حمص، إن هذا ابن عمكم من العراق، وهو مسترفدكم شيئا، فما ترون؟
فقالوا: احتكم في أموالنا، فأبى عليهم.
فقالوا: قد حكمنا من أموالنا كل رجل دينارين -وكانوا في الديوان عشرين ألف رجل - فعجلها له النعمان من بيت المال أربعين ألف دينار، فلما خرجت أعطياتهم أسقط من عطاء كل رجل منهم دينارين.
ومن كلام النعمان بن بشير رضي الله عنه قوله: إن الهلكة كل الهلكة أن تعمل السيئات في زمان البلاء.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو اليمان، ثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي رواحة: يزيد ابن أيهم، عن الهيثم بن مالك الطائي، سمعت النعمان بن بشير على المنبر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن للشيطان مصالي وفخوخا، وإن من مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله».
ومن أحاديثه الحسان الصحاح ما سمعه من رسول الله ﷺ يقول: «إن الحلال بَيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب». رواه البخاري ومسلم.
وقال أبو مسهر: كان النعمان بن بشير على حمص عاملا لابن الزبير، فلما تملك مروان خرج النعمان هاربا فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله.
قال أبو عبيدة وغير واحد: في هذه السنة.
وقد روى محمد بن سعد بأسانيده أن معاوية تزوج امرأة جميلة جدا، فبعث إحدى امرأتيه - قيسون أو فاختة - لتنظر إليها، فلما رأتها أعجبتها جدا، ثم رجعت إليه فقال: كيف رأيتيها؟
قالت: بديعة الجمال، غير أني رأيت تحت سرتها خالا أسود، وإني أحسب أن زوجها يقتل ويلقى رأسه في حجرها.
فطلقها معاوية وتزوجها النعمان بن بشير، فلما قتل أتي برأسه فألقي في حجرها، سنة خمس وستين.
وقال سليمان بن زير: قتل بسلمية سنة ست وخمسين.
وقال غيره: سنة خمس وستين.
وقيل: سنة ستين والصحيح ما ذكرناه.
وفيها توفي المسوَّر بن مخرمة بن نوفل
صحابي صغير، أصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير بمكة وهو قائم يصلي في الحجر.
وهو من أعيان من قتل في حصار مكة وهو المسوّر بن مخرمة بن نوفل، أبو عبد الرحمن الزهري، أمه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف، له صحبة ورواية، ووفد على معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطاب.
وقيل: إنه كان ممن يصوم الدهر، وإذا قدم مكة طاف لكل يوم غاب عنها سبعا، وصلى ركعتين.
وقيل: إنه وجد يوم القادسية إبريق ذهب مرصع بالياقوت فلم يدر ما هو، فلقيه رجل من الفرس فقال له: بعنيه بعشرة آلاف، فعلم أنه شيء له قيمة، فبعث به إلى سعد بن أبي وقاص فنفله إياه، فباعه بمائة ألف.
ولما توفي معاوية قدم مكة فأصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير لما رموا به الكعبة، فمات من بعد خمسة أيام، وغسله عبد الله بن الزبير، وحمله في جملة من حمل إلى الحجون.
وكانوا يطأون به القتلى، ويمشون به بين أهل الشام، واحتكر المسوّر بن مخرمة طعاما في زمن عمر بن الخطاب، فرأى سحابا فكرهه، فلما أصبح عدا إلى السوق فقال: من جاءني أعطيته.
فقال عمر: أجننت يا أبا مخرمة؟
فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحابا فكرهت ما فيه الناس فكرهت أن أربح فيه شيئا.
فقال له عمر: جزاك الله خيرا.
ولد المسوَّر بمكة بعد الهجرة بسنتين.
المنذر بن الزبير بن العوام
ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقد غزا المنذر القسطنطينية مع يزيد بن معاوية، ووفد على معاوية فأجازه بمائة ألف، وأقطعه أرضا، فمات معاوية قبل أن يقبض المال.
وكان المنذر بن الزبير، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام يقاتلون أهل الشام بالنهار، ويطعمانهم بالليل.
قتل المنذر بمكة في حصارها مع أخيه، ولما مات معاوية أوصى إلى المنذر أن ينزل في قبره.
مصعب بن عبد الرحمن بن عوف
كان شابا دينا فاضلا.
قتل مصعب أيضا في حصار مكة مع ابن الزبير.
وممن قتل في وقعة الحرة محمد بن أبي بن كعب، وعبد الرحمن بن أبي قتادة، وأبو حكيم معاذ بن الحارث الأنصاري الذي أقامه عمر يصلي بالناس.
وقتل يومئذ ولدان لزينب بنت أم سلمة، وزيد بن محمد بن سلمة الأنصاري قتل يومئذ، وقتل معه سبعة من إخوته وغير هؤلاء رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
وفيها: توفي الأخنس بن شريق، شهد فتح مكة وكان مع علي يوم صفين.
وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين
جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق، واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له: عبد الله بن خازم، وقهر عمالها وأخرجهم منها، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية، قبل أن يستقر ملك ابن الزبير على تلك النواحي.
وجرت بين عبد الله بن خازم هذا وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها، اكتفينا بذكرها إجمالا إذ لا يتعلق بذكرها كبير فائدة، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض، والله المستعان.
وقال الواقدي: وفي هذه السنة بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل خراسان سلم بن زياد بن أبيه، وأحبوه حتى أنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من ألف غلام مولود، ثم نكثوا واختلفوا فخرج عنهم سلم وترك عليهم المهلب بن أبي صفرة.
وفيها: اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة، وتواعدوا النخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما زالوا في ذلك مجدين، وعليه عازمين، من مقتل الحسين بكربلاء من يوم عاشوراء عشرة المحرم سنة إحدى وستين.
وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه، فلما أتاهم خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه، فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل، فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد وهو صحابي جليل، وكان رؤوس القائمين في ذلك خمسة:
سليمان بن صرد الصحابي، والمسيب بن نجية الفزاري أحد كبار أصحاب علي، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن والٍ التيمي، ورفاعة بن شداد البجلي.
وكلهم من أصحاب علي رضي الله عنه، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا، وتواعدوا النخيلة، وأن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئا كثيرا وأعدوه لذلك.
وقام المسيب بن نجية خطيبا فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فقد ابتلينا بطول العمر وكثرة الفتن، وقد ابتلانا الله فوجدنا كاذبين في نصرة ابن بنت رسول الله ﷺ، بعد أن كتبنا إليه وراسلناه، فأتانا طمعا في نصرتنا إياه، فخذلناه وأخلفناه، وأتينا به إلى من قتله وقتل أولاده وذريته وقراباته الأخيار.
فما نصرناهم بأيدينا، ولا خذلنا عنهم بألسنتنا، ولا قويناهم بأموالنا، فالويل لنا جميعا ويلا متصلا أبدا لا يفتر ولا يبيد دون أن نقتل قاتله والممالئين عليه، أو أن نُقتل دون ذلك وتذهب أموالنا وتخرب ديارنا.
أيها الناس قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم.
وذكر كلاما طويلا.
ثم كتبوا إلى جميع إخوانهم أن يجتمعوا بالنخيلة في السنة الآتية.
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وهو أمير على المدائن يدعوه إلى ذلك، فاستجاب له ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن، فبادروا إليه بالاستجابة والقبول، وتمالأوا عليه وتواعدوا النخيلة في التاريخ المذكور.
وكتب سعد بن حذيفة إلى سليمان بن صرد بذلك ففرح أهل الكوفة من موافقة أهل المدائن لهم على ذلك، وتنشطوا لأمرهم الذي تمالأوا عليه.
فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعد قليل، طمعوا في الأمر، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا، ولم يبق من يقيم لهم أمرا، فاستشاروا سليمان في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الميقات.
فنهاهم عن ذلك وقال: لا! حتى يأتي الأجل الذي واعدنا إخواننا فيه، ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ولا يشعر بهم جمهور الناس، وحينئذٍ عمد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة، فبايع لعبد الله بن الزبير، فهو يسد الأمور حتى تأتي نواب ابن الزبير.
فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني: سنة أربع وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير، أحدهما عبد الله بن يزيد الخطمي، على الحرب والثغر، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، على الخراج والأموال.
وقد كان قدم قبلهما بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد - وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت على سليمان بن صرد وعظموه تعظيما زائدا، وهم معدون للحرب.
فلما استقر المختار عندهم بالكوفة، دعا إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو محمد بن الحنفية في الباطن، ولقبه المهدي، فاتبعه على ذلك كثير من الشيعة وفارقوا سليمان بن صرد، وصارت الشيعة فرقتين:
الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس ليأخذوا بثأر الحسين.
وفرقة أخرى مع المختار، يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد بن الحنفية، وذلك عن غير أمر ابن الحنفية ورضاه، وإنما يتقولون عليه ليروجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة.
وجاءت العين الصافية إلى عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير بما تمالأ عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون.
وأشار من أشار عليه بأن يبادر إليهم ويحتاط عليهم، ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة.
فقام خطيبا في الناس وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم، وما أجمعوا عليه من الأمر، وأن منهم من يريد الأخذ بثأر الحسين، ولقد علموا أنني لست ممن قتله، وإني والله لممن أصيب بقتله وكره قتله، فرحمه الله ولعن قاتله.
وإني لا أتعرض لأحد قبل أن يبدأني بالشر، وإن كان هؤلاء يريدون الأخذ بثأر الحسين فليعمدوا إلى ابن زياد فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله فليأخذوا منه بالثأر، ولا يخرجوا بسلاحهم على أهل بلدهم، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم.
فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الأمير الآخر فقال: أيها الناس لا يغرنكم من أنفسكم كلام هذا المداهن، إنا والله قد استيقنا من أنفسنا أن قوما يريدون الخروج علينا، ولنأخذن الوالد بالولد، والولد بالوالد، والحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته، حتى تدينوا بالحق، وتذلوا للطاعة.
فوثب إليه المسيب بن نجية الفزاري فقطع كلامه فقال: يا ابن الناكثين أتهددنا بسيفك وغشمك؟
أنت والله أذل من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، وإنا لنرجوا أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر.
وساعد المسيب بن نجية من أصحاب إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من العمال، وجرت فتنه وشيء كبير في المسجد، فنزل عبد الله بن يزيد الخطمي عن المنبر وحالوا أن يوفقوا بين الأميرين، فلم يتفق لهم ذلك.
ثم ظهرت الشيعة أصحاب سليمان بن صرد بالسلاح، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو الجزيرة وكان من أمرهم ما سنذكره.
وأما المختار بن عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضا إلى الشيعة من يوم طعن الحسين وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق، فلجأ إلى المدائن، فأشار المختار على عمه وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسين ويبعثه إلى معاوية فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء، فامتنع عم المختار من ذلك، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك.
فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان وقتله ابن زياد، كان المختار يومئذ بالكوفة فبلغ ابن زياد أنه يقول: لأقومن بنصرة مسلم ولآخذن بثأره، فأحضره بين يديه وضرب عينه بقضيب كان بيده فشترها، وأمر بسجنه.
فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه، وكانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن، فبعث يزيد إلى ابن زياد: أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن عبيد من السجن، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك.
فأخرجه وقال له: إن وجدتك بعد ثلاثة أيام بالكوفة ضربت عنقك.
فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول: والله لأقطعن أنامل عبيد الله بن زياد، ولأقتلن بالحسين بن علي على عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا.
فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بايعه المختار بن عبيد، وكان من كبار الأمراء عنده، ولما حاصره الحصين بن نمير مع أهل الشام، قاتل المختار دون ابن الزبير أشد القتال.
فلما بلغه موت يزيد بن معاوية واضطراب أهل العراق، نقم على ابن الزبير في بعض الأمر، وخرج من الحجاز فقصد الكوفة فدخلها في يوم الجمعة والناس يتهيئون للصلاة، فجعل لا يمر بملأ إلا سلم عليه، وقال: أبشروا بالنصر.
ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك حتى أقيمت الصلاة، ثم صلى من بعد الصلاة حتى صليت العصر، ثم انصرف فسلم عليه الناس وأقبلوا إليه وعليه وعظموه، وجعل يدعو إلى إمامة المهدي محمد بن الحنفية، ويظهر الانتصار لأهل البيت، وأنه ما جاء إلا بصدد أن يقيم شعارهم، ويظهر منارهم، ويستوفي ثأرهم.
ويقول للناس الذين اجتمعوا على سليمان بن صرد من الشيعة- وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان - فجعل يخذلهم ويستميلهم إليه.
ويقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الرضى، والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء.
وأن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو غشمة من الغشم، وشن بال ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم، وإني إنما أعمل على مثل مُثل لي، وأمر قد بُينّ لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري.
ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون كفيل.
فالتف عليه خلق كثير من الشيعة، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صرد، فلما خرجوا مع سليمان إلى النخيلة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص، وشبث بن ربعي وغيرهما لعبد الله بن زياد، نائب الكوفة: إن المختار بن أبي عبيد أشد عليكم من سليمان بن صرد.
فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره فأخذه فذهب به إلى السجن مقيدا.
وقيل: بغير قيد، فأقام به مدة ومرض فيه.
قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نعوده ونتعاهده.
فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامة والقفار، والملائكة الأبرار، والمصلين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن جثَّار خطار، ومهند بتار، بجند من الأخيار، وجموع من الأنصار، ليسوا بميل الأغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، وجبرت صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر أولاد النبيين، لم أبك على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا دنا.
قال: وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج.
ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير
قال ابن جرير: وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وذلك لأنه مال جدارها من رمي المنجنيق فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم.
وكان الناس يطوفون ويصلون من وراء ذلك، وجعل الحجر الأسود في تابوت في سرق من حرير، وادخر ما كان في الكعبة من حلي وثياب وطيب، عند الخزان، حتى أعاد ابن الزبير بناءها على ما كان رسول الله ﷺ يريد أن يبنيها عليه من الشكل.
وذلك كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن، من طرق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال: «لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك قصرت بهم النفقة، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، ولألصقت بابها بالأرض فإن قومك رفعوا بابها ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا».
فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله ﷺ، فجزاه الله خيرا.
ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي، هدم الحائط الشمالي وأخرج الحجر كما كان أولا، وأدخل الحجارة التي هدمها في جوف الكعبة فرصها فيه، فارتفع الباب وسد الغربي.
وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه الحديث قال: وددنا أنا تركناه وما تولى من ذلك.
وقد هم ابن المنصور المهدي أن يعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار الإمام مالك بن أنس في ذلك، فقال: إني أكره أن يتخذها الملوك لعبة، - يعني: يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم - فهذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأيا آخر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان عامله على المدينة أخوه عبيد الله، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن المرزبان، وامتنع شريح أن يحكم في زمان الفتنة.
وعلى البصرة عمر بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم، وكان في آواخر هذه السنة وقعة مرج راهط كما قدمنا.
وقد استقر ملك الشام لمروان بن الحكم، وذلك بعد ظفره بالضحاك بن قيس وقتله له في الوقعة.
وقيل: إن فيها دخل مروان مصر وأخذها من نائبها الذي من جهة ابن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدر.
واستقرت يد مروان على الشام ومصر وأعمالها والله أعلم.
وقال الواقدي: لما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بذلك.
وقال ابن عباس: أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها، ولكن أرى أن تصلح ما يتهدم من بنيانها.
ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثة أيام، ثم غدا في اليوم الرابع فبدأ ينقض الركن إلى الأساس، فلما وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلا بالحجر مشبكا كأصابع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا فأمرهم أن يحفروا.
فلما ضربوا بالمعاول في تلك الأحجار المشبكة ارتجت مكة فتركه على حاله، ثم أسس عليه البناء، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض، باب يدخل منه وباب يخرج منه، ووضع الحجر الأسود بيده، وشده بفضة لأنه كان قد تصدع، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطخ جدرانها بالمسك وسترها بالديباج.
ثم اعتمر من مساجد عائشة، وطاف بالبيت وصلى وسعى، وأزال ما كان حول الكعبة من الزبالة، وما كان حولها من الدماء، وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، واسود الركن وانصدع الحجر الأسود من النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة المتقدم ذكره والله أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وستين
فيها: اجتمع إلى سليمان بن صرد نحو من سبعة عشر ألفا، كلهم يطلبون الأخذ بثأر الحسين ممن قتله.
قال الواقدي: لما خرج الناس إلى النخيلة كانوا قليلا، فلم تعجب سليمان قلتهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة بأعلى صوته: يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادي حتى بلغ المسجد الأعظم، فسمع الناس فخرجوا إلى النخيلة، وخرج أشراف الكوفة فكانوا قريبا من عشرين ألفا أو يزيدون، في ديوان سليمان بن صرد.
فلما عزم على المسير بهم لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف، فقال المسيب بن نجية لسليمان: إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، وباع نفسه لله عز وجل، فلا تنتظرن أحدا وامض لأمرك في جهادك عدوك، واستعن بالله عليهم.
فقام سليمان في أصحابه وقال: يا أيها الناس! من كان إنما خرج لوجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، ومن كان خروجه معنا للدنيا فليس منا ولا يصحبنا.
فقال الباقون معه: ما للدنيا خرجنا، ولا لها طلبنا.
فقيل له: أنسير إلى قتلة الحسين بالشام وقتلته عندنا بالكوفة كلهم مثل عمر بن سعد وغيره؟
فقال سليمان: إن ابن زياد هو الذي جهز الجيش إليه وفعل به ما فعل، فإذا فرغنا منه عدنا إلى أعدائه بالكوفة، ولو قاتلتوهم أولا، وهم أهل مصركم ما عدم الرجل منكم أن يرى رجلا قد قتل أباه قد قتل أخاه أو حميمه، فيقع التخاذل، فإذا فرغتم من الفاسق ابن زياد لكم المراد.
فقالوا: صدقت.
فنادى فيهم سيروا على اسم الله تعالى، فساروا عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول.
وقال في خطبته: من كان خرج منكم للدنيا ذهبها وزبرجدها فليس معنا مما يطلب شيء، وإنما معنا سيوف على عواتقنا ورماح في أكفنا، وزاد يكفينا حتى نلقى عدونا.
فأجابوه إلى السمع والطاعة والحالة هذه، وقال لهم: عليكم بابن زياد الفاسق أولا، فليس له إلا السيف، وها هو قد أقبل من الشام قاصدا العراق.
فصمم الناس معه على هذا الرأي، فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير، إلى سليمان بن صرد، يقولان له: إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد، وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشا ليقويهم على ما هم قد قصدوا له، وبعثوا بريدا بذلك ينتظرهم حتى يقدموا عليه.
فتهيأ سليمان بن صرد لقدومهم عليه في رؤوس الأمراء، وجلس في أبهته والجيوش محدقة به، وأقبل عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين لئلا يطمعوا فيهم، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الأيام كلها لا يبيت إلا في قصر الإمارة عند عبد الله بن يزيد خوفا على نفسه.
فلما اجتمع الأميران عند سليمان بن صرد قالا له وأشارا عليه: أن لا يذهبوا حتى تكون أيديهما واحدة على قتال ابن زياد، ويجهزوا معهم جيشا، فإن أهل الشام جمع كثير وجم غفير، وهم يحاجفون عن ابن زياد.
فامتنع سليمان من قبول قولهما وقال: إنا خرجنا لأمر لا نرجع عنه ولا نتأخر فيه.
فانصرف الأميران راجعين إلى الكوفة، وانتظر سليمان بن صرد وأصحابه أصحابهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم.
فقام سليمان في أصحابه خطيبا وحرضهم على الذهاب لما خرجوا عليه، وقال: لو قد سمع إخوانكم بخروجكم للحقوكم سراعا.
فخرج سليمان وأصحابه من النخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول سنة خمس وستين، فسار بهم مراحل، ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلف عنه طائفة من الناس الذين معه، فلما مروا بقبر الحسين صاحوا صيحة واحدة، وتباكوا وباتوا عنده ليلة يصلون ويدعون، وظلوا يوما يترحمون عليه ويستغفرون له ويترضون عنه ويتمنون أن لو كانوا ماتوا معه شهداء.
قلت: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة، لكان أنفع له، وأنصر من اجتماع سليمان وأصحابه لنصرته بعد أربع سنين - ولما أرادوا الانصراف جعل لا يريم أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ويستغفر له، حتى جعلوا يزدحمون أشد من ازدحامهم عند الحجر الأسود.
ثم ساروا قاصدين الشام، فلما اجتازوا بقرقيسيا تحصن منهم زفر بن الحارث، فبعث إليه سليمان بن صرد: إنا لم نأت لقتالكم فأخرج إلينا سوقا فإنا إنما نقيم عندكم يوما أو بعض يوم.
فأمر زفر بن الحارث أن يخرج إليهم سوق، وأمر للرسول إليه وهو المسيب بن نجبة بفرس وألف درهم.
فقال: أما المال فلا.
وأما الفرس فنعم.
وبعث زفر بن الحارث إلى سليمان بن صرد و رؤوس الأمراء الذين معه إلى كل واحد عشرين جزورا وطعاما وعلفا كثيرا، ثم خرج زفر بن الحارث فشيعهم.
وسار مع سليمان بن صرد وقال له: إنه قد بلغني أن أهل الشام قد جهزوا جيشا كثيفا وعددا كثيرا، مع حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن مخارق الغنوي، وجبلة بن عبد الله الخثعمي.
فقال سليمان بن صرد: على الله توكلنا وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
ثم عرض عليهم زفر أن يدخلوا مدينته أو يكونوا عند بابها، فإن جاءهم أحد كان معهم عليه، فأبوا أن يقبلوا وقالوا: قد عرض علينا أهل بلدنا مثل ذلك فامتنعنا.
قال: فإذا أبيتم ذلك فبادروهم إلى عين الوردة، فيكون الماء والمدينة والأسواق والسباق خلف ظهوركم، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه.
ثم أشار عليهم بما يعتمدونه في حال القتال فقال: ولا تقاتلوهم في فضاء فإنهم أكثر منكم عددا فيحيطون بكم، فإني لا أرى معكم رجالا والقوم ذووا رجال وفرسان، ومعهم كراديس فاحذروهم.
فأثنى عليه سليمان بن صرد والناس خيرا، ثم رجع عنهم، وسار سليمان بن صرد فبادر إلى عين الوردة فنزل غربيها، وأقام هناك قبل وصول أعدائه إليه، واستراح سليمان وأصحابه واطمأنوا.
وقعة عين وردة
فلما اقترب أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابه فرغبهم في الآخرة وزهدهم في الدنيا، وحثهم على الجهاد، وقال: إن قتلت فالأمير عليكم المسيب بن نجبة، فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فعبد الله بن والٍ، فإن قتل فرفاعة بن شداد.
ثم بعث بين يديه المسيب بن نجبة في خمسمائة فارس، فأغاروا على جيش ابن ذي الكلاع وهم عارون، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين، واستاقوا نعما.
وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد فأرسل بين يديه الحصين بن نمير في اثني عشر ألفا، فصبح سليمان بن صرد وجيشه واقفون في يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، وحصين بن نمير قائم في اثني عشر ألفا، وقد تهيأ كل من الفريقين لصاحبه.
فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلونه عن الحسين، وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر، فاقتتلوا قتالا شديدا عامة يومهم إلى الليل، وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين.
فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية عشرة ألف فارس، وقد أنّبه وشتمه ابن زياد، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل.
فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف، وذلك في يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى حين ارتفاع الضحى، ثم استدار أهل الشام بأهل العراق، وأحاطوا بهم من كل جانب.
فخطب سليمان بن صرد الناس وحرضهم على الجهاد، فاقتتل الناس قتالا عظيما جدا، ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ونادى: يا عباد الله، من أراد الرواح، إلى الجنة والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فليأت إليَّ.
فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم.
وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، وقُتل سليمان بن صرد أمير العراقيين، رماه رجل يقال له: يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب، ثم وقع، ثم وثب ثم وقع، وهو يقول: فزت ورب الكعبة، فأخذ الراية المسيب بن نجبة فقاتل بها قتالا شديدا وهو يقول:
قد علمت ميالة الذوائب * واضحة اللبات والترائب
أني غداة الروع والتغالب * أشجع من ذي لبدةٍ مواثب
قصاع أقرانٍ مخوف الجانب
ثم قاتل قتالا شديدا فقضى ابن نجبة نحبه، ولحق في ذلك الموقف صحبه رحمهم الله، فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل فقاتل قتالا شديدا أيضا.
وحمل حينئذ ربيعة بن مخارق على أهل العراق حملة منكرة، وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل، ثم اتحدا فحمل ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله.
ثم احتمل عمه فأخذ الراية عبد الله بن والٍ، فحرض الناس على الجهاد وجعل يقول: الرواح إلى الجنة -وذلك بعد العصر - وحمل بالناس ففرق من كان حوله ثم قتل - وكان من الفقهاء المفتيين - قتله أدهم بن محرز الباهلي أمير حرب الشاميين ساعتئذٍ.
فأخذ الراية رفاعة بن شداد فانحاز بالناس وقد دخل الظلام، ورجع الشاميون إلى رحالهم، وانشمر رفاعة بمن بقي معه راجعا إلى بلاده، فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم، فلم يبعثوا وراءهم طلبا ولا أحدا لما لقوا منهم من القتل والجراح.
فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن، قاصدين إلى نصرتهم، فلما أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم، ونعوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم، وتباكوا على إخوانهم، وانصرف أهل المدائن إليها، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها، وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير.
وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل منهم ويترحم عليهم، ويغبطهم بما نالوا من الشهادة، وجزيل الثواب ويقول: مرحبا بالذين أعظم الله أجورهم ورضي عنهم، والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها.
إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه في أرواح النبيين والشهداء والصالحين، وبعد: فأنا الأمير المأمون، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدماء أهل البيت.
وذكر كلاما كثيرا في هذا المعنى.
وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن ربه الذي كان يأتي إليه من الشياطين، فإنه قد كان يأتي إليه شيطان فيوحي إليه قريبا مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه، وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين رحمهم الله.
وقد كان سليمان بن صرد الخزرجي صحابيا جليلا نبيلا عابدا زاهدا، روى عن النبي ﷺ أحاديث في الصحيحين وغيرهما، وشهد مع علي صفين، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق.
فلما قدمها تخلوا عنه، وقتل بكربلاء بعد ذلك، ورأى هؤلاء أنهم كانوا سببا في قدومه، وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته، فندموا على ما فعلوه معه، ثم اجتمعوا في هذا الجيش وسموا جيشهم جيش التوابين، وسموا أميرهم سليمان بن صرد أمير التوابين، فقتل سليمان رضي الله عنه في هذه الوقعة بعين وردة سنة خمس وستين.
وقيل: سنة سبع وستين، والأول أصح.
وكان عمره يوم قتل ثلاثا وتسعين سنة رحمه الله.
وحمل رأسه ورأس المسيب بن نجبة إلى مروان بن الحكم بعد الوقعة.
وكتب أمراء الشاميين إلى مروان بما فتح الله عليهم وأظفرهم من عدوهم، فخطب الناس وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق، وقد قال: أهلك الله رؤوس الضلال سليمان بن صرد وأصحابه.
وعلق الرؤوس بدمشق، وكان مروان بن الحكم قد عهد بالأمر من بعده إلى ولده عبد الملك، ثم من بعده عبد العزيز، وأخذ بيعة الأمراء على ذلك في هذه السنة، قاله ابن جرير وغيره.
وفيها: دخل مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد الأشدق إلى الديار المصرية فأخذاها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وكان سبب ذلك أن مروان قصدها فخرج إليه نائبها ابن جحدم فقابله مروان ليقاتله فاشتغل به.
وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جحدم فدخل مصر فملكها، وهرب عبد الرحمن، ودخل مروان إلى مصر فملكها، وجعل عليها ولده عبد العزيز.
وفيها: بعث ابن الزبير أخاه مصعبا ليفتح له الشام، فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد فتلقاه إلى فلسطين فهرب منه مصعب بن الزبير وكر راجعا ولم يظفر بشيء.
واستقر ملك الشام ومصر لمروان.
وقال الواقدي: إن مروان حاصر مصر فخندق عبد الرحمن بن جحدم على البلد خندقا، وخرج في أهل مصر إلى قتاله، وكانوا يتناوبون القتال ويستريحون، ويسمى ذلك يوم التراويح.
واستمر القتل في خواص أهل البلد فقتل منهم خلق كثير، وقتل يومئذ عبد الله بن يزيد بن معدي كرب الكلاعي أحد الأشراف.
ثم صالح عبد الرحمن مروان على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله، فأجابه مروان إلى ذلك، وكتب إلى أهل مصر كتاب أمان بيده، وتفرق الناس وأخذوا في دفن موتاهم والبكاء عليهم.
وضرب مروان عنق ثمانين رجلا تخلفوا عن مبايعته، وضرب عنق الأكيدر بن حملة اللخمي، وكان من قتلة عثمان، وذلك في نصف جمادى الآخر يوم توفي عبد الله بن عمرو بن العاص.
فما قدروا أن يخرجوا بجنازته، فدفنوه في داره واستولى مروان على مصر وأقام بها شهرا، ثم استعمل عليها ولده عبد العزيز، وترك عنده أخاه بشر بن مروان، وموسى بن نصير وزيرا له، وأوصاه بالإحسان إلى الأكابر ورجع إلى الشام.
وفيها: جهز مروان جيشين، أحدهما مع حبيش بن دلجة العتيبي ليأخذ له المدينة، وكان من أمره ما سنذكره.
والآخر مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعه من نواب ابن الزبير، فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صرد وكان من أمرهم ما تقدم ذكره.
واستمر جيش الشاميين ذاهبا إلى العراق، فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم.
وكانت وفاته في شهر رمضان من هذه السنة، وكان سبب موته أنه تزوج بأم خالد امرأة يزيد بن معاوية، وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة.
وإنما أراد مروان بتزويجه إياها ليصغر ابنها خالدا في أعين الناس، فإنه قد كان في نفوس كثير من الناس منه إن يملكوه بعد أخيه معاوية، فتزوج أمه ليصغر أمره.
فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان، إذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه، فلما جلس قال له فيما خاطبه به: يا ابن الرطبة الأست.
فذهب خالد إلى أمه فأخبرها بما قال له، فقالت: اكتم ذلك ولا تعلمه أنك أعلمتني بذلك.
فلما دخل عليها مروان قال لها: هل ذكرني خالد عندك بسوء؟
فقالت له: وما عساه يقول لك، وهو يحبك ويعظمك؟
ثم إن مروان رقد عندها، فلما أخذه النوم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه وتحاملت عليها هي وجواريها حتى مات غما، وكان ذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق، وله من العمر ثلاث وستون سنة.
وقيل: إحدى وثمانون سنة، وكانت إمارته تسعة أشهر.
وقيل: عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام.
ترجمة مروان بن الحكم
هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أبو عبد الملك ويقال: أبو الحكم.
ويقال: أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة لأنه ولد في حياة النبي ﷺ، وروى عنه في حديث صلح الحديبية.
وفي رواية صحيح البخاري عن مروان، والمسور بن مخرمة، عن جماعة من الصحابة الحديث بطوله.
وروى مروان عن عمر، وعثمان وكان كاتبه - أي: كان كاتب عثمان - وعلي، وزيد بن ثابت، وبسيرة بنت صفوان الأزدية وكانت حماته.
وقال الحاكم أبو أحمد: كانت خالته، ولا منافاة بين كونها حماته وخالته.
وروى عنه ابنه عبد الملك، وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومجاهد وغيرهم.
قال الواقدي، ومحمد بن سعد: أدرك النبي ﷺ ولم يحفظ عنه شيئا، وكان عمره ثمان سنين حين توفي النبي ﷺ.
وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها.
روى ابن عساكر وغيره أن عمر بن الخطاب خطب امرأة إلى أمها فقالت: قد خطبها جرير بن عبد الله البجلي وهو سيد شباب المشرق، ومروان بن الحكم وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر وهو من قد علمتم.
فقالت المرأة: أجادٌّ يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قالت: قد زوجناك يا أمير المؤمنين.
وقد كان عثمان بن عفان يكرمه ويعظمه، وكان كاتب الحكم بين يديه، ومن تحت رأسه جرت قضية الدار، وبسببه حصر عثمان بن عفان فيها.
وألح عليه أولئك أن يسلم مروان إليهم فامتنع عثمان أشد الامتناع، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالا شديدا، وقتل بعض الخوارج، وكان على الميسرة يوم الجمل، ويقال: إنه رمى طلحة بسهم في ركبته فقتله فالله أعلم.
وقال أبو الحكم: سمعت الشافعي يقول: كان علي يوم الجمل حين انهزم الناس يكثر السؤال عن مروان فقيل له في ذلك.
فقال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد من شباب قريش.
وقال ابن المبارك: عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر أنه قال لمعاوية: من تركت لهذا الأمر من بعدك؟
فقال: أما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم.
وقد استنابه على المدينة غير مرة، يعزله ثم يعيده إليها، وأقام للناس الحج في سنين متعددة.
وقال حنبل: عن الإمام أحمد، قال: يقال: كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب.
وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: وذكر مروان يوما فقال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء وهذا الشأن.
وقال إسماعيل بن عياش: عن صفوان بن عمرة، عن شريح بن عبيد وغيره.
قال: كان مروان إذا ذكر الإسلام قال:
بنعمت ربي لا بما قدمت يدي * ولا بتراثي إنني كنت خاطئا
وقال الليث عن يزيد بن حبيب، عن سالم أبي النضر أنه قال: شهد مروان جنازة فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطا وحرم قيراطا، فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له.
وروى المدائني عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد: أن مروان كان أسلف علي بن الحسين حتى يرجع إلى المدينة بعد مقتل أبيه الحسين ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع من علي بن الحسين شيئا، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع من قبولها، فألح عليه فقبلها.
وقال الشافعي: أنبأنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن الحسن والحسين كانا يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها.
وقد روى عبد الرزاق: عن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان.
فقال له رجل: خالفت السنة.
فقال له مروان: إنه قد ترك ما هنالك.
فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
قالوا: ولما كان نائبا بالمدينة كان إذا وقعت معضلة جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها.
قالوا: وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل: صاع مروان.
وقال الزبير بن بكار: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي علي اللهبي، عن إسماعيل بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه.
قال: خرج أبو هريرة من عند مروان فلقيه قوم قد خرجوا من عنده فقالوا له: يا أبا هريرة، إنه أشهدنا الآن على مائة رقبة أعتقها الساعة.
قال: فغمز أبو هريرة يدي، وقال: يا أبا سعيد، بك من كسب طيب خير من مائة رقبة.
قال الزبير: البك الواحد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد.
قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، ودين الله دخلا، وعباد الله خولا».
ورواه أبو يعلى عن زكريا بن زحمويه، عن صالح بن عمر، عن مطرف، عن عطية، عن أبي سعيد.
قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا دين الله دخلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا».
وقد رواه الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب، عن أبي المغيرة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي ذر.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا».
وذكره، وهذا منقطع.
ورواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة من قوله: «إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا» فذكره.
ورواه البيهقي وغيره من حديث ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن ابن وهب، عن معاوية، وعبد الله بن عباس، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا ستة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة».
وأن رسول الله ﷺ ذكر عبد الملك بن مروان فقال: «أبو الجبابرة الأربعة».
وهذه الطرق كلها ضعيفة.
وروى أبو يعلى وغيره من غير وجه، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: «أن رسول الله ﷺ رأى في المنام أن بني الحكم يرقون على منبره وينزلون، فأصبح كالمتغيظ، وقال: «رأيت بني الحكم ينزون على منبري نزو القردة».
فما رئُي رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات.
ورواه الثوري عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا وفيه: «فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها».
فقرت عينه وهي قوله: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [39] يعني: بلاء للناس واختبارا، وهذا مرسل وسنده إلى سعيد ضعيف.
وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة، فلهذا أضربنا صفحا عن إيرادها لعدم صحتها.
وقد كان أبوه الحكم من أكبر أعداء النبي ﷺ، وإنما أسلم يوم الفتح، وقدم الحكم المدينة ثم طرده النبي ﷺ إلى الطائف ومات بها.
ومروان كان أكبر الأسباب في حصار عثمان لأنه زور على لسانه كتابا إلى مصر بقتل أولئك الوفد، ولما كان متوليا على المدينة لمعاوية كان يسب عليا كل جمعة على المنبر.
وقال له الحسن بن علي: لقد لعن الله أباك الحكم وأنت في صلبه على لسان نبيه فقال: لعن الله الحكم وما ولد والله أعلم.
وقد تقدم أن حسان بن مالك لما قدم عليه مروان أرض الجابية، أعجبه إتيانه إليه، فبايع له وبايع أهل الأردن على أنه إذا انتظم له الأمر نزل عن الأمرة لخالد بن يزيد، ويكون لمروان إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد نيابة دمشق، وكانت البيعة لمروان يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد وغيره.
وقال الليث: وكانت وقعة مرج راهط في ذي الحجة من هذه السنة بعد عيد النحر بيومين.
قالوا: فغلب الضحاك بن قيس، واستوثق له ملك الشام ومصر، فلما استقر ملكه في هذه البلاد بايع من بعده لولده عبد الملك، ثم من بعده لولده عبد العزيز - والد عمر بن عبد العزيز - وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، لأنه كان لا يراه أهلا للخلافة، ووافقه على ذلك مالك بن حسان، وإن كان خالا لخالد بن يزيد، وهو الذي قام بأعباء بيعة عبد الملك، ثم إن أم خالد دبرت أمر مروان فسمته.
ويقال: بل وضعت على وجهه وهو نائم وسادة فمات مخنوقا، ثم إنها أعلنت الصراخ هي وجواريها وصحن: مات أمير المؤمنين فجأة.
ثم قام من بعده ولده عبد الملك بن مروان كما سنذكره.
وقال عبد الله بن أبي مذعور: حدثني بعض أهل العلم قال: كان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار، وكان نقش خاتمه العزة لله.
وقال الأصمعي: حدثنا عدي بن أبي عمار، عن أبيه، عن حرب بن زياد قال: كان نقش خاتم مروان آمنت بالعزيز الرحيم.
وكانت وفاته بدمشق عن إحدى.
وقيل: ثلاث وستين سنة.
وقال أبو معشر: كان عمره يوم توفي إحدى وثمانين سنة.
وقال خليفة: حدثني الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جده قال: مات مروان بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوما.
وقال غيره: عشرة أشهر.
وقال ابن أبي الدنيا وغيره: كان قصيرا، أحمر الوجه أوقص، دقيق العنق، كبير الرأس واللحية، وكان يلقب خيط باطل.
قال ابن عساكر: وذكر سعيد بن كثير بن عفير أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصنبرة ويقال: بلد.
وقد قيل: إنه مات بدمشق ودفن بين باب الجابية وباب الصغير.
وكان كاتبه عبيد بن أوس، وحاجبه المنهال مولاه، وقاضيه أبو إدريس الخولاني، وصاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وكان له من الولد عبد الملك، وعبد العزيز، ومعاوية، وغير هؤلاء، وكان له عدة بنات من أمهات شتى.
خلافة عبد الملك بن مروان
بويع له بالخلافة في حياة أبيه، فلما مات أبوه في ثالث رمضان منها جددت له البيعة بدمشق ومصر وأعمالهما، فاستقرت يده على ما كانت يد أبيه عليه، وقد كان أبوه قبل وفاته بعث بعثين:
أحدهما: مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعها من نواب ابن الزبير، فلقي في طريقه جيش التوابين مع سليمان بن صرد عند عين الوردة، فكان من أمرهم ما تقدم، من ظفره بهم، وقتله أميرهم وأكثرهم.
والبعث الآخر: مع جيش بن دلجة إلى المدينة ليرتجعها من نائب ابن الزبير، فسار نحوها، فلما انتهى إليها هرب نائبها جابر بن الأسود بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، فجهز نائب البصرة من قبل ابن الزبير وهو الحارث بن عبد الله بن ربيعة، جيشا من البصرة إلى ابن دلجة بالمدينة، فلما سمع بهم حُبيش بن دلجة سار إليهم.
وبعث ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد نائبا عن المدينة، وأمره أن يسير في طلب حُبيش، فسار في طلبهم حتى لحقهم بالربذة، فرمى يزيد بن سياه حُبيشا بسهم فقتله، وقتل بعض أصحابه وهزم الباقون، وتحصن منهم خمسمائة في المدينة، ثم نزلوا على حكم عباس بن سهل فقتلهم صبرا، ورجع فلُّهم إلى الشام.
قال ابن جرير: ولما دخل يزيد بن سياه الأسواري قاتل حبيش بن دلجة إلى المدنية مع عباس بن سهل كان عليه ثياب بياض وهو راكب برذونا أشهب، فما لبث أن اسودت ثيابه ودابته مما يتمسح الناس به ومن كثرة ما صبوا عليه من الطيب و المسك.
وقال ابن جرير: وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة.
وفيها: قتل نافع بن الأزرق وهو رأس الخوارج ورأس أهل البصرة، مسلم بن عبيس فارس أهل البصرة، ثم قتله ربيعة السلوطي وقتل بينهما نحو خمسة أمراء، وقتل في وقعة الخوارج قرة بن إياس المزني أبو معاوية، وهو من الصحابة.
ولما قتل نافع بن الأزرق رأست الخوارج عليهم عبيد الله بن ماحوز، فسار بهم إلى المدائن فقتلوا أهلها، ثم غلبوا على الأهواز وغيرها، وجبوا الأموال وأتتهم الأمداد من اليمامة والبحرين، ثم ساروا إلى أصفهان وعليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فالتقاهم فهزمهم، ولما قتل أمير الخوارج ابن ماحوز كما سنذكر، أقاموا عليهم قطري بن الفجاءة أميرا.
ثم أورد ابن جرير قصة قتالهم مع أهل البصرة بمكان يقال له: دولاب، وكانت الدولة للخوارج على أهل البصرة، وخاف أهل البصرة من الخوارج أن يدخلوا البصرة، فبعث ابن الزبير فعزل نائبها عبد الله بن الحارث المعروف: بببّة، بالحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف: بالقباع.
وأرسل ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة الأزدي على عمل خراسان، فلما وصل إلى البصرة قالوا له: إن قتال الخوارج لا يصلح إلا لك.
فقال: إن أمير المؤمنين قد بعثني إلى خراسان، ولست أعصي أمره.
فاتفق أهل البصرة مع أميرهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على أن كتبوا كتابا على لسان ابن الزبير إلى المهلب يأمره فيه بالمسير للخوارج ليكفهم عن الدخول إلى البصرة، فلما قرىء عليه الكتاب اشترط على أهل البصرة أن يقوي جيشه من بيت مالهم، وأن يكون له ما غلب عليه من أموال الخوارج، فأجابوه إلى ذلك.
ويقال: إنهم كتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأمضى لهم ذلك وسوّغه، فسار إليهم المهلب.
وكان شجاعا بطلا صنديدا، فلما أراد قتال الخوارج أقبلوا إليه يزفون في عدة لم ير مثلها من الدروع والزرود والخيول والسلاح، وذلك أن لهم مدة يأكلون تلك النواحي، وقد صار لهم تحمل عظيم مع شجاعة لا تدانا، وإقدام لا يسامى، وقوة لا تجارى، وسبق إلى حومة الوغى.
فلما تواقف الناس بمكان يقال له: سل وسل أبرى اقتتلوا قتالا شديدا عظيما، وصبر كل من الفريقين صبرا باهرا، وكان في نحو من ثلاثين ألفا، ثم إن الخوارج حملوا حملة منكرة، فانهزم أصحاب المهلب لا يلوي والد على ولد، ولا يلتفت أحد إلى أحد، ووصل إلى البصرة فُلاّ لهم.
وأما المهلب فإنه سبق المنهزمين فوقف لهم بمكان مرتفع، وجعل ينادي: إلى عباد الله، فاجتمع إليه من جيشه ثلاثة آلاف من الفرسان الشجعان، فقام فيهم خطيبا فقال في خطبته:
أما بعد، أيها الناس، فإن الله تعالى ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، وأنتم فرسان الصبر وأهل النصر، وما أحب أن أحدا ممن انهزموا معكم الآن: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالا } [40].
ثم قال: عزمت على كل رجل منكم إلا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا إلى عسكرهم فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيولهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو أن لا ترجع خيولهم إلا وقد استبحتم عسكرهم، وتقتلوا أميرهم.
ففعل الناس ذلك، فزحف بهم المهلب بن أبي صفرة على معشر الخوارج فقتل منهم خلقا كثيرا نحوا من سبعة آلاف، وقتل عبيد الله بن الماحوز في جماعة كثيرة من الأزارقة، واحتاز من أموالهم شيئا كثيرا.
وقد أرصد المهلب خيولا بينه وبين الذين يرجعون من طلب المنهزمين، فجعلوا يقتطعون دون قومهم، وانهزم فلهم إلى كرمان وأرض أصبهان، وأقام المهلب بالأهواز حتى قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة، وعزل عنها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كما سيأتي قريبا.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة وجّه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمدا إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر.
قلت: محمد بن مروان هذا هو والد مروان الحمار وهو مروان بن محمد بن مروان، وهو آخر خلفاء بني أمية، ومن يده استلبت الخلافة العباسيون كما سيأتي.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل ابن الزبير أخاه عبيد الله عن إمرة المدينة وولاها أخاه مصعبا، وذلك أن عبيد الله خطب الناس فقال في خطبته: وقد رأيتم ما صنع الله بقوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم.
فلما بلغت أخاه قال: إن هذا لهو التكلف، وعزله.
ويسمى عبيد الله مقِّوم الناقة لذلك.
قال ابن جرير: وفي آخرها عزل ابن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى عليها عبد الله بن مطيع الذي كان أمير المهاجرين يوم الحرة، لما خلعوا يزيد.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان الطاعون الجارف بالبصرة.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان في سنة أربع وستين.
وقد قيل: إنما كان في سنة تسع وستين، وهذا هو المشهور الذي ذكره شيخنا الذهبي وغيره، وكان معظم ذلك بالبصرة، وكان ذلك في ثلاثة أيام، فمات في أول يوم من الثلاثة من أهل البصرة سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني منها: إحدى وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث منه ثلاثة وسبعون ألفا.
وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، حتى ذكر أن أم الأمير بها ماتت فلم يوجد لها من يحملها، حتى استأجروا لها أربعة أنفس.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدثنا عبيد الله، ثنا أحمد بن عصام، حدثني معدي، عن رجل، يكنى أبا النفيد، وكان قد أدرك من هذا الطاعون، قال: كنا نطوف بالقبائل، وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فنسد بابها عليهم.
قال: فدخلنا دارا ففتشناها فلم نجد فيها أحدا حيا فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف فنفتح تلك السدد عن الأبواب، ففتحنا سدة الباب الذي كنا فتشناه - أو قال الدار التي كنا سددناه - وفتشناها فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين، كأنما أخذ ساعتئذ من حجر أمه.
قال: فبينما نحن وقوف على الغلام نتعجب منه إذ دخلت كلبة من شق في الحائط فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها.
قال معدي: وأنا رأيت ذلك الغلام في مسجد البصرة وقد قبض على لحيته.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير الكعبة البيت الحرام، يعني: أكمل بناءها وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قال ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثني عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني، أبو محمد، حدثني زياد بن جبل: أنه كان بمكة يوم كان عليها ابن الزبير، فسمعته يقول:
حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال لعائشة: «لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم فأزيد في الكعبة من الحجر».
قال: فأمر ابن الزبير فحفروا فوجدوا تلاعا أمثال الإبل، فحركوا منها تلعة - أو قال صخرة - فبرقت برقة فقال: أقروها على أساسها، فبناها ابن الزبير وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قلت: هذا الحديث له طرق متعددة عن عائشة في الصحاح، والحسان، والمسانيد، وموضوع سياق طرق ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن جرير في هذه السنة حروبا جرت بين عبد الله بن خازم بخراسان، وبين الحرشي ابن هلال القزيعي يطول تفصيلها.
قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي.
وممن توفي فيها من الأعيان: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو محمد السهمي، كان من خيار الصحابة وعلمائهم وعبادهم، وكتب عن النبي ﷺ كثيرا، أسلم قبل أبيه، ولم يكن أصغر من أبيه إلا باثني عشرة سنة.
وكان واسع العلم مجتهدا في العبادة، عاقلا، وكان يلوم أباه في القيام مع معاوية، وكان سمينا، وكان يقرأ الكتابين القرآن والتوراة.
وقيل: إنه بكى حتى عمي، وكان يقوم الليل ويصوم يوما ويفطر يوما ويصوم يوما.
استنابه معاوية على الكوفة، ثم عزله عنها بالمغيرة بن شعبة، توفي في هذه السنة بمصر.
وقتل بمكة عبد الله بن سعدة الفزاري، له صحبة، نزل دمشق.
وقيل: إنه من سبي فزارة.
ثم دخلت سنة ست وستين
ففيها: وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ليأخذوا ثأر الحسين بن علي فيما يزعم، وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد مسجونا فكتب إليهم يعزيهم في سليمان بن صرد، ويقول: أنا عوضه وأنا أقتل قتلة الحسين.
فكتب إليه رفاعة بن شداد وهو الذي رجع بمن بقي من جيش التوابين نحن على ما تحب، فشرع المختار يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية: أبشروا فإني لو قد خرجت إليهم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف فجعلتهم بإذن الله ركاما، وقتلهم أفرادا وتوأما، فرحب الله بمن قارب منهم واهتدى، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى.
فلما وصلهم الكتاب قرؤوه سرا وردوا إليه: إنا كما تحب، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك، فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية، وكانت امرأة صالحة، وزوجها عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فكتب إليه أن يشفع في خروجه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه، فلم يمكنهما رده، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر: قد علمتما ما بيني وبينكما من الود، وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله والسلام.
فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة، وكل مملوك له عبد وأمة حر، فالتزم لهما بذلك، ولزم منزله، وجعل يقول: قاتلهما الله، أما حلفاني بالله، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير.
وأما إهدائي ألف بدنة فيسير، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكا واحدا، واجتمعت الشيعة عليه وكثر أصحابه وبايعوه في السر.
وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة، وهم السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن شداد الجشمي.
ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع نائبا عليها، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة.
فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة في رمضان سنة خمس وستين، خطب الناس وقال في خطبته: إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير في فيئكم بسيرة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.
فقام إليه السائب بن مالك الشيعي فقال: لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا، ولا نريد سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر، وإن كان لا يريد للناس إلا خيرا، وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة.
فسكت الأمير وقال: إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك.
وجاء صاحب الشرطة وهو إياس بن مضارب البجلي إلى ابن مطيع فقال: إن هذا الذي يرد عليك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن من المختار، فابعث إليه فاردده إلى السجن فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له، وكأنك به وقد وثب في المصر.
فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة وأميرا آخر معه، فدخلا على المختار فقالا له: أجب الأمير.
فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتهيأ للذهاب معهما، فقرأ زائدة بن قدامة: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الآية[41]. فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه، وأظهر أنه مريض، وقال: أخبرا الأمير بحالي، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه، فصدقهما ولها عنه.
فلما كان شهر المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب الأخذ بثأر الحسين فيما يزعم، فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه.
فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم: إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد بن الحنفية، فكره ذلك وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه، فإنه لم يكن بإذن محمد بن الحنفية، وهمّ بالخروج قبل رجوع أولئك، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك.
ثم كان الأمر على ما سجع به، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد.
وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار: اعلم أن جميع أمراء الكوفة مع عبد الله بن مطيع وهم إلب علينا، وأنه إن بايعك إبراهيم بن الأشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه.
فبعث إليه المختار جماعة يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه.
فقال: قد أجبتكم إلى ما سألتم، على أن أكون أنا ولي أمركم.
فقالوا: إن هذا لا يمكن، لأن المهدي قد بعث لنا المختار وزيرا له وداعيا إليه.
فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر فرجعوا إلى المختار فأخبروه.
فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رؤوس أصحابه إليه، فدخل علي بن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه، فدعاه إلى الدخول معهم، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي ﷺ، والأخذ بثأرهم.
فقال ابن الأشتر: إنه قد جائتني كتب محمد بن الحنفية بغير هذا النظام.
فقال المختار: إن هذا زمان وهذا زمان.
فقال ابن الأشتر: فمن يشهد أن هذا كتابه؟
فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك، فقام ابن الأشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل.
قال الشعبي: وكنت حاضرا أنا وأبي أمر إبراهيم بن الأشتر ذلك المجلس، فلما انصرف المختار قال إبراهيم بن الأشتر: يا شعبي ما ترى فيما شهد به هؤلاء؟
فقلت: إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون.
قال: وكتمته ما في نفسي من اتهامهم، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين، وكنت على رأي القوم.
ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة - سنة ست وستين -.
وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة وألزم كل أمير أن يحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه، وعليهم الدروع تحت الأقبية، فلقيه إياس بن مضارب فقال له: أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة؟ إن أمرك لمريب، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه.
فتناول ابن الأشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره فسقط، وأمر رجلا فاحتز رأسه وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه.
فقال له المختار: بشرك الله بخير، فهذا طائر صالح.
ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة، فأمر المختار بالنار أن ترفع وأن ينادي شعار أصحابه: يا منصور أمت، يا ثارات الحسين.
ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول:
قد علمت بيضاء حسناء الطلل * واضحة الخدين عجزاء الكفل
أني غداة الروع مقدام بطل
وخرج بين يديه إبراهيم بن الأشتر فجعل يتقصد الأمراء الموكلين بنواحي البلد فيطردهم عن أماكنهم واحدا واحدا.
وينادي بشعار المختار، وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار: يا ثارات الحسين.
فاجتمع الناس إليه من ههنا وههنا، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء ابن الأشتر فطرده عنه، فرجع شبث إلى ابن مطيع وأشار عليه أن يجمع الأمراء إليه، وأن ينهض بنفسه، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل.
وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح، فقرأ فيها: { والنازعات غرقا } و { عبس وتولى } في الثانية قال بعض من سمعه: فما سمعت إماما أفصح لهجة منه.
وقد جهز ابن مطيع جيشه ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي، وأربع آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب، فوجه المختار بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي.
فأما ابن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث وقتله وجاء فأحاط بالمختار وحصره.
وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحوه فاعترض له حسان بن فائد بن العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع، فاقتتلوا ساعة.
فهزمه إبراهيم، ثم أقبل نحو المختار فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه، فما زال حتى طردهم فكروا راجعين، وخلص إبراهيم إلى المختار، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة.
فقال له إبراهيم بن الأشتر: اعمد بنا إلى قصر الإمارة فليس دونه أحد يرد عنه.
فوضعوا ما معهم من الأثقال، وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال، واستخلف على من هنالك أبا عثمان النهدي، وبعث بين يديه ابن الأشتر، وعبأ المختار جيشه كما كان، وسار نحو القصر.
فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن الذي قتل الحسين في ألفين آخرين، فبعث إليه المختار سعد بن منقذ الهمداني، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث.
وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس، واستخلف عليه شبث بن ربعي، فتقدم ابن الأشتر إلى الجيش الذي مع ابن مساحق، فكان بينهم قتال شديد، قتل فيه رفاعة بن شداد أمير جيش التوابين الذين قدم بهم، وعبد الله بن سعد وجماعة غيرهم.
ثم انتصر عليهم ابن الأشتر فهزمهم، وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة، فأطلقه، وكان لا ينساها بعد لابن الأشتر.
ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث فإنه لزم داره، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا، فقال: ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة.
فقال له: فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر وبما كان منا في نصره وإقامة دولته.
فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الأشعري، فلما أصبح الناس أخذ الأمراء إليهم أمانا من ابن الأشتر فأمنهم، خرجوا من القصر وجاؤوا إلى المختار فبايعوه، ثم دخل المختار إلى القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر.
فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة، ثم دعا الناس إلى البيعة وقال: فوالذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علّي أهدى منها.
ثم نزل فدخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بثأر أهل البيت، وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فأراه أنه لا يسمع قوله، فكرر ذلك ثلاثا فسكت الرجل، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم.
وقال له: اذهب فقد أخذت بمكانك - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى ابن الزبير وهو مغلوب، وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة، ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف.
فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل اليشكري، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره، وقالوا: لأبي عمرة كيسان مولى غزينة - وكان على حرسه - قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا.
فأنهى ذلك أبو عمرة إليه، فقال: بل هم مني وأنا منهم، ثم قال: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } [42].
فقال لهم أبو عمرة: أبشروا فإنه سيدنيكم ويقربكم، فأعجبهم ذلك وسكتوا.
ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والرساتيق، من أرض العراق وخراسان، وعقد الألوية والرايات، وقرر الإمارة والولايات، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم، فلما طال ذلك عليه استقصى شريحا فتكلم في شريح طائفة من الشيعة.
وقالوا: إنه شهد حجر بن عدي، وأنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة كما أرسله به، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء.
فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا.
فصل تتبع قتلة الحسين رضي الله عنه
ثم شرع المختار يتتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله، وكان سبب ذلك أن عبيد الله بن زياد كان قد جهزه مروان من دمشق ليدخل الكوفة، فإن ظفر بها فليبحها ثلاثة أيام، فسار ابن زياد قاصدا الكوفة فلقي جيش التوابين فكان من أمرهم ما تقدم.
ثم سار من عين وردة حتى انتهى إلى الجزيرة فوجد بها قيس غيلان، وهم من أنصار ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب منهم قتلى كثيرة يوم مرج راهط، فهم إلب عليه، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فتعوق عن المسير سنة وهو في حرب قيس غيلان بالجزيرة.
ثم وصل إلى الموصل فانحاز نائبها عنه إلى تكريت، وكتب إلى المختار يعلمه بذلك فندب المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف اختارها.
وقال له: إني سأمدك بالرجال بعد الرجال.
فقال له: لا تمدني إلا بالدعاء.
وخرج معه المختار إلى ظاهر الكوفة فودعه ودعا له وقال له: ليكن خبرك في كل يوم عندي، وإذا لقيت عدوك فناجزك فناجزه، ولا تؤخر فرصة.
ولما بلغ مخرجهم ابن زياد جهز بين يديه سريتين، إحداهما مع ربيعة بن مخارق ثلاثة آلاف، والأخرى مع عبد الله بن حملة ثلاثة آلاف، وقال: أيكم سبق فهو الأمير، وإن سبقتما معا فالأمير عليكم أسنكما.
فسبق ربيعة بن مخارق إلى يزيد بن أنس فالتقيا في طرف أرض الموصل مما يلي الكوفة، فتواقفا هنالك، ويزيد بن أنس مريض مدنف، وهو مع ذلك يحرض قومه على الجهاد، ويدور على الأرباع، وهو محمول مضنى وقال للناس: إن هلكت فالأمير على الناس عبد الله بن ضمرة الفزاري، وهو رأس الميمنة، وإن هلك فمسعر بن أبي مسعر رأس الميسرة، وكان ورقاء بن خالد الأسدي على الخيل.
وهو وهؤلاء الثلاثة أمراء الأرباع، وكان ذلك في يوم عرفة من سنة ست وستين عند إضاءة الصبح، فاقتتلوا هم والشاميون قتالا شديدا، واضطربت كل من الميمنتين والميسرتين، ثم حمل ورقاء على الخيل فهزمها وفر الشاميون وقتل أميرهم ربيعة بن مخارق.
واحتاز جيش المختار ما في معسكر الشاميين، ورجع فرارهم فلقوا الأمير الآخر عبد الله بن حملة، فقال: ما خبركم؟
فأخبروه فرجع بهم وسار بهم نحو يزيد بن أنس فانتهى إليهم عشاء، فبات الناس متحاجزين، فلما أصبحوا توافقوا على تعبئتهم، وذلك يوم الأضحى من سنة ست وستين، فاقتتلوا قتالا شديدا.
فهزم جيش المختار جيش الشاميين أيضا، وقتلوا أميرهم عبد الله بن حملة، واحتووا على ما في معسكرهم، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، فجاؤوا بهم إلى يزيد بن أنس وهو على آخر رمق، فأمر بضرب أعناقهم.
ومات يزيد بن أنس من يومه ذلك وصلى عليه خليفته ورقاء بن عامر ودفنه، وسقط في أيدي أصحابه وجعلوا يتسللون راجعين إلى الكوفة، فقال لهم ورقاء: يا قوم، ماذا ترون؟
إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل في ثمانين ألفا من الشام، ولا أرى لكم بهم طاقة، وقد هلك أميرنا، وتفرق عنا طائفة من الجيش من أصحابنا، فلو انصرفنا راجعين إلى بلادنا، ونظهر أنا إنما انصرفنا حزنا منا على أميرنا لكان خيرا لنا من أن نلقاهم فيهزموننا ونرجع مغلوبين، فاتفق رأي الأمراء على ذلك، فرجعوا إلى الكوفة.
فلما بلغ خبرهم أهل الكوفة، وأن يزيد بن أنس قد هلك، أرجف أهل الكوفة بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس في المعركة وانهزم جيشه، وعما قليل يقدم عليكم ابن زياد فيستأصلكم ويشتف خضراكم.
ثم تمالؤا على الخروج على المختار، وقالوا: هو كذاب، واتفقوا على حربه وقتاله وإخراجه من بين أظهرهم، واعتقدوا أنه كذاب.
وقالوا: قد قدم موالينا على أشرافنا، وزعم أن ابن الحنفية قد أمره بالأخذ بثأر الحسين وهو لم يأمره بشيء، وإنما هو متقول عليه، وانتظروا بخروجهم عليه أن يخرج من الكوفة إبراهيم بن الأشتر فإنه قد عينه المختار أن يخرج في سبعة آلاف للقاء ابن زياد.
فلما خرج ابن الأشتر اجتمع أشراف الناس ممن كان في جيش قتلة الحسين وغيرهم في دار شبث بن ربعي، وأجمعوا أمرهم على قتال المختار، ثم وثبوا فركبت كل قبيلة مع أميرها في ناحية من نواحي الكوفة، وقصدوا قصر الإمارة، وبعث المختار عمرو بن ثوبة بريدا إلى إبراهيم بن الأشتر ليرجع إليه سريعا.
وبعث المختار إلى أولئك يقول لهم: ماذا تنقمون؟ فإني أجيبكم إلى جميع ما تطلبون، وإنما يريد أن يثبطهم عن مناهضته حتى قدم إبراهيم بن الأشتر، وقال: إن كنتم لا تصدقونني في أمر محمد بن الحنفية فابعثوا من جهتكم وأبعث من جهتي من يسأله عن ذلك.
ولم يزل يطاولهم حتى قدم ابن الأشتر بعد ثلاث فانقسم هو والناس فرقتين، فتكفل المختار بأهل اليمن، وتكفل ابن الأشتر بمضر، وعليهم شبث بن ربعي، وكان ذلك بإشارة المختار، حتى لا يتولى ابن الأشتر بقتال قومه من أهل اليمن فيحنو عليهم وكان المختار شديدا عليهم.
ثم اقتتل الناس في نواحي الكوفة قتالا عظيما، وكثرت القتلى بينهم من الفريقين، وجرت فصول وأحوال حربية يطول استقاؤها، وقتل جماعة من الأشراف منهم عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الكندي، وسبعمائة وثمانين رجلا من قومه، وقتل من مضر بضعة عشر رجلا.
ويعرف هذا اليوم بجبانة السبيع، وكان ذلك يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، ثم كانت النصرة للمختار عليهم، وأسر منهم خمسمائة أسير.
فعرضوا عليه فقال: انظروا من كان منهم شهد مقتل الحسين فاقتلوه، فقتل منهم مائتان وأربعون رجلا، وقتل أصحابه منهم من كان يؤذيهم ويسيء إليهم بغير أمر المختار، ثم أطلق الباقين، وهرب عمرو بن الحجاج الزبيدي، وكان ممن شهد قتل الحسين فلا يدري أين ذهب من الأرض.
مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسنا
وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير، وكان ممن هرب لقصده شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فبعث المختار في أثره غلاما له يقال: زرنب، فلما دنا منه قال شمر لأصحابه: تقدموا وذروني وراءكم بصفة أنكم هربتم وتركتموني حتى يطمع فيَّ هذا العلج.
فساقوا وتأخر شمر فأدركه زرنب فعطف عليه شمر فدق ظهره فقتله، وسار شمر وتركه، وكتب كتابا إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة ينذره بقدومه عليه، ووفادته إليه، وكان كل من فر من هذه الوقعة يهرب إلى مصعب بالبصرة، وبعث شمر الكتاب مع علج من علوج قرية قد نزل عندها يقال لها: الكلبانية عند نهرٍ إلى جانب تلٍ هناك.
فذهب ذلك العلج فلقيه علج آخر فقال له: إلى أين تذهب؟
قال: إلى مصعب.
قال: ممن؟
قال: من شمر.
فقال: اذهب معي إلى سيدي، وإذا سيده أبو عمرة أميري حرس المختار، وهو قد ركب في طلب شمر فدله العلج على مكانه فقصده أبو عمرة، وقد أشار أصحاب شمر عليه أن يتحول من مكانه ذلك، فقال لهم: هذا كله فرق من الكذاب، والله لا أرتحل من ههنا إلى ثلاثة أيام حتى أملأ قلوبهم رعبا.
فلما كان الليل كابسهم أبو عمرة في الخيل فأعجلهم أن يركبوا أو يلبسوا أسلحتهم، وثار إليهم شمر بن ذي الجوشن فطاعنهم برمحه وهو عريان، ثم دخل خيمته فاستخرج منها سيفا وهو يقول:
نبهتم ليث عرينٍ باسلا * جهما محياه يدق الكاهلا
لم ير يوما عن عدوٍ ناكلا * إلا أكرَّ مقاتلا أو قاتلا
يزعجهم ضربا ويروي العاملا
ثم ما زال يناضل عن نفسه حتى قتل، فلما سمع أصحابه وهم منهزمون صوت التكبير، وقول أصحاب المختار: الله أكبر قتل الخبيث، عرفوا أنه قد قتل قبحه الله.
قال أبو مخنف: عن يونس بن أبي إسحاق قال: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر- يعني: منصرفه من القتال - ناداه سراقة بن مرداس بأعلا صوته وكان في الأسرى.
أمنن عليّ اليوم يا خير معد * وخير من حل بشحر والجند
وخير من لبى وصام وسجد
قال: فبعث إلى السجن فاعتقله ليلة، ثم أطلقه من الغد، فأقبل إلى المختار وهو يقول:
ألا أخبر أبا إسحاق أنا * نزونا نزوةً كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا * وكان خروجنا بطرا وشينا
نراهم في مصافهم قليلا * وهم مثل الربا حين التقينا
برزنا إذ رأيناهم فلما * رأينا القوم قد برزوا إلينا
رأينا منهم ضربا وطحنا * وطعنا صائبا حتى انثنينا
نصرت على عدوك كل يومٍ * بكل كثيبةٍ تنعى حسينا
كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ * ويوم الشعب إذ لاقى حُنينا
فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا * لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبةً مني فإني * سأشكر إذ جعلت العفو دينا
وجعل سراقة بن مرداس يحلف أنه رأى الملائكة على الخيول البلق بين السماء والأرض، وأنه لم يأسره إلا واحد من أولئك الملائكة، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيخبر الناس بذلك.
فصعد المنبر فأخبر الناس بذلك، فلما نزل خلا به المختار، فقال له: إني قد عرفت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت بقولك هذا: أني لا أقتلك، ولست أقتلك فاذهب حيث شئت لئلا تفسد على أصحابي.
فذهب سراقة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وجعل يقول:
ألا أخبر أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهما مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * عليّ قتالكم حتى الممات
رأيت عيناي ما لم تبصراه * كلانا عالمٌ بالترهات
إذا قالوا: أقول لهم كذبتم * وإن خرجوا لبست لهم أداتي
قالوا: ثم خطب المختار أصحابه فحرضهم في خطبته تلك على من قتل الحسين من أهل الكوفة المقيمين بها، فقالوا: ما ذنبنا نترك أقواما قتلوا حسينا يمشون في الدنيا أحياء آمنين، بئس ناصرو آل محمد، إني إذا كذاب كما سميتموني أنتم، فإني بالله أستعين عليهم.
فالحمد لله الذي جعلني سيفا أضربهم، ورمحا أطعنهم، وطالب وترهم، وقائما بحقهم، وأنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإنه لا يسيغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنفي من في المصر منهم.
ثم جعل يتتبع من في الكوفة - وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه، فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما فعلوا -.
ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمى بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك ابن بشر فقال له المختار: أنت الذي نزعت برنس الحسين عنه؟
فقال: خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا.
فقال: اقطعوا يديه ورجليه.
ففعلوا به ذلك ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبد الله بن أسيد الجهني وغيره شر قتلة.
مقتل خولي بن يزيد الأصبحي الذي احتز رأس الحسين
بعث إليه المختار أبا عمرة صاحب حرسه، فكبس بيته فخرجت إليهم امرأته فسألوها عنه فقالت: لا أدري أين هو، وأشارت بيدها إلى المكان الذي هو مختف فيه - وكانت تبغضه من ليلة قدم برأس الحسين معه إليها، وكانت تلومه على ذلك - واسمها العبوق بنت مالك بن نهار بن عقرب الحضرمي.
فدخلوا عليه فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة فحملوه إلى المختار فأمر بقتله قريبا من داره، وأن يحرق بعد ذلك.
وبعث المختار إلى حكيم بن فضيل السنبسي - وكان قد سلب العباس بن علي بن أبي طالب يوم قتل الحسين - فأخذ فذهب أهله إلى عدي بن حاتم، فركب ليشفع فيه عند المختار، فخشي أولئك الذين أخذوه أن يسبقهم عدي إلى المختار فيشفعه فيه.
فقتلوا حكيما قبل أن يصل إلى المختار، فدخل عدي فشفع فيه فشفعه فيه، فلما رجعوا وقد قتلوه شتمهم عدي وقام متغضبا عليهم وقد تقلد منّة المختار.
وبعث المختار إلى يزيد بن ورقاء وكان قد قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، فلما أحاط الطلب بداره خرج فقاتلهم فرموه بالنبل والحجارة حتى سقط، ثم حرقوه وبه رمق الحياة.
وطلب المختار سنان بن أنس، الذي كان يدعي أنه قتل الحسين، فوجدوه قد هرب إلى البصرة أو الجزيرة فهدمت داره، وكان محمد بن الأشعث بن قيس ممن هرب إلى مصعب فأمر المختار بهدم داره، وأن يبنى بها دار حجر بن عدي التي كان زياد هدمها.
مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين
قال الواقدي: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جالسا ذات يوم، إذ جاء غلام له ودمه يسيل على عقبيه، فقال له سعد: من فعل بك هذا؟
فقال: ابنك عمر.
فقال سعد: اللهم اقتله وأسل دمه.
وكان سعد مستجاب الدعوة.
فلما خرج المختار على الكوفة استجار عمر بن سعد بعبد الله بن جعدة بن هبيرة، وكان صديقا للمختار من قرابته من علي، فأتى المختار فأخذ منه لعمر بن سعد أمانا مضمونه أنه آمن على نفسه، وأهله، وماله ما أطاع ولزم رحله ومصره، ما لم يحدث حدثا.
وأراد المختار ما لم يأت الخلاء فيبول أو يغوط.
ولما بلغ عمر بن سعد أن المختار يريد قتله، خرج من منزله ليلا يريد السفر نحو مصعب أو عبيد الله بن زياد، فنمى للمختار بعض مواليه ذلك.
فقال المختار: وأي حدث أعظم من هذا؟
وقيل: إن مولاه قال له ذلك، وقال له: تخرج من منزلك ورحلك؟ ارجع، فرجع.
ولما أصبح بعث إلى المختار يقول له: هل أنت مقيم على أمانك؟
وقيل: إنه أتى المختار يتعرف منه ذلك فقال له المختار: اجلس.
وقيل: إنه أرسل عبد الله بن جعدة إلى المختار يقول له: هل أنت مقيم على أمانك له؟
فقال له المختار: اجلس، فلما جلس قال المختار لصاحب حرسه: اذهب فأتني برأسه فذهب إليه فقتله وأتاه برأسه.
وفى رواية: أن المختار قال ليلة: لأقتلن غدا رجلا عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسر بقتله المؤمنون والملائكة المقربون، وكان الهيثم بن الأسود حاضرا فوقع في نفسه أنه أراد عمر بن سعد فبعث إليه ابنه الغرثان فأنذره، فقال: كيف يكون هذا بعد ما أعطاني من العهود والمواثيق؟
وكان المختار حين قدم الكوفة أحسن السيرة إلى أهلها أولا، وكتب لعمر بن سعد كتاب أمان إلا أن يحدث حدثا.
قال أبو مخنف: وكان أبو جعفر الباقر يقول: إنما أراد المختار إلا أن يدخل الكنيف فيحدث فيه، ثم أن عمر بن سعد قلق أيضا، ثم جعل يتنقل من محلة إلى محلة، ثم صار أمره أنه رجع إلى داره، وقد بلغ المختار انتقاله من موضع إلى موضع، فقال: كلا والله إن في عنقه سلسلة ترده لوجهه، إن يطير لأدركه دم الحسين فأخذ برجله.
ثم أرسل إليه أبا عمرة فأراد الفرار منه فعثر في جبته فضربه أبو عمرة بالسيف حتى قتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار.
فقال المختار لابنه حفص وكان جالسا عند المختار فقال: أتعرف هذا الرأس؟
فاسترجع وقال: نعم ولا خير في العيش بعده.
فقال: صدقت، ثم أمر فضربت عنقه ووضع رأسه مع رأس أبيه.
ثم قال المختار: هذا بالحسين وهذا بعلي بن الحسين الأكبر، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنمله من أنامله.
ثم بعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفية، وكتب إليه كتابا في ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد، سلام عليك أيها المهدي، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم فهم بين قتيل وأسير، وطريد وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتلكم، ونصر مؤازركم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن اشترك في دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنحجم عنهم حتى يبلغني أنه لم يبق وجه على الأرض منهم أحد، فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه، والسلام عليك أيها المهدي ورحمه الله وبركاته.
ولم يذكر ابن جرير أن محمد بن الحنفية رد جوابه، مع أن ابن جرير قد تقصى هذا الفصل، وأطال شرحه، ويظهر من غبون كلامه قوة وجده وغرامه، ولهذا توسع في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى، وهو متهم فيما يرويه، ولا سيما في باب التشيع.
وهذا المقام للشيعة فيه غرام وأي غرام، إذ فيه الأخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم، والانتقام منهم، ولا شك أن قتل قتلته كان متحتما، والمبادرة إليه كان مغنما، ولكن إنما قدرة الله على يد المختار الكذاب الذي صار بدعواه إتيان الوحي إليه كافرا.
وقد قال رسول الله ﷺ: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
وقال تعالى في كتابه الذي هو أفضل ما يكتبه الكاتبون: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [43].
وقال بعض الشعراء:
وما من يد إلا يد الله فوقها * ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
وسيأتي في ترجمة المختار ما يدل على كذبه وافترائه، وادعائه نصرة أهل البيت، وهو في نفس الأمر متستر بذلك ليجمع عليه رعاعا من الشيعة الذين بالكوفة، ليقيم لهم دولة ويصول بهم ويجول على مخالفيه صولة.
ثم إن الله تعالى سلط عليه من انتقم منه، وهذا هو الكذاب الذي قال فيه الرسول في حديث أسماء بنت الصديق: «إنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير».
فهذا هو الكذاب وهو يظهر التشيع، وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد ولي الكوفة من جهة عبد الملك بن مروان كما سيأتي، وكان الحجاج عكس هذا، كان ناصبيا جلدا ظالما غاشما، ولكن لم يكن في طبقة هذا، متهم على دين الإسلام ودعوة النبوة، وأنه يأتيه الوحي من العليَّ العلام.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بعث المختار المثنى بن مخرمة العبدي إلى البصرة يدعو إليه من استطاع من أهلها، فدخلها وابتنى بها مسجدا يجتمع فيه إليه قومه، فجعل يدعو إلى المختار، ثم أتى مدينة الورق فعسكر عندها فبعث إليه الحارث بن عبد الله بن ربيعة القباع - وهو أمير البصرة قبل أن يعزل بمصعب -جيشا مع عباد بن الحصين أمير الشرطة، وقيس بن الهيثم.
فقاتلوه وأخذوا منه المدينة وانهزم أصحابه، وكان قد قام بنصرتهم بنو عبد القيس، فبعث إليهم الجيش فبعثوا إليه فأرسل الأحنف بن قيس وعمرو بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا بين الناس، وساعدهما مالك بن مسمع، فانحجز الناس بعضهم عن بعض، ورجع إلى المختار في نفر يسير مغلولا مغلوبا مسلوبا.
وأخبر المختار بما وقع من الصلح على يدي الأحنف وغيره من أولئك الأمراء، وطمع المختار فيهم وكاتبهم في أن يدخلوا معه فيما هو فيه من الأمر.
وكان كتابه إلى الأحنف بن قيس من المختار إلى الأحنف بن قيس ومن قبله من الأمراء: أفسلم أنتم أما بعد:
فويل لبني ربيعة من مضر، وأن الأحنف يورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم صدر، وإني لا أملك لكم ما قد خط في القدر، وقد بلغني أنكم سميتموني الكذاب، وقد كُذِّب الأنبياء من قبلي ولست بخير منهم.
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، ثنا الحسن بن حماد، عن حماد بن علي، عن مجالد، عن الشعبي.
قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال بعض القوم: ممن أنت؟
فقلت: رجل من أهل الكوفة.
فقال: أنتم موالٍ لنا.
قلت: وكيف؟
قال: أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار.
قلت: أتدري ما قال شيخ من همدان فينا وفيكم؟
فقال الأحنف: وما قال؟
قلت: قال:
أفخرتم أن قتلتم أعبدا * وهزمتم مرةً آل عدل
فإذا فاخرتمونا فاذكروا * ما فعلنا بكم يوم الجمل
بين شيخٍ خاضبٍ عثبونه * وفتى البيضاء وضاحا دقل
جاء يهدج في سابغةٍ * فذبحناه ضحىً ذبح الجمل
وعفونا فنسيتم عفونا * وكفرتم نعمة الله الأجل
وقتلتم بحسينٍ منهم * بدلا من قومكم شر بدل
قال: فغضب الأحنف وقال: يا غلام هات الصحيفة، فأتى بصحيفة فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس، أما بعد.
فويل لبني ربيعة من مضر، فإن الأحنف يورد قومه سقر حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، فإن كُذِّبتُ فقد كُذِّبتْ رسل من قبلي، ولست بخير منهم، ثم قال الأحنف: هذا منا أو منكم.
فصل خداع المختار ومكره بابن الزبير
ولما علم المختار أن ابن الزبير لا ينام عنهم، وأن جيش الشام من قبل عبد الملك مع ابن زياد يقصدونه في جمع كثير لا يرام، شرع يصانع ابن الزبير ويعمل على خداعه والمكر به، فكتب إليه:
إني كنت بايعتك على السمع والطاعة والنصح لك، فلما رأيتك قد أعرضت عني تباعدت عنك، فإن كنت على ما أعهد منك فأنا على السمع والطاعة لك، والمختار يخفي هذا كل الإخفاء عن الشيعة، فإذا ذكر له أحد شيئا من ذلك أظهر لهم أنه أبعد الناس من ذلك.
فلما وصل كتابه إلى ابن الزبير أراد أن يعلم أصادق أم كاذب، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليتكها.
فقال: وكيف وبها المختار؟
فقال: يزعم أنه سامع لنا مطيع، وأعطاه قريبا من أربعين ألفا يتجهز بها، فسار فلما كان ببعض الطريق لقيه زائدة بن قدامة من جهة المختار في خمسمائة فارس ملبسة، ومعه سبعون ألفا من المال، وقد تقدم إليه المختار فقال: أعطه المال، فإن هو انصرف وإلا فأره الرجال فقاتله حتى ينصرف.
فلما رأى عمر بن عبد الرحمن الجد، قبض المال وسار إلى البصرة فاجتمع هو وابن مطيع بها عند أميرها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخرمة كما تقدم، وقبل وصول مصعب بن الزبير إليها.
وبعث عبد الملك بن مروان ابن عمه عبد الملك بن الحارث بن الحكم في جيش إلى وادي القرى ليأخذوا المدينة من نواب ابن الزبير.
وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن أحببت أن أمدك بمدد، وإنما يريد خديعته ومكايدته.
فكتب إليه ابن الزبير: إن كنت على طاعتي فلست أكره ذلك، فابعث بجند إلى وادي القرى ليكونوا مددا لنا على قتال الشاميين.
فجهز المختار ثلاثة آلاف عليهم شرحبيل بن ورس الهمداني، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة، وقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلت فاكتب إلي حتى يأتيك أمري، وإنما يريد أخذ المدينة من ابن الزبير، ثم يركب بعد ذلك إلى مكة ليحاصر ابن الزبير بها، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار بعث ذلك الجيش مكرا.
فبعث العباس بن سهل بن سعد الساعدي في ألفين، وأمره أن يستعين بالأعراب وقال لهم: إن رأيتموهم في طاعتي وإلا فكايدوهم حتى يهلكهم الله.
فأقبل العباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد بقي ابن ورس في جيشه، فاجتمعا على ماء هنالك، فقال له العباس: ألستم في طاعة ابن الزبير؟
فقال: بلى.
قال: فإنه قد أمرني أن نذهب إلى وادي القرى فنقاتل من به من الشاميين.
فقال له ابن ورس: فإني لم أومر بطاعتك، وإنما أمرني أن أدخل المدينة ثم أكتب إلى صاحبي فإنه يأمرني بأمره، ففهم عباس مغزاه، ولم يظهر له أنه فطن لذلك.
فقال له: رأيك أفضل، فاعمل ما بدا لك.
ثم نهض العباس من عنده وبعث إليهم الجزر والغنم والدقيق، وقد كان عندهم حاجة شديدة إلى ذلك وجوع كثير، فجعلوا يذبحون ويطبخون ويختبزون ويأكلون على ذلك الماء، فلما كان الليل بيتهم عباس بن سهل فقتل أميرهم وطائفة منهم نحوا من سبعين، وأسر منهم خلقا كثيرا فقتل أكثرهم، ورجع القليل منهم إلى المختار، وإلى بلادهم خائبين.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباس بن سهل انتهى إليهم وهو يقول:
أنا ابن سهلٍ فارسٍ غير وكل * أروع مقدامٌ إذا الكبش نكل
وأعتلي رأس الطرماح البطل * بالسيف يوم الروع حتى ينجدل
فلما بلغ خبرهم المختار قام في أصحابه خطيبا فقال: إن الفجار الأشرار قتلوا الأبرار الأخيار، إلا إنه كان أمرا مأتيا، وقضاء مقضيا.
ثم كتب إلى محمد بن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي: كتابا يذكر فيه أنه بعث إلى المدينة جيشا لنصرته، فغدر بهم جيش ابن الزبير، فإن رأيت أن أبعث جيشا آخر إلى المدينة وتبعث من قبلك رسلا إليهم فافعل.
فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد، فإن أحب الأمور كلها إليّ ما أطيع الله فيه، فأطع الله فيما أسررت وأعلنت، واعلم أني لو أردت القتال لوجدت الناس إليّ سراعا، والأعوان لي كثيرة، ولكني أعتزلهم وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
وقال لصالح بن مسعود: قل للمختار فليتق الله وليكف عن الدماء.
فلما انتهى إليه كتاب محمد بن الحنفية قال: إني قد أمرت بجمع البر واليسر، وبطرح الكفر والغدر.
وذكر ابن جرير من طريق المدائني وأبي مخنف: أن ابن الزبير عمد إلى ابن الحنفية وسبعة عشر رجلا من أشراف أهل الكوفة فحبسهم حتى يبايعوه، فكرهوا أن يبايعوا إلا من اجتمعت عليه الأمة، فتهددهم وتوعدهم واعتقلهم بزمزم، فكتبوا إلى المختار بن أبي عبيد يستصرخونه ويستنصرونه، ويقولون له:
إن ابن الزبير قد توعدنا بالقتل والحريق، فلا تخذلونا كما خذلتم الحسين وأهل بيته.
فجمع المختار الشيعة وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا صريخ أهل البيت يستصرخكم ويستنصركم.
فقام في الناس بذلك وقال: لست أنا بأبي إسحاق إن لم أنصركم نصرا مؤزرا، وإن لم أرسل إليهم الخيل كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل.
ثم وجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوة، وظبيان بن عمر التيمي في أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، وكتب إلى محمد بن الحنفية مع الطفيل بن عامر بتوجيه الجنود إليه.
فنزل أبو عبد الله الجدلي بذات عرق حتى تلاحق به نحو من مائة وخمسين فارسا، ثم سار بهم حتى دخل المسجد الحرام نهارا جهارا وهم يقولون: يا ثارات الحسين.
وقد أعد ابن الزبير الحطب لابن الحنفية وأصحابه ليحرقهم به إن لم يبايعوه، وقد بقي من الأجل يومان، فعمدوا - يعني أصحاب المختار - إلى محمد بن الحنفية فأطلقوه من سجن ابن الزبير، وقالوا: إن أذنت لنا قاتلنا ابن الزبير.
فقال: إني لا أرى القتال في المسجد الحرام.
فقال لهم ابن الزبير: ليس نبرح وتبرحون حتى يبايع وتبايعوا معه، فامتنعوا عليه ثم لحقهم بقية أصحابهم فجعلوا يقولون وهم داخلون الحرم: يا ثارات الحسين.
فلما رأى ابن الزبير ذلك منهم خافهم وكف عنهم، ثم أخذوا محمد بن الحنفية وأخذوا من الحجيج مالا كثيرا فسار بهم حتى دخل شعب علي، واجتمع معه أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال.
هكذا أورده ابن جرير وفي صحتها نظر والله أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير وكان نائبه بالمدينة أخاه مصعب، ونائبه على البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقد استحوذ المختار على الكوفة، وعبد الله بن خازم على بلاد خراسان، وذكر حروبا جرت فيها لعبد الله بن خازم يطول ذكرها.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة سار إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة.
فصل مسير إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد
وقال أبو مخنف عن مشايخه: ما هو إلا أن فرغ المختار من جبانة السبيع وأهل الكناسة، فما ترك ابن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه فيه لقتال أهل الشام.
فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وخرج معه المختار يودعه في وجوه أصحابه، وخرج معهم خاصة المختار، ومعهم كرسي المختار على بغل أشهب ليستنصروا به على الأعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون.
فرجع المختار بعد أن وصاه بثلاث قال: يا ابن الأشتر اتق الله في سرك وعلانيتك، وأسرع السير، وعاجل عدوك بالقتال.
واستمر أصحاب الكرسي سائرين مع ابن الأشتر، فجعل ابن الأشتر يقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بني إسرائيل والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم، فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسي.
قال ابن جرير: وكان سبب اتخاذ هذا الكرسي ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شيبويه، حدثني أبي، ثنا سليمان، ثنا عبد الله بن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، حدثني معد بن خالد، حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة قال: أعدمت مرة من الورق فإني كذلك إذ مررت بباب رجل هو جار لي له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر في بالي أن لو قلت في هذا، فرجعت فأرسلت إليه أن أرسل إلي بالكرسي.
فأرسل به، فأتيت المختار فقلت له: إني كنت أكتمك شيئا وقد بدا لي أن أذكره إليك.
قال: وما هو؟
قال: قلت: كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه كان يرى أن فيه أثرة من علم.
قال: سبحان الله!! فلم أخرت هذا إلى اليوم؟ ابعثه إليَّ.
قال: فجئت به وقد غسل فخرج عودا ناضرا وقد شرب الزيت، فأمر لي باثني عشر ألفا، ثم نودي في الناس: الصلاة جامعة.
قال: فخطب المختار الناس فقال: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وأنه قد كان في بني إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله.
ثم أمر فكشف عنه أثوابه وقامت السبابية فرفعوا أيديهم وكبروا ثلاثا، فقام شبث بن ربعي فأنكر على الناس وكاد أن يُكَفر من يصنع بهذا التابوت هذا التعظيم.
وأشار بأن يكسر ويخرج من المسجد ويرمى في الخنس، فشكرها الناس لشبث بن ربعي.
فلما قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل، وبعث المختار ابن الأشتر، بعث معه بالكرسي يحمل على بغل أشهب قد غشي بأثواب الحرير، عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة.
فلما تواجهوا مع الشاميين كما سيأتي وغلبوا الشاميين وقتلوا ابن زياد، ازداد تعظيمهم لهذا الكرسي حتى بلغوا به الكفر.
قال الطفيل بن جعدة فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وندمت على ما صنعت، وتكلم الناس في هذا الكرسي وكثر عيب الناس له، فغيب حتى لا يرى بعد ذلك.
وذكر ابن الكلبي أن المختار طلب من آل جعدة بن هبيرة الكرسي الذي كان علي يجلس عليه فقالوا: ما عندنا شيء مما يقول الأمير، فألح عليهم حتى علموا أنهم لو جاؤوا بأي كرسي كان لقبله منهم.
فحملوا إليه كرسيا من بعض الدور فقالوا: هذا هو، فخرجت شبام، وشاكر، وسائر رؤس المختارية وقد عصبوه بالحرير والديباج.
وحكى أبو مخنف: أن أول من سدن هذا الكرسي موسى بن أبي موسى الأشعري، ثم أن الناس عتبوا عليه في ذلك فرفعه إلى حوشب البرسمي، وكان صاحبه حتى هلك المختار قبحه الله.
ويروى أن المختار كان يظهر أنه لا يعلم بما يعظم أصحابه هذا الكرسي، وقد قال في هذا الكرسي أعشى همدان:
شهدت عليكم أنكم سبائية * وأني بكم يا شرطة الشرك عارف
وأقسم ما كُرْسِيُّكُمْ بسكينةٍ * وإن كان قد لفت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت * شبام حواليه ونهد وخارف
وإني امرؤٌ أحببت آل محمدٍ * وتابعت وحيا ضمنته المصاحف
وتابعت عبد الله لما تتابعت * عليه قريشٌ شمطها والغطارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق إن جئته * أني بِكُرْسِيُّكم كافر
تنزوا شبامٌ حول أعواده * وتحمل الوحي له شاكر
محمرةٌ أعينهم حوله * كأنهن الحمص الحادر
قلت: هذا وأمثاله مما يدل على قلة عقل المختار وأتباعه، وضعفه علمه وكثرة جهله، ورادءة فهمه، وترويجه الباطل على أتباعه وتشبهه الباطل بالحق ليضل به الطغام، ويجمع عليه جهال العوام.
قال الواقدي: وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون هلك فيه خلق كثير من أهلها.
وفيها: ضرب الدنانير عبد العزيز بن مروان بمصر، وهو أول من ضربها بها.
قال صاحب مرآت الزمان وفيها: ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين.
وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوي بني مروان، ويقول: إن النبي ﷺ لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله ﷺ ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحا، فمال معظم أهل الشام إليه.
وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة.
وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكان يشنع عليه بمكة ويقول: ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية.
ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغا ولا يتوقفا فيه.
فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الأحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداما بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل.
وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة وسلاسل الذهب والفضة شيئا كثيرا، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط الملونة.
وكانوا إذا أطلقوا البخور شم من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياما، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذٍ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس.
وافتتن الناس بذلك افتنانا عظيما، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئا كثيرا مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله ﷺ، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك وإلى زماننا.
وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظرا، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير، وأنواع باهرة.
ولما فرغ رجاء بن حيوة، ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال.
وقيل: ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما: قد وهبته منكما.
فكتبا إليه: إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا.
فكتب إليهما: إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث.
فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم بيت المقدس في سنة أربعين ومائة، فوجد المسجد خرابا، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة والأبواب، وأن يعمروا بها ما تشعث في المسجد، ففعلوا ذلك.
وكان المسجد طويلا فأمر أن يؤخذ من طوله ويزداد في عرضه، ولما كمل البناء كتب على القبة ممايلي الباب القبلي: أمر ببنائه بعد تشعيثه أمير المؤمنين عبد الملك سنة اثنتين وستين من الهجرة النبوية، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضه أربعمائة وستون ذراعا، وكان فتوح القدس سنة ستة عشر والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وستين
ففيها: كان مقتل عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الأشتر النخعي، وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج من الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة في السنة الماضية.
ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد في أرض الموصل، فكان اجتماعهما بمكان يقال له: الخازر، بينه وبين الموصل خمسة فراسخ، فبات ابن الأشتر تلك الليلة ساهرا لا يستطيع النوم.
فلما كان قريب الصبح نهض فعبى جيشه وكتَّبَ كتائبه، وصلى بأصحابه الفجر في أول وقت، ثم ركب فناهض جيش ابن زياد، وزحف بجيشه رويدا وهو ماشٍ في الرجالة حتى أشرف من فوق تلٍ على جيش ابن زياد، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد.
فلما رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين، فركب ابن الأشتر فرسه وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول:
هذا قاتل ابن بنت رسول الله ﷺ، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه اليوم، فعليكم به فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله ﷺ ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه، ومنعه أن ينصرف إلى بلده أو يأتي يزيد بن معاوية حتى قتله.
ويحكم!! اشفوا صدوركم منه، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل، قد جاءكم الله به.
ثم أكثر من هذا القول وأمثاله، ثم نزل تحت رايته، وأقبل ابن زياد في خيله ورجله في جيش كثيف قد جعل على ميمنته حصين بن نمير وعلى الميسرة عمير بن الحباب السلمي - وكان قد اجتمع بابن الأشتر ووعده أنه معه وأنه سيهزم بالناس غدا - وعلى خيل ابن زياد شرحبيل بن الكلاع، وابن زياد في الرجالة يمشي معهم.
فما كان إلا أن تواقفا الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل العراق فهزمها، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته من بعده ولده محمد بن علي فقتل أيضا، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل الأشتر يناديهم:
إلي يا شرطة الله، أنا ابن الأشتر، وقد كشف عن رأسه ليعرفوه، فالتاثوا به وانعطفوا عليه، واجتمعوا إليه، ثم حملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل الشام.
وقيل: بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الأشتر، ثم حمل ابن الأشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته: ادخل برايتك فيهم.
وقاتل ابن الأشتر يومئذٍ قتالا عظيما، وكان لا يضرب بسيفه رجلا إلا صرعه، وكثرت القتلى بينهم.
وقيل: إن ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا بالرماح ثم بالسيوف، ثم أردف الحملة ابن الأشتر فانهزم جيش الشام بين يديه، فجعل يقتلهم كما يقتل الحملان، واتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان، وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الأشتر فقتله وهو لا يعرفه، لكن قال لأصحابه:
التمسوا في القتلى رجلا ضربته بالسيف فنفحتني منه ريح المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر: فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد، وإذا هو قد ضربه ابن الأشتر فقطعه نصفين، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام.
وقتل من رؤوس أهل الشام أيضا: حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع.
واتبع الكوفيون أهل الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل، واحتازوا ما في معسكرهم من الأموال والخيول.
وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجيء الخبر، فما ندري أكان ذلك تفاؤلا منه أو اتفاقا وقع له أو كهانة.
وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحى إليه بذلك فلا، فإن من اعتقد ذلك كفر ومن أقرهم على ذلك كفر، لكن قال: إن الوقعة كانت بنصيبين فأخطأ مكانها، فإنها إنما كانت بأرض الموصل، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على أصحاب المختار حين جاءه الخبر.
وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى البشارة، فأتى المدائن فصعد منبرها فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة وهو هنالك.
قال الشعبي: فقال لي بعض أصحابه: أما سمعته بالأمس يخبرنا بهذا؟
فقلت له: زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما قال البشير: إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل.
فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم.
ثم رجع المختار إلى الكوفة.
وفي غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من الخروج إلى مصعب بن الزبير إلى البصرة، وكان منهم شبث بن ربعي، وأما ابن الأشتر فإنه بعث بالبشارة وبرأس ابن زياد وبعث رجلا على نيابة نصيبين واستمر مقيما في تلك البلاد، وبعث عمالا إلى الموصل وأخذ سنجار ودارا وما ولاها من الجزيرة.
وقال أبو أحمد الحاكم: كان مقتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست وستين، والصواب: سنة سبع وستين.
وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الأشتر على قتله ابن زياد:
أتاكم غلام من عرانين مذحج * جريءٌ على الأعداء غير نكول
فيا بن زيادٍ بؤ بأعظم هالكٍ * وذق حدَّ ماضي الشفرتين صقيل
ضربناك بالعضب الحسام بحده * إذا ما أتانا قتيلا بقتيل
جزى الله خيرا شرطة الله إنهم * شفوا من عبيد الله أمس غليلي
وهذه ترجمة ابن زياد
هو عبيد الله بن زياد بن عبيد، المعروف: بابن زياد بن أبي سفيان، ويقال له: زياد بن أبيه، وابن سمية، أمير العراق بعد أبيه زياد.
وقال ابن معين: ويقال له عبيد الله بن مرجانة وهي أمه.
وقال غيره: وكانت مجوسية، وكنيته أبو حفص، وقد سكن دمشق بعد يزيد بن معاوية، وكانت له دار عند الديماس تعرف بعده بدار ابن عجلان، وكان مولده في سنة تسع وثلاثين فيما حكاه ابن عساكر عن أبي العباس أحمد بن يونس الضبي.
قال ابن عساكر: وروى الحديث عن معاوية، وسعد بن أبي وقاص، ومعقل بن يسار.
وحدث عنه الحسن البصري، وأبو المليح بن أسامة.
وقال أبو نعيم الفضل ابن دكين: ذكروا أن عبيد الله بن زياد حين قتل الحسين كان عمره ثمانيا وعشرين سنة.
قلت: فعلى هذا يكون مولده سنة ثلاث وثلاثين فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر: أن معاوية كتب إلى زياد: أن أوفد إليَّ ابنك، فلما قدم عليه لم يسأله معاوية عن شيء إلا نفذ منه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئا، فقال له: ما منعك من تعلم الشعر؟
فقال: يا أمير المؤمنين إني كرهت أن أجمع في صدري مع كلام الرحمن كلام الشيطان.
فقال معاوية: اغرب فوالله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا قول ابن الأطنابة حيث يقول:
أبت لي عفتي وأبي بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي * وإقدامي على البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريح
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ * وأحمي بعد عن إنفٍ صحيح
ثم كتب إلى أبيه: أن روِّه من الشعر، فرواه حتى كان لا يسقط عنه منه شيء بعد ذلك، ومن شعره بعد ذلك:
سيعلم مروان بن نسوة أنني * إذا التقت الخيلان أطعنها شزرا
وإني إذا حل الضيوف ولم أجد * سوى فرسي أو سعته لهم نحرا
وقد سأل معاوية يوما أهل البصرة عن ابن زياد فقالوا: إنه لظريف ولكنه يلحن.
فقال: أوليس اللحن أظرف له؟
قال ابن قتيبة وغيره: إنما أرادوا أنه يلحن في كلامه، أي: يلغز، وهو ألحن بحجته كما قال الشاعر في ذلك:
منطقٌ رائعٌ ويلحن أحيانا * وخير الحديث ما كان لحنا
وقيل: إنهم أرادوا أنه يلحن في قوله لحنا وهو ضد الإعراب.
وقيل: أرادوا اللحن الذي هو ضد الصواب وهو الأشبه والله أعلم.
فاستحسن معاوية منه السهولة في الكلام وأنه لم يكن ممن يتعمق في كلامه ويفخمه، ويتشدق فيه.
وقيل: أرداوا أنه كانت فيه لكنة من كلام العجم، فإن أمه مرجانة كانت سيروية وكانت بنت بعض ملوك الأعاجم يزدجرد أو غيره، قالوا: وكان في كلامه شيء من كلام العجم.
قال يوما لبعض الخوارج: أهروري أنت؟ يعني: أحروري أنت؟
وقال يوما: من كاتلنا كاتلناه، أي: من قاتلنا قاتلناه، وقول معاوية: ذاك أظرف له، أي: أجود له حيث نزع إلى أخواله، وقد كانوا يوصفون بحسن السياسة وجودة الرعاية ومحاسن الشيم.
ثم لما مات زياد سنة ثلاث وخمسين ولى معاوية على البصرة سمرة بن جندب سنة ونصفا، ثم عزله وولى عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان بن سلمة ستة أشهر، ثم عزله وولى عليها ابن زياد سنة خمس وخمسين.
فلما تولى يزيد الخلافة جمع له بين البصرة والكوفة، فبنى في إمارة يزيد البيضاء، وجعل باب القصر الأبيض الذي كان لكسرى عليها.
وبنى الحمراء وهي على سكة المربد، فكان يشتي في الحمراء ويصيف في البيضاء.
قالوا: وجاء رجل إلى ابن زياد فقال: أصلح الله الأمير إن امرأتي ماتت، وإني أريد أن أتزوج أمها.
فقال له: كم عطاؤك في الديوان؟
فقال: سبعمائة.
فقال: يا غلام حط من عطائه أربعمائة.
ثم قال له: يكفيك من فقهك هذا ثلاثمائة.
قالوا: وتخاصمت أم الفجيج وزوجها إليه وقد أحبت المرأة أن تفارق زوجها.
فقال أبو الفجيج: أصلح الله الأمير إن خير شطري الرجل آخره، وإن شر شطري المرأة آخرها.
فقال: وكيف ذلك؟
فقال: إن الرجل إذا أسن اشتد عقله واستحكم رأيه وذهب جهله، وإن المرأة إذا أسنت ساء خلقها وقل عقلها وعقم رحمها واحتد لسانها.
فقال: صدقت خذ بيدها وانصرف.
وقال يحيى بن معين: أمر ابن زياد لصفوان بن محرز بألفي درهم فسرقت، فقال: عسى أن يكون خيرا.
فقال أهله: كيف يكون هذا خيرا؟ فبلغ ذلك ابن زياد فأمر له بألفين آخرين، ثم وجد الألفين فصارت أربعة آلاف فكان خيرا.
وقيل: لهند بنت أسماء بن خارجة - وكانت قد تزوجت بعده أزواجا من نواب العراق - من أعز أزواجك عندك وأكرمهم عليك؟
فقالت: ما أكرم النساء أحد إكرام بشير بن مروان، ولا هاب النساء هيبة الحجاج بن يوسف، ووددت أن القيامة قد قامت فأرى عبيد الله بن زياد واشتفي من حديثه والنظر إليه - وكان أتى عذارتها وقد تزوجت بالآخرين أيضا.
وقال عثمان بن أبي شيبة: عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: أول من جهر بالمعوذتين في الصلاة المكتوبة ابن زياد، قلت: يعني: والله أعلم في الكوفة، فإن ابن مسعود كان لا يكتبهما في مصحفه وكان فقهاء الكوفة عن كبراء أصحاب ابن مسعود يأخذون والله أعلم.
وقد كانت في ابن زياد جرأة وإقدام ومبادرة إلى ما لا يجوز، وما لا حاجة له به، لما ثبت في الحديث الذي رواه أبو يعلى ومسلم، كلاهما عن شيبان بن فروخ، عن جرير، عن الحسن أن عائذ بن عمرو دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم».
فقال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله ﷺ.
فقال: وهل كان فيهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم.
وقد روى غير واحد عن الحسن أن عبيد الله بن زياد دخل على معقل بن يسار يعوده فقال له: إني محدثك بحديث سمعته من رسول الله ﷺ أنه قال: «ما من رجل استرعاه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة».
وقد ذكر غير واحد أنه لما مات معقل صلى عليه عبيد الله بن زياد ولم يشهد دفنه، واعتذر بما ليس يجدي شيئا وركب إلى قصره، ومن جراءته إقدامه على الأمر بإحضار الحسين إلى بين يديه وإن قتل دون ذلك، وكان الواجب عليه أن يجيبه إلى سؤاله الذي سأله فيما طلب من ذهابه إلى يزيد أو إلى مكة أو إلى أحد الثغور.
فلما أشار عليه شمر بن ذي الجوشن بأن الحزم أن يحضر عندك وأنت تسيره بعد ذلك إلى حيث شئت من هذه الخصال أو غيرها، فوافق شمرا على ما أشار به من إحضاره بين يديه فأبى الحسين أن يحضر عنده ليقضي فيه بما يراه ابن مرجانة.
وقد تعس وخاب وخسر، فليس لابن بنت رسول الله ﷺ أن يحضر بين يدي ابن مرجانة الخبيث.
وقد قال محمد بن سعد: أنبأنا الفضل بن دكين، ومالك بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك بن كردوس، عن حاجب عبيد الله بن زياد قال: دخلت معه القصر حين قتل الحسين قال: فاضطرم في وجهه نارا أو كلمة نحوها.
فقال: بكمه هكذا على وجهه وقال: لا تحدثن بها أحدا.
وقال شريك: عن مغيرة قال: قالت مرجانة لابنها عبيد الله: يا خبيث قتلت ابن بنت رسول الله ﷺ؟ لا ترى الجنة أبدا.
وقد قدمنا أن يزيد بن معاوية لما مات بايع الناس في المصرين لعبيد الله حتى يجتمع الناس على إمام، ثم خرجوا عليه فأخرجوه من بين أظهرهم، فسار إلى الشام فاجتمع بمروان، وحَسُنَ له أن يتولى الخلافة ويدعو إلى نفسه ففعل ذلك، وخالف الضحاك بن قيس، ثم انطلق عبيد الله إلى الضحاك بن قيس فما زال به حتى أخرجه من دمشق إلى مرج راهط.
ثم حَسُنَ له أن دعا إلى بيعة نفسه وخلع ابن الزبير ففعل، فانحل نظامه ووقع ما وقع بمرج راهط، من قتل الضحاك وخلق معه هنالك، فلما تولى مروان أرسل ابن زياد إلى العراق في جيش فالتقى هو جيش التوابين مع سليمان بن صرد فكسرهم، واستمر قاصدا الكوفة في ذلك الجيش، فتعوق في الطريق بسبب من كان يمانعه من أهل الجزيرة من الأعداء الذين هم من جهة ابن الزبير.
ثم اتفق خروج ابن الأشتر إليه في سبعة آلاف، وكان مع ابن زياد أضعاف ذلك، ولكن ظفر به ابن الأشتر فقتله شر قتلة على شاطئ نهر الخازر قريبا من الموصل بخمس مراحل.
قال أبو أحمد الحاكم: وكان ذلك يوم عاشوراء.
قلت: وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين، ثم بعث ابن الأشتر برأسه إلى المختار ومعه رأس الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع وجماعة من رؤساء أصحابهم، فسر بذلك المختار.
فقال يعقوب بن سفيان: حدثني يوسف بن موسى بن جرير، عن يزيد بن أبي زياد قال: لما جيء برأس ابن مرجانة وأصحابه طرحت بين يدي المختار فجاءت حية رقيقة ثم تخللت الرؤوس حتى دخلت في فم ابن مرجانة وخرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فمه، وجعلت تدخل وتخرج من رأسه من بين الرؤوس.
ورواه الترمذي من وجه آخر بلفظ آخر فقال: حدثنا واصل بن عبد الأعلا بن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير.
قال: لما جيء برأس عبيد الله وأصحابه فنصبت في المسجد فيالرحبة، فانتهيت إليها وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثة.
قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو سليمان بن زيد: وفي سنة ست وستين، قالوا فيها: قتل ابن زياد والحصين بن نمير، وليّ قتلهما إبراهيم بن الأشتر، وبعث برأسيهما إلى المختار فبعث بهما إلى ابن الزبير، فنصبت بمكة والمدينة.
وهكذا حكى ابن عساكر، عن أبي أحمد الحاكم وغيره أن ذلك كانت في سنة ست وستين.
زاد أبو أحمد في يوم عاشوراء، وسكت ابن عساكر عن ذلك.
والمشهور أن ذلك كانت في سنة سبع وستين كما ذكره ابن جرير وغيره، ولكن بعث الرؤوس إلى ابن الزبير في هذه السنة متعذر لأن العداوة كانت قد قويت وتحققت بين المختار وابن الزبير في هذه السنة.
وعما قليل أمر ابن الزبير أخاه مصعبا أن يسير إلى البصرة إلى الكوفة لحصار المختار وقتاله والله أعلم.
مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير
كان عبد الله بن الزبير قد عزل في هذه السنة عن نيابة البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع، وولاها لأخيه مصعب بن الزبير، ليكون ردا وقرنا وكفؤا للمختار.
فلما قدم مصعب البصرة دخلها متلثما فيمم المنبر، فلما صعده قال الناس: أمير أمير، فلما كشف اللثام عرفه الناس فأقبلوا إليه وجاء القباع فجلس تحته بدرجة، فلما اجتمع الناس قام مصعب خطيبا فاستفتح القصص حتى بلغ { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعا } [44] وأشار بيده نحو الشام أو الكوفة.
ثم قال: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [45] وأشار إلى الحجاز.
وقال: يا أهل البصرة إنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار، فاجتمع عليه الناس وفرحوا له، ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا على المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل، كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد البصرة.
ثم خرج المختار ليلتقي بالذي جاء بالرؤوس والبشارة، فاغتنم من بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبته فذهبوا إلى البصرة فرارا من المختار لقلة دينه وكفره، ودعواه أنه يأتيه الوحي وأنه قدم الموالي على الأشراف، واتفق أن ابن الأشتر حين قتل ابن زياد واستقل بتلك النواحي، فأحرز بلادا وأقاليم ورساتيق لنفسه.
واستهان بالمختار، فطمع مصعب فيه وبعث محمد بن الأشعث بن قيس على البريد إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو نائبهم على خراسان، فقدم في تجمل عظيم ومال ورجال، وعَدَدٍ وعِددٍ، وجيش كثيف، ففرح به أهل البصرة وتقوى به مصعب، فركب في أهل البصرة ومن اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر والبر قاصدين الكوفة.
وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين، وجعل على ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى الميسرة المهلب بن أبي صفرة، ورتب الأمراء على راياتها وقبائلها، كمالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمر، وقيس بن الهيثم وغيرهم.
وخرج المختار بعسكره فنزل المدار وقد جعل على مقدمته أبا كامل الشاكري، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب الجشمي، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي، وعلى الموالي أبا عمرة صاحب شرطته.
ثم خطب الناس وحثهم على الخروج، وبعث بين يديه الجيوش، وركب هو وخلق من أصحابه وهو بيشرهم بالنصر، فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم الكتائب المختارية فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيرا حتى هربوا على حمية، وقد قتل منهم جماعة من الأمراء، وخلق من القراء، وطائفة كثيرة من الشيعة الأغبياء، ثم انتهت الهزيمة إلى المختار.
وقال الواقدي: لما انتهت مقدمة المختار إليه جاء مصعب فقطع الدجلة إلى الكوفة وقد حصن المختار القصر واستعمل عليه عبد الله بن شداد، وخرج المختار بمن بقي معه فنزل حروراء، فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل قبيلة كردوسا.
فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ، وإلى عبد القيس مالك بن منذر، وإلى العالية عبد الله بن جعدة، وإلى الأزد مسافر بن سعيد، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي، وإلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك.
ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الليل، فقتل أعيان أصحاب المختار، وقتل تلك الليلة محمد بن الأشعث وعمير بن علي بن أبي طالب، وتفرق عن المختار باقي أصحابه، فقيل له: القصر القصر.
فقال: والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه، ولكن هذا حكم الله، ثم ساروا إلى القصر فدخل وجاءه مصعب ففرق القبائل في نواحي الكوفة، واقتسموا المحال، وخلصوا إلى القصر، وقد منعوا المختار المادة والماء، وكان المختار يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر.
ولما اشتد عليه الحصار قال لأصحابه: إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفا، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراما، فوهنوا فقال: أما فوالله لا أعطي بيدي.
ثم اغتسل وتطيب وتحنط وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا.
وقيل: بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم، وضيق عليهم المسالك والمقاصد، وانسدت عليهم أبواب الحيل وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم.
ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الأمر الذي قد حل به، واستشار من عنده في هذا السبب الشيء الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه: { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [46].
ثم قوي عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه، على أن أخرجته من بين من كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حميةً وغضبا، وشجاعة وصلبا، وهو مع ذلك لا يجد مناصا ولا مفرا ولا مهربا، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر.
ولما خرج من القصر سأل أن يخلى سبيله فيذهب في أرض الله، فقالوا له: إلا على حكم الأمير.
والمقصود: أنه لما خرج من القصر تقدم إليه رجلان شقيقان أخوان، وهما: طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة، فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة، واحتزا برأسه وأتيا به إلى مصعب بن الزبير، وقد دخل قصر الإمارة، فوضع بين يديه، كما وضع رأس ابن زياد بين يدي المختار.
وكما وضع رأس الحسين بين يدي ابن زياد، وكما سيوضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان، فلما وضع رأس المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين ألفا.
وقد قتل مصعب جماعة من المختارية، وأسر منهم خمسمائة أسير، فضرب أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد بن الأشعث بن قيس، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد، فلم يزل هناك حتى قدم الحجاج فسأل عنها.
فقيل له: هي كف المختار، فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك، لأن المختار كان من قبيلة الحجاج.
والمختار هو الكذاب، والمبير الحجاج، ولهذا أخذ الحجاج بثأره من ابن الزبير فقتله وصلبه شهورا.
وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه، فقالت: ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه.
فتركها واستدعى بزوجته الأخرى، وهي: عمرة بنت النهمان بن بشير، فقال لها: ما تقولين فيه؟
فقالت: رحمه الله، لقد كان عبدا من عباد الله الصالحين.
فسجنها وكتب إلى أخيه إنها تقول: إنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت.
فقال في ذلك عمر بن أبي رمثة المخزومي:
إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول
قتلت هكذا على غير جرمٍ * إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول
وقال أبو مخنف: حدثني محمد بن يوسف أن مصعبا لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب فسلم عليه فقال ابن عمر: من أنت؟
فقال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير.
فقال له ابن عمر: نعم، أنت قاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة؟ عش ما استطعت.
فقال له مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة.
فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدلهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا.
وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي
هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي.
أسلم أبوه في حياة النبي ﷺ، ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، وإنما ذكره ابن الأثير في الغابة.
وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيدا، وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين، كما قدمنا، وعرف ذلك الجسر به، وهو الجسر على دجلة ويقال له: إلى اليوم جسر أبي عبيد.
وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات العابدات.
وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان عبد الله لها مكرما ومحبا، وماتت في حياته.
وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولا ناصبيا يبغض عليا بغضا شديدا، وكان عند عمه في المدائن، وكان عمه نائبها.
فلما دخلها الحسن بن علي خذله أهل العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فلما أحس الحسن منهم بالغدر فرَّ منهم إلى المدائن في جيش قليل، فقال المختار لعمه: لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده اليد البيضاء أبدا.
فقال له عمه: بئس ما تأمرني به يا ابن أخي، فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان المختار من الأمراء بالكوفة، فجعل يقول: أما لأنصرنه.
فبلغ ابن زياد ذلك، فحبسه بعد ضربه مائة جلدة، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه وسيره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكة فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالا شديدا، ثم بلغ المختار ما قال أهل العراق فيه من التخبيط، فسار إليهم وترك ابن الزبير.
ويقال: إنه سأل ابن الزبير أن يكتب له كتابا إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يظهر مدح ابن الزبير في العلانية ويسبه في السر، ويمدح محمد بن الحنفية ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التشيع وإظهار الأخذ بثأر الحسين.
وبسبب ذلك التفت عليه جماعات كثيرة من الشيعة وأخرج عامل ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهنا لبني أمية، وقد خرج من الكوفة، وأنا ومن بها في طاعتك، فصدقه ابن الزبير لأنه كان يدعو إليه على المنبر يوم الجمعة على رؤوس الناس، ويظهر طاعته.
ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد.
فقتل منهم خلقا كثيرا، وظفر برؤوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولي بن يزيد الأصبحي، وخلق غير هؤلاء.
وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفا إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه - في أضعاف مضاعفة - كانوا ثمانين ألفا.
وقيل: ستين ألفا، فقتل ابن الأشتر ابن زياد وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورؤوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحا شديدا، ثم إن المختار بعث برأس ابن زياد، ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بمكة، فأمر ابن الزبير بها فنصبت على عقبة الحجون.
وقد كانوا نصبوها بالمدينة، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث أخاه مصعبا أميرا على العراق، فسار إلى البصرة فجمع العساكر فما تم سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جيش هائل، فقتله واحتز رأسه وأمر بصلب كفه على باب المسجد.
وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد، إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل، فما زال يصلي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلما كان قريب الفجر قال: ما جاء بك؟
فألقى إليه الكتاب فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين معي الرأس.
فقال: ألقه على باب المسجد.
فألقاه ثم جاء فقال: جائزتي يا أمير المؤمنين.
فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق.
ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها، وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقا، بل كان كاذبا يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القباني قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك.
قال: فأردت أن أضرب عنقه.
قال: فذكرت حديثا حدثنيه أخي عمر بن الحمق، قال: قال رسول الله ﷺ: «أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن حماد بن سلمة، حدثني عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد.
قال: كنت أقوم على رأس المختار فلما عرفت كذبه هممت أن أسل سيفي فأضرب عنقه، فذكرت حديثا حدثناه عمر بن الحمق.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من آمن رجلا على نفسه فقتله أعطى لواء غدر يوم القيامة».
ورواه النسائي، وابن ماجه، من غير وجه عن عبد الملك بن عمير وفي لفظ لهما: «من أمن رجلا على دم فقتله فأنا بري من القاتل، وإن كان المقتول كافرا». وفي سند هذا الحديث اختلاف.
وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه.
فقال: صدق، قال تعالى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } [47].
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل.
قال: فقال لي: اخرج فحدث الناس، قال: فخرجت فجاء رجل، فقال: ما تقول في الوحي؟
فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [48].
وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا } [49].
قال: فهموا أن يأخذوني.
فقلت: ما لكم وذاك! إني مفتيكم وضيفكم.
فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه.
وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الأرقم: أن أباها دخل على المختار بن أبي عبيد فقال له: يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل.
فقال له زيد: خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفترٍ على الله ورسوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إسحاق بن يوسف، ثنا ابن عوف الصديق الناجي: أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق، بعد ما قتل ابنها عبد الله بن الزبير، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل.
فقالت له: كذبت، كان بارا بالوالدين، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله ﷺ أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير.
هكذا رواه أحمد بهذا السند واللفظ.
وقد أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل، عن عقبة بن مكرم العمي البصري، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، عن أبي عقرب واسمه معاوية بن سلم، عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال: «إن في ثقيف كذابا ومبيرا».
وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجاج ولدها عبد الله في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي.
وقد ذكر البيهقي هذا الحديث في دلائل النبوة: وقد ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة، وأسرّ إلى أخصائه أنه يوحى إليه، ولكن ما أدري هل كان يدّعي النبوة أم لا؟
وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال ويستر بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنه كان ضالا مضلا أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [50].
وأما المبير: فهو القتّال وهو الحجاج بن يوسف الثقفي نائب العراق لعبد الملك بن مروان، الذي انتزع العراق من يد مصعب بن الزبير، كما سيأتي بيانه قريبا.
وذكر الواقدي: أن المختار لم يزل مظهرا موافقة ابن الزبير حتى قدم مصعب إلى البصرة في أول سنة سبع وستين وأظهر مخالفته فسار إليه مصعب فقاتله، وكان المختار في نحو من عشرين ألفا.
وقد حمل عليه المختار مرة فهزمه، ولكن لم يثبت جيش المختار حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار، وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب، فلما رأى المختار ذلك انصرف إلى قصر الإمارة فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر، ثم قتله في رابع عشر من رمضان سنة سبع وستين، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل.
فصل استقرار مصعب بن الزبير بالكوفة
ولما استقر مصعب بن الزبير بالكوفة بعث إلى إبراهيم بن الأشتر ليقدم عليه، وبعث إليه عبد الملك بن مروان ليقدم عليه، فحار بن الأشتر في أمره، وشاور أصحابه إلى أيهما يذهب، ثم اتفق رأيهم على الذهاب إلى بلدهم الكوفة، فقدم ابن الأشتر على مصعب بن الزبير فأكرمه وعظمه واحترمه كثيرا.
وبعث مصعب المهلب بن أبي صفرة على الموصل، والجزيرة، وأذربيجان، وأرمينية، وكان قد استخلف على البصرة حين خرج منها عبيد الله بن عبد الله بن معمر، وأقام هو بالكوفة.
ثم لم تنسلخ هذه السنة حتى عزله أخوه عبد الله بن الزبير عن البصرة، وولى عليها ابنه حمزة بن عبد الله بن الزبير، وكان شجاعا جوادا مخلطا يعطي أحيانا حتى لا يدع شيئا، ويمنع أحيانا ما لم يمنع مثله، وظهرت خفة وطيش في عقله، وسرعة في أمره.
فبعث الأحنف إلى عبد الله بن الزبير فعزله وأعاد إلى ولايتها أخاه مصعبا مضافا إلى ما بيده من ولاية الكوفة، قالوا: وخرج حمزة بن عبد الله بن الزبير من البصرة بمال كثير من بيت مالها، فعرض له مالك بن مسمع، فقال: لا ندعك تذهب بأعطياتنا، فضمن له عبيد الله بن معمر العطاء فكف عنه.
فلما انصرف حمزة لم يقدم على أبيه مكة، بل عدل إلى المدينة، فأودع ذلك المال رجالا فكلهم غل ما أودعه وجحده، سوى رجل من أهل الكتاب، فأدى إليه أمانته.
فلما بلغ أباه ما صنع قال: أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان فنكص.
وذكر أبو مخنف: أن حمزة بن عبد الله بن الزبير ولي البصرة سنة كاملة فالله أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها عبد الله بن الزبير، وكان عامله على الكوفة أخاه مصعبا، وعلى البصرة ابنه حمزة.
وقيل: بل كان رجع إليها أخوه، وعلى خراسان وتلك البلاد عبد الله بن خازم السلمي من جهة ابن الزبير والله سبحانه أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان: الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وأبو الجهم، وهو صاحب الأنبجانية المذكورة في الحديث الصحيح.
وفيها: قتل خلق كثير يطول ذكرهم.
ثم دخلت سنة ثمان وستين
ففيها: رد عبد الله أخاه مصعبا إلى إمرة البصرة، فأتاها فأقام بها، واستخلف على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، قباع، واستعمل على المدينة جابر بن الأسود الزهري.
وعزل عنها عبد الرحمن بن الأشعث لكونه ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا، فإنه أراد منه أن يبايع لابن الزبير فامتنع من ذلك فضربه، فعزله ابن الزبير.
وفيها: هلك ملك الروم قسطنطين بن قسطنطين ببلده.
وفيها: كانت وقعة الأزارقة.
وذلك أن مصعبا كان قد عزل عن ناحية فارس المهلب بن أبي صفرة، وكان قاهرا لهم وولاه الجزيرة، وكان المهلب قاهرا للأزارقة، وولى على فارس عمر بن عبيد الله بن معمر، فثاروا عليه فقاتلهم عمر بن عبيد الله فقهرهم وكسرهم، وكانوا مع أميرهم الزبير بن ماحوز، ففروا بين يديه إلى اصطخر فاتبعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا ابنه.
ثم ظفر بهم مرة أخرى ثم هربوا إلى بلاد أصبهان ونواحيها، فتقووا هنالك وكثر عَدَدهم وعُدَتهم، ثم أقبلوا يريدون البصرة، فمروا ببعض بلاد فارس وتركوا عمر بن عبيد الله بن معمر وراء ظهورهم.
فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبيد الله بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر بن عبيد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعبا أمامهم، وعمر بن عبيد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالا لم يفعلها غيرهم.
فقصدهم نائب الكوفة الحارث بن أبي ربيعة ومعه أهلها وجماعات من أشرافها، منهم ابن الأشتر، وشبت بن ربعي، فلما وصلوا إلى جسر الصراة قطعه الخوارج بينه وبينهم، فأمر الأمير بإعادته، ففرت الخوارج هاربين بين يديه، فاتبعهم عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف فمروا على الكوفة، ثم صاروا إلى أرض أصبهان فانصرف عنهم ولم يقاتلهم.
ثم أقبلوا فحاصروا وعتاب بن ورقاء شهرا، بمدينة جيا، حتى ضيقوا على الناس فنزلوا إليهم فقاتلوهم فكشفوهم وقتلوا أميرهم الزبير بن الماحوز وغنموا ما في معسكرهم، وأمرت الخوارج عليهم قطري بن الفجاءة، ثم ساروا إلى بلاد الأهواز.
فكتب مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة -وهو على الموصل - أن يسير إلى قتال الخوارج وكان أبصر الناس بقتالهم، وبعث مكانه إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر فانصرف المهلب إلى الأهواز فقاتل فيها الخوارج ثمانية أشهر قتالا لم يسمع بمثله.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان القحط الشديد ببلاد الشام بحيث لم يتمكنوا معه من الغزو لضعفهم وقلة طعامهم وميرتهم.
قال ابن جرير: وفيها: قتل عبيد الله بن الحر وكان من خبره أنه كان رجلا شجاعا تتقلب به الأحوال والأيام والآراء، حتى صار من أمره أنه لا يطاع لأحد من بني أمية ولا لآل الزبير.
وكان يمر على عامل الكورة من العراق وغيره فيأخذ منه جميع ما في بيت المال قهرا، ويكتب له براءة ويذهب فينفقه على أصحابه.
وكان الخلفاء والأمراء يبعثون إليه الجيوش فيطردها ويكسرها قلت أو كثرت، حتى كاع فيه مصعب بن الزبير وعماله ببلاد العراق، ثم إنه وفد على عبد الملك بن مروان فبعثه في عشرة نفر وقال: ادخل الكوفة وأعلمهم أن الجنود ستصل إليهم سريعا.
فبعث في السر إلى جماعة من إخوانه فظهر على أمره فأعلم أمير الكوفة الحارث بن عبد الله فبعث إليه جيشا فقتلوه في المكان الذي هو فيه، وحمل رأسه إلى الكوفة، ثم إلى البصرة، واستراح الناس منه.
قال ابن جرير: وفيها شهد موقف عرفة أربع رايات متباينة، كل واحدة منها لا تأتم بالأخرى، الواحدة: لمحمد بن الحنفية في أصحابه، والثانية: لنجدة الحروري وأصحابه، والثالثة: لبني أمية، والرابعة: لعبد الله بن الزبير.
وكان أول من دفع رايته ابن الحنفية، ثم نجدة، ثم بنو أمية، ثم دفع ابن الزبير فدفع الناس معه، وكان عبد الله بن عمر فيمن انتظر دفع ابن الزبير، ولكنه تأخر دفعه، فقال ابن عمر: أشبه بتأخره دفع الجاهلية.
فدفع ابن عمر فدفع ابن الزبير، وتحاجز الناس في هذا العام فلم يكن بينهم قتال.
وكان على نيابة المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري من جهة ابن الزبير، وعلى الكوفة والبصرة أخوه مصعب، وعلى ملك الشام ومصر عبد الملك بن مروان، والله أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان
عبد الله بن يزيد الأوسي
شهد الحديبية، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث.
وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي
ابن أخي عمر بن الخطاب، أدرك النبي ﷺ، وتوفي بالمدينة عن نحو سبعين سنة.
عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري.
عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن امرئ القيس، صحابي جليل، سكن الكوفة، ثم سكن قوميسيا.
زيد بن أرقم بن زيد صحابي جليل.
وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله ﷺ، حبر هذه الأمة، ومفسر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له: الحبر والبحر.
وروى عن رسول الله ﷺ شيئا كثيرا، وعن جماعة من الصحابة، وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله، رضي الله عنه وأرضاه.
وأمه: أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو والد الخلفاء العباسيين، وله أخوة عشرة ذكور من أم الفضل للعباس، وهو آخرهم مولدا، وقد مات كل واحد منهم في بلد بعيد عن الآخر كما سيأتي ذلك.
قال مسلم بن خالد الزنجي المكي: عن ابن نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس.
قال: لما كان رسول الله ﷺ في الشعب جاء أبي إلى رسول الله ﷺ فقال له: يا محمد، أرى أم الفضل قد اشتملت على حمل.
فقال: «لعل الله أن يقر أعينكم».
قال: فلما ولدتني أتى بي رسول الله ﷺ وأنا في خرقة فحنكني بريقه.
قال مجاهد: فلا نعلم أحدا حنكه رسول الله ﷺ بريقه غيره.
وفي رواية أخرى: فقال رسول الله ﷺ: «لعل الله أن يبيض وجوهنا بغلام»، فولدت عبد الله بن عباس.
وعن عمرو بن دينار قال: ولد ابن عباس عام الهجرة.
وروى الواقدي: من طريق شعبة، عن ابن عباس أنه قال: ولدت قبل الهجرة بثلاث سنين، ونحن في الشعب، وتوفي رسول الله ﷺ وأنا ابن ثلاث عشرة سنة.
ثم قال الواقدي: وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل العلم.
واحتج الواقدي: بأنه كان قد ناهز الحلم عام حجة الوداع.
وفي صحيح البخاري: عن ابن عباس قال: توفي رسول الله ﷺ وأنا مختون، وكانوا لا يختنون الغلام حتى يحتلم.
وقال شعبة، وهشام، وابن عوانة: عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: توفي رسول الله ﷺ وأنا ابن عشر سنين مختون.
زاد هشام: وقد جمعت المحكم على عهد رسول الله ﷺ.
قلت: وما المحكم؟
قال: المفصل.
وقال أبو داود الطيالسي: عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قبض رسول الله ﷺ وأنا ابن خمس عشرة سنة مختون، وهذا هو الأصح ويؤيده صحة ما ثبت في الصحيحين.
ورواه مالك: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس قال: أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله ﷺ يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف، فلم ينكر عليّ ذلك أحد.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، كانت أمي من النساء، وكنت أنا من الولدان، وهاجر مع أبيه الفتح فاتفق لقياهما النبي ﷺ بالجحفة، وهو ذاهب لفتح مكة، فشهد الفتح وحنينا والطائف عام ثمان.
وقيل: كان في سنة تسع وحجة الوداع سنة عشر، وصحب النبي ﷺ حينئذ ولزمه، وأخذ عنه وحفظ وضبط الأقوال والأفعال والأحوال، وأخذ عن الصحابة علما عظيما مع الفهم الثاقب، والبلاغة والفصاحة والجمال والملاحة، والأصالة والبيان.
ودعا له رسول الرحمن ﷺ كما وردت به الأحاديث الثابتة الأركان، أن رسول الله ﷺ دعا له بأن يعلمه التأويل، وأن يفقهه في الدين.
وقال الزبير بن بكار: حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال: إن عمر كان يدعو عبد الله بن عباس فيقر به ويقول: إني رأيت رسول الله ﷺ دعاك يوما فمسح رأسك وتفل في فيك وقال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل».
وبه أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم بارك فيه وانشر منه».
وقال حماد بن سلمة: عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: بت في بيت خالتي ميمونة فوضعت للنبي ﷺ غسلا، فقال: «من وضع هذا؟»
قالوا: عبد الله بن عباس.
فقال: «اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين».
وقد رواه غير واحد عن ابن خيثم بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن بكر بن أبي صفرة، أبو يونس، عن عمرو بن دينار: أن كريبا أخبره أن ابن عباس قال: أتيت رسول الله ﷺ من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه.
فلما أقبل رسول الله ﷺ على صلاته خنست فصلى رسول الله ﷺ، فلما انصرف من صلاته قال: «ما شأني أجعلك في حذائي فتخنس؟».
فقلت: يا رسول الله أوينبغي لأحد أن يصلي في حذائك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله عز وجل؟ قال: فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علما وفهما.
ثم رأيت رسول الله ﷺ نام حتى سمعت نفخه، ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله: الصلاة، فقام فصلى ما أعاد وضوءا.
وقال الإمام أحمد وغيره: حدثنا هاشم بن القاسم، ثنا ورقاء، وسمعت عبيد الله بن أبي يزيد يحدث عن ابن عباس قال: أتى رسول الله ﷺ الخلاء فوضعت له وضوءا، فلما خرج قال: «من وضع ذا؟»
فقيل: ابن عباس.
فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».
وقال الثوري وغيره: عن ليث، عن أبي جهضم موسى بن سالم، عن ابن عباس أنه رأى جبريل وأن رسول الله ﷺ دعا له بالحكمة، وفي رواية بالعلم، مرتين.
وقال الدار قطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي وآخرون قالوا: حدثنا العباس بن محمد، حدثنا محمد بن مصعب بن أبي مالك النخعي، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: رأيت جبريل مرتين، ودعا لي رسول الله ﷺ بالحكمة مرتين.
ثم قال: غريب من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن عكرمة تفرد به عنه أبو مالك النخعي عبد الملك بن حسين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: ضمني رسول الله ﷺ وقال: «اللهم علمه الحكمة».
ورواه أحمد أيضا، عن إسماعيل بن علية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة عنه قال: ضمني إليه رسول الله ﷺ وقال: «اللهم علمه الكتاب».
وقد رواه البخاري، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث خالد، وهو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة عنه به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، ثنا سليمان بن بلال، ثنا حسين بن عبد الله بن عكرمة، عن ابن عباس.
أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل».
تفرد به أحمد، وقد روى هذا الحديث غير واحد عن عكرمة بنحو هذا.
ومنهم من أرسله عن عكرمة، والمتصل هو الصحيح، فقد رواه غير واحد من التابعين عن ابن عباس.
وروى من طريق أمير المؤمنين المهدي، عن أبيه، عن أبي جعفر المنصور - عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس - عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عباس.
أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم علمه الكتاب وفقهه في الدين».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، وعفان المعني قالا: ثنا حماد، ثنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.
قال: كنت مع أبي عند النبي ﷺ وعنده رجل يناجيه.
قال عفان: وهو كالمعرض عن العباس، فخرجنا من عنده فقال العباس: ألم أر ابن عمك كالمعرض عني؟
فقلت: إنه كان عنده رجل يناجيه.
قال عفان: قال عباس: أوَكان عنده أحد؟
قلت: نعم.
فرجع إليه فقال: يا رسول الله هل كان عندك أحد آنفا؟ فإن عبد الله أخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك.
قال: «هل رأيته يا عبد الله؟»
قال: قلت: نعم!
قال: «ذاك جبريل عليه السلام».
وقد روي من حديث المهدي عن آبائه، وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «أما إنك ستصاب في بصرك».
وكان كذلك، وقد روي من وجه آخر أيضا والله أعلم.
ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل
رواها قتيبة عن الدراوردي، عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة أن العباس بعث ابنه عبد الله في حاجة إلى رسول الله ﷺ فوجد عنده رجلا فرجع ولم يكلمه من أجل مكان ذلك الرجل.
فلقي العباس بعد ذلك رسول الله ﷺ، فقال العباس: يا رسول الله أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلا فلم يستطع أن يكلمك فرجع وراءه.
فقال رسول الله ﷺ: «يا عم تدري من ذاك الرجل؟».
قال: لا!
قال: «ذاك جبريل، ولن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علما».
ورواه سليمان بن بلال، عن ثور بن يزيد كذلك، وله طريق أخرى.
وقد ورد في فضائل ابن عباس أحاديث كثيرة منها ما هو منكر جدا أضربنا عن كثير منها صفحا، وذكرنا ما فيه مقنع وكفاية عما سواه.
وقال البيهقي: أنبأ أبو عبد الله الحافظ، أنبأ عبد الله بن الحسن القاضي بمرو، ثنا الحارث بن محمد، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قبض رسول الله ﷺ قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله ﷺ فإنهم اليوم كثير.
فقال: يا عجبا لك يا ابن عباس!! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله ﷺ من فيهم؟
قال: فترك ذلك وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله ﷺ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا بن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليّ فآتيك؟
فأقول: لا! أنا أحق أن آتيك.
قال: فأساله عن الحديث.
قال: فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي الناس يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: ثنا محمد بن عمرو ابن علقمة، ثنا أبو سلمة، عن ابن عباس قال: وجدت عامة علم رسول الله ﷺ عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقبل بباب أحدهم، ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي، ولكن ابتغي بذلك طيب نفسه.
وقال محمد بن سعد: أنبأ محمد بن عمر، حدثني قدامة بن موسى، عن أبي سلمة الحضرمي قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله ﷺ.
وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سر بإتياني إليه، لقربي من رسول الله ﷺ، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوما - وكان من الراسخين في العلم - عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل سبع وعشرون سورة وسائرها مكي.
وقال أحمد: عن عبد الرزاق، عن معمر قال: عامة علم ابن عباس من ثلاثة: من عمر، وعلي، وأبيَّ بن كعب.
وقال طاوس: عن ابن عباس أنه قال: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد من ثلاثين من أصحاب رسول الله ﷺ.
وقال مغيرة: عن الشعبي قال: قيل لابن عباس: أنى أصبت هذا العلم؟
قال: بلسان سؤول، وقلب عقول.
وثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يجلس ابن عباس مع مشايخ الصحابة ويقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس.
وكان إذا أقبل يقول عمر: جاء فتى الكهول، وذو اللسان السؤول، والقلب العقول.
وثبت في الصحيح أن عمر سأل الصحابة عن تفسير: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [51] فسكت بعض وأجاب بعض بجواب لم يرتضه عمر.
ثم سأل ابن عباس عنها فقال: أجل رسول الله ﷺ نُعي إليه.
فقال: لا أعلم منها إلا بما تعلم، وأراد عمر بذلك أن يقرر عندهم جلالة قدره، وكبير منزلته في العلم والفهم.
وسأله مرة عن ليلة القدر فاستنبط أنها في السابعة من العشر الأخير، فاستحسنه عمر واستجاده كما ذكرنا في التفسير.
وقد قال الحسن بن عرفة: حدثنا يحيى بن اليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن عمر أنه قال لابن عباس: لقد علمت علما ما علمناه.
وقال الأوزاعي: قال عمر لابن عباس: إنك لأصبح فتياننا وجها، وأحسنهم عقلا، وأفقههم في كتاب الله عز وجل.
وقال مجاهد: عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قال لي أبي: إن عمر يدنيك ويجلسك مع أكابر الصحابة فاحفظ عني ثلاثا: لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا.
قال الشعبي: قلت لابن عباس: كل واحدة خير من ألف.
فقال ابن عباس: بل كل واحدة خير من عشرة آلاف.
وقال الواقدي: حدثنا عبد الله بن الفضل بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عطاء بن يسار: أن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس فيسير مع أهل بدر، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان إلى يوم مات.
قلت: وشهد فتح إفريقية سنة سبع وعشرين مع ابن أبي سرح.
وقال الزهري: عن علي بن الحسين، عن أبيه قال: نظر أبي إلى ابن عباس يوم الجمل يمشي بين الصفين، فقال: أقر الله عين من له ابن عم مثل هذا.
وقد شهد مع علي الجمل وصفين، وكان أميرا على الميسرة، وشهد معه قتال الخوارج، وكان ممن أشار على علي أن يستنيب معاوية على الشام، وأن لا يعزله عنها في بادئ الأمر، حتى قال له فيما قال: إن أحببت عزله فوله شهرا واعزله دهرا، فأبى علي إلا أن يقاتله، فكان ما كان مما قد سبق بيانه.
ولما تراض الفريقان على تحكيم الحكمين طلب ابن عباس أن يكون من جهة علي ليكافئ عمرو بن العاص، فامتنعت مذحج وأهل اليمن إلا أن يكون من جهة علي أبو موسى الأشعري، وكان من أمر الحكمين ما سلف.
وقد استنابه علي على البصرة، وأقام للناس الحج في بعض السنين فخطب بهم في عرفات خطبة وفسر فيها سورة البقرة.
وفي رواية سورة النور، قال: من سمعه فسر ذلك تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
وهو أول من عرّف بالناس في البصرة، فكان يصعد المنبر ليلة عرفة ويجتمع أهل البصرة حوله فيفسر شيئا من القرآن، ويذكر الناس من بعد العصر إلى الغروب، ثم ينزل فيصلي بهم المغرب.
وقد اختلف العلماء بعده في ذلك، فمنهم من كره ذلك وقال: هو بدعة لم يعملها رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه إلا ابن عباس.
ومنهم من استحب ذلك لأجل ذكر الله وموافقة الحجاج.
وقد كان ابن عباس ينتقد على علي في بعض أحكامه فيرجع إليه علي في ذلك، كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن عكرمة أن عليا حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام.
فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله ﷺ قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» بل كنت قاتلهم لقول رسول الله ﷺ: «من بدل دينه فاقتلوه».
، فبلغ ذلك عليا فقال: ويح ابن عباس.
وفي رواية ويح ابن عباس، إنه لغواص على الهنات، وقد كافأه علي فإن ابن عباس كان يرى إباحة المتعة، وأنها باقية، وتحليل الحمر الأنسية.
فقال علي: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله ﷺ نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما، وله ألفاظ هذا من أحسنها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال البيهقي: أنبأ أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا بكر بن المؤمل يقول: سمعت أبا نصر بن أبي ربيعة يقول: ورد صعصعة بن صوحان على علي بن أبي طالب من البصرة فسأله عن ابن عباس - وكان علي خلفه بها -.
فقال صعصعة: يا أمير المؤمنين، إنه آخذ بثلاث وتارك لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حُدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف.
وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه.
وقال الواقدي: ثنا أبو بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه.
قال: ما رأيت أحدا أحضر فهما ولا ألب لبا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس.
ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار.
وقال الأعمش: عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد.
وكان يقول: نعم ترجمان القرآن ابن عباس.
وعن ابن عمر أنه قال: ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد ﷺ.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني يحيى بن العلاء، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول حين بلغه موت ابن عباس وصفق بإحدى يديه على الأخرى: مات اليوم أعلم الناس وأحلم الناس، وقد أصيبت به هذه الأمة لا ترتق.
وبه إلى يحيى بن العلاء، عن عمر بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
قال: لما مات ابن عباس قال رافع بن خديج: مات اليوم من كان يحتاج إليه مَن بين المشرق والمغرب في العلم.
قال الواقدي: وحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو: عن عكرمة قال: سمعت معاوية يقول: مات والله أفقه من مات ومن عاش.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس قال: دخلت على معاوية حين كان الصلح وهو أول ما التقيت أنا وهو، فإذا عنده أناس فقال: مرحبا بابن عباس، ما تحاكت الفتنة بيني وبين أحد كان أعز علي بعدا ولا أحب إليّ قربا، الحمد لله الذي أمات عليا.
فقلت له: إن الله لا يذم في قضائه.
وغير هذا الحديث أحسن منه، ثم قلت له: أحب أن تعفيني من ابن عمي وأعفيك من ابن عمك.
قال: ذلك لك.
وقالت عائشة وأم سلمة حين حج ابن عباس بالناس: هو أعلم الناس بالمناسك.
وقال ابن مبارك: عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: ركب زيد بن ثابت فأخذ ابن عباس بركابه فقال: لا تفعل يا ابن عم رسول الله ﷺ.
قال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
فقال زيد: أنى يداك؟
فأخرج يديه فقبّلهما فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
وقال الواقدي: حدثني داود بن هند، عن سعيد بن جبير سمعت ابن المسيب يقول: ابن عباس أعلم الناس.
وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عتبة.
قال: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال، بعلم ما سبق إليه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث النبي ﷺ منه، ولا بقضاء أبي بكر، وعمر، وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير القرآن ولا بحساب، ولا بفريضة منه، ولا أعلم فيما مضى ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه.
ولقد كان يجلس يوما ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوما ما يذكر فيه إلا التأويل، ويوما ما يذكر فيه إلا المغازي، ويوما الشعر، ويوما أيام العرب.
وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، ولا وجدت سائلا سأله إلا وجد عند علما.
قال: وربما حفظت القصيدة من فيه ينشدها ثلاثين بيتا.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت مثل ابن عباس قط.
وقال عطاء: ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقها، ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية يسألونه، وأصحاب الشعر عنه يسألونه، فكلهم يصدر في وادٍ أوسع.
وقال الواقدي: حدثني بشر بن أبي سليم، عن ابن طاوس، عن أبيه.
قال: كان ابن عباس قد يسبق على الناس في العلم كما تسبق النخلة السحوق على الودى الصغار.
وقال ليث بن أبي سليم قلت لطاوس: لم لزمت هذا الغلام؟ - يعني: ابن عباس - وتركت الأكابر من الصحابة؟
فقال: إني رأيت سبعين من الصحابة إذا تماروا في شيء صاروا إلى قوله.
وقال طاوس أيضا: ما رأيت أفقه منه.
قال: وما خالفه أحد قط فتركه حتى يقرره.
وقال علي بن المديني: ويحيى بن معين، وأبو نعيم وغيرهم، عن سفيان بن عيينة، عن ابن نجيج، عن مجاهد.
قال: ما رأيت مثله قط، ولقد مات يوم مات وأنه لحبر هذه الأمة - يعني: ابن عباس -.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة وغيره: عن أبي أسامة، عن الأعمش، عن مجاهد.
قال: كان ابن عباس أمدهم قامة، وأعظمهم جفنة، وأوسعهم علما.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلسه - يعني: ابن عباس - الحلال والحرام، وتفسير القرآن، والعربية، والشعر، والطعام.
وقال مجاهد: ما رأيت أعرب لسانا من ابن عباس.
وقال محمد بن سعد: ثنا عفان بن مسلم، ثنا سليم بن أخضر، عن سليمان التيمي - وهو ممن أرسله الحكم بن أديب - إلى الحسن سأله عن أول من جمّع بالناس في هذا المسجد يوم عرفه؟
قال: ابن عباس، وكان رجلا مثجى - أحسب في الحديث - كثير العلم، وكان يصعد المنبر فيقرأ سورة البقرة ويفسرها آية آية.
وقد روي من وجه آخر، عن الحسن البصري نحوه.
وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري: روى سفيان عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: كان ابن عباس أول من عرّف بالبصرة، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران ففسرهما حرفا حرفا.
مثجى: قال ابن قتيبة: مثجى من الثج وهو السيلان، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجا } [52].
وقيل: كثيرا بسرعة.
وقال يونس بن بكير: حدثنا أبو حمزة الثمالي، عن أبي صالح قال: لقد رأيت من ابن عباس مجلسا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر، لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا يذهب.
قال: فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه.
فقال لي: ضع لي وضوءا.
قال: فتوضأ وجلس وقال: اخرج فقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل.
قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر.
ثم قال: إخوانكم، فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل.
قال: فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر.
ثم قال: إخوانكم فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من كان يريد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها، فليدخل.
فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم مثله أو أكثر.
ثم قال: إخوانكم فخرجوا.
ثم قال: اخرج فقل: من كان يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل.
فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله.
ثم قال: إخوانكم فخرجوا.
قال أبو صالح: فلو أن قريشا كلها فخرت بذلك لكان فخرا، فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس.
وقال طاوس وميمون بن مهران: ما رأينا أورع من ابن عمر، ولا أفقه من ابن عباس.
قال ميمون: وكان ابن عباس أفقههما.
وقال شريك القاضي: عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا نطق، قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث، قلت: أعلم الناس.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن الزبير بن الحارث، عن عكرمة قال: كان ابن عباس أعلمهما بالقرآن، وكان علي أعلمهما بالمبهمات.
وقال إسحاق بن راهويه: إنما كان كذلك لأن ابن عباس كان قد أخذ ما عند علي من التفسير، وضم إلى ذلك ما أخذه عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبيَّ بن كعب وغيرهم من كبار الصحابة.
مع دعاء رسول الله ﷺ له أن يعلمه الله الكتاب.
وقال أبو معاوية: عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: خطب ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرأها ويفسرها فجعلت أقول ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت.
وقد روى أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، أن ابن عباس حج بالناس عام قتل عثمان فقرأ سورة النور، وذكر نحو ما تقدم.
فلعل الأول كان في زمان علي فقرأ في تلك الحجة سورة البقرة، وفي فتنة عثمان سورة النور، والله أعلم.
وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.
وقال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس مرتين أقف عند كل آية فأسأل عنها.
وروي عنه أنه قال: أربع من القرآن لا أدري ما به جيء، الأواه، والحنان، والرقيم، والغسلين.
وكل القرآن أعلمه إلا هذه الأربع.
وقال ابن وهب وغيره: عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سئل عن مسألة فإن كانت في كتاب الله قال بها، وإن لم تكن وهي في السنة قال بها، فإن لم يقلها رسول الله ﷺ ووجدها عن أبي بكر وعمر قال بها، وإلا اجتهد رأيه.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو عاصم، وعبد الرحمن بن الشعبي، عن كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة.
قال: شتم رجل ابن عباس فقال له: إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال، لآتي على الآية من كتاب الله فأود أن الناس علموا منها مثل الذي أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو إليه، ولعلي لا أقاضي إليه ولا أحاكم أبدا، وإني لأسمع بالغيث يصيب الأرض من أرض المسلمين، فأفرح به ومالي بها من سائمة أبدا.
ورواه البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن مكرم، عن يزيد بن هارون، عن كهمس به.
وقال ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس من المدينة إلى مكة، وكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفا حرفا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب، ويقرأ: { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [53].
وقال الأصمعي: عن المعتمر بن سليمان، عن شعيب بن درهم قال: كان في هذا المكان - وأومأ إلى مجرى الدموع من خديه - يعني: خدي ابن عباس - مثل الشراك البالي من البكاء.
وقال غيره: كان يصوم يوم الاثنين والخميس.
وقال: أحب أن يرتفع عملي وأنا صائم.
وروى هاشم وغيره، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن ملك الروم كتب إلى معاوية يسأله عن أحب الكلام إلى الله عز وجل.
ومن أكرم العباد على الله عز وجل، ومن أكرم الإماء على الله عز وجل.
وعن أربعة فيهم الروح، فلم يركضوا في رحم، وعن قبر سار بصاحبه، وعن مكان في الأرض لم تطلع فيه الشمس إلا مرة واحدة، وعن قوس قزح ما هو؟ وعن المجرة.
فبعث معاوية فسأل ابن عباس عنهن فكتب ابن عباس إليه: أما أحب الكلام إلى الله فسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأكرم العباد على الله آدم، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء.
وأكرم الإماء على الله مريم بنت عمران.
وأما الأربعة الذين لم يركضوا في رحم فآدم وحواء وعصى موسى، وكبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل.
وفي رواية: وناقة صالح.
وأما القبر الذي سار بصاحبه فهو حوت يونس.
وأما المكان الذي لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة، فهو البحر لما انفلق لموسى حتى جاز بنو إسرائيل فيه.
وأما قوس قزح فأمان لأهل الأرض من الغرق، والمجرة باب في السماء.
وفي رواية: الذي ينشق منه.
فلما قرأ ملك الروم ذلك أعجبه وقال: والله ما هي من عند معاوية ولا من قوله، وإنما هي من عند أهل النبي ﷺ، من وقد ورد هذه الأسئولة روايات كثيرة فيها، وفي بعضها نظر والله أعلم.
فصل تولي ابن عباس إمامة الحج
تولى ابن عباس إمامة الحج سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان بن عفان له وهو محصور، وفي غيبته هذه قتل عثمان، وحضر ابن عباس مع علي الجمل، وكان على الميسرة يوم صفين.
وشهد قتال الخوارج وتأمّر على البصرة من جهة علي، وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة، وزياد بن أبي سفيان على الخراج، وكان أهل البصرة مغبوطين به، يفقههم ويعلم جاهلهم، ويعظ مجرمهم، ويعطي فقيرهم، فلم يزل عليها حتى مات علي.
ويقال: إن عليا عزله عنها قبل موته، ثم وفد على معاوية فأكرمه وقربه واحترمه وعظمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعا، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحدا أحضر جوابا منه.
ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن العباس عند معاوية فعزاه فيه بأحسن تعزية، ورد عليه ابن عباس ردا حسنا كما قدمنا.
وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس، وعزاه بعبارة فصيحة وجيزة، شكره عليها ابن عباس.
ولما مات معاوية ورام الحسين الخروج إلى العراق نهاه ابن عباس أشد النهي، وأراد ابن عباس أن يتعلق بثياب الحسين - لأن ابن عباس كان قد أضر في آخر عمره - فلم يقبل منه، فلما بلغه موته حزن عليه حزنا شديدا ولزم بيته، وكان يقول: يا لسان قل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لا تفعل تندم.
وجاء إليه رجل يقال له: جندب، فقال له: أوصني.
فقال: أوصيك بتوحيد الله والعمل له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن كل خير آتيه أنت بعد ذلك منك مقبول، وإلى الله مرفوع، يا جندب إنك لن تزدد من موتك إلا قربا، فصلِّ صلاة مودعٍ.
وأصبح في الدنيا كأنك غريب مسافر، فإنك من أهل القبور، وابك على ذنبك وتب من خطيئتك، ولتكن الدنيا عليك أهون من شسع نعلك، فكأن قد فارقتها وصرت إلى عدل الله، ولن تنتفع بما خلفت، ولن ينفعك إلا عملك.
وقال بعضهم: أوصى ابن عباس بكلمات خير من الخيل الدهم.
قال: لا تكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى له موضعا، ولا تمار سفيها ولا حليما، فإن الحليم يغلبك، والسفيه يزدريك، ولا تذكرن أخاك إذا توارى عنك إلا بمثل الذي تحب أن يتكلم فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالإحسان مأخوذ بالإجرام.
فقال رجل عنده: يا ابن عباس! هذا خير من عشرة آلاف.
فقال ابن عباس: كلمة منه خير من عشرة آلاف.
وقال ابن عباس: تمام المعروف تعجيله وتصغيره وستره - يعني: أن تعجل العطية للمعطى - وأن تصغر في عين المعطي - وأن تسترها عن الناس فلا تظهرها! فإن في إظهارها فتح باب الرياء وكسر قلب المعطى، واستحياءه من الناس.
وقال ابن عباس: أعز الناس على جليس لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت.
وقال أيضا: لا يكافئ من أتاني يطلب حاجة فرآني لها موضعا إلا الله عز وجل، وكذا رجل بدأني بالسلام أو أوسع لي في مجلس، أو قام لي عن المجلس، أو رجل سقاني شربة ماء على ظمأ، ورجل حفظني بظهر الغيب.
والمأثور عنه من هذه المكارم كثير جدا، وفيما ذكرنا إشارة إلى ما لم نذكره.
وقد عده الهيثم بن عدي في العميان من الأشراف، وفي بعض الأحاديث الواردة عنه ما يدل على ذلك، وقد أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه، فقيل له في ذلك فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقة على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن قلبي.
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا علي بن الجعد، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه وقع في عينيه الماء فقال له الطبيب: ننزعك من عينيك الماء على أن لا تصلي سبعة أيام.
فقال: لا! إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان.
وفي رواية أنه قيل له: نزيل هذا الماء من عينيك على أن تبقى خمسة أيام ولا تصلي إلا على عود.
وفي رواية: إلا مستلقيا.
فقال: لا والله ولا ركعة واحدة، إنه من ترك صلاة واحدة متعمدا لقي الله وهو عليه غضبان.
وقد أنشد المدائني لابن عباس حين عمي:
إن يأخذ الله من عيني نورهما * ففي لساني وسمعي منهما نور
قلبي ذكيٌّ وعقلي غير ذي دخلٍ * وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثور
ولما وقع الخلف بين ابن الزبير وبين عبد الملك بن مروان اعتزل ابن عباس ومحمد بن الحنفية الناس، فدعاهما ابن الزبير ليبايعاه فأبيا عليه، وقال كل منهما: لا نبايعك ولا نخالفك، فهمّ بهما فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة فاستنجد لهما من العراق من شيعتهما.
فقدم أربعة آلاف فكبروا بمكة تكبيرة واحدة، وهموا بابن الزبير فهرب فتعلق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ بالله، فكفوهم عنه، ثم مالوا إلى ابن عباس وابن الحنفية وقد حمل ابن الزبير حول دورهم الحطب ليحرقهم، فخرجوا بهما حتى نزلوا الطائف، وأقام ابن عباس سنتين لم يبايع أحدا كما تقدم.
فلما كان في سنة ثمان وستين توفي ابن عباس بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية، فلما وضعوه ليدخلوه في قبره جاء طائر أبيض لم ير مثل خلقته، فدخل في أكفانه، والتف بها حتى دفن معه.
قال عفان: وكانوا يرون علمه وعمله، فلما وضع في اللحد تلا تالٍ لا يعرف من هو، وفي رواية: أنهم سمعوا من قبره: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } [54].
هذا القول في وفاته هو الذي صححه غير واحد من الأئمة، ونص عليه أحمد بن حنبل، والواقدي، وابن عساكر، وهو المشهور عند الحافظ.
وقيل: أنه توفي سنة ثلاث وستين.
وقيل: سنة ثلاث وسبعين.
وقيل: سنة سبع وستين.
وقيل: سنة تسع وستين.
وقيل: سنة سبعين، والأول أصح، وهذه الأقوال كلها شاذة غريبة مردودة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمره يوم مات ثنتين وسبعين سنة.
وقيل: إحدى وسبعين.
وقيل: أربع وسبعين، والأول أصح والله أعلم.
صفة ابن عباس
كان جسيما إذا جلس يأخذ مكان رجلين، جميلا له وفرة، قد شاب مقدم رأسه، وشابت لمته، وكان يخضب بالحناء.
وقيل: بالسواد، حسن الوجه يلبس حسنا ويكثر من الطيب بحيث إنه كان إذا مر في الطريق يقول النساء: هذا ابن عباس أو رجل معه مسك، وكان وسيما، أبيض طويلا، جسيما فصيحا، ولما عمي اعترى لونه صفرة يسيرة.
وقد كان بنو العباس عشرة، وهم: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وقثم، وعبد الرحمن، وكثير، والحارث، وعون، وتمام.
وكان أصغرهم تمام، ولهذا كان يحمله ويقول:
تموا بتمامٍ فصاروا عشرة * يا رب فاجعلهم كراما بررة
واجعلهم ذكرا وانم الثمرة
فأما الفضل فمات بأجنادين شهيدا، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، ومعبد وعبد الرحمن بإفريقية، وقثم وكثير بينبع.
وقيل: إن قثما مات بسمرقند.
وقد قال مسلم بن حماد المكي مولى بني مخزوم: ما رأيت مثل بني أمٍ واحدة أشراف ولدوا في دار واحدة أبعد قبورا من بني أم الفضل، ثم ذكر مواضع قبورهم كما تقدم، إلا أنه قال: الفضل مات بالمدينة، وعبيد الله بالشام.
وقد كان عبد الله بن عباس يلبس الحلة بألف درهم، وكان له من الولد العباس وعلي، وكان علي يدعى السجاد لكثرة صلاته، وكان أجمل قرشي على وجه الأرض.
وقد قيل: إنه كان يصلي كل يوم ألف ركعة.
وقيل: في الليل والنهار مع الجمال التام، وعلى هذا فهو أبو الخلفاء العباسيين، ففي ولده كانت الخلافة العباسية كما سيأتي.
وكان لابن العباس أيضا محمد، والفضل، وعبد الله، وأمهم: زرعة بنت مسرح بن معدي كرب، وله أسماء وهي لأم ولد.
وكان له من الموالي: عكرمة، وكريب، وأبو معبد، وشعبة، ودقيق، وأبو عمرة، وأبو عبيدة.
وأسند ألفا وستمائة وسبعين حديثا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيها: توفي أبو شريح الخزاعي العدوي الكعبي، اختلف في اسمه على أقوال أصحها خويلد بن عمرو، أسلم عام الفتح، وكان معه أحد ألوية بني كعب الثلاثة.
قال محمد بن سعد: مات في هذه السنة، وله أحاديث.
وفيها: توفي أبو واقد الليثي صحابي جليل، مختلف في اسمه وفي شهوده بدرا.
قال الواقدي: توفي سنة ثمان وستين عن خمس وستين سنة، وكذا قال غير واحد في تاريخ وفاته.
وزعم بعضهم أنه عاش سبعين سنة، مات بمكة بعد ما جاوز بها سنة، ودفن في مقابر المهاجرين والله أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وستين
ففيها: كان مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الأموي، قتله عبد الملك بن مروان، وكان سبب ذلك أن عبد الملك ركب في أول هذه السنة في جنوده قاصدا قرقيسيا ليحاصر زفر بن الحارث الكلابي الذي أعان سليمان بن صرد على جيش مروان حين قاتلوهم بعين وردة.
ومن عزمه إذا فرغ من ذلك أن يقصد مصعب بن الزبير بعد ذلك، فلما سار إليها استخلف على دمشق عمرو بن سعيد الأشدق، فتحصن بها وأخذ أموال بيت المال.
وقيل: بل كان مع عبد الملك ولكنه انخذل عنه في طائفة من الجيش وكر راجعا إلى دمشق في الليل، ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي، وزهير بن الأبرد الكلبي، فانتهوا إلى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم نائبا من جهة عبد الملك.
فلما أحس بهم هرب وترك البلد، فدخلها عمرو بن سعيد الأشدق فاستحوذ على ما فيها من الخزائن، وخطب بالناس فوعدهم العدل والنصف والعطاء الجزيل والثناء الجميل.
ولما علم عبد الملك بما فعله الأشدق كر راجعا من فوره، فوجد الأشدق قد حصن دمشق وعلق عليها الستائر والمسوح، وانحاز الأشدق إلى حصن رومي منيع كان بدمشق فنزله.
فحاصره عبد الملك وقاتله الأشدق مدة ستة عشر يوما، ثم اصطلحا على ترك القتال، وعلى أن يكون ولي العهد بعد عبد الملك، وعلى أن يكون لكل عامل لعبد الملك عامل له، وكتبا بينهما كتاب أمان، وذلك عشية الخميس.
ودخل عبد الملك إلى دمشق إلى دار الإمارة على عادته، وبعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق يقول له: ردَّ على الناس أعطياتهم التي أخذتها من بيت المال.
فبعث إليه الأشدق: أن هذا ليس إليك، وليس هذا البلد لك فاخرج منه.
فلما كان يوم الاثنين بعث عبد الملك إلى الأشدق يأمره بالإتيان إلى منزله بدار الإمارة الخضراء، فلما جاءه الرسول صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو زوج ابنته أم موسى بنت الأشدق، فاستشاره عمرو في الذهاب إليه.
فقال له: يا أبا سعيد والله لأنت أحب إليّ من سمعي وبصري، وأرى أن لا نأتيه، فإن تبيعا الحميري ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيما من عظماء بني إسماعيل يغلق أبواب دمشق فلا يلبث أن يقتل.
فقال عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، وما كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه.
وقال عمرو بن سعيد: أبلغه السلام وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله.
فلما كان العشي - يعني: بعد الظهر - لبس عمرو درعا بين ثيابه وتقلد سيفه ونهض فعثر بالبساط، فقالت امرأته وبعض من حضره: إنا نرى أن لا تأتيه، فلم يلتفت إلى ذلك ومضى في مائة من مواليه.
وكان عبد الملك قد أمر بني مروان فاجتمعوا كلهم عنده، فلما انتهى عمرو إلى الباب أمر عبد الملك أن يدخل وأن يحبس من معه عند كل باب طائفة منهم.
فدخل حتى انتهى إلى صرحة المكان الذي فيه عبد الملك، ولم يبق معه من مواليه سوى وصيف، فرمى ببصره فإذا مروان عن بكرة أبيهم مجتمعون عند عبد الملك، فأحس بالشر فالتفت إلى ذلك الوصيف فقال له همسا: ويلك انطلق إلى أخي يحيى فقل له فليأتني.
فلم يفهم عنه وقال له: لبيك.
فأعاد عليه ذلك فلم يفهم أيضا، وقال: لبيك.
فقال: ويلك أغرب عني في حرق الله وناره.
وكان عند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل، وقبيصة بن ذؤيب، فأذن لهما عبد الملك بالانصراف، فلما خرجا غلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك فرحب به وأجلسه معه على السرير، ثم جعل يحدثه طويلا.
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام خذ السيف عنه.
فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين.
فقال له عبد الملك: أوتطمع أن تتحدث معي متقلدا سيفك؟
فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدثا ساعة.
ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية.
قال: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأت عيني منك، وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة.
فقالت بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين.
فقال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أمية.
فقال بنو مروان: بر يمين أمير المؤمنين.
فقال عمرو: بر قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها.
فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس.
فقال عبد الملك: أمكرا يا أبا أمية عند الموت؟ لاها الله إذا ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولما نخرجها منك إلا صعدا.
ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك.
فقال عبد الملك: والله لو أعلم أنك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلد قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه.
وفي رواية أنه قال له: أما علمت يا عمرو وأنه لا يجتمع فحلان في شرك؟.
فلما تحقق عمرو ما يريد من قتله قال له: أغدرا يا ابن الزرقاء؟ وأسمعه كلاما رديئا بشعا، وبينما هما كذلك إذ أذن مؤذن للعصر، فقام عبد الملك ليخرج إلى الصلاة.
وأمر أخاه عبد العزيز بن مروان بقتله، وخرج عبد الملك وقام إليه عبد العزيز بالسيف.
فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن لا تلي ذلك مني، وليتولّ ذلك غيرك، فكف عنه عبد العزيز.
ولما رأى الناس عبد الملك قد خرج وليس معه عمرو، أرجف الناس بعمرو، فأقبل أخوه يحيى بن سعيد في ألف عبدٍ لعمرو بن سعيد وأناس معهم كثير، وأسرع عبد الملك الدخول إلى دار الإمارة.
وجاء أولئك فجعلوا يدقون باب الإمارة ويقولون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وضرب رجل منهم الوليد بن عبد الملك في رأسه بالسيف فجرحه، فأدخله إبراهيم بن عدي صاحب الديوان بيتا، وأحرزه فيه، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وضجت الأصوات.
ولما رجع عبد الملك وجد أخاه لم يقتله فلامه وسبه وسب أمه - ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك -فقال له: ناشدني الله والرحم، وكان ابن عمّه عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام أتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها فلم تغن شيئا، ثم ثنى فلم تغن شيئا.
فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك وقال: أدارع أيضا؟ إن كنت معدا، يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصرع، ثم جلس على صدره فذبحه، وهو يقول:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
قالوا: وانتفض عبد الملك بعد ما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جدا، بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولا، فوضوعه على سريره وهو يقول: ما رأيت مثل هذا قط قبله صاحب دنيا ولا آخرة.
ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فخرج إلى الناس فألقاه بين أظهرهم، وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدر من الأموال تحمل، فألقيت بين الناس، فجعلوا يختطفونها.
ويقال: إنها استرجعت بعد ذلك من الناس إلى بيت المال.
ويقال: إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزعيزعة بعد ما خرج عبد الملك إلى الصلاة فالله أعلم.
وقد دخل يحيى بن سعيد - أخو عمرو بن سعيد - دار الإمارة بعد مقتل أخيه بمن معه فقام إليهم بنو مروان فاقتتلوا، وجرح جماعات من الطائفتين، وجاءت يحيى بن سعيد صخرة في رأسه أشغلته عن نفسه وعن القتال.
ثم إن عبد الملك بن مروان خرج إلى المسجد الجامع فصعد المنبر فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم.
فأتاه إبراهيم بن عدي الكناني فقال: هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس.
ثم أمر عبد الملك بيحيى بن سعيد أن يقتل، فتشفع فيه أخوه عبد العزيز بن مروان، وفي جماعات آخرين معه كان عبد الملك قد أمر بقتلهم، فشفعه فيهم وأمر بحبسه فحبس شهرا، ثم سيره وبني عمرو بن سعيد وأهليهم إلى العراق، فدخلوا على مصعب بن الزبير فأكرمهم وأحسن إليهم.
ثم لما انعقدت الجماعة لعبد الملك بعد مقتل ابن الزبير، وفدوا عليه فكاد يقتلهم فتلطف بعضهم في العبارة حتى رق لهم رقة شديدة.
فقال لهم عبد الملك: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم، فأحسن جائزتهم وقربهم.
وقد كان عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو بن سعيد أن ابعثي إليّ بكتاب الأمان الذي كنت كتبته لعمرو.
فقالت: إني دفنته معه ليحاكمك به يوم القيامة عند الله.
وقد كان مروان بن الحكم وعد عمرو بن سعيد هذا أن يكون ولي العهد من بعد ولده عبد الملك، كلاما مجردا، فطمع في ذلك وقويت نفسه بسبب ذلك، وكان عبد الملك يبغضه بغضا شديدا من حال الصغر، ثم كان هذا صنيعه إليه في الكبر.
قال ابن جرير: وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: أعجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرته حتى قتلته؟
فقال:
وأدنيته مني ليسكن روعه * فأصول صولة حازمٍ مستمكن
غضبا ومحمية لديني إنه * ليس المسيء سبيله كالمحسن
قال خليفة بن خياط: وهذا الشعر للضبي بن أبي رافع، تمثل به عبد الملك.
وروى ابن دريد: عن أبي حاتم، عن الشعبي أن عبد الملك قال: لقد كان عمرو بن سعيد أحب إليّ من دم النواظر، ولكن الله لا يجتمع فحلان في الإبل إلا أخرج أحدهما الآخر، وأنا لَكَما قال أخو بني يربوع:
أجازي من جزاني الخير خيرا * وجازى الخير يجزى بالنوال
وأجزي من جزاني الشر شرا * كما تحذا النعال على النعال
قال خليفة بن خياط: وأنشد أبو اليقظان لعبد الملك في قتله عمرو بن سعيد:
صحت ولا تشلل وضرت عدوها * يمين أراقت مهجة ابن سعيد
وجدت ابن مروان ولا نبل عنده * شديدٌ ضرير الناس غر بليد
هو ابن أبي العاصي لمروان ينتهي * إلى أسرةٍ طابت له وجدود
وكان الواقدي يقول: أما حصار عبد الملك لعمرو بن سعيد الأشدق فكان في سنة تسع وستين، رجع إليه من بطنان فحاصره بدمشق، ثم كان قتله في سنة سبعين والله أعلم.
وهذه ترجمة الأشدق
هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو أمية القرشي الأموي، المعروف: بالأشدق.
يقال: أنه رأى النبي ﷺ وروى عنه أنه قال: «ما نحل والد ولدا أحسن من أدب حسن».
وحديثا آخر في العتق، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وحدث عنه بنوه أمية، وسعيد، وموسى، وغيرهم.
واستنابه معاوية على المدينة، وكذلك يزيد بن معاوية بعد أبيه كما تقدم، وكان من سادات المسلمين، ومن الكرماء المشهورين، يعطي الكثير، ويتحمل العظائم، وكان وصي أبيه من بين بنيه، وكان أبوه كما قدمنا من المشاهير الكرماء، والسادة النجباء.
قال عمرو: ما شتمت رجلا منذ كنت رجلا، ولا كلفت من قصدني أن يسألني، لهو أمنّ علي مني عليه.
وقال سعيد بن المسيب: خطباء الناس في الجاهلية الأسود بن عبد المطلب، وسهيل بن عمرو.
وخطباء الناس في الإسلام معاوية وابنه، وسعيد بن العاص وابنه، وعبد الله بن الزبير.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد، ثنا علي بن زيد، أخبرني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ليرعفن على منبري جبار من جبابرة بني أمية حتى يسيل رعافه».
قال: فأخبرني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص رعف على منبر رسول الله ﷺ حتى سال رعافه.
وهو الذي كان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير، فنهاه أبو شريح الخزاعي وذكر له الحديث الذي سمعه من رسول الله ﷺ في تحريم مكة.
فقال: نحن أعلم بذلك منك يا شريح، إن الحرام لا يعيذ عاصيا، ولا فارا بدمٍ، ولا فارا بجزية.
الحديث كما تقدم وهو في الصحيحين.
ثم إن مروان دخل إلى مصر بعد ما دعا إلى نفسه واستقر له الشام، ودخل معه عمرو بن سعيد ففتح مصر، وقد كان وعد عمرا أن يكون ولي العهد من بعد عبد الملك، وأن يكون قبل ذلك نائبا بدمشق، فلما قويت شوكة مروان رجع عن ذلك، وجعل الأمر من بعد ذلك لولده عبد العزيز، وخلع عمرا.
فما زال ذلك في نفسه حتى كان من أمره ما تقدم، فدخل عمرو دمشق وتحصن بها وأجابه أهلها، فحاصره عبد الملك ثم استنزله على أمان صوري، ثم قتله كما قدمنا.
وكان ذلك في هذه السنة على المشهور عند الأكثرين.
وقال الواقدي، وأبو سعيد بن يونس: سنة سبعين فالله أعلم.
ومن الغريب ما ذكره هشام بن محمد الكلبي بسند له: أن رجلا سمع في المنام قائلا يقول على سور دمشق قبل أن يخرج عمرو بالكلية، وقبل قتله بمدة هذه الأبيات:
ألا يا قوم للسفاهة والوهن * وللفاجر الموهون والرأي الأفن
ولا ابن سعيدٍ بينما هو قائم * على قدميه خرّ للوجه والبطن
رأى الحصن منجاة من الموت فالتجأ * إليه فزارته المنية في الحصن
قال: فأتى الرجل عبد الملك فأخبره فقال: ويحك سمعها منك أحد؟
قال: لا!
قال: فضعها تحت قدميك.
قال: ثم بعد ذلك خلع عمرو الطاعة وقتله عبد الملك بن مروان.
وقد قيل: إن عبد الملك لما حاصره راسله وقال: أنشدك الله والرحم أن تدع أمر بيتك وما هم عليه من اجتماع الكلمة فإن فيما صنعت قوة لابن الزبير علينا، فارجع إلى بيعتك ولك عليّ عهد الله وميثاقه، وحلف له بالأيمان المؤكدة أنك ولي عهدي من بعدي.
وكتبا بينهما كتابا فانخدع له عمرو وفتح له أبواب دمشق فدخلها عبد الملك وكان من أمرهما ما تقدم.
وممن توفي فيها من الأعيان
أبو الأسود الدؤلي
ويقال له: الديلي.
قاضي الكوفة، تابعي جليل، واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن جلس بن شباثة بن عدي بن الدؤل بن بكر، أبو الأسود الذي نسب إليه علم النحو.
ويقال: أنه أول من تكلم فيه، وإنما أخذه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلف في اسمه على أقوال: أشهرها أن اسمه ظالم بن عمرو.
وقيل: عكسه.
وقال الواقدي: اسمه عويمر بن ظويلم.
قال: وقد أسلم في حياة النبي ﷺ ولم يره، وشهد الجمل وهلك في ولاية عبد الله بن زياد.
وقال يحيى بن معين، وأحمد بن عبد الله العجلي: كان ثقة وهو أول من تكلم في النحو.
وقال ابن معين وغيره: مات بالطاعون الجارف سنة تسع وستين.
قال ابن خلكان: وقيل: أنه توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد كان ابتداؤها في سنة تسع وتسعين.
قلت: وهذا غريب جدا.
قال ابن خلكان وغيره: كان أول من ألقى إليه علم النحو علي بن أبي طالب، وذكر له أن الكلام اسم وفعل وحرف.
ثم أن أبا الأسود نحى نحوه وفرع على قوله، وسلك طريقه، فسمى هذا العلم النحو لذلك.
وكان الباعث لأبي الأسود على ذلك تغير لغة الناس، ودخول اللحن في كلام بعضهم أيام ولاية زياد على العراق، وكان أبو الأسود مؤدب بنيه، فإنه جاء رجل يوما إلى زياد فقال: توفي أبانا وترك بنون، فأمره زياد أن يضع للناس شيئا يهتدون به إلى معرفة كلام العرب.
ويقال: إن أول من وضع منه باب التعجب من أجل أن ابنته قالت له ليلة: يا أبة ما أحسن السماء.
قال: نجومها.
فقالت: إني لم أسأل عن أحسنها إنما تعجبت من حسنها.
فقال: قولي: ما أحسن السماء.
قال ابن خلكان: وقد كان أبو الأسود يبخل.
وكان يقول: أطعنا المساكين في أموالنا لكنا مثلهم، وعشى ليلة مسكينا ثم قيده وبيته عنده ومنعه أن يخرج ليلة تلك لئلا يؤذي المسلمين بسؤاله.
فقال له المسكين: أطلقني.
فقال: هيهات، إنما عشيتك لأريح منك المسلمين الليلة، فلما أصبح أطلقه.
وله شعر حسن.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وقد أظهر خارجي التحكيم بمنى فقتل عند الحجرة.
والنواب فيها هم الذين كانوا في السنة التي قبلها.
وممن توفي فيها
جابر بن سمرة بن جنادة
له صحبة ورواية، ولأبيه أيضا صحبة ورواية.
وقيل: توفي سنة ست وستين فالله أعلم.
أسماء بنت يزيد
بن السكن الأنصارية، بايعت النبي ﷺ، وقتلت بعمود خيمتها يوم اليرموك تسعة من الروم ليلة عرسها، وسكنت دمشق، ودفنت بباب الصغير.
حسان بن مالك
أبو سليمان البحدلي، قام ببيعة مروان لما تولى الخلافة، مات في هذه السنة والله سبحانه أعلم.
ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة
فيها: ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام، واستضعفوهم لما يرون من الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير، فصالح عبد الملك ملك الروم وهادنه على أن يدفع إليه عبد الملك في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على الشام.
وفيها: وقع الوباء بمصر فهرب منه عبد العزيز بن مروان إلى الشرقية، فنزل حلوان وهي على مرحلة من القاهرة، واتخذها منزلا واشتراها من القبط بعشرة آلاف دينار، وبنى بها دارا للإمارة وجامعا، وأنزلها الجند.
وفيها: ركب مصعب بن الزبير من البصرة إلى مكة ومعه أموال جزيلة.
فأعطى وفرق وأطلق الجماعة من رؤوس الناس بالحجاز أموالا كثيرة.
وممن توفي فيها من الأعيان:
عاصم بن عمر بن الخطاب
القرشي العدوي، وأمه جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح، ولد في حياة رسول الله ﷺ، ولم يرو إلا عن أبيه حديثا واحدا: «إذا أقبل الليل من ههنا» الحديث.
وعنه ابناه حفص، وعبد الله، وعروة بن الزبير، وقد طلق أبوه أمه فأخذته جدته الشموس بنت أبي عامر، أتى به الصديق وقال: شمها ولطفها أحب إليه منك.
ثم لما زوجه أبوه في أيام إمارته، أنفق عليه من بيت المال شهرا، ثم كف عن الإنفاق عليه، وأعطاه من ماله، وأمره أن يتجر وينفق على عياله.
وذكر غير واحد: أنه كان بين عاصم وبين الحسن والحسين منازعة في أرض، فلما تبين عاصم من الحسن الغضب، قال: هي لك.
فقال له: بل هي لك.
فتركاها ولم يتعرضا لها، ولا أحد من ذريتهما حتى أخذها الناس من كل جانب، وكان عاصم رئيسا وقورا، كريما فاضلا.
قال الواقدي: مات سنة سبعين بالمدينة.
قبيصة بن دؤيب الخزاعي الكلبي
أبو العلاء من كبار التابعين، وهو أخو معاوية من الرضاعة، كان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، انتقل إلى الشام وكان معلم كتّاب.
قيس بن ذريج
المشهور أنه من بادية الحجاز.
وقيل: إنه أخو الحسين بن علي من الرضاعة، وكان قد تزوج لبنى بنت الحباب ثم طلقها، فلما طلقها هام لما به من الغرام، وسكن البادية، وجعل يقول فيها الأشعار ونحل جسمه.
فلما زاد ما به أتاه ابن أبي عتيق فأخذه ومضى به إلى عبد الله بن جعفر، فقال له: فداك أبي وأمي، اركب معي في حاجة، فركب واستنهض معه أربعة نفر من وجوه قريش، فذهبوا معه وهم لا يدرون ما يريد، حتى أتى بهم باب زوج لبنى، فخرج إليهم فإذا وجوه قريش، فقال: جعلني الله فداكم! ما جاء بكم؟
قالوا: حاجة لابن أبي عتيق.
فقال الرجل: اشهدوا أن حاجته مقضية، وحكمه جائز.
فقالوا: أخبره بحاجتك.
فقال ابن أبي عتيق: اشهدوا على أن زوجته لبنى منه طالق.
فقال عبد الله بن جعفر: قبحك الله! ألهذا جئت بنا؟
فقال: جعلت فداكم يطلق هذا زوجته ويتزوج بغيرها، خير من أن يموت رجل مسلم في هواها صبابة، والله لا أبرح حتى ينتقل متاعها إلى بيت قيس.
ففعلت، وأقاموا مدة في أرغد عيش وأطيبه رحمهم الله تعالى.
يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري
الشاعر، كان كثير الشعر والهجو، وقد أراد عبيد الله بن زياد قتله لكونه هجا أباه زيادا، فمنعه معاوية من قتله.
وقال: أدبه فسقاه دواء مسهلا وأركبه على حمار، وطاف به في الأسواق، وهو يسلح على الحمار، فقال في ذلك:
يغسل الماء ما صنعت وشعري * راسخٌ منك في العظام البوالي
بشير بن النضر
قاضي مصر، كان رزقه في العام ألف دينار، توفي بمصر، وولى بعده عبد الرحمن بن حمزة الخولاني، والله سبحانه أعلم.
مالك بن يخامر
السكسكي الألهاني الحمصي تابعي جليل.
ويقال له: صحبة فالله أعلم.
روى البخاري من طريق معاوية عنه، عن معاذ بن جبل في حديث الطائفة الظاهرة على الحق أنهم بالشام، وهذا من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، إلا أن يقال له: صحبة.
والصحيح: أنه تابعي وليس بصحابي، وكان من أخص أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال غير واحد: مات في هذه السنة.
وقيل: سنة اثنتين وسبعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
ففيها: كان مقتل مصعب بن الزبير، وذلك أن عبد الملك بن مروان سار في جنود هائلة من الشام قاصدا مصعب بن الزبير، فالتقيا في هذه السنة، وقد كانا قبلها يركب كل واحد ليلتقي بالآخر فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل، فيرجع كل واحد منهما إلى بلده.
فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك وبعث بين يديه السرايا، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في السر، فاستجاب له بعضهم.
وقد كان مصعب سار إلى الحجاز فجاء ودخل البصرة على إثر ذلك، فأنب الكبراء من الناس وشتمهم ولامهم على دخول أولئك إليهم، وإقرارهم لهم على ذلك، وهدم دور بعضهم، ثم شخص إلى الكوفة، ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه ووصل عبد الملك إلى مسكِن.
وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه، واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان فقال: نعم - وهم جماعة كثيرة من الأمراء - وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية.
وخرج مصعب وقد اختلف عليه أهل العراق، وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه، فاستقتل وطمن نفسه على ذلك، وقال: لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع من إلقائه يده، ومن الذلة لعبيد الله بن زياد.
وجعل ينشد ويقول مسليا نفسه:
وإن الأولى بألطف من آل هاشمٍ * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وكان عبد الملك قد أشار عليه بعض أصحابه أن يقيم بالشام وأن يبعث إلى مصعب جيشا، فأبى وقال: لعلي إن بعثت رجلا شجاعا كان لا رأي له، ومن له رأي ولا شجاعة له، وإني أجد من نفسي بصيرا بالحرب والشجاعة.
وإن مصعبا في بيت شجاعة، أبوه أشجع قرشي، وأخوه لا تجهل شجاعته، وهو شجاع ومعه من يخالفه، ولا علم له بالحرب، وهو يحب الدعة والصفح، ومعي من ينصح لي ويوافقني على ما أريد.
فسار بنفسه فلما تقارب الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب يدعوهم إلى نفسه ويعدهم الولايات، فجاء إبراهيم بن الأشتر إلى مصعب فألقى إليه كتابا مختوما وقال: هذا جاءني من عبد الملك، ففتحه فإذا هو يدعوه إلى الإتيان إليه، وله نيابة العراق.
وقال لمصعب: أيها الأمير! إنه لم يبق أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا، فإن أطعتني ضربت أعناقهم.
فقال له مصعب: إني لو فعلت ذلك لم ينصحنا عشائرهم بعدهم.
فقال: فابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه، فإن كانت لك النصرة ضربت أعناقهم، وإن كانت عليك خرجوا بعد ذلك.
فقال له: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن هذا.
ثم قال مصعب: رحم الله أبا بحر - يعني: الأحنف - إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن.
ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن، فحمل إبراهيم بن الأشتر - وهو أمير المقدمة العراقية لجيش مصعب على محمد بن مروان، وهو أمير مقدمة الشام - فأزالهم عن موضعهم، فأردفه عبد الملك بعبد الله بن يزيد بن معاوية، فحملوا على ابن الأشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الأشتر رحمه الله وعفا عنه، وقتل معه جماعة من الأمراء.
وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضا ولجأ إلى عبد الملك بن مروان، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم، فلا يتحرك أحد.
فجعل يقول: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم، وتفاقم الأمر واشتد القتال، وتخاذلت الرجال، وضاق الحال، وكثر النزال.
قال المدائني: أرسل عبد الملك أخاه إلى مصعب يعطيه الأمان، فأبى وقال: إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالبا أو مغلوبا.
قالوا: فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال: يا ابن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان.
فقال له مصعب: قد أمنك عمك فامض إليه.
فقال: لا يتحدث نساء قريش إني أسلمتك للقتل.
فقال له: يا بني فاركب خيل السبق فالحق بعمك فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول ههنا.
فقال: والله إني لا أخبر عنك أحدا أبدا، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك، ولا أقتل إلا معك، ولكن إن شئت ركبت خيلك وسرنا إلى البصرة فإنهم على الجماعة.
فقال: والله لا يتحدث قريش بأني فررت من القتال.
فقال لابنه: تقدم بين يدي حتى أحتسبك، فتقدم ابنه فقاتل حتى قتل.
وأُثخن مصعب بالرمي فنظر إليه زائدة بن قدامة وهو كذلك فحمل عليه فطعنه وهو يقول: يا ثارات المختار.
ونزل إليه رجل يقال له: عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي فقتله وحز رأسه، وأتى به عبد الملك بن مروان، فسجد عبد الملك وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها وقال: لم أقتله على طاعتك ولكن بثأر كان لي عنده، وكان قد ولي له عملا قبل ذلك فعزله عنه وأهانه.
قالوا: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال عبد الملك: لقد كان بيني وبين مصعب صحبة قديمة، وكان من أحب الناس إليّ، ولكن هذا الملك عقيم.
وقال: لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى: لو اعتصمت ببعض القلاع وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم، فإنك قد ضعفت جدا.
فلم يرد عليه جوابا، ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي، وكيف قتل كريما ولم يلق بيده، ولم يجد من أهل العراق وفاء.
وكذلك أبوه وأخوه، ونحن ما وجدنا لهم وفاء، ثم انهزم أصحابه وبقي في قليل من خواصه، ومال الجميع إلى عبد الملك، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حبا شديدا، وكان خليلا له قبل الخلافة.
فقال لأخيه محمد: اذهب إليه فأمنه.
فجاءه فقال له: يا مصعب قد أمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك، فاذهب حيث شئت من البلاد، ولو أراد بك غير ذلك لكان أنزله بك، فأنشدك الله في نفسك.
فقال مصعب: قضي الأمر، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا.
فتقدم ابنه عيسى فقاتل، فقال محمد بن مروان: يا ابن أخي لا تقتل نفسك.
ثم ذكر من قوله ما تقدم، ثم قاتل حتى قتل رحمه الله، ثم ذكر من قتل منهم بعده كما تقدم.
قال: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم.
ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب؟
ثم أمر بمواراته ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في قبور بمسكن بالقرب من الكوفة.
قال المدائني: وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادى الأولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور.
وقال: المدائني: سنة ثنتين وسبعين والله أعلم.
قالوا: ولما قتل عبد الملك مصعبا ارتحل إلى الكوفة فنزل النخيلة فوفدت عليه الوفود من رؤساء القبائل وسادات العرب.
وجعل يخاطبهم بفصاحة وبلاغة واستشهاد بأشعار حسنة، وبايعه أهل العراق، وفرق العمالات في الناس، وولى الكوفة قطن بن عبد الله الحري أربعين يوما، ثم عزله وولى أخاه بشر بن مروان عليها.
وخطب عبد الملك يوما بالكوفة فقال في خطبته:
إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز ذنبه في الحرم.
ثم قال لهم: إني قد استخلفت عليكم أخي بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، وبالشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
وأما أهل البصرة فإنهم لما بلغهم مقتل مصعب، تنازع في إمارتها أبان بن عثمان بن عفان، وعبيد الله بن أبي بكرة، فغلبه أبان عليها، فبايعه أهلها فكان أشرف الرجلين.
قال أعرابي: والله لقد رأيت رداء أبان مال عن عاتقه يوما فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه على منكبيه.
وقال غيره: مد أبان يوما رجله فابتدرها معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها.
قال: فبعث عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد واليا عليها - يعني: على البصرة - فأخذها من أبان واستناب فيها عبيد الله بن أبي بكرة، وعزل أبانا عنها.
قالوا: وقد أمر عبد الملك بطعام كثير فعمل لأهل الكوفة فأكلوا من سماطه، ومعه يومئذ على السرير عمرو بن حريث.
فقال له عبد الملك: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم؟ ولكن كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى البلى * وكل امرئ يوما يصير إلى كان
فلما فرغ الناس من الأكل نهض فدار في القصر وجعل يسأل عمرو بن حريث عن أحوال القصر، ومن بنى أماكنه وبيوته، ثم عاد إلى مجلسه فاستلقى وهو يقول:
اعمل على مهلٍ فإنك ميتٌ * واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى * وكأن ما هو كائنٌ قد كان
قال ابن جرير: وفيها: رجع عبد الملك كما زعم الواقدي إلى الشام.
وفيها: عزل ابن الزبير جابر بن الأسود عن المدينة وولى عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان هو آخر أمرائه عليها، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان من جهة عبد الملك.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير ولم يبق له ولاية على العراق.
قال الواقدي: وفيها: عقد عبد العزيز بن مروان نائب مصر لحسان العاني على غزو إفريقية، فسار إليها في عدد كثير، فافتتح قرطاجنة وكان أهلها روما عبّاد أصنام.
وفيها: قتل نجدة الحروري الذي تغلب على اليمامة.
وفيها: خرج عبد الله بن ثور في اليمامة.
وهذه ترجمة مصعب بن الزبير
وهو مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله القرشي.
ويقال له: أبو عيسى أيضا الأسدي، وأمه كرمان بنت أنيف الكلبية، كان من أحسن الناس وجها، وأشجعهم قلبا، وأسخاهم كفا.
وقد حكى عن عمر بن الخطاب، وروى عن أبيه الزبير، وسعد، وأبي سعيد الخدري.
وروى عنه الحكم بن عيينة، وعمرو بن دينار الجمحي، وإسماعيل أبي خالد.
ووفد على معاوية، وكان ممن يجالس أبا هريرة، وكان من أحسن الناس وجها.
حكى الزبير بن بكار: أن جميلا نظر إليه وهو واقف بعرفة فقال: إن ههنا فتى أكره أن تراه بثينة.
وقال الشعبي: ما رأيت أميرا على منبر قط أحسن منه، وكذا قال إسماعيل بن خالد.
وقال الحسن: هو أجمل أهل البصرة.
وقال الخطيب البغدادي: ولي إمرة العراقين لأخيه عبد الله حتى قتله عبد الملك بمسكن بموضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق، وقبره إلى الآن معروف هناك.
وقد ذكرنا صفة مقتله المختار بن أبي عبيد، وأنه قتل في غداة واحدة من أصحاب المختار سبعة آلاف.
قال الواقدي: لما قتل مصعب المختار طلب أهل القصر من أصحاب المختار من مصعب الأمان فأمنهم، ثم بعث إليهم عباد بن الحصين فجعل يخرجهم ملتفين، فقال له رجل: الحمد لله الذي نصركم علينا وابتلانا بالأسر، يا ابن الزبير من عفا عفا الله عنه، ومن عاقب لا يأمن القصاص، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم، وقد قدرت فاسمح واعف عنا.
قال: فرقّ لهم مصعب وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وغيره من كل قبيلة فقالوا: قد قتلوا أولادنا وعشائرنا وجرحوا منا خلقا، اخترنا أو اخترهم، فأمر حينئذ بقتلهم.
فنادوا بأجمعهم: لا تقتلنا واجعلنا مقدمتك في قتال عبد الملك بن مروان، فإن ظفرنا فلكم، وإن قتلنا لا نقتل حتى نقتل منهم طائفة، وكان الذي تريد، فأبى ذلك مصعب.
فقال له مسافر: اتق الله يا مصعب، فإن الله عز وجل أمرك أن لا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس، وإن { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } [55].
فلم يسمع له بل أمر بضرب رقابهم جميعهم، وكانوا سبعة آلاف نفس، ثم كتب مصعب إلى ابن الأشتر أن أجبني فلك الشام وأعنة الخيل، فسار ابن لأشتر إلى مصعب.
وقيل: إن مصعبا لما قدم مكة أتى عبد الله بن عمر فقال: أي عم: إني أسألك عن قوم خلعوا الطاعة وقاتلوا حتى غلبوا تحصنوا وسألوا الأمان فأعطوه، ثم قتلوا بعد ذلك.
فقال: وكم هم؟
فقال: خمسة آلاف، فسبح ابن عمر واسترجع وقال: لو أن رجلا أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف ماشية في غداة واحدة ألست تعده مسرفا؟
قال: نعم.
قال: أفتراه إسرافا في البهائم ولا تراه إسرافا في من ترجو توبته؟ يا ابن أخي أصب من الماء البارد ما استطعت في دنياك.
ثم إن مصعبا بعث برأس المختار إلى أخيه بمكة، وتمكن مصعب في العراق تمكنا زائدا، فقرر بها الولايات والعمال.
وحظي عنده ابن الأشتر فجعله على الوفادة، ثم رحل مصعب إلى أخيه بمكة فأعلمه بما فعل فأقره على ما صنع، إلا ابن الأشتر لم يمض له ما جعله عليه، وقال له: أتراني أحب الأشتر وهو الذي جرحني هذه الجراحة.
ثم استدعى بمن قدم مع مصعب من أهل العراق فقال لهم: والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلا من أهل الشام.
فقال له أبو حاجز الأسدي - وكان قاضي الجماعة بالبصرة -: إن لنا ولكم مثلا قد مضى يا أمير المؤمنين، وهو ما قال الأعشى:
علقتها عرضا وعلقت رجلا * غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
قلت كما قيل أيضا:
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا * وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدها
علقناك يا أمير المؤمنين وعلقت أهل الشام وعلق أهل الشام إلى مروان، فما عسينا أن نصنع؟
قال الشعبي: ما سمعت جوابا أحسن منه.
وقال غيره: وكان مصعب من أشد الناس محبة للنساء وقد أمضى من ذلك شيئا كثيرا، كما روى أنه اجتمع عند الحجر الأسود جماعة منهم ابن عمر، ومصعب بن الزبير، فقالوا: ليقم كل واحد منكم وليسأل من الله حاجته.
فسأل ابن عمر المغفرة، وسأل مصعب أن يزوجه الله سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وكانتا من أحسن النساء في ذلك الزمان، وأن يعطيه الله إمرة العراقين، فأعطاه الله ذلك، تزوج بعائشة بنت طلحة وكان صداقها مائة ألف دينار، وكانت باهرة الجمال جدا، وكان مصعب أيضا جميلا جدا وكذلك بقية زوجاته.
قال الأصمعي: عن عبد الرحمن بن أبي زناد، عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب، وعروة، وابن الزبير، وابن عمر.
فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة.
وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم.
وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين.
وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة.
قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر الله له.
وقال عامر الشعبي: بينما أنا جالس إذ دعاني الأمير مصعب بن الزبير فأدخلني دار الإمارة ثم كشف فإذا وراءه عائشة بنت طلحة، فلم أر منظرا أبهى ولا أحسن منها.
فقال: أتدري من هذه؟
فقلت: لا.
فقال: هذه عائشة بنت طلحة.
ثم خرجت فقالت: من هذا الذي أظهرتني عليه؟
قال: هذا عامر الشعبي.
قالت: فأطلق له شيئا.
فأطلق لي عشرة آلاف درهم.
قال الشعبي: فكان أول من مال ملكته.
وحكى الحافظ ابن عساكر: أن عائشة بنت طلحة تغضبت مرة على مصعب فترضّاها بأربعمائة ألف درهم، فأطلقتها هي للمرأة التي أصلحت بينهما.
وقيل: إنه أهديت له نخلة من ذهب ثمارها من صنوف الجواهر المثمنة، فقومت بألفي ألف دينار، وكانت من متاع الفرس فأعطاها لعائشة بنت طلحة.
وقد كان مصعب من أجود الناس وأكثرهم عطاء، لا يستكثر ما يعطي ولو كان ما عساه أن يكون فكانت عطاياه للقوي والضعيف، والوضيع والشريف متقاربة، وكان أخوه عبد الله يبخل.
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه: أن مصعبا غضب مرة على رجل فأمر بضرب عنقه.
فقال له الرجل: أعز الله الأمير! ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فيتعلق بأطرافك هذه الحسنة، وبوجهك هذا الذي يستضاء به، فأقول: يا رب سل مصعبا فيم قتلني.
فعفا عنه، فقال الرجل: أعز الله الأمير إن رأيت ما وهبتني من حياتي في عيش رضي، فأطلق له مائة ألف.
فقال الرجل: إني أشهدك أن نصفها لابن قيس الرقيات حيث يقول فيك:
إنّ مصعبا شهابٌ من الله * تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمةٍ ليس فيه * جبروتٌ منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور * وقد أفلح من كان همه الاتقاء
وفي رواية أنه قال له: أيها الأمير قد وهبتني حياة، فإن استطعت أن تجعل ما قد وهبتني من الحياة في عيش رضي وسعة فافعل، فأمر له بمائة ألف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن يزيد قال: بلغ مصعبا، عن عريف الأنصاري شيء فهَمَّ به، فدخل عليه أنس بن مالك فقال له: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «استوصوا بالأنصار خيرا» - أو قال: «معروفا» - «اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم».
فألقى مصعب نفسه عن سريره وألصق خده بالبساط وقال: أمر رسول الله ﷺ على الرأس والعين فتركه.
ومن كلام مصعب في التواضع أنه قال: العجبُ من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين.
وقال محمد بن يزيد المبرد: سئل القاسم بن محمد، عن مصعب فقال: كان نبيلا رئيسا تقيا أنيسا.
وقد تقدم أنه لما ظهر على المختار قتل من أصحابه في غداة واحدة خمسة آلاف.
وقيل: سبعة آلاف، فلما كان بعد ذلك لقي ابن عمر فسلم عليه فلم يعرفه ابن عمر، لأنه كان قد انضر في عينيه، فتعرف له فعرفه، قال: أنت الذي قتلت في غداة واحدة خمسة آلاف ممن يوحد الله؟
فاعتذر إليه بأنهم بايعوا المختار.
فقال: أما كان فيهم من هو مستكره أو جاهل فينظر حتى يتوب؟ أرأيت لو أن رجلا جاء إلى غنم الزبير فنحر منها خمسة آلاف في غداة واحدة، أما كان مسرفا؟
قال: بلى!
قال: وهي لا تعبد الله ولا تعرفه كما يعرفه الآدمي، فكيف بمن هو موحد؟
ثم قال له: يا بني تمتع من الماء البارد ما استطعت.
وفي رواية أنه قال له: عش ما استطعت.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن زفر بن قتيبة، عن الكلبي قال: قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه: من أشجع العرب والروم؟
قالوا: شبيب.
وقال آخر: قطري بن الفجاءة وفلان وفلان.
فقال عبد الملك: إن أشجع الناس لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وأمه الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وابنه ريان بن أنيف الكلبي، سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، مع ما لنفسه من الأموال، وملك غير ذلك من الأثاث والدواب والأموال ما لا يحصى.
وأعطى مع هذا الأمان، وأن يسلم هذا له جميعه مع الحياة فزهد في هذا كله وأبى واختار القتل على مقام ذل، ومفارقة هذا كله ومشى بسيفه فقاتل حتى مات، وذلك بعد خذلان أصحابه، فذلك مصعب بن الزبير رحمه الله.
وليس هو كمن قطع الجسور مرة ههنا ومرة ههنا.
فهذا هو الرجل وهذا هو الزهد.
قالوا: وكان مقتله يوم الخميس للنصف من جمادى الأولى سنة ثنتين وسبعين.
وقال الزبير بن بكار: حدثني فليح بن إسماعيل، وجعفر بن أبي بشير، عن أبيه.
قال: لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال:
لقد أردى الفوارس يوم عبسٍ * غلامٌ غير مناع المتاع
ولا فرحٌ بخيرٍ إن أتاه * ولا هلع من الحدثان لاع
ولا رقابةً والخيل تعدو * ولا خالٌ كانبوب اليراع
فقال الرجل الذي جاء برأسه: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته والرمح في يده تارة والسيف تارة يفري بهذا، ويطعن بهذا لرأيت رجلا يملأ القلب والعين شجاعة، لكنه لما تفرقت عنه رجاله وكثر من قصده وبقي وحده ما زال ينشد:
وإني على المكروه عند حضوره * أكذب نفسي والجفون فلم تغض
وما ذاك من ذلٍ ولكن حفيظةٌ * أذبُّ بها عند المكارم عن عرضي
وإني لأهل الشر بالشر مرصدٌ * وإني لذي سلمٍ أذلُّ من الأرض
فقال عبد الملك: كان والله كما وصف به نفسه وصدق، ولقد كان من أحب الناس إليّ، وأشدهم لي ألفة ومودة، ولكن الملك عقيم.
وروى يعقوب بن سفيان: عن سليمان بن حرب، عن غسان بن مضر، عن سعيد بن يزيد: أن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قتل مصعبا عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له: دجيل، من أرض مسكن، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك فسجد شكرا لله.
وكان ابن ظبيان فاتكا رديئا، وكان يقول: ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذ فأكون قد قتلت ملكي العرب.
قال يعقوب: وكان ذلك سنة ثنتين وسبعين فالله أعلم.
وحكى الزبير بن بكار في عمره يوم قتل ثلاثة أقوال:
أحدها: خمس وثلاثون سنة، والثاني: أربعون سنة، والثالث: خمس وأربعون سنة فالله أعلم.
وروى الخطيب البغدادي: أن امرأته سكينة بنت الحسين كانت معه في هذه الوقعة، فلما قتل طلبته في القتلى حتى عرفته بشامة في خده فقالت: نِعم بعل المرأة المسلمة، كنت أدركك والله ما قال عنتر:
وخليل غانيةٍ تركت مجندلا * بالقاع لم يعهد ولم يتثلم
فهتكت بالرمح الطويل إهابه * ليس الكريم على القنا بمحرم
قال الزبير: وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير رحمه الله تعالى:
لقد أورث المصرين حزنا وذلةً * قتيلٌ بدير الجاثليق مقيمٌ
فما نصحت لله بكر بن وائلٍ * ولا صدقت يوم اللقاء تميمٌ
ولو كان بكريا يعطف حوله * كتائب يبقى حرها ويدوم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن * بها مضريُّ يوم ذاك كريمٌ
جزى الله كوفيا هناك ملامة * وبصرِّيهم إنَّ الملوم ملوم
وإن بني العلات أخلوا ظهورنا * ونحن صريحٌ بينهم وصميم
فإن نفن لا يبقي أولئك بعدنا * لذي حرمةٍ في المسلمين حريمٌ
وقد قال أبو حاتم الرازي: ثنا يحيى بن مصعب الكلبي، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد الملك بن عمير قال: دخلت القصر بالكوفة فإذا رأس الحسين بن علي على ترس بين يدي عبيد الله بن زياد، وعبيد الله على السرير.
ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار، والمختار على السرير، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار على ترس بين يدي مصعب بن الزبير، ومصعب على السرير.
ثم دخلت القصر بعد حين فرأيت رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يدي عبد الملك، وعبد الملك على السرير.
وقد حكى ذلك الإمام أحمد وغير واحد عن عبد الملك بن عمير.
وقال عبد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا أيضا:
نعت السحائب والغمام بأسرها * جسدا بمسكن عاري الأوصال
تمسي عوائذه السباع وداره * بمنازلٍ أطلالهن بوالي
رحل الرفاق وغادروه ثاويا * للريح بين صبا وبين شمالي
فصل خطبة عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب.
وكان لمصعب من الولد عكاشة، وعيسى الذي قتل معه، وسكينة، وأمهم: فاطمة بنت عبد الله بن السائب.
وعبد الله، ومحمد، وأمهما: عائشة بنت طلحة، وأمها: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.
وجعفر، ومصعب، وسعيد، وعيسى الأصغر، والمنذر لأمهات شتى.
والرباب، وأمها: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم.
قال ابن جرير: وذكر أبو زيد، عن أبي غسان محمد بن يحيى، حدثني مصعب بن عثمان قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب، قام في الناس خطيبا فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ألا وإنه لن يُذِلَّ الله من كان الحق معه وإن كان فردا وحده، ولن يفلح من كان وليه الشيطان وحزبه ولو كان معه الآنام طُرَا، ألا وأنه أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب فأحزننا، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة.
وأما الذي أحزننا فإن الحميم لفراقه لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعدها، وذو الرأي جميل الصبر كريم العزاء، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله، وعون من أعواني.
ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام، وما نموت إلا بأطراف الرماح أو تحت ظل السيوف، فإن بني أبي العاص يجمعون الناس بالرغبات والرهبات، ثم يقاتلون بهم أعداءهم ممن هو خير منهم وأكرم ولا يقاتلون تابعيهم زحفا.
ألا وإن الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا لآخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحزين الأسف المهين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وممن توفي فيها من الأعيان
إبراهيم بن الأشتر
كان أبوه ممن قام على عثمان وقتله، وكان إبراهيم هذا من المعروفين بالشجاعة وله شرف، وهو الذي قتل عبيد الله بن زياد كما ذكرنا.
عبد الرحمن بن غسيلة
أبو عبد الله المرادي الصنابحي، كان من الصلحاء، وكان عبد الملك يجلسه معه على السرير، وكان عالما فاضلا، توفي بدمشق.
عمر بن سلمة
المخزومي المدني ربيب النبي ﷺ، ولد بأرض الحبشة.
سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو عبد الرحمن، كان عبدا لأم سلمة فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم رسول الله ﷺ، فقال: أنا لا أزال أخدم رسول الله ﷺ لو لم تعتقيني ما عشت.
وقد كان سفينة بآل رسول الله ﷺ أليفا، وبهم خليطا.
وروى الطبراني: أن سفينة سئل عن اسمه لِمَ سُمِّي سفينة؟
قال: سماني رسول الله ﷺ سفينة، خرج مرة ومعه أصحابه فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول الله ﷺ: «ابسط كساءك».
فبسطته فجعل فيه متاعهم، ثم قال لي: «احمل ما أنت إلا سفينة».
قال: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو خمسة أو ستة ما ثقل علي.
وروى محمد بن المنكدر عن سفينة قال: ركبت مرة سفينة في البحر فانكسرت بنا، فركبت لوحا منها فطرحني البحر إلى غيضة فيها الأسد فجاءني فقلت: يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله ﷺ، فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه أو بكفه حتى وضعني على الطريق، ثم همهم همهمة فظننت أنه يودعني.
وقال حماد بن سلمة: ثنا سعيد بن جهمان، عن سفينة أن رسول الله ﷺ دخل بيت فاطمة فرأى في ناحية البيت قرما مضروبا فرجع ولم يدخل.
فقالت فاطمة لعلي: سل رسول الله ﷺ ما الذي رده؟
فسأله، فقال: «ليس لي ولا لنبي أن يدخل بيتا مزوقا».
عمر بن أخطب
أبو زيد الأنصاري الأعرج، غزا مع النبي ﷺ ثلاث عشرة غزوة.
يزيد بن الأسود الجرشي السكوني
كان عابدا زاهدا صالحا، سكن الشام بقرية زيدين.
وقيل: بقرية جرين، وكانت له دار داخل باب شرقي، وهو مختلف في صحبته، وله روايات عن الصحابة، وكان أهل الشام يستسقون به إذا قحطوا، وقد استسقى به معاوية والضحاك بن قيس، وكان يجلسه معه على المنبر.
قال معاوية: قم يزيد، اللهم إن نتوسل إليك بخيارنا وصلحائنا، فيستسقي الله فيسقون، وكان يصلي الصلوات في الجامع بدمشق، وكان إذا خرج من القرية يريد الصلاة بالجامع في الليلة المظلمة يضيء له إبهام قدمه.
وقيل: أصابع رجليه كلها حتى يدخل الجامع، فإذا رجع أضاءت له حتى يدخل القرية.
وذكروا أنه لم يدع شجرة في قرية زيدين إلا صلى عندها ركعتين، وكان يمشي في ضوء إبهامه في الليلة المظلمة ذاهبا إلى صلاة العشاء بالجامع بدمشق وآتيا إلى قريته، وكان يشهد الصلوات بالجامع بدمشق لا تفوته به صلاة.
مات بقرية زيدين أو جرين من غوطة دمشق رحمه الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين
ففيها: كانت وقعة عظيمة بين المهلب بن أبي صفرة وبين الأزارقة من الخوارج بمكان يقال له: سولاق، ثم مكثوا نحوا من ثمانية أشهر متواقفين، وجرت بينهم حروب يطول بسطها، وقد استقصاها ابن جرير، وقتل في أثناء ذلك من هذه المدة مصعب بن الزبير.
ثم إن عبد الملك أقر المهلب بن أبي صفرة على الأهواز وما معها، وشكر سعيه وأثنى عليه ثناء كثيرا، ثم تواقع الناس في دولة عبد الملك بالأهواز فكسر الناس الخوارج كسرة فظيعة، وهربوا في البلاد لا يلوون على أحد، واتبعهم خالد بن عبد الله أمير الناس ودواد بن محندم فطردوهم.
وأرسل عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان أن يمدهم بأربعة آلاف، فبعث إليه أربعة آلاف عليهم عتاب بن ورقاء فطردوا الخوارج كل مطرد، ولكن لقي الجيش جهدا عظيما وماتت خيولهم، ولم يرجع أكثرهم إلا مشاة إلى أهليهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الحارثي وهو من قيس بن ثعلبة، وغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحارثي، فبعث إليه خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جيش كثيف، فهزمهم أبو فديك وأخذ جارية لأمية واصطفاها لنفسه.
وكتب خالد أمير البصرة إلى عبد الملك يعلمه بما وقع، واجتمع على خالد هذا حرب أبي فديك وحرب الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة بالأهواز.
قال ابن جرير: وفيها: بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الله بن الزبير ليحاصره بمكة.
قال: وكان السبب في بعثه له دون غيره، أن عبد الملك بن مروان لما أراد الرجوع إلى الشام بعد قتله مصعبا وأخذه العراق، ندب الناس إلى قتال عبد الله بن الزبير بمكة فلم يجبه أحد إلى ذلك.
فقام الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين أنا له.
وقص الحجاج على عبد الملك مناما زعم أنه رآه، قال: رأيت يا أمير المؤمنين كأني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعث بي إليه فإني قاتله.
فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، وكتب معه أمانا لأهل مكة إن أطاعوه.
قالوا: فخرج الحجاج في جمادى من هذه السنة ومعه ألفا فارس من أهل الشام، فسلك طريق العراق ولم يعرض للمدينة حتى نزل الطائف، وجعل يبعث البعوث إلى عرفة، ويرسل ابن الزبير الخيل فيلتقيان فيهزم خيل ابن الزبير وتظفر خيل الحجاج.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم ومحاصرة ابن الزبير، فإنه قد كلت شوكته، وملت جماعته، وتفرق عنه عامة أصحابه، وسأله أن يمده برجال أيضا.
فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه بالحجاج، وارتحل الحجاج من الطائف فنزل بئر ميمونة، وحصر ابن الزبير بالمسجد، فلما دخل ذو الحجة حج بالناس الحجاج في هذه السنة، وعليه وعلى أصحابه السلاح وهم وقوف بعرفات.
وكذا فيما بعدها من المشاعر، وابن الزبير محصور لم يتمكن من الحج هذه السنة، بل نحر بدنا يوم النحر، وهكذا لم يتمكن كثير ممن معه من الحج، وكذا لم يتمكن كثير ممن مع الحجاج وطارق بن عمرو أن يطوفوا بالبيت، فبقوا على إحرامهم لم يحصل لهم التحلل الثاني.
والحجاج وأصحابه نزول بين الحجون وبئر ميمونة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم أمير خراسان يدعوه إلى بيعته ويقطعه خراسان سبع سنين، فلما وصل إليه الكتاب قال للرسول: بعثك أبو الذبان؟ والله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك، ولكن كل كتابه فأكله.
وبعث عبد الملك إلى بكير بن وشاح نائب ابن خازم على مرو يعده بإمرة خراسان إن هو خلع عبد الله بن خازم، فخلعه، فجاء ابن خازم فقاتله فقتل في المعركة عبد الله بن خازم أمير خراسان، قتله رجل يقال له: وكيع بن عميرة، لكن كان قد ساعده غيره، فجلس وكيع على صدره وفيه رمق، فذهب لينوء فلم يتمكن من ذلك.
وجعل وكيع يقول: يا ثارات دَويلة - يعني: أخاه - وكان دويلة قد قتله ابن خازم، ثم إن ابن خازم تنخم في وجه وكيع.
قال وكيع: لم أر أحدا أكثر ريقا منه في تلك الحال، وكان أبو هريرة إذا ذكر هذا يقول: هذه والله هي البسالة.
وقال له ابن خازم: ويحك أتقتلني بأخيك؟ لعنك الله، أتقتل كبش مصر بأخيك العلج؟ وكان لا يساوي كفا من تراب - أو قال من نوىً -.
قال: فاحتز رأسه وأقبل بكير بن وشاح فأراد أخذ الرأس فمنعه منه بجير بن ورقاء فضربه بجير بعموده وقيده، ثم أخذ الرأس، ثم بعثه إلى عبد الملك بن مروان وكتب إليه بالنصر والظفر.
فسر بذلك سرورا كثيرا، وكتب إلى بكير بن وشاح بإقراره على نيابة خراسان.
وفي هذه السنة أخذت المدينة من ابن الزبير، واستناب فيها عبد الملك طارق بن عمرو، الذي كان بعثه مددا للحجاج.
وهذه ترجمة عبد الله بن خازم
هو عبد الله بن خازم بن أسماء السلمي أبو صالح البصري أمير خراسان أحد الشجعان المذكورين، والفرسان المشكورين.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه: ويقال له: صحبة، روى عن النبي ﷺ في العمامة السوداء، وهو عند أبي داود، والترمذي، والنسائي، لكن لم يسموه.
وروى عنه سعد بن عثمان الرازي، وسعيد بن الأزرق.
روى أبو بشير الدولابي: أنه قتل في سنة إحدى وسبعين.
وقيل: في سنة سبع وثمانين، وليس هذا القول بشيء.
انتهى ما ذكره شيخنا، وقد ذكره أبو الحسن ابن الأثير في أسد الغابة في أسماء الصحابة.
فقال: عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن سماك بن عوف بن امرئ القيس بن نهية بن سليم بن منصور، أبو صالح السلمي، أمير خراسان، شجاع مشهور، وبطل مذكور.
وروى عنه سعيد بن الأزرق، وسعد بن عثمان.
قيل: إن له صحبة وفتح سرخس، وكان أميرا على خراسان أيام فتنة ابن الزبير، وأول ما وليها سنة أربع وستين بعد موت يزيد بن معاوية وابنه معاوية، وجرى له فيها حروب كثيرة حتى تم أمره بها، وقد استقصينا أخباره في كتاب الكامل في التاريخ، وقتل سنة إحدى وسبعين.
وهكذا حكى شيخنا عن الدولابي، وكذا رأيت في التاريخ لشيخنا الذهبي.
والذي ذكره ابن جرير في تاريخه: أنه قتل سنة ثنتين وسبعين.
قال: وزعم بعضهم أنه قتل بعد مقتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك بعث برأس ابن الزبير إلى ابن خازم بخراسان، وبعث يدعوه إلى طاعته ولّه خراسان عشر سنين.
وإن ابن خازم لما رأى رأس ابن الزبير حلف لا يعطي عبد الملك طاعة أبدا، ودعا بطست فغمس رأس ابن الزبير وكفنه وطيبه، وبعث به إلى أهله بالمدينة.
ويقال: بل دفنه عنده بخراسان والله أعلم.
وأطعم الكتاب للبريد الذي جاء به وقال: لولا أنك رسول لضربت عنقك.
وقال بعضهم: قطع يديه ورجليه وضرب عنقه.
وممن توفي فيها من الأعيان
الأحنف بن قيس
أبو معاوية بن حصين التميمي السعدي أبو بحر البصري ابن أخي صعصعة بن معاوية، والأحنف لقب له، وإنما اسمه: الضحاك.
وقيل: صخر.
أسلم في حياة النبي ﷺ ولم يره، وجاء في حديث أن رسول الله ﷺ دعا له، وكان سيدا شريفا مطاعا مؤمنا، عليم اللسان، وكان يضرب بحلمه المثل، وله أخبار في حلمه سارت بها الركبان.
قال عنه عمر بن الخطاب: هو مؤمن عليم اللسان.
وقال الحسن البصري: ما رأيت شريف قوم أفضل منه.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو بصري، تابعي ثقة، وكان سيد قومه، وكان أعور، أحيف الرجلين، ذميما، قصيرا كوسجا له بيضة واحدة.
احتبسه عمر عن قومه سنة يختبره، ثم قال: هذا والله السيد - أو قال: السؤدد -.
وقيل: إنه خطب عند عمر فأعجبه منطقه.
قيل: ذهبت عينه بالجدري.
وقيل: في فتح سمرقند.
وقال يعقوب بن سفيان: كان الأحنف جوادا حليما، وكان رجلا صالحا.
أدرك الجاهلية ثم أسلم، وذكر للنبي ﷺ فاستغفر له، وقال: كان ثقة مأمونا قليل الحديث، وكان كثير الصلاة بالليل، وكان يسرج المصباح ويصلي ويبكي حتى الصباح، وكان يضع إصبعه في المصباح ويقول: حسَّ يا أحنف، ما حملك على كذا؟ ما حملك على كذا؟
ويقول لنفسه: إذا لم تصبر على المصباح فكيف تصبر على النار الكبرى؟
وقيل له: كيف سودك قومك وأنت أرذلهم خلقة؟
قال: لو عاب قومي الماء ما شربته.
كان الأحنف من أمراء علي يوم صفين، وهو الذي صالح أهل بلخ على أربعمائة ألف دينار في كل سنة.
وله وقائع مشهودة مشهورة، وقتل من أهل خراسان خلقا كثيرا في القتال بينهما، وانتصر عليهم.
وقال الحاكم: وهو الذي افتتح مرو الروذ، وكان الحسن وابن سيرين في جيشه، وهو الذي افتتح سمرقند وغيرها من البلاد.
وقيل: أنه مات سنة سبع وستين.
وقيل غير ذلك، عن سبعين سنة.
وقيل: عن أكثر من ذلك.
ومن كلامه وقد سئل عن الحلم ما هو؟
فقال: الذل مع الصبر.
وكان إذا تعجب الناس من حلمه يقول: والله إني لأجد ما يجدون، ولكني صبور.
وقال: وجرت الحلم أنصر لي من الرجال، وقد انتهى إليه الحلم والسؤدد، وقال: أحيي معروفك بإماتة ذكره.
وقال: عجبت لمن يجري مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟
وقال: ما أتيت باب أحد من هؤلاء إلا أن أُدعى، ولا دخلت بين اثنين إلا أن يدخلاني بينهما.
وقيل له: بم سدت قومك؟
قال: بتركي من الأمر ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وأغلظ له رجل في الكلام وقال: والله يا أحنف لئن قلت لي واحدة لتسمعن بدلها عشرا.
فقال له: إنك إن قلت لي عشرا لا تسمع مني واحدة.
وكان يقول في دعائه: اللهم إن تعذبني فأنا أهل لذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل لذلك.
وقد كان زياد بن أبيه يقربه ويدنيه، فلما مات زياد وولى ابنه عبيد الله لم يرفع به رأسا، فتأخرت عنده منزلته، فلما وفد برؤساء أهل العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عنده، فكان الأحنف آخر من أدخله عليه.
فلما رآه معاوية أجله وعظمه، وأدناه وأكرمه، وأجلسه معه على الفراش، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شرع الحاضرون في الثناء على ابن زياد والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: مالك لا تتكلم؟
قال: إن تكلمت خالفتهم.
فقال معاوية: أشهدكم أني قد عزلته عن العراق، ثم قال لهم: انظروا لكم نائبا، وأَجَّلَهُم ثلاثة أيام، فاختلفوا بينهم اختلافا كثيرا، ولم يذكر أحد منهم بعد ذلك عبيد الله، ولا طلبه أحد منهم، ولم يتكلم الأحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم.
فلما اجتمعوا بعد ثلاث أفاضوا في ذلك الكلام وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: تكلم.
فقال له: إن كنت تريد أن تولي فيها أحدا من أهل بيتك فليس فيهم من هو مثل عبيد الله، فإنه رجل حازم لا يسد أحد منهم مسده، وإن كنت تريد غيره فأنت أعلم بقرابتك.
فرده معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه: كيف جهلت مثل الأحنف؟ إنه هو الذي عزلك وولاك وهو ساكت، فعظمت منزلة الأحنف بعد ذلك عند ابن زياد جدا.
توفي الأحنف بالكوفة وصلى عليه مصعب بن الزبير، ومشى في جنازته، وقد تقدمت له حكاية.
ذكر الواقدي أنه قدم على معاوية فوجده غضبان على ابنه يزيد، وأنه أصلح بينهما بكلام.
قال: فبعث معاوية إلى يزيد بمالٍ جزيل وقماش كثير، فأعطى يزيد نصفه للأحنف، والله سبحانه أعلم.
البراء بن عازب
بن الحارث بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارت بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري الحارثي الأوسي.
صحابي جليل، وأبوه أيضا صحابي، روى عن رسول الله ﷺ أحاديث كثيرة، وحدث عن أبي بكر، وعمر، وعلي وغيرهم، وعنه جماعة من التابعين وبعض الصحابة.
وقيل: إنه مات بالكوفة أيام ولاية مصعب بن الزبير على العراق.
عبيدة السلماني القاضي
وهو عبيدة بن عمرو.
ويقال: ابن قيس بن عمرو السلماني المرادي، أبو عمرو الكوفي.
وسلمان بطن من مراد، أسلم عبيدة في حياة النبي ﷺ، وروى عن ابن مسعود، وعلي، وابن الزبير.
وحدث عنه جماعة من التابعين.
وقال الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء.
قال ابن نمير: كان شريح إذا أشكل عليه أمر كتب إلى عبيدة فيه، وانتهى إلى قوله، وقد أثنى عليه غير واحد، وكانت وفاته في هذه السنة.
وقيل: سنة ثلاث.
وقيل: أربع وسبعين فالله أعلم.
وقد قيل: إن مصعب بن الزبير قتل فيها فالله أعلم.
وممن توفي أيضا عبد الله بن السائب بن صيفي المخزومي، له صحبة ورواية، وقرأ على أبيّ بن كعب، وقرأ عليه مجاهد وغيره.
عطية بن بشر
المازني له صحبة ورواية.
عبيدة بن نضيلة
أبو معاوية الخزاعي الكوفي مقري أهل الكوفة، مشهور بالخير والصلاح، توفي بالكوفة في هذه السنة.
عبد الله بن قيس الرقيّات
القرشي العامري أحد الشعراء، مدح مصعبا وابن جعفر.
عبد الله بن حمام
أبو عبد الرحمن الشاعر السلولي هجا بني أمية بقوله:
شربنا الغيض حتى لو سقينا * دماء بني أمية ما روينا
ولو جاؤوا برملة أو بهندٍ * لبايعنا أمير المؤمنينا
وكان عبيدة السلماني أعورا، وكان أحد أصحاب ابن مسعود الذين يفتنون الناس، توفي بالكوفة.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين
فيها كان مقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه
على يدي الحجاج بن يوسف الثقفي المبير قبحه الله وأخزاه.
قال الواقدي: حدثني مصعب بن نائب عن نافع مولى بني أسد - وكان عالما بفتنة ابن الزبير -.
قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال الحجة سنة ثنتين وسبعين وقتل لسبع عشر ليلة خلت من جمادى الأول سنة ثلاث وسبعين، فكان حصر الحجاج له خمسة أشهر وسبع عشرة ليلة.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الحجاج حج بالناس في هذه السنة الخارجة، وكان في الحج ابن عمر، وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج أن يأتم بابن عمر في المناسك كما ثبت ذلك في الصحيحين.
فلما استهلت هذه السنة استهلت وأهل الشام محاصرون أهل مكة، وقد نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك.
وكان مع الحجاج الحبشة، فجعلوا يرمون بالمنجنيق فقتلوا خلقا كثيرا، وكان معه خمس مجانيق فألح عليها بالرمي من كل مكان، وحبس عنهم الميرة والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم، وجعلت الحجارة تقع في الكعبة، والحجاج يصيح بأصحابه: يا أهل الشام الله الله في الطاعة.
فكانوا يحملون على ابن زبير حتى يقال: إنهم آخذوه في هذه الشدة، فيشد عليهم ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم من باب بني شيبة، ثم يكرون عليه فيشد عليهم، فعل ذلك مرارا، وقتل يومئذ جماعة منهم وهو يقول: هذا وأنا ابن الحواري.
وقيل لابن الزبير: ألا تكلمهم في الصلح!!
فقال: والله لو وجدوكم في جوف الكعبة لذبحوكم جميعا والله لا أسألهم صلحا أبدا.
وذكر غير واحد: أنهم لما رموا بالمنجنيق جاءت الصواعق والبروق والرعود حتى جعلت تعلوا أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت من الشامين اثني عشر رجلا فضعفت عند ذلك قلوبهم عن المحاصرة.
فلم يزل الحجاج يشجعهم ويقول: إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة من الغد فقتلت من أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضا، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم إنهم يصابون مثلكم وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة.
وكان أهل الشام يرتجزون وهم يرمون بالمنجنيق ويقولون:
مثل الفنيق المزبد * نرمي بها أعواد هذا المسجد
فنزلت صاعقة على المنجنيق فأحرقته، فتوقف أهل الشام عن الرمي والمحاصرة، فخطبهم الحجاج فقال: ويحكم ألم تعلموا أن النار كانت تنزل على من كان قبلنا فتأكل قربانهم إذا تقبل منهم؟ فلولا أن عملكم مقبول ما نزلت النار فأكلته، فعادوا إلى المحاصرة.
وما زال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بالأمان ويتركون ابن الزبير حتى خرج إليه من عشرة آلاف، فأمنهم وقَلَّ أصحاب ابن الزبير جدا، حتى خرج إلى الحجاج حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير، فأخذا لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما.
ودخل عبد الله بن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟
فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت تعلم أنك إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك، وإن كنت على حق فما وهن الدين وإلى كم خلودكم في الدنيا؟ القتل أحسن.
فدنا منها فقبّل رأسها وقال: هذا والله رأيي، ثم قال: والله ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة مع بصيرتي.
فانظري يا إماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يَجُرْ في حكم الله، ولم يَغْدُرْ في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عامل فرضيته بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضى ربي عز وجل.
اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري، ولكني أقول ذلك تعزية لأمي لتسلو عني.
فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا، إن تقدمتني أو تقدمتك، ففي نفسي اخرج يا بني حتى أنظر ما يصير إليه أمرك.
فقال: جزاك الله يا أمه خيرا فلا تدعي الدعاء قبل وبعد.
فقالت: لا أدعه أبدا لمن قتل على باطل فلقد قتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فقابلني في عبد الله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين.
ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه واعتنقها ليودعها -وكانت قد أضرت في آخر عمرها - فوجدته لابسا درعا من حديد.
فقالت: يا بني ما هذا لباس من يريد ما نريد من الشهادة!!
فقال: يا أماه إنما لبسته لأطيب خاطرك وأسكن قلبك به.
فقالت: لا يا بني ولكن انزعه فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد وهي تقول: شمر ثيابك، وجعل يتحفظ من أسفل ثيابه لئلا تبدو عورته إذا قتل.
وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبو بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله ﷺ، وترجيه القدوم عليهما إذا هو قتل شهيدا.
ثم خرج من عندها فكان ذلك آخر عهده بها رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها.
قالوا: وكان يخرج من باب المسجد الحرام وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينا وشمالا، ولا يثبت له أحد وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر * إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
وكانت أبواب الحرم قد قل من يحرسها من أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد ومعه أهل تلك البلاد.
وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح، وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل باب إلا فرقهم وبدد شملهم، وهو غير ملبس حتى يخرجهم إلى الأبطح ثم يصيح:
لو كان قرني واحدا كفيته
فيقول ابن صفوان وأهل الشام أيضا: إي والله وألف رجل، ولقد كان حجر المنجنيق يقع على طرف ثوبه فلا ينزعج بذلك، ثم يخرج إليهم فيقاتلهم كأنه أسد ضاري، حتى جعل الناس يتعجبون من إقدامه وشجاعته.
فلما كان ليلة الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، بات ابن الزبير يصلي طول ليلته، ثم جلس فاحتبى بحميلة سيفه فأغفى ثم انتبه مع الفجر على عادته، ثم قال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقيمت الصلاة فصلى الفجر، ثم قرأ سورة «ن» حرفا حرفا.
ثم سلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم.
فكشفوا وجوههم وعليهم المغافر فحرضهم وحثهم على القتال والصبر، ثم نهض ثم حمل وحملوا حتى كشفوهم إلى الحجون، فجاءته آجرة فأصابته في وجهه فارتعش لها، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه تمثل بقول بعضهم:
ولسنا على الأعقاب تُدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم سقط إلى الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه رضي الله عنه، وجاؤوا إلى الحجاج فأخبروه فخر ساجدا قبحه الله، ثم قام هو وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه وهو صريع.
فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا.
فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟
قال: نعم! هو أعذر لأنا محاصروه وليس هو في حصن ولا خندق ولا منعة ينتصف منا بل يفضل علينا في كل موقف، فلما بلغ ذلك عبد الملك ضرب طارقا.
وروى ابن عساكر في ترجمة الحجاج: أنه لما قتل ابن الزبير ارتجت مكة بكاء على عبد الله بن الزبير رحمه الله، فخطب الحجاج الناس فقال:
أيها الناس! إن عبد الله بن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازعها أهلها وألحد في الحرم فأذاقه من عذابه الأليم، وإن آدم كان أكرم على الله من ابن الزبير، وكان في الجنة وهي أشرف من مكة، فلما خالف أمر الله وأكل من الشجرة التي نهي عنها أخرجه الله من الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وقيل: إنه قال: يا أهل مكة إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير، فإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة حتى رغب في الدنيا ونازع الخلافة أهلها، فخلع طاعة الله وألحد في حرم الله، ولو كانت مكة شيئا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء.
فلما عصاه أخرجه من الجنة وأهبطه إلى الأرض، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، وإن ابن الزبير غَيَّرَ كتاب الله.
فقال له عبد الله بن عمر: لو شئت أن أقول لك كذبت لقلت، والله إن ابن الزبير لم يغير كتاب الله، بل كان قواما به صواما، عاملا بالحق.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك بما وقع، وبعث برأس ابن الزبير مع رأس عبد الله بن صفوان، وعمارة بن حزم إلى عبد الملك، ثم أمرهم إذا مروا بالمدينة أن ينصبوا الرؤس بها، ثم يسيروا بها إلى الشام، ففعلوا ما أمرهم به وأرسل بالرؤس مع رجل من الأزد فأعطاه عبد الملك خمسمائة دينار، ثم دعا بمقراض فأخذ من ناصيته ونواصي أولاده فرحا بمقتل ابن الزبير عليهم من الله ما يستحقون.
ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كدا عند الحجون، يقال: منكسة، فما زالت مصلوبة، حتى مر به عبد الله بن عمر فقال: رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت صواما قواما.
ثم قال: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فبعث الحجاج فأنزل عن الجذع ودفن هناك.
ودخل الحجاج إلى مكة فأخذ البيعة من أهلها إلى عبد الملك بن مروان، ولم يزل الحجاج مقيما بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضا وهو على مكة واليمامة واليمن.
وهذه ترجمة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير
هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو بكر.
ويقال له: أبو خبيب القرشي الأسدي، أول مولود ولد بعد الهجرة بالمدينة من المهاجرين.
وأمه: أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، هاجرت وهي حامل به ثم فولدته بقبا أول مقدمهم المدينة.
وقيل: إنما ولدته في شوال سنة ثنتين من الهجرة.
قال الواقدي، ومصعب الزبيري وغيرهما: والأول أصح لما رواه أحمد، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء: أنها حملت بعبد الله بمكة.
قالت: فخرجت به وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقبا فولدته، ثم أتيت به رسول الله ﷺ فوضعه على حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله ﷺ.
قالت: ثم حنكه ثم دعا له وتبرك عليه، فكان أول مولود ولد في الإسلام.
وهو صحابي جليل، روى عن النبي ﷺ أحاديث، وروى عن أبيه، وعمر، وعثمان وغيرهم.
وعنه جماعة من التابعين، وشهد الجمل مع أبيه وهو صغير، وحضر خطبة عمر بالجابية، ورواها عنه بطولها.
ثبت ذلك من غير وجه.
وقدم دمشق لغزو القسطنطينية، ثم قدمها مرة أخرى وبويع بالخلافة أيام يزيد بن معاوية لما مات معاوية بن يزيد، فكان على الحجاز، واليمن، والعراقيين، ومصر، وخراسان، وسائر بلاد الشام إلا دمشق، وتمت البيعة له سنة أربع وستين وكان الناس بخير في زمانه.
وثبت من غير وجه عن هشام، عن أبيه، عن أسماء أنها خرجت بعبد الله من مكة مهاجرة وهي حبلى به فولدته بقبا أول مقدمهم المدينة، فأتت به رسول الله ﷺ فحنكه وسماه: عبد الله ودعا له، وفرح المسلمون به لأنه كانت اليهود قد زعموا أنهم قد سحروا المهاجرين فلا يولد لهم في المدينة.
فلما ولد ابن الزبير كبر المسلمون، وقد سمع عبد الله بن عمر جيش الشام حين كبروا عند قتله.
فقال: أما والله للذين كبروا عند مولده خير من هؤلاء الذين كبروا عند قتله.
وأذن الصديق في أذنه حين ولد رضي الله عنهما، ومن قال: إن الصديق طاف به حول الكعبة وهو في خرقة فهو واهم والله أعلم.
وإنما طاف الصديق به في المدينة ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود.
وقال مصعب الزبيري: كان عارضا عبد الله خفيفين، وما اتصلت لحيته حتى بلغ ستين سنة.
وقال الزبير بن بكار: حدثني علي بن صالح، عن عامر بن صالح، عن سالم بن عبد الله بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ كلم في غلمة ترعرعوا منهم عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن أبي سلمة.
فقيل: يا رسول الله لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذكر، فأتي بهم إليه فكأنهم تكعكعوا واقتحم عبد الله بن الزبير، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «إنه ابن أبيه وبايعه».
وقد روي من غير وجه: أن عبد الله بن الزبير شرب من دم النبي ﷺ، كان النبي ﷺ قد احتجم في طست فأعطاه عبد الله بن الزبير ليريقه فشربه فقال له: «لا تمسك النار إلا تحلة القسم، وويل لك من الناس، وويل للناس منك».
وفي رواية: أنه قال له: «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهريقه حيث لا يراك أحد».
فلما بعُد عمد إلى ذلك الدم فشربه، فلما رجع قال: «ما صنعت بالدم؟»
قال: إني شربته لأزداد به علما وإيمانا، وليكون شيء من جسد رسول الله ﷺ في جسدي، وجسدي أولى به من الأرض.
فقال: «ابشر لا تمسك النار أبدا، وويل لك من الناس وويل للناس منك».
وقال محمد بن سعد: أنبأ مسلم بن إبراهيم، ثنا الحارث بن عبيد، ثنا أبو عمران الجوني أن نوفا كان يقول: إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت البناني قال: كنت أَمُرُ بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك.
وقال الأعمش: عن يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تصعد وتنزل لا تراه إلا جذم حائط.
وقال غيره: كان ابن الزبير يقوم ليله حتى يصبح، ويركع ليله حتى يصبح، ويسجد ليله حتى يصبح.
وقال بعضهم: ركع ابن الزبير يوما فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء: كنت إذا رأيت ابن الزبير يصلي كأنه كعب راسب، وفي رواية ثابت.
وقال أحمد: تعلم عبد الرزاق الصلاة من ابن جريج، وابن جريج من عطاء، وعطاء من ابن الزبير، وابن الزبير من الصديق، والصديق من رسول الله ﷺ.
وقال الحميدي: عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن ابن المنكدر قال: لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة يصفقها الريح، والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا.
قال سفيان: كأنه لا يبالي به ولا يعده شيئا.
وحكى بعضهم لعمر بن عبد العزيز: أن حجرا من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منه فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، فما زال عن مقامه ولا عرف ذلك في صورته.
فقال عمر بن عبد العزيز: لا إله إلا الله، جاء ما وصفت.
وقال عمر بن عبد العزيز يوما لابن أبي ملكية: صف لنا عبد الله بن الزبير.
فقال: والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ولا عصبا على عظم مثله، ولا رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد مرت آجرة من رمي المنجنيق بين لحيته وصدره فوالله ما خشع ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، وكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها.
ولقد كان يركع فيكاد الرخم أن يقع على ظهره ويسجد فكأنه ثوب مطروح.
وقال أبو القاسم البغوي: عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن منصور بن زاذان قال: أخبرني من رأى ابن الزبير يسرب في صلاته وكان ابن الزبير من المصلين.
وسئل ابن عباس عن ابن الزبير فقال: كان قارئا لكتاب الله، متبعا لسنة رسول الله، قانتا لله صائما في الهواجر من مخافة الله، ابن حواريّ رسول الله ﷺ، وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله، زوجة رسول الله ﷺ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله.
وروي: أن ابن الزبير كان يوما يصلي فسقطت حية من السقف فطوقت على بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية فقتلوها، وسلم الولد فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا دري بما جرى حتى سلم.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الخزامي، وعبد الملك بن عبد العزيز، ومن لا أحصي كثرة من أصحابنا أن ابن الزبير كان يواصل الصوم سبعا، يصوم ليلة الجمعة ولا يفطر إلا ليلة الجمعة الأخرى، ويصوم بالمدينة ولا يفطر إلا بمكة، ويصوم بمكة ولا يفطر إلا في المدينة، وكان إذا أفطر أول ما يفطر على لبن لقحة وسمن وصبر.
وفي رواية أخرى فأما اللبن فيعصمه، وأما السمن فيقطع عنه العطش، وأما الصبر فيفتق الأمعاء.
وقال ابن معين عن روح، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ويصبح في الثامن وهو أليثنا.
وروي مثله من غير وجه.
وقال بعضهم: لم يكن يأكل في شهر رمضان سوى مرة واحدة في وسطه.
وقال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير لا يفطر من الشهر إلا ثلاثة أيام.
ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره.
وقال ليث: عن مجاهد لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة رضي الله عنه.
ولقد جاء سيل مرة فطبق البيت فجعل ابن الزبير يطوف سباحة.
وقال بعضهم: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاث، في العبادة، والشجاعة، والفصاحة.
وقد ثبت أن عثمان جعله في النفر الذين نسخوا المصاحف مع زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وذكره سعيد بن المسيب في خطباء الإسلام مع معاوية وابنه وسعيد بن العاص وابنه.
وقال عبد الواحد بن أيمن: رأيت على ابن الزبير رداءا يمانيا عدنيا يصلي فيه، وكان صيتا إذا خطب تجاوبه الجبلان أبو قبيس وزروراء.
وكان آدم نحيفا ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة، مجتهدا شهما، فصيحا، صواما قواما، شديد البأس ذا أنفة له نفس شريفة، وهمة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلا.
وكانت له جمة وكان له لحية صفراء.
وقد ذكرنا أنه شهد مع ابن أبي سرح قتال البربر وكانوا في عشرين ومائة ألف، والمسلمون عشرون ألفا، فأحاطوا بهم من كل جانب، فما زال عبد الله بن الزبير يحتال حتى ركب في ثلاثين فارسا.
وسار نحو ملك البربر وهو منفرد وراء الجيش، وجواريه يظللنه بريش النعام، فساق حتى انتهى إليه والناس يظنون أنه ذاهب برسالة إلى الملك، فلما فهمه الملك ولى مدبرا فلحقه عبد الله فقتله واحتز رأسه وجعله في رأس رمح، وكبر وكبر المسلمون، وحملوا على البربر فهزموهم بين أيديهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنموا أموالا وغنائم كثيرة جدا.
وبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر.
قال: نعم!
فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب الناس وذكر لهم كيفية ما جرى.
قال عبد الله: فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد أن يرتج عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فرمزني بعينه وأشار إليّ ليحضني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني اسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: خرج ابن الزبير في ليلة مقمرة على راحلة له فنزل في تبوك، فالتفت فإذا على الراحلة شيخ أبيض الرأس واللحية فشد عليه ابن الزبير فتنحى عنها، فركب ابن الزبير راحلته ومضى.
قال فناداه: والله يا ابن الزبير لو دخل قلبك الليلة مني شعرة لخبلتك.
قال: ومنك أنت يا لعين يدخل قلبي شيء؟
وقد روى لهذه الحكاية شواهد من وجوه أخرى جيدة.
وروى عبد الله بن المبارك: عن إسحاق بن يحيى، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: أقبل عبد الله بن الزبير من العمرة في ركب من قريش، فلما كانوا عند اليناصب أبصروا رجلا عند شجرة، فتقدمهم ابن الزبير، فلما انتهى إليه سلم عليه فلم يعبأ به ورد ردا ضعيفا، ونزل ابن الزبير فلم يتحرك له الرجل.
فقال له ابن الزبير: تنح عن الظل، فانحاز متكارها.
قال ابن الزبير: فجلست وأخذت بيده وقلت: من أنت؟
فقال: رجل من الجن.
فما عدا أن قالها حتى قامت كل شعرة مني فاجتذبته وقلت: أنت رجل من الجن، وتبدو إلي هكذا؟
وإذا له سفلة وانكسر ونهرته وقلت: إليّ تتبدا وأنت من أهل الأرض، فذهب هاربا.
وجاء أصحابي فقالوا: أين الرجل الذي كان عندك؟
فقلت: إنه كان من الجن فهرب.
قال: فما منهم رجل إلا سقط إلى الأرض عن راحلته، فأخذت كل رجل منهم فشددته على راحلته حتى أتيت بهم الحج وما يعقلون.
وقال سفيان بن عيينه قال ابن الزبير: دخلت المسجد ذات ليلة فإذا نسوة يطفن في بالبيت فأعجبنني، فلما قضين طوافهن خرجن فخرجت في إثرهن لأعلم أين منزلهن، فخرجن من مكة حتى أتين العقبة ثم انحدرن حتى أتين فجا فدخلن خربة، فدخلت في إثرهن.
فإذا مشيخة جلوس فقالوا: ما جاء بك يا ابن الزبير؟
فقلت: اشتهي رطبا، وما بمكة يومئذٍ من رطبة، فأتوني برطب فأكلت ثم قالوا: احمل ما بقي معك، فجئت به المنزل فوضعته في سفط وجعلت السفط في صندوق، ثم وضعت رأسي لأنام، فبينما أنا بين النائم واليقظان إذ سمعت جلبة في البيت.
فقال بعضهم لبعض: أين وضعه؟
قالوا: في الصندوق، ففتحوه فإذا هو في السفط داخله، فهمّوا بفتحه.
فقال بعضهم: إنه ذكر اسم الله عليه، فأخذوا السفط بما فيه فذهبوا به.
قال: فلم آسف على شيء أسفي كيف لم أثب عليهم وهم في البيت.
وقد كان عبد الله بن الزبير ممن حاجف عن عثمان يوم الدار، وجرح يومئذٍ بضع عشرة جراحة، وكان على الراجلة يوم الجمل وجرح يومئذ تسع عشرة جراحة أيضا.
وقد تبارز يومئذٍ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر، فاتحدا فصرع الأشتر ابن الزبير فلم يتمكن من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي: اقتلوني ومالكا، واقتلوا مالكا معي، فأرسلهما مثلا.
ثم تفرقا ولم يقدر عليه الأشتر.
وقد قيل: إنه جرح يومئذ بضع وأربعون جراحة، ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لمن بشرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم، وسجدت لله شكرا، وكانت تحبه حبا شديدا، لأنه ابن أختها، وكان عزيزا عليها.
وقد روي عن عروة: أن عائشة لم تكن تحب أحدا بعد رسول الله ﷺ وأبي بكر مثل حبها ابن الزبير.
قال: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير.
وقال الزبير بن بكار: حدثني أخي هارون بن أبي بكر، عن يحيى بن إبراهيم، عن سليمان بن محمد، عن يحيى بن عروة، عن عمه عن عبد الله بن عروة قال: أفحمت ألسنة نابغة بني جعدة فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام، فأنشد هذه الأبيات:
حكيت لنا الصديق لما وليتها * وعثمان وفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستووا * فعاد صباحا حالك اللون مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجا * دجبى الليل جواب الفلاة غشمشم
لتجير منه جائيا غدرت به * صروف الليالي والزمان المصمم
فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فإن الشعر أهون رسائلك عندنا، أما صفوه فما لنا فلآل الزبير، وأما عفوه فإن بني أسد يشغلها عنك وتيما، ولكن لك في مال الله حقان: حق لرؤيتك لرسول الله ﷺ، وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم.
ثم أخذ بيده فأدخله دار النعم فأعطاه قلائص سبعا وجملا وخيلا، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا، فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفا.
فقال له ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد.
فقال النابغة: أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما وليت قريش وعدلت، واسترحمت فرحمت وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فرط العاصفين».
وقال محمد بن مروان صاحب كتاب المجالسة: أخبرني خبيب بن نصير الأزدي، ثنا محمد بن دينار الضبي، ثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن أبيه قال: أذن معاوية للناس فدخلوا عليه فاحتفل المجلس وهو على سريره، فأجال بصره فيهم فقال:
أنشدوني لقدماء العرب ثلاثة أبيات جامعة من أجمع ما قالتها العرب.
ثم قال: يا أبا خبيب.
فقال: مهيم.
قال: أنشد ذلك.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين بثلاثمائة ألف كل بيت بمائة ألف.
قال: نعم إن ساوت.
قال: أنت بالخيار، وأنت واف كاف، فأنشده للأفوه الأزدي:
بلوت الناس قرنا بعد قرنٍ * فلم أر غير ختالٍ وقال
فقال معاوية: صدق.
ولم أر في الخطوب أشد وقعا * وكيدا من معادات الرجال
فقال معاوية: صدق.
وذقت مرارة الأشياء طرا * فما شيء أمرُّ من السؤال
فقال: صدق.
ثم قال معاوية: هيه يا خبيب.
قال: إلى ههنا انتهى.
قال: فدعا معاوية بثلاثين عبدا على عنق كل واحد منهم بدرة، وهي عشرة آلاف درهم، فمروا بين يدي ابن الزبير حتى انتهوا إلى داره.
وروى ابن أبي الدنيا: عن أبي يزيد النميري، عن أبي عاصم النبيل، عن جويرية بن أسماء: أن معاوية لما حج تلقته الناس وتخلف ابن الزبير ثم جاءه وقد حلق رأسه.
فقال: يا أمير المؤمنين ما أكبر حجرة رأسك!!
فقال له: اتق أن لا يخرج عليك منها حية فتقتلك، فلما أفاض معاوية طاف معه ابن الزبير وهو آخذ بيده ثم استدعاه إلى داره ومنازله بقعيقعان، فذهب معه إليها.
فلما خرجا قال: يا أمير المؤمنين إن الناس يقولون جاء معه أمير المؤمنين إلى دوره ومنازله ففعل معه ماذا، لا والله لا أدعك حتى تعطيني مائة ألف.
فأعطاه، فجاء مروان فقال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلك، جاءك رجل قد سمى بيت مال الديوان وبيت الخلافة، وبيت كذا، وبيت كذا، فأعطيته مائة ألف.
فقال له: ويلك كيف أصنع بابن الزبير؟
وقال ابن أبي الدنيا: أخبرني عمر بن بكير، عن علي بن مجاهد بن عروة قال: سأل ابن الزبير معاوية شيئا فمنعه، فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنية فلا أشتم لك عرضا ولا أقصم لك حسبا، ولكني أسدل عمامتي من بين يدي ذراعا، ومن خلفي ذراعا في طريق أهل الشام، وأذكر سيرة أبي بكر الصديق وعمر فيقول الناس: من هذا؟
فيقولون: ابن حوارّي رسول الله ﷺ وابن بنت الصديق.
فقال معاوية: حسبك بهذا شرفا.
ثم قال: هات حوائجك.
وقال الأصمعي: ثنا غسان بن نصر، عن سعيد بن يزيد.
قال: دخل ابن الزبير على معاوية فأمر ابنا له صغيرا فلطمه لطمة دوخ منها رأسه، فلما أفاق ابن الزبير قال للصبي: ادن مني.
فدنا منه.
فقال له: ألطم معاوية.
قال: لا أفعل.
قال: ولِمَ؟
قال: لأنه أبي، فرفع ابن الزبير يده فلطم الصبي لطمة جعل يدور منها كما تدور الدوامة.
فقال معاوية: تفعل هذا بغلام لم تجز عليه الأحكام؟
قال: إنه والله قد عرف ما يضره مما ينفعه، فأحببت أن أحسن أدبه.
وقال أبو الحسن علي بن محمد المدائني: عن عبد الله بن أبي بكر قال: لحق ابن الزبير معاوية وهو سائر إلى الشام فوجده وهو ينعس على راحلته، فقال له: أتنعس وأنا معك؟ أما تخاف مني أن أقتلك؟
فقال: إنك لست من قتال الملوك، إنما يصيد كل طائر قدره.
قال: لقد سرت تحت لواء أبي إلى علي بن أبي طالب، وهو من تعلمه.
فقال: لا جرم قتلكم والله بشماله.
قال: أما إن ذلك كان في نصرة عثمان، ثم لم يجز بها.
فقال: إنما كان لبغض علي لا لنصرة عثمان.
فقال له ابن الزبير: إنا قد أعطيناك عهدا فنحن وافون لك به ما عشت، فسيعلم من بعدك.
فقال: أما والله ما أخافك إلا على نفسك، وكأني بك قد خبطت في الحبالة واستحكمت عليك الأنشوطة، فذكرتني وأنت فيها.
فقلت: ليت أبا عبد الرحمن لها، ليتني والله لها، أما والله لها، أما والله لأحللتك رويدا ولأطلقتك سريعا، ولبئس الولي أنت تلك الساعة.
وحكى أبو عبد الله نحو هذا، وقد تقدم أن معاوية لما مات وجاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة انشمر منها ابن الزبير والحسين بن علي فقصدا مكة فأقاما بها، ثم خرج الحسين إلى العراق، وكان من أمره ما تقدم.
وتفرد بالرياسة والسؤدد بمكة ابن الزبير، ولهذا كان ابن عباس ينشد:
يالك من قنبرةٍ بمعمري * خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
يعرض بابن الزبير.
وقيل: إن يزيد بن معاوية كتب إلى ابن الزبير يقول: إني قد بعثت إليك بسلسلة من فضة وقيد من ذهب وجامعة من فضة، وحلفت لتأتيني في ذلك فأبر قسمي ولا تشق العصا.
فلما قرأ كتابه ألقاه من يده وقال:
ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى تلين لضرس الماضع الحجر
فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد من بعده قريبا، استفحل أمر عبد الله بن الزبير جدا، وبويع له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية، وبايع له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها، ولكن عارضه مروان بن الحكم في ذلك وأخذ الشام ومصر من نواب ابن الزبير.
ثم جهز السرايا إلى العراق، ومات وتولى بعده عبد الملك بن مروان فقتل مصعب بن الزبير بالعراق وأخذها.
ثم بعث إلى الحجاج فحاصر ابن الزبير بمكة قريبا من سبعة أشهر حتى ظفر به في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.
وكانت ولاية ابن الزبير في سنة أربع وستين، وحج بالناس فيها كلها، وبنى الكعبة في أيام ولايته كما تقدم، وكساها الحرير، وكانت كسوتها قبل ذلك الأنطاع والمسوح.
وكان ابن الزبير عالما عابدا، مهيبا وقورا، كثير الصيام والصلاة، شديد الخشوع، جيد السياسة.
قال أبو نعيم الأصبهاني: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، عن عمر بن قيس.
قال: كان لابن الزبير مائة غلام يتكلم كل غلام منهم بلغة غير لغة الآخر، وكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت: هذا رجل لم يرد الله والدار الآخرة طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين.
وقال الثوري: عن الأعمش، عن أبي الضحى قال: رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي كان رأس مال.
وكان يطيب الكعبة حتى كان يوجد ريحها من مسافة بعيدة.
وقال ابن المبارك: عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه قال: دخل ابن الزبير على امرأته بنت الحسن فرأى ثلاثة مثل - يعني: أفرشة - فقال: هذا لي، وهذا لابنة الحسن، وهذا للشيطان، فأخرجوه.
وقال الثوري: عن عبد الله بن أبي بشير، عن عبد الله بن مساور.
قال: سمعت ابن عباس يعاتب ابن الزبير على البخل ويقول: قال رسول الله ﷺ: «ليس بالمؤمن من يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع».
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن أبان الوراق، ثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، عن عثمان بن عفان.
قال: قال له عبد الله بن الزبير حين حصر: إن عندي نجائب قد أعددتها لك، فهل لك أن تتحول إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك؟
قال: لا! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يلحد كبش من قريش اسمه عبد الله عليه مثل أوزار الناس».
وهذا الحديث منكر جدا وفي إسناده ضعف، ويعقوب هذا هو القمي وفيه تشيع، ومثل هذا لا يقبل تفرده به، وبتقدير صحته فليس هو بعبد الله بن الزبير، فإنه كان على صفات حميدة، وقيامه في الإمارة إنما كان لله عز وجل.
ثم هو كان الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد من مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا إسحاق بن سعيد، ثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو في الحجر جالس فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحاد في حرم الله، فإني أشهد أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يحلها وتحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها».
فانظر أن لا تكونه.
فقال له: يا ابن عمر، فإنك قرأت الكتب وصحبت النبي ﷺ، قال: فإني أشهد أن هذا وجهي إلى الشام مجاهدا.
وهذا قد يكون رفعه غلطا، وإنما هو من كلام عبد الله بن عمر، وما أصابه من الزاملتين يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب، والله أعلم.
وقال وكيع: عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، عن حبشي الكناني، عن عليم الكندي، عن سلمان الفارسي.
قال: ليحرقن هذا البيت على يدي رجل من آل الزبير.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: عن يحيى بن معين، عن أبي فضيل، ثنا سالم بن أبي حفصة، عن منذر الثوري قال: قال ابن الحنفية: اللهم إنك تعلم أني كنت أعلم مما علمتني أن ابن الزبير لا يخرج منها إلا قتيلا يطاف برأسه في الأسواق.
وقد روى الزبير بن بكار: عن هشام بن عروة قال: إن أول ما فصح به عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من فيه.
وكان الزبير إذا سمع ذلك منه يقول له: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام.
وقد تقدم كيفية مقتله، وأن الحجاج صلبه على جذع فوق الثنية، وأن أمه جاءت حتى وقفت عليه فدعت له طويلا ولا يقطر من عينها دمعة ثم انصرفت، وكذلك وقف عليه ابن عمر فدعا له وأثنى عليه ثناء كثيرا جدا.
وقال الواقدي: حدثني نافع بن ثابت، عن عبد الله مولى أسماء قال: لما قتل عبد الله خرجت إليه أمه حتى وقفت عليه وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه، فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟
فقالت: ربما أديل الباطل على الحق وأهله، وإنك بين فرثها والجنة.
فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [56] وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم.
قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله ﷺ وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك.
وكان مع ذلك برا بالوالدين صواما قواما بكتاب الله، معظما لحرم الله، يبغض من يعصى الله عز وجل، أشهد على رسول الله ﷺ لسمعته يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير».
وفي رواية: «سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول وهو مبير»، فانكسر الحجاج وانصرف.
فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء، وقال: مالك ولابنة الرجل الصالح؟
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: ثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، أنبأنا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل.
قال: رأيت عبد الله بن الزبير على ثنية الحجون مصلوبا فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مر عليه عبد الله بن عمر فوقف عليه فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا.
أما والله إن كنت ما علمتُ صواما قواما وصولا للرحم، أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير، ثم بعد عبد الله بن عمر.
فبلغ الحجاج وقوف ابن عمر عليه وقوله ما قال، فأرسل إليه فأنزله عن جذعه وألقي في قبور اليهود.
ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك من قرونك.
فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليّ من يسحبني بقروني.
فقال الحجاج: أروني سبتيتي فأخذ نعليه ثم انطلق يتوذف حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتيني صنعت بعد والله؟
قالت: رأيتك فسدت عليه دنياه، وأفسدت عليك آخرتك، بلغني أنك تقول: يا ابن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله ﷺ وطعام أبي بكر، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.
قال: فقام عنها ولم يراجعها. انفرد به مسلم.
وروى الواقدي: أن الحجاج لما صلب ابن الزبير على ثنية الحجون بعثت إليه أسماء تدعو عليه، وطلبت منه أن يدفن فأبى عليها، حتى كتب إلى عبد الملك في ذلك فكتب إليه أن يدفن فدفن بالحجون، وذكروا أنه كان يشتم من عند قبره ريح المسك.
وكان الحجاج قد قدم من الشام في ألفي فارس وانضاف إليه طارق بن عمرو في خمسة آلاف.
وروى محمد بن سعد وغيره بسنده: أن الحجاج حاصر ابن الزبير، وأنه اجتمع معه أربعون ألفا، وأنه نصب المنجنيق على أبي قبيس ليرمي به المسجد الحرام، وأنه أمن من خرج إليه من أهل مكة ونادى فيهم بذلك، وقال: إنا لم نأت لقتال أحد سوى ابن الزبير، وأنه خير ابن الزبير بين ثلاث: إما أن يذهب في الأرض حيث شاء، أو يبعثه إلى الشام مقيدا بالحديد، أو يقاتل حتى يقتل.
فشاور أمه فأشارت عليه بالثالث فقط، ويروى: أنها استدعت بكفن له وبخرته وشجعته على القتل، فخرج بهذه النية فقاتل يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين قتالا شديدا فجاءته آجرة ففلقت رأسه فسقط على وجهه إلى الأرض.
ثم أراد أن ينهض فلم يقدر فاتكأ على مرفقه الأيسر وجعل يحدم بالسيف من جاءه، فأقبل إليه رجل من أهل الشام فضربه فقطع رجله، ثم تكاثروا عليه حتى قتلوه واحتزوا رأسه، وكان مقتله قريبا من الحجون.
ويقال: بل قتل وهو متعلق بأستار الكعبة فالله أعلم.
ثم صلبه الحجاج منكسا على ثنية كدا عند الحجون، ثم لما أنزله دفنه في مقابر اليهود كما رواه مسلم.
وقيل: دفن بالحجون بالمكان الذي صلب فيه، فالله أعلم.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال قال عبد الله بن الزبير لما جيء برأس المختار: ما كان يحدثنا كعب الأحبار شيئا إلا وجدناه إلا قوله إن فتى ثقيف يقتلني، وهذا رأسه بين يدي.
قال ابن سيرين: ولم يشعر أنه قد خبئ له الحجاج.
وروي هذا من وجه آخر.
قلت: والمشهور أن مقتل الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى.
وقيل: الآخرة منها.
وعن مالك وغيره: أن مقتله كان على رأس اثنين وسبعين، والمشهور الصحيح هو الأول.
وكانت بيعته في سابع رجب سنة أربع وستين، وكان مولده في أول سنة إحدى من الهجرة.
وقيل: في شوال سنة ثنتين من الهجرة، فمات وقد جاوز السبعين قطعا والله أعلم.
وأما أمه: فإنها لم تعش بعده إلا مائة يوم.
وقيل: عشرة أيام.
وقيل: خمسة، والأول هو المشهور.
وستأتي ترجمتها قريبا رضي الله عنها وعن أبيها وابنها.
وقد رثي ابن الزبير وأخوه مصعب بمراثي كثيرة حسنة بليغة، من ذلك قول معمر بن أبي معمر الذهلي يرثيهما بأبيات:
لعمرك ما أبقيت في الناس حاجة * ولا كنت ملبوس الهدى متذبذبا
غداة دعاني مصعب فأجبته * وقلت له أهلا وسهلا ومرحبا
أبوك حواريّ الرسول وسيفه * فأنت بحمد الله من خيرنا أبا
وذاك أخوك المهتدى بضيائه * بمكة يدعونا دعاء مثوبا
ولم أك ذا وجهين وجه لمصعب * مريض ووجه لابن مروان إذ صبا
وكنت امرأ ناصحته غير مؤثر * عليه ابن مروان ولا متقربا
إليه بما تقذى به عين مصعب * ولكنني ناصحت في الله مصعبا
إلى أن رمته الحادثات بسهمها * فيالله سهما ما أسد وأصوبا
فإن يك هذا الدهر أردى بمصعب * وأصبح عبد الله شلوا ملحبا
فكل امرئ حاس من الموت جرعة * وإن حاد عنها جهده وتهيبا
وقيل: إن عبد الله بن الزبير غسلته أمه أسماء بعد أن قطعت مفاصله وحنطته وطيبته وكفنته وصلت عليه وحملته إلى المدينة، فدفنته بدار صفية بنت حيي، ثم إن هذه الدار زيدت في مسجد النبي ﷺ فهو مدفون في المسجد مع النبي ﷺ وأبي بكر وعمر، وقد ذكر ذلك غير واحد فالله أعلم.
وقد روى الطبراني: عن عامر بن عبد الله بن الزبير: أن أباه حدثه أن النبي ﷺ أعطاه دم محاجمه يهريقه فحساه، فلما رجع إلى النبي ﷺ قال: «ما صنعت يا عبد الله بالدم؟»
قلت: جعلته في مكان ظننت أنه خافٍ على الناس.
قال: «فلعلك شربته».
قلت: نعم!
قال: «ومن أمرك أن تشرب الدم؟ ويل لك من الناس، وويل للناس منك».
ودخل سلمان الفارسي مرة على النبي ﷺ فإذا عبد الله بن الزبير قائم في الدهليز ومعه طست يشرب منه، فدخل سلمان ودخل عبد الله على رسول الله ﷺ قال له: «فرغت؟»
قال: نعم.
قال سلمان: وما ذاك يا رسول الله؟
قال: «أعطيته غسالة محاجمي يهريق ما فيها».
قال سلمان: شربها والذي بعثك بالحق؟.
قال: شربته؟
قال: نعم!
قال: «لِمَ؟»
قال: أحببت أن يكون دم رسول الله ﷺ في جوفي.
فقال بيده على رأس ابن الزبير، وقال: «ويل لك من الناس، وويل للناس منك، لا تمسك النار إلا تحلة القسم».
ولما بعث يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير ذلك القيد من ذهب وسلسة من فضة وجامعة من فضة وأقسم لتأتيني فيها.
فقالوا له: بر قسم أمير المؤمنين.
فقال:
ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى تلين لضرس الماضغ الحجر
ثم قال: والله لضربة بسيف بعز، أحب إليّ من ضربة بسوط في ذل، ثم دعا إلى نفسه وأظهر الخلاف ليزيد بن معاوية.
وروى الطبراني: أن ابن الزبير دخل على أمه فقال: إن في الموت لراحة.
وكانت أمه قد أتت عليها مائة سنة لم تسقط لها سن، ولم يفسد لها بصر، فقالت: ما أحب أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك، إما أن تملك فتقر عيني، وإما أن تقتل فأحتسبك.
ثم خرج عنها وهو يقول:
ولست بمبتاع الحياة بسبة * ولا بمريق من خشية الموت سلما
ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول: ليكن أحدكم سيفه كما وجهه فيدفع عن نفسه بيده كأنه أمراه، والله ما بقيت زحفا قط إلا في الرعيل الأول، وما ألمت جرحا إلا ألم الدواء.
ثم حمل عليهم ومعه سفيان، فأول من لقيه الأسود فضربه بسيفه حتى أطن رجله.
فقال له الأسود: أخ يا ابن الزانية.
فقال له ابن الزبير: اخسأ يا ابن حام أسماء زانية؟
ثم أخرجهم من المسجد، وكان على ظهر المسجد جماعة من أعوانه يرمون أعداءه بالآجر فأصابته آجرة من أعوانه من غير قصد من مفرق رأسه ففلقت رأسه فوقف قائما وهو يقول:
لو كان قرني واحدا كفيته
ويقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا يقطر الدم
ثم وقع فأكب عليه موليان له وهما يقولان:
العبد يحمي ربه ويحتمي
ثم أرسلوا إليه فحزوا رأسه.
وروى الطبراني أيضا: عن إسحاق بن أبي إسحاق قال: أنا حاضر مقتل عبد الله بن الزبير في المسجد الحرام، يوم قتل جعلت الجيوش تدخل من أبواب المسجد، وكلما دخل قوم من باب حمل عليهم حتى يخرجهم، فبينما هو على تلك الحال إذ جاءت شرفة من شرفات المسجد، فوقعت على رأسه فصرعته، وهو يتمثل بهذه الأبيات:
أسماء أسماء لا تبكيني * لم يبقى إلا حسبي وديني
وصارم لانت به يميني
وقد روي أن أمه قالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟
فقال الحجاج: ابنك المنافق.
فقالت: والله ما كان منافقا، إن كان لصواما قواما وصولا للرحم.
فقال: انصرفي يا عجوز، فإنك قد خرفت.
فقالت: والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير»، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت.
وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر فمر على ابن الزبير فوقف فترحم عليه، ثم التفت إليّ وقال: أخبرني أبو بكر الصديق أن رسول الله ﷺ قال: «من يعمل سوءا يجز به».
وروى سفيان: عن ابن جريج، عن أبي مليكة قال: ذكرت ابن الزبير عند ابن عباس قال: كان عفيفا في الإسلام، قارئا للقرآن، صواما قواما.
أبوه الزبير، وأمه أسماء، وجده أبو بكر، وعمته خديجة، وجدته صفية، وخالته عائشة، والله لأحاسبن له بنفسي محاسبة لم أحاسبها لأبي بكر ولا لعمر.
وقال الطبراني: حدثنا زكريا الناجي، ثنا حوثرة بن محمد، ثنا أبو أسامة، ثنا سعيد بن المرزبان، أبو سعيد العبسي، ثنا محمد بن عبد الله الثقفي.
قال: شهدت خطبة ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم، فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فإنكم جئتم من أفاق شتى وفودا إلى الله عز وجل، فحق على الله أن يكرم وفده، فمن كان منكم يطلب ما عند الله فإن طالب ما عند الله لا يخيب فصدقوا قولكم بفعل، فإن ملاك القول الفعل والنية النية، والقلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجونها هاهنا، ثم لبى ولبى الناس فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ.
وروى الحسن بن سفيان قال: ثنا حيان بن موسى، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا مالك بن أنس، عن وهب بن كيسان قال: كتب إليّ عبد الله بن الزبير بموعظة:
أما بعد، فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ويعرفونها من أنفسهم، صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكظم الغيظ، وصبر على البلاء، ورضي بالقضاء، وشكر للنعماء، وذل لحكم القرآن، وإنما الأيام كالسوق ما نفق فيها حُمِلَ إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله.
وإن نفق الباطل عنده حمل إليه وجاءه أهله.
وقال أبو معاوية: ثنا هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان قال: ما رأيت ابن الزبير يعطي سلمة قط لرغبة ولا لرهبة سلطان ولا غيره.
وبهذه الإسنادات أهل الشام كانوا يعيرون ابن الزبير ويقولون له: يا ابن ذات النطاقين.
فقالت له أسماء: يا بني إنهم يعيرونك بالنطاقين، وإنما كان لي نطاق واحد شققته نصفين فجعلت في سفرة رسول الله ﷺ أحدهما، وأوكيت قربته بالآخر لما خرج هو وأبو بكر يريدان الهجرة إلى المدينة.
فكان ابن الزبير بعد ذلك إذا عيروه بالنطاقين يقول: إنها والله تلك شكاة ظاهر عنك عارها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وممن قتل مع ابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين بمكة من الأعيان:
عبد الله بن صفوان
ابن أمية بن خلف الجمحي أبو صفوان المكي، وكان أكبر ولد أبيه، أدرك حياة النبي ﷺ، وروى عن عمر وجماعة من الصحابة، وحدث عنه خلق من التابعين.
وكان سيدا شريفا مطاعا، حليما يحتمل الأذى، لو سبه عبد أسود ما استنكف عنه، ولم يقصده أحد في شيء فرده خائبا، ولا سمع بمفازة إلا حفر جبا أو عمل فيها بركة، ولا عقبة إلا سهلها.
وقيل: إن المهلب بن أبي صفرة قدم على ابن الزبير من العراق فأطال الخلوة معه، فجاء ابن صفوان فقال: من هذا الذي شغلك منذ اليوم؟
قال: هذا سيد العرب من أهل العراق.
فقال: ينبغي أن يكون المهلب.
فقال المهلب لابن الزبير: ومن هذا الذي يسأل عني يا أمير المؤمنين؟
قال: هذا سيد قريش بمكة.
فقال: ينبغي أن يكون عبد الله بن صفوان، وكان ابن صفوان كريما جدا.
وقال الزبير بن بكار بسنده: قدم معاوية حاجا فتلقاه الناس فكان ابن صفوان في جملة من تلقاه، فجعل يساير معاوية وجعل أهل الشام يقولون: من هذا الذي يساير أمير المؤمنين؟
فلما انتهى إلى مكة إذا الجبل أبيض من الغنم.
فقال: يا أمير المؤمنين هذه غنم أجزتكها، فإذا هي ألفا شاة.
فقال أهل الشام: ما رأينا أكرم من ابن عم أمير المؤمنين.
كان ابن صفوان من جملة من صبر مع ابن الزبير حين حصره الحجاج، فقال له ابن الزبير: إني قد أقلتك بيعتي فاذهب حيث شئت.
فقال: إني إنما قاتلت عن ديني.
ثم صبر نفسه حتى قتل وهو متعلق بأستار الكعبة في هذه السنة، رحمه الله وأكرمه.
عبد الله بن مطيع
ابن الأسود بن حارثة القرشي العدوي المدني، ولد في حياة رسول الله ﷺ وحنكه ودعا له بالبركة.
وروى عن أبيه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا يقتل قرشي بعد اليوم صبرا إلى يوم القيامة».
وعنه ابناه إبراهيم، ومحمد، والشعبي، وعيسى بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن أبي موسى.
قال الزبير بن بكار: كان ابن مطيع من كبار رجال قريش جلدا وشجاعة، وأخبرني عمي مصعب أنه كان على قريش أميرا يوم الحرة ثم قتل مع ابن الزبير بمكة، وهو الذي يقول:
أنا الذي فررت يوم الحرة * والشيخ لا يفر إلا مرة
ولا جبرت فرة بكرة، رحمه الله.
عوف بن مالك رضي الله عنه
هو عوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي الغطفاني، صحابي جليل، شهد مؤتة مع خالد بن الوليد والأمراء قبله، وشهد الفتح وكانت معه راية قومه يومئذٍ، وشهد فتح الشام.
وروى عن رسول الله ﷺ أحاديث، وروى عنه جماعة من التابعين وأبو هريرة، وقد مات قبله.
وقال الواقدي، وخليفة بن خياط، وأبو عبيد، وغير واحد: توفي سنة ثلاث وسبعين بالشام.
أسماء بنت أبي بكر
والدة عبد الله بن الزبير.
يقال لها: ذات النطاقين، وإنما سميت بذلك عام الهجرة حين شقت نطاقها وربطت به سفرة النبي ﷺ وأبي بكر حين خرجا عامدين إلى المدينة، وأمها قيلة.
وقيل: قبيلة بنت عبد العزى من بني عامر بن لؤي.
أسلمت أسماء قديما وهم بمكة في أول الإسلام، وهاجرت هي وزوجها الزبير وهي حامل متمّ بولدها عبد الله، فوضعته بقبا أول مقدمهم المدينة، ثم ولدت الزبير بعد ذلك عروة والمنذر، وهي آخر المهاجرين والمهاجرات موتا.
وكانت هي وأختها عائشة وأبوها أبو بكر الصديق، وجدها أبو عتيق، وابنها عبد الله، وزوجها الزبير صحابيين رضي الله عنهم.
وقد شهدت اليرموك مع ابنها وزوجها، وهي أكبر من أختها عائشة بعشر سنين.
وقيل: إن الحجاج دخل عليها بعد أن قتل ابنها، فقال: يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة؟
فقالت: لست لك بأمٍ، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، ومالي من حاجة، ولكن أحدثك أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير»، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا أراك إلا إياه.
فقال: أنا مبير المنافقين.
وقيل: إن ابن عمر دخل معه عليها وابنها مصلوب، فقال لها: إن هذا الجسد ليس بشيء، وإنما الأرواح عند الله فاتقي الله واصبري.
فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟
وقيل: إنها غسلته وحنطته وكفنته وطيبته وصلت عليه، ثم دفنته، ثم ماتت بعده بأيام في آخر جمادى الآخرة، ثم أن الزبير لما كبرت طلقها.
وقيل: بل قال له عبد الله ابنه: إن مثلي لا توطأ أمه، فطلقها الزبير.
وقيل: بل اختصمت هي والزبير، فجاء عبد الله ليصلح بينهما.
فقال الزبير: إن دخلت فهي طالق، فدخلت فبانت فالله أعلم.
وقد عمرت أسماء دهرا صالحا، وأضرت في آخر عمرها.
وقيل: بل كانت صحيحة البصر لم يسقط لها سن.
وأدركت قتل ولدها في هذه السنة كما ذكرنا، ثم ماتت بعده بخمسة أيام.
وقيل: بعشرة.
وقيل: بعشرين.
وقيل: بضع وعشرين يوما.
وقيل: عاشت بعده مائة يوم، وهو الأشهر، وبلغت من العمر مائة سنة ولم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل رحمها الله.
وقد روت عن النبي ﷺ عدة أحاديث طيبة مباركة رضي الله عنها ورحمها.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة - يعني: سنة ثلاث وسبعين - عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وأضافها إلى أخيه بشر بن مروان مع الكوفة، فارتحل إليها واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث.
وفيها: غزا محمد بن مروان الصائفة فهزم الروم.
وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم من ناحية أرمينية، وهو في أربعة آلاف، والروم في ستين ألفا، فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وأقام للناس الحج في هذه السنة الحجاج وهو على مكة واليمن واليمامة، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن مروان، وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة.
وعلى إمرة خراسان بكير بن وشاح، يعني: الذي كان نائبا لعبد الله بن خازم والله أعلم.
وممن توفي فيها من الأعيان
غير من تقدم ذكره مع ابن الزبير
عبد الله سعد بن جثم الأنصاري
له صحبة وشهد اليرموك، وكان كثير العبادة والغزو.
عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي
أبو محمد له صحبة ورواية توفي بالمدينة.
مالك بن مسمع بن غسان البصري
كان شديد الاجتهاد في العبادة والزهادة.
ثابت بن الضحاك الأنصاري
له صحبة ورواية توفي بالمدينة.
يقال له: أبو زيد الإشمالي، وهو من أهل البيعة تحت الشجرة.
قال يحيى بن أبي كثير: أخبرني أبو قلابة أن ثابت بن الضحاك أخبره: أنه بايع رسول الله ﷺ تحت الشجرة، وأن رسول الله ﷺ قال: «من قذف مؤمنا بكفر فهو كفيله».
زينب بنت أبي سلمى المخزومي
ربيبة النبي ﷺ، ولدتها أمها بالحبشة، ولها رواية وصحبة.
توبة بنت الصمة
وهو الذي يقال له: مجنون ليلى، كان توبة يشن الغارات على بني الحارث بن كعب، فرأى ليلى فهواها وتهتك بها وهام بها محبة وعشقا.
وقال فيها الأشعار الكثيرة القوية الرائقة، التي لم يسبق إليها ولم يلحق فيها لكثرة ما فيها من المعاني والحكم.
وقد قيل له مرة: هل كان بينك وبين ليلى ريبة قط؟
فقال: برئت من شفاعة محمد ﷺ إن كنت قط حللت سراويلي على محرم.
وقد دخلت ليلى على عبد الملك بن مروان تشكو ظلامة.
فقال لها: ماذا رأى منك توبة حتى عشقك هذا العشق كله؟
فقالت: والله يا أمير المؤمنين لم يكن بيني وبينه قط ريبة ولا خنا، وإنما العرب تعشق وتعف، وتقول الأشعار فيمن تهوى وتحب مع العفة والصيانة لأنفسها عن الدناءات.
فأزال ظلامتها وأجازها.
توفي توبة في هذه السنة.
وقيل: إن ليلى جاءت إلى قبره فبكت حتى ماتت والله أعلم.
(تم الجزء الثامن من كتاب البداية والنهاية ويليه الجزء التاسع وأوله سنة أربع وسبعين من الهجرة وما فيها من الحوادث. نسأل الله التوفيق والإعانة.)
هامش
- ↑ [الأنبياء: 111]
- ↑ [الكوثر:1]
- ↑ [القدر: 1-3]
- ↑ [الإسراء: 33]
- ↑ [النساء: 58]
- ↑ [التغابن: 15]
- ↑ [الطور: 35]
- ↑ [النور: 12]
- ↑ [الفتح: 18]
- ↑ [آل عمران: 187]
- ↑ [النساء: 128]
- ↑ [الأنعام: 52]
- ↑ [العنكبوت: 8]
- ↑ [الحجرات: 9]
- ↑ [العلق: 6- 7]
- ↑ [الأحقاف: 17]
- ↑ [الإسراء: 33]
- ↑ [الكهف: 51]
- ↑ [البقرة: 134]
- ↑ [النساء: 22]
- ↑ [النساء: 48]
- ↑ [يونس: 41]
- ↑ [الأحزاب: 23]
- ↑ [آل عمران: 178-179]
- ↑ [يونس: 71]
- ↑ [الأعراف: 196]
- ↑ [غافر: 27]
- ↑ [بالهامش لا يتصور أن يكون يزيد قد تمثل بهذه الأبيات هذه الأيام، فإن المؤرخين قاطبة ذكروا أنه تمثل بها لما جاءه خبر وقعة الحرة بالمدينة الشريفة وقتل الأنصار ووقعة الحرة بعد هذه كما سنراه، وأيضا فإن قضية الحسين رضي الله عنه لم يكن حاضرها أحد من الخزرج يعلم ذلك من الألمام بالأخبار وأيام الناس والله أعلم]
- ↑ [الزمر: 42]
- ↑ [آل عمران: 145]
- ↑ [الحديد: 22]
- ↑ [الشورى: 30]
- ↑ [آل عمران: 26]
- ↑ [البقرة: 247]
- ↑ [الأحزاب: 33]
- ↑ [التغابن: 15]
- ↑ [الحجرات: 6]
- ↑ [الزخرف: 86]
- ↑ [الإسراء: 60]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [الأنفال: 30]
- ↑ [السجدة:22]
- ↑ [الأنعام: 129]
- ↑ [القصص: 4]
- ↑ [القصص: 5]
- ↑ [سبأ: 49]
- ↑ [الأنعام: 121]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [الأنعام: 112]
- ↑ [الأنعام: 129]
- ↑ [النصر: 1]
- ↑ [النبأ: 14]
- ↑ [ق: 19]
- ↑ [الفجر: 27-30]
- ↑ [النساء: 93]
- ↑ [الحج:25]