► | {{{6}}}☰ |
الله عوني وبه توفيقي
أحمد الله، الذي أرشدنا إلى الإسلام، وهدانا بفضلة سبل السلام، وجنبنا عبادة الأوثان والأصنام، وسائر مذاهب الكفرة اللئام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترغم أنف الكافر أشد إرغام، وتوجب لقائلها النعيم في دار المقام. وأصلي على رسوله محمد، الداعي إلى أفضل دين بأشرف كلام، والباقي معجزة على ممر السنين وتعاقب الأيام، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإني رأيت كتابا صنفه بعض النصارى، يطعن به في دين الإسلام، ويقدح به قى نبوة محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - فرأيت مناقضته إلى الله ورسوله قربانا، ورجوت بها مغفرة من الله ورضوانا، حذرا من أن يستخف ذلك بعض ضعفاء المسلمين، فيورثه شكا في الدين. ولقد رأيت بعض ذلك عيانا وأنسب عليه دليلًا وبرهانا.
فأوردت مناقضته، حرفا من كلامه فحرفا، وأبنت عن مقاصد السؤال والجواب على وجه لا يخفى، مع تلخيص العبارة، خشية الضجر والإملال، وتخليص المعاني ونصوصيتها خيفة الإخلال والاختلال.
وقدمت على ذلك مقدمات كلية، تتضمن مباحث جلية، عليها ينبني معظم الجواب، وبها ظهور الصواب. وعلى الله توكلي، وإليه المآب. وتلك المقدمات ثلاث:
الأولى: إن هذا النصراني رأيته يعتمد في طعنه على الإسلام على التوراة والأناجيل التي بيد اليهود والنصارى، وعلى كتب الأنبياء الأوانل كنبوءة إشعياء وأرمياء ودانيال، والأنبياء الاثني عشر، ومزامير داود، ونحوها.
واعلم أن هذه الكتب مما لا تقوم الحجة علينا بها. لأنها عندنا محرفة مبدلة، نعم، التبديل لم يأت على جميعها، بل دخلها في الجملة، فلهذا قال نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام -: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ونحن له مسلمون".
فمنع من تصديقهم خشية أن يكون ما حدثونا به مما حرف جزما، ومن تكذيبهم خشية أن يكون مما لم يحرف، عدلا منه ﷺ. ولو لم يكن للعاقل دليل على صدقه ﷺ إلا هذه لكفاه، كما قررته في التعليق على بعض كتب الأوائل، وفي آخر هذا التعليق.
ولهذا قال علماء الحديث من المسلمين: إن الراوي إذا عرف منه الكذب يرد حديثه كله، ويصير غير موثوق به. وكذلك من اختلط ولم يتميز ما رواه قبل اختلاطه مما رواه بعده، يترك الكل احتياطا وحزما في الدين.
وأيضا: كما أنهم لا يعدون كتابنا حجة عليهم، كذلك نحن لا نعد كتبهم حجة علينا وأولى، لأن كتبهم تقادم عهدها، وتعاورتها اللغات لفظا وكتابة، بخلاف كتابنا. أما التهمة فهي متجهة إلينا منهم، وإليهم منا.
وأيضا: فإن النصراني في استدلاله بما لا تقوم به الحجة علينا: إما أن يكون مع العلم بذلك، فهي مغالطة ومخاتلة وتغابي إن قصد إقامة الحجة علينا. وتحصيل الحاصل إن قصد إقامة الحجة للنصارى، إذ هم في ثبوتهم على دينهم غنيون عن ذلك، حتى لو أراد منهم خلافه لما أطاعوه. أو مع عدم العلم فهو جهالة بمذهب الخصم. والعلم بما يلزم الخصم وما لا يلزمه ينبغي أن يكون مقدما على مناظرته.
وفائدة هذه المقدمة: سد باب الاستدلال علينا بكتب الأوائل مطلقا.
المقدمة الثانية: إنه من المعلوم عندنا وعندهم: أن الله سبحانه إنما خلق العباد ليعبدوه، كما صرح في القرآن الكريم حيث يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ولكن لما كانت عبادة المعبود تستدعي تقدم معرفته، خلق لهم العقول ليعرفوه بها ويوطدوا بها قواعد العبادة ومقدماتها.
فظهر من هذا التقرير ما قاله المحققون من أهل العلم بالأصول، وهو أن العقل نائب الشرع يقرر له القواعد من إثبات الصانع وتوحيده، الذي وافقنا عليه النصارى لفظا لا معنى، وحدوث العالم وجواز إرسال الرسل والدليل على صدقهم، وهو المعجز الذي به تثبت النبوة. فإذا ثبتت ثبت الشرع ووجب قبول ما جاء به. ثم إن كان مما يدركه العقل فلله الحمد. ولو كان مما لا يدركه - وهو المسمى في عرف فقهاء الإسلام: تعبدًا - وجب تسليمه، وتقليد الشارع فيه، وبثبوت الشرع ينعزل العقل كما ينعزل بقدوم السلطان من سفره من كان استنابه موضعه في بلده.
وسر هذه المقدمة: ما قررته في "القواعد الصغرى"، وهو أن العبادات والتكاليف مستلزمة للمشقة على أهل التكليف. لكن المشقة تارة تكون عملية كما في الصلاة والصيام والحج والجهاد، وتارة علمية كما في الإيمان بالغيب. وهو كلما غاب عن العيان، كالله سبحانه وملائكته وأحكام الآخرة. وهذا أشق التكليفين. ولهذا بدأ الله - سبحانه وتعالى - به في وصف المؤمنين حيث قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} فالأول تكليف علمي، والثاني عملي. وكذلك قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ولذلك المسيح وغيره من الأنبياء إنما بدأوا بدعاء الناس إلى الإيمان بهم، وأنهم من عَند الله.
ووجه المشقة في الإيمان بالغيب: هو أن النفس الناطقة مطبوعة مفطورة على حب إدراك الأمور بحقائقها، وإذا رأت ما لا تدرك حقيقته تألمت واضطربت، كما يشاهد كل عاقل من غيره، ويجده من نفسه، حتى في أيسر الأشياء. ولهذا يحدث للنفس العجب، وهو عرض يلحقها لخفاء سبب الأمر الحادث، فإذا ظهر لها سبب الأمر بطل العجب واستراحت.
فحاصل الأمر: أن الإنسان مركب من هيكل ونفس، وأن التكليف واقع على جزئية كليهما، على هيكله عملًا، وعلى نفسه اعتقادًا وعلما. هذا كله مع اتفاق العقلاء على أن الشرع لم يأت بما ينافي العقل ولا يجوز فيه، بل بما قد لا يدركه العقل مع إمكانه في نفسه. ولهذا قال أرسطو - على ما حكى عنه هذا النصراني في كتابه هذا الذي نحن بصدد مناقضته في بيان ضرورة النبوة للخلق - قال: "إن الحال في عقولنا عند النظر إلى المبادئ الأولى كحال الخفاش عند النظر إلى الشمس، أعني أن الشمس في غاية الظهور في نفسها، وهي خفية عند الخفاش لضعف إبصاره".
وحكى أيضا هذا النصراني عن ابن رشد المالكي من المسلمين أنه قال: "لم يقل أحد في العلوم الإلهية قولا يعتد به ولم يعصم أحد من الخطأ فيها إلا من عصمه الله بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء".
وحكى عن أرسطو أيضا أنه قال في كتاب الأسباب أنه قال: "العلة الأولى أعلى من أن توصف، ولا تعجز الألسنة عن وصفها إلا لأنها فوق كل علة".
وحكى عن أبي حامد - هو الغزالي - شيئا في معنى ذلك عزاه إلى "كيمياء السعادة" وإلى "المقصد الأسنى".
قلت: والحاصل من هذا: أن إدراك الشيء قد يمتنع تارة لضعف المدرك كبصر الخفاش، وتاره لخفاء المدرك كالسهى عند بعض الناس، كما أن التأثير قد يمتنع في الأمور الفعلية والانفعالية تارة لضعف الفاعل، كالسيف الكال، وتارة لصعوبة القاتل أو ملابسة مانع له، كالجسم الصلب إذا ضرب بالسيف ونحوه.
وفائدة هذه المقدمة: أن نحيل عليها بالجواب عن كل حديث أورده هذا السائل من السنة الإسلامية مما يقصر العقل عن إدراك مضمونه أو يدركه على تعسف أو بتأويل بعيد.
وقد ساعدنا هو على ذلك بما ذكره عن الحكيم "أرسطوا" فكان هذا الخصم كالجادع مارن أنفه بكفه، والباحث عن حتفه بظلفه.
وأيضا: فإن من الطرق العامة التي لا يستغنى عنها في كل شريعة أو في غالب الشرائع: أن يقال فيما اشتملتْ عليه من التعبدات العملية أو العلمية: هذا ممكن أخبر به الصادق، وكل ممكن أخبر به الصادق فهو حق واقع. فهذا المشار إليه حق واقع.
والنزاع في هذا الدليل يقع في أمرين.
أحدهما: كون الأمر المشار إليه ممكنا، وقد بينا: أن الشرع لم يأت بما ليس ممكنا.
والثاني: في كون الخبر به صادقا. وعلى أهل كل ملة بيانه بالدليل.
ونحن سنبين صدق محمد ﷺ في أثناء هذا الكتاب حيث يناسب ذكره إن شاء الله تعالى على وجه يقبله كل منصف عاقل.
المقدمة الثالثة: إن الأحكام العقلية على وزن الأحكام الحسية. ولهذا إذا أشكل على العقلاء أمر عقلي، ضربوا له مثالا حسيا ليتصور لهم. وصور ذلك كثيرة جدًا في سائر العلوم، يعرف ذلك من له أدنى نظر في العلم.
وإذا عرفت ذلك، فاعلم أن الأدلة الشرعية لها مراتب مختلفة بحسب اختلاف مدلولاتها.
فيثبت ببعضها فروع الشريعة دون أصولها، كالخبر المستفيض، وخبر الواحد، والقياس الظني، والاستحسان، والاستصحاب، وقول الصحابي ونحوه. ولا تثبت أصول الشريعة إلا بقاطع كالبديهيات والنظريات والمتواترات ونحوها.
ووزانه من المحسوسات البناء، فإنه يحتاط لأسه بتخير الآلة الجيدة القوية الثابتة ما لا يحتاط لحشوه وأعلاه، لأن ثبوت أعلاه بأسِّه.
وفائدة هذه المقدمة: أن يستند إليها في أن كل ما أورده علينا من الأخبار التي حقها أن لا تثبت بمثلها الأصول لا ترد علينا ولا تلزمنا. لأن تلك أخبار توجب العمل دون العلم، لكونها مظنونة الثبوت، وإن كانت في البخاري ومسلم، لاحتمال وقوع علة قادحة في طريقها، فلا تقوى على إثبات أصل، ولا على أن يقدح بها في أصل، خصوصا وقد دخلها تصرف الرواة في الرواية بالمعنى. وقد أورث ذلك إشكالا عظيما في أحكام الفروع واختلافا جما بين أهل العلم.
فنقول في مثل تلك الأحاديث: هذه لا نثبت بها أصلا ولا ترد علينا نقصا. وإنما المعتمد على ما يثبت به ذلك.
وإذا فهمت مقاصد هذه المقدمات، تيسر عليك الجواب، فإن ما أورده هذا الخصم، إن كان من كتبهم كالتوراة والإنجيل ونحوها: منعنا كون ذلك حجة، بما قررناه في المقدمة الأولى. ثم قد نسلمه على جهة التنزل، ونجيب عنه بالتزام أو فساد بوجه ما. وإن كان من كتبنا، فإن كان مما يقصر العقل عن فهمه أجبنا عنه بما حكى هو عن "أرسطو" كما تقرر في المقدمة الثانية، وإن كان مما يصل العقل إلى فهمه أجبنا عنه إما بأنه مما لا يثبت بمثله أصل، بناء على ما قرر في المقدمة الثالثة، أو بتوجهه - وهو يسير - بطريق من طرق الأجوبة الجدلية.
والذكي الفطن إذا اقتصر في جواب كتاب هذا النصراني كله على هذه المقدمات كفاه ذلك. مع أني لا أقتصر عليه، بل سأجيب عن كل منه بما أمكن مفصلا إن شاء الله تعالى. وما كان في عبارته من تطويل لخصته مع الإتيان بكمال المعنى، وأعرضت عن مكافأته على سوء أدبه على النبي ﷺ بمثله، لا إكراما له، بل هوانا بقدره ومحله.
(الأنبياء الكذبة)
فأقول: أول ما افتتح به كتابه أن قال: "احذروا من الأنبياء الكذابين الذين يأتونكم في لباس الضأن وهم في الباطن ذئاب مغيرة، من ثمراتهم تعرفونهم".
قال: "وهذه الآية قول الله عز وجل في الإنجيل الطاهر" وذكر عليها كلاما لا ضرورة لنا إلى ذكره فيما نحن بصدده.
قلت: هذا من كلام المسيح ابن مريم، ذكر في الفصل الخامس من إنجيل متى. وقول هذا المصنف: "هذه الآية قول الله تعالى في الإنجيل الطاهر" هو بناء على معتقده أن المسيح هو الله. ويكفيه ذلك من شناعة وبشاعة على ما قررته بحسب الإمكان في التعليق على الأناجيل الأربعة.
قلت: وغرضه بتصدير كتابه بهذه الآية: القدح في محمد عليه السلام ونسبته إلى الكذب. ولا حجة له فيها على ذلك، فإنها كلام صحيح، ونحن نقول به. ومحمد ﷺ قد حذرنا من الأنبياء الكذابين أيضا، والمسيح عليه السلام لم ينص على أحد بعينه أنه كاذب، بل حذر ممن صفته الكذب ممن يدعي النبوة.
وقد كان في بني إسرائيل متنبئون كذبة كثير. كما قد صرح به في نبوة أرمياء في الأصحاح الرابع والخامس والسادس منها. كما ذكر هذا النصراني بعينه بعد ذكر هذه الآية بأسطر أن نحو أربعمائة من بني إسرائيل ادعوا النبوة في زمن "آخآب" ملك بني إسرائيل، وكانوا كذبة وأنهم وعدوه بالنصر على بعض أعدائه فاغتر بهم فخذل وقتل. فالمسيح إنما حذر من مثل هؤلاء، لا من مثل محمد، الذي جاء بأتم أخلاق وآداب ودين لا يتمارى في صدقه بعده إلا جاهل أو مجنون وبمعجزات جمة، بأيسرها تثبت النبوة، على ما سيأتي. بل المسيح بشر بمحمد عليه السلام كما سيأتي في موضعه من هذا الكتاب، وكما قررته في فصل البارقليط في التعليق على بشارة يوحنا بن زيدي، والله أعلم.
ثم قال: "وهذا يعني تعريف الأنبياء الكذابين، وتعرفهم والتحذير منهم ضروري، بين الضرورة، نافع، ظاهر المنفعة، والعمل به واضح النجح بين الصلاح، لأنه لا رتبة أعلى ولا خطة أرفع في بني آدم من النبوة. فكم ملتمس رامها بالحيل، فأظهر من دقائق الحيل وخفي المكائد ما اغتر به كثير من ضعفاء العقول، فألقى الشيطان الضلال في الناس، وأدخل بينهم الفساد بواسطة هذه الصنف من الأنبياء الكذابين، كما جاء في قصة "آخآب" ملك إسرائيل وذكر قصته مع أربع المائة الذين تنبئوا في زمانه، وقد سبق ذكرهم.
قلت: هذا كلام صحيح لا غبار عليه، ونحن نقول به. لكن غرض هذا الخصم، لا يتم منه بحسب ما هو بصدده إلا ببيان أن محمدًا عليه من هذا الصنف من الأنبياء الكذابين.
وذلك صعب المرام عليه، لوجهين:
أحدهما: أنا ما رأينا ولا منذ أهبط آدم إلى الآن: أن نبيا كذابا، استوسق له ناموسه كما استوسق دين الإسلام نحو ألف سنة، وهو كلما جاء في زيادة وتمكن. بل كان المتنبئ لا يلبث إلا يسيرًا حتى يفضحه الله ويهتك ستره، لأن عادة الله في خلقه: أن يحق الحق وببطل الباطل ويجعل العاقبة للمتقين.
الوجة الثاني: أن تأييد الكذاب بالمعجز وإظهار أمره وانقياد الناس له قبيح. لأن فيه التباس النبي بالمتنبئ. والقبيح لا يجوز على الله فعله خصوصا على رأي هذا الخصم في إنكار القدر. فإن هذا من جملة أدلة القدرية على نفيه، وسيأتي ذلك في أثناء هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، وسنذكر من معجزات محمد عليه السلام ما يخزى له كل معاند.
ثم قال: "فينبغي للعاقل أن يعرف أولا: ما النبوة وما فائدتها وما النبي وما شروطه وما مراد الله تعالى يارساله لعبيده. لأنه لا بد من تصور النبي قبل التصديق به، ليكون الإرسال قادرًا على التفرقة بين كذب النبوة وصدقها وعلى الفصل بين الصادق والكاذب من الأنبياء".
قلت: هذا كلام صحيح لا اعتراض لنا ولا لغيرنا عليه.
ثم قال: "ولا بد عند الخوض في هذا من معرفة الكلام في أربعة أمور: حقيقة النبوة، ووجودها، ووقوعها، وضرورة الخلق إليها، ومنفعتها".
قلت: هذا أيضا كلام صحيح مسلم.
ثم قال: "أما حقيقة النبوة. فإنها وحي صادق نافع للناس إلهي، يكشف عن الغيب الذي لا يمكن انكشافه بحسب مجرى الطبيعة" وذكر ما في هذه القيود من الاحترازات، وهي ظاهرة.
قلت: وهذا تعريف صحيح، لا مطعن عليه.
ثم قال: وأما وقوع النبوة فغير منازع فيه، عند أهل الملل الثلاث. وبيانه لمن نازع فيه بحجتين:
إحداهما: أن عناية الباري سبحانه بخلقه قد تثبت في اليسير من مصالح المعاش، كوضع الحواس والأعضاء متهيئة لما وضعت له ونحو ذلك من نعم الله التي لا تحصى.
فالعناية بهم في أمر المعاد بإرسال من يهديهم إلى طريق السعادة الأبدية والحياة الدائمة ويكف شر بعض العالم عن بعض لينتظم أمرهم أولى.
الثانية: ما دل عليه التواتر الكامل الشروط من أن جماعة من الرجال، ادعوا أنهم رسل الله، وظهرت المعجزات على أيديهم، كمعجزات موسى وعيسى، ورد الشمس ليوشع، ثم ذهبوا على أوضح السنن من الطهارة والفضيلة والزهد في الدنيا ودعوا الناس إلى مثل ذلك. فإن هذا يدل على صدقهم في دعواهم، وذلك يفيد وقوع النبوة قطعا. هذا حاصل ما ذكره من الحجتين، لخصته أنا، وهو في عبارته طويل جدًا.
قلت: وهاتان الحجتان مسلمتان. لكن الأولى مبنية على رعاية الأصلح ونحن لا نقول به وجوبا على الله، بل جوازًا على جهة التفضل، خلافا للمعتزلة.
وبهاتين الحجتين بعينهما تثبت نبوة محمد عليه السلام.
أما الأولى: فلأنه بعث على فترة من الرسل طويلة، وقد أكل العالم بعضه بعضا خصوصا العرب في جاهليتها وغاراتها. وكانوا يعبدون الأوثان، والنصارى: الصلبان، والفرس: النيران؛ وغير ذلك من المنكرات. فأزال الله به ذلك وأبدل الناس به خير ما ينبغي. ولا نعلم زمنا قط كان أحوج إلى النبوة من زمن محمد عليه السلام.
وأما الثانية: فلأنه ثبت بالتواتر الكامل الشروط أنه ﷺ ادعى النبوة وظهرت على يديه معجزات خارقة - سيأتي بيانها وإثباتها على من أنكرها في موضعه إن شاء الله تعالى – ثم توفي ﷺ على أوضح سنن وأطهر طريقة وأزكاها وأزهدها في الدنيا، ودعى الناس إلى ذلك. والخصم ينازع من هذه الجملة في ظهور المعجز على يده وفي طهارته. وسيأتي إثباتهما.
ومن معجزاته: انشقاق القمر له، ورد الشمس لابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكان ردها معجزة للنبي عليه السلام وكرامة لعلي رضي الله عنه. وقد صحح الحديث بذلك الطحاوي والقاضي عياض، وحسبك بهما إمامين في العلم. ولا التفات مع ذلك إلى من جعله موضوعا، إذ الإثبات مقدم. وردها ليوشع إنما ثبت عندنا بخبر من أخبار الآحاد، إذ لا وثوق لا بما يخبر به أهل الكتاب.
فحينئذ الذي ثبت ليوشع النبي قد ثبت مثله لواحد من أصحاب محمد عليه السلام.
قال: "وأما ضرورة الخلق إليها فلأنه لا يمكن التوصل إلى معرفة كثير من الإلهية بمجرد العقل ضرورة ولا نظرًا بدون الاطلاع الإلهي على ذلك، تكميلًا لقصور العقل الإنساني - إذ الموجودات بالنسبة إليه إما معلوم ضرورة، كالعلم بأن الجزء أصغر من الكل، أو نظرا كالعلم بوجود الإله، واستحالة الخلاء، أو ما يعجز عن إدراكه، كالعلم بعدد أنواع الحيوانات والنباتات فضلًا عن عدد أشخاصها، وكالعلم بفصول كثر الأنواع وبكثير من الطبائع والحقائق على الجملة، فإنا لا نشك في أن المجهول عندنا غالب على المعلوم منها. فما ظنك بالأمور الإلهية.
ثم ذكر كلام أرسطو وابن رشد وأبي حامد الذي قدمنا ذكره في المقدمة الثانية.
قلت: هذا كلام صحيح لا نزاع فيه. لكن قوله "كالعلم باستحالة الخلاء" رأي فلسفي، والمتكلمون يخالفونهم فيه، وشهد على هذا وإن لم يتعلق بما نحن بصدده.
(فوائد النبوات)
وقد ذكر المتكلمون فوائد النبوات:
منها: تعريف أوضاع العبادات ومقاديرها ومواقيتها وكيفيتها ومقوماتها من شرط وركن ونحو ذلك.
ومنها: إقامة الحجة على الخلق، إذ بدونها لا تقوم حجة الله علىِ خلقه، كما صرح به في غير موضع من القرآن، كقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية، وغيرها.
ومنها: تعريف الأحكام الفلكية كتفاصيل علم الهيئة وأدوار الفلك وحركات الكواكب. فإن ذلك مما لا تستقل به عقول البشر ولا تفي أعمارهم بإدراكه بالتجربة لو اشتغلت به عقولهم.
ومنها: تعريف الأحكام الطبية كقوى الأدوية والأغذية وخواصها ومنافعها ومضارها، إذ الأعمار لا تفي بمعرفة ذلك بالتجربة، كما قال أبقراط "العمر قصير، والصناعة طويلة، والتجربة خطر، والقضاء عسير".
قلت: ومنها ما أجرى الله سبحانه على أيديهم من البركات من جلب المصالح ودرء المفاسد والدعاء لهم، كإبراء المرضى، ودعاء موسى لقومه برفع العذاب عنهم مرارًا، ورد النبي ﷺ عين قتادة بن النعمان عليه، وأشباه ذلك.
قال: وأما منفعة النبوة: فكما قال "أبو حامد" في رسالة التوفيق: في ثلاثة أشياء.
أحدها: إصلاح الأخلاق النفسية كالعدل والعفة والصدق والنجدة والحلم والصبر والرحمة في مواضعها، والتزام حسنها، واجتناب سيئها كأضداد ذلك، فإنه لا غناء للعاقل في معاشه عن ذلك.
الثاني: حفظ حقوق الناس من دم ومال وعرض ونحوه، ورفع المظالم من بينهم، وإلا هلك العالم واختل نظامه.
الثالث: نجاة النفس من الهلكة في الدار الآخرة بمعرفة الخالق سبحانه وطاعته. ولا سبيل إلى معرفة ذلك بمجرد الفلسفة بدون النبوة. ومن ادعى ذلك فدعواه مجردة عن دليل الحق. إذ الفلاسفة مختلفون في الآراء كغيرهم، فمتابعة بعضهم دون بعض ترجيح بلا مرجح.
قلت: هذا كلام صحيح، وهو من جملة فوائد النبوة وضرورة الناس إليها المذكورة في الفصل قبله. وقد جاء محمد ﷺ من ذلك بأفضل مما جاء به كل من سبقه. يعرف ذلك بالنظر الإنصافي في دين الإسلام وقوانينه الأصلية والفرعية.
(شروط النبوة)
قال: "وإذ قد فرغنا مما ذكرناه. فنبين: ما النبي وما شروطه. فنقول: النبي هو الذي يعطى الوحي من عند الله على الصفة المذكورة في حد النبوة".
قلت: هذا مسلم.
قال: "وأما شروطه فأربعة نسوقها بعد توطئة وتمهيد لذلك".
وحاصل التمهيد الذي ذكره: أن من تردد في شيء فإنه لا يقف على حقيقته إلا بالنظر. فكذلك النبي إنما يعرف صدقه من كذبه بوجود الشروط الأربعة فيه.
أولها: الصدق.
وثانيها: طهارة النفس ونزاهتها عن الفواحش، لأن النبي من عند الله، فوجب أن يكون على صفته في الصدق والطهارة والنزاهة.
قلت: هذا كلام صحيح. بل طهارة النفس وتزكيتها واجب على كل أحد، لكن منهم من يحصل له ذلك، ومنهم من يحرمه. أما الأنبياء فهو لازم فيهم لأنهم أمناء الله على خلقه ووحيه، صيانة له.
قال: "وقد تكلم في هذا الموطن - يعني موطن الطهارة، وهي الشرط الثاني - موسى بن عبيد الله الفيلسوف، في فصل النبوة في كتابة المسمى دلالة الحائرين، فقال: امتحان النبي الصادق، هو اعتبار كماله، وتعقب أفعاله، وتأمل سيرته. وأكبر علاماته: إطراح اللذات البدنية والتهاون بها، فإن ذلك من شأن أهل العلم، فضلًا عن الأنبياء. وخاصة الحاسة التي هي عار علينا، كما ذكر "أرسطو" ولا سيما قذارة النكاح منها. ولذلك فضح الله بها كل مدع، ليتبين الحق، ولا يضلوا، ولا يغلطوا.
ثم ذكر قصة رجلين ادعيا النبوة، وانهمكا في حساسية لذة الجماع حتى زنيا فافتضحا وأحرقهما ملك بابل. كما ذكر أرمياء النبي أو قال برميا النبي في الباب التاسع والعشرين.
قلت: شرع العلج يدس الدسائس ويقدم المقدمات الردية ليستنتج منها النتائج الخبيئة. ومثلي لا يغالط في الحساب.
فأقول: أما قول الفيلسوف: "امتحان النبي الصادق باعتبار كماله وتعقب أفعاله وتأمل سيرته" فهذا صحيح. ومن تأمل من نبينا محمد عليه السلام تأمل منصف، لم يجد مقالا، فإنه كان على الغاية في العدل والزهد والورع والتواضع. يعرف ذلك بالنظر في سيرته المنقولة عنه، ولسنا بصدد بيان ذلك مفصلا، إذ فيه كتب مصنفة من جيدها كتاب رياض الصالحين للنواوي.
وأما إطراحه اللذات البدنية، سوى النكاح - فكان في الغاية منه، فإنه لم ينقل عنه أنه أكل مرققا، ولا على أسكرجة، ولا نام على فراش وطيء. وكان يقول: "ما لي وللدنيا. إنما أنا والدنيا كراكب نام تحت شجرة ثم قام وتركها".
وأما قوله: "الحاسة التي هي عار علينا، كما ذكر "أرسطو" ولا سيما قذارة النكاح منها".
فنقول أولًا لهذا المصنف النصراني: أنت قد قدمت في فوائد النبوة: أن مقاصدها لا تحصل بمجرد الفلسفة. فكيف جعلت قول الفلاسفة كموسى بن عبيد الله وأرسطو حجة في تقبيح حاسة النكاح؟ هذا تهافت لا يسمع.
ثم نقول لهذا الفيلسوف: حاسة النكاح عار، على من؟ عليك أو على الأنبياء ومن تابعهم؟
إن قلت: عليك؟ قلنا: عندك أو عندهم؟ إن قلت: عندك. فأنت لا عند لك، بل أنت من أعداء أهل الشرائع. ومن أول عداوتك لهم وطعنك عليهم تقبيحك عليهم شيئا أجمعوا على جوازه منذ أهبط آدم إلى الآن. وأنت قد اعترفت بصحة نبوتهم وعقولهم. فأحد الأمرين لازم: إما فساد عقلك في إنكارك عليهم التشاغل بالنكاح، أو فساد عقلك في اعترافك بصحة نبوتهم وكمال عقولهم.
ويقال لأرسطو: ألست القائل آنفا: إن حال عقولنا عند النظر إلى المبادئ كحالة الخفاش عند النظر إلى الشمس. فمن أين لك أن عقلك لم يقصر عن إدراك حكمة الباري سبحانه في إباحة النكاح للأنبياء عليهم السلام؟ وهل هذا إلا تهافت؟
وإن قلت: عند الأنبياء. فهذا كذب عليهم، فإن الأنبياء أجمعوا على حسنه، وحكمة الله فيه، من تكثير العِبَاد والعُبَّاد وعمارة الأرض ودوام العالم وبقاء النوع الإنساني الذي أجمعت الحكماء على أنه خلاصة الوجود وتنوع أنواعه. وإن قلت على الأنبياء - عليهم السلام - فأنت قد اعترفت بكمالهم، والإقدام على العار ينافي الكمال. فهذا تهافت منك بكل حال.
وأما ما ذكر من قذارة النكاح، فنقول: لا نسلم أن فيه قذارة بل فيه مصالح.
منها: سرور النفس به وانشراحها للعبادة، ولعل بدونه لا تنشرح لذلك.
ومنها: تحصين الفرج عن الزنا المحرم بإجماع أهل الملل والعقول.
ومنها: تحليل فضلات البدن المحتقنة فيه، وإنعاش الحار الغريزي به، فيخف بذلك البدن وينشط. ولهذا بعض الناس يمرض بتركه وتكثر في بدنه الجراحات والدماميل ونحوها.
ومنها: أن يحسن الخلق ويبسط بشرة الوجه.
وقد قص جالينوس على أن سبب سوء خلق الخصيان وتعبيس وجوههم وانتهارهم لمن كلمهم: ترك الجماع، لاحتباس الماء وتعفنه في أبدانهم.
ولئن سلمنا أن فيه قذارة فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن قذارته شرعية أو طبيعية؟
إن قلت: شرعية. فهو ممنوع. فإن الذي يصلح أن يضاف إليه الاستقذار في الجماع هو: المنيُّ، والمذي، ورطوبة فرج المرأة. وهذه الأشياء طاهرة عند كثير من أهل الشرع. ومن قال بنجاستهما منهم عفى عن يسيرها دفعا للحرج والمشقة. فأما مخرج البول والغائط فلا وطء فيه. والحيض يحرم الوطء في زمنه. فأين القذارة إذن في الجماع؟
وإن قلت: طبيعية. لم يلزم من ذلك وجوب اجتنابها عقلًا ولا شرعا، لأن هذه الأشياء كالبصاق وبلغم المعدة والرأس والمخاط وعرق الحمى، بل مطلق العرق. فإن هذه كلها فضلات تحللها الحرارة من البدن، وهي تورثه خفة ونشاطا وصحة. ومعتمد العلاج الطبي بتنقية البدن من المواد التي ليس من شأنها أن تكون فيه.
الثاني: سلمنا أن فيه قذارة بكل حال. لكن مفسدة تلك القذارة مغمورة بما فيه من المصالح العظيمة الدنيوية والأخروية. والعقول الصحيحة لا ترجح إعدام مفسدة واحدة حقيقة خصوصا وقد باشرها الأنبياء والصديقون أجمعون، إلا من شذ منهم على وجود مصالح كثيرة جمة النفع.
ثم أين قذارة الجماع من قذارة الغائط الذي يتعبد مخاييس النصارى ببقائه على أبدانهم، حتى تغالي فيه النصارى، فجعلوا يتهادونه ويتبركون ويستشفون به من الأمراض، بناء منهم على فهمهم الفاسد لكلام المسيح في الفصل الثامن والعشرين من إنجيل متى حيث يقول: "ليس النجس ما دخل الفم ثم خرج مستحيلًا من المخرج. إنما النجس ما خرج من الفم من الكلام السيء، لأنه يدل على نجاسة القلب" هذا معنى كلامه.
ومن أنكر من النصارى أنهم يتعبدون ببقاء العذرة على أبدانهم فهو مستخف منكر لما يعلم - كما ينكر بعض فقهاء المسلمين تجويز الوطء في الدبر - وهو منصوص في كتبهم وعن أئمتهم.
وأما قوله: "ولذلك فضح الله بهما كل مدع"
فنقول في جوابه: لا نسلم أن الله فضح المدعين بحاسة النكاح، وإنما فضحهم بدعواهم الكاذبة. ولو كانت حاسة النكاح تقتضى الفضيحة لافتضح بها الأنبياء كلهم، بل جميع الخلق، كآدم ونوح وإبراهيم، وخصوصا إسرائيل وداود وسليمان فإنهم كانوا كثيري النساء والسراري. وكثرة تشاغل إبراهيم وبنيه بالجماع هو الذي أوجب كثرة نسلهم وانتشار الشعوب منهم، لأن الجماع سبب النسل، وكثرة المسبب يدل على كثرة السبب.
وبالجملة. فمن جعل حاسة النكاح عارا. فقد ألحق العار بسائر الأنبياء والصديقين والصالحين وعباد الله أجمعين. وإن عارا بتلبس به هؤلاء كلهم ليس بعار:
وعيروني بذلي في محبتها ** والذي عيروني تم لي الشرف
وإذ لولا هذه الحاسة لما وجد الأنبياء وشرائعهم، وإنما هي عار على معتقدها عارا، إذ لولا هذا العار لما صار إلى النار.
وأما ما ذكر من قصة الرجلين الذين أحرقهما ملك بابل، فلم أجده في الباب المذكور من كتاب أرمياء النبي، فإن كان المشار إليه برميا النبي، وأنه غير أرمياء، وإلا فلا أعلم صحة هذا النقل. على أنه بتقدير الصحة إنما افتضح هذان الرجلان بدعواهما الكاذبة وزناهما، لا بتعاطي شهوة النكاح.
على أني أحسب أن النقل اشتبه عليه، وأن المراد بالرجلين هاروت وماروت. ولهما قصة عجيبة وردت بها السنة وذكرها أهل السير. منهم: "ويثمة بن موسى بن الفرات" في "قصص الأنبياء". وكان افتضاحهما بتقدير الله، وسببه طعن الملائكة على بني آدم واستقلالهم أعمالهم وتعييرهم بخطاياهم وعصيانهم. فلما ابتلي الملائكة بما ابتلي به بنو آدم ساعة من نهار، استقالوا فأقيلوا، إلا هاروت وماروت زنيا فجرى لهما ما جرى، وقد ذكرت بعض قصتهما في الفوائد.
قلت: والذي أوجب لهذا النصراني تقديم هذا الكلام وتقبيح حاسة النكاح هو كونه رأى المسيح لا داعي له إليها، ورأى محمدًا ﷺ شديد الداعي إلى ذلك، كما نقل عنه حيث يقول: "حبب إليَّ من الدنيا ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عينى في الصلاة"، وأنه تزوج كثيرًا وتسرى. فأراد العلج أن يجعل هذا مطعنا عليه.
ولقد تاه عن الصواب. فإن نكاح النساء هو عين الطهارة، لما فيه من تحصين الدين والإعانة على تقوى رب العالمين. ولهذا كان محمد ﷺ إذا رأى امرأة أعجبته دخل على بعض نسائه يقضي حاجته منها ثم خرج. وفعل ذلك يوما ثم خرج على أصحابه فقال: "إن المرأة إذا أقبلت أقبل معها شيطان يزينها، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن معها مثل الذي معها". وقال: "إذا كانت لأحدكم إلى امرأته حاجة فليأتها وإن كانت على التنور". كل ذلك محافظة على حفظ الدين لئلا يغلب الإنسان عليه بداعي الشيطان والهوى.
كما حكي في التوراة: أن "يهوذا بن يعقوب" تعرضت له كنته - زوجة ابنه - في الطريق في صورة زانية، فواقعها على أن يعطيها جديا ورهنها عليه عمامته وقضيبا كان بيده. وأن روبيل وطئ سرية أبيه يعقوب ونجس فراشه. ونحن لا نقول بصحة هذا؛ ولكنه حجة على النصارى واليهود.
وتحقيق ذلك وتلخيصه: أن شهوة النكاح في الإنسان طبيعية كشهوة الأكل والشرب وحب الغلبة والرئاسة، بل هي أشد الشهوات. ولذلك كان أكثر افتتان العالم بها. فقضاؤها وأمن غائلتها بالطريق الحلال المصطلح عليه في النواميس الإلهية أولى في العقل من التعرض وتركها لمعصية الرحمن وطاعة الشيطان.
وقول محمد عليه السلام: "حبب إلى من دنياكم النساء"، ليس ذلك لغلبة شهوته عقله. كيف ذلك وسيرته سيرته لمن تأملها، وثباته ثباته. بل إنما مقصود ذلك: أن يتفرغ خاطره التفرغ الكلي لأداء الرسالة والقيام بأعبائها - كما يتفرغ الجائع بالأكل لأداء العبادات.
وقد ورد في السنة النبوية الصحيحة عن يوشع بن نون أنه لما توجه إلى بعض مغازيه - أحسبها: غزاة أريحا مدينة الجباربن - قال لقومه: "لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة يريد أن يبني بها ولما يبن، ولا آخر قد بنى بيوتا ولم يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها"، الحديث رواه أحمد. وأخرجاه في الصحيحين.
كل ذلك مراعاة لاجتماع الخواطر في طاعة الله وحذرا من تفرق الهمم فيها، ونظائر هذا في شريعتنا مطلوب، كالنهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، وكذلك الشبق، وكل ما يلهي.
وبالجملة: فكل عبادة الله سبحانه ينبغي للإنسان أن لا يدخل فيها، حتى يحسم مواد اشتغال قلبه عنها ما أمكن.
ومن هذا أو قريبا منه قوله ﷺ: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" لأن القضاء عبادة، والغضب يشغل عنه. وكذلك كل ما في معنى الغضب من مرض أو حر أو برد أو شبق ونحو ذلك. فلهذا كان عليه السلام يحب الطيب لا ليلتذ به في نفسه، بل إكراما للملائكة الذين معه خصوصا جبريل صاحب الوحي. ولهذا كان يبغض الثوم والبصل وكل ذي ريح كريهة، وقال لأصحابه: "إني أناجي من لا تناجون" و"إن الملاثكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".
وأما المسيح فلعله في ترك النكاح كان عنينا، [1] أو لكونه كان لا من ذكر، أو لكونه ملكا ظهر في صورة آدمي فغلبت عليه صفة الملائكة، كما قال الله سبحانه {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} الآية، أو لكونه كان هو الله أو ابنه على رأي النصارى الساقط - تعالى الله عما يقولون.
ونحن نقول: إن المسيح لو تأسى بسائر الأنبياء في النكاح والنسل وتكثير العباد والعُبَّاد لكان ذلك أكمل له. فالذي يحتج علينا في حاسة النكاح بترك المسيح له، نحتج عليه في فضيلته بفعل جميع الأنبياء له. وليس المسيح عليه السلام بخير من جميع الأنبياء، إلا على هذيان النصارى في أنه الله أو ابن الله، وذلك ممنوع عند كل عاقل، بل هو عبد الله ورسوله. وسيأتي تمام الكلام على هذا الشرط عند ذكر تفاصيله.
قال: "الشرط الثالث، يعني من شروط النبي: إظهار المعجز للناس، ليرتفع اللبس ويقع الفرق بين الصادق والكاذب".
قلت: هذا كلام صحيح.
قال: "والمعجز فعل ما ليس في قوة الإنسان أنه يفعله بحسب المجرى الطبيعي".
قلت: هذا جيد في تعريف المعجز، لكن للمتكلمين فيه عبارة أخرى أحق من هذه وهو قولهم: المعجز هو الأمر الممكن الخارق للعادة المقرون بالتحدي الخالي عن المعارض. فالأمر: جنس للمعجز وغيره. والممكن: فصل له عن الممتنع، إذ الممتنع لا يوجد. والخارق للعادة يفصله عن الأمور العادية كطلوع الشمس ووقوع المطر وركوب الفرس ونحوها. فإن المستند في دعوى النبوة إليها لا يثبت له شيء، والمقرون بالتحدي: احتراز ممن يدعي أنه معجز من قبله دليل على صدقه. وهو كما يقول إنسان اليوم: إن قلب موسى عصاه حية دليل على صدقي في دعوى النبوة. فإن ذلك لا ينفعه، لأن معجزه ليس مقارنا لتحديه. والخالي عن المعارض: احتراز من الشعبذة والنيرنجات فإنها تعارض بمثلها، فإذا ظهر على يد شخص هذا الأمر بهذه الشروط كان معجزًا، وكان الشخص نبيا.
قال: "الشرط الرابع: أن يكون الدين بشرعه موافقا للدين الطبيعي، وهو نوعان:
أحدهما: عام لجميع الأمم، لا يختص بامة دون أمة، كبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى المحسن والتجاوز عن المسيء، وبالجملة: جلب المصالح ودرء الفاسد والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل.
والثاني: يختص بأمة دون أمة، كتحريم لحم الخنزير عند غير النصارى وتحريم ذبح الحيوان عند البراهمة".
هذا حاصل ما ذكره في هذا الشرط.
قلت: هذا شرط متفق على حسنه عقلا وشرعا، وهو عام الوجود في دين الاسلام على ما ذكرنا جملة منه في شرح "الآداب الشرعية". لكن لا يلزم أن يأتي النبي به على هذه الصفة. واشتراطه فلسفة صرفة، بل لله سبحانه أن يتعبد خلقه بما شاء، سواء كان ذلك مصلحة لهم أو لا، بناء على أصلنا في أن رعاية الأصلح للخلق لا يجب على الله سبحانه - وإنما فعل ذلك حيث فعله بهم تفضلًا لا وجوبا.
(الشرط الأول الصدق)
قال: "وإذ قد فرغنا من الكلام في النبوة والنبي وشروطه التي يجب امتحانه بها بحيث إن وجدت فيه صدق وإن اختلت فيه أو بعضها كذب، فإنا وجدنا الرجل المسمى محمد بن الله بن عبد المطلب ادعى النبوة في أمة من العرب، والتمس منه الشرط الأول، وهو الصدق. فوجدنا ما جاء به يشتمل على صفتين: صادق وكاذب كما سنبين".
قلت: هذه دعوى مجردة عن حجة، فإذا ذكر الحجة قوبلت بحسب ما ينبغي.
قال: "وليس كون الصدق بحال كذب المتكلم موجبا لحسن الظن به، بل خلط الصدق مع الكذب أبلغ في الحيلة وأنفذ في المكيدة. ولهذا يقال: ما من تعليم كاذب إلا ومازجه شيء من الحق ليلتبس الباطل به وتكون الخدعة أخفى فيه والحيلة في التصديق أقوى".
قلت: هذا كلام صحيح. وهو من محاسن الكلم لا ينازع فيه عاقل، بل النزاع في أن ما أتى به محمد ﷺ يشتمل على الكذب.
قال: "فلنورد أقاويل هذا الإنسان من صدق وغيره. فقسم الصدق قوله في سورة الصمد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}".
قلت: لا شك أن هذا الكلام حق في نفسه، لكن إخبار هذا المصنف بصدق هذا الكلام عنده، إما جهل بحقيقة التوحيد، أو ستر لعوار دينه الثالوثي وتحلية لجيده العاطل منه به. وإلا فأين قوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} من قولهم: "الأب والابن والروح القدس إله واحد" ودعواهم التوحيد مع هذا التصريح: كلام في الريح، لا يعقل ولا يتحصل، كما قد حققت بطلانه في "التعليق على الإنجيل".
قال: "وقوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، وفي سورة آل عمران: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} الآية. وقوله في سورة الأنعام: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} - يعني كلمات الله، وهي التوراة والإنجيل - وفي سورة الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والذكر: هو التوراة والإنجيل. ويشهد لذلك قوله في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. فبين بهذا أن كلمات الله غير مبدلة".
قلت: هذه الآيات كلها حق وصدق. ولكن أخطأ هذا الخصم في إيرادها في مواضع:
منها: أنه حصر ما جاء به محمد من الصدق فيها، والقرآن مملوء من الحكم والأخبار التي يعلم بالضرورة صدقها. وإنما هذا رجل معاند يريد أن ينفي التهمة عن نفسه، بإيهام العدل في إيراد ما يعتقده صدقا وكذبا. وعناده يأبى عليه إلا إظهار التعصب والجور. فذكر خمس آيات، حصر الصدق فيها، وهي مما يعتمد عليها وتنفعه في عناده، وشرع في ذكر ما يعتقده كذبا، فملأ منه الكتاب. ويأبى الله إلا ظهور الحق واستعلانه وخمول الباطل وإذعانه.
ومنها: قوله: "لا مبدل لكلماته" ووهم منها في موضعين.
أحدهما: أنه ذكر الكلمات المضافة إلى الضمير، فاحتاج أن يفسره بالله تعالى، وقد كان يستغني عن ذلك بإيراد الآية في أول السورة المذكورة، وهي قوله: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} فإن الكلمات فيها مضافة إلى الله سبحانه لا إلى ضميره المحتاج إلى تفسير. وهذا لا يقدح في صحة ما احتج به، لكن بما ذكرناه أظهر، فعدوله عنه مشعر بالضعف وقصور النظر.
الموضع الثاني: أنه فسر كلمات الله بالتوراة والإنجيل ليثبت علينا بكتابنا أنها حجة لازمة لنا، وهيهات من دون المراد موانع.
والذي يدل على أنه ليس المراد بالكلمات هنا التوراة والإنجيل: هو أن هذه الآية في سورة الانعام. وسورة الأنعام كلها جدال ومناظرة لعباد الأوثان الذين ينكرون البعث. ولا تعرض فيها لأهل الكتاب إلا بطريق الاستشهاد بهم، كقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} وقوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وليس المراد بأهل الكتاب الموجودين الآن، بل الأوائل المعاصرين لزمن النبوة، أو بطريق عموم خطاب غيرهم لهم لا بالقصد. وإذا عرف هذا فالله سبحانه يقول قبل هذه الآية: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}. والخطاب لكفار العرب، والكتاب الذي أنزل إليهم هو القرآن، وهو المراد بالكلمات. قاله قتادة والطبري. قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وهذا استشهاد بأهل الكتاب الموجودين حيئذ، من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره، أو جميع أهل الكتاب، ولكن يكتم ذلك منهم من يكتمه عنادا.
ولو كانت هي التوراة والإنجيل لكان الكتاب المذكور هو التوراة والإنجيل، ولم يكن به حاجة إلى أن يستشهد بأهل الكتاب على صحته، لأن التوراة والإنجيل المنزلين على موسى وعيسى لم ينازع فيها أحد حتى يستشهد لهما. وأيضا: لو كان كذلك لم تصح شهادة أهل الكتاب لكتابهم لموضع التهمة.
ثم قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، وهي الكتاب الذي أنزل مفصلًا، وهو القرآن. إذ لا معنى لقول القائل: "وهو الذي أنزل إليكم القرآن مفصلًا، وتمت التوراة والإنجيل، ولا مبدل للتوارة والإنجيل"، لأن المخاطبين بهذا الخطاب هم كفار العرب، ومحمد عليه السلام لم يكن يدعوهم إلى التوراة والإنجيل حتى يثني لهم عليهما. وإنما كان يدعوهم إلى القرآن. فثبت بهذا أن المراد بقوله "لا مبدل لكلماته" هو القرآن.
وفيما يرجع إليه نفي التبديل قولان:
أحدهما: معناه ومتعلقه من أخبار وحكم ووعد ووعيد، أي أن ما أخبر الله في القرآن من خبر، أو حكم به من حكم، أو وعد من ثواب، أو أوعد من عقاب، لا يستطيع أحد تبديله ولا بيان فساده.
والثاني: أنه لفظه، أي لا يقدر أحد أن يزيد فيه ولا ينقص، لأن الله سبحانه ألهم المسلمين حفظه حرفا فحرفا، فلا يدخله الزيادة والنقص كما دخل التوراة والإنجيل، على ما قد شاهدته أنا بنفسي في الكتابين من التناقض والاختلاف وأثبته في تعليقي على الكتابين.
ثم إن هذا المصنف جعل عمدته في كتابه تفسير ابن عطية. فما باله لم يذكر ما قال ابن عطية في تفسير قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}؟ لكنه رآه فحاد عنه. ولعمري إنه معذور في ذلك. فإن كتب المسلمين ليست عنده حجة. وإنما يذكر منها ما يذكر احتجاجا عليهم وإلزاما لهم ورميا لهم بسهامهم، كما نحتج نحن عليهم بالتوراة والإنجيل على هذا الوجه، ولا نعتقد صحة ما فيها.
ومنها: قوله إن "الذكر" في قوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} هو التوراة والإنجيل.
وليس كذلك بل هو القرآن بإجماع مفسري القرآن. ذكر عبد الرازق في تفسيره عن معمر عن قتادة وثابت البناني في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قال: "حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلًا أو يبطل منه حقا".
قلت: ونظيره قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} والمعنى واحد.
أما احتجاجه على ذلك بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فلا حجة فيه، لأن في ذلك قوله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} يعني القرآن بلا خلاف ولا شك {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يعني كفار العرب {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم الكفار {هل هذا} - يعني محمدًا - {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي فليس بأولى بالرسالة منكم. كما قال قوم نوح له: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} وقول قوم صالح: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ}؟ ثم قالوا {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}؟ فأجابهم الله تعالى عن هذا بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي أن الرسل الذين كانوا قبلك بشرًا، وقد اعترف هؤلاء الكفار برسالتهم، فما وجه إنكارهم لرسالتك مع كونك بشرا؟ ثم قال {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، يعني أهل التوراة، هل كان المرسلون إلا رجالا يوحى إليهم؟
فالذكر المراد ههنا غير الذكر المراد في سورة الحجر، وهو الذكر المحفوظ. فإن لفظ الذكر ورد في القرآن على وجوه:
منها: القرآن والتوراة كالموضوعين المذكورين.
ومنها: الرسول، كقوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا} على ما قيل فيه.
ومنها: الشرف، كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي شرف.
فلفظ "الذكر" مطلق على هذه المعاني بالاشتراك أو التواطؤ. أو بالحقيقة والمجار. وبكل تقدير فلا يصح استدلاله على أن الذكر المحفوظ هو الذكر المسئول أهله.
ونبين ذلك بتقرير استدلاله على وجه صناعي هكذا: الله سبحانه حفظ الذكر، والذكر هو التوراة. فالله حفظ التوراة، لكن المقدمة الأولى مهملة، وشرطها في الإنتاج أن تكون كلية، هكذا: الله حفظ كل ذكر. والتوراة ذكر. لكن ليس التقدير هذا، وحينئذ يدخل التفصيل في المقدمة الأولى. فيقال: ما تعني بالذكر المحفوظ؟ التوراة أو القرآن؟ الأول ممنوع. والثاني: مسلم لكنه لا يفيد، لأن الحد الأوسط في الشكل مختلف، فمحمول الأولى غير موضوع الثانية.
قوله: "فتبين بذلك أن كلمات الله غير مبدلة".
قلنا: هذا صحيح لكن قد بينا أن المراد بكلمات الله ليست التوراة والإنجيل التي بأيديكم بل هي القرآن. ولئن سلمنا أنها التوراة والإنجيل، بل وكل كلام الله غير مبدل، إلا أن ما بأيديكم ليس هو التوراة والإنجيل المرادين هنا المنزلين على موسى وعيسى، بل كلمات الله التي هي كلماته لا يدخلها التبديل في خبر ولا حكم ولا وعد ولا وعيد. وما بأيديكم من ذلك تواريخ وسير مبدل محرف متناقض، علمنا تناقضه بالعيان والمباشرة.
قال: القسم الثاني من قوله - يعني مما زعم أنه كذب من أخبار محمد عليه السلام - فمن ذلك: قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} إلى قوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وقوله في التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} وقوله في سورة مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ}.
قال: "فثبت بهذا كله: أن مريم أم المسيح هي بنت عمران أخت موسى وهارون".
قال: "واسم أبي مريم أم المسيح: يعقيم. وأمها: حنة. وبين مريم هذه وعمران أبي موسى ألف وخمسمائة سنة".
قال: "وعذرا له في هذه الغلطة، فإن الناقل إما جاهل وإما قاصد إيقاعه في الغلط".
قلت: يشير هذا الخصم إلى أن محمدًا عليه السلام كان يلقن أساطير الأولين ثم ينظمها بعبارته، والملقن له إما جاهل بالنقل أو قاصد تغليطه.
قلت: وللعدو أن يقول ما شاء، وإنما يثبت ما قامت عليه الحجة.
وهذا سؤال قد كفانا جوابه صاحب الشريعة ﷺ. فروى المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى نجران. فقالوا: ألستم تقرأون {يا أخت هارون} وقد كان بين عيسى وموسى ما كان؟ فلم أدر ما أجيبهم، ورجعت إلى رسول الله فأخبرته. فقال: "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" رواه مسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
قلت: ومعنى هذا الحديث ما ذكره عبد الرزاق في تفسيره قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله {يا أخت هارون} قال: كان رجلًا صالحا في بني إسرائيل يسمى هارون فشبهوها به، فقالوا: يا شبيهة هارون في الصلاح. فتحقيق معنى الحديث أن هارون هذا سمي باسم هارون أخي موسى تبركا.
وحينئذ يفسد استدلال هذا الخصم، ويكون الحد الأوسط في نظمه -وهو هارون- مختلفا، كما تقدم في استدلاله على أن الذكر المحفوظ هو التوراة.
وأما قوله: إن اسم أبي مريم: "يعقيم" فجوابه من وجهين.
أحدهما: أن هذا لم أعلمه ولا رأيت أحدًا ذكره ممن أثق به من علماء المسلمين. وعلماء اليهود والنصارى غير مأمونين عندنا ولا وثوق لنا بما عندهم على ما سبق في مقدمات الكتاب. ومعنا شيء نحن معتقدون فيه واثقون به، وهو القرآن المتضمن أن اسم أبيها عمران. ويكون ذلك من أسماء الأعلام المشتركة مثل هارون وهارون، وفرعون وفرعون، وزيد وزيد، وعمرو وعمرو. فلا نعدل عنه إلى غيره. ولا سبيل لهم إلى إقامة الحجة القاطعة التي نضطر إلى تسليمها علينا. وإن أمكنهم ذلك وفعلوه قبلناه منهم، فإنه لا غرض لنا في العناد؛ بل الحق حيث كان متبع.
الوجه الثاني: أن هذا اختلاف في الأسماء، لا في المسميات، فجاز أن يكون عمران تعريب يعقيم، فإن العربية تصرفت في الألفاظ الأعجمية فعربتها كما سمت العرب المسيح عيسى، واسمه في الإنجيل يسوع، فعكسوه من آخره وقلبوا الواو ياء. وكان أصل موسى موشا بالشين العجمة، يعني الماء والشجر، لأن آل فرعون التقطوه من بين ماء وشجر حين ألقته أمه في اليم؛ ومو هو الماء وشا الشجر. وكما سموا حران، هذه المدينة التي بين الشام وبلاد الجزيرة باسم هاران أخي إبراهيم، وهو أبو لوط، لأنه نزلها. فعربوها فقالوا: حران.
أو لعل عمران اسم ويعقيم لقب. فكل هذا محتمل، فلا يقدح مثله في صاحب ناموس عظيم غلب ناموسه على ناموس المسيح والكليم.
قال: "ومن ذلك قوله في سياق تبشير الملائكة لزكريا بيحى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}" قال: "وهذا باطل، لأن سكوت زكريا كان أزيد من تسعة أشهر، وذلك من الوقت الذي بشرته إلى أن وضع، وإن كان على جهة التأديب والعقاب، يعني على مراجعته الملك وكونه لم يثق بأول كلامه، لا على جهة الآية"، وذكر حكاية ذلك من الإنجيل في كلام طويل قد ذكرته أنا وجوابه في "التعليق على الأناجيل".
قلت: والذي يحتاج إلى الجواب عنه في هذه الجملة أمران:
أحدهما: أن سكوته كان أكثر من ثلاثة أيام.
الثاني: أن سكوته كان عقوبة لا علامة.
والجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: الجواب العام، وهو أن مستندكم في هذا الإنجيل، وليس حجة علينا، كما أن ما عندنا ليس حجة عليكم - على زعمكم - فبقيت دعوانا ودعواكم. ولا فاصل بيننا يلزمنا جميعا الرجوع إليه.
الوجه الثاني: أن خبر محمد ﷺ أثبت ثلاثة الأيام ولم ينف ما فوقها، وأثبت العلامة ولم ينف العقوبة. فإذن الجمع بين القولين ممكن، وهو أن سكوته كان تسعة أشهر، ومنها ثلاثة الأيام المذكورة. ولعله إنما اقتصر عليها لخصيصة فيها، وذلك أن في القرآن في سورة مريم {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}: قال عبد الرازق: أخبرنا معمر عن قتادة عن عكرمة قال: {سَوِيًّا} من غير خرس. وذكر في الإنجيل: أن زكريا بقي أبكم إلى أن وضع يحيى. والأبكم الأخرس. فلعله كان في الثلاثة أيام الأول ساكنا من غير خرس، وفي بقية المدة ساكنا بخرس؛ ويكون الأول علامة، والثاني عقوبة. والقرآن الكريم إنما ذكر هذه القصة في سياق ذكر النعمة على آل إبراهيم وآل عمران واصطفائهم على العالمين. فاقتصر على ذكر زمن الآية والعلامة التي هي من نعم الله على خلقه. إذ هي موجبة الطمأنينة القلوب، ولم يذكر مدة البهم الذي هو عقوبة لئلا يقضي ذلك إلى ضرب من تكدير النعمة بذكر العقوبة عقيبها.
والقرآن فيه من ملاحظات الآداب واللطائف ما هو أدق من هذا. وشبيه بهذا تأدب إبراهيم مع ربه حيث يقول: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأضاف الخلق والهداية والإطعام والإسقاء إلى الله، لأنها نعم، وأضاف المرض إلى نفسه لكونه محله، وإن كان ليس منه في الحقيقة، تأدبا، لأن المرض صورته صورة نقمة، وإضافته إلى المنعم في سياق الاعتراف له بالإنعام تكدير للتأدب. وكذلك لا تنافي بين كون السكوت علامة صدق البشرى، وعقوبة على عدم المبادرة إلى التصديق بها. وذكر العقوبة في هذا ليس مما اخترعه هذا المصنف من الأسئلة على القرآن بل قد ذكره مفسرو القرآن منهم قتادة. قال الطبري: [2] "وهو قول أكثر المفسرين".
قلت: وعليه إشكال. وإن كان قد ذكره المسلمون. فإنه لا خلاف بيننا وبين النصارى أن مريم لما بشرت بالولد استعظمت ذلك وقالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؟ نطق بذلك قرآننا وإنجيلهم، ثم إنها لم تعاقب على ذلك بشيء.
فإن قال قائل: إن زكريا كان أكمل من مريم، والأكمل في الحال أولى بالعقوبة على الأفعال، وهذا معلوم من قواعد الشرع والعقل، ولهذا كان وعيد العلماء أعظم من وعيد الجهال.
قلنا: الجواب من وجهين.
أحدهما: أن هذا مع قيام المقتضي للعقوبة إنما يقتضى تخفيف العذاب عن المفضول في الحال، لا سقوطه بالكلية، وقد وجد مقتضى العقوبة في مريم كما وجد في زكريا، فكان ينبغي أن يحصل لها من العقوبة بحسب حالها.
الثاني: أنه باطل بأمر إبراهيم لما سأل الطمأنينة بمشاهدة كيفية إحياء الموتى، فإنه لم يعاقب مع أنه في عدم المبادرة إلى قبول خبر الصادق كزكريا ومريم. بل أولى لوجهين:
أحدهما: أنه كان في غاية من كمال الحال.
الثاني: أن المخاطب له لو كان هو الله نفسه على ظاهر القرآن، والمخاطب لزكريا ومريم كان الملك.
وبشارة زوجة إبراهيم حيث {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ولم تعاقب.
والأشبه - والله أعلم - أن العقوبة لا مدخل لها هنا لوجهين:
أحدهما: أن الله سبحانه خلق الإنسان من ضعف، ولم يجعل في قوة عقله إدراك الحقائق الإلهية، فعدل الله سبحانه يقتضي تمهيد عذر الإنسان إذا ضعف في مثل هذه المقامات المدهشة، ما لم يصر على العناد. ولو كان مثل هذا موجبا للعقاب لكان أولى الناس به موسى عليه السلام، فإن الله سبحانه لما قال له: {وَأَلْقِ عَصَاك} فالقاها إلقاء راغب عنها ظنا منه أن الله نهاه عن حملها، ثم التفت فإذا هي حية تسعى، فأمعن هربا، فلما عاد قال له ربه: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} فلف كم مدرعته على يده ثم تناولها. فقال له الملك: أرأيت لو أذن الله لما تحاذر أكانت تنفعك كمك؟ فقال: لا، ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت. فإن موسى فعل هذه الفعال وهو بحضرة الله سبحانه يسمع كلامه بغير واسطة، وقد وانسه بالكلام ولم يبق من أمره في شك، فقد كان أولى بالعقوبة إذن. ولكن مثل هذا لا يقتضيها في عدل الله سبحانه.
الثاني: أن العقوبة تستدعي ذنبا، وليس ههنا ما يصح أن يكون ذنبا إلا الشك في قدرة الله على ما أخبر به أو في صدقه فيه، والأنبياء عارفون بالله وصفاته لا يخفى عليهم مثل هذا، وهم معصومون منه. وإنما كان ذلك من زكريا ومريم وإبراهيم وسارة وكل من صدر منه ذلك من المؤمنين بالله تعجبا من كيفية المقدور، لا شكا في حقيقته. فأراد أن يعرف: هل يعاد شابا ثم يرزق الولد أو يرزقه وهو بهذه الحال؟ والتعجب وسؤال الله سبحانه كشف الأمور الملتبسة إن لم يقتض ثوابا لم يقتض عقابا.
ومن الدليل على أن العلامة مراده من سكوت زكريا ولا بد: ما ذكر في الإنجيل أن زكريا قال للملك: "من أين أعلم هذا وأنا شيخ وزوجتي قد تناهت في أيامها"؟ فهذا سؤال من زكريا للآية بلا شك. فأجابه الملك وقال: "أنا جبريل الواقف بين يدي الله، وأرسلت لأبشرك بهذا. وها أنت تكون ساكتا لا تقدر على الكلام إلى اليوم الذي يتم هذا، لكونك لم تصدق كلماتي اليوم التي يتم في زمانها".
فأخبر في الإنجيل: أن جبريل أجاب زكريا على سؤاله، والجواب تجب مطابقته للسؤال، وقد ثبت أن سؤاله كان عن الآية، فيكون الجواب بها. وزيادة العقوبة إن ثبت وسلمناه لا ينافي ذلك، لأن الجواب يجوز أن يتضمن زيادة عما في السؤال، كما في قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قال هي عصاي} هذا طبق السؤال، وقوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} هذا زيادة عليه. وقوله عليه السلام حين سئل: أنتوضا بماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه" هذا طبق السؤال. وقوله "الحل ميتته" زيادة عليه. وبكون وجه الجمع بين الآية والعلامة: إما بما ذكرناه من قبل وهو أن ثلاثة الأيام سويا من غير خرس علامة، وباقيتها أخرس عقوبة، أو بأن مطلق السكوت علامة، وامتداده إلى حين الوضع عقوبة. والله أعلم.
قال: "ومن ذلك قوله في سورة يوسف: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} إلى قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} وتقرير السؤال من وجهين:
أحدهما: أنه أخبر أن أبوي يوسف حضرا عنده ذلك الوقت، وقد ثبت في التوراة أن راحيل أم يوسف ماتت في نفاسها ببنيامين ودفنت ببيت لحم قبل أن يطرأ ليوسف ما طرأ.
والثاني: أنه ذكر أنهم سجدوا ليوسف، ولم يذكر في التوراة غير أن يعقوب لما رأى يوسف فتح ذراعيه وعانقه باكيا".
قلت: والجواب عن الأول من وجوه:
أحدهما، الجواب العام، وهو عدم الوثوق بالتوراة، وقد بينت في التعليق عليها من التناقض والتهافت ما تبين لكل عاقل أنها مما لا يعتمد عليه.
الثاني: إني تأملت هذا الحكم في التوراة على جهة التفصيل فوجدته مختلفا مشتبها جدا. وذلك أنه ذكر فيها أن راحيل أم يوسف ماتت على طريق بيت لحم عند قدوم يعقوب من عند خاله "لابن" وذلك قبل أن يرى يوسف الرؤبا بمدة، وذكره فيها: أن يعقوب بعد اجتماعه بيوسف بمصر قال له: "وإني حين أقبلت من فدان آرام - يعني قدرمه من عند خاله لابن من حوران - ماتت راحيل أمك في أرض كنعان فقبرتها في بيت لحم" فهذان نصان يقتضيان: أن أم يوسف ماتت قبل أن يرى الرؤيا، وذكر فيها: أن يوسف لما جاءه إخوته يطلبون الميرة، فعرفهم وهم له منكرون، اتهمهم بالجاسوسية وجعل ذلك ذريعة إلى سؤالهم عن عدتهم، حتى انتهى إلى ذكر "بنيامين" فقال: ائتوني به لأعلم صدقكم، فرجعوا إلى أبيهم فقالوا أرسل معنا بنيامين، فقال لهم يعقوب: "إن أخاه قد مات ولم يبق لأمه غيره ولعله تصيبه مصيبة في الطريق". وظاهر هذا أن أمه الآن حية، وأنه خاف على وجع قلبها وقلبه لفقده.
وكذلك ذكر فيها: أن إخوة يوسف قالوا له حين سألهم عن عدتهم: "إن لنا أبا شيخا، وله ابن صغير، وهو ابن كبره، ومات أخوه، وهو واحد لا غير لأمه وأبيه، وأبوه يحبه".
وهذا قاطع في أن أم بنيامين حية إلى الآن، وهي أم يوسف. وهذا تهافت في التوراة كما تراه. فمن احتج بالنص الأول على موتها قبل هذا الحال احتججنا عليه بهذا القاطِعِ أنها باقية إلى هذا الحال. ويؤكده قول يعقوب ليوسف حين قال: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} فزجره يعقوب وقال له: "ما هذه الرؤيا التي رأيت؟ أجيء أنا وأمك وأخوتك فنسجد لك على الأرض".
فنقول: إن كانت أم يوسف التي ولدته حية الآن فهو يناقض ما في التوراة من أنها ماتت قبل ذلك ودفنت ببيت لحم. وإذا وقع التاقض فيها سقط الاحتجاج بها، وليس للخصم مستند في ذلك غيرها. وإن كانت قد ماتت فقد سمى يعقوب ليوسف بعد أمه أما، فتلك هي التي سجدت له مع يعقوب عند تأويل الرؤيا سواء كانت هي والدته أحياها الله حيئذ تصديقا لرؤياه، كما قال الحسن البصري، أو كانت خالته وسميت أما مجازا، كما قال بعض المفسرين. وكما قد ثبت في الإنجيل: أنهم كانوا يسمون مريم ويوسف أبوي المسيح، في غير موضع. وقالت له مريم لما تخلف عنها في أورشليم: "يا بني لم تخلفت عنا وتركتني وأباك نطوف عليك"؟ فكما سمي يوسف أبا المسيح لكونه زوج أمه مجازًا، فكذا سميت زوجة يعقوب أما ليوسف مجازًا خصوصا وكانت زوجة أبيه أخت أمه نسبا وهي "ليا بنت لابن" فعرف المجاز وزال الإشكال. والله أعلم بالصواب.
الثالث: أن المراد بأبويه: أبوه وخالته، والعرب تسمي الخالة أما والعم أبا، كما روى أبو إسحاق عن البراء عن النبي ﷺ قال: "الخالة بمنزلة الأم" رواه الترمذي، وقال حديث صحيح.
وعن ابن عمر: أن رجلا قال: يا رسول الله إنى أصبت ذنبا عظيما، فهل لي من توبة؟ قال: "هل لك من أم؟" قال: لا قال: "هل لك من خالة؟" قال: نعم. قال: "فبرها" أخرجه الترمذي أيضا.
وقال الله تعالى حكاية عن بني يعقوب أنهم قالوا له: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} فسموا إسماعيل أباه، وإنما هو عمه. وتكملة هذا الوجه قد سبق في الذي قبله.
الرابع: ما ذكره الحسن وهو أن الله سبحانه أحيا راحيل أم يوسف حتى سجدت له تحقيقا لرؤياه.
وقول القائل: "إن هذا ونحوه لم يذكر في التوراة" جهالة وضيق عطن في العلم، فإن التوراة التي عندكم - إن صح أنها التي جاء بها موسى - فهو جزء يسير من علم الله، وتضمنت يسيرا مما جرى للقوم. وقد جرى لهم جزئيات وتفاصيل لم تذكر، فلعل هذا منها. والله سبحانه يفضل من شاء على من شاء في العلم والجسم والمال والعقل وغير ذلك. فما المانع أن يكون الله سبحانه اختص محمدًا من العلم بما لم يخصكم، كما خصه بإذلالكم وإرغام أنوفكم وأخذ الجزية منكم نحو ثمانمائة سنة.
والجواب عن الثاني - وهو سجودهم له - من وجوه:
أحدها: هذا بعينه، وهو أن في القرآن زيادة علم لم تبلغكم، تخصيصا من الله لغيركم عليكم.
الثاني: إن السجود المذكور في القرآن ليس المراد به وضع الجباه على الأرض بل هو الإيماء بالرءوس والانحناء على جهة التعظيم، وكانت تلك تحية الملوك عندهم، فلعله لخفاء صورته وعدم ظهور تأثيره في هيئة الإنسان الانتصابية لم يذكر في التوراة اعتبارا بصورته، وذكر في القرآن اعتبارًا بمعناه، وهو التعظيم.
على أنه صرح في التوراة بأن إخوة يوسف لما عرفهم وهم له منكرون "خروا له سجدا". ثم لما عادوا المرة الثانية "خروا له سجدا". وأن يوسف لما جاء بابنيه "ميشا" و"أفرايم" إلى يعقوب ليتبرك عليهما سجدا له. وأن "إبراهيم" لما اشترى مغارة "عفرون" ليجعلها مقبرة لسارة، فقالوا له: قد وهبناها لك، خر لهم ساجدا على جهة الشكر حيث ياسروه ولم يعاسروه. وسألهم أن يأخذوا منه ثمنها. فقد كان السجود عندهم سهلًا متعارفا في هذه المواطن اليسيرة الخطب، وهو من ملة أبيهم. وفي التوراة: أن يعقوب لما التقى بأخيه العيص سجد له على الأرض سبع مرات. فما ظنك بحال الدخول على يوسف من قوم متشوقين إليه وخجلين منه بعد سنين متطاولة، فإن العقول تجزم بأن هذا المقام أولى بالسجود من كل مقام، خصوصا لشخص قد أحياهم الله به، وقد غمرهم بإحسانه بعد أن بالغوا في الإساءة إليه.
ففي السجود له فوائد: منها إقامة رسم الملك بفعل تحيته. والثانية التوصل إلى إزالة ما في نفسه. والثالثة إظهار المحبة يوسف لطاعته له ليرضى عنهم يعقوب ويطيب قلبه بتصافيهم. الرابعة مكافأته على بعض إحسانه. الخامسة تصحيح رؤياه، فإن رؤيا الأنبياء وحي.
الثالث: أنه ذكر في التوراة أن يوسف لما قص رؤياه على يعقوب زجره لما قصها وقال له: "ما هذه الرؤيا التي رأيت؟ أجيء أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض" وكان يعقوب قد وعى معنى الرؤيا.
قلت: وإنما أراد أن يصد عنه كيد إخوته له، باستبعاده ذلك وإنكاره.
قلت: فهذا يعقوب قد فهم أن تأويل رؤيا يوسف سجود إخوته وأبويه له.
وقد ثبت أن الرؤيا صحت، فكذا تأويلها. خصوصا والرؤيا رؤيا نبي، والتأويل تأويل نبي، ورؤيا الأنبياء وحي، وتأويلهم إلهام.
وأيضا: فإن في التوراة أن يوسف رأى رؤيا أخرى وهي أنه رأى أنه وإخوته جمعوا حزما في المزرعة، وقد قامت حزمته، وجاءت حزم إخوته، فسجدت لها. وهذا يدل على سجدوهم له لما التقوا، لأن الرؤيتين دلتا على حلم واحد، وهو السجود.
الرابع: أنه يجوز حمل ما في القرآن على أن قوله {ورفع أبويه على العرش} جملة، وقوله {وخروا} جملة مختص ضميرها بإخوة يوسف لم يتناول أبويه، فيكون ذلك موافقا لرؤيا الحزم، فإنها إنما تضمنت ما يدل على سجود الإخوة فقط دون أبويه، ويصير هذا قريبا جدًا؛ لأن إخوته سجدوا له قبل ذلك مرتين بنص التوراة، وهذه تكون ثالثة ووقتها أولى بالسجود من غيره - على ما سبق - وإنما ترك ذكره في التوراة اكتفاء عنه بالمرتين الأوليين وتبيينها عليه بطريق أولى.
قلت: وفي ورود القرآن برؤيا النجوم دون رؤيا الحزم أقوى دليل على صدق محمد ﷺ وأن القرآن وحي من الله، وأنه إنما أخبر بما أوحي إليه، وإلا فلو كان ينتقل ذلك من كتب الأولين لتتبعها ولظفر برؤيا الحزم، ولذكرها خشية أن يطعن عليه بالنقص والزيادة. فاعلم ذلك.
قال: "ومنِ ذلك في سورة القصص بعد ذكر موسى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} إلى قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}
قال: "الكذب في هذه القصة في مواضع:
أحدها: قوله: وجد على الماء قوما يسقون. ولم يكن كذلك، بل القوم طرأوا على بنات شعيب وقد ملأن الحياض ليسقين غنم أبيهن، فأخرجوهن، فقام موسى فحماهن وسقى غنمهن - كما سيأتي في لفظ التوراة.
الثاني: أن النساء كن سبعا لا اثنتين.
الثالث: أن عرض شعيب ابنته على موسى واستئجاره على نكاحها ثماني سنين لم يكن منه شيء، إنما هذا كان في زواج يعقوب براحيل بنت خاله لابن، وإنما اختلطت لهذا الإنسان القصة أو خلطت له بقصة زواج يعقوب النبي".
ثم ذكر ما في التوراة من قصة موسى في ذلك. وهو أن قال فيها بعد ذكر قتل موسى للقبطي: "فسمع فرعون هذا الخبر، وكان يطلب قتل موسى. فهرب من حضرته، وأقام بأرض مدين، وجلس جوار البئر. وكان لإمام مدين سبع بنات. كن أقبلن لاستسقاء الماء فملأن الحياض، راجين سقى غنم "يثرا" أبيهن، فأقبل الرعاة عليهن وأخرجوهن فقام موسى وحمى الجواري وسقى نعاجهن، فلما انصرفن إلى "يثرو" أبيهن، قال لهن: لم جئتن أسرع من المعتاد؟ فأجبن: رجل مسلم مصري أنجانا من الرعاة، وبزيادة استقى الماء وسقى النعاج. فقال: أين هو؟ لم خلفتن الإنسان؟ ادعونه ليأكل خبزًا. فحلف موسى أن يسكن معه، وأخذ سافور بنته زوجة". اهـ.
قال: "هذا نص التوراة. أن الجواري كن سبعا لا اثنتين، وأن والدهن كان اسمه يثرو لا شعيب، ولا ذكر لاستئجاره ثماني حجج".
ثم ذكر قصة زواج يعقوب من التوراة إلى آخرها. ثم قال: "فتأمل يا قارئ اختلاط القصتين بالأخرى".
قلت: والجواب عن هذا السؤال من وجوه:
أحدها: الجواب العام بالقدح في التوراة وعدم الوثوق بها، كما تقرر في المقدمة. وقد وجدنا فيها من التناقض والاختلاف ما بعضه يقدح في الاحتجاج بها.
ولذلك سببان ظاهران:
أحدهما: أن اليهود حرفوا منها اسم محمد عليه السلام ودلائل نبوته لئلا يكون عليهم حجة له من كتابهم. وحرفوا مع ذلك أشياء مما جاء به محمد عن وضعه الذي في التوراة ليصير ذلك شبهة لهم في تكذيبه، ويقولون: ما نصنع به، لو وافق ما عندنا أو ذكر فيه آمنا به.
السبب الثاني: أن التوراة تقادم عهدها وحرفت في زمن "بختنصر" وتعاورتها التغيرات والتنقلات من العبراني إلى السرياني إلى القبطي إلى العربي لفظا وخطا. وبعيد من مثل هذه التغيرات أن لا تخل بالمعاني. ولذلك صارت التوراة التي بيد النصارى تخالف التي بيد اليهود، والتي بيد اليهود يخالف بعضها بعضا، كما أن أناجيل النصارى يخالف بعضها بعضا، كما قد بينته في التعليق عليها، لأن أهل الكتاب معتمدهم على الخط، لا على الحفظ، وعلى الرواية بالمعنى لا باللفظ.
الثاني: أن علماء المسلمين ذكروا قصة موسى على وفق ما هي في القرآن، وكان لهم اجتماع بأهل الكتاب واطلاع على علمهم، وأسلم جماعة من أهل الكتاب ووافقوهم على ذلك كعبد الله بن سلام من اليهود والعاقب والسيد رئيسي نجران من النصارى والنجاشي صاحب الحبشة في ناس كثير، فدل على أن ما في القرآن موافق لما في الكتب القديمة، ولكن هذا الذي تدعونه تحريف حدث.
فإن قيل: إنما كان إسلام بعض أهل الكتاب وعدم إنكارهم ما جاء به القرآن من الوهم مخافة من سيف الإسلام، فإنه كان مشهورا منصورا، لا يقوم له أحد.
قلنا: هذا مما لا يفيدكم، فإن مصنف هذا الكتاب قد أبرز فيه كل ما عنده من الطعن في دين الإسلام مع المخافة وظهور الإسلام، ولم يمنعه ذلك. فلو أمكن الأوائل من أهل الكتاب قدح لفعلوا، ولو في خفية، ثم لاشتهر في ذلك العصر ثم نقل إلينا. كيف والمسيح عليه السلام يقول: "ما من خفي إلا سيظهر، ولا مكتوم إلا سيعلن". وهو قول معصوم لا ينخرم.
وأيضا فإن من الممتنع عادة أن أحدًا لا ينتقل من دين إلى دين إلا بعد انشراحه لما انتقل إليه وانقباضه عما كان عليه، وأن من ينشرح صدره لدين يحتمل الذل والصغار والقتل ولا ينتقل عنه، كاليهود والنصارى في بلاد المسلمين، والمسلمين في بلاد النصارى. فمن المحال عادة أن جماعات من أحبار اليهود والنصارى ورؤسائهم ورعاعهم يتركون دينهم في عصر النبوة إليه إلا بعد علمهم بصحة ما جاء به. وحينئذ يصير هؤلاء حجة على من يقدح في الإسلام من أهل الدينين.
وهذا ابن جزلة، صاحب "منهاج البيان" في الطب، كان نصرانيا وأسلم وصنف كتابا أسماه إفحام النصارى. ولما مات وقف كتبه على تربة الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت ببغداد. وكثيرون مثله يسلمون ويحسن إسلامهم وبعد ذلك يطعنون فيما كانوا عليه من اليهودية أو النصرانية. ولم نر أحد مسلما خرج عن الإسلام فحمد ما انتقل إليه. فإن قيل: لأن المسلمين لا يتركونه بل يقتلونه، فلا يتسع له زمن النصر والترجيح بين ما انتقل عنه وإليه، ثم انحسرت مادة الردة في الإسلام خوف القتل.
قلنا: لا شك أن مصلحة الدين ومنفعته عظيمة وهي النجاة الأبدية، وأعظم مصلحته توجب قوة الداعي المحول إليه، وذلك يوجب انفتاح أبواب الوسائل الموصلة إلى المقصود منه. وهذه بلاد النصرانية ملاصقة لبلاد الإسلام والسبل إليها آمنة مسلوكة. وفي المسلمين ناس كثيرون وقفوا على حقيقة دين المسلمين والنصارى وهم عقلاء ألباء. فلو صح لهم ما ذكرتم من القدح في دين الإسلام لتوصلوا إلى أرض النصرانية واعتصموا بها وجعلوها هجرة دينية. والله أعلم.
ثم لو لم يكن في هذا الجواب إلا معارضة ما نقله المسلمون لما نقلتموه لأوقف دعواكم في صناعة النظر حتى يبدو مرجحا لما قلتموه أو دليلًا آخر.
الثالث: أن ما حكاه هذا المصنف من القصة في التوراة لا ينافي ما في القرآن، بل في القرآن زيادة بيان ومناسبة للقصة. فرد تلك الزيادة لكونها لم تذكر في التوراة جهالة، لأنه إبطال للوجود المحض بالعدم المحض، وذلك عناد أو قصر باع في العلم لما بيناه في الوجه الرابع من الجواب عن قوله: {ورفع أبويه على العرش} في السؤال قبل هذا وبيان عدم المنافاة. أما قوله "إن موسى لما ورد ماء مدين لم يجد القوم يسقون بل طرأوا بعد ذلك" فهذه مناقشة باردة ممن لا يعلم مواقع الكلام، خصوصا لغة العرب واتساعها، بل ولا حقائق المعقولات، فإن "لما" في لغة العرب أداة زمانية أي تدل على الوقت والزمان - فإذا قلت: قام زيد لما قعد عمرو، معناه: قام زيد وقت أو زمان قيام عمرو، فقوله: {لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة} أي وقت أو زمن وروده ماء مدين {وجد عليه أمة} ولا شك أن الزمان والمكان يكونان حقيقة ومجازا. فحقيقة المكان: هو الموضع الذي يستقر فيه الجسم ويحيط به فقط دون ما حوله، كدائرة الكرسي مثلًا لمن جلس عليه، ومجاز المكان: ما قارب مستقر الجسم وما أحاط به من مكانه الحقيقي، كالبيت أو الدار بالنسبة إلى الكرسي الذي جلس عليه، وحقيقة زمان الفعل: الجزء الذي يحدث فيه ورود موسى. ومجازه: هو ما قارب ذلك الجزء بساعة أو ساعتين أو أقل أو أكثر بحسب قرب المجاز وبعده وعظم الحقيقة وصغرها.
وإذا ثبت هذا التقرير بان أن لا منافاة بين قوله في القرآن: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} وبين قوله في التوراة: "فأقبل الرعاة عليهن وأخرجوهن" لجواز أن يكون إقبال الرعاة ووجدان موسى لهم جميعا في زمن وروده المجازي، الذي هو بعيد زمن وروده الحقيقي.
وكذلك قوله: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا} مع قوله في التوراة: "فقام موسى وحمى الجواري وسقى نعاجهن"، لا تنافي بين الأمرين لجواز أنهما لما أخرجهما الرعاة عن الماء وقفتا تذودان غنمهما - أي تحفظانها من الشرود - فجاء موسى "فقال: ما خطبكما؟" فأخبرتاه، فحماهما وسقى لهما.
وأما قوله: "كن سبعا لا اثنتين" فمن الجائز أن السبع حضرن لكن الذي ذود الغنم منهن اثنتان، والأخر يملأن الحياض، أو ينظرن في مصلحة أخرى للغنم. فوقع الخطاب في القرآن على الذائدتين دون البواقي لأنهن حينئذ أخص بالغنم، والبواقي كالأجنبيات منها، لا يُعلم في الحال تعلقهن بأمرها.
وأما قوله: "لا ذكر لندب شعيب موسى إلى زواج ابنته، ولا لاستئجاره ثماني حجج" فلا ينافي ما في القرآن من ذلك، لأن هذا مجمل وما في القرآن مفصل. ولا تنافي بين المجمل والمفصل. على أن في قوله في التوراة: "أن يثرو قال لبناته: ادعونه يأكل خبزًا، فحلف موسى أن يسكن معه وأخذ سافور بنته زوجة" تنبيها على ما فصله القرآن، إذ معناه: أن يثرو عزم على موسى وأقسم عليه أن يسكن معه. وهذا قريب في العرف من قوله "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ" فإن الناس جرت عادتهم أنه إذا ورد عليهم غريب، فظهرت منه النجابة والخير والخصال الحميدة والأفعال النافعة تمسكوا به وحسنوا له المقام عندهم وعرضوا عليه المسكن والسكن ليرتبط بذلك عليهم فينتفعون به وينتفع بهم. وقد كان "يثرو" أحق الناس بمثل هذا لكبره، وكون بناته حرما ضعفى عن القيام بأمر الغنم، وقد كان الرعاة يستضعفونهن.
وأما قوله "كان اسم أبيهن يثرو لا شعيب" فقد سبق جواب مثله عند قوله: "كان اسم أبي مريم أم المسيح يعقيم، لا عمران" وذلك أن الأسماء ألفاظ تختلف باختلاف اللغات، ومع اتفاق المسميات لا يضر اختلاف الأسماء. ويدل على هذا ما ذكره "ويثمة بن موسى بن الفرات" في كتاب "قصص الأنبياء" عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن زيد بن سمعان عن بعض من قرأ الكتب أن أهل التوراة يزعمون أن شعيبا نسبه في التوراة ميكائيل بن جزي وبالسريانية يثرن بن جزي بن يشجر، وبالعربية شعيب بن جزي بن يشجر بن لاوي بن يعقوب".
قال: "وحدثني الشرقي بن القطامي - وكان عالما بالأنساب - قال: هو يثرون بالعبرانية، وشعيب بالعربية، ابن عيفاء بن لوثب بن مدين بن إبراهيم".
فتبين بما ذكرناه أن هذا نزاع لفظي لا يقدح في حقائق المعاني.
وأما ما ذكر من أن الاستئجار إنما كان في قصة زواج يعقوب لا موسى.
فجوابه: أن احتجاجك في هذا إنما هو بسكوت التوراة عن ذكره في قصة موسى على ما قد ثبت فيها من التحريف والتبديل والزيادة والنقص والتفاوت في النسخ بالنسبة إلى ما بأيديكم وأيدي اليهود وإلى ما في أيدي طوائف اليهود، وذلك استدلال بالسكوت الصرف والعدم المحض. والقرآن جاء بزيادة بيان. فليس قدح التوراة في القرآن لمجيئه بالزيادة أولى من قدح القرآن في التوراة لمجيئها بالنقص، فما المرجح لأحد القدحين على الآخر؟ على أن ما في القرآن أولى بالاعتبار لأنه أنسب بسياق القضية لمن تدبره، ولأنه أقرب عهدا بالظهور من التوراة وأبعد عن التحريف والنقل من لغة إلى لغة ومن ترجمة إلى ترجمة، والمسلمون أشد عناية بحفظه من أهل الكتابين بحفظهما.
ثم نقول: ما المانع من أن تكون قصة يعقوب وموسى في زواجهما اتفقتا على صفة واحدة، كما اتفق لإبراهيم وإسحاق في أن كل واحد منهما لما دخل أرض "أبيمالخ" ملك فلسطين ادعى أن زوجته أخته لجمالها خشية أن يغلب عليها. وقد صرحت بذلك التوراة. لكن اتفق أنها شرحت قصة يعقوب بأبسط مما شرحت قصة موسى.
ثم بعد هذا كله نقول لهذا النصراني: الخلاف والتناقض الذي أوردته علينا بتقدير ثبوته هو في كتابين لملتين، وهما التوراة والقرآن، ولا شك أن في إنجيل لوقا في الفصل الثاني والثلاثين أن يوحنا قال للمسيح: "يا معلم رأينا إنسانا يخرج الشياطين باسمك فمنعناه لأنه لم يتبعنا. فقال: لا تمنعوه، لأن كل من ليس عليكم فهو معكم". وفي إنجيل مرقس هذه الحكاية بعينها، وأن المسيح قال فيها: "كل من ليس معنا فهو علينا". وهذا تناقض بَيِّنٌ. وييانه: أن كل واحد من الناس إما أن يكون معك أو عليك أو لا معك ولا عليك. فالطرفان حكمهما معلوم. أما الواسطة وهي الذي لا لك ولا عليك فإنها على لفظ لوقا تكون لك لأنها ليست عليك، وعلى لفظ مرقس تكون عليك لأنها ليست لك. فهذا تناقض في إنجيلكم، وهو كتاب ملة واحدة، بعضه حجة على بعض، والقدح في بعضه قدح في كله. فما كان جوابك عن هذا التناقض الذي في الإنجيل فهو جوابنا عن التناقض الذي بين التوراة والقرآن. ونكون قد سامحناك في هذا لأن ما أوردناه عليك من تناقض كتابك وارد عليك ولازم لك، وما أوردته أنت علينا من تناقض التوراة والقرآن ليس لازما لنا، لأنا نحن نقول: القرآن حق وصدق، والتوراة التي احتججت علينا بها - لا أقول التي أوتيها موسى - كذب وزور ومحال وافتراء على الله ورسله. وأنت لا يمكنك أن تقول: إن إنجيل لوقا حق وصدق، وإنجيل مرقس كذب وزور، أو بالعكس، لأن أناجيلكم الأربعة هي كتاب واحد وموضوعها واحد. وإنما اختلفت بالزيادة والنقص والرواية بالمعنى، وما فيها من الاختلاف والتناقض.
فإن قلت: إن الذي أوردته على من تناقض إنجيل لوقا وإنجيل مرقس ليس تناقضا في الأصل، بل هو من قلم الناسخ فهو خطأ في صورة الخط، لا في حقيقة النبوة المسيحية.
قلت: هذا نفسه جوابنا عما أوردته من تناقض التوراة والقرآن في قصة موسى، وهو أن نضيف الخطأ إلى قلم الناسخ وصورة الخط في التوراة، وهي أولى بذلك من القرآن لتقادم عهدها وتغير التراجم واللغات فيها، بل وأولى من الإنجيل لأنها قبله.
فإن قلت: أنا ما أوردت تناقضا بين التوراة والقرآن، بل كذبت القرآن بالتوراة.
قلت: هذا هو معنى التناقض. ثم جوابك ما سبق من أنه ليس تكذيب القرآن بالتوراة أولى من تكذيب التوراة بالقرآن، بل هذا أولى لما بيناه غير مرة. والله أعلم.
هذا تفصيل جوابه على ما ذكر هو في كتابه.
أما ما رأيناه في التوراة مما يدل على وفاق القرآن نذكر طرفه إن شاء الله تعالى.
قال: وفي سورة النساء بعد ذكر اليهود: وقولهم {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} وذكر كلاما لابن عطية في تفسير قوله {شُبِّهَ لَهُمْ} وأن شبه المسيح ألقي على صاحب له يقال له سرجس باختياره على أن يكون رفيق المسيح في الجنة.
قال: "ويتمسك المسلمون بهذا في القطع على أن المسيح ما صلب. وذلك باطل بالتواتر عند الأمتين اليهود والنصارى، ومؤرخي المجوس على صلب المسيح، وبنص الكتب المقدسة".
وذكر كلام أشعياء ودانيال، وما في إنجيل متى مما يدل على ذلك وأن المسيح صلب ومات وقبر وقام حيا في اليوم الئالث وظهر لتلاميذه مرارًا كثيرة.
ولما تكلم السهروردي في كتاب التنقيحات في التواتر وشروطه في أصول الفقه تعرضت له قصة الصلب فقال: "لو لم يصلب عيسى لم يبق على المحسوسات اعتماد".
قلت: هذا حاصل ما أورده على هذا السؤال والجواب.
أما الآية الكريمة المخبرة بنفي قتل المسيح وصلبه فنعتقد أنها حق وصدق ونتمسك بها على القطع بذلك، لأنها عندنا صادر عن الحكمة والعلم الإلهيين بواسطة العصمة النبوية وهي منقولة إلينا بالتواتر.
وأما ما حكاه عن "ابن عطية" في تفسير قوله "شبه لهم" فذاك مما لم يختص بنقله "ابن عطية" بل ذكره جميع مفسري القرآن قديمهم وحديثهم على اختلاف بينهم في ذلك. فقال ابن سمعان ومحمد بن إسحاق: "إن الذي ألقي عليه شبه عيسى هو رجل من أصحابه يقال له سرجس" وقال وهب بن منبه: "هو يهوذا الذي أسلمه ودل عليه، وهو الذي اسمه في الإنجيل يهوذا الاسخريوطي".
قلت: وهذا أشبه. لأن عادة الله سبحانه جرت في أنبيائه أن يرد كيد من عاداهم عليهم، كنوح أنكره قومه فنجا وغرقوا، وإبراهيم إذ ألقي في النار فكانت عليه بردًا وسلامًا، وموسى إذ عاد مكر فرعونه عليه فأغرق، وقارون إذ قذف موسى بالزنا ليقتله أو يغض منه فخسف به، وعيسىِ مكر به يهوذا فعاد مكره عليه. ومحمد ﷺ إذ قال الله سبحانه له: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، وقال الله سبحانه: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وقال في قوم صالح حين أرأدوا تبييته: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وأما قوله: "إن ذلك باطل بالتواتر عند الأمتين اليهود والنصارى ومؤرخي المجوس".
فجوابه: أن المدعى تواتره عند اليهود والنصارى ما هو: صلب إنسان مطلق أو صلب إنسان مقيد بأنه المسيح؟ الأول مسلم، ونحن أيضا نوافق عليه، وهو جرجيس أو يهوذا كما سبق عن ابن إسحاق ووهب، والثاني ممنوع، وهو محل النزاع. وسنبين مستند المنع في آخر هذا الجواب.
وأما مؤرخو المجوس فالجواب عن تأريخهم بذلك من وجوه:
أحدها: أنهم لم يكونوا حاضري قصة المسيح ولا أحد منهم. فمدار اعتقادهم صلبه على خبركم وخبر اليهود، ولا حجة فيه لأن الأمر اشتبه على من حضر القصة بأن أظلمت الأرض ظلمة شديدة صرح بها الإنجيل وغيره، ففي تلك الظلمة أطلقت الملائكة المسيح وربطت الذي ألقي عليه شبهه مكانه، فاعتقدتم أنتم أن المسيح صلب. وقوى ذلك الاعتقاد في نفوسكم حنقكم على اليهود وحب تقرير الظلم للعدوان عليهم، واعتقدت ذلك اليهود كما اعتقدتموه، وحملهم على ذلك الاعتقاد حب الغلبة والظفر بمن اعتقدوه عدوًا لهم. ولو وفقوا لتابعوه. فعليهم وعليكم من الله ما تستحقونه.
الوجة الثاني: أنا أجمعنا وإياكم على ضلال المجوس وسخافة عقولهم حيث عبدوا النار التي يوجدها الحطب ويعدمها الماء والتراب وانقطاع مادة الوقود، فعقول هذا شأنها كيف تكون حجة على العقلاء؟ وإن كانوا عندكم عقلاء فاعبدوا النار معهم، وإذا كنتم أنتم أصحاب الدعوى، ندعي نحن: أن الأمر اشتبه عليكم والتبس، فما الظن بقوم جهال أجانب من القضية سمعوكم واليهود ترجفون بشيء فقلدوكم فيه وتابعوكم عليه، كما قلدوا آباءهم في عبادة النار.
الوجه الثالث: أن المجوس أعداء للمسلمين والنصارى واليهود مثلكم، وشأن العدو أن يطلب لعدوه العثرات ويتبع منه العورات، ولا شك أنهم تتبعوا عثراتكم وعثرات اليهود فوجدوها. أما عثراتكم فدعواكم التثليث وإلهية المسيح، وغير ذلك من سخافاتكم. وأما عثرات اليهود فأكثر من أن تحصى على ما دلت عليه كتب الأنبياء المتقدمين والمتأخرين، كقتلهم الأنبياء بغير حق وتعديهم حدود الله، وإبائهم عن الانقياد له ولرسله وكيدهم للمسيح وبغضهم عليه مع إظهاره العجائب والبينات. ولمعصيتهم الله سبحانه سلط على أوائلهم فرعون فسامهم سوء العذاب خمسمائة عام حتى استنقذهم الله بموسى، ثم كان له معهم من التعب ما لا يخفى. وأما المسلمون فلم يجدوا لهم عثرة يقدحون بها فيهم، فقووكم على صلب المسيح ليوهموا بذلك القدح في القرآن كيدا للمسلمين، ولو لم يكن إلا مجرد احتمال هذا القصد منهم كان ذلك تهمة لهم تقتضي عدم الالتفات إلى مقالهم.
وأما ما ذكره من نص الكتب المقدسة ككتاب أشعياء ودانيال وإنجيل متى، فجوابه من وجوه:
أحدها: الجواب العام من عدم الوثوق بهذه الكتب لتقادم عهدها ونقلها من لغة إلى لغة وتهمة اليهود والنصارى عليها، خصوصا الإنجيل، فإنا قد بينا في التعليق عليه ما يقيم عذرنا في عدم الوثوق به من الاختلاف والتناقض.
الوجه الثاني أن ما ذكره من مصحف أشعياء هو قوله في صفة المسيح: "يقاد إلى القتل مثل الضائنة ويصمت كالخروف بين يدي الجازر ولم يفتح فاه". ولا حجة فيه على وقوع القتل، بل على القود إلى القتل، ونحن نقول به، فإنهم قادوه ليقتلوه فخلصه الله بما ذكرناه. وكم من قيد إلى القتل ثم نجا فلم يقع به القتل.
نعم قد ذكر أشعياء في الأصحاح الخامس والعشرين من مصحفه في النبوة في المسيح وصلبه مع الأئمة واحتماله للذنوب ما هو أنصّ من هذا في قتل المسيح، وهو قوله: وهو يعني المسيح المضروب في سبب ذوات الله المتواضع من أجلها: "يقتل من أجل إثمنا ويتواضع من أجل إثمنا وعليه أدب سلامتنا، لأن بجراحه نبرأ كلنا نهبا مثل الغنم وأقبل كل إنسان منا إلى جانبه، والرب لقاه خطايانا أجمعين، دنا متواضعا ولم يفتح فاه، وسيق مثل الحمل للذبح وكان صامتا كالنعجة قدام جازرها ولم يفتح فاه وسيق من الحبس إلى القضاء. ومن يقدر أن يحدث بما لقي من خفية لأنه رفع من أرض الحياة ودنا منه قوم من أئمة شعبي وأذن المنافق بدفنه".
قلت: فهذا فيه تصريح بالإخبار بقتله ودفنه. لكن عليه إشكالان:
أحدهما: أن في أول هذا الفصل بعينه، وهو النبوة في المسيح: "إن عبدي ليفهم وبرتفع ويتعظم ويتعالى جدا، حتى يتعجب منه كثير من الناس" وساق صفاته إلى أن اتصل بذكر قتله ودفنه، فهذا تصريح بأن المسيح عبد الله، وأنتم تقولون: هو الله أو ابن الله، كما صرح به الإنجيل. فإن قلتم بمجموع الأمرين، أعني عبوديته وقتله، فقد خالفتم دينكم في القول بالعبودية. وإن ألغيتم الأمرين ولم تعتدوا بهما فقد سقط عنا إشكال الإخبار بالقتل. وإن قلتم بأحدهما دون الآخر وهو القتل كان ذلك ترجيحا من غير مرجح واحتجاجا بكلام تقدحون في جزءه، ثم نقابلكم بمثله، فنقول بالعبودية دون القتل.
فإن قيل: "ذكر العبودية حق باعتبار ناسوت المسيح، وإلهيته حق باعتبار لاهوته، فكلا الأمرين صحيح، فنقول بهما ويثبت ما ادعيناه من قتله".
قلنا: هذا هوس، وأنتم عند التحقيق عاجزون عن إثباته. وقد وجهت ذلك في التعليق على الإنجيل.
الإشكال الثاني: أن أشعياء قبل المسيح بخمسمائة عام أو نحوها، وهو يحكي ما جرى للمسيح بلفظ الماضي حيث قال: "دنا متواضعا ولم يفتح فاه، وسيق مثل الحمل للذبح وكان صامتا كالنعجة قدام جازرها" ونحو ذلك من صيغ الماضي، وحقه أن يذكر بصيغة المستقبل. وهذا يدل على اضطراب هذا الإخبار، وكونه مدخولا.
قلت: لكن عند الإنصاف، هذا الإشكال لا يتجه لأن إخبارات الله سبحانه كثيرًا ما جاءت عن المستقبل بصيغة الماضي. وقد وقع مثله في القرآن كثيرًا. والمعول عليه في الجواب عما تضمنته الكتب القديمة من قبل المسيح هو الوجه الأول، وهو القدح في صحتها. ودعواهم بتواترها ممنوعة، وإثباته عليهم شديد.
الوجه الثالث: أن هذا الخصم قدح في قوله: {ورفع أبويه على العرش} وفي قصة زواج موسى على أن يؤجر نفسه ثماني حجج بأن ذلك لم يذكر في التوراة؛ فنحن أيضا نقدح في دعواه صلب المسيح وقتله بعين ذلك، وهو أنه لم يذكر في التوراة، حيث جمع إسرائيل بنيه بمصر قبل موته وأخبرهم بما يكون لكل منهم في مستقبله.
فإنه تغيظ على روبيل وقال له: "نجست فراشي" يعني كونه وطئ سرية أبيه. وقال: "لا يفقد الملك من سبط يهوذا والنبوة والكهنوت من بين فخذيه، حتى يأتي من هي له وإياه تنتظر الشعوب. الرابط في الشجرة جحشه، وفي القضيب ابن أتانه، تحمر من الخمر عيناه، وأشد بياضا من اللبن أسنانه".
وهذه صفات المسيح بلا شك. ولم يذكر أنه يقتل ولا يصلب.
فإن قيل: ثبت قتله بزيادة مقبولة من الأنبياء كما ذكر عن أشعياء ودانيال والإنجيل.
قلنا: ورفع أبوي يوسف على العرش وإيجار موسى نفسه ثماني سنين تثبت بزيادة مقبولة على لسان محمد في القرآن. وهي زيادة مقبولة.
فإن قيل: لكن زيادة قبل المسيح يثبت على لسان من اتفقنا على نبوته وصدقه، وزيادة رفع أبوي يوسف وإيجار موسى نفسه يثبت على لسان من اختصصتم اعتقاد نبوته، وخالفناكم نحن فيها ولم نوافقكم عليها.
قلنا: هو كذلك لكن عدم موافقتكم على صدقه لا يقدح في نبوته وصدقه، لأنكم أنتم وافقتم اليهود على صدق موسى والتوراة، وخالفوكم في صدق المسيح والإنجيل، ولم يكن ذلك قادحا في صدقهما باتفاق منا ومنكم. فإن كان عدم وفاقكم لنا على صدق محمد قادحا فيه، لزمكم أن يكون عدم وفاق اليهود لكم على صدق المسيح قادحا فيه. والجواب مشترك.
وأما ما ذكر عن السهروردي عن قوله: "لو لم يصلب عيسى لم يبق على المحسوسات اعتماد"، وهو من أكابر فلاسفة الإسلام، فليس صحيحا عن السهروردي. وإنما حكى ذلك حكاية عن بعض من نازع في بعض أحكام التواتر. من نظر ذلك في كتابه وجده، ولم يتفق لي حكاية لفظه.
وبتقدير صحته عنه. فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن هذا الرجل المذكور رجل غلبت عليه الفلسفة، ثم انسلخ منها إلى الزندقة، حتى قتل في "حلب" بسيف الشرع، فليس قوله حجة على الله ورسوله والقرآن وإجماع المسلمين.
وقوله: "كان من أكابر فلاسفة الإسلام" غلط. فإن الفلسفة التي كان يتعاناها هذا وأصحابه ليست من الإسلام في شيء. وكيف يكون من الإسلام ما يقدح فيه ويقوض مبانيه؟ وإنما الإسلام انقياد واستسلام لأحكام العزيز العلام، وسنة محمد عليه السلام واتباع لا ابتداع. وإنما هؤلاء قوم زنادقة، ينتمون إلى الإسلام لحفظ رئاستهم ودمائهم، والإسلام فسيح واسع يقبل منهم الظاهر، والله أولى بالسرائر. فهم في الظاهر منه، وفي الباطن منسلخون عنه.
الثاني: أن قول السهروردي إن كان حجة علينا فليكن قول كل من أسلم من النصارى ثم عاد بالقدح على دين النصرانية حجة عليكم. وإنما تقوم الحجة بقول المعتبرين منا، كالخلفاء الأربعة والقراء السبعة والأئمة الأربعة، أو من هو معتبر في الإجماع من أهل الحَلِّ والعقد، كما لا تقوم حجتنا عليكم إلا بمن تعتبرون قوله منكم.
الثالث: أن السهروردي لم يكن عالما بأصول الشرائع والنبوات على الوجه المعتبر فيها حتى يكون قوله حجة لها وعليها. إنما كان علمه فلسفة محضة وعقليات صرفة، وليس له تصنيف إلا في ذلك كاللمحات والألواح والإشراق وغيرها. وهذه "التنقيحات"، لا يعتمد عليها من المسلمين في أصول الفقه إلا من هو على طريقه في الانحراف إلى الفلسفة والخلو من علم النبوة. وقد رأيتها وهي كثيرة التشكيك، لا يكاد يبني شيئا إلا ويهدمه، ولا ينصر قولا إلا ويخذله. وأنت أيها الخصم قد قدمت عند ذكرك ضرورة الخلق إلى النبوة ومنفعتها أن العقل لا يستقل بإدراك الأمور الإلهية بدون تأييد إلهي.
الرابع: قوله: "لو لم يصلب المسيح لم يبق على المحسوسات اعتماد" إن أراد لم يبق عليها اعتماد مع عدم المعارض لها فلا نسلم أن ذلك لازم لعدم صلب المسيح، وإن أراد مع وجود المعارض فهو صحيح، فإن مدارك العلم إما حس أو عقل أو مركب منهما. وكلها قد تخلف مع وجود المعارض أما الحس فكما في التخييلات السحرية والشعبذية وكعدم إدراك الصوت للصمم والريح للخشم والطعم للمرة واللمس لفساد في اللثة أو لعلة في محله، وأما العقل فكما يعرض للإنسان عند غلبة السوداء أو الحزن أو الفرح المفرطين أو السكر ونحوه من المغيبات كالنوم والإغماء فإنه يرى الحقائق منقلبة، والأمور مضطربة. وأما المركب منهما فكخبر الواحد إذا كان في طريقة كذاب، وكالتواتر إذا فقد فيه شرط.
وأما البرهان على أن المسيح لم يصلب ولم يقتل فهو أن قتله إن لم يكن كولادته من غير ذكر، فهو مثله في الشهرة ولا بد. ثم إن ولادته من غير ذكر لما كان له وجود، تواتر تواترا لم يختلف فيه اثنان منا ومنكم. فلما اختلفنا في قتله، دل على أنه لم يبلغ تلك المرتبة من التواتر، فلم يثبت بمجرد الدعاوى أو الحجج الضعيفة، وإنما كان الأمر في ذلك مشتبها كما نص عليه القرآن فاشتبه عليكم.
يؤكد ذلك: أن المسيح طبق ذكره الآفاق، لما ظهر على يده من الخوارق. وقتل مثل هذا لا يقبل بمثل هذا النزاع لما يجب له في مطرد العادات من الشهرة والغلبة، وإذا كان يحيى وزكريا دونه في الشهرة بكثير ثم لم يختلف في قتلهما. فما الظن بالمسيح الذي أجمعنا على أنه أفضل أبناء إسرائيل وأنتم تدعونه إلها؟
قال: "وفي سورة الكهف عند ذكر ذى القرنين. قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قال ابن عطية: على وزن فعِلة أي ذات حمأة، وقرأ أبو بكر عاصم والباقون: "في عين حامية" وذكر حديث أبي ذر نصا في ذلك. قال: "فدل على أن العين هناك حارة".
قال: "وفي سورة يس مثل هذا حيث يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَر لَّهَا} الآية".
وذكر حديث البخاري عن أبي ذر حيث قال له النبي ﷺ أتدري أين تذهب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها".
قال: "وهذا كله بين البطلان لكل من له أدنى نظر في الهيئة، لأن الشمس تدور أبدا في فلكها، وهو الفلك الرابع، ولا تغرب في عين حامية ولا تجرى لمستقر لها، لأنها ليس لها قرار".
قلت: الجواب عن هذا السؤال:
أما القراءتان: "حمئة" من الحمأة، و"حامية" من الحرارة، فهما قراءتان صحيحتان، والأولى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو، والثانية قراءة الباقين. والخبط في نقل مذهب القراء فيهما لا أدري هل هو من هذا الخصم أو من غيره. وقد روى ابن عباس عن أبي بن كعب: أن النبي ﷺ قرأ: "في عين حمئة" رواه أبو داود والترمذي. وقال حديث غريب. قال والصحيح أنها قراءة ابن عباس لأنه اختلف هو وعمرو بن العاص فيها، وترافعا إلى كعب الأحبار، ولو كان عنده فيها رواية لاكتفى بها.
ووجه الجمع بين القرائتين: أن تلك العين حارة وهي ذات حمأة، فإن اجتماع الأمرين جائز غير ممتنع. وأما حديث أبي ذر فلفظه على ما رواه الترمذي وغيره قال: "دخلت المسجد حين غابت الشمس، والنبي ﷺ جالس. فقال: "أتدري يا أبا ذر أين تذهب هذه"؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال: "فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: اطلعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها" قال: ثم قرأ {ذلك مستقر لها} قال: وذلك قراءة عبد الله. قال الترمذي: هو حسن صحيح. وأخرجاه في الصحيحين، ورواه أبو داود والنسائي.
ووصف الشمس بالجود وخطابها من الحقائق الإلهية التي لا يستقل العقل بدركها، فيجب تلقيها عن أصحاب الشرائع بالقبول، كما سبق تقريره في المقدمة الثانية في صدر الكتاب.
وأما معنى غروبها في عين حامية، ففيه تأويلات:
أحدها: أنها تغرب فيها في رأي العين. لا الحقيقة، كما يرى كأنها تغرب في البحر أو من وراء الجبل، بل من وراء جدار صغير، بحسب اختلاف مناظرها وأوضاع الناظرين إليها.
الثاني: أن "في" بمعنى "على"، أي تغرب على عين حامية، أي تكون مقابلة لها، وحروف الصفات يقع بعضها موقع بعض كما قال تعالى: {لأصلبنكم في جذوع النخل} أي عليها.
وقال عنترة:
بطل كأنَّ ثيابه في سرحة **
أي عليها.
وعلى بمعنى في، كقول أبي كبير الهذلي:
ولقد سريت على الظلام بمغشم.
أي في الظلام.
الثالث: أنها بمعنى عند. أي تغرب عند عين حامية. وقد ترد بمعنى عند ومع في العربية. فكلام يحتمل لهذه التأويلات السابقة في اللغة التي ورد بها لا ينبغي أن يتهجم على القدح فيه.
وقد نقل بعض المفسرين عن كعب أنه قال: "في التوراة أنها تغرب في ماء وطين". وأصحاب الهيئة يعترضون على هذا بناء على ما قرروه من أن الشمس مثل كرة الأرض مائة وواحدة وستين مرة ونصف وربع، فكيف تسعها عين من عيون الأرض؟ والجواب بما سبق.
وأما قوله: "إن هذا كله بين البطلان لمن له أدنى معرفة بالهيئة" فجوابه: إن علم الهيئة مبني على مقدمتين:
أحدهما: أن حركة الأفلاك متصلة متشابهة يستحيل أن يعرض لها البطء والسرعة أو الرجوع أو الانقطاع.
والثانية: اعتبار الرصد.
وقد قدح المحققون فيهما بما لا يسع هذا المكان ذكره.
ومنه: أن حاصل الرصد: الاعتماد على أبصار الآحاد، والبصر لا يفيد اليقين لكثرة ما يعرض للبصر من الغلط، خصوصا مع البعد المفرط، وخبر الآحاد إنما يفيد ظنا ضعيفا. ودعوى أهل الهيئة أن علمهم ثابت بالبراهين الهندسية كذب وزور وبهتان، إذ لو كان كذلك لما وقع الخلاف العظيم بينهم في تفاصيل علمهم وجمله.
وإذا اتجه القدح في مقدمات الهيئة لم يبق بها وثوق، وصار خبر الشرع أوثق منها، على ما قدمت أنت أيها الخصم في بيان ضرورة النبوة من كلام أرسطو وغيره.
ثم نقول: إن علم الهيئة على تقدير صحته وثبوته لا ينفي ما فسرنا به كيفية غروب الشمس في العين الحامية.
وأما قوله: "إن الشمس تدور أبدًا في فلكها، وهو الرابع، ولا تجري لمستقر لها" لأنه ليس لها قرار.
فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن يقال له: أنت إما أن تكون فيلسوفا محضا، أو مشرعا تقول بصحة الشرائع وما جاءت به النبوات. فإن كنت فيلسوفا، ورد عليك كثير مما تقول به من أحكام التوراة والإنجيل مما تعتقد الفلاسفة فسادها.
منها: دعواك في المسيح أن لاهوت الله اتحد بناسوته، فصارا حقيقة واحدة، أو أن الله سبحانه واحد بالذات متعدد بالأقانيم التي هي الله والابن وروح القدس. وإن كنت مشرعا فيلزمك تجويز أن الشمس يمكن أنها تستقر وتقف، فإنه قد ثبت باتفاقنا: أن يوشع ابن نون وقفت له الشمس عن مسيرها ليلة السبت، حتى فرغ من قتال الجبارين، وقد ذكرته أنت في كتابك هذا عند بيان وجود النبوة. وثبت أيضا في الأصحاح الثامن والثلاثين من مصحف أشعياء أن الله سبحانه رد الشمس إلى خلفها عشر درجات علامة لحزقيا ملك بني إسرائيل على أنه ينفس له في عمره خمس عشرة سنة بعد أن حضره الموت، والقصة مشهورة. ومثل هذا لا يصح في علم الهيئة بناء على المقدمة المذكورة وأن حركة الأفلاك متصلة. ويقال: إن من حين وقوف الشمس لهذين النبيين تخبط حساب المنجمين واختلط رأيهم. فالله أعلم.
وأما أنك تكون تارة فيلسوفا وتارة مشرعا، فهذا مما لا يمكن، لأن الفلسفة والتشريع لا يجتمعان. وقد حاول قوم منهم أبو الوليد بن رشد الجمع بينهما فلم يحصل إلا على الحيرة وظهر أمره، فكاد أهل المغرب يقتلونه. وأحسبه مات في حبس الشرع. وأنا أحسبك أيها الخصم حائرًا مترددًا: لا نصرانيا ولا مسلما ولا فيلسوفا.
الوجة الثاني: أن قوله: {لمستقر لها}، له أربع محامل صحيحة:
أحدها: أن "اللام" بمعنى في، أي تجرى في مستقر لها، وهو فلكها، تجري فيه ما بين طرفي مشارقها ومغاربها من ناحية الشمال والجنوب، لا تجاوز ذلك.
الثاني: أن تكون بمعنى إلى، أي تجرى إلى مستقر لها، وهو حين تستقر بزوال حركتها عند قبض الله السموات والأرض وتكوير الشمس والقمر وانكدار النجوم عند خراب العالم على ما جاء به شرع الإسلام وأخبر به النبي الصادق ﷺ وأشار إليه المسيح في الإنجيل حيث يقول: "إذا جاء ابن الإنسان في مجده على الغمام والملائكة حوله هنالك من عرفني اليوم عرفته ومن أنكرني أنكرته". معنى هذا الكلام. ويكون هذا معنى قوله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
الثالث: أن بعض أئمة السلف قرأ هذه الآية "والشمس تجري لا مستقر" أي لا تقف ولا تفتر، وهو معنى قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أي لا يفتران من الدأب، وهو السعي الشديد. وتكون هذه القراءة مفسرة للمراد من الأخرى.
وكل هذا محتمل لا يقدح بمثله في فروع شريعة، فضلًا عن أصولها.
الرابع: أن يكون مستقرها موضع سجودها. كما جاء في الحديث. وقد بينا جواز وقوفها عن السير بقصة يوشع وحزقيا، وأن هذا مما يجب أن يتسلم عن النبوات ويتلقى بالقبول، ولا يقابل بشبه العقول القاصرة عن إدراك الحقائق الإلهية. والله أعلم.
قال: "وفي سورة الصف قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. وفي سورة الأعراف قال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} قال: ولا إمارة لشيء من هذا، لا في التوراة ولا في الإنجيل، فضلا عن التصريح فيهما".
قال: "ولعل قائلًا يقول: نزع اسمه منهما. فالجواب أن هذا من الأعذار الباطلة المضحكة، لأن ظهور محمد إما أن يكون بخير أو شر، وعلى كلا التقديرين لا فائدة في نزعه، بل يجب إبقاؤه ليعرف فيتابع إن جاء بخير، أو يجتنب إن جاء بشر، كما في الدجال والشيطان".
هذا حاصل ما ذكره في هذا السؤال.
والجواب: أما ذكره صريحا في التوراة والإنجيل وتبشير المسيح به فقد ثبت عندنا بالقرآن المعصوم المتواتر ونقل علماء المسلمين كوهب بن منبه وغيره أن الحواريين قالوا للمسيح وهو يودعهم ويوصيهم: يا روح الله هل لله نبي يفوقك؟ قال: نعم النبي العربي، قالوا: يا روح الله ومن أين هو؟ قال: يبعث من أرض تهامة. فقالوا: من هو؟ قال: من قريش يمسك بأصل الحكمة ويعطى فروعها، أمته حكماء علماء كأنهم الأنبياء، أقرؤه مني السلام".
قلت: ويدل على صحة هذا القول، أعني قوله يمسك بأصل الحكمة ويعطى فروعها، أنك لا تجد في الإنجيل حكمة عن المسيح إلا وعن محمد ﷺ معناها أو أحسن منها بأوجز من عبارتها وأخصر من لفظها. وقد ذكرت من ذلك أمثلة كثيرة في الفوائد. وأيضا ما تواتر من أن الأحبار والرهبان والكهان أخبروا بمحمد عليه السلام قبل مبعثه وعرفوه لما ظهر بصفته، كبحيرا الراهب وغيره، فآمن به من سبقت له السعادة وكفر من سبقت عليه الشقاوة.
أما قوله: "لا إمارة لنبي من ذلك في الكتابين"، فهو إما عناد منه أو لعدم اطلاعه على ما فيهما وعدم تنبهه على إشارتههما وفهمهما، فإن في التوراة من ذلك في مواضع:
منها أن إبراهيم لما فارقه لوط قال الله لإبراهيم: "ارفع عينيك وانظر المكان الذي أنت فيه إلى الشمال والجنوب والمشرق والمغرب، فإن جميع الأرض التي ترى كلها لك أعطها ولنسلك إلى أبد الأبد". فنظرنا فرأينا ملك بني إسرائيل ارتفع عن أرض كنعان وما حولها وصار إلى العرب. وهو يدل على صحة النبوة فيهم، ولا نبي فيهم إلا محمد عليه السلام.
ومنها: "لما هربت هاجر من سارة تلقاها ملك الرب فقال: ارجعي إلى مولاتك فكوني تحت يدها يكثر الله نسلك، وستلدين غلاما اسمه إسماعيل لأن الله سمع تعبدك ويبارك فيه، يده على الكل ويد الكل به، وعلى خد جميع إخوته ينزل". ومن المعلوم أن إسماعيل لم يستعل على بني إبراهيم هذا الاستعلاء ولا أحد من ولهد إلا محمد ﷺ لما ظهر. فدل على أنه هو المشار إليه من هذا الكلام.
ومنها قول الله سبحانه لإبراهيم: "إن زوجتك سارة تلد لك غلاما ويدعى اسمه إسحاق وأقيم معه ميثاقا إلى البد ولخلفه من بعده. وعلى إسماعيل فقد سمعتك وباركت عليه وكثرته كثيرا جدا، ويولد له اثنا عشر شريفا وأجعله لشعب عظيم".
قلت: فهذا الشعب العظيم هم العرب، فوجب أن يكون فيهم رسول كسائر الشعوب لما سبق من أن عناية الله بخلقه تقتضي ذلك.
وبالجملة الأمارات الظاهرة في التوراة وغيرها من كتب الأوائل على نبوته كثيرة، ذكر الماوردي وغيره منها جملة في دلائل النبوة. والذي ذكرته أنا نقلته من نفس التوراة.
وأما في الإنجيل. فحيث يقول في بشارة يوحنا: "والفارقليط روح القدس، الذي يرسله أبي باسمي، وهو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم بكل ما قلت لكم" وحيث يقول: "إنه خير لكم أني أنطلق لأني إن لم أذهب لم يأتكم البرقليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، وإذا جاء ذلك فهو يوبخ العالم على الخطيئة وعلى الحكم. أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على الحكم فلأن أركون هذا العالم يدان" ثم قال: "إذا جاء روح الحق ذلك فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع، وبخبركم بما يأتي، وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو فيّ وبخبركم".
قلت: وإذا تأملنا هذه الإشارات وجدناها مطابقة لصفات محمد ﷺ، لأنه لم يأت بعد المسيح من ادعى النبوة ومجد عيسى وبالغ في تمجيده وصدّقه في نبوته ووبخ العالم على خطيئة الكفر وقتل اليهود وغيرهم على تكذيب المسيح وعبادة الأوثان، وأخبر بأن الناس يدانون يوم القيامة ويحاسبون، وعلم الناس محاسن الآداب ومكارم الأخلاق، وظهر ناموسه واشتهر في البدو والحضر كظهور نواميس الأنبياء قبله إلا محمد ﷺ. وإن لم يكن محمد هو الذي أشار إليه لزم القدح في صدق وعده بالبارقليط، لأن من المحال عادة أن عاد أحد يظهر بما ظهر به محمد ويتم له.
فإن قيل: قد ذكره الفارقليط في الإنجيل بصفات غير هذه مما لا يطابق صفات محمد، فيحمل ما ذكرتموه عليه.
قلنا: مع المسامحة نقول لكم: إذا كان ما في الإنجيل حق عندكم فيجب اعتباره ما أمكن، وحيث ذكر الفارقليط، تارة بما يوافق صفات محمد وتارة بما يخالفها، فاجعلوه من باب اللفظ المشترك. فالفارقليط الذي ذكرناه محمد عليه السلام، والذي ذكرتموه اجعلوه من شئتم، ويحصل لنا المقصود.
وقد بينت وجه دلالة هذا الفصل على المطلوب، وما عليه من سؤال وجواب في التعليق على الإنجيل، فاكتفيت به هناك عن تكراره ههنا. والله أعلم.
وأما قوله: "لعل قائلًا يقول: نزع اسمه منهما" فهكذا نقول.
وأما جوابه عن ذلك بأن ظهور محمد إما أن يكون بخير أو شر، وعلى التقديرين يجب إبقاؤه ولا فائدة في نزعه.
فجوابه: أن هذا إنما يصح أن يحتج به من علم منه العدل والإنصاف وطلب الحق وكمال العقل. واليهود والنصارى ليسوا كذلك حتى يصح احتجاجهم بهذا.
أما اليهود فإنهم تعدوا على أنبيائهم وبغوا عليهم وقتلوهم، وكفروا بالمسيح مع ظهور صدقه بالخوارق على يده لكل عاقل منصف. فكفرهم بمحمد ككفرهم بالمسيح. وإنكارهم لاسمه وصفته كإنكارهم لصفة المسيح المذكورة في التوراة في كلام إسرائيل لما جمع بنيه وأخبرهم ما يكون منهم على ما سبق بيانه آنفا في الجواب عن صلب المسيح - ولكن اليهود علموا من صفة محمد أنه يظهر بقوة وشوكة لا يقدرون معها على قتله وصلبه - كما زعمتم وإياهم فعلوا بالمسيح - فغيروا اسمه وصفته في التوراة لئلا يتحقق عنادهم بقيام الحجة عليهم من كتابهم، ورأوا أن العناد بشبهة أولى منه بلا شبهة.
وأما النصارى فلأن الإنجيل الذي صرح فيه بذكر محمد ليس هذا الذي بأيديهم، بل هو كتاب نزل على المسيح من السماء كتوراة موسى وقرآن محمد، ولكنه عدم فلم يظهر.
وأما الأناجيل التي بأيديهم فهي سيرة المسيح وحكاية ما جرى له؛ وفيها شيء من حكمه ومواعظه. فهو بمثابة ما نقل عن الأنبياء من كلام أنفسهم، كالأخبار المروية عن محمد عليه السلام وغيره من الأنبياء. وكذلك التوراة التي بأيدي اليهود اليوم، على أنا قد بينا أن في فصل البارقليط من بشارة يوحنا ما يكفي في الإشارة إلى ذكر محمد بصفته.
وأيضا: فإن المسيح كان آية من آيات الله سبحانه، أظل [3] بها من شاء من خلقه، فعصمهم الله به مدة مقامه بين أظهرهم، فلما رفع عنهم وقع في دينهم الدخل والتلبيس من شياطين الجن والإنس، كما نبينه في الفوائد والتعليق على الإنجيل، وذكره هنا يطول.
وأيضا: انضم إلى ذلك في حق الطائفتين أن محمدًا جاءهم بترك المألوف من دينهم، وذلك شديد على النفوس لا يثبت له إلا كاملو العدل والعقل. وقد بينا عدم العدل في اليهود وعدم العقل في النصارى حيث اعتقدوا أن الله خالق السموات والأرض خرج من بطن مريم ثم أسلم نفسه للقتل والصلب ليستنقذ الخطاة من بني آدم، وقد كان قادرًا على استنقاذهم بدون هذا التعب. وعقول تخيل لأهلها اختراع مثل هذا جديرة بأن تخيل لهم الاستمرار عليه حتى يحرفوا لأجله أسماء الأنبياء وينازعوا في الحق ويعاندوه.
وحاصل ما نقول في جوابه: أن محمدًا كان ظهوره بخير عظيم وبركة عميمة، ولكنهم غيروه حسدًا له واستبقاء للرئاسة فيهم وغيرة عليها أن تخرج منهم وينالها غيرهم.
وإذا كان إخوة يوسف هموا بقتل أخيهم يوسف ثم لما رفقوا به باعوه على الكفار ورموه في رق العبودية حتى لقى من مرارة التهم والسجن ما لقى حسدا له على ما ظنوه من تأويل رؤيا يجوز أن تقع وأن لا تقع مع كونهم من صلب نبي معصوم، وهم معاشرون له صباح مساء، فما الظن باليهود والنصارى البغاة الجهال، وقد مضى منهم الزبد، وبقى منهم الغثاء وسفلة العالم وسقطهم فيما علموه بالوحي الإلهي.
وأيضا إذا كانت سارة المرأة الصالحة المحفوظة بمعاشرة النبي المعصوم إبراهيم - صلوات الله عليه - قالت له: "اخرج بابن الأمة - تعني إسماعيل ابن هاجر - عني لئلا يرث مع ابني إسحاق" كما نص عليه في التوراة غيرة منها أن يشارك ابنها في رئاسة أبيه، فما الظن باليهود والنصارى على ما عرف منهم؟
وأما قوله: "لم لم تنزع أسماء الأنبياء الذين كان يخبر بعضهم ببعض سابقهم بلاحقهم كيحيى بن زكريا، ولم ينزع اسم الشيطان والدجال".
فالجواب: أن الفرق بين أولئك الأنبياء ومحمد عليهم السلام من وجهين:
أحدهما: أن موسى لم يأت بعده نبي إلا بتقرير أمر التوراة ومتابعتها، فكانوا في المعنى نواب موسى وخلفاءه، كالتلاميذ الاثني عشر لعيسى؛ ومحمد عليه السلام جاء بنسخ الشرائع كلها وأحكام التوراة والإنجيل وغيرهما، واستئناف شريعة مبتدأة من عند الله. ولهذا لما جاء المسيح بإبطال السبت وأشياء مما تخالف حكم التوراة تعصبوا عليه وقتلوه - كما زعمتم وإياهم.
الوجة الثاني: أنهم كانوا يعلمون أن أولئك الأنبياء ضعفى لا شوكة لهم، فلم تكن لهم حاجة إلى نزع أسمائهم، بل إن رأوا منهم ما يوافقهم وإلا قتلوهم، كما فعلوا بيحيى وزكريا والمسيح وغيرهم من الأنبياء [كما حكوا]. ومحمد عليه السلام علموا أنهم لا يقدرون عليه كما قدروا على غيره، فنزعوا اسمه ليصير شبهة في خلافه - كما سبق.
قال: "وفي سورة النور: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} وفي سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} وفي سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وفي سورة فاطرِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} وفي سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وهذا بين التناقض، والكذب لازم في إحدى القضيتين. وخلاف هذا في التوراة، حيث يقول: إن الدواب خلقت من التراب والإنسان من الماء، وخلاف ذلك أيضا في الوجود، إذ بعض الأشياء مخلوقة من الأرض وبعضها من الماء".
قلت: الجواب: أنه لا تناقض في هذا ولا كذب - بحمد الله - عند من عرف وتبين ذلك ببيان معنى كل "آية" على انفرادها، ثم بيان الجمع بين الجميع.
أما قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة مِّن مَّاء} فنقول: الدابة في وضع اللغة كل ما دب ودرج، وفي عرف الاستعمال اللغوي مختص بدواب الأربع كالفرس ونحوه، فإن حمل لفظ الدابة على هذا المعنى العرفي فلا إشكال في أنها من ماء، وهو الماء الذي ينزله الذكر في الأنثى وتنزله هي عند الوقاع.
وإن حمل على الوضع اللغوي فالجواب من وجوه:
أحدها: أن "من" في قوله {من ماء} للسببية، بمعنى أن للماء مدخلًا وتأثيرًا بحقيقتة أو بما هو من طبيعته في وجود كل دابة. وهذا صحيح. فإن كل دابة هي حيوان، وكل حيوان لا بد فيه من رطوبة مائية بها تتقوم حياته، فيدخل في ذلك العقارب والخنافس، ونحوها من الحشرات التي يقال إنها تتولد من التراب، لأنها وإن كانت متولدة من التراب إلا أنها لا تستغني عن رطوبة هي من طبيعة الماء تقوم حياتها.
الوجه الثاني: أن نقول في الدابة وضعا ما قلناه في الدابة عرفا، وهو أن سائر أشخاصها مخلوقة من ماء الوقاع، لأن فيها ذكورا وإناثا قطعا، ولا فائدة للصنفين المذكورين إلا التناسل المعتاد بين سائر أصناف الحيوان، وما يقال من أن بعض الدواب تخلق من التراب، فلا شك أنه قد قيل، ولكنا لم نشاهده فلا يقلد فيه، ولا عليه دليل قاطع من جهة العقل، فإن شاهدناه أجبنا حينئذ بحسب ما ينبغي.
والذي رأيته في هذا: ما ذكر في تواريخ الأولين: أن الملك سنحاريب رأى في منامه أن عقربا صعدت على سريره فلدغته، فوقع عنه. فاستدعى بعض المعبرين فسأله عن رؤياه، فقال له: إنها تدل على أنه يغلب على ملكك رجل لا أصل له، لأن العقرب لا أصل لها، وإنما تخلق من التراب، فكان تأويله أن غلب فرعون على سنحاريب وأخذ ملكه، ولم يكن لفرعون أصل في الملك وإنما كان أبوه راعي غنم. هكذا قيل. لكن في هذا مناقشات كثيرة لا يعتمد عليها معها.
الوجه الثالث: إن ثبت أن بعض الدواب مخلوق من غير الماء، كان قوله تعالى: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} عاما مخصوصا بذلك، أي أنه أطلق العام وأراد الخاص وهو كثير كقوله: "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وخص بالعقل ذاته وصفاته تعالى. وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} - يعني الريح العقيم - وخص بالعقل السموات والأرض وغيرهما مما لم تدمره. وقوله {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} - يعني بلقيس - وخص بالعقل ما لم تؤته من ملك سليمان وغيره. والتخصيص لازم فيما حكاه الخصم من قوله في التوراة إن الدواب خلقت من التراب، لأنا نقول: أي الدواب تريد؟ إن أردت مجموع جنسها أولا وآخرًا في جميع أزمنة الوجود فهذا يكذبه العيان، لأنا نشاهد الدواب تتكون من ماء الذكر والأنثى. وإن أردت أنواع جنس الدواب الأول التي هي لأنواعها كآدم لنوع البشر، وهو المراد، لأن هذا الكلام في سفر الخليفة، وهو إنما يذكر فيه أوائل الوجودات، وحينئذ يلزم التخصيص إن أريد باللام في "الدواب" الاستغراق. وإن أريد العهد يعني أوائل أنواع الدواب من التراب.
والقرآن تضمن أن كل دابة خلقت من ماء، فيخص أحد الكتابين الآخر، إن سلمنا صحة التوراة، وإلا لم يلزمنا ما فيه، بناء على ما سبق.
وأما قوله: {خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} فإن حملنا لفظ {الدابة} على المعنى الوضعي دخل فيه البشر، واتفقت الآيتان، وإن حملناه على العرفي لم يتناول الشر، وكان في هذه الآية مفردا بالذكر على وفق ما ذكر في الدابة من الخلق من الماء، والمراد أنه خلق الإنسان من الماء يعني "مني" الزوجين، وهو مشاهد.
وأما قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ} فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن "مِن" فيه للسببية والتقرير ما سبق في الوجه الأول من جواب قوله {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}. وأيضا فإن حياة كل حي إما كاملة كحياة الإنسان وغيره من الحيوانات، أو قاصرة كحياة الزرع والنبات، وكل ذلك لا بد في تحقق حياته من الماء على ما هو مشاهد.
الثاني: أن كل حي مخلوق من ماء الوقاع كما سبق في الوجه الثاني من جواب الآية المذكورة، ويمكن أن يحمل على إرادة الخاص بالعام كما سبق في الوجه الثالث هناك على تقدير أن يثبت أن من الأحياء ما ليس من الماء.
وأما قوله {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} فالمراد خلق أباكم - يعني آدم - من تراب بناء على نص الله علينا في كتابه، وأجمع عليه المسلمون من أن آدم خلق من تراب، وإنما خاطبنا بذلك، لأنا نسل آدم وولده، وحيث كنا كامنين فيه بالقوة كان خلقه من تراب كخلقنا من تراب. وإذ تقرر الكلام على الآيات مفردة ظهر وجه الجمع بينهما وأن لا تناقض فيها.
فقوله في سورة الروم: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني أصلكم وأباكم آدم، وقوله في الفرقان: {خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ} يعني المني من الذكر والأنثى {بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} وهو لا ينافي الخلق من تراب، لأن المخلوق من الماء غير المخلوق من التراب - على ما بيناه - ويدل عليه ما في سياق آية فاطر حيث يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي خلق أباكم آدم من تراب ثم خلقكم منه ومن غيره من ذريته من نطفة.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقدْ خلَقْنَا الإنسَانَ} يعني آدم {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}
أو يكون المراد الإنسان ذريته، خلقوا من سلالة وهي المني المستل من الأصلاب لكن أصل تلك السلالة من طين باعتبار آدم {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} يعني الإنسان غير آدم {نُطْفَة} وهو المني {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وهو الرحم {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الآية.
وقوله: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّة مِّن مَّاء} {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} قد سبق وجه المراد منهما. فحصل من ذلك: أنه لا تناقض في هذه الآيات ولا كذب.
وأما قوله "هذا تناقض، والكذب لازم في إحدى القضيتين" فهذا قول من لا يعلم ما التناقض ولا ما الكذب؟ فإن التناقض هو تقابل القضيتين بالسلب والإيجاب مع اتفاقهما في الجزء والكل والقوة والفعل والشرط والزمان والمكان والإضافة؛ ومتى اختل شيء من ذلك أمكن الجمع ولم يلزم التناقض. وأين اتفاق هذه الآيات كلها في هذه الأمور؟ والله أعلم.
قال: "وفي سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}".
وذكر ما حكاه ابن عطية وغيره في التفسير من أن النبي عليه السلام كان يتمنى أن يتبعه قومه ويؤثر هدايتهم، فلكثرة تمنيه ذلك ألقى الشيطان على لسانه في تلاوة سورة النجم حين قال: {ومناة الثالثة الأخرى}: "تلك الغرانيق العلى، إن شفاعتهم لترتجى" ففرح المشركون وقالوا: قد ذكر آلهتنا بخير، فلانوا له وكفوا عن أذاه وأذى أصحابه، فاتصل بمهاجرة الحبشة - الهجرة الأولى - أن قريشا أسلمت، فجاءوا فوجدوا ما ألقاه الشيطان قد نسخ وعادت قريش إلى غلظتها وشقاقها، فعاد الذين جاءوا من الحبشة إليها. وذلك سبب الهجرة الثانية.
ولما علم النبي ﷺ أن ما كان قاله من مدح الأصنام من إلقاء الشطان اغتم لذلك، فأنزل الله سبحانه تسلية له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية.
قال: "فتضمنت هذه القصة باطلين:
أحدهما: الافتراء على الرسل في وصفهم بهذه المثلبة من أن الشيطان تلبس عليهم في وحي الله سبحانه بما يقع به الغواية والإضلال للناس، وحاشا الأنبياء من أن يكون للشيطان عليهم سلطان، خصوصا في تخليط الوحي عليهم.
والثاني: إخباره بأن للأصنام شفاعة، ومدحها بذلك"
ثم ذكر حديثا زعم أن البخاري ذكره في باب العيدين ولم أجده فيه - فلعله قلد في نقله غيره. لكن الحديث صحيح في الشريعة، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "إن الشيطان عرض لي في الصلاة ليقطعها علي، فأمكنني الله منه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى يصبحوا فينظروا إليه. فذكرت قول سليمان: {رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}.
قال: "فمن له هذا السلطان على الشيطان، كيف يتسلط عليه الشيطان فيعبث به هذا العبث ويخلط عليه الوحي؟" قال: "وقد تضمن الحديث أن الشيطان متجسم. لقوله هممت أن أربطه إلى سارية، وهذا باطل لأن الشيطان بسائط مجردة عن المادة كالملائكة والنفوس. وهذا قول الأنبياء والفلاسفة".
هذا ما ذكره في هذا السؤال.
والجواب عنه: أما قصة إلقاء الشيطان على لسانه، ما ذكر في سورة النجم، فقد استفاض نقلها بين الأمة، ورواها الثقات. ويدل على صحتها ما رواه البخاري والترمذي وصححه عن عكرمة عن ابن عباس: "سجد الرسول ﷺ في سورة النجم فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس".
قلت: فسجود المشركين كان السبب المذكور لأنهم ظنوا أنه قد وافقهم بمدحه آلهتهم وصار الدين واحدًا، أو أنهم سجدوا لآلهتهم إعظاما لما سمعوا من مدحها.
وأما الجن فلعلهم جاءوا يستمعون القرآن كما حكى عنهم فيه.
ولا محذور في هذه القضية بوجه من الوجوه، لأن الأنبياء في الحقيقة بشر يجرى عليهم الخطأ والنسيان ويتطرق عليهم الشيطان.
وقد اختلف العلماء في أنهم معصومون من المعاصي مطلقا أو من الكبائر فقط أو منها عمدًا أو من الصغائر كذلك. وجوز بعض الناس عليهم الكفر بناء على أن مطلق المعصية جائز عليهم وهو كفر، في خلاف كبير، لكن اتفقوا على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الوحي بحيث لا يلحقهم فيه خطأ، وإن لحقهم فيه خطأ بسهو منهم أو تلبيس من شيطان إنسي أو جني نبهوا عليه ولم يقروا عليه. وهكذا جرى في هذه القصة، وأخبر الله أنه يحكم آياته وينسخ ما يلقي الشيطان.
وأما تشنيعه بقوله "حاشى الله ومعاذ الله أن يتسلط الشيطان على الأنبياء بمثل هذا" فلعمري إن هذا ليس غيرة منه على الأنبياء ولا تعظيما لهم. فإن اضطرابه في هذا الكتاب بين الفلسفة والشرع يدل على أنه محلول الرابطة بالكلية أو مذبذب لا إلى هذا ولا إلى هذا. ولكن عنادا للإسلام كما قيل:
وما من حبه يحنوا عليه ** ولكن بغض قوم آخرينا
ولعمري إن منصب الأنبياء محفوظ. ولكن هذا أمر جائز عليهم عقلًا. ولسنا نعطيهم ما ليس لهم ولا هم يرضون بذلك.
ولهذا قال نبينا ﷺ: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم" يعني حيث اتخذوه إلها. ولكل واحد رتبة لا يتجاوزها، فرفعه عنها إفراط ووضعه عنها تفريط.
أما جواز ذلك عليهم عقلا فلأنه لا يلزم منه محال لذاته ولا لغيره.
وأما جوازه شرعا فثبت في شرعنا: أن إبليس سلط على آدم فأخرجه من الجنة. وما ذكر في التوراة من أن الحية أغوته لا ينافي ذلك، لأن إبليس دخل في فم الحية إلى الجنة فأغواه.
وورد في الآثار: أن موسى لما ذهب لمناجاة ربه على الجبل كان إبليس يدور حوله، فقال له بعض ملائكة الرب: ويحك إبليس بم تطمع من موسى وهو في هذا المقام؟ قال: بم طمعت به من أبيه، حين أخرجته من الجنة.
وسلط على أيوب حتى أتلف جده وماله امتحانا من الله له بالصبر. وسلط بعض الشياطين على سليمان فأخذ خاتمه وألقاه في البحر بعد أن ألقى عليه شبه سليمان، فجلس على كرسيه أياما، وذلك تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}. وكان سليمان مسلطا على أصناف العالم.
وبهذا بحصل الجواب عما ذكره في سياق حديث البخاري.
وقوله فيما سيأتي من كلامه: "هذا من الخرافات التي جاء بها القرآن" دعوى مجردة عامة، مستنده فيها سكوت التوراة وكتب الأوائل عنها. وذلك في الحقيقة استدلال على نفي العلم الوجودي بالجهل العدمي، وهو قلة معرفة بالمناظرة.
وقد صح عندكم في الإنجيل: أن المسيح لما اعتمد من يوحنا المعمدان سلط عيه الشيطان امتحانا له، فقال له: "إن كنت محفوظا فألق نفسك أعلى هذا الهيكل. فقال له: مكتوب لا تمتحن ربك. وقال له: تسجد لي وأعطيك ممالك العالم كلها - وكانت قد رفعت له - فقال له يسوع: مكتوب اعبد ربك وحده". معنى القصة هذا. وإذا جاز أن يتعرض الشيطان للأنبياء ويسلمون منه، فما المانع من أن يتعرض لهم وينال منهم. بل هذا ألزم عليكم لأن المسيح عندكم هو الله أو ابن الله، وقد عارضه الشيطان حتى لقي منه شدة على ما أشار إليه الإنجيل أو صرح به. فالأنبياء لا يبعد أن ينال منهم، ثم يتداركهم الله بعصمته. وقد سحر نبينا محمدا ﷺ بعض شياطين اليهود حتى أثر ذلك في أفعاله، ثم شفاه الله من ذلك وأنزل عليه المعوذات.
وبالجملة. الأنبياء بشر، والبشر عرضة لهذه الآفات وغيرها، ثم يتدارك الله بعصمته من شاء. وإذا كان إلهكم المسيح سلط عليه شياطين اليهود الذين كيدهم دون كيد الشيطان الحقيقي بكثير، فصلبوه وأهانوه ودفن ثم بعث بعد ثلاثة أيام - على زعمكم - فكيف لا يتطرق على الأنبياء الذين هم دون رتبة الألوهية بكثير شيطان الجن الذي هو أقوى كيدًا من شياطين الإنس بكثير؟ هذا مما لا يحيله عاقل ولا عادل.
ثم نقول لهذا الخصم: ما نرى مثلك في تنزيهك للأنبياء عما ذكرت إلا ما حكي عن بعض النساء الخفرات أنها مرت على رجال فاستحيت منهم، فكشفت ثوبها عن استها حتى غطت وجهها، وكرجل قال لرسوله: إذا وصلت إلى فلان فسلم لي عليه وصك لي قفاه. فإنك تنزه الأنبياء عن أن يتعرض لهم الشيطان تعرضا مأمون العاقبة متداركا بالعصمة الإلهية، ثم إنك تصدق ما في التوراة من أن روبيل بن يعقوب وطئ سرية أبيه ونجس فراشه؛ وأن يهوذا وجد كنته زوجة ابنه على الطريق في صورة زانية، فزنا بها بجدي، ثم رهنها به خاتمه وعمامته وقضيبا كان في يده، ثم إن لما ظهر حملها أمر بحرقها فلما عرفته أن الحمل منه وأرته العلامة أمر بتركها؛ وأن عظيم ساليم قرية سجيم زنا ببنت يعقوب ثم خطبها، وأن ذلك أغضب إخوتها حتى خدعوهم باقتراح الختان عليهم، ثم دخلوا وهم مرضى من ألم الختان فقتلوهم وأخذوا أموالهم؛ وأن لوطا لما نجا من عذاب قومه أسقته ابنتاه الخمر ثم ضاجعتاه فوطئهما فأحبلهما. وهذا منصوص مصرح به في التوراة التي بأيديكم، وأنتم مع ذلك تحتجون علينا بما فيها. وهذه حكايات - والله - يتنزه سوقة الناس ورعاعهم وأراذلهم عنها، بل عما هو دونها، وأنتم تنسبونها إلى الأنبياء. فلعن الله من قال ذلك ومن يصدقه،
فما أسرع ما نسيتم العدل والإنصاف الذي أمركم به المسيح في الإنجيل. لقد أطعتموه في ذلك كما أطاعته اليهود حيث فعلوا به ما فعلوه من الإهانة والصلب، فعليكم جميعا من الله ما تستحقونه.
فإن صدقت بما في التوراة من هذا الهذيان فيكفيك ذلك جهلا وحمقا وقلة عقل وسخافة رأي وزندقة حيث تنسبون الأنبياء المعصومين المعظمين إلى المكر والخداع والزنا بالأجانب وبالبنات وسراري الأباء. وإن لم تصدقوه، فكيف تحتجون علينا بكتب فيها مثل هذا الفشار؟
وقوله: "تضمنت هذه القصة باطلين. أحدهما نسبة الرسل إلى هذه المثلية والافتراء عليهم بذلك".
قلنا: قد بينا أن هذا لا غضاضة عليهم فيه، وليس هذا افتراء عليهم لأنه نبي معصوم مثلهم، وقد أخبر عنهم بما أوحي إليه.
وأما الباطل الثاني وهو إخباره بأن للأصنام شفاعة فليس ذلك من إخباره، وإنما الشيطان أخبر به على لسانه. وقد بينا أن لا محذور في ذلك، ثم نسخه الله. وإنما كان يتجه القدح أن لو لم ينسخ واستمر، لكنه لم يستمر بحمد الله.
وفسر بعض العلماء إلقاء الشيطان في أمنيته وعلى لسانه بأنه نطق ما نطق به مقارنا لنطقه فاشتبه صوته بصوته. وهو أولى ما يقال. وبهذا يلتغي المحذور بالأصالة جدا. ثم ننبه ههنا لدقيقة، وهي أن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} لا يقتضي أن كل رسول ونبي تمنى وألقى الشيطان في أمنيته، بل يقتضي أن من وجد منه التمني كما وجد منك {ألقى الشيطان في أمنيته} كما ألقى في أمنيتك، وذلك لأن الإلقاء وقع في جواب إذا الشرطية التي ينتفي مشروطها لانتفاء شرطه. فحيئذ نقول: قد يوجد التمني من بعض الأنبياء فيوجد الإلقاء من الشيطان وقد لا يوجد التمني فلا يوجد الإلقاء. هذا مقتضى الآية لفظا.
أما عقلًا فيقتضي أن كلهم تمنوا وكلهم ألقى في أمنيته، لأن الله سبحانه بعثهم رحمة للخلق، فمن المحال عادة أن نبيا يبعث إلى أمة ولا يتمنى رشادها وهداها واتباع ما جاء به من الحق وترك هواها.
وأما قوله في حديث البخاري: "من له هذا السلطان على الشيطان؟ كيف يعبث به الشيطان هذا العبث؟" فقد سبق جوابه عند ذكر عبث الشيطان بسليمان. ونزيد ههنا بأن نقول: هو وإن كان له على الشيطان هذا السلطان لكن يجوز أن يسلط عليه الشيطان بإذن الله لحكمة. وقد بين الله سبحانه الحكمة في ذلك حيث يقول: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}. يعني الكفار والمنافقين كانوا قد أيسوا من محمد أن يعبد آلهتم أو يسكت عن ذمها، وقد ضجر بعضهم وهمّ أن يدخل في الإسلام، فألقى الشيطان على لسانه مدح الأصنام ليظنوا أنهم منها على شيء فيتمسكوا بعبادتها وأن لها قدرًا عند محمد فيطمعون في إجابته إلى عبادتها أو الكف عنها، فأمسك من كان أراد الدخول في الإسلام عنه بهذا السبب، حتى مات كافرا، وظنوا أن رجوع محمد عن مدحها بعد إلقائه على لسانه عناد لها ورجوع عن الحق في أمرها. وهذه الآية من أكبر الأدلة على إثبات القدر. وسيأتي عند ذكر هذا الخصم له.
وأما قوله: "تضمن هذا الحديث أن الشيطان متجسم".
قلنا: نعم.
قوله: "هذا باطل لأن الشياطين بسائط مجردة عن المادة".
قلنا: "عن المادة العنصرية الكثيفة التي هي كمواد الآدميين؟ أو عن المادة مطلقا؟
الثاني ممنوع. والأول مسلم، فإن لهم مادة لطيفة، وكذا الملائكة. فإن الشياطين خلقوا من نار، والملائكة من نور، كما صح في السنة النبوية. ثم كيف يصح دعوى تجردهم عن المادة مطلقا، وقد ذكر في الأناجيل في نحو عشرين موضعا منها: أن المسيح كان يخرج الشياطين من الناس، وأن بعض الشياطين استغاث منه وقال: "ما لنا ولك يا مسيح ابن الله" وأنه أخرج الشاطين في بعض المرات إلى قطيع خنازير فأخذوها حتى رموها في البحر فغرقت، وأنه أخرج من "مريم المجدلية" سبع شياطين، ولذلك لازمت خدمته حتى مات، وكانت أول من رآه بعد قيامه من الأموات وبشرت به التلاميذ. فهل يصح عند عاقل أن يدخل في الحيوان ويخرج منه ويستغيث ويصوت إلا جسم؟
وأما قوله: إن هذا هو قول الأنبياء والفلاسفة. فهو كذب وافتراء على الطائفتين. أما على الأنبياء فلأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا يرون الملائكة أجساما. وقد صرح في التوراة أن "يعقوب" لما عاد من حوران إلى كنعان عرض له عند قرية بالق رجل فصارعه إلى أن أسفر الصبح، وقال له في آخر القصة: "أنت إسرائيل لأنك قاومت الملاك والرجل".
فنقول: هذا إما ملاك أو شيطان، وأيهما كان، بطلت دعوى هذا في أن ما ذكره مذهب الأنبياء.
لكني رأيت بعض النصارى قد تدمّغ وزعم أن المصارع ليعقوب هنا كان هو الله، وهذا رأي المجانين، وهو نظير قولهم إن المسيح هو الله. وبذاك استدل على هذا، يعني أن الله سبحانه لا يظهر للناس حتى يتأنس بهم ويظهر في مظاهرهم.
وأما على الفلاسفة فلأنهم يزعمون أن الملائكة قوى الأفلاك، والشياطين قوى النفوس الأمارة. والله أعلم.
قال: "ولقد نقل في أخباره عن ملك سليمان خرافات أفصح بها القرآن. من ذلك في سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} إلى قوله: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}".
وذكر كلاما يتعلق بتفسير ذلك عن ابن عطية حكاه عن ابن سلام وابن عباس وغيرهما.
ثم قال: "فانظر بعقلك أيها المسترشد إلى هذه الحكاية وما تحتوي عليه من الأمور التي لو كانت لسليمان أو بعضها لسبق ذكر ذلك في المصاحف لأنها من العجائب التي تتوفر الدواعي على نقلها. فعلم أن تلك خرافات موسوسة".
قلت: أما ما ذكره ابن عطية وغيره من المفسرين فلسنا بصدد الجواب عنه، لأنا لسنا على يقين من صحته، وهم ليسوا معصومين. وإنما نحن بصدد الجواب عن القرآن الكريم الصادر عن المعصوم على لسان المعصوم بواسطة المعصوم.
والجواب: إن ما ذكر في سورة النمل وغيرها من سور القرآن من الحكايات والقصص والعجائب ممكن أخبر به الصادق، وكل ممكن أخبر به الصادق فهو حق واقع. فما ذكر في سورة النمل وغيرها حق واقع.
أما إمكانه فلا نزاع فيه من سمعه من العقلاء. إذ الممكن ما لا يلزم من فرض وقوعه محال.
وأما كون الذي أخبر به صادق فلوجوه:
أحدها: ظهور المعجزات الخوارق على يديه. وسنذكرها وبرهان إثباتها فيما بعد عند قدحك في القرآن في شرط المعجز.
الثاني: ما اشتهر من أن قريشا ما كانت تسميه منذ كان صبيا حتى ادعى النبوة إلا الأمين، وإنما كذبوه فيما بعد ذلك، لكونه أخبرهم بحقائق إلهية لم تدركها عقولهم. وذلك جهل منهم بأحكام الشرائع. وأنت قد قدمت عند بيان ضرورة النبوة: أن العقل لا يستقل بمعرفة الحقائق الإلهية، بدون تأييد إلهي، وكتكذيب اليهود للمسيح، وكان صادقا.
الثالث: الطريق التي استدل بها "هرقل" ملك الروم على صحة نبوته. وأنا أسردها بكمالها تكميلًا لفائدتها:
قال البخاري: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام، في المدة التي كان رسول الله ﷺ ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعى بالترجمان. فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا. قال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا على كذبا لكذبت عنه. ثم كان أول من سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها؛ وسألتك هل أحد منكم قال هذا القول، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله؛ وسألتك هل كان من آبائه ملك، فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب ملك أبيه؛ وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله؛ وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل؛ وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم؛ وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب؛ وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر؛ وسألتك بم يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف؛ فإن كان ما يقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدمه.
قلت: فهذا حديث صحيح ثابت بإجماع المسلمين، ويستحيل عادة اختلاق مثله. ثم لو سلم أنه مختلق، لكن هذه القضايا التي فيه مشهورة، مثل أنه لم يكن في قومه نبي ولا ملك، وأنه غير كاذب ولا غادر ونحوها.
ووجه الاستدلال منها ظاهر جدًا، فلو وفق النصارى كلهم لما وفق له هذا الملك لأفلحوا كل الفلاح. ثم مقصودنا منه: استدلاله على صدقه بقوله: "لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله".
وهكذا النجاشي ملك الحبشة لما سمع ما أنزل على محمد في سورة مريم من صفة المسيح حيث يقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} الآيات قال: "ما عدا المسيح ما قال هذه" يعني عوده في يده، وبكى في حديث طويل، وهو حديث أم سلمة عند هجرتهم إلى الحبشة. وفيه وفي أصحابه أنزل الله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إلى قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}.
فهؤلاء ملوك النصارى يعترفون بالحق ويصيرون إليه، فلا عبرة بقدح حثالتهم ورعاعهم.
وإنما قلنا: إن كل ممكن أخبر به الصادق فهو حق واقع لوجهين:
أحدهما: أنه لو لم يكن كذلك لم يكن لأحد وثوق بإخبارات الله ورسله، وليس كذلك.
الثاني: لو لم يكن كذلك لم يكن المخبر صادقا. لكنا فرضناه صادقا. هذا خلف.
وأما قوله: "لو كانت هذه الأمور لسليمان ذكرها في المصاحف" فجوابه سبق في غير موضع. وهو أن هذا استدلال على الوجود المحض بالعدم المحض، وهو جهالة. وكم من واقعة عظيمة وغيرها قد وقعت في ملك الله لم تذكر في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن. وقد قال الله سبحانه لمحمد عليه السلام في القرآن: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقال لليهود لما سألوه عن الروح: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
قال: "وفي سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} وفي سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} الآيات".
وذكر ما ذكره ابن عطية وغيره في تفسير هذا من رمي مسترقي السمع لمبعثه ﷺ وأنهم تفرقوا ينظرون ما السبب؟ فوجدوا النبي عليه السلام يقرأ فعلموا أنه سبب منعهم. وذكر حديث مسلم من رواية ابن مسعود قال: فقدنا النبي ﷺ ذات ليلة فقلنا: اغتيل أو استطير، فلما كان الصبح إذا هو يجيء من قبل حراء، فقال: إنه "أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن" قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. قال الشعبي: سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" قال: "فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن" ورواه أحمد.
قال: "وقد تقدم العلم بأن الشياطين بسائط مجردة عن المادة، فكيف تصطلي بالنار وتركب الدواب وتغتذي بنخر العظام؟ إن وافقك عقلك على أن هذا حق فتزحزح عن الآدميين والحق بالبهائم".
قلت: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أنا قد بينا فيما تقدم أن الشياطين ليست مجردة عن المادة مطلقا، بل إن صح أن لها تجردا عن المادة فعن الكيفية، وحينئذ يجوز أن يرد عليها هذه الأفعال بحسب مادتها. ودلالة الإنجيل قاطعة في نحو عشرين موضعا منه على عدم تجردها. كما سبق.
الثاني: أن الباري - سبحانه وتعالى - إن قلتم ليس مجردًا عن المادة، فقد جعلتم الملائكة والشياطين أكمل منه، وإن جردتموه عن المادة فقد جوزتم بالشبه بالإنس حتى يمازجهم ويظهر في مظاهرهم كظهوره في ناسوت المسيح حتى صار يأكل ويشرب ويتغوط ويقتل ويصلب ويركب الحمار ويشرب الخمر ويحيي العظام النخرة فيجعلها أوفر ما كانت لحما ويصلي ويتعبد، فجواز ذلك على الجن الذين هم بعض خلق الله سبحانه بقدرته عليهم وتصرفه فيهم أولى، وحينئذ لا يمتنع أن الجن إذا أرادوا الطعام خلق الله لهم على ما وجدوه من العظام لحما يأكلونه وإن كنا نحن لا نرى ذلك، إذ لا حاجة بنا إليه فلا يوجد اللحم عليها حين نراها.
فإن قيل: المسيح كان يفعل ما ذكرتم من الأفعال بناسوته لا لاهوته.
قلنا: هذا باطل. فإنكم صرحتم بأن المسيح هو مجموع اللاهوت والناسوت وأن المسيح هو الله وأنه إنما ظهر ذلك المظهر بطريق التأنس بالإنس والانتقال من حال إلى حال. كذا قرره "ابن الأمثل" مطران حمص منكم، بنحو عشرين حجة من التوراة والإنجيل، منها أن الله سبحانه ظهر ليعقوب حين قدومه من عند خاله فصارعه إلى الصبح. وهذه من جملة الحجج عليكم.
الثالث: أن هذا وأمثاله من الحقائق الإلهية التي لا يستقل العقل بدركها، فيجب علينا تسلمها عن الشرائع. وإنما ينكر هذا فيلسوف لم ترض نفسه في علوم الشرائع.
على أنى أراك أيها الخصم مذبذبا، تارة فيسلوفا صلفا وتارة مشرعا جلفا. فأراك كما قال بعضهم لامرأته:
إنى رأيتك في الهوى ذواقة ** لا تصبرين على طعام واحد
قال: "وانظر أيضا إلى قوله في سورة الرحمن يصف نساء الجنة، الحور العين: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}" قال ابن عطية في التفسير: "قال مجاهد: الجن قد يجامع نساء الإنس مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فنفى في هذه الآية جميع المجامعات. قال ضمرة بن حبيب: "الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف" يعني النساء من الجن، فنفى في هذه الآية الافتضاض بالبشريات والجنيات".
قلت: وهكذا وجدت كلامه، وهو مخبط لا يظهر منه وجه الإشكال.
لكنا نقول: أما قول مجاهد وضمرة بن حبيب فلسنا منه في شيء ولا يرد علينا لو عارض غيره. وأما معنى الآية فهو: أن لمن خاف مقام ربه في الجنة نساء أبكارا لم يفتضضهن قبلهم أحد إنسي ولا جني. ثم تلك النساء يجوز أن يكن نساءهم في الدنيا يعدن أبكارا، كما قال تعالى: {كمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعِيدُهُ} ويجوز أن يكون منشئات من الجنة.
ودْكر حديث: "إذا أذن بالصلاة أدبر الشيطان له ضراطا" الحديث. وحديث: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ويشرب بيمينه، فإن الشيطان يكل بشماله ويشرب بشماله".
قال: "وهذا كله تصريح باعتداء الشياطين وجماعها".
قلت: هذا كله إشكال يورده بناء على ما قرره من أن الشياطين بسائط مجردة عن المادة ولا يتأتى منها ذلك.
قلت: وكانه يورد تناقضا آخر بين قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} وبين قول مجاهد: "الجن قد يجامع نساء البشر" وقول ضمرة بن حبيب: "الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف".
قلت: وجوابه من وجهين:
أحدهما: منع التناقض بما بيناه من أن المراد بالآية أن كلا من أهل الجنة له زوجات أبكار، لم يطمثهن قبله غيره. وهذا لا ينفي أن الجن يجامعون نساءهم أو نساء غيرهم في الدنيا أو في الآخرة.
الثاني: أن التناقض بين قول الله سبحانه وأقوال المفسرين لا يلزمنا. لأن الخلاف بينهم كثير. فإن التزمنا ذلك طال علينا. ولأنهم ليسوا معصومين فيجوز أن يخطئوا.
قال: "وفي البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي قال: «إذا استيفظ أحدكم من نومه، فليستنثر ثلاثا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه» وفيه: «لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس وغروبها، فإنها تطلع بين قرني الشيطان»".
قلت: وجه سؤاله من هذا ما قدمه من أن الشيطان بسيط مجرد عن المادة فكيف يبيت على خيشوم الآدمي، وذلك يستدعي أن يكون جسما. وكيف يكون له قرنان، وأيضا الشمس مثل الأرض مرارا كثيرة فكيف تطلع بين قرني شيطان.
والجواب: قد تكلمنا قبل على بساطة الشيطان وتجرده عن المادة، ومنعناه مطلقا. بل هو تجرد مقيد - كما سبق.
وحينئذ يصح منه المبيت على خيشوم الآدمي وأم رأسه، ليزين له النوم ويثقله فيه، كي لا يستيقظ بالليل فيصلي. كما ذكر في حديث آخر: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد، فكلما أراد أن يتيقظ قال له: نم، عليك ليل طويل. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة. وإن توضأ انحلت عقده، وإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا. وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".
وهذا من الأسرار الإلهية التي اعترف الخصم في أول كتابه بأن العقول لا تستقل بدركها.
وقد ذكر في الإنجيل: أن المسيح بعد قيامه من الأموات صار روحا مجردًا يظهر لمن شاء ويختفي عمن شاء. فكذلك الملائكة والشياطين في ظهورها واستخفائها.
وأما قوله: "تطلع بين قرني الشيطان" فقال بعض أهل العلم بغريب الحديث: أي ناحيتي رأسه وجانبيه.
قلت: وهذا لا ينافي عظمها في نفسها، كما تقول خرجت بين الجبلين والجدارين، كما سبق في قوله "تغرب في عين حمئة" ومعناه: أن الشيطان يقارنها على جهة المسامتة، لا الملاصقة، كما تقارن بعض الكواكب السبعة بعضا وإن كانت في أفلاكها متباعدة المراكز والذوات، ليزين للكفار السجود لها.
وقال بعضهم: القرن: القوة. أي حين تطلع يتحرك الشيطان ويتسلط فيكون كالمعين لها.
وقيل: بين قرنيه أي أمتيه الأولين والآخرين من الساجدين لها المطيعين له في ذلك، أي أن عادة الكفار مستمرة في عبادة الشمس عنه طلوعها أو غروبها، فلا تصلوا حيئذ لئلا يصير فيكم شبه منهم. وهو عليه السلام من شرعه بغض الكفار والتشبه بهم جدًا، حتى أنه يحسم مواد ذلك بكل ممكن كما كره في شرعة الصلاة إلى محراب فيه نار تتقد لئلا يشبه فعل المجوس، وأن لا يشد وسطه في الصلاة بما يشبه شد الزنار، لئلا يشبه فعل النصارى، ولا يتعمم غير مذوب لئلا يشبه عمامة اليهود. وأشباه ذلك كثير.
قال بعضهم: وكل هذا تمثيل لمن يسجد للشمس عند طلوعها، فكأن الشيطان مقترن بها يسول له ذلك.
قلت: ومثل هذه الإشارات كثيرة في كلام العرب خصوصا في كلام هذا النبي، فإنه كان أفصح العرب وأبلغها. فليس ينبغي لعلوج النصارى وأعاجمهم أن يناقشوه في ظواهر العبادات حتى يعلموا لغته فيكونوا مثله فيها. والله أعلم.
قال: "وفي كتاب مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن» قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»".
قلت: ومن سبب هذا الحديث ما رواه الترمذي من حديث مخالد عن الشعبي عن جابر عن النبي ﷺ قال: "لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم. وقالوا: ومنك؟ قال: ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم". والمغيبات: اللاتي غاب عنهن أزواجهن. وفي لفظ مسلم: "لا يبيتن أحد عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذو رحم محرم".
قلت: ومستنده في إنكار هذا ما قدمه من أن الشيطان بسيط مجرد عن المادة فلا يوصف بأنه يجري مجرى الدم من ابن آدم لأن ذلك يوجب جسميته. ونحن قد منعنا ذلك عليه في موضعه، وبينا قواطع الإنجيل في جسمية الشيطان، لكنها أجسام لطيفة للطافة مادتها، وبذلك يصح عليها أن تجري من ابن آدم مجرى الدم وغيره، كالأرواح والرياح، فإنه قد قال بعض أهل العلم: "إن الروح جسم لطيف سار في هذا الهيكل الكثيف على شكله، والهوى يتخرق نواحي البدن، حتى قال بعضهم: الروح هو الهواء المتردد في مخاريق البدن. على أنه يجوز أن يكون أراد بالشيطان هنا النفس الأمارة أو الهوى، لأن هذين يوافقان الشيطان على ما يريده. وإذا اتجه ما قلناه واحتمل ما عليه حملناه لم يبق للاعتراض به وجه.
وروى عبد الرزاق في تفسيره قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} قال: "قرينه الشيطان".
قال: "وفي سورة غافر يصف الملائكة حيث يقول: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}.
قال ابن عطية في التفسير: روى جابر بن عبد الله أن النبي قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش من شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة".
قلت: إن كان إنكاره من هذا للإخبار بالعرش أو لحملته أو لاستغفارهم للمؤمنين، فهذا من الأسرار الإلهية التي لا يستقل العقل بدركها، كما سبق في المقدمة، فيجب تسلمها عن أهل الشرائع، كما تلقيتم عن المسيح أنه بعد بعثه من الأموات صعد فجلس عن يمين أبيه، وأنه يأتي يوم القيامة في مجد أبيه على السحاب وحوله الملائكة.
وإن كان إنكاره لعظم خلقة هذا الملك المذكور فنقول له:
أولا: إن هذا حديث لم نعرفه إلا في كتاب العظمة لأبي جعفر بن حيان، وليس مثله مما تصادم به الشريعة.
وثانيا: إن هذا أمر ممكن قد أضيف إلى قدرة الله، وأخبر به الصادق، فما ينكر من وقوعه؟ ثم إن الجبال والبحار، بل كرة الأرض، بل كرة العالم جميعه بأفلاكه ونجومه خلق عظيم من خلق الله، فلا فرق بينه وبين هذا الملك إلا الشكل والحياة.
على أن الفلاسفة يرون الأفلاك ونجومها أحياء ناطقة متحركة بالإرادة، فلا فرق إذن بينهما وبين الملك المذكور، وهذه مشاهدة لكل بصير مستبصر، فما وجه إحالة مثل هذا حتى يقدح به في كلام الأنبياء.
قال: "وفي سورة القصص: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} - يعني الله سبحانه - فجعل الفناء شاملا لما سوى الله تعالى من الملائكة والنفوس".
قلت: كأن وجه إيراده أن الملائكة والنفوس مجردات عن المادة لا يتصور فناؤها بناء على ما تقدم من ذلك. وقد سبق جوابه، وهو أن الهلاك ممكن في الجميع، ثم ينشئه الله تعالى كما أخبر.
ثانيا. أو نقول: ليس المراد بالهلاك العدم المحض، بل هلاك هذه الهيئة التركيبية، كما أن الوعاء من زجاج أو ذهب إذا انكسر فقد هلكت وعائيته لا زجاجيته وذهبيته. وهذان قولان مشهوران للمتكلمين، وهو أن الأجساد تعدم عدما محضا ونفيا صرفا أو تتفرق مع بقاء أجزائها المفردة. والمسألة مبنية على مسألة الجوهر الفرد، وهو الجزء الذي لا يتجزأ، وهي مشهورة بين الفلاسفة والمتكلمين.
قال: "وفي أول سورة فاطر: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}".
قلت: كأنه ينكر الأجنحة للملائكة لاستلزامها الجسمية بناء على ما سبق من تجردها عن المادة. وقد سبق جوابه كافيا. وقد دفع الله سبحانه هذه الشبهة بقوله متصلًا بالكلام المذكور: {يَزِيدُ في الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي لا تستغربوا ملكا له جماعة أجنحة فإن لله التصرف والقدرة على ما يشاء.
قال: "وفي سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}" وذكر قول ابن عطية عن السدي: "استثنى جبريل وميكائيل وملك الموت، ثم أماتهم بعد".
قال: "فصرح في هذه المواضع: أن الملائكة مجسمة وأن لها أجنحة، وهي كما يبرهن عند العلماء عقول بسيطة مجردة. والموت عند مفارقة الروح الجسد، ولا أجساد للملائكة".
قلت: جواب هدا كله سبق عند أول مكان ادعى تجرد الملائكة والشياطين عن المادة. وبينا أن ذلك لا مذهب الأنبياء ولا الفلاسفة.
ثم يقال له: التجرد عن المادة إن كان صفة نقص وجب تنزيه الملائكة عنها لأنهم أولى بالكمال فيلزم أن يكونوا ذوي مادة، وإن كان صفة كمال، فالله سبحانه إن لم يكن متجردًا عن المادة فقد جعلتم الملائكة أكمل منه، وإن كان متجردًا عن المادة فقد جورتم عليه التلبس بالمادة حيث اعتقدتم اتحاد لاهوته بناسوت المسيح، أو جعلتم الثلاثة واحدًا. وقد سبق جميع هذا. وإنما أعدناه بيانا.
قال: "ومما روى عنه من أوصاف الله سبحانه".
وذكر حديث "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا" وحديث جهنم: "فيضع الرب قدمه فيها فتقول: قط" وحديث: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة" وحديث المعراج "فدنا رب العزة حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى" وحديث "رأيت ربي في أحسن صورة، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله." وحديث أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت النبي يذكر أنه رأى ربه في صورة شاب موقر في خضر على رأسه فراش من ذهب وفي رجليه نعلان من ذهب".
قال: "فتقرر بهذا كله أن الله جسم، وهذا مخالف للعقل ولمصاحف الأنبياء. ويمتنع أن يكون الله سبحانه جسما لوجهين:
أحدهما: لو كان جسما لكانت جملته معلولا لأجزائه ومفتقرة إليها، وما علل بغيره جاز عدمه عند عدم علته، وواجب الوجود هو ما لا يعدم لعدم غيره، بل لعدم ذاته.
الثانية: أن الجسم مركب من الصورة والهيولى، فينعدم بانعدام كل منهما. والواجب لا ينعدم لانعدام غيره. كما سبق.
وأما بيان ذلك في كتب الأنبياء، فإن في الإنجيل: الله روح".
قلت: هذا حاصل ما ذكر في هذا السؤال وقدر به، ولعمري إن هذا مما لا يقتضي منه العجب من هذا الشخص؛ فإن التوراة والإنجيل مملؤان من التجسيم. فإن في أول التوراة: "وكانت روح الله ترف على الماء" والروح فيما نشاهده جسم، والحجج على جسميتها كثيرة، لكن نكتفي منها بحجة طبيعية ذكرها الأطباء، وهو اضطراب الصدر وحركته لها عند النزع.
فإن قال: إن روح الله ليست جسما، وإن كانت روح غيره جسما؛
قلنا: فقد أجبت عنا. كذلك كل ما حكي في دين الإسلام من صفات الله تعالى ليست على المتعارف من صفات الآدميين. ويسقط هذا التشنيع خصوصا وقد ذكرت أنت في بيان ضرورة النبوة عن "أرسطو" وغيره ما ذكرت من أن الحقائق الإلهية لا بد فيها من التوقيف الشرعي.
وفي التوراة: "قال الله: نخلق بشرا على صورتنا كشبهنا وأسلطه على سمك البحار وطير السماء" إلى أن قال: "وخلق الله آدم بصورته، صورة الله، خلقه ذكرًا وأنثى، خلقهما الله وبارك عليهما".
وفيها: أن آدم وامرأته "سمعا صوت الرب يمشى في الفردوس فاستترا من بين يدي الرب بين شجر الفردوس، وقال الله لآدم: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك تمشي في الفردوس ورأيت أني عريان فاستترت، فقال الله الرب: ومن أراك أنك عريان؟ لعلك أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها".
وهذا فيه تشانيع. منها: وصفه بالمشي حتى يسمع صوت مشيه في الفردوس وهو من خواص الأجسام، وأصعب من النزول المذكور في السنة الإسلامية.
ومنها: قوله: "من أراك أنك عريان؟ لعلك أكلت من الشجرة" فإن ذلك ظاهر في أن الله سبحانه لم يعلم أين هو؟ ولا هل أكل من الشجرة أو لا حتى أعلمه آدم.
وفيها: "وأكمل الله أعماله في اليوم السادس، واستراح في اليوم السابع". والاستراحة من لواحق الأجسام. وهذا في التوراة كثير.
وأما في الإنجيل فقولكم: لما اعتمد المسيح من يوحنا العمدان، ثم صعد من الماء، جاءه روح القدس في جسد حمامة بين السماء والأرض وسمع قائلًا يقول: "هذا ابني الحبيب الذي به سررت".
ثم إنكم تقولون: "الأب والابن وروح القدس إله واحد"، وهذا مستلزم للجسمية لوجهين:
أحدهما: أن الصوت لا يتصور عقلًا وحسا إلا من جسم إذ هو عرض لا يقوم بنفسه.
والثاني: أن الأب والابن والروح في هذه الحال - أعني صعود المسيح من الماء - بعضهم منفصل عن بعض حسا وحقيقة، وإنكاره مكابرة. فإن كان ذلك بعد اتحاد الروح والمسيح بالله فقد انفصل عنه جسمان، فيكون هو جسما لأن بعض الجسم جسم، وإن كان قبل الاتحاد، وأن اتحادهم حدث بعد ذلك، فقد اتحد بذات الله جسمان: جسد الحمامة الذي هو الروح، وجسد الابن الذي هو المسيح، ولا يتحد بالجسم إلا جسم. هذا على قول من يقول منكم: إن المسيح ابن الله.
أما من يقول: هو الله، فالأمر فيه واضح.
وقرر ذلك "ابن الأمثل" مطران حمص بأن قال: "إن الله لا يمكن ظهوره إلى العالم حتى يتأنس وبتحد بهم، وله مظاهر يظهر فيها، كما ظهر في حقيقة كبش فدى به ولده، وليعقوب في حقيقة رجل فصارعه، فكذلك ظهر في حقيقة المسيح".
وفي الفصل الخامس من إنجيل متى: "لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي اللُّه، ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه". وفي السادس والخمسين منه: "من حلف بالسماء فهو يحلف بكرسي الله والجالس عليه"
فوصفه بالقدمين والوطء بهما وبالجلوس على الكرسي، وذلك من خواص الأجسام. وإن لم يكن هذا تجسيما، فما في الوجود تجسيم أصلًا. وإذا كان هذا مضمون كتبكم المعتمدة وتقرير أئمتكم وفضلائكم، فكيف تنكرون علينا ما هو دونه في ذلك بكثير. وعذرنا فيه أوسع من عذركم على ما سيأتي. ولكن في المثل: "رمتني بدائها وانسلت" وفي الشعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
وأما الأحاديث التي ذكرت فصحيحة ثابتة إلا حديث أم الطفيل فإنه حديث موضوع لا أصل له. حكم بذلك أئمة الحديث. ثم لو صح لكان محمولا على رؤية المنام، كحديث "رأيت ربي في أحسن صورة"، فإنه كان مناما باتفاق علماء المسلمين. صرح الترمذي وغيره بأنه كان مناما.
وأما حديث النزول والقدم والساق وغيرها من أحاديث الصفات فلطوائف المسلمين فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: اعتقاد مفهومها المشاهد منها. وهو قول المجسمة، وهم عندنا في ذلك كالنصارى واليهود في ذاك.
والثاني: تأويلها على ما يصح في الشاهد، ولو كان بعيدًا، كالنزول على نزول العلم أو الرحمة أو نزول ملك ينادي أو فعل من أفعال الله، والقدم على قوم يقدمهم إلى النار، والساق على شدة الأمر وكرب المحشر، ودنو الله سبحانه على تعطفه ورفقه بعبده ونحو ذلك، وهو مذهب الأشعرية والمعتزلة ونحوهم.
والثالث: اعتقاد ما يليق بجلال الله سبحانه منها، مع القطع بتنزيه الله سبحانه عِن مشابهة مخلوقاته أو بعضها بوجه من الوجوه، اعتمادا على قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأول الآية تنزيه، والثاني إثبات. فهو أولى من الإثبات المفضي إلى التمثيل، والتنزيه المفضي إلى التعطيل. وهذا هو الذي أقول به. ولي أن ألتزم القول قبله في هذا المقام، لأني وهذا الخصم نبحث في دينين متقابلين، لا في مذهبي دين واحد. على أني أي القولين التزمت لا يلزمني من قبح التجسيم ما لزمك.
وأما ما ذكرت من الحجتين على نفي الجسمية فقد سبقك إليه الفلاسفة والمتكلمون.
وقد قرر المسلمون في ذلك براهين كثيرة، فلم تأت أنت بغريبة ولا بشيء نازعناك فيه، بل نحن أحق به منك، فإنا نحن يمكننا الجمع بينه وبين ما عندنا من آيات الصفات وأخبارها بما قدمناه من القولين المختارين. وأنت لا يمكنك الجمع بينه وبين أن المسيح هو الله أو القول بالثالوث إن كنت نصرانيا حقا. وإن كنت فيلسوفا فما لك ولمذهب النصارى، تكلم في رأي أرسطو ونحوه.
ودع عنك الشرائع لست منها ** ولو غبرت وجهك بالتراب
فإنك رجل مذبذب بين الرأيين، كالشاة العائرة بين الغنمين.
وأما قوله: "إن هذا مخالف للعقل، ولمصاحف الأنبياء".
فإن أراد أن المخالف لذلك كون الله جسما فهو صحيح ونحن نقول به. وإن أراد وصف الله سبحانه بنحو النزول والقدم والساق فباطل من الأنبياء. فإن في أول الأصحاح الخامس عشر من كتاب أشعياء: "هذا اسم الرب جائي من بعيد، يشتعل غضبه، ووجنه ماجد، وشفتاه ممتلئتان غضبا، ولسانه كالنار المتقدة، وروحه كالوادي الذي يجر كلما تمر به تقطع بغضبه إلى العنق ليزجر الشعوب".
فإن قلت: هذه صفات اسم الرب، لا صفات الرب.
قلت: الاسم إن كان هو المسمى فهذه صفات الرب بلا شك، وإن كان غيره فالاسم معلوم الحقيقة، وهو لا يتصف بهذه الصفات، ويجب رجوعها إلى الرب، ويكون ذكر الاسم صلة كقول القائل:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما **
وقول الآخر: تناديه باسم الماء، وهو كثير
وفي الأصحاح الثالث والعشرين منه: "اسمع قولي يا يعقوب وإسرائيل الذي دعوت: أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أصلحت أساس الأرض، ويميني بسطت السماء".
وفي الأصحاح التاسع عشر منه: "هذا الله الرب، يأتي بعزه وذراعه بقوة، ثوابه معه، وعمله بين يديه" إلى أن قال: "وشبَّر السماء بشبره، وكال تراب الأرض بكفه، ووزن الجبال بالثقال والآكام بالميزان".
وهذا كثير في كتب الأنبياء، لو تتبعته لطال. وهذه صفات ظاهرها المتعارف التجسيم. فجوابك عنها هو جوابنا عما ذكرت من الأقاويل.
قال: "ومن هذه الأوصاف الواردة في حق الله تعالى عنها ما جاء في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية. وفي سورة النساء: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} الآية. وفي الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}. وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وقال: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} والقرآن مصرح في مواضع كثيرة غير هذه بأن أفعال الخلق خيرها وشرها هي بإرادة الله وخلقه، لا بإرادة الخلق وفعلهم".
ثم ذكر أحاديث القدر من الصحيحين، وهي مشهورة. ثم قال: "فثبت بهذه الأحاديث ما ثبت بالآيات المذكورة آنفا: من أن الله سبحانه خالق جميع أفعال العباد من الخير والشر، كالقتل والكذب والربا وغير ذلك، وهو الذي يعاقب ويثيب. وهذا مذهب أهل سنة الإسلام. وحجتهم عليه ما أوردناه من الآيات والأحاديث. وإذا تبين لهم فساد هذا المذهب وشناعته، وأن هذا الذي يصفون به الله لا يوصف به إلا الشيطان لجأوا إلى التمسك بهذه الآية: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}".
قال: "والدليل على فساد هذا المذهب الحجة والتنزيل:
أما الحجة فمن وجهين:
أحدهما: ما تقرر في المعقول من أن مريد الخير خير، ومريد الشر شرير، ومريد العدل عادل، ومريد الظلم ظالم. فلو كان الله سبحانه مريدا للشر والظلم لكان موصوفا بالخيرية والشرية والعدل والظلم، وذلك محال وشنع في حق الله تعالى.
الوجه الثاني: أن كل من أمر بشيء فهو مريده، فيستحيل من الله تعالى أن يأمر عبده بالطاعة ثم لا يريدها. والجمع بين اقتضاء الطاعة وطلبها بالأمر بها وبين كراهة وقوعها جمع بين نقيضين. وذلك بمثابة الأمر بالشيء والنهي عنه في حالة واحدة".
هذا تلخيص حجته. ثم ذكر كلاما بعده يرجع إليه.
"وأما التنزيل: وهو الوجه الثاني - فقول الله في التوراة لقابيل: "إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت سيطلع على إساءتك لأنك مالك إرادتك، وأنت مسلط عليها بالاختيار". وقول داود النبي في الزبور: "روحي في يدي أبدًا" يعني تحت قدرتي. وقول سليمان: "إن الله صنع الإنسان مستقيما، وهو أدخل نفسه في مسائل غير متناهية" يعني بإرادته المخصوصة".
ثم شنع بأن ضرب مثلًا، وهو: "من أوثق إنسانا شدًا وكتافا، ثم ألقاه من جبل وقال له في حال هويه: إن لم تقف أو ترجع إلي، وإلا فعلت بك وفعلت؛ فهذا سفه وحمق وتكليف ما لا يطاق".
وحكى قول الزمخشري في الكشاف: "إن كان الله ينهى عن الذنب، ثم يلجئ إليه ويعاقب عليه، فأنا أول من يقول: إنه شيطان وليس بإله".
هذا تلخيص ما ذكره في هذا السؤال من غير إخلال.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا الخصم بصدد القدح في النبوة. وإيرادك هذا السؤال لا يحصل لك المقصود، لأنه ليس كل طوائف المسلمين يقولون بهذه المقالة.
فإن ناظرت في هذا معتزليا لخالفك في الإسلام ووافقك في القول بالقدر فانقطعت في هذا المقام. وأنا الذي قد تصديت لمناقضتك لو التزمت مذهب القدرية في هذا لساغ لي في حكم النظر، لأن البحث بين مسلم ونصراني، لا بين قدري وسني.
الوجة الثاني: أن هذه مسألة من فروع الشريعة تثبت بثبوت أصلها وتنتفي بانتفائه، فهي تابع لا مقصود، فيغنيك عنها القدح في أصل الدين إن يثبت لك. وإنما ذكرك لمسألة القدر في هذا المقام كمن يقدح في دين النصرانية بقبح التعميد وبناء المذبح وتقريب القربان، فإنك أنت كنت تقول له: تكلم فيما هو فوق هذا، ثم انزل إليه.
الوجة الثالث: أما الآيات والأحاديث فصحيحة. ونحن نقول بها على وجه نقرره، وهو أن المسلمين أجمعوا على أن القرآن حق وصدق، وأن بعضه يوافق بعضا، فما أوهم منه التعارض تلطفوا للجميع بينه بما أمكن من الأسباب الجائزة. ثم إنهم رأوا الآيات المتضمنة لأفعال العباد موهمة للتعارض. تارة تضاف الأفعال فيها إلى الله، نحو {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وأضله الله على علم} ونحوها.
وتارة تضاف إلى العباد نحو: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ونحوها. وهي من الطرفين كثيرة.
ففي هذا المقام انقسم المسلمون إلى ثلاث فرق، فرقة قالت بمقتضى القسم الأول وألغت الثاني وهم الجبرية. زعموا أن الله موجد أفعال خلقه استقلالا، والعباد في وقوعها على جوارحهم مضطرون إليها كاضطرار السعفة إلى الحركة في الريح العاصف، وسلبوهم الاختيار.
وفرقة قالت بمقتضى القسم الثاني وهم القدرية. زعموا أن العباد موجدون لأفعالهم استقلالا، وأن الله لا تعلق له بها بخلق ولا إرادة.
وفرقة توسطت الطرفين المنحرفين، وقالت بمقتضى القسمين. فنسبوا الأفعال إلى الله إرادة وخلقا، وإلى العباد اجتراحا وكسبا، وفسروا الكسب بأنه أثر القدرة القديمة في محل القدرة الحادثة، وساعدهم على ذلك ظواهر نصوص الكتاب والسنة من الطرفين.
وورد على كل واحدة من الفرقتين الأوليين ما قالت به الأخرى. فاحتاجت إلى تأويله والتعسف في تبطيله. فلزم الجبرية التجوير، والقدرية تعجيز القدير، والإشراك معه في آثار المقادير. ولهذا سموا مجوس الأمة، تشبيها بالمجوس القائلين بخالقين.
إذا عرفت هذا فنقول: إنا إذا اشتققنا اسم فاعل من فعل أو صفة، نحو شرير وظالم وضارب وقاتل، فتارة يراد به موجد ذلك الفعل وخالقه وعلة وجوده، وتارة يراد به كاسبه وسببه. فقولك: لو كان الله مريدا للشر والظلم لكان شريرا ظالما - إن عنيت بالشرير والظالم كاسب الشر ومسببه فلا نسلم، إنما ذاك الآدمي. وإن عنيت خالقه فهو صحيح، لكن يكون في إطلاق الشرير عليه إساءة أدب، إذ لم ترد الشرائع بإطلاق مثل هذا عليه.
والأشهر عندنا: أن أسماء الله توقيفية لا قياسية، وبهذا التفصيل يندفع ما ذكرته من المحال والتشنيع.
وأما قولك: "كل من أمر بشيء فهو مريد له، فممنوع. فإن هذا محل وهم ومزلة قدم. وذاك لأن الإرادة تستعمل تارة بمعنى الطلب وتارة بمعنى رجوح وجود الممكن في نفس المرجح. فالأول ترجيح طلبي بمعنى الأمر، والثاني ترجيح وجودي، وهو موضوع الإرادة في الأصل. وأحد الأمرين يشتبه بالآخر، لأن الأول أثر الثاني، فإنه إنما يصدر الطلب غالبا بعد رجحان الوجود في النفس. وحينئذ نقول: ما تعنى بقولك: "كل من أمر بشيء فهو مريد له، الإرادة الطلبية أو الوجود به؟ الأول مسلم، لكن هذا يصير كقولك كل آمر بشيء فهو أمر به، لأن الإنسان قد يقول لصاحبه أو لعبده: أطلب منك أو آمرك أن تفعل كذا، وأريد منك أن تفعل كذا بمعنى. والثاني ممنوع، فلا يصلح قولك: كل آمر بشيء فهو مريد له، أي مرجح لوجوده.
وقد ضرب الأصوليون لهذا مثلًا، وهو من أمر عبده بما لا يريده منه تمهيدا لعذره عند من لامه على ضربه. فإن هذا جائز عقلًا، وفيه حكمة مقصودة. فجاز أن يكون لله سبحانه في الأمر بالشيء وعدم إرادته حكمة، وإن لم ندركها.
وقد ذكر بقطينوس الحكيم - وهو من فضلاء النصارى وعلمائهم - من شأن الله سبحانه مع ملائكته ما إن صح صلح أن يكون حكمة لهذا. وقد أشرت إليه في التعليق على الإنجيل. ولا يسهل علي الآن ذكره.
وحينئذ لا يلزم التناقض بين اقتضاء الطاعة وطلبها وبين كراهة فعلها، لأن اقتصاءها خطابي وكراهتها نفسية. وقد يوجد هذا من البخلاء كثيرًا حيث يقول أحدهم لصاحبه: "ادن فكل معي" تجملا وهو يكره ذلك منه لآمة وبخلا. وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين الأمر بالشيء والنهي عنه. لأن الأمر والنهي خطابان محلهما اللسان، نحو افعل، لا تفعل. بخلاف الكراهة فإن محلها النفس، فلا تناقض الأمر.
وأما ما ذكر من نصوص كتب الأنبياء فحق نقول به. وقد ورد به شرعنا، فإن الإنسان له قدرة واختيار يكتسب بهما، لكنهما تابعان لقدرة الله واختياره، فهما ناقصان نقص التبعية. وكون الشيء ناقصا لا يقدح في وجود مسماه، إنما يقدح في تمامه وكماله.
وأما المثل الذي شنع به من ربط الشخص وإلقائه من جبل، ثم يقال له: ارجع وإلا عاقبتك؛ فليس نظير ما نحن فيه، لأن هذا إلجاء محض، وقسر صرف، وصاحبه جائر قاسط، وتعالى الله وحاشاه أن يفعل هذا. وإنما الله سبحانه لطيف لما يشاء، فتلطف على بلوغ مراده من شقاوة من أراد شقوته من خلقه على وجه لا يلجئهم إلى مراده، ولا يهملهم حتى يخرجوا من تحت قهره وقدرته، وسلط على عبده نفسا أمارة وهوى داعيا وشيطانا مزينا للشهوات، وفي مقابلة هذه روحا وعقلًا ودينا، فالقبيلان كجيشين يصطدمان على فعل الشر وتركه، ويترجح أحدهما بالتوفيق أو الخذلان.
ثم قطع حجته بأن قال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} يعني طريق الخير والشر، ليجتلب ويجتنب، فإذا أراد الله سبحانه شقاوة عبده خذله فيرجح جيش شيطانه، وإذا أراد إسعاده وفقه فيرجح جيش عقله، والتوفيق والخذلان للإنسان في مدة عمره كالخفير وقاطع الطريق في مسافة سفره، فكما أنك إذا استرشدك من لك به عناية عن طريق أريته جهته ثم سيرت معه غلامك أو سرت معه بنفسك، فخفرته فيها من أن يضل عنها أو يطأ فيها مهلكا أو يقع في مغارة حتى يقطعها إلى مقصده. وإن لم يكن لك به عناية، قلت له: هذا الطريق. ثم تركته بلا تخفير، فمر على عماه، فوقع على سبع فافترسه، أو لص فقتله، أو مهلك فتلف فيه، أو مفازة فمات عطشا. كذلك الله سبحانه إذا اعتنى بعبده جعل التوفيق له إلى الموت خفيرا، يمنعه من مفارقة الطاعات ومقارفة المعاصي، وإذا غضب عليه لم يصحبه التوفيق، وذلك هو خذلانه له، فقارف المعاصي وفارق الطاعات، فكان شقيا.
فحقيقة القدر إذا حققت وجدت عدمية، وهي كون الله سبحانه لا يتفضل على عبده بالتوفيق العاصم من الهلاك، وليس عليه سبحانه ذلك بناء على أصلنا في أنه لا يجب عليه رعاية الأصلح لخلقه، بل يتفضل به تفضلًا، فالله سبحانه لا يلجئ أحدًا إلى شر، لكن يخلي بينه وبين الشر.
وفرق بين أنك تترك تخفير رجل في الطريق فيقتل وبين أن تقطع عليه الطريق فتقتله، وبين أنك تراه يريد أن يلقي نفسه من جبل فلا تمنعه وبين أن تدفعه منه فيقع. فإن الأول ترك نفع، وهو عدم محض، والثاني فعل ضرر محض. ولهذا أجمع الفقهاء: على أن من أخذ شخصا فغطسه في الماء حتى اختنق يقاد به، وعلى أن من رأى إنسانا في الماء قد كاد أن يغرق وقدر على تخليصه فلم يخلصه حتى غرق، لا يقتل، لكن في ضمانه له بالدية خلاف. الأصح أيضا النفي. وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق.
وأصل هذه المسألة إذا حققت رعاية للأصلح.
وقد أشير في نبوءة أرمياء إلى حقيقة القدر، حيث يقول الرب سبحانه لعصاة بني إسرائيل: "كما لا يقدر الهندي أن يغير سواد جلده والنمر تبقيعه، كذلك أنتم لا تقدرون على الإحسان والخير، لأنكم قد تعودتم الشر".
وتقرير هذا: أن الباري سبحانه ركز في طباع العالم وجبلاتهم الميل إلى أفعالهم من خير وشر، كما ركز الإحراق في طبيعة النار، والإغراق في طبيعة الماء، وكما وضع السواد في الجسم والتبقيع في النمر والفهد والغراب الأبقع والسم في الحية والظلم والاستيلاء في طبع السبع، لكنه أجرى فعل تلك الطبائع على كسب أهلها. فعلى الكسب يترتب الجزاء، وعلى ركز الفعل في الطبع وتحريك الداعي له، وهو خلقه المنسوب إلى الله سبحانه، يترتب التسليم. والله بكل شيء عليم.
وقد استقصيت القول في مسألة القدر في كتاب مفرد سميته: "درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح" على وجه بليغ واضح لمن عقل الأسرار الإلهية. والله أعلم.
وأما ما حكى عن الزمخشري، فهو صحيح، لكنه أسرف في تغليط العبارة، فإنا ننزه الله تعالى عن أن يعاقب على فعل ألجأ إليه - كما بينا.
ثم نقول: إن الزمخشري رجل معتزلي غالٍ في الاعتزال، حرف القرآن عن مواضعه ليوافق مذهبه، واضطره ذلك - فيما حكى عنه السخاوي - حتى حمل قوله تعالى: "وَلا تُطِعْ منْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذكْرنا} على معنى: "أصبناه غافلا"، كما يقال: أجبنت الرجل وأبخلته إذا وجدته كذلك، وتشبث فيه بما لا حاصل له على ما بينته غير ههنا، وأضله الله على علم حتى نسي قوله: {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} الآية ونظائرها.
بقي ههنا سؤال إذا ضويق القدرية فزعوا إليه، وهو أن الله سبحانه وتعالى إذا خلق الفعل، فإما أن يمكن العبد تركه، أو لا، والأول تعجيز للرب حيث لم يتم مراده، والثاني إلجاء للعبد، إذ لا يعني بالإلجاء إلا اضطراره إلى الفعل على وجه لا يمكنه التخلص منه.
ونقول: إن الله سبحانه إنما يخلق أسباب الفعل ودواعيه الأولية. ثم حقيقة الفعل توجد بكسب العبد مرتبة على تلك الأسباب، والإلجاء لا نعرفه إلا بالمباشرة كما مثلتم في من ربط شخصا وألقاه من جبل ثم توعده على السقوط. أما حتم وقوع الأسباب والوسائط فلا نراه إلجاء، فإن سميتموه إلجاء فهو نزاع في عبارة، ثم يلزمكم أن لا يستحق على الطاعة ثواب لأن فاعلها ملجأ إليها، والثواب إنما هو لمن أطاع اختيارًا، وذلك لأن الطاعات مترتبة بكسب الآدمي على أسبابها المخلوقة لله، كما أن المعاصي كذلك.
والقدرية يجعلون ثواب الطاعة مستحقا عليها ومعلولا لها.
ثم يقال لهم: هل يلزم من خلق الفعل والعقوبة عليه غير القبح والتجوير؟ ثم هو لازم على قولكم في خلق القدرة على الفعل، فإن الله سبحانه يخلقها ويتسبب بها إلى إيقاع المعاصي من خلقه، ولو لم يخلق لهم قدرة عليها لم تقع منهم. وأجمع العقلاء على أن التسبب إلى القبيح قبيح. وإذا لزم القبح على المذهبين لم يكن أحدهما أولى بالفساد من الآخر، ثم يرجع إلى نصوص الشرع وهي في طرفنا. والله أعلم.
قال: "نبذ من صحيح الحديث تنضم إلى ما نحن فيه" يعني من القدح في الصدق، ذكر منها قوله عليه السلام: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها، أين تذهبون بي؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق".
قال: "وهذا أبين من أن يتكلم على بطلانه، إذ كيف يكون لميت صوت تسمعه البهائم والجمادات دون الإنسان، ولأن شرط المسموع أن يكون صوتا خارجا يتموج به الهوى فيقرع صماخ الأذن، فهل للبهائم والجمادات أسماع فضلا عن أن تكون أفضل من الإنسان؟".
هذا حاصل ما قرره في هذا السؤال، مع تشنيع ذكره يسير.
قلت: الجواب العام عن كل حديث ذكره في هذا الكتاب أنه من أخبار الآحاد التي توجب العمل لا العلم، فلا يثبت بها أصل ولا يقدح بها في أصل. وإنما يقدح في الشرائع ما تثبت بمثله الشرائع، وقد قرر هذا في المقدمات وفي آخر شرط الصدق بعد هذا. ولكننا نتبرع بالجواب.، وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الكلام في هذا وأمثاله من الحقائق الإلهية التي يقصر العقل عن إدراكها فرع على ثبوت النبوة وتابع لها، كمسألة القدر، فحق الكلام أن يكون في مرتبة قبلها. وأنت قد قدمت من كلام أرسطو وغيره أن نسبة إدراكاتنا إلى المبادئ الأولى كنسبة الخفاش إلى ضوء الشمس. ثم إنك في الاعتراض على هذه الأخبار غير محق. فأنت هناك مشرع جامد، وهاهنا فيلسوف مخلول، وحالك لا ينضبط.
الثاني: أن العلماء نقلوا عن موسى أنه لما ناجاه ربه أمر الريح فأخذت على أسماع الناس، ولولا ذلك لماتوا من صوت الله تعالى. ونحن عندنا أن الكلام والإدراكات ليس من شرطها الأدوات، بل جوز أن يخلقها الله تعالى في الجمادات، كما قال الله سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
وهو عند المحققين على حقيقته التي تليق بكل شيء بحسب قوته واستعداده وما يهيئه الله له، فكذلك نجيز أن ينطق الله تعالى الميت، كما أحيى الموتى لعيسى، ويحجب صوته عن الإنسان لئلا يصير إيمانه بهذه الحقائق الغائبة ضروريا، فتبطل فائدة التكليف بالإيمان بالغيب، ويسمع صوتها غير الإنسان على حسب ما يليق بالأشياء، لأنها ليست مكلفة فلا محذور.
وإذا كان الله سبحانه هو خالق الذوات من حيوان ناطق وصامت وجماد، فهو خالق صفاتها وإدراكاتها. وكما أخرج تلك القوى والإدراكات من العدم إلى الوجود، كذلك هو قادر على أن يقوي ضعيفها ويضعف قويها حتى يبلغ مراده، وهو بالغ أمره. وكل ما ينسب إلى قدرة الله تعالى من الممكنات لا ينبغي أن يصادم بالإنكار، خصوصا إذا اقترن به إخبار أهل النواميس الدالة على صدق أصحابها. وليس في هذا وأمثاله من الاستبعاد إلا كونه غير مدرك لنا، ولو أدركناه لزم الاستبعاد، كما أننا لو لم تثبت عندنا معجزات الأنبياء، كقلب العصا حية وتفجير الماء من الحجر وإخراج ناقة عظيمة من جبل وإحياء الموتى ونحوه، لما صدقت به العقول بادئ الرأي إلا بعد نظر دقيق واستدلال.
وهكذا ما نحن فيه، لما نظرنا فيه قد اتجه إمكانه. وأما وقوعه فيعتمد خبر الصادق، وقد بينا صدقه وسنبين.
ويجوز أن يحمل قوله: "سمع صوتها كل شيء إلا الإنسان" على السماع التقديري، أي لو كانت هذه الأشياء مما يسمع لسمعته، ويكون فائدة ذلك الإخبار بصياح الميت عن ولع وحرقة تنبيها على أسفه وشدة ندمه ليتعظ به الأحياء، كما قال الشاعر في صفة الفرس:
وشكى إلي بعبرة وتحمحم
وقال في صفة الحوض:
امتلأ الحوض وقال قطني ** مهلًا رويدًا قد ملأت بطني
أي لو كان ممن يتكلم لقال ذلك. وأنتم تستبعدون هذا التقدير لأن لغتكم وأذهانكم غلف مثلكم مقصورة على إرادة الحقائق، وليس فيها توسع في المجاز. على أن المجازات في كتب الأنبياء كأشعياء وغيره كثيرة جدًا، وهو خفي بعيد حتى أنه في بعض المواضع رمز عقد بمرة.
ومنها قوله في حديث ابن عمر "الميت يعذب ببكاء أهله عليه" وأنكرت ذلك عائشة وقالت: "إنما قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه" قال: "وهذا باطل لأن الله تعالى لا يعذب أحدًا بفعل غيره".
قلت: هذا اعتراض صحيح، لكنه ليس على النبي ﷺ بل على الراوي الذي روى عنه. فإن هذا الحكم على خلاف نص القرآن، وهو قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. ومن المحال عادة أن من يقرر ناموسا وشريعة يخالف ما يدعى أنه أنزل عليه بما يقوله. ونسبته في ذلك إلى الغلط والوهم ممتنع عادة، لأن هذا مما لا يخفى عن عاقل، فضلا عن ذي ناموس.
فالحاصل: أن راوي هذا الحديث وهم في روايته، وقد صح عن عائشة أنها قالت: "وهلَ أبو عبد الرحمن - تعني ابن عمر - إنما مرّ رسول الله ﷺ بقوم يبكون على يهودي أو يهودية، فقال: "إنهم ليبكون عليها، وإنها تعذب في قبرها". فالبكاء والعذاب في هذا الحديث ليس بينهما ارتباط سببي، بل هو اتفاقي اتفق أن بكاءهم عليها صادف وقت تعذيبها.
هذا على أن لحديث ابن عمرو وجها صحيحا في التأويل، وهو أنه محمول على من وصى أن يناح عليه، أو علم من أهله أنهم ينوحون عليه فلم ينههم. وكان ذلك عادة العرب، وزجرهم عليها بهذا لأن النوح على الميت يدل على التسخط بقضاء الله سبحانه، فيكون الميت والحالة هذه متسببا إلى إيقاعه لوصيته به وإقراره عليه. والعذاب يترتب على التسبب كما يترتب على المباشرة، وقد قررت هذا الحكم في القواعد.
ومنها: حديث عائشة أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فسألت عائشة النبي ﷺ عن عذاب القبر فقال لهما: "عذاب القبر حق" قالت عائشة: فما رأيت النبي صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر".
وذكر حديث أنس في عذاب القبر وسؤال الملكين للميت فيه إلى قوله في الكافر "يضرب بمطرقة ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين".
قال: "فتأمل هذا الحديث المصرح بعذاب القبر وكيف ثبتت عليه هذه الأضحوكة من كلام اليهودية مع عائشة. وكيف يسمع صياح الميت من يليه إلا الثقلين، وكيف يسمع من لا يسمع، ولا يسمع من يسمع. ولا يحتاج من له أدنى مسكة من تمييز إلى أن يتبين له ما في هذا من الافتراء".
قلت: هذان الحديثان صحيحان. وأجمعت الأمة المحمدية على إثبات عذاب القبر إلا قليلًا منهم، وهم بعض المعتزلة الموافقون للنصارى في ذلك وفي القدر كما سبق.
ويكفي أهل السنة من المسلمين فضيلة أن كلام أعداء الإسلام إنما يتجه معهم وعلى رأيهم، وأن أهل البدع لا يتجه عليهم لموافقتهم أعداء الدين. فإن هذا العلج لما قدح في النبوة إنما وجه شبهه إلى أهل الحديث.
قلت: والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أنك لو ناظرت في هذا معتزليا لسلمه لك، وخالفك في دعوى الإسلام، فيكون قد أجابك بالقول الموجب فتنقطع في هذا المقام. ولنا أن نلتزم مذهبه في جدالك، لأنه على كل حال من فرق الإسلام، وإن كان مسلما نجسا، كما أنك أنت نصراني نجس لأنك تارة تثبت الشرائع وتارة توغل في الفلسفة والتعطيل العائدة على النبوات بالتبطيل.
الثاني: أن هذا الحكم من فروع الشريعة، ولهذا يذكره الفقهاء في كتب الفقه عند ذكر مشروعية التلقين، فهو تبع لا مقصود.
الثالث: أن جوابه التفصيلي هو جواب تكلم الجنازة بعينه من حيث التوجيه، ثم نجيب عن كلماته التي أساء بها أدبه.
قوله: "أثبت هذه الأضحوكة بكلام يهودية"
قلنا: هذه أضحوكة عند عقلك؛ لأن الله سبحانه يريد ضلالك حتى يوقعك فيها، وما ينفعك السيد المسيح. ثم إنه لم يثبتها بقول يهودية، بل بالوحي الصادق النازل على سبب إخبار اليهودية. والقرآن والوحي كان ينزل على أسباب ووقائع تقتضيه.
ودليل عذاب القبر في القرآن نحو قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.
قوله: "كيف يسمع صياح الديك من يليه إلا الثقلين؟"
قلنا: كما وجهناه فيما سبق.
قوله: "كيف يسمع من لا يسمع؟"
قلنا: يخلق الله قوة السمع فيه.
قوله: "وكيف لا يسمع من يسمع؟".
قلنا: يخلق الحجاب المانع للسمع على سمعه كما سبق في مناجاة موسى.
قوله: "لا يحتاج من له أدنى تمييز إلى أن يتبين له أن هذا افتراء"
قلنا: أما هذا فلا يشك عاقل أنه ممكن وقد أخبر به الصادق.
وأما ما يدعيه من إلهية المسيح أو بنوته واتحاد الأقانيم ونحو ذلك، فلا يشك عاقل أنه افتراء على الله ورسله. وأول خصم يكون لك يوم القيامة المسيح على ذلك. وأنت شخص متحير متردد، لا مسيحي ولا فيلسوف، بل كما قال القائل:
حدى باسمك الحادى وناحت حمامة ** فلم أدر أي الداعيين أجيب
ومنها: في كتاب الزكاة حديث أبي هريرة: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه".
وفي الحديث الآخر: "من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا يأخذ بلهزميته ثم يقول له: أنا مالك، أنا كنزك". ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية.
وفي حديث أبي ذر: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس"
وحديث أبي سعيد: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم جيرته في السفر نزلا لأهل الجنة. فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى، قال: تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال النبي ﷺ، فنظر النبي ﷺ إلينا وضحك حتى بدت نواجذه. ثم ذكر أن إدامهم بالام ونون، وهما ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا.
وحديث: «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتمسي معهم حيث أمسوا» وفيه: «يقتص للشاة الجماء من القرناء» "والعود لم خدش العود؟"
وحديث ابن عباس وعائشة: "يحشر الناس حفاة عراة غرلًا"
وحديث أبي هريرة: "إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا: فيقول هذا فداؤك من النار".
ثم قال: "فانظر إلى هذه الأحاديث وما تضمنته من الأخبار بأن مال الإنسان الذي يبخل به يصير صفائح من نار، ويصير أيضا شجاعا أقرع، وكيف أخبر عن حشر الحشرات والبهائم والعيدان وأن الله يقضي بينهن، وكيف تمشي الجمال والبقر على الناس، وكيف يحشر الناس على الجمال ركابا."
قلت: والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن كل هذا ممكن لا شك في إمكانه، وقد أخبر به الصادق، فيجب قبوله.
الثاني: أنه ليس عندك في إنكار إلا كونه لم يذكر في كتابك ونحوه. وقد قدمنا أن هذا استناد إلى الجهالة، واعتماد على الضلالة. ونحن عندنا أن محمدا ﷺ أكمل الأنبياء وأشرفهم، فلا يمتنع أن يختص منٍ العلم بما لم يعلموه. على أن أصول دين الإسلام مشتركة بين سائر الأديان لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. ولكن ذلك بُدّل وغير في كتبكم لتطاول العهد واعتوار اللغات والألسنة عليه.
الثالث: أن هذا من الأمور الإلهية التي اعترفت أنت وحكيت عن أرسطو أن قوتنا بالنسبة إلى إداركها كإبصار الخفاش إلى الشمس، وأن فائدة النبوات تعريف مثل ذلك. فليس لك أن تعترف بقصور عقلك عن أمر ثم تعود فتنكره بناء على أن عقلك لا يدركه، بل إن اعترفت بأن الشرائع وردت بما يقصر عنه العقل البشري لزمك تسليم مثل هذا إذا أخبر به صادق، ولا يبقى لك نزاع إلا في صدقه وعلينا بيانه. وإن أنكرت ذلك فلست من أهل الشرائع حتى نتكلم معك، لأن أهل الشرائع أجمعوا على خلافك.
الرابع: أن العالم بأسره لما أنكر عليكم دعواكم أن الله هو المسيح وأنه عبارة عن ثلاثة أقانيم الأب والابن والروح القدس إله واحد، لجأتم إلى إمكان ذلك في قدرة الله. مع أن دعواكم إذا حققت كانت باطلة قطعا عند كل عاقل، وتمحلتم لإثباتها بتشبيهه بالشمس المتحدة في نفسها، المشتملة على جرم وضوء وشعاع، وبالحديدة المحماة المشتملة مع وحدتها على حديد ونار وشرر، وأشباه هذا من الأشياء التي لا حاصل لها، واستروحتم إلى ذلك مع أنه مكابرة جبناء. فنحن أولى أن نلجأ في هذه الأمور الغائبة عنا الممكنة في نفسها بلا خلاف إلى قدرة الله سبحانه.
الخامس: أن هذه الأحاديث ممكنة، وفيها فوائد وحكم. ومن أتى بشيء ممكن فيه حكمة وفائدة وجب قبوله منه، نبيا كان أو غيره، ما لم يقم دليل إلى بطلانه.
أما إمكانها فظاهر.
وأما فائدتها. أما في حديث الصفائح والشجاع الأقرع فتخويف الناس وحضهم على أداء حقوق الفقراء من أموالهم. وفيها: حق لله، وهو تعبدهم بإخراج المال المحبوب. ووجه الجمع بينهما إما بأن يحمل على أن بعض الناس يكوى بماله، وبعضهم يمثل له شجاعا، أو بأن مال الإنسان الواحد يكوى به تارة، ويمثل له شجاعا أخرى، ومعنى تمثيله له شجاعا أن الله سبحانه يرسل عليه حية يعاقبه بها على ترك الزكاة. وقوله: "أنا مالك، أنا كنزك" أي عقاب مالك وجزاء منع حق كنزك، أو أن الله يخلق من الذهب والفضة شكل حية، ثم ينفخ فيها الروح فتفعل ذلك، كما أنه نفخ الروح في عصا بيد موسى فصارت حية تلقف ما صنعوا.
وأما نطح صاحب الأنعام بها، فظاهر الإمكان. وفائدته ما ذكر.
وأما حديث "تكون الأرض خبزة" فهو شيء قد أخبر به النبي ﷺ ووافقه عليه حبر من أحبار اليهود، ولهذا فرح النبي ﷺ بموافقته، لئلا يستبعد ذلك منه جلف مثلك. وذلك يدل على أن اليهود يجدون ذلك في التوراة وهي حجة عليك.
فإن قلت: لم نجد هذا في التوراة عندنا الآن، ثم يجوز أن اليهودي واطأه على ذلك أو خاف من مخالفته لئلا يقتله.
قلت: الجواب عن الأول: أن التوراة حرفت عما كانت في ذلك العصر، فلا يلزم من عدم وجدانكم له عدمه حينئذ.
وعن الثاني: بأن اليهود كانوا يوردون عليه المسائل ويمتحنونه ويصدقونه في شيء ويكذبونه في أشياء. وما نقل عنه أنه قتل منهم على ذلك أحدًا، بل إنما كان يقتلهم في المحاربة. ولو كان قاتلا أحدًا منهم على شيء من ذلك لقتل ابن صياد لما قال له: "أتشهد أني رسول الله؟" قال: أنت رسول الأميين. ثم قال له ابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: "آمنت بالله ورسله" فقال له عمر بن الخطاب: دعني أقتله يا رسول الله - وكانوا يرونه الدجال - فقال: "لا، إنه إن يك هو فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير في قتله".
ولقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره حتى اضطرب حاله لسحره، ثم لما ظهر عليه عفى عنه.
وكم بلغه السب والشتم من اليهود وغيرهم فعفى عنهم عن قدرة.
وأما حشر الناس على الإبل والدواب واقتصاص بعضها من بعض، فتحقيقا لإقامة العدل في كل شيء من خلقه. والآخرة لا تقلب الحقائق، فكما يركب الناس الدواب الآن يركبونها هناك. وهذا يكون في الأرض، لأن الله سبحانه يطوي السموات والأرض بيمينه، ويبدل الأرض غير الأرض.
وأما حشر الناس حفاة غرلا، فتحقيقا لقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}.
وأما كونه يدفع إلى كل مسلم يهودي أو نصراني يكون فداه من النار، فلأن اليهود قتلوا الأنبياء وكذبوهم وصلبوا إلهكم المسيح بعد ظهور الخوارق على يده، والنصارى ادعوا إلهيته، وإنما هو نبي كريم. فأولئك فرطوا فيه، وهؤلاء أفرطوا فيه. وكفرتم جميعا بمحمد ﷺ بعد مجيئه بالبينات والهدى، وما جزاء من يفعل ذلك إلا النار. وأنا أرجو أن تكون أيها العلج فداي من النار لما حصل بيني وبينك من النظر والجدال في الله، فنحن خصمان اختصموا في ربهم، إن شاء الله تعالى.
ومنها حديث: "الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله". وفي سورة آل عمران: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. وذكر عن تفسير ابن عطية حديث: "إن أرواح الشهداء على باب الجنة في أجواف طير خضر" في أشياء مما يتعلق بهذا.
قلت: وذلك مما لا إشكال فيه، فإن الأرواح عندنا أجسام لطيفة. فلا يمتنع أن يكرم الله الشهداء بأن يعلقها بأشكال الطيور ليدوم نعيمها حتى القيامة جزاء على جودهم بأنفسهم في سبيل الله.
وأما بقية الشهداء، فهم شهداء تسمية -إما باعتبار أن لهم كأجر الشهداء في سبيل الله تفضلًا، أو لأن ملائكة شهداء المعركة تشهدهم، أو غير ذلك- لا حكما، بدليل أحكام شرعية افترق فيها القتيلان، كالغسل والصلاة ومغفرة الذنب بأول قطرة من دم، حتى الدين يعفى له عنه، على مقتضى حديث رُوي في ذلك، دون بقية الشهداء.
ومنها: حديث المعراج والبراق وما جرى فيه من العجائب، وخلاف الناس في دخوله بيت المقدس أم لا، وأن المعراج هل كان بشخصه أم بروحه مناما.
قلت: حديث المعراج أجمع المسلمون على صحته. والمعتمد عليه منهم على أنه كان بروحه مناما مرة، ثم كان شخصه يقظة أخرى. وكانت الأولى تمهيدا للثانية، وأنه عليه السلام دخل بيت المقدس.
وحديث المعراج وما جرى فيه مما يجب تسليمه عن صاحب الشريعة، إذا لا طريق إليه إلا جهته، كما كان يخبر موسى بما جرى له مع ربه على الطور، وكما أخبر المسيح أنه يصعد إلى أبيه فيكون عن يمينه وأنه في آخر الزمان يأتي في مجد أبيه والملائكة حوله.
ومنها: الآيات والأحاديث المتضمنة لذكر ما في الجنة من مأكول ومشروب ومنكوح. وذكر من الأحاديث ما هو صحيح وباطل. وأنكر ذلك واستعظمه بناء على شبه:
إحداهن: ما نقل عن الإنجيل أن المسيح قال في القيامة: "لا يتزوجون ولا يأكلون ولا يشربون، ولكنهم مثل ملائكة الله في السموات، وذكر عن جماعة من الأنبياء أنهم سألوا الابتهاج بوجه الله – يعني فلا يكون بغيره.
الثانية: أن الطعام والشراب في الدنيا لضرورة بقاء الأبدان، لأنها بدونهما تهلك، وهناك يصيرون كالملائكة لا يخشى عليهم الهلاك، لأنها دار السعادة الكاملة.
الثالثة: ما ذكره أبو علي بن سينا في التنبيهات حيث تكلم في البهجة والسعادة، وحاصله أن اللذة ليست منحصرة في الحياة، بل الإنسان قد يترك الحياة لنحصيل لذة الغلبة، ولو في أمر ما خسيس كالشطرنج، أو في تحصيل ذكر جميل بعده يقتحم لأجله الأخطار، وليس ذلك من اللذات العقلية، فما ظنك بالعقلية.
هذا حاصل ما ذكره في هذا السؤال، وإن كان قد أسهب فيه وأطال.
والجواب: أما اللذات الحسية من مأكل ومشرب ومنكح وكل ما يشتهيه الإنسان من اللذات الممكنة التي لا تغذي فيها، فهو مجمع على حصوله في الآخرة بين المسلمين.
وأما شبه هذا الخصم على بطلان ذلك:
أما الأولى: فلا شك أنهم نقلوا في الإنجيل عن المسيح أن الزنادقة المنكرين للقيامة سألوه عن سبعة إخوة تزوجوا امرأة واحدا بعد واحد ويموتون عنها فلمن تكون في الآخرة؟ فأجابهم بما ذكر ههنا، وهو أن الناس في الآخرة كالملائكة لا يأكلون ولا يتزوجون. لكن هذا ينافيه ما في الفصل التاسع والعشرين من إنجيل مرقس أن المسيح قال لرجل: "بع كلما لك وأعطه للمساكين واكنزه في السماء" فصعب على الرجل، فقال له بطرس: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فقال يسوع: "الحق أقول لكم إنه ليس أحد ترك بيوتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو بنين أو حقلا لأجلي ولأجل بشارتي إلا وهو يأخذ مائة ضعف الآن في هذا الزمان: منازل وإخوة وأخوات وأب وأم وبنين في الشدائد وفي الدهر الآتي في الحياة المؤبدة، أولون كثيرون يكونون آخرين، وآخرون أولين".
قلت: فهذا نص في أن الناس في نعيمهم في الآخرة، كَهُمْ في الدنيا، وصرح بذكر المرأة، وفائدتها النكاح، وبالحقل، وفائدته الأكل.
وكذا قال في آخر الفصل التاسع والعشرين من إنجيل مرقس: "من ترك شيئا لي أخذ أضعافه في الحياة الدائمة". وهو عام في كل ما ترك من الدنيا، فيتناول المطعم والمشرب والمنكح.
فهذا نصُّ المسيح، على خلاف ما ذكرتم عنه في جواب الزنادقة. فأحد النصين كذب قطعا. وحينئذ يسقط الوثوق بالإنجيل لوقوع الكذب فيه.
وأما جوابه للزنادقة بما ذكرتم، فإن صح فهو محمول على قيامة الموت، لأن قيامة كل أحد موته لأنه أول منازل القيامة. فكأنه يقول: إذا مات الشخص تجرد روحه من بدنه فكان كالملائكة، حتى يبعث جسده يوم القيامة فيعطى أضعاف ما ترك لأجلي في الدنيا، جمعا بين نصيه. وإلا فالحكاية موضوعة مختلقة. ويدل على ذلك أن سؤال الزنادقة له إنما هو على جهة الإيراد على دينه والإلزام له على ما أشار إليه سياق الإنجيل، ولا يتم لهم ذلك إلا بعد علمهم بأن من دين موسى والمسيح ثبوت النعيم الحسي في الآخرة، فجوابه لهم بما ذكرتم عنه يكون موافقة ومساعدة لهم.
وقد استوفيت الكلام على ذلك في التعليق على الإنجيل.
وأما سؤال الأنبياء للابتهاج بوجه الله سبحانه فلا يبقى ما يدعيه لجواز أن تكون البهجة بالأمرين، أعني النظر إلى وجه الله، والتمتع باللذات الحسية، وهذا عين ما نقوله. وقد سأل النبي ﷺ في دعائه التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وأجمع على جوازه ووجوبه المسلمون. وفي القرآن الكريم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. وأجمع المفسرون على أن المراد بالزيادة النظر إلى وجه الله سبحانه.
وأما الثانية: فمثبتة على التي قبلها، وقد بطلت. ثم لا نسلم أن الطعام والشراب في الدنيا لضرورة بقاء الأبدان على الإطلاق، لأن ذلك إنما تصح دعواه فيما يقيم الرمق ويحفظ البنية. فما قولك فيما زاد على ذلك كأنواع المآكل والمشارب من اللحوم والحلاوات وأنواع الأشربة. ولهذا من ترهب من النصارى والمسلمين يقتصر على البلغة ويدع ما سواها مما يتناول للتنعم. وإذا كانت الدنيا مع أنها دار فناء ونفاد فيها هذا النعيم، فالدار الآخرة الباقية الدائمة المأمونة الزوال أولى بذلك. ثم هب أن المأكول والمشروب لضرورة بقاء البدن، فما تقول في النكاح مع أن البدن يبقى بدونه؛ فهو من باب النعيم لا محالة.
وأما الثالثة: فهي مبنية على رأي أبي علي في أن المعاد لا يكون إلا روحانيا، فلا يتصور اللذات الحسية، إذ شرط إدراكها تعلق النفس بالبدن وحجته على ذلك على ما حكاه الإمام فخر الدين في المباحث المشرقية أن البدن لو أعيد لكان إما أن يعاد في زمن ابتدائه أو في غيره، فإن أعيد في زمن ابتدائه لزم اتحاد الزمنين مع ما بينهما من الفواصل الكثيرة والأرمنة المتعددة، وهو محال. وإن أعيد في غيره لم يكن المعاد هو عين المبتدأ.
قلت: وهذا وهم قبيح من مثل ذلك الفاضل العلامة. لأنه كان يوهم أن الزمان داخل في حقيقة البدن أو أن اتحاد الزمن شرط في صحة الإعادة. وليس كذلك، ولا دليل عليه.
ومذهب المسلمين قاطبة القول بالمعاد البدني وإدراك اللذات الحسية والعقلية. ولذلك مناسبة حسنة، وهي أن العالم على ثلاثة أضرب: عقل محض كالملائكة، وشهوة محضة كالبهائم، ومركب من الأمرين وهما الثقلان. فالطرفان لا مشقة عليهم. أما الملائكة فلعدم الشهوة المعارضة لعقولهم، وأما البهائم فلعدم التكليف. والثقلان واسطة عليها المشقة لتنارع العقل والشهوة في مراديهما. فيبعث الإنسان بينهما كالمخلص بين متخاصمين. فلا جرم أن الملائكة لما عبدوا الله بالعقل المجرد الخالي عن معارضة الشهوة كانت لهم اللذة العقلية والبهجة الروحانية. والبهائم لما خلت عن عقل تعبد الله به تمتعت باللذات الحسية الشهوانية مدة بقائها في استعمال المكلفين لها، ثم يوم القيامة تصير ترابا بعد أن يقتص لبعضها من بعض، لأنه لا عبادة لها تستحق بها يوم القيامة لذة عقلية ولا حسية. وعند مصيرها ترابا يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كنتُ تُرَابًا}. وبنو آدم لما تعبدوا فيما بين العقل والشهوة وجب بمقتضى هذه المناسبة أن يجمع لهم في الآخرة بين اللذتين العقلية بمقتضى العقل الذي عبدوا الله وعرفوه به، والحسية بمقتضى الشهوة التي صبروا على خلافها في طاعة الله سبحانه ولو في التوحيد. وهذا معنى قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} أي بما صبروا على الطاعات وعن الشهوات.
هذا آخر الجواب عما يستحق أن يجاب عنه من هذا السؤال من الآيات والأخبار الصحيحة.
فأما ما ذكره من ضعيف الأخبار وكلام أبي حامد وغيره، فلا يلزمنا الجواب عنه، ولا هو ممن يستحق ذلك.
قال: "وفي سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقال في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} فبمقتضى هذه الآية الثانية أن السموات والأرض خلقتا في ثمانية أيام، ألا ترى أنك لو قلت: بنيت بيتا وأسسته في يومين وأقمت حيطانه في أربعة أيام وسقفته في يومين؛ لم يشك عاقل يسمع قولك في أن مدة إقامتك البيت بجملته ثمانية أيام. ولهذا يلزم محمدًا ﷺ إن كان صادق الإخبار في الأول، فالثانية بالضرورة كاذبة. وبالعكس وذلك مطلوبنا".
قلت: الجواب عن هذا أن الآيتين لا تناقض فيهما، ولكن هذا الشخص لم تكن له معرفة بالقرآن ولا لغة العرب وتنزيل الألفاظ منازلها. وجدير بمن يتكلم فيما لا يعلم أن يخطئ ويتلعثم.
وبيان ذلك أن القرآن مصرح في أكثر من ستة مواضع بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام؛ فهذه نصوص لا تحتمل التأويل. وهذه الآيات التي في سورة فصلت فيها نوع إجمال. والمراد بها ما في تلك النصوص. ولا يبين ذلك إلا بالتأويل والتوفيق بين الكل. ومن قواعد الأصوليين حمل المجمل على المبين، والظاهر على النص، والمطلق على المقيد، والعام على الخاص. فهذا مجمل أو محتمل نحمله على ذلك النص الصريح.
وبيانه: أن اليومين المذكورين في قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} داخلان في الأربعة المذكورة في قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}
والدليل علَى ذلك من وجوه:
أحدها: أن الله سبحانه - يقول في سجدة {الم} وغيرها: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ثم ثبت بهذه الآية المتنازع فيها أن خلق السموات في يومين، فتعين أنه خلق الأرض بما فيها من الجبال والشجر والبحار والأقوات وغيرها في أربعة أيام، لأن هذه الأشياء إما من حقيقة الأرض أو مما بينها وبين السماء. فتعين بما ذكرناه أنها داخلة فيما خلق في أربعة الأيام التي منها اليومان الأولان.
الوجه الثاني: أن قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} إما أن نعلقه بتقدير الأوقات فقط أو به وبما قبله من خلق الأرض وجبالها والبركة فيها. والأول باطل. لأنه يلزم أن يكون فعل ما قبل ذلك لا في زمان، وهو محال. فتعين الثاني، وهو أن أربعة الأيام متعلقة بجميع ما تقدم من قوله {خَلَقَ الْأَرْضَ} إلى قوله {أَقْوَاتَهَا} وعلى هذا اعتراض لا يخفى.
الوجه الثالث: أن محمدًا ﷺ لم يشك أحد في حكمته وفصاحته، ولهذا نسبه الأعداء الى أنه إنما أقام ناموسه بالحكمة والسيف، ومن يكون من الحكمة في هذه الرتبة لا يناقض ما صرح به في ستة مواضع بما يقوله في موضع، ولا يخفى عليه ذلك. فدل هذا على أنه أراد بما في هذه الآية ما في تلك الآيات. وذلك إنما يصح بجعل اليومين الأولين داخلين في الأربعة الثانية، ويصير هذا كما لو قلت: سرت من القاهرة إلى بيت المقدس في عشرة أيام، وإلى دمشق في عشرين؛ في أن العشرة داخلة في العشرين.
أما ما ذكرته من أن قول القائل: بنيت بيتا فأسسته في يومين وأقمت حيطانه في أربعة أيام وسقفته في يوين: يفيد أن الجملة ثمانية أيام.
فجوابه أن فرضك لهذه الصورة مع تقدير تقدم النص من القائل بأنه أقام جملة البيت في ستة أيام أو مع عدم تقدير ذلك.
فإن قلت: تقدير تقدم النص المذكور كان كمسألتنا. فلا نسلم استفادة ثمانية أيام من القول المذكور، بل ستة كالمنصوص. ويكون ذلك النص قرينة في هذا التأويل، أعني حمل الثمانية الظاهرة على الستة المنصوصة.
وإن قلت: مع عدم النص، فليس ذلك مثل مسألتنا، إذ لا نص معنا يكون قرينة نحمل بها الظاهر عليه. وحينئذ لا يلزم ما ذكره من كذب إحدى الآيتين، ولا يحصل له مطلوب.
ومنها: ما وراه مالك في موطئه بسنده إلى أبي بكر في كتاب الجنائز: قال: سمعت رسول الله ﷺ: "ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه" فحفر له فيه.
قال: "وهذا افتراء وقول باطل. فإن يعقوب توفي بمصر وحمل إلى مقبرة أبيه إبراهيم فدفن فيها، وكذلك إبراهيم وإسحاق دفنا هناك ولم يدفنا في مكانيهما من داريهما، وكذلك داود وسليمان إلى غيرهما من الأنبياء ماتوا بأماكنهم ودفنوا في غيرها. وبالجملة: ما دفن نبي من الأنبياء في مكانه الذي توفي فيه، فضلًا أن يكونوا أجمعون دفنوا حيث ماتوا".
قلت: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن ما ذكره من دفن يعقوب في غير موضع موته مأثور عن التوراة، والتوراة فيها من التحريف والتهافت والتناقض ما يمنع الوثوق بها كما سبق.
الثاني: ذكر في التوراة أن يعقوب بقي بمصر يُبكى عليه سبعين يوما: ولو بقي ذلك القدر غير مدفون لأنتن وأراح، إذ هو بشر على كل حال. وذلك إهانة للميت. ولهذا جاء في شرعنا: أن من إكرام الميت أن يبادر بدفنه، فدل على أنهم دفنوه حتى انقضت مناحتهم، ثم استخرجوه فنقلوه إلى آبائه. وحينئذ لا يكون نقله منافيا لدفنه حيث مات.
فإن قيل: لعلهم صبروه حتى مكث تلك المدة ولم يحتج إلى دفن.
قلنا: هذا لم ينقل في التوراة ولا غيرها، ومجرد احتماله لا يكفي في التصديق به. وما ذكر فيها من تحنيطه لا يدل على تصبيره إذ كل الموتى يحنطون عند الإمكان.
الثالث: أنك ناف ونحن مثبتون، والإثبات مقدم على النفي إذا استوى المخبران؛ فكيف والمخبر بالإثبات ذو ناموس عظيم، وأنت فيلسوف علج.
الرابع: - وهو المختار عندى في الجواب - منع صحة الحديث، فإني كشفت عنه في كتاب الجنائز من الموطأ فلم أجده، ولم أعلم أحدًا رواه إلا أحمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبي أن أصحاب النبي ﷺ لم يدروا أين يقبروه حتى قال أبو بكر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لم يقبر نبي إلا حيث يموت" فأخروا فراشه وحفروا له تحته.
قلت: وفي هذا الحديث جهالة وإرسال، لأن أبا ابن جريج لا يعلم حاله في الرواية، وقد أرسله عن الصحابة، فلا نعلم هل سمعه منهم أو من غيرهم عنهم.
وهاتان علتان لا يبني على ما كانتا فيه من الحديث فرع فضلا عن أن نلتزم تسليمه والجواب عنه فيما يقدح في أصل الشريعة.
ورواه ابن هشام في السيرة من وجه لا يسكن إليه أيضا.
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: لما قبض رسول الله ﷺ اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله ﷺ شيئا ما نسيته، قال: "ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه" ادفنوه في موضع فراشه. وهو حديث غريب. وفي إسناده عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وهو يضعف.
كيف وقد روى ابن مكة في أماليه والسهيلي في الروض: أن النبي ﷺ لما مات قالوا له: كيف نصلي عليك؟ قال: "إذا وضعتموني على شفير قبري في بيتي فاخرجوا عني، فإن الملائكة تصلي علي أولا" وساق الحديث. فمع هذا النص كيف يكون الخلاف في موضع دفنه؟ فهذا مما يدل على ضعف ذلك الحديث.
قال: "ومن هذا القبيل من الإخبار عما يتقبل ما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عنه قال: ”لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة“ وهذا باطل للعيان، فها نحن على وجه الأرض أكثر من العالم في ذلك الزمان، وقد أتت المائة سنة التي ذكرها وبعدها مئون".
قلت: هذا جهل بمراد هذا الحديث، وإنما المراد به ما تبين في حديث أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: "ما على الأرض نفس منفوسة - يعني اليوم - يأتي عليها مائة سنة" رواه مسلم والترمذي.
وعن ابن عمر قال: صلى بنا رسول الله ﷺ ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قال: "أرأيتم ليلتكم هذه على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد". قال ابن عمر: فوهم الناس في ذلك فيما يتحدثونه من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله: "لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدًا يريد أن ينخرم ذلك القرن. أخرجاه في الصحيحين، ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فحديث أبي سعيد إن لم يكن فيه هذا التأييد فهو محمول عليه بهذين النصين.
قال العلماء: وفائدة إخبارهم بذلك: أن يبادروا بالعمل ويغتنموا مدة المهل.
ولعمري إن هذا النصراني معذور في سوء فهمه لهذا الحديث إذ كان بعض الصحابة وهم فيه. ثم العجب ممن يفهم من هذا الحديث غير ما ذكره، مع أنه ﷺ وعد بأشياء تكون عند اقتراب الساعة كالدجال ويأجوج ومأجوج ونحوها من نفخ الصعق والقواطع الدالة على بقاء العالم، لكن الوهم لم يسقط عن أحد. والله أعلم.
قال: "وفي كتاب الطلاق من البخاري عن سعد بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله: «بعثت أنا والساعة كهاتين» مشيرًا بالسبابة والوسطى. ومن باب قرب الساعة من البخاري ومسلم عن عائشة: أن رجالًا من الأعراب كانوا يأتون النبي ﷺ فيسألونه عن الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: «إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم»".
قلت: أما الحديث الأول فصحيح المعنى، إذ معناه أنه بعث قريبا من قيام الساعة، لكن البعد والقرب إضافيان، فقد يكون الشى قريبا بالنسبة إلى أبعد منه، بعيدا بالنسبة إلى أقرب منه. والتفاوت بين الوسطى والسبابة نحو سبعها تقريبا، ومنذ بعث آدم إلى حينئذ نحو سبعة آلاف سنة، على خلاف في ذلك، ومن عهد النبوة إلى الآن قريب من ألف سنة. فهذا تقريب صحيح.
ووقت القدح في هذا الحديث لم يأت بعد. فإن تمادى العالم نحو ألف أو ألفي سنة أخرى قد يتجه للقادح أن يقدح أو يجيب بجواب آخر.
وأما الحديث الآخر فصحيح أيضا، والمراد بقيام ساعتهم فيه موتهم، لأن من مات فقد قامت قيامته، لأنه يصير إلى أوائل أوقات القيامة إذ القبر أول منارل الآخرة.
ثم هذا معارض بما في آخر الفصل الرابع والعشرين من إنجيل مرقس والتاسع والعشرين من إنجيل لوقا حيث يقول المسيح: "إن ههنا قوما من القيام لا يموتون حتى يعاينوا ملكوت الله". ومراده بملكوت الله القيامة، كما في سائر المواضع من الإنجيل. ولا يصح حمل ملكوت الله ههنا على الآيات والمعجزات، لانهم كانوا قد عاينوها.
قال: "وفي تفسير ابن عطية لسورة القمر، قال أنس: خطب رسول الله وقد كادت الشمس تغيب فقال: "ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى" وقال: «إني لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم»."
قلت: هذا حديث له أصل في الرواية لكنا لا نحقق صحته كغيره، لكن قد رواه النسائي وابن ماجة والترمذي وحسنه، فلا يلزمنا الجواب عنه، بل الأحاديث الثابتة في الرواية كأحاديث البخاري ومسلم لا يلزمنا الجواب عنها في هذا المقام لأنها آحاد، والآحاد غايتها أن تثبت بها أحكام الفروع لا أن تورد نقضا على أصول الشرائع. ولهذا قال أكثر طوائف المسلمين: "لا تثبت بأخبار الآحاد صفة الله لأن مسائل الأصول القطعية لا تثبت إلا بقاطع"
وإنما نحن تبرعنا بالجواب عن تفاصيل هذه الأحاديث تبرعا، وهذه قاعدة نافعة في هذا الباب وقد سبقت في أول الكتاب. ثم إن تبرعنا بالجواب عن هذا كما تبرعنا به عن غيره.
فمعنى قوله "ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى" هو قريب من قوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين».
والمعنى الجامع بين الحديثين تقليل ما بقي من الدنيا بالإضافة إلى ما مضى منها، وهذا صحيح، فإنه عليه السلام أخبر بجملة من أشراط الساعة، وقد ظهر كثير منها، فما عادت تتأخر. ولو عاش هذا الخصم لأبصر.
وأما قوله: "إنى لأرجو أن يؤخرِ الله أمتي نصف يوم" فالمراد باليوم يوم من أيام الآخرة وهو ألف سنة لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} ولا شك أن علم وقت الساعة من كنوز الغيب الذي استبد الله بعلمه لقوله: {إنَّ اللَّهَ عنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}
فالنبي ﷺ ما كان يعلم عين وقت الساعة، لأنا لم نعتقده إلها، كما اعتقدتم إلهية المسيحِ، بل هو رسول كربم يعلم ما علمه الله سبحانه كما قال {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فكان يعلم أمارات الساعة وقد أخبر بها ووقع بعضها. ونحن ننتظر الباقي لا عين وقتها، ولذلك قال: «إني لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم» يعني خمسمائة سنة، وها قد أعطاه الله رجاءه وزيادة. فهذا اليوم سبعمائة سنة وسبع سنين. وفي الزمان تراخي.
قال: "وفي كتاب الطب من البخاري عن عائشة قالت: سمعت النبي يقول: «إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام»".
قلت: هذا الحديث صحيح متفق عليه، وفي لفظ البخاري عن ابن أبي عتيق قال: عليكم بهذة الحبة السوداء، خذوا منها خمسا أو سبعا فاسحقوها، ثم اقطروها في أنفه - يعني المريض - بقطرات زيت في هذا الجانب فإن عائشة حدثتني أنها سمعت النبي ﷺ يقول؛ الحديث.
وعن قتادة قال: حدثت أن أبا هريرة قال: "الشونيز دواء من كل داء إلا السام"، قال قتادة: يأخذ كل يوم إحدى وعشرين حبة، فيجعلهن في خرقة، فلينقعه، فليستعطيه كل يوم في منخره الأيمن قطرتين، وفي الأيسر قطرة، والثاني في الأيسر قطرتين وفي الأيمن قطرة. والثالث في الأيمن قطرتين وفي الأيسر قطرة.
قلت: فالظاهر أن هذا عن توقيف، فلا ينبغي أن يقدح في هذا الخبر حتى يجرب على هذه الصفة، فإن صح فقد حصل المقصود. وإلا أمكن الجواب من وجوه:
أحدها: أن أثر الشيء قد يتخلف لمانع، فربما تخلف أثر الشونيز لعدم معرفة المستشفي به في تلقي خبر الشارع، ولا شك أن الشارع لم يبعث طبا ولا طبيبا، وإنما يصف ما يصف من هذا على جهة التبرك باختياره، فيصير كالأدعية التي أمر بها، وقد صح عنه أنه قال: «إذا دعيتم الله فادعوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يسمع دعاء من قلب غافل لاه» أو لغير ذلك من الموانع.
الثاني: حمل الخبر على التقييد بما إذا كان المعالج به النبي ﷺ كرامة له وإعجازًا.
الثالث: تقييده بما إذا ركب مع أدوية خاصة تركيبا خاصا أو في زمن خاص أو في مزاج خاص. وليس هذا بأول لفظ قيد من ألفاظ الأنبياء، فإن الإطلاقات في كلامهم كثيرة والعلماء يقيدونها.
ثم ماذا ينكر من الخبر، وقد ذكر الأطباء للشونيز منافع كثيرة؟
قال ابن جزلة في المنهاج: "الشونيز، حار يابس في الثالثة مقطع البلغم جلاء محلل للرياح والنفخ، ويقطع الثآليل والخيلان والبهق والبرص والجرب وينفع من الزكام البارد، وخصوصا مقلوا مجموعا على خرقة كتان ويطلى به جبهة من به صداع بارد ويفتح السدد، والسعوط به ينفع ابتداء الماء، وشربه ينفع من انتصاب النفس ويقتل الديدان ولو طلي على السرة، ويدر الحيض، وبالماء والعسل للحصاة، ويحل الحميات البلغمية والسوداوية، ودخانه يطرد الهوام، وهو ينفع من لسع الرتيا، وقدر ما يؤخذ منه إلى درهم".
وذكر غيره له غير ذلك من المنافع. ثم إنه إذا كان حارا يابسا في الثالثة فاتجاه مضمون الحديث منه معقول. وذلك لأنه متمكن في طبع الحياة وهو الحرارة. فهذا أصل يبنى عليه. ثم المرض ينقسم بانقسام العناصر الأربعة في كيفياته، وهي معروفة. وتقرر أن العلاج قمع الشيء بضده، فإن كان المرض باردا رطبا، فالشونيز مضاد له فيصلح دواء له. وإن كان باردا يابسا فقد تضادا في الحرارة، واشتراكهما في اليبوسة يعدل بالمرطبات، وكذلك إن كان المرض حارا رطبا أو يابسا تضادا في الحرارة. وما اشتركا فيه يعدل على ما شرحته الصناعة.
وبهذا التقرير يصح أن فيه دواء من كل داء.
بقي أن يقال: فعلى هذا تبطل فائدة التخصيص بالشونيز، لأن هذا متجه في كل حار يابس أو رطب؛ فيقال: يجوز أنه خصه بالذكر لما اختص به من خواص لا يشارك فيها، وأنه كان أعم وجودًا عندهم أو أن هذا مفهوم لقب فلا يكون حجة على انتفاء الحكم في غيره.
(الشرط الثاني الطهارة)
قال: "وإذ قد فرغنا من امتحان الشرط الأول وهو الصدق، وحصلنا من ذلك على ما اتضح وظهر، فلندخل إلى امتحان الشرط الثاني وهو الطهارة، فلنتأمل ما صح عنه من ذلك".
قلت: قوله: "وحصلنا من ذلك على ما اتضح وظهر" يوهم أنه حصل على مطلوب، ولم يحصل مع ما أجبنا به على شيء فليجمع خاطره.
قال: "فمن ذلك حديث البخاري عن أنس قال: كان النبي يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار - وهن إحدى عشرة - قيل له: وكان يطيقه. قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين".
ثم ساق أحاديث عِشرة النبي ﷺ لنسائه واستمتاعه بهن، نحو ما روت عائشة أن رسول الله كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها، وقولها: "خالط ريقي ريقه في آخر أيام الدنيا، وكان يأمرني وأنا حائض فأتزر ويباشرني" وقصة تزوجه زينب وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} وقول عائشة حين نزلت {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وما ذكره المسلمون من أن من خصائصه أنه كان إذا وقع بصره على امرأة ورغب فيها وجب على الزوج طلاقها. وأنه لما رأى زينب حاسرة قال: "سبحان مقلب القلوب" وأن صفية صارت لدحية فوصفت لرسول الله ﷺ فبعث إلى دحية فأعطاه ما أراد ثم أخذها فقال لأم أنس: "أصلحيها". وذكر السبب في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وأشباه هذا.
ولم يذكر في هذا الشرط تشنيعا بناء على ما قدم في أول الكتاب من كلام موسى بن عبيد الله وغيره أن حاسة النكاح عار، فهذه مقدمة. ثم أثبت هنا أن محمدًا كان مولعا بحاسة النكاح، فانتظم له الدليل. فصار في التقدير تقريره هكذا: محمد كان مولعا بحاسة النكاح، وحاسة النكاح عار، فمحمد كان مولعا بالعار ومن كان مولعا بالعار لا يكون طاهرا، والنبي من شرطه أن يكون طاهرا، فمحمد ليس بطاهر، فلا يصلح أن يكون نبيا.
والجواب عن هذا قد سبق أول الكتاب تاما كاملًا. لكن نبين هنا وجه بطلان شبهته، وذلك بمنع أن حاسة النكاح عار، بل هو من أحسن الأفعال وجيد القرب لأن فيه مصلحتين عظيمتين:
إحداهما: وجودية. وهي إقامة النوع الإنساني بتكثير العباد والعُبَّاد.
والثانية: عدمية، وهي إعدام الزنا بالاكتفاء بالحلال. ولهذا قال النبي ﷺ لأصحابه: "في فعل كذا صدقة، وفي كذا صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا يا رسول الله: أياتي أحدنا شهوته ثم يثاب؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام كان يعاقب؟" قالوا نعم. قال: "فكذلك".
ثم يقال: إن كان هذا عارا فالأنبياء المتقدمون أولى به. فقد كان لسليمان ألف من بين زوجة وسرية، وطاف في ليلة واحدة على سبعين امرأة، فكانت له امرأة يحبها فعبدت صورة ابنها في داره بغير علمه، فعاقبه الله على ذلك بأن نزع عنه الملك أربعين يوما.
وكان لداود تسع وتسعون امرأة، ثم صعد يوما السطح فرأى امرأة أوريا بن حنان تغتسل، وكان من فرسانه وقواده، فأرسل فشدد عليه في الجهاد حتى قتل ثم تزوج امرأته فكانت هي أم سليمان، وكانت تلك خطيئة. ومحمد عليه السلام إنما أخذ امرأة من زوجها باختياره بإذن الله.
وفي التوراة أن أبيمالخ أشرف يوما على إسحاق وهو يلاعب امرأته رفقا، وأن لوطا أسكرته ابنتاه حتى أحبلهما. وأن روبيل بن يعقوب وطئ سرية أبيه ونجس فراشه. وأن يهوذا بن يعقوب زنا بكنته على الطريق ورهنها عمامته وخاتمه وقضيبه على جدي يعطيها إياه.
فأي العارين أشد: من ينكح النساء حلالا أم من ينكحهن زنا؟
على أننا لا نصدق هذا في الأنبياء، بل هو عندنا محرف مبدل، لكنه لازم لكم لأنه في التوراة، وأنتم تحتجون علينا بها.
ثم إنا نقول لهذا النصراني: إن أول من نكح النساء "آدم" ثم تتابع بنوه في النكاح، الأنبياء والأولياء والصالحون والطالحون. فكيف يكون هذا عارا في حق بعضهم دون بعض، وهل هذا إلا عناد.
ولأجل هذا السؤال الفاسد أنزل الله على نبيه ﷺ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}.
ولعلك حيث إن المسيح لم ينكح النساء يلزم العار جميع الأنبياء. وذلك لا يلزم، فإن المسيح على رأيك كان هو الله أو ابن الله، فلا يجور عليه النكاح. وعلى رأينا: أن ذلك كان منه زهدا وعزوفا عن الدنيا، ولو تزوج وأولد لكان أكمل له. وعلى رأي بعض الناس: أنه كان حصورا كيحيى بن زكريا لا يقدر على إتيان النساء. وعلى رأي آخرين أن ذلك كان آية، كما كان وجوده لا من بشر آية. فإلزامك على طريق المسيح ما يعود بالقدح على النوع الإنساني على الإطلاق لا يجوز ولا يسمع.
(الشرط الثالث الإعجاز)
قال: "الشرط الثالث: الإعجاز، ولم يأت محمد بمعجز، ولا خارق من خوارق العادة".
قال: والدليل على ذلك: ما جاء في كتاب السير أن أشراف قريش اجتمعوا عند الكعبة. فقالوا: يا محمد ما أدخل أحد على قومه ما أدخلت علينا لقد شتمت الأباء وعبت الدين وسببت الآلهة، فإن كنت تريد السيادة سودناك، أو المال أغنيناك، أو كان بك جنون بذلنا أموالنا وأبرأناك.
فقال: "لا شيء من ذلك كله، بل الله أرسلني إليكم بشيرًا ونذيرًا"
قالوا: فإن كنت غير قابل ما عرضناه عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق نكدًا منا ولا أشد عيشًا، فسل ربك إن كنت نبيا فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن في من مضى منهم قصي بن كلاب فإن كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، فإن صدقوك وصنعت ما سالنأك صدقناك وعرفنا لك منزلتك من الله وأنك رسوله.
فقال لهم: "ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله الذي بعثني به"
قالوا: فسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول، ويراجعنا عنك رسله فليجعل لك خياما وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يعينك بها عما نراك تبتغي بالأسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسها.
قال: "ما أنا بفاعل ولا أسال ربي هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرًا".
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا. وقالوا كثيرًا حتى انتهى مقالهم إلى أن قالوا: أما علم ربك أنا سنسألك عنه فيعلمك بما تراجعنا به ويخبرك بما هو صِانع إذا لم نقبل منك ما جئتنا، قد بلغنا: أنه إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن، ثم انصرف محمد حزينا إلى أهله.
قال: "أفلا ترى كيف سألوه عن جملة معجزات، فلم يأت بواحدة، فظهر أنه كان يعلمه القرآن الرحمن الذي ذكروه، لا غير".
قلت: أما قوله: إن محمدًا لم يأت بمعجزة، فسنذكر من معجزاته ما يكتفي ببعضه العاقل.
وأما ما ذكر من أنه لم يجب قريشا إلى ما سألوه من المعجزات فجوابه من أربعة أوجه:
أحدها: أنه علم أنهم معاندون وأنه لو أتاهم بذلك لم يؤمنوا.
والدليل على ذلك في كلامهم. فإنهم قالوا له: أزل عنا هذه الجبال، وخرق لنا الأنهار في أرضنا وأوسعها علينا، وأبعث لنا آباءنا مع قصي، فإن صدقوك وصنعت ما سألنأك صدقناك.
فعلقوا تصديقهم له على شرطين: إزالة الجبال ونحوها، وتصديق الموتى له؛ ولم يكتفوا بأحد الشرطين. ولا شك أن من له نية في متابعة الحق يكتفي ببعض ذلك. فإن بعد تصديق الموتى له في ذلك لا يبقى إلا العناد. فلما علم عنادهم لمِ يجبهم إلى ذلك. ولهذا أوحى الله إليه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. وكذلك كان. فإنه لم يؤمن من قريش إلا يسير أول الأمر.
الوجه الثاني: أنه علم باستقراء أحوال الأمم الخالية مع أنبيائهم أنه إن عاجلهم بإظهار الآيات مع ما علمه منهم من العناد أنهم يهلكون، كما هلك قوم فرعون بعد إظهار موسى آياته وعاد وثمود وغيرهم، وكما مسخ قوم من قوم المسيح خنازير لما لم يؤمنوا بعد نزول المائدة، ونحو ذلك، فأراد التمادي بهم رجاء أن يفيئوا إلى الحق.
وقد جاء في الحديث أنه ﷺ قال: "خيرت بين أن يجعل الله لي الصفا ذهبا ثم إن لم يؤمنوا هلكوا وبين أن ينظروا حتى أدعوهم إلى الإسلام، فاخترت أن ينظروا" معنى الحديث هذا. وهو ﷺ كان حريصا على إسلامهم، لا على تعجيل هلاكهم، ولهذا قال الله سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} أي إلا أن كذب بها الأولون فأهلكناهم، وأنت استأنيت بقومك فأجبناك إلى ذلك.
ولهذا لما آتاهم بعد ذلك بالخوارق كانشقاق القمر وتسليم الشجر وعجزوا عن معارضة القرآن ولم يؤمنوا جاءهم العذاب فاستؤصلوا بالسيف يوم بدر وغيره.
الوجه الثالث: أنهم سألوه ما يسقط فائدة التكليف بالإيمان بالغيب. وبيانه أنهم سألوه إحياء الموتى. فلو بعثهم لهم لأخبروهم بصحة ما وعدهم وأوعدهم من ثواب وعقاب وجنة ونار، فكان يحصل لهم بذلك العلم الضروري بما هناك، فيصير إيمانهم كإيمان فرعون لما عاين الملك ليقبض روحه قال: {آمنتُ} {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}.
والمقصود إنما هو الإيمان الاختياري، لا الضروري. وما يفضي إلى سقوط فائدة التكليف لا تجوز الإجابة إليه. وكذلك إنزال الملك عليهم يسقط فائدة التكليف.
الرابع: المعارضة بما في الفصل الحادي والعشرين من إنجيل متى أنهم سألوا المسيح آية فلم يأت بها. والجواب مشترك.
ومما يدل على جهلهم وعنادهم في سؤالهم له أنهم أنكروا عليه فقره وابتغاءه الرزق بالأسواق، وقالوا: قل لربك يجعل لك خياما وقصورا وكنوزا من ذهب يغنيك عن ذلك. وهل في ابتغاء الرزق عيب عند أحد من العقلاء، وقد كان الأنبياء يبتغونه برعاية الغنم وغيرها. وهل علم من حال أحد من الأنبياء أن الله جعل له خياما وقصورا وكنوزًا من ذهب. إنما فعل ذلك بالفراعنة لطغيهم كقارون وفرعون وهامان ونظرائهم. ولذلك عاب الله عليهم قولهم حيث قال: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} الآيات إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} ثم قال: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}.
وأما قولهم: "أما علم ربك أنا سنسألك عما سالنأك فيخبرك بما تراجعنا به وبما يفعل بنا إذا لم نقبل منك" فإنا نقول: تحذيره الذي راجعهم به هو الذي أمر به، إذ كان لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقد كان يتوعدهم بما سيجري لهم كقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ونحو ذلك كثير.
وقولهم وقوله: "إنما يخبره بذلك ويعلمه رحمن اليمامة".
الجواب عنه من وجوه:
أحدها أنه لم يصح لنا عن محمد ﷺ أنه دخل اليمامة ليجتمع بترجمانها ولا جالس أحدًا من علماء الأولين ولا الكهان بمكة ولا غيرها، فهذا كذب منهم وافتراء. وإنما هذا منهم كان على وجهة الاستهزاء لما قال لهم: {اسْجُدُوا لِلرّحْمَن} يعني: الله، قالوا: لا رحمن إلا رحمن اليمامة، أنسجد له؟
كما أنه لما توعدهم بالزقوم قال لهم أبو جهل: أتدرون ما الزقوم الذي يتوعدكم به محمد؟ إنما هو الزبد بالعسل. أما والله لئن رأيناه لنتزقمنه تزقما. ولذلك يقول الله له: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} وقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}.
الثاني: أن محمدًا ﷺ كان أميا لا يكتب، يتيما لا أب له، مستضعفا بين قريش وجبابرتها؛ فكيف يختصه رحمن اليمامة بالتعليم دون غيره من أصحاب الكتابة والقوة؟
الثالث: أن الذي نسبه إلى التعلم من رحمن اليمامة إنما هم نفر يسير من قريش، من جبابرتها وجهالها على ما ظهر من جبروتهم وجهلهم في سؤالهم؛ فكيف اختص هؤلاء بعلم ذلك دون بقية سادات العرب الذين اتبعوه من سائر القبائل كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. مع أن المسيح يقول في الإنجيل: "ما من خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلن" فلو علم بقية العرب ذلك وصح عندهم لما تابعوه ولكانوا مع الذين خالفوه. وهذا وما تتوفر الدواعي على نقله وظهوره، فاختصاص نفر يسير به دون سائر العرب محال عادة.
الرابع: أن علماء العرب وعقلاءهم كانوا يصدقونه في دعواه، كورقة بن نوفل وأبي طالب حيث يقول:
وعرفت دينا لا محالة أنه ** من خير أديان البرية دينا
إلى إن قال: ولقد صدقت وكنت قدم أمينا
ورأى ابنه عليا يصلي مع رسول الله فقال: يا بني ما هذا؟ قال: علمنيه محمد، فقال: يا بني تابع ابن عمك فإنه لا يرشدك إلا إلى خير.
وإنما منع أبا طالب من الإسلام ما ذكره في شعره حيث يقول:
لولا الملامة أو حذاري سبة ** لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وكزيد بن عمرو بن نفيل.
ومن الكهان الذين بشروا بنبوته سطيح وشق وخطر، كاهن ذكره الديار بكري في تفسير قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} وذكر له حكايات عجيبة.
ومن الرهبان بحيرا وسلمان وأصحابه. وغير هؤلاء كثير.
الخامس: إن رحمن اليمامة إن كان قد كان عالما بمثل هذا العلم الغزير، كيف لم يدع به النبوة ويستغني عن واسطة غيره، مع أن مثل منصب النبوة مما لا يؤثر به أحدًا غيره، ويجتهد أن لا يستقر لغيره لما علم من حب النفوس للرياسة. وقد كان أمية بن الصلت يطمع في النبوة، فلما لم تحصل له مات غيظا وحسدا ولم يتابع محمدا.
على أن المعروف أن رحمن اليمامة هو مسيلمة، وقد أظهر الله فضيحته يوم اليمامة فقتل، ولما رهقته السيوف قال له أصحابه: ما أوحى إليك ربك؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم وحريمكم، واعترف الكذب على الله.
السادس: إن هذا السؤال ألزم للنصارى منه المسلمين، لأن محمدًا كان أميا، لا يختلف في ذلك اثنان. فإتيانه بمثل هذا العلم والناموس إن سلمتم أنه لم يستفده من مشير غيره فهو معجز في نفسه؛ وإن اتهمتموه بأنه يعلمه من غيره، فالمسيح أولى بالتهمة لأنه علم الكتابة صغيرا وجالس العلماء وسمع منهم وكانوا يتعجبون من فرط ذكائه وإدراكه في هيكل أورشليم وغيره، كما ذكر في الإنجيل. وحينئذ يتسع لقائل أن يقول: إن حكمة المسيح كانت من العلماء والكتب ومعجزاته كانت شعبذة وتخييلا، كما نسبه إلى ذلك اليهود. فأنتم في الطعن على محمد كاليهود في الطعن على المسيح، فإن صدقوا صدقتم. وإن كذبوا كذبتم. والفرق عليكم متعذر غير يسير.
قال: "ومنِ الأدلة على كونه لم يظهر معجزة ما قال في سورة الإسراء: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} إلى قوله {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} أو قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}. وحسبك شهادة أنه لم يرسل بالآيات".
قلت: لقد أبان هذا السائل في هذا السؤال عن بلادة عظيمة وسوء فهم، مع أنه متفلسف، والمعهود من الفلاسفة جودة الذهن وحسن الفهم.
أما قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} فليس فيه ما يدل على أنه لم يأت بمعجز، بل فيه اعتراف بالبشرية والرسالة والعبودية بين يدي ربه عز وجل.
ونحن نقول إن المعجز يخلقه الله على يدي أنبيائه، لا أنهم هم يخلقونه على أيديهم.
وقد روى وثيمة في القصص قال: قال سعيد عن قتادة عن الحسن: إن موسى لما غشيه فرعون تقدم إلى البحر فقال له: إن الله أمرني أن أسلك فيك طريقا، وضرب بعصاه البحر من غير أن يوحى إليه، فأنطق الله البحر فقال له: يا موسى أنا أعظم منك سلطانا وأشد منك قوة وأنا أول منك خلقا وكان علي عرش ربنا وأنا لا أدري قعري ولا أترك أحدًا يمر علي إلا بإذن ربي وأنا عبد مأمور ولم يوح إلي فيك شيء. ولم ينفرق له حتى أوحى الله إليه بذلك.
وذكر أيضا قال: قال خارجة بن مصعب عن أبي إلياس عن وهب: أن موسى كان يضرب الحجر بالعصى فتنفجر الأنهار لبني إسرائيل، فقالوا يوما: لو ضاعت العصى أو الحجر متنا عطشا، فأراد الله أن يريهم قدرته وسوء ظنهم فأوحى إلى موسى فأخبره بذلك وقال: الآن لا تضرب الحجر بالعصا ولكن كلمه واعزم عليه باسمي فإنه يطيعك، فغضب موسى من كلام بني إسرائيل، ونسي ما قال له ربه، فضرب الحجر بالعصا فلم تنفجر الأنهار على عادتها. فذكر عهد ربه فأقسم على الحجر باسمه فأجاب وقال: أما تستحي يا موسى أن تنسى عهد ربك؟ هلا كان هذا قبل الآن؟ ثم تفجرت منه الأنهار.
فالأنبياء بشر وليسوا - كمِا اعتقدتم - في المسيح أنه إله يفعل الأشياء بنفسه. فمعنى قوله: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}: أي لا آتي بالمعجز إلا أن يأذن فيه ربي، وأنه لم يأذن له في ذلك الوقت، للوجوه التي بيناها قبل.
وهذا أيضا معنى قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أن إظهارها متوقف على إرادته.
وأما قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} فليس إخبارا بنفي الإرسال في عموم الأوقات حتى انقضى عهده النبوة، بل ينفيه في وقت خاص وهو في أول الأمر ثم أرسل بها بعد ذلك، بدلِيل قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} إلى قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}.
قال: "ولما أشرف عليهم في طلب اعترافهم له بالنبوة وألحوا عليه في طلب الآيات وهو لا يظهر منه غير تلاوة القرآن عليهم، عظم ضجرهم حتى ضجوا منه واستغاثوا، فقالوا في صياحهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. قال: فلم يأتهم بآية ولا لحقهم ضرر، فلما رأى ذلك اعتذر بأن تلى عليهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية".
قلت: وهم في هذه الحكاية، وهي حجة عليه.
والصواب فيها أن قريشا والنبي ﷺ لما التقوا يوم بدر استفتح عليه المشركون، أبو جهل والنضر بن الحارث وغيرهما، فقالوا: اللهم إنا لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه، وقال أبو جهل: اللهم انصر أحب الطائفتين إليك اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه. فقتلَ أبو جهل والنضر في سبعين قتيلا، وأسر مثل ذلك في ذلك اليوم. فكان هذا استفتاحهم عليهم.
ثم لو سلمنا من أنهم قالوا ذلك لضجرهم منه، لكن قد أتاهم العذاب الأليم يوم بدر وغيره. وأي عذاب يكون أشد من أن يقتل الشخص ذليلا حقيرا ثم يصير إلى العذاب الأليم؟
وأما قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} قال الكلبي: معناه لو أراد أن يعذبهم أخرجك من بينهم.
قلت: لأن الأنبياء رحمة لا عذاب، فلا يعذب من هم فيه. ألا ترى أن لوطا لم يعذب قومه حتى خرج عنهم، ونوحا وصالحا وموسى وغيرهم من الأنبياء كذلك، فهكذا محمد، لم يعذب أهل مكة حتى خرج منها.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه قولان:
أحدهما: وفي أصلابهم من سبق في علم الله أنه سيوجد فيكون من المؤمنين المستغفرين.
والثاني: وبين أظهرهم مؤمنون مستخفون يستغفرون، فلما خرجوا من بينهم غلبوا بفتح مكة، وقيل بيوم بدر.
قال: "فإذا كان أعداؤه المكذبون له لا يعذبون وهو فيهم، فكيف عذب أصحابه يوم أحد وهزموا، وقتل منهم جماعة".
والجواب: أن ما جرِى لهم يوم أحد ليس عذابا، بل شهادة. بدليل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وهي في شهداء أحد. ولئن كان قتل المؤمنين في سبيل الله عذابا فليكن قتل يحيى وزكريا وصلب المسيح عذابا.
ونعم الله سبحانه على خلقه تارة تكون بأسباب سهلة كالأكل والشرب والنكاح، وتارة بأسباب شاقة كالشهادة والعبادات والرياضات. كما أن صحة البدن تارة تكون بتناول الأغذية والأشربة المستلذة، وتارة بتناول الأدوية المستكرهة كالصَّبِر ونحوه.
قال: "وجاء في السير أن رينب بنت الحرث أهدت لمحمد شاة مصلية وأكثرت من السم في الذراع لأنه كان يحبها، فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور فأساغ منها لقمة فهلك، ولفظ محمد لقمته وقال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم" وساق القصة.
قال: "وقد كان هذا الموضع أحق المواضع بالمعجز وأن يعلم بالحال فيجتنب الأكل ويخبر صاحبه. قال: وأما قوله إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم فليس بصحيح لأنه إما أن يكون أخبره قبل أن يسيغ لقمته أو بعد ذلك، فإن كان الأول فلم لم يخبر بشرا حتى مات بأكلته، وإن كان الثاني فالمخبر له موت بشر في الحال وانزعاج روحه هو حين لاك اللقمة المسمومة وكانت سبب موته بدليل قوله: ما زالت أكلة خيبر تعادني حتى كان هذا أوان قطعت أبهري".
قلت: أما هذه القصة فصحيحة. وأما قوله هذا الوقت كان أحق بإظهار المعجز فقد بينا أن المعجز وجوده إلى الله لا إلى الأنبياء، والله بالغ أمره بأسبابه.
ثم هذا يرد عليكم في المسيح حيث صلبه اليهود، فإنكم بزعمكم أنه كان إلها وأنه كان يزجر الريح فتسكن والبحر فيركد وكان يحيي الموتى ويستخفي عن أعين الناس إذا أراد، فلما صار في الخشبة صاح صيحة عظيمة وسلم الروح. وقد كان هذا الوقت أحق بإظهار المعجز.
فإن قلتم: كان ذلك باختياره.
قلنا: هذا كذب ومحال. فإن في الإنجيل أنه جمع التلاميذ وسهر بهم إلى الجبل وقال: اسهروا معي الليلة لأسأل أبي أن يغير عني هذه الكأس، وسأل ذلك فلم يُجب وجاء أعداؤه فأخذوه من هناك إلى حكم الموت.
وأما إخبار العظم للنبي علي السلام بأنه مسموم، فهو حق كما أخبر. وماذا يستبعد منه وقد سبح في يديه الحصى وحن إليه الجذع وسلم علي الحجر وأطاعه الشجر.
قوله: "إما أن يكون أخبره قبل إساغة بشر لقمته أو بعدها"
فجوابه من وجوه:
أحدها أن هذه قسمة غير حاصرة لجواز أنه أخبره بعد إساغة بشر لقمته وقبل تغيره، فإن السم بالغا ما بلغ ليس صاعقة تحرقة بمجرد ملابستها الجسم، بل لا بد من نفوذه إلى الروح ثم سريانه إلى القلب.
الثاني أنه من الجائز أن بشرا سبق بلقمته فابتلعها ثم صبر على ما وجده من ألمها ظنا أن ذلك لعارض يزول أو أن لقمته كانت من الموضع الذي سمه قليل. فإن في القصة أنها أكثرت السم في الذراع وسمت سائر الشاة، فلم يحس به ذريعا، وأن النبي عليه السلام اشتغل يأكل ولم يميز غلى بشر لما عرف من أدبه على الأكل أنه لا ينظر إلى جليسه، فأخبر الذراع حينئذ ثم ظهر بعذ ذلك تأثير السم في بشر.
الثالث: لو حملنا إخبار الذراع ههنا على مجازه، وهو الاستدلال بانزعاج الروح بالسم كما يقال: "أخبرني السيف بما لقي من الوقائع" استدلالا بفلول مضاربه على ذلك، و"أخبرني المنزل برحيل أهله منذ حين" لدروس رسمه ونسخ الرياح آثاره – لما كان فيه محذور. فإن لمحمد عليه السلام من المعجزات المحققة ما يغنينا عن المنازعة في هذه. وحينئذ يكون الإخبار صحيحا بلا نزاع.
قال: فها نحن قد بينا لك بنص القرآن على طريق الاختصار أنه لم يأت بمعجزة وتبين ذلك من الحديث الصحيح عندهم" وذكر حديث مسلم: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى الله إلي وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
قال: "فمن حاول التعصب له ورام الانتصار بشهوة نفسه بالتمسك بنقل الآحاد للمعجزات المردودة عند علماء المسلمين فقال إنه فعل وصنع شيئا من المعجزات، فهو مكذب لقرآنه وحديثه الصحيح".
قال: "وقوله في هذا الحديث: «إني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» مسلم له. فإن جميع أهل الباطل والكذب متبعوه إلى جهنم يوم القيامة. وأهل الحق الذين هم قليلون بالنسبة إلى هؤلاء، يتبعون سيدنا المسيح إلى الحياة الدائمة".
قلت: قوله: "قد بينا بنص القرآن أنه لم يأت بمعجز" قد بينا نحن أنه لم يبين شيئا من ذلك. وإنما مادة كلامه أمران: هوى وقصر باع في العلم وسوء فهم.
وأما قوله في حديث مسلم: «وإنما كان الذي أوتيته وحيا» فجوابه عن وجهين:
أحدهما: أنه يجوز أن هذا الحديث قاله في أول الإسلام قبل تكامل معجزاته.
الثاني: أن الأصوليين اختلفوا في "إنما" هل تقتضي الحصر أم لا، بل الإثبات المؤكد وهو الذي يدل عليه الدليل. وحينئذ لا يفيد هذا الحديث انحصار معجزه في القرآن، على أنه لو أفاد لكان فيه كفاية كما سنبين.
فتقدير الكلام إذن: وإن الذي أوتيته كان وحيا، وإنما خصه بالذكر لأنه أول ما ظهر على يديه ورأى بسببه الملائكة، وهو قديم على أصل أهل السنة، وسائر معجزات الأنبياء مخلوقة، وهو المتواتر اللفظي، فلهذه الخصائص خصه بالذكر.
وقوله: "فمن حاول التعصب له بنقل الآحاد للمعجزات المردودة عند علماء المسلمين فقال إنه فعل وصنع شيئا، فهو مكذب لقرآنه وحديثه الصحيح"
فجوابه: أنا قد بينا أن القرآن والحديث الصحيح لا يدلان على أنه لم يأت بمعجز".
وأما قوله: "نقل الآحاد المردودة عند علماء المسلمين"، فهذا عدم علم بأصل المسلمين واصطلاحهم في دينهم، فيحتاج أن نشرح ذلك بينا، لنعرفه من وقف عليه ممن لم يعرفه. فنقول:
اعلم أن الخبر إما متواتر أو آحاد، والمتواتر لفظي أو معنوي.
فالمتواتر هو الخبر الذي ينقله عدد لا يتواطأ مثلهم على الكذب لكثرتهم عن مثلهم عن مثلهم إلى محل صدوره، يستوي طرفاه ووسطه في ذلك، ويستند في أصله إلى حس لا إلى نظر.
واللفظي منه ما كان الاتفاق فيه على قضية واحدة معينة يخبر بها هؤلاء القوم بالشرط المذكور، كطوفان نوح وإغراق فرعون وقلب عصا موسى حية وإحياء المسيح الموتى وقول محمد إني رسول الله وتحديه العرب بالقرآن، ونحو ذلك.
والمعنوي ما كان إخبار المخبرين فيه عن عدة قضايا جزئية تشترك في كلي واحد، كسخاء حاتم وشجاعة علي. فإنه التواتر لم يوجد في قضية واحدة من مكارم حاتم ولا من شجاعة علي، بل نقل قوم أن حاتما وهب يوما فرسا ويوما قطعة إبل ويوما قطيع غنم ويوما باع نفسه ببعيرين نحرهما لضيفه، في قضايا كثيرة حصل التواتر بمجموعها لا بواحدة منها. وكذلك في شجاعة علي ما صح عنه أنه كان يوم بدر أول مبارر ويوم أحد أول مقاتل ويوم الخندق بارز عمرا وقد نكل عنه الناس، ويوم خيبر خصه النبي ﷺ بالراية بعد رجوع الشيخين بها لم يفتح عليهما، فقتل مرحبا في جماعة من اليهود وكان الفتح على يده، وفي يوم حنين قتل ذا الخمار برازا. وفر الناس عن النبي عليه السلام فلم يبق معه إلا وهو سابع سبعة، وأنه لم يرجع عن مقبل ولا تبع مدبرًا، ونحو ذلك مما حصل بمجموعة العلم بشجاعته.
وإن شئت فسم الأول تواترا منفردا، والثاني تواترًا مركبا، أعني من مجموع قضايا.
وإن شئت سم الأول كليا والثاني جزئيا، لا حجر في شيء من ذلك.
وأما الآحاد فما رواه العدل الضابط عن مثله إلى محل صدوره. ثم ينقسم إلى مستفيض وغيره. فالمستفيض أعظم من الآحاد ودون التواتر.
فإذا عرفت هذا فمعجزات النبي متواترة. لكن القرآن تواتره لفظي. وما عداه منها تواتره معنوي، على ما بينا وسنبين بضرب المثال. وحينئذ يتبين أن قوله: "إن ما عدا القرآن من معجزاته آحاد مردودة عند علماء المسلمين" كلام شخص غير محصل، وإنما المردود عندهم هو إخبار الواحد عن الواحد أو الاثنين في قضية واحدة، فهذا يوجب العمل ولا يفيد العلم ولا يثبت به أصل من أصول الشريعة ولا يرد به عليها قدح. وقد بينا فيما سبق أن جميع ما أورده هذا الخصم من جميع الآحاد التي زعمها قادحة في الشريعة لا ترد علينا ولا يلزمنا الجواب عنها، وإنما أجبنا عنها في أماكنها تبرعا.
إذا عرفت هذا، فالقرآن معجز ثابت بالتواتر اللفظي، كما سنبين، وباقي المعجزات بالتواتر المعنوي. وقد صنف الناس فيها كتبا ضخمة كالشفاء للقاضي عياض والوفا بفضائل المصطفى لأبي الفرج ابن الجوزي ودلائل النبوة للبيهقي والبشر بخير البشر لابن ظفر. ورأيت لبعض المغاربة دلائل النبوة ومعجزاتها عشر مجلدات، وغير ذلك مما لم أقف عليه كثير. وإنما أذكر منها هنا جملة منبهة على غيرها.
فمنها: ما أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ شقتين حتى نظروا إليه فقال رسول الله ﷺ: اشهدوا. والروايات بانشقاق القمر في الصحيح عن ابن عمر وابن عباس وأنس.
ومنها: ما روي جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن بمكة حجرًا كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه الآن. رواه مسلم والترمذي وقال: حسن غريب.
ومنها: ما روى علي بن أبي طالب قال: "كنت مع النبي ﷺ بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله" رواه الترمذي وقال حديث غريب.
ومنها: ما روى أنس أن رسول الله ﷺ خطب إلى لزق جذع، واتخذوا له منبرا فخطب عليه، فحن الجذع حنين الناقة فنزل النبي ﷺ فمسكه فسكن. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه أحمد والبخاري بألفاظ متعددة.
ومنها: ما روى ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: "إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة تشهد أني رسول الله؟ فدعاه رسول الله ﷺ، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي ﷺ ثم قال له ارجع، فعاد، فأسلم الأعرابي. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. والعذق: شمراخ النخل الذي فيه الرطب.
ومنها: ما روى يعلى بن مرة قال: خرجت مع النبي ﷺ ذات يوم إلى الجبانة حتى إذا أبرزنا، قال: "انظر ويحك هل ترى من شيء يواريني، قلت: ما أرى شيئا يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك. قال: "فما قربها" قلت: شجرة مثلها أو قريب منها، قال: "اذهب إليها فقل إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا بإذن الله" قال: فاجتمعتا، فبرر لحاجته ثم رجع فقال: "اذهب إليهما فقل لهما إن رسول الله يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها"، فرجعت.
قال: وكنت معه ذات يوم جالسا إذ جاء جمل يخب حتى برك بين يديه ثم ذرفت عيناه فقال: "ويحك انظر لمن هذا الجمل إن له لشأنا" قال: فسألت فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إليه فقال: "ما شأن جملك هذا؟" قال: لا أدري عملنا عليه ونضحنا حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال "فلا تفعل، هبه لي أو بعنيه" قال: بل هو لك يا رسول الله. قال: فوسمه بسمة الصدقة ثم بعث به.
ومنها: أنه صح أن قتادة بن النعمان قلعت عينه في حرب، فقال: يا رسول الله إن لي امرأة وأنا أحبها وأخاف أن تبغضني لعوري، أو كما قال، وكانت قد سالت على خده. فأعادها النبي ﷺ إلى مكانها فكانت أحسن عينيه بعد.
وروى البكري في سيرته: أن جابر بن عبد الله الأنصاري دعا النبي ﷺ إلى بيته في حفر الخندق وقد ذبح له شاة وطبخها، وكان له ابنان صغيران، فقال أحدهما للآخر: قم حتى أفعل بك كما فعل أبونا بالشاة، فذبحه ثم جاء ليجعله في التنور وهو مسجور، فوقع الآخر على رأسه فيه فاحترق، فوقع الصراخ في دار جابر، فأخبر النبي بذلك فدعا بهما، فشملهما بكساء أو نحوه، ثم توضأ وصلى ودعا الله، فقاما حيين. إلا أن هذا لم يثبت ثبوت غيره من الخوارق.
ومنها: أنه عليه السلام يوم حنين لما ولى أصحابه نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال "شاهت الوجوه" فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله. وقسم رسول الله غنائمهم بين المسلمين. رواه مسلم. وفي بعض الروايات أنه قال لبغلته: الصقي بالأرض، فلصقت فأخذ ترابا ثم قامت. وهذا لا ينافي قوله في رواية مسلم: نزل عن البغلة، لأنها لما لصقت بالأرض صار كالنازل عنها بالأرض، فشبه على الرواي فظنه نزولا حقيقيا خصوصا في ذلك الوقت الذي تشتبه الحقائق فيه على الإنسان لاشتغاله بالحرب والقتال.
ومنها: قوله لأصحابه: "إني لأراكم من وراء ظهري".
ومنها: ما تواتر عنه من نبع الماء من بين أصابعه كالعيون في مرات كثيرة يطول علي ذكرها.
ومنها: ما أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال: كنا مع النبي ﷺ في مسير فنفدت أزواد القوم حتى هموا بنحر بعض جمالهم. فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها، ففعل، قال: فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره، فدعى عليها حتى ملأ القوم أزودتهم. فقال عند ذلك: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة".
وفي أفراده أيضا من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله في غزاة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمرني نبي الله فجمعنا تزوادنا فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم فإذا هو كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعا ثم حشونا جربنا.
قلت: وهاتان قضيتان لوجهين:
أحدهما: أن الحديث الأول كان بإشارة عمر، وهذا كان ابتداء من النبي ﷺ على ظاهر الحديت.
الثاني: أنه تبين في غير هذا الطريق بأن إشارة عمر كانت في غزوة تبوك وكان عسكرهم فيها فوق ثلاثين ألفا، وهذا الحديث أخبر أنهم كانوا أربع عشرة مائة.
إلى قضايا كثيرة غير هذه، حصل لنا من مجموعها العلم الجازم بظهور الخارق المطلق على يديه، وإن لم يحصل العلم بوجود كل واحدة واحدة من هذه القضايا الحرية بعينها، فهذا هو التواتر المعنوي. وهذا المذكور في إطعام الخلق الكثير من زاد قليل أعظم مما حكاه النصارى في الإنجيل عن المسيح أنه أطعم خمسة الاف رجل وامرأة من خمس خبزات وحوتين، وفضل اثنتا عشرة سلة، لأن العسكر كان في تبوك فوق ثلاثين ألفا.
فإن قيل: هذا إنما تواتر عند المسلمين، ولم يتواتر عندنا.
قلنا: لا يخلو إما أن تشترطوا في التواتر ما اشترطه اليهود من أن المخبرين به لا يجمعهم دين واحد أو لا تشترطوا ذلك، فإن اشترطتموه لئلا يلزمكم تواتر هذه الخوارق لمحمد لزمكم مثله لليهود فإنهم يقولون: ما تواترت عندنا خوارق المسيح، والنصارى متهمون.
وإن لم تشترطوه فهذه خوارق قد تواترت عند المسلمين في شرق الأرض وغربها، فيلزمكم التصديق بها.
ثم نفرض الكلام معكم في هذا الخارق الخاص: هو إطعام الخلق الكثير من الطعام اليسير.
فنقول: كما لم يتواتر ذلك عندكم عن محمد كذلك لم يتواتر عندنا عن المسيح، بل في إنجيلكم رأيناه، فإن سلمتم سلمنا، وإن منعتم منعنا.
فإن قلتم: نمنع وتمنعون، ثم نرجع إلى ما سلتموه من إحياء الموتى ونحوه، فأنتم إلى ماذا ترجعون؟
قلنا: أما أولا: فنحن ما سلمنا معجزات المسيح المطلق الذي تعتقدونه أنتم إلها أو ابن إله، وتعتقده اليهود: ابن يوسف النجار أو لبغية، وإنما سلمنا معجزات المسيح الذي بشر بمحمد وشهد له بالرسالة وأمر من أدركه منكم باتباعه. أما مسيحكم الذي تعنونه فلا نسلم أنه كان له وجود فضلا عن أنه بمعجز أو غيره. ولو سلمنا ذلك لكم للزمنا أن نعتقد إلهيته كما اعتقدتم. وذلك خروج عن دين الإسلام والسلام.
وأما ثانيا: فإنا نرجع إلى القرآن، وسنبين وجه كونه معجزًا.
وقوله: "إن أهل الباطل والكذب متبعوه إلى جهنم يوم القيامة".
قلنا: هذا سوء أدب لا يليق على عامة الناس، بل أشرافهم، فضلًا عن الأنبياء أرباب الأديان العامة والنواميس المشهورة. ولكن هذا النصراني قد يعذر طبعا في هذا السفه، فإنه قد عاش في أرض الإسلام عمره ذليلًا مهانا عليه الجزية، ملتزما أحكام الملة، لم يقدر على شفاء غيظ ولا إراقة فيض، فشفا غيظه بالسفه خفية، كما قال بعضهم: أوسعتهم سبا وراحوا بالأبل، وكما قالت العامة في المثل: ألستم في الهوى، والصفع في القفا؟
قوله: "وأهل الحق القليلون بالنسبة إلى هؤلاء يتبعون سيدنا المسيح إلى الحياة الدائمة".
قلنا: هذا مستدرك من وجهين:
أحدهما: قولك: إنكم قليلون بالنسبة إلى المسلمين، إن عنيت في دار الإسلام فهو صحيح. لكن مرادك خلافه بمقتضى كلامك يتبعون سيدنا المسيح، فإن هذا يعم بزعمك كل نصراني ينتحل دين المسيح، فيكون التهافت على هذا التقدير بين لفظك ومرادك. وإن عنيت مطلقا، فالنصارى أكثر الأمم، فإنهم اسقلوا بالبلاد الشامية وأطراف السواحل، وهم أهل الحبشة وملاكها. وبهم وبيأجوج ومأجوج تمتلئ جهنم إن شاء الله.
الوجه الثاني: قولك: "سيدنا المسيح".
من سيدك المسيح؟ لعمري إنه مع التحقيق سيدك المسيح ضاع. لأن المسلمين قالوا: ما قتل ولا صلب، بل رفعه الله إليه. وأنتم تقولون: قتل وصلب ودفن وقام بعد ثلاث من الأموات، واليهود وافقوكم على صلبه وخالفوكم في قيامه. فعلى قولهم سيدكم المسيح قد صار رميما. ثم إذا كان يوم القيامة كان لكم أشد الناس خصما لكذبكم وافترائكم عليه واتخاذه إلها ومخالفتكم لوصاياه من بعده.
ثم يلزمه من هذا الكلام تناقض آخر: وهو أنه قد سبق منه إنكار النعيم الحسي في الآخرة من الأكل والشرب والنكاح، ثم قد أثبت ههنا جهنم، وذكر في الإنجيل في مواضع كثيرة، تارة بلفظه، وتارة بمعناه، فيقول: "هنالك تكون الظلمة وصرير الأسنان" وهذا عذاب حسي. فالحكمة تقتضي اتحاد جنس الثواب والعذاب، فإما أن يكونا حسيين، وهو نقض لما سبق منه من إنكار النعيم الحسي، وإما عقليين، كما احتج عليه في طرف النعيم بقول ابن سينا في الإشارات، فيلزمه أن يكون العذاب عقليا، كما قرره الفلاسفة. وفي ذلك ترك ما صرح به الإنجيل من العذاب الحسي.
قال: "وإذ فرغنا من الكلام في أنه لم يتحل بمعجزة قدمها بين يدي دعواه، ولا أظهرها بعد ذلك، فلا متمسك لمنازع إلا أن يقول: القرآن معجزة لفصاحته".
قال: "ولا حجة في ذلك، لأن الفصاحة هي التقرب من البغية والتباعد من حشو الكلام. وقيل: دلالة اللفظ على المعنى بشرط إيضاح وجه المعنى ونظامه وقلة الألفاظ واختصارها. وإذا تاملت جميع القرآن وجدت أكثر عباراته لا توضح وجه المعنى ولا تتأتى معانيه على نظام. والدليل على ذلك: أن المفسرين مع كثرة عددهم يفنون أعمارهم في الاختلاف في تأويله ويصنفون فيه التصانيف الطويلة ويقع بينهم الشر والخلافات ولا ينفصلون عن معارك النزاع والتضاد في تفسيره، ويتفرقون فرقا ملقبة كالعلوية والبكرية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم من طوائف عديدة يكفر بعضهم بعضا ويفضح قوم مذهب قوم، ولا يقعون على تفسير يتفق أهل الملة بجملتهم عليه ولا شطرها. ويكفيك في ذلك شهادة القرآن لما قلناه حيث يقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}".
قلت: قد بينا أن محمدًا ﷺ تحلى بالمعجزات. وأما القرآن فهو معجز عظيم لفصاحته واشتماله على الإخبار بالغيوب وإفحامه العرب العاربة أهل الفصاحة.
وأما ما ذكره من حد الفصاحة أولا فهو جيد وهو موجود في القرآن، فإن معانيه إلى الفهم تسبق ألفاظه إلى السمع. وأما ما ذكره ثانيا ففاسد، لأنه لا خلاف عند أحد من أهل العالم أن العرب كانوا فصحاء في نثرهم ونظمهم، مع أن في كلامهم الفصيح ما هو مجمل لا يتضح فيه وجه المعنى.
ثم إنك أنت نصراني علج أقلف اللسان؛ ما لك وللفصاحة والبلاغة، لهما قوم تكلموا فيهما.
فقالوا: الفصاحة خلوص اللفظ من التعقيد، الموجب لقرب فهمه ولذاذة استماعه، وذلك باشتماله على صفات ذكرت في مواضعها، والبلاغة كون الكلام الفصيح موصلا للمتكلم إلى أقصى مراده. وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: البلاغة: ما رضيته الخاصة وفهمته العامة". وقالوا في لفظ آخر: البلاغة أن تقول فلا تبطئ وتصيب فلا تخطئ. وهذا كله موجود في القرآن.
وقوله: "عبارة القرآن لا توضح وجه المعنى ولا تأتي على نظام مناسب" سوء فهم وقصور في اللفظ، ويكفي في بطلان قوله أن عامة الناس وخاصتهم يفهمونه إذا سمعوه.
وأما اختلاف المفسرين في بعضه فليس لما ذكر، بل تارة للخلاف في أسبابه، وتارة لاختلاف مذاهبهم فيطلبون تأويله عليها، وتارة لإجمال في ألفاظه، وذلك من وجوه إعجازه حيث كان فصيحا، بالنسبة إلى كل قوم يفهمون منه ما يدعونه، وليس من شرط الفصاحة النصوصية على المراد. ألا ترى إلى شعر امرئ القيس ونحوه من الشعراء الجاهليين، لا خلاف في فصاحته مع كثرة احتمالاته وإجمالاته.
وأما تكفير بعض الطوائف فليس سببه اشتباه القرآن، بل ذلك لمواد عقلية وفلسفية دخيلة على الإسلام، كما عرف من مذهب المعتزلة ونحوهم.
وأما قوله: "لم يتفقوا على تفسير شيء منه" فباطل. بل قد اتفقوا على كثير منه. والخلاف فيما اختلفوا فيه منه ليس لأمر عائد إلى لفظه ولا بد، بل وإلى أمور خارجة.
وبالجملة: فإن توقف الأمر معك على ثبوت فصاحة القرآن استرحنا، لأن الفصاحة يرجع فيها إلى أهلها، وقد اتفقوا على فصاحته.
وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ليس في جميع القرآن. كيف وقد ادعى أن الناس صنفوا في تأويله التصانيف الكثيرة. وهل يصنف أحد فيما لا يعلمه؟ وإنما ذلك في ما تشابه منه حيث قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعني تأويل المتشابه. اتفق العلماء على أن هذا مراده.
ثم إن ما ذكره في القرآن والمسلمين لازم عليه في الإنجيل والنصارى. فإن في الإنجيل إجمالات كثيرة تتوجه إليها الاحتمالات. ولذلك اختلفت النصارى حتى كانوا يعقوبية وملكانية ونسطورية وغير ذلك، يكفر بعضهم بعضا.
قال: "ووجدت أيضا ألفاظه قليلة الاختصار كثيرة التكرار في إيراده القصص وغير ذلك، كسورة {قل يا أيها الكافرون} وسورة {الرحمن} فإنك تجد فيها ما يعنيك وتقمع به معاديك".
قلت: هذا كلام من لا يعلم، وهو جدير أن يتعلم ثم يتكلم.
أما تكرار القصص فله فائدتان:
إحداهما أن القرآن كان ينزل شيئا فشيئا، ويحتاج أن يحمل إلى أقطار الأرض لينتفع الناس بما فيه من أمر ونهي ووعد ووعيد ووعظ وأخبار ونحوه، وكان المهم دعاؤهم إلى الإسلام، وذلك بترهيبهم مما جرى للمخالفين من الأمم قبلهم وترغيبهم فيما فاز به المؤمنون، فكررت القصص وكانت مختلفة الألفاظ ليتفرق في البلاد كذلك فيسمعه الناس في الأقطار وتكون باختلاف ألفاظها أدعى إلى القبول، لأن النفوس مشغوفة بمعادات المعادات كما قد أنكرت أنت التكرار.
الفائدة الثانية أن إعادة القصة الطويلة في مواضع مع اتحاد معناها واختلاف لفظها طولًا وقصرًا أدل على الإعجاز وقدرة التكلم على الكلام.
وأما ما ذكر من التكرار في بقية السور، فالقول المفصل فيه قد ذكرته في الإكسير مستوفى، وذكره الناس كثيرًا، فلا يخف علي ذكره هنا. ولكن أذكر فيه قولا مجملًا، وهو أن التكرار كما يُستغنى عنه في بعض المواطن قد يحتاج إليه في بعضها للتأكيد والتقرير والتنبيه على الاهتمام بالأمر، فيكون تركه حيث ينبغي كذكره حيث لا ينبغي. والله أعلم.
قال: "ونجده أيضا غير خارج على نظام متناسب لقوله في سورة النساء {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} قال: ولا مناسبة بين العدل في اليتامى وبين نكاح النساء. ولهذا وغيره يتبين أنه كلام منثور لا نظام له ولا تأليف".
قلت: هذا الخصم معذور في استشكاله هذا الكلام، لأنه من المشكلات التي تخفى على كثير من علماء الإسلام، لكنه ملوم في إيراده طعنا على القرآن قبل أن يبحث هل له محمل على الصواب أم لا.
ولا شك أن العلماء ذكروا لارتباط بعض هذا الكلام ببعض وجوها صحيحة مناسبة:
أحدها: ما روي عن عائشة أنها قالت: نزلت هذه الآية في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها فينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن ينكحوهن حتى يقسطوا في الصداق، وأمروا أن ينكحوا من شاءوا من النساء غيرهن.
الثاني: ما روي عن ابن عباس قال: كان الرجل في الجاهلية يتزوج العشر من النساء فما زاد، فإذا أعدم مالَ على مال اليتيم فأنفقه، فأمروا بالاقتصار على العدد الخاص لئلا يحتاجوا إلى الميل على مال اليتيم.
الثالث: ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: كانوا يخافون ألا يقسطوا في اليتامى ويتحرجون من ذلك، فنزلت الآية ومعناها: خافوا من عدم القسط في النساء ما خفتم منه في اليتامى.
قلت: هو من باب قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله.
أي لا تتحرجوا من الجور على اليتامى، وتجورون على النساء، فهو كما تقول لصاحبك: إن كنت تخشى الله في ظلم زيد فلا تظلم عمرا. وإن تحرجت من أخذ أموال الناس فلا تأخذ أعراضهم. كذلك هذا.
الرابع: ما ذكره الحسن البصري، وهو أن معنى الكلام: إن تحرجتم من الميل على اليتامى فتحرجوا من الزنا بنكاح ما أحل الله لكم من امرأة أو اثنتين أو أربع لتقمعوا داعية الزنا الحرام بالنكاح الحلال.
قلت: والمعنى لا تتحرجوا عن معصية وتواقعوا أخرى، فتكونوا كالذي تسامح في الزنا وتحرج من العزل أو ترك الغسل.
فهذه أربعة أوجه محتملة احتمالا ظاهرا أو مناسبة مناسبة صحيحة معقولة. فالمبادهة بإنكار ما له هذا التوجيه قبل استيفاء النظر فيه إما جهل أو عناد. والله أعلم.
وقد استقريت الأناجيل الأربعة وأوردت عليها من الأسئلة ما لا أظن أن على وجه الأرض نصرانيا يقدر على أن يجيب عن شيء منها بمثل هذه الأجوبة عن آية النساء، فضلًا عن أوضح منها. فإن لزم بذلك الطعن على القرآن فهو على الإنجيل ألزم.
قال: "ثم هو متناقض، ينقض بعضه بعضا، ولكن مع وقوفك على هذا الإلماع تقول: أي جهل أعظم من جهل من ادعى أن إعجاز هذا الكتاب في إثبات النبوة كانقلاب الجماد حيوانا والبحر يبسا والحجر الصلد عينا لموسى وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص للمسيح. إن هذا لجاهل مائق".
قلت: أما دعواه التناقض في القرآن فوهم، وقد أورد الزنادقة صورا كثيرة ظنوها تناقضا فأجببوا عنها. صنف في ذلك الإمام أحمد وغيره. فمن جملتها:
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} مع قوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}.
قالوا: هذا تناقض. وذلك جهل منهم لأنه يقال في لغة العرب: أقسط فهو مقسط إذا عدل، وقسط فهو قاسط إذا جار. وهذا يكفي في السخرية بهم.
وأما هذا الخصم فما أورد شيئا من التناقض حتى نجيب عليه.
وأما قوله: "إن إعجاز هذا الكتاب لا يساوي إعجاز بقية المعجزات لموسى وعيسى".
فنقول له: قد بينا لك أول الكتاب أن المعجز هو الأمر الممكن الخارق للعادة المقرون بالتحدي الخالي عن المعارضة، والقرآن يشارك جميع المعجزات في هذا، لأنه كما عجز فرعون عن قلب عصا حية حتى عدل إلى تجييش الجيوش وإيقاد الحرب، كذلك العرب عجزت عن معارضة القرآن بعد أن تحداهم بمثله، ئم خفف عنهم فتحداهم بعشر سور مثله، ثم خفف عنهم فقال بسورة مثله، وينزل معهم هذا التنزل، فعدلت إلى الحرب والتحام الطعن والضرب.
وزاد القرآن على ما ذكرتم من المعجزات بوجهين:
أحدهما: أنه صفة قديمة من صفات الله تعالى، وتلك المعجزات محدثة بلا خلاف. ولو لم يكن إلا وقوع الخلاف في قدم القرآن وحدوثه بين المسلمين لكان له مزية على سائر المعجزات.
الثاني: أنه كلام بريء من أن ينسب إلى أنه سحر، لأننا لم نعلم أن السحر كلام قط. نعم يكون بالكلام، فلا يلتبس عليك. وإنما عرفنا السحر أفعالا محسوسة. فتطرق نسبة السحر إلى ما أتى به موسى وعيسى أقرب من تطرقها إلى ما أتى به محمد. ولهذا قال فرعون: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} وفي موضع: {إن هذان لساحران} وفي موضع: {قالوا سِحْرَان تَظَاهَرَا}. يعني موسى وهارون، وقالوا للسحرة حين اعترفوا بالغلبة: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}، وكان أكثر السحرة من بني إسرائيل فنسبوهم إلى مواطأته لكونه منهم. وإنما يظهر الفرق بين القرآن وغيره من حيث أنه مسموع وهي مبصرة على حسب التفاوت بين المسموعات والمبصرات، وذلك لا تأثير له في حقيقة الإعجاز.
والسبب الموجب لهذا التفاوت هو أن الله سبحانه أرسل كلا من رسله بما كان غالبا على قومه تحقيقا لإعجازهم. فبعث موسى إلى قوم مهروا في السحر وأعجزهم بالعصا ونحوها، والمسيح إلى قوم أهل كهانة وطب وحكمة فأعجزهم بما أيده به، وصالحا إلى قوم أهل إبل فأعجزهم بناقة خرجت من جبل. فكذلك لما أرسل محمدًا إلى قوم أهل فصاحة يعدون الفصاحة والخطابة من أكثر مآثرهم ويتنافسون فيها وكانت الفصاحة بعيدة عن نسبة السحر، بعثه بالقرآن الفصيح. ويكفي الطاعن في فصاحة القرآن بعد عجز العرب عن معارضته أن الوليد بن المغيرة حكيم قريش وفيلسوفها لما سمعه أنصت له ثم استعاده فأعيد عليه، ثم قال: والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، ولقد سمعنا ذلك كله، وما هو بشيء منه، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر، ثم قال له الكفار: فما ترى أن تقول فيه؟ قال: قولوا إنه ساحر. فأنزل الله سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.
قال: "وإن بقي التباس في هذا على مسكين ناقص الفطرة قلنا له: تعال نفرض أن القرآن فصيح لا تكرار فيه ولا تناقض، وأنه جار على نظام واحد في معانيه، ونجعل ذلك إعجازا له. أليس من شرط المعجز أن يكون من غير جنس الأفعال المعتادة، إذ هو كلام لا يفضل جميع الكلام، وإنما يختلف بالأقل والأكثر، وتقع فيه المماثلة والمفاضلة فهو جنس واحد، وبحسب التفاضل بينه وبين كلام سائر الخطباء والبلغاء من العرب والجيدين تتوزع النبوة على كل فصيح بليغ بمرتبة من الفصاحة فينال من النبوة ما تستوجبه فصاحته".
قلت: الجواب على هذا.
أما أولا: فإنه ناقض في كلامه. لأنه طلب شرط الإعجاز على تقدير ثبوت الإعجاز، والمشروط لا يثبت إلا بعد تكامل شروطه. فمن هذه الحيثية يلزم وجود شرطه، ومن حيث طلب شرطه يلزم أن شرطه لم يوجد، وذلك تناقض ولا محالة. لكن لا يستبعد مثل هذا ممن يقول: إن الله هو المسيح، وأنه في السماء حالة كونه في الأرض.
وأما ثانيا: فقوله: "شرط المعجزات أن تكون من غير جنس الأفعال المعتادة" فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنا نقول: من شرط هذا الشرط ومن سلمه لك؟ أنت شرطته وبحثته مع نفسك تقريرًا لعنادك وهواك وفساد دعواك. ونحن قد بينا آنفا وفي مقدمة الكتاب حيث ذكرت أن الذي اتفق عليه المحققون في المعجز أنه الأمر الممكن الخارق للعادة المقرون بالتحدي الخالي عن المعارض. وبينا ما فيه من القيود والاحترازات وبينا أنه موجود في القرآن.
الثاني: أن الإعجاز بالمعتاد أبلغ من الإعجاز بغير المعتاد بالضرورة. لأنه إذا عجز عما هو من عادته وهو متدرب فيه عارف بأصوله وقواعده، فهو عما لا علم له به أعجز، وذلك كما إذا قيل للنجار: اعمل مثل هذا الباب، فلم يقدر. فإنا نعلم بالضرورة أنه عن صناعة الزركش وخياطة الثياب الرفيعة ونسخ الخط المحرر إذا لم يكن ذلك من صناعته أعجز وأعجز. ولهذا لما تحداهم بسورة منه فعجزوا دل على أنهم عن معارضة سورتين فأكثر أعجز.
وأما ثالثا: فقوله: "هو كلام لا يفضل جميع الكلام فهو جنس واحد".
قلنا: الجواب من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أنه لا يفضل جميع الكلام، بل يفضله بخصيصة الإعجاز كما بينا، وذلك مدرك بالحس والاستدلال. أما الحس فإن كل من سمعه يحس من نفسه إدراك أنه ليس بكلام آدمي، وأما الاستدلال فبعجز العرب عن معارضته.
الوجه الثاني: إن سلمنا أنه مع الكلام جنس واحد، فكذلك قلب العصا وإحياء الموتى مع جنس الفعل جنس واحد، وإنما اختصصنا عليه بخصيصة الإعجاز لذلك القرآن. والله أعلم.
وأما رابعا: فقوله: "تتوزع النبوة على كل فصيح بليغ بمرتبته من الفصاحة فينال من النبوة ما يستوجبه".
جوابه من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم إيجاد الجنس في القرآن وسائر الكلام، لأن هذا صفة للإله القديم وذاك صفة المخلوق المحدث، وإنما يطلق عليهما كلام وكلام، كما يطلق على الباري سبحانه وما سواه موجود وموجود. وحينئذ لا يلزم التماثل فلا يلزم التوزيع.
الثاني: أن المسيح عندكم إله أو ابن الإله، وأجمعنا على أن الأنبياء سألوه في جنس الخارق فلزمكم هذا المساق أن توزعوا الإلهية أو النبوة عليهم فيحصل لكل نبي قسط من الإلهية أو بنوة الإله في مقابلة قسط من ظهور الخارق على يديه.
الثالث: أن آدم شارك المسيح في أنه ليس من بشر ذكر، وسائر بني آدم شاركوه في أنهم من أم. فيجب أن توزع الإلهية أو النبوة بينهم فيحصل لكل من بني آدم منها بحسب ما شاركه.
الرابع: أن إعجاز القرآن ليس بمجموع مفهوم الفصاحة ولا بالقدر المشترك منها بينه وبين سائر الكلام، وإنما إعجازه بفصاحته الخاصة به، وهي القدر الزائد على نهاية فصاحة البشر، وذلك ليس مشتركا بينه وبين غيره حتى يتجه التوزيع في النبوة بحسبه. وهذا كما تقولون أنتم إن خصوصية المسيح على سائر الأنبياء هو اتحاد كلمة الله به أو ظهور اللاهوت في ناسوته، وليس ذلك لأحد غيره.
قال: "فإن قلت: إعجاز من جهة أنه لم يعارضه أحد من الناس ولم يأت بسورة من مثله؛ قلنا: إن محمدًا لم يقل للناس في قرآنه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} إلا بعد أن تأسست رياسته وظهر سلطانه. فمن كان يقدم على معارضته وأسيافه تقطر دماء. لذلك لما شرع النضر بن الحرث في معارضته أنهض إليه علي بن أبي طالب فقتلة شر قتلة. وأما بعد موته فالحمية عنه عظيمة تسوق ملوك المسلمين، لا يقدم أحد معها على ذلك. وقد عارضه أبو العلاء المعري، والعنسي بعد موته عارضه، ومن معارضته له: "إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وهاجر، ولا تطع كل كافر وساحر" ولأجل ذلك صلب على العود وقيل له وهو في الصلب: "إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على العود، وأنا ضامن عنك أن لا تعود".
قلت: الجواب عن هذا.
أما قوله: "إن محمدًا لم يتحد الناس بالقرآن إلا بعد تأسيس رياسته، فلم يقدم أحد على معارضته" فهو كذب وافتراء. بل هذه سورة البقرة من أوائل ما نزل من القرآن، وفي أولها: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}.
وتلا {حم} السجدة على عتبة بن ربيعة حتى بلغ قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فقال له: حسبك يا ابن أخي، نشدتك الله والرحم إلا سكت. ثم رجع إلى أصحابه، وكانوا بعثوه إليه ليستنزله عما يقول، فقالوا: نقسم بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي فارقكم به، وكان ذلك انبهارًا منه بالقرآن وخشية أن تأخذه الصاعقة.
وسمعه الوليد بن المغيرة يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية، فقال فيه ما قدمنا ذكره. وقال: وما هو قول بشر.
وكلهم كانوا يعرفون عجزهم عن مثله، وهو بينهم وحيد مستضعف، حتى أنهم أخرجوه إلى الطائف، ثم عاد فاستجار بالمطعم بن عدي حتى بلغ القرآن، وكان يقول: "من يمنعني من قريش، فإنهم قد منعوني أن أبلغ كلام ربي".
فلو أمكنهم معارضته ما كان لهم منه مانع.
ثم سلمنا أنه لم يتحد به إلا بعد ظهور سلطانه؛ فقد كانت طوائف العرب كثيرة، وأكاسرة الفرس وقياصرة الروم موجودين، فقد كان لمن له قوة المعارضة أن يأوي إلى منعة منهم ثم يعارضه، فإذا أتى بمثله بطل كونه معجزًا، ثم كان من تابعه يتخلى عنه ومن خالفه يشتد عليه حتى يؤول أمره إلى الانحلال والاضمحلال، كما آل أمر مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي والأنبياء الكذبة من بني إسرائيل. وما رأينا كذلك، بل لم يزل الناس يدخلون في دينه حتى طبق المشرق والمغرب.
وأما قوله: "قتل النضر بن الحرث حيث شرع في معارضته" فليس بصحيح أيضا، بل إنما قتله بعد أن أسره يوم بدر في جملة الكفار. ولا شك أنه كان يرد على الفرس في بلادهم فحفظ شيئا من أخبار رستم واسفنديار، فكان يقول لقريش: أنا أحدثكم كما يحدثكم به محمد، ويحدثهم بذلك، وهو في عزة ومنعة من أهله بمكة قبل بدر بحين ومحمد بينهم مستضعف. فلو كان ما عنده مما يصلح معارضا لاستفاض واشتهر وملأ البدو والحضر. ومع هذا فإنه أساء إلى النبي غير ذلك كثيرًا. ثم لما قتله وسمع ما قالت أخته قتيلة بنت الحرث في مرثيته واستعطاف النبي عليه قال: "لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته".
وأما حماية ملوك المسلمين عنه فلا تمنع من معارضة المعارضين، لجواز أن يعارضوه سرا ثم يموتوا فتظهر معارضتهم كما ظهرت معارضات المعري والمتنبي وغيرهم من الزنادقة. بل هذا الخصم بعينه صنف هذا الكتاب في الطعن على الإسلام مستخفيا، ثم إنه على طول الأيام ظهر ونوقض، وليس عند أحد من رؤساء الإسلام منه خبر حتى الآن. وهذا الكلام يحققه قول المسيح في الإنجيل: "ما من مكتوم إلا سيظهر ولا خفي إلا سيعلن".
وأما معارضة المعري وأضرابه من الزنادقة فهي ركيكة تشبه لحاهم. ولو كانت مساوية للقرآن في صفاته لظهر لها عصابة من المسلمين ينصرونها ثم اختلفت كلمة الإسلام؛ كما أن مناقب أبي بكر وعلي لما كانا متساويين أو متقاربين اختلفت الأمة فيهما على قولين أيهما أفضل. وفضائل مروان بن الحكم ومعاوية وعمرو بن العاص، بل سلمان وعمار، بل غالب الصحابة - لما لم تقارب مناقب هذين الرجلين لم تختلف الأمة فيهم. فكما أنه ليس كل فضيلة توجب النزاع في صاحبها وغيره كذلك كل معارض لا يصلح أن يكون معارضا مفرقا للناس.
وأيضا فإن كل من عارض القرآن إنما سرق بعض ألفاظه وتابع أسلوبه فلم يلحق به لأنه مادته، كما أن التلاميذ لما كانت مادتهم في التأييد من جهة المسيح لم يفضلهم أحد عليه ولم يسوهم به.
وأما العنسي الذي صلب على العود فلا أحقق لفظه لأنه مشتبه الصورة في الكتاب الذي نقلت منه. فإن أراد الأسود العنسي - بعين مهملة ونون وسين مهملة - فذاك قتل غيلة ولم يعلم أنه صلب. وإن أراد العبسي أو غيره من الألفاظ فلا نعلم من هو إلا أن يكون مسيلمة الكذاب، ولم يعلم أنه صلب أيضا. ومن قرآنه: "ضفدع بنت ضفدعين. نقي كما تنقين. أعلاك في الماء وأسفلك في الطين" - "والزارعات زرعا، فالحاصدات حصدا، فالطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والآكلات أكلا، فاللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون". وهذا مع كونه منسوجا على أسلوب سورة {والمرسلات عرفا} فهو ضحكة مثل قائله.
وكذا قول القائل: "إنا أعطيناك الجماهر" وقول بعضهم: "إنا أعطيناك اللقلق، فصل لربك وازعق، إن شانئك هو الأبلق" فإن هذا منسوج على منوال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}. ولقد عدم أهله من يضحك عليهم، فضحكوا على أنفسهم.
ولعمري إن قول القاتل: "إنا أعطيناك العمود" إلخ خير وأفصح وأرشق من هذا كله. وشعر الشعراء الجيدين كجرير والفرزدق وذي الرمة، ومن المحدثين أبو تمام والبحتري والمتنبي، خير من هذه المعارضات بما لا يتناهى، وهي دون القرآن بما لا يتناهى. والله أعلم.
قال: "ومن لم يقنع بهذه الأدلة التي أوردناها وبقي له نزاع أو جدل في شيء من دين محمد مع إيضاح فساده وبيانه وتمسك بعلاقة منازعة فهو كالحية قطع رأسها وبقي ذنبها يتحرك".
قلت: قد بينا أن ما أورده شبه صادرة عن سوء فهم وضيق علم، وأنها كحبال سحرة فرعون، وما تكلمنا به عليها كعصا موسى تلقف ما يأفكون.
(الشرط الرابع حسن الشريعة)
قال: "الشرط الرابع حسن الشريعة والدين وكمالها في الخير والفضائل والمعدلة، وذلك أن يتضمن دينه حض الأمة على حب الله وتوحيده والعمل الصالح وحسن العبادة وموالاة الله، وأن يحب الإنسان لغيره ما يحب لنفسه. فليختبر دين هذا الرجل هل هو موافق الدين الطبيعي المذكور وشرائع الله التي أرسل بها رسله كموسى وغيره، وهل هي جارية على هذا المنزع أم لا؟"
قلت: أما هذه الخصال التي ذكرها فهي منصوص عليها وعلى غيرها من خصال الخير في دين الإسلام، والكتاب والسنة بهما مملوءان. ولولا أن ذكر ذلك يستدعي كتبا وبخرجنا عما نحن بصدده من مناقضة هذا الخصم لذكرته.
وأما قوله: "حض الأمة على حب الله وتوحيده" فهو تمويه وزور. أين النصراني من التوحيد مع قوله بالتثليث؟
أما اشتماله على مصالح العباد العامة والخاصة، الضروريات وغيرها، فأمر لا شك فيه، على ما أشرنا إليه في القاعدة الأولى من القواعد الفروعية في القواعد الدمشقية.
وأما شرائع الأنبياء المتقدمين، فأحكامها قسمان: ما ورد شرعنا بنسخه، فليس حجة علينا ولا شرعا لنا. وما لم يرد شرعنا بنسخه، فهل هو شرع لنا أم لا؟ فيه قولان للمسلمين.
ومن أصل شرعنا جواز نسخ الشرائع بعضها ببعض، وأن شريعتنا ناسخة لما قبلها في الجملة. فمن نازعنا في جواز النسخ أو وقوعه أو شيء من أحكامه فقد بينه الأصوليون في كتب الأصول.
قال: "فرأيناء قد ذكر في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ} فأجاز نكاح أربع نسوة والتسري بملك اليمين إلى غير عدد محصور على أي دين كن من الأديان، وأن يطلق الرجل ما شاء ويستبدل ما شاء كذلك ما عاش".
قلت: هذا نقل صحيح عن دين الإسلام، إلا قوله في ملك اليمين: "على أي دين كن من الأديان" فليس بجيد. بل إنما تباح الكتابية دون الوثنية والمجوسية ونحوهما. وإن كان قد ذهب إلى ذلك أحد من المسلمين فليس معتقدنا.
قال: "ونبين بطلان هذا بحجج كثيرة:
أولها: أن الله تعالى لم يعط آدم إلا زوجة واحدة وهي التي خلقها من الضلع ليتبين بذلك تأبيد الصحبة والمحبة بينهما كتأبيد المحبة بين أعضاء الجسد، ولهذا حكي عن آدم في التوراة أنه قال: "هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي، سميت امرأة لأنها أخذت من المرء، فلذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلزم زوجته". وبهذا يتبين أنه بحسب الفطرة تكون واحدة لواحد، إذ لو كان في كثرة الزوجات فضيلة لكان آدم أولى بها لأنه كان واحدا في العالم ليكثر نسله".
قلت: أما كون آدم لم تكن له إلا زوجة واحدة فلا يدل ذلك على وجوب الاقتصار على الواحدة.
وقوله: "لو كان في كثرة النساء فضيلة لكان أولى بها إذ كان مفردا يكثر نسله" قلنا: أما من نسله، فما كان يجوز له أن ينكح من بناته إلى يوم القيامة لأنهن بناته وإن سفلن، ونكاح البنات حرام فيما علمناه، ولم يعلم نبيا وطئ بنته إلا ما حكي في التوراة عن لوط أنه أحبل ابنتيه وهو سكران، فعلى من قال هذا أو صدقه لعنة الله.
وأما من غير نسله بأن يخلق الله له مثل حواء فلجواز أن حواء كانت تكفيه فلم يحتج إلى غيرها، لأنها خلقت في الجنة. وقد ملأ الله من نسلهما الدنيا مفردين، فلو كان له غيرها لما وسعتهم الأرض.
فإن قيل: كيف تمنعون آدم من نكاح بناته وقد زوجه الله حواء وهي خلقت من ذاته من ضلعه.
قلنا: لأن بناته منه على جهة الولادة، وحواء ليست على جهة الولادة. وقد فرقتم أنتم بين آدم وحواء والمسيح بهذا بعينه، فقلتم: المسيح خرج من رحم فكان ابن الله، بخلاف حواء وآدم.
قوله: "وخلقت من ضلعه ليتبين بذلك تأبيد الصحبة بينهما كتأبيدها بين أعضاء الجسد".
قلت: ليس ذلك لهذه العلة بل لما ذكر في القرآن من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وهذا لا يقتضي تأييد الصحبة. وترك الرجل أباه وأمه، ولزوم زوجته لا يقتضي أيضا ذلك، بل سببه المودة والرحمة بينهما، وذلك مشترك بين المرأة الواحدة والزوجات.
وأما إنكاره جواز الطلاق حيث شاء الإنسان فإنما استفادوه مما حكوه عن المسيح في الإنجيل في الفصل الأربعين من إنجيل متى أن الفريسيين قالوا للمسيح ليجربوه: "هل يحل للإنسان أن يطلق امرأته لأجل كل علة؟ فقال لهم: أما قرأتم أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكرا وأنثى، ومن أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان كلاهما جسدا واحدا، وما جمعه الله لا يفرقه الإنسان. قالوا له: لماذا موسى أوصى أن تعطى كتاب طلاق وتخلى، قال: لأن موسى علم قساوة قلوبكم فأوصاكم أن تطلقوا نساءكم، ومن البدء لم يكن هذا، وأقول لكم: من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا، ومن تزوج مطلقة فقد زنا". اهـ.
لكن الجواب عنه من وجوه:
أحدها: الجواب العام، وهو عدم الوثوق بالإنجيل.
الثاني: بتقدير الاحتجاج بالإنجيل، لكن هذا الكلام بعينه متهافت بين التهافت، فلا تليق نسبته إلى المسيح. وسنبين وجه تهافته.
الثالث: الجواب من حيث التفصيل.
أما كونه خلقهما ذكرا وأنثى وأن الإنسان شديد الألفة بامرأته فلا يقتضي عدم جوار الطلاق ولا يناسبه.
وأما قوله: "ما جمعه الله لا يفرقه الإنسان" فنقول:
أولا: الجمع بين الزوجين ليس حقيقيا كاجتماع بدن الإنسان ونحوه، وإن سلمناه فهو عام مخصوص بصور كئيرة كتفريق أعضاء البدن لمصلحة العقوبة وغيرها.
وأما قوله: "لم يكن هذا في البدء" فلا يدل على ذلك أيضا لجواز النسخ.
وأما اعتذاره عن تجويز موسى الطلاق لعلمه بقساوة قلوبهم إلى آخره، فالمناقشة عليه من وجوه:
أحدها: أن قساوة قلوبهم إن كانت مقتضية لجواز الطلاق فلم لم يجزه المسيح أيضا لذلك، ولعل محمدًا عليه السلام أجاز الطلاق توسيعا على قساة القلوب من أمته.
فإن قلتم: نسخ ذلك في دين المسيح.
قلنا: ونسخ ما في دين المسيح في دين محمد.
وإن تكن مقتضية لجواز الطلاق لزم أن يكون موسى شرع غير الحق لغير موجب.
الثاني: إن ما جاز أن يكون حقا في دين موسى فما المانع أن يكون حقا في دين محمد؟
الثالث: أن قوله: "من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا" كلام مستدرك بأن ذلك غير لازم من طلاقها. لأنا إذا ألجأناها أن تتزوج بغيره لم يحصل من طلاقه لها الإلجاء إلى الزنا. ثم إن مفهومه جواز طلاقها إذا زنت، وعموم فوله: "من تزوج مطلقة فقد زنا" يقتضي أن أحدا لا يتزوج مطلقة -سواء طلقت لكونها زنت أو مع عدم الزنا- وذلك يلزم منه إلجاؤها إلى الزنا -أعني جواز طلاقها إذا زنت- والمنع من تزوج المطلّقة مطلقا على ظاهر هذا العموم، لأنها حينثذ تبقى مطلقة بطالة فتحملها البطالة على التشاكل بالزنا، كما حكي في التوراة عن كنة يهوذا لما مات زوجها أحوجتها البطالة إلى أن تعرضت ليهوذا على الطريق حتى زنا بها. ونحن نتبرأ إلى الله من هذا.
وبهذا بان ما في الكلام من التهافت وعدم التناسب، بحيث يجب تبرئة السيد المسيح عن مثله. والله أعلم.
قال: "وأيضا فإن الطبيعة لا تجمع إلا اثنين في فعل التناسل. فينبغي أن لا يكون للرجل إلا زوجة واحدة".
قلت: هذا خلف من الكلام. فإنه إن أراد أنها لا تجمع إلا اثنين في حالة واحدة فمسلم. لكن لا يقتفى ذلك الاقتصار على واحدة. وإن أراد في وقتين فصاعدا فممنوع، وحينئذ يجوز أن يطوف الإنسان في ساعة على جماعة من النساء واحدة بعد واحدة.
قال: "وأيضا فإن كثيرًا من الحيونات ليس للذكر منها إلا أنثى واحدة، كالأسد والدب وغيرهما من البهائم وكأكثر الطيور، فالإنسان لخصيصة عقله أولى بذلك قمعا للشهوة".
قال: جواب هذا من وجهين:
أحدهما: أنه معارض بما يتخذ من الحيوانات عدة إناث، فلم كان التأسي بأحد القبيلين أولى من التأسي بالآخر؟
الثاني: أن اقتصار هذه الحيوانات على أنثى واحدة، هل هو على جهة قمع الشهوة أو على جهة الحيوانية والطبيعة وعدم الشعور بحقائق الأمور؟
فإن كان الأول لزم أن تكون هذه الحيوانات عقلاء كاملي العقل حتى قمعت شهوتها بعقلها، وأن الدب أعقل من إبراهيم حيث كان في فراشه سارة وهاجر، ومن يعقوب حيث جمع بين ابنتي خاله لينة وراحيل وجاريتيهما في فراش واحد، فضلًا عن أن تكون هذه الحيوانات أعقل من بقية عقلاء الآدميين.
وإن كان الثاني لم تصح الأولوية ولا القياس. والتنظير بم يكون؟ قد اجتمعتم أنتم وبعض الحيوان البهيم على رأي، ونحن وبقية العالم على رأي. وموافقة الأكثر أولى من موافقة شرذمة قليلة تقلد في دينها ودنياها ومعاشها ومعادها حيواناتهم، خصوصا السبع والدب اللذين هما من أدمغ الحيوانات وأبلده.
ولعل هذا من جملة الأسباب الموجبة لإطباق الحمى على الأسد، لأن طبيعيته في الأصل حارة، وباقتصاره على أنثى واحدة يقل نزوه، فتختص الحرارة في يديه، فيبثها القلب إلى سائر نواحيه. وهذه حقيقة الحمى.
وقد بينا في أول الكتاب أن من منافع النكاح تخفيف البدن وتنشيطه.
فإن قلت: فالأسد في الشجاعة والنشاط على الغاية بخلاف سائر الحيوان، وما ذكرته يقتضي تثبطه لثقل بدنه.
قلت: وما يدريك لعله لو أكثر من النزو بحسب ما تقتضيه حاله كان يكون أشجع وأنشط.
قال: "وأيضا فإن فائدة آلة التناسل في الزوجين الذرية لا اللذة ثم اللذة وإن كانت تصحبها تبعا لا بالقصد الوضعي، لكن استعمال الآلة للذة فقط استعمال سوء مائل عن الاستعمال المستقيم. ولذلك هو ذنب".
قلت: هذا ممنوع، بل المقصود من آلة التناسل الذرية واللذة جميعا بالقصد الأول. أما الذرية فبالاتفاق. وأما اللذة فلأن الباري سبحانه ابتلى خلقه بتركيب الشهوات فيهم خصوصا هذه الشهوة فإنها أشدها. فلو لم يجعل إلى قضائها طريقا مباحا للزم منه تكليف ما لا يطاق، إذ كان يكون مثال الشخص في الدنيا مع كثرة نسائها مثل شخص حبيس في دار مملوءة حيات بحيث لا يطأ إلا على جماعة منهن ثم يقال له: إياك أن تطأ منهن شيئا واحترس أن يلدغنك.
ثم قد أجمع الناس على جواز نكاح العاقر والصغيرة التي لا تلد ومن ارتفع حيضها ونحوهن. فلو لم تكن اللذة مقصودًا أصليا لما جاز ذلك.
فأما قوله: "إنه ذنب".
فجوابه أن يقال: هو ذنب إذا كان حراما أو مطلقا؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع، ولو كان كذلك لم يفعله الأنبياء. وأيضا لو كان استعمال الآلة للذة فقط ذنبا واستعمال سوء، مع أن حصول الذرية منه غير مقطوع به، لما كان في تجويزه لأجل الذرية إقدام على ذنب محقق لتحصيل فائدة غير محققة، وذلك ينافي السياسة العقلية.
قال: "وأيضا لذة اللحم ليس شأنها اجتلاب فائدة، بل تدفع الفوائد الروحانية، وهي في نفسها خسيسة ردية مهلكة، فإنها كالخمر تسكر الذهن الإنساني وتذهب قوته، وكالضباب يصير العيون مظلمة".
قلت: قد بينا فوائد هذه الحاسة أول الكتاب، ونص عليها الأطباء وعلى مضار تركها. ولو صح ما قاله من دفعها الفوائد الروحانية لوجب أن تكون مخاييس النصارى وغيرهم الذين لم ينكحوا قط أفضل من الأنبياء كإبراهيم وموسى وهارون ويشوع بن نون والأنبياء الاثني عشر وأشعياء ودانيال، وأكثر روحانية منهم.
ولقد حيرني هذا العلج في أمري بتلونه. فإنه تارة نصراني مثلث أو غيره وتارة فيلسوف معطل وتارة عامي جلف. فنعوذ بالله من التلون.
قوله: "هي في نفسها خسيسة ردية مهلكة" إن أراد بخستها قبح صورتها طبعا، ورد عليه حالة البول والتغوط، بل حالة الأكل لأنها سببهما. ولا يقال هذه الأحوال ضرورية طبعا، لأنا نقول مثله هناك، إذ النكاح ضروري من حيث الطبيعة والشهوة، يتأذى بتركه الدين والبدن كما سبق.
وقوله: "مهلكة" إن أراد إهلاك الدين بالتتابع فيها فذلك إنما هو في الحرام لا الحلال. وإن أراد هلاك البدن بإضعافه فذاك يتقدر بحسب اختلاف المروءات والعقول. والمحمود منه القدر التوسط الذي لا ينهك البدن بكثرته ولا يفضي إلى إنهاك الدين بالإقلال منه.
ويحكى: "أن أبا مسلم الخراساني كان لا يأتي النساء في السنة أكثر من مرة ويقول: هذا جنون. فأكثر من مرة لا يكون".
قلت: ويغلب على ظني أنه قد كان به علة مانعة أو فكرة شاغلة.
فإن قيل: فمحمد كان أولى بهذا التماسك من أبي مسلم لفضيلة منصب النبوة وفكرته في الجهاد وإقامة الدين وكمال معرفته بأحكام الآخرة.
قلنا: كذلك كان، ولهذا قالت عائشة: "كان أملككم لإربه" لكنه لو بالغ في التماسك عن هذه الشهوة لشق على أمته التأسي به، فإنه كان يطيق ما لا يطيقون، فكان يلزمهم الحرج، وذلك ينافي نصوص الشريعة برفع الحرج، فأكثر منه رفعا للحرج عن أمته. وأيضا فإنه كان مشرعا معلما كما قال: "إنما بعثت معلما" وعلم أن في صورة هذا الفعل ما تحتشمه النفوس وتنجيه منه، فجرأهم عليه بإكثاره منه فعلًا وقولا لئلا يتقاصروا عنه حياء أو يقدموا عليه على وهم وإنحاش فيحرجوا بذلك، فأرد أن يوسع عليهم المجال في الحلال، ويخالف أهل الزور والمحال والنصارى الضلال.
قوله: "إنها كالخمر تسكر الذهن الإنساني وتذهب قوته".
قلنا: إن صح هذا فهو الإكثار منها لا مطلقها، على أن الإنسان إذا داوم تركه بعد اعتياده يجد لذلك ثقل بدن وكرب وانقباض يورثه بلادة ووسواسا، ويحصل له بفعله انشراح وانبساط. ولذلك هو أكبر دواء العشاق كما ذكره الأطباء.
قال: "ولأنها مضادة لأنواع السرور الروحانية العلية، فهي تصرف النفس بالكلية عنها، إذ يفسد ذوق القلب فلا يستطيب شيئا من الخير، كما في العكس، وهو أن الذين يستطيبون الأمور الروحانية الأزلية لا يستطيبون اللذات الجسدانية بل يكرهونها ويهربون عنها".
قلت: أما قوله: "إنها مضادة للروحانيات" فباطل بالأنبياء، إذ هم أعظم البشر روحانية وكانوا يستعملون هذه اللذة. وكل ما ذكره في هذا الفصل باطل والحق خلافه، بل هذه اللذة إذا استعملت على الوجه الحلال قصدا، لا إفراط ولا تفريط، وقصد بها إعفاف الدين وتحصين الدين والفرج والتفرغ من قلق الشبق لطاعة الباري في النهار والغسق كانت أفضل من عبادات كثيرة.
ولهذا قال بعض علماء المسلمين: إن التشاغل بالنكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادة، حسما لمادة فساد الدين بالزنا ونحوه.
وأما ترجيح الروحانيات عند أصحابها، فلأنهم لا يحصلونها إلا بعد قهر الطبيعة برياضة البدن وكسر شرته وإضعاف قوته بصيام الهواجر وقيام الدياجر، حتى تقوى قوى النفس على البدن، وحينئذ يصير تركهم لضعفهم عنه، لا لما أراد.
ولو كان ما ذكر صحيحا لوجب حين استعلن الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وتجلى لموسى وناجاه أن كانوا يطلقون نساءهم ثم لا يجتمعون بهن أبدًا.
قال: "فقد بان بأن اللذة اللحمية ينبغي أن تبقى بحسب استطاعة الطبيعة، وإذا كان الواجب أن تبقى فأولى أن لا يعمل شيئا لاجتلابها، فينبغي أن تعدل وتقمع حيث لا يستطاع أن تبقى على كل حال".
قلت: المسلم له من هذا وجوب إبقاء الحرام وما ينهك البدن، أما غيره فلا. وهذا كلام في الريح.
قال: "فينبغي أن لا يكثر الزوجات والجواري، بل يقتصر على واحدة، ويكون قصده تحصيل الروحانيات".
قلت: هذا حاصل ما ذكره بعدما سبق في كلام مخبط متهافت. واعلم أن النكاح بالغا ما بلغ منه الإنسان لا يشغل عن الروحانيات لمن له نية صادقة ونفس صافية وهمة عالية.
قال: "ويقال أيضا: الشهوة اللحمية إما أن يقال: ينبغي أن تقمع أو لا يقال؟ فإن قيل لا ينبغي أن تقمع لزم أن تبقى الطبيعة الإنسانية ذاهبة في كل نجاسة ولواط وبهيمية. وإن قيل ينبغي أن تقمع لكن باستعمال النساء والجواري الكثيرة كما قال محمد، فهو مردود بوجوه:
الأول: أن الشهوة مشتركة بين القبيلين، فينبغي أن يكون للمرأة أزواج كما للرجل زوجات، ولم يقل به أحد.
الثاني: أن المرأة إلى الزنا أقرب إلى الرجل لوفور شهوتها ونقصان عقلها، فمن احتاط للرجل بكثرة النساء بحيث إن كانت واحدة مريضة أو عاقرا لا تحمل وجد الأخرى صحيحة تحمل، لزمه أن يجعل للمرأة أزواجا بحيث إن كان أحدهم مريضا أو غائبا وجدت الآخر يصونها عن الزنا.
الثالث: أن في الباب الثاني عشر من كتاب أيوب: "سل البهائم تعلمك وطيور السماء تريك". قال: والبهائم وطور السماء تتبع عادة آباءها، فينبغي لنا أن نتبع عادة أبينا ولم يكن له إلا زوجة واحدة.
الرابع: أن تكثير الزوجات والجواري موجب لتحاسدهن وتشتيت قلوبهن والغضب والقطيعة، وذلك شر، والله خير محض، فلا يفعل الشر ولا يأمر به".
قلت: الجواب عن هذا بأنا نقول: يجب قمع هذه الشهوة بالطريق الشرعي وهو النكاح والتسري، أو الصوم لمن لا يقدر على ذلك.
قوله: "الشهوة مشتركة بين القبيلين" قلنا: نعم.
قوله: "ينبغي أن تكون للمرأة أزواج كما للرجل زوجات" قلنا: هذا قد كان مقتضى العدل، لكن منع منه مانع أقوى منه وهو اختلاط المياه واشتباه الأنساب. ونحن شرعنا مبني على مراعاة المصالح والمفاسد، فإذا تحررت المصلحة حصلناها، أو المفسدة نفيناها. وإن تعارضتا، فإن ترجحت المصلحة حصلت، أو المفسدة نفيت. وإن تساوتا تخيرنا. وههنا تعارضت مصلحة العدل في النساء بتسويتهن بالرجال في تعدد الأزواج ومفسدة اختلاط الأنساب، لكن ترجحت هذه المفسدة فنفاها الشرع وحفظ المرأة. وتحصينها من الزنا يحصل باحتجابها في البيت على حسب الإمكان. على أنها لو كان لها أزواج لما تركت الزنا بالكلية، كما أن الرجل - على ما هو مشاهد - وإن كان له زوجات لا يتركه بالكلية، بل يطمح إلى غيرها من ذكر وأنثى لواطا وزنا.
لكن غاية ما يقال على تقدير كثرة أزواجها كان يكون داعيها إلى الزنا أضعف فيكون وقوعه منها أقل. لكن يعارضه مفسدة اختلاط النسب وتغاير الرجال الذين نفوسهم أقوى وهمهم أعلى من همم النساء. ثم أنتم لم لم تقولوا بذلك في جانب الرجل؟
وهذا سؤال قد أحكمت الجواب عنه في أوائل الفوائد، وما ظننت أن أحدًا أورده، لكن فرضته وأجبت عنه. وبهذا حصل الجواب عن سؤاله الثاني.
وأما الثالث: فقوله في كتاب أيوب على تقدير الوثوق بصحته، فليس المراد به: أن الطيور تعلمه أمر دينه والأحكام الشرعية. ثم هو مطلق لا عموم له. فلم قلت: إن سؤالها يتعين أن يكون عين هذا الحكم؟ بل لعله التوكل من حيث أنها لصدق توكلها "تغدو خماصا، وتروح بطانا" فيأمره أن يكون في التوكل مثلها أو غير ذلك. فقد قال الله في القرآن: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}.
وأما قوله: "ينبغي أن نتبع عادة أبينا في الاقتصار على واحدة" فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن نقول له: هات لنا مثل حواء حتى نقتصر عليها.
الثاني: أن شرعنا أمرنا بمتابعة الحق بالحجة، ونهانا عن تقليد الأباء بقوله: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} في آيات كثيرة.
وأما السؤال الرابع: فإن تكثير النساء وإن كان موجبا للتغاير بينهن وتقاطعهن، لكن هذه مفسدة عارضتها مصلحة أرجح منها، وهو تحصين فروج الرجال وأديانهم، ولم يعارض هذه المصلحة مانع اختلاط النسب كما عارضها في حق النساء، فحصلت هذه المصلحة الراجحة لما قررناه من مراعاة شرعنا للمصالح.
واعلم أننا بحمد الله أهل صدق وعدل وإنصاف، وعلى ذلك تأسيس دين الإسلام. ولا شك أنا نرى غالب الناس من المسلمين وغيرهم مع إباحة التزوج والتسري لهم قد استحوذ عليهم الشيطان، حتى يترك أحدهم ما يحل له من ذلك وإن كثر ويعدل إلى الزنا بالنسوان واللواط بالغلمان. فلو حصروا في واحدة كما أشار به هذا الخصم لعمري لقد كانوا يدبون على الشيوخ والكهولة والشباب والبهائم في البر والحيتان في البحر. فكان فيما جاء به دين الإسلام من تكثير مجال النكاح عليهم تقليل لهذه المفسدة.
ولعل هذا النصراني غره احتباس رهبانه في البيع والديارات فيظن أن ذلك يمنعهم عن الفجور، ولو علم أنهم يدبون على الشمامسة وكل صبي وشيخ يدخل إليهم لأجاز لهم التزوج بعشرين، ولولا ما هم فيه من الرياضة ونحوها لدبوا على أطعمة المذبح.
قال: "وفي سورة البقرة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال في التفسير: يعني من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة. قال: وهذا تعليم يستنكف منه البهائم، فضلا عن أن الله يعلمه خلقه".
قلت: هذا غباوة وعناد. فإن لهذه الآية أسبابا تقتضي ما تضمنته من الحكم:
أولها: أن اليهود كانت تقول: إذا جامع الرجل زوجته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فبين الله تعالى بهذه الآية أن لا أثر لذلك، بل للرجل أن يأتي امرأته مقبلة ومدبرة بشرط أن يكون في القبل.
الثاني: أن المهاجرين كانوا يجبون نساءهم، يعني يأتونهن مدبرات في القبل، فلما جاءوا المدينة جعلوا يفعلون ذلك بأزواجهم من الأنصار ولم يكن لهن به عادة، فأخبرن بذلك النبي عليه السلام ووقع فيه الكلام، فبين الله حكمه.
الثالث: ما روي ابن عباس قال: جاء عمر فقال: يا رسول الله هلكت، قال: "ما أهلكك"؟ قال: حولت رحلي الليلة، فأنزل الله هذه الآية: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة. رواه الترمذي والنسائي.
وحينئذ نقول: ما المحذور في أن الله سبحانه بين له في كيفية الوطء ما ينبغي مما لا ينبغي؟ وإنما استقبح هذا الخصم هذا بناء على رأيه الفاسد في أن اللذة ليست مقصودة لذاتها من الجماع، وقد تقدم منعه. وما جعل النساء إلا للمتعة.
على أن النسائي قد روى في سننه الكبير عن ابن عمر: أن رجلًا أتى امرأته في دبرها على عهد النبي ﷺ فوجد النبي ﷺ لذلك وجدًا شديدا، فأنزل الله سبحانه: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. ويحتج بهذا من أجاز وطء المرأة في دبرها، ويعزى إلى مذهب مالك وأهل الحجاز. وهذا أشد وأغلظ على النصارى.
قال: "وفي هذه السورة: {الطَلاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}" وذكر حديث امرأة رفاعة القرظي: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" وكأن حاصل ما ذكره إنكار فراق المرأة بالطلاق أو المرض أو العيب ونحوه. قال: "لو جاز ترك المرأة لأجل شيء من العيوب، يجاز للمرأة ترك الرجل لذلك لأنها أحوج إلى الرفق لضعفها". قال: "بل ينبغي أن تمان المرأة ذات العيب لأجل الضرورة ولا تفارق، لأن أحد المتعاهدين إذا فارق صاحبه حال المرض والضرورة عد قاسيا خائنا".
قلت: أما الطلاق فجائز بإجماع المسلمين، وقد تقدم البحث معه فيه، وأن النكاح عقد معاوضة في الحقيقة، فجاز فسخه كالبيع. فقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" وعليه إشكال، وهو أن البغضة تقتضى الكراهة والإباحة تقتضي التسوية، فالجمع بينهما متعذر. وأجيب بأن المباح قد يراد به تساوي الطرفين، وقد يراد به القدر المشترك بين المتساوي الطرفين وراجح الفعل من غير جزم، وبهذا يستقيم معنى الحديث، لأنه يصير تقديره: أبغض ما للإنسان فعله الطلاق. وهو أعم من المتساوي وغيره.
وقوله: "لو جاز ترك المرأة لعيب ونحوه لجاز لها ترك الرجل".
قلنا: هكذا نقول على تفصيل فيه. وتقريره مختصرا أن العيب في أحد الزوجين: إما أن لا يخل بمقصود النكاح أو كماله فلا يثبت به الفسخ، أو يخل بذلك فيثبت به إقامة للعدل وإزالة للمكروه عن المكلف.
ثم العيوب الموجبة للفسخ، إما خاصة بالرجل كالجب والعنة، أو المرأة كالقرن والرتق، أو مشترك بينهما كالجنون والجذام والبرص، ولكل من الزوجين فسخ نكاح صاحبه لما يخل بمقصود نكاحه من ذلك.
قوله: "تمان المرأة الضرورة ولا تفارق".
قلنا: فيه إلزام للرجل مكروها له عنه مندوحة، وذلك ينافي العدل.
قوله: "أحد المتعاهدين إذا فارق صاحبه حال الضرورة عد قاسيا خائنا".
قلنا: النكاح من باب العقود العوضية، لا من باب العهود. والعقود العوضية يجوز فسخها بعيب وإقالة. فكذلك النكاح يفسخ بالعيوب والخلع، وهو نظير الإقالة في البيع ونحوه. والفرق بين العقد والعهد أن العقد يتضمن عوضا والعهد لا يتضمن عوضا. وقد أمر الله بالوفاء بالأمرين. ومن الوفاء بالعقد الفسخ عند قيام المقتضي له. ولو كان اجتماع الزوجين على جهة العهد على ما ذكرنا لكان زنا حراما بإجماع المسلمين. وحينئذ نقول: فسخ العقد لا قسوة فيه ولا جناية، بل إنما ذلك في العهد.
وأما قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} فقال المفسرون: عقدًا مؤكدا، وهي كلمة الله التي أخذها للنساء على الرجال، وهي الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، قال قتادة: "وكان ذلك يؤخذ عند عقدة النكاح"
نعم، إن شرط في العقد أن لا يفسخ أحد من الزوجين بعيب ظهر بصاحبه، فإن قلنا: لا فسخ بالعيب الحادث كان هذا الشرط مؤكدا للحكم. وإن قلنا يثبت به الفسخ احتمل أن يلزمهما بموجب الشرط لقوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" واحتمل أن يبطل النكاح من أصله بناء على الشروط الفاسدة في العقود. وأحكام الأنكحة الفاسدة معلومة.
ثم ما ذكره ينتقض بالتلاميذ مع المسيح، حيث آمنوا به وبايعوه على دينه ثم لما قبض اليهود عليه فروا عنه، خصوصا بطرس التلميذ الكبير الذي قال له: "لو أنكرك كل واحد لما أنكرتك" ثم أنكره قبل صياح الديك ثلاث مرات. فهذا هو ترك العهد، لا طلاق الزوجة.
فإن قيل: إن تفرقهم عنه كان بإذنه، قلنا: وطلاق الزوجة وفراق الزوج بإذن الشارع الذي هو إله المسيح ومحمد والزوجين وغيرهما من العالم. فإن منعوا أن ذلك بإذن الله، عدنا إلى النزاع في تصديق الرسول وخرجنا عن مسألة إنكار الطلاق.
قال: ثم إن جاز أن تترك المرأة بلا سبب أو بسبب ضعيف كما في ملة المسلمين أفضى ذلك بسبب الهجر والغضب إلى تبديل الزوجات الكثيرة وتنجيسهن واحدة بعد أخرى وافتضاض الأبكار وتركهن. وذلك يورث البغض بين النساء وأزواجهن وأتربائهن، وذلك خلاف الدين الطبيعي والصيانة والمروءة".
قلت: أما إفضاء ذلك إلى تبديل النساء فلا محذور فيه، بناء على ما ذكرنا من أن النكاح عقد، والمرأة معقود عليه، كالفرس والشاة، لا فرق بينهما، إلا أن هذه من الجنس بخلاف الفرس.
وأما تنجيسهن، فالجماع لا نجاسة فيه، وإنما هذه لفظة استفادتها النصارى من قول يعقوب لابنه روبيل: "وطئت سريتي ونجست فراشي"، وهذه حكاية باطلة. ثم لو صحت لكان التنجيس هنا مجازا عن انتهاك حرمة فراشه وإلحاق العار به بذلك، والعلاقة المجوزة فيه تأذي الإنسان بلحوق العار، كما يتأذى بلحوق النجاسة، وإن تفاوتت الأديان، أو يكون أراد نجاسة الفعل، يعني قبحه، لاشتراك النجاسة والفعل القبيح في القبح.
وأما افتضاض الأبكار وتركهن فتلك متعة أمتع الله بها خلقه، فالمانع منها متحجر فضولي. والدليل على ذلك صريح العقل، فإن الخلق كلهم ذكرهم وأنثاهم عباد الله وإماؤه، فإذا سمح لعبيده بوطء إمائه على وجه مخصوص جاز، كما أن الواحد من الخلق يجوز أن يهب لعبده ألف جارية له، ويقول افعل بهن ما شئت، فإنه يجوز أن يتصرف فيهن بسائر التصرفات من بيع وعتق ووطء للبعض دون البعض أو للكل والانتقال من واحدة إلى واحدة وغير ذلك، فإن نازعتمونا في أن الله سبحانه أذن لنا في ذلك خرجنا عن المسألة كما سبق.
وأما قوله: "ذلك يورث البغض بين النساء وأزواجهن" فممنوع. بيانه هو أن الشرائع قوانين متبعة لا يخرج عنها من هو من أهلها، فإذا علم الناس من شرعهم جوار التزوج والطلاق وافتضاض الأبكار وتركهن، وجب عليهم أن لا يتباغضوا لذلك ولا يتحاقدوا، كما يجب عليهم أن لا يتباغضوا لتأدية الحقوق المالية كالديون ونحوها، وإن كان أداؤها على خلاف الطبع.
وما فائدة الشرع إلا كف الطباع عن الشر الذي جبلت عليه - وهذا منه - فإن غلبتهم النفوس على البغضاء والحقد بالطبع كان ذلك مراغمة للشرع، فيعصي فاعله ولا يكون بفعله اعتبار. كما أنه لما حرم أحد المال بغير حق كان فعل قطاع الطريق ونحوهم إنما عليهم يستحقون به العقوبة، وهو ساقط الاعتبار، لا يفيد ملكا ولا يجيز تصرفا. وتصرفات الطبائع لا يلزم موافقتها للشرائع، فما وافق الشرع منها كان حقا كالنكاح، وما خالفه كان باطلًا كالسفاح. ثم هذا معارض بأن الطلاق إن كان يفضي إلى التباغض فلزوم النكاح أبدًا والحبس على زوجة واحدة يفضي إلى تكره كل منهما بالآخر وتبرمه به وتضجره منه، وقل أن يطيب مع ذلك عيش لبهيمتين، فضلًا عن إنسانين، فتدوم المفسدة، وربما انتفى لذلك مقصود النكاح، وربما أفضى إلى مفارقة الدين.
كما حكي أن بعض النصارى تزوج امرأة فلما دخلت عليه رآها عوراء، فقال: عورتا، قالت: بلستا. قال: محمد بن عبد الله على الباب، ثم خرج فأسلم، فحجز الدين ما بينهما. فلو كان في دين النصارى فسحة في الطلاق لقال عوض كلمة الإسلام: أنت طالق، ثم استراح منها، ولم يحتج إلى فراق دين يعتقدونه حقا إلى دين يعتقدونه باطلًا. مع أن فراق كل من في الدنيا أهون من فراق الدين.
فإن قلت: نحن مع قولنا بلزوم النكاح أبدًا وارتباط الرجل على زوجته يوجب على كل منهما احتمال صاحبه وعشرته بالمعروف وأن لا يتبرم به ولا يتضجر منه، فإن خالف ذلك كان فعله خلاف للشرع، وهو غير معتبر.
قلنا: فقل في الطرف الآخر هكذا، وهو أنا إذا اخترنا الطلاق والفراق أوجبنا على الرجال والنساء أن لا يغضبوا ولا يحقد بعضهم على بعض. فإن خالفوا ذلك كان فعلهم على خلاف الشرع، وهو غير معتبر.
ثم يترجح ما قلناه بوجهين:
أحدهما: أنه إذا لم يكن بد من البغضة الطبيعية، فتباغض الزوجين بعد أن يصيرا أجنبيين أسهل من تباغضهما في عصمة النكاح مجتمعين لإفضاء ذلك إلى تكدر عيشهما باجتماعهما، وربما غلبت المرأة لوفور شهوتها وقلة دينها وعقلها على أن تقتل زوجها بسم أو غيره لتستريح منه وتصير إلى غيره، وكم قد وقع مثل هذا، وذلك مأمون بعد الفراق.
الثاني: أن الفرقة عذاب، والعذاب مؤدب. فإذا افترقا ربما استقام أحدهما للآخر، فعادا بعد نكاح جديد أو قبله، بخلاف ما إذا داما مجتمعين فإنه لا يرجى لهما استقامة، بل كلما جاءا في سآمة ومال وتضجير وتبرم. والله أعلم.
قال: "وأيضا ما أشد ما يكون ظلم النساء بوقوع الطلاق عليهن بلا ذنب".
قلت: هذه غفلة عن الصواب. فإن الطلاق فسخ عقد معاملة لا إيقاع معاقبة، وإنما يكون ظلما إيقاع العقوبة بلا ذنب. ولو كان للطلاق عقوبة لوجب أنها إذا زنت ونجست فراشه تكون استدامة نكاحها أفضل في حقه، للإجماع من عقلاء العالم على أن الحلم عن الذنب أفضل من العقوبة عليه، وهذا لا يقول به عاقل. اللهم إلا أن تكون رياضة النفوس قد بلغت بالنصارى إلى رتبة القيادة والصبر على الديانة. فقد قال بعض الحكماء: إن أربعا من الأمم أكثر من أكل أربع فأورثتهم أربعا. فالترك أكثروا من لحم الخيل فأورثهم القوة والقسوة، والعرب أكثروا من لحم الإبل فأورثهم الحقد والكرم، والحبشة أكثروا من لحم القردة فأورثهم الرفض، والنصارى أكثروا من لحم الخنزير فأورثهم الدياثة وعدم الغيرة.
ونقل القرطبي في تفسيره عن محمد بن سيرين أنه قال: "ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار".
فلعل النصارى ورثوا من أكل لحم الخنزير اللواط بصبيانهم حتى اكتفوا بالواحدة من نسائهم، وعدم الغيرة حتى صبروا معهن على القيادة.
قال: "وأيضا فإن هذا يفضى إلى انقطاع النسل الذي هو أعظم خير في الزواج، إذ يجوز لكل واحد منهم في اليوم أن يتزوج أربعا ويطلقهن ويأخذ أربعا غيرهن كذلك في جميع زمانه، وهذه ليست سنة العقلاء والأعفاء، بل سنة الفجار والعواهر، بل سنة الكلاب والحمير".
قلت: هذا جهل منه بحكم دين الإسلام. فإن الرجل لو تزوج أربعا وطلقهن في يوم واحد جاز ذلك له، والنسب محفوظ بوجوب العدة إذ به يتبين الحمل فيلحق بأبيه، وإن لم يكن حمل فلا محذور. وحينئذ يكون فهمه هو فهم الكلاب والحمير، لا سنة المسلمين.
قال: "وأيضا ما أقبح وأشنع توقف رجوع المرأة بعد طلاقها إلى زوجها على نكاح غيره إذ تأبى ذلك نفس الرجل والمرأة، وذلك خلاف الطبيعة بالنسبة إلى الناس بل إلى كثير من الدواب والطيور كالأسد والدب، فإن كل واحد من أشخاص هذه الأنواع لا يتعدى إلى أنثى الآخر".
قلت: لو عقل هذا العلج لكفاه هذا الحكم في الدلالة على حكمة شريعة الإسلام وصحتها، ولكن
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ** ولكن لا حياة لمن تنادي
وبيان ذلك أن الشارع لما علم من طبيعة البشر كراهة ذلك والنفور منه جعله شرطا في جواز ارتجاع الرجل زوجته ليكون ذلك مانعا له من المبادرة بطلاقها وحاملا لكل من الزوجين على عشرة الآخر بالمعروف واحتمال بوادره وسوء أخلاقه. فكان اشتراط نكاح المرأة زوجا غير مطلقها مفضيا إلى نفيه وتقليله جدًا، حتى أن هذا إنما يقع في النادر بالنسبة إلى كثرة الأنكحة وللطلاق. ونظيره القتل بالقصاص ناف للقتل بالعدوا، ومقلل له، وإليه الأشارة بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ويقول العرب: "القتل أنفى للقتل" وبقول الشاعر:
بسفك الدما يا جارتي تحقن الدما ** وبالقتل تنجو كل نفس من القتل
وأما الأسد والدب ونحوهما فليسوا مكلفين حتى يشرع في حقهم ما يمنعهم من المبادرة إلى الطلاق، وإنما كان ذلك فيهم طبيعة.
قال: "وفي كتاب المناسك من مسلم قال: سئل ابن عباس عن متعة الحج فرخص فيها. وفي كتاب النكاح منه عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله. وذكر حديث الربيع بن سبرة الجهني وحديث عمران بن حصين قال: أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات. قال: فهل فاحشة أو نجاسة أقذر من هذا الفعل في الكلاب؟ دع الإنسان يعطي المرأة ما ترضى به فيزني بها. هذا منزع الزنا لا غير، هذا أمر الشيطان لا أمر الله، وهذا هو المتعة. والعقلاء من المسلمين يستنكفون من ذلك، وكثير من أهل الحجاز ومكة باقون عليها إلى الآن".
قلت: هذا غلط منه على الشريعة حيث جعل المتعتين واحدة. وإنما المتعة في حديث ابن عباس هي نسك من أنساك الحج، وهو قرينة الإفراد والقران. وصورتها أن يعتمر أولا ثم يحل ثم يحرم بالحج.
وأما المتعة في الحديث الآخر فلا شك أنها تثبتت في أول الإسلام لضرورة، وهو غربتهم عن أوطانهم في الجهاد وحاجتهم إلى النساء، فرخص لهم فيها بشبهة عقد وصورته، فكان ذلك خيرًا مما يفعلونه زنا محضا. ثم نسخ ذلك في عهد النبوة. وليس عليه اليوم من المسلمين إلا شرذمة قليلة، وأكثر من تقول به الرافضة.
وأما حديث عمران بن حصين: "ولم ينه عنها حتى مات" فلأنه لم يبلغه النهي عنها. وقد بلغ غيره فنقله. على أن القياس شرعا وعقلا جواز المتعة؛ وإنما منع الشرع منها تعبدا.
أما شرعا فلأن الله إنما حرم الزنا، والمتعة ليست زنا، لأن الحد فيها ساقط والنسب لاحق، والزنا ليس كذلك. وأما عقلًا فلأنها منفعة من منافعها، فجاز معاوضتها عليها مطلقا كالخدمة. بل الزنا ليس قبيحا عقلا إذ ليس فيه إلا انتفاع كل من بشرين بآخر، وإنما قبح شرعا، ثم تلقت العقول قبحه من الشرع ونفره الطبع.
وأما تشنيعه بالمتعة فقد بينا في غير موضع أن في التوراة أن يهوذا بن يعقوب لقي كنته -زوجة ابنه- على الطريق في صورة زانية فوطئها على أن يعطيها جديا من الغنم ثم رهنها عليه عمامته وقضيبا معه. وهذه صورة المتعة، بل صورة الزنا. والجواب مشترك.
وأيضا المتعة أحسن حالا من وطء روبيل بن يعقوب جارية أبيه، لأنه زنا محض.
قال: "وفي كتاب العتق من البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تكلم".
قلت: لا أعلم ما وجه إيراده لهذا الحديث، إلا أن يكون إنكارا لوسوسة الشياطين أو للعفو عنها بناء على أنه لم يذكر في كتبهم. فأما الشياطين ووسواسهم فثابتان. وأما عدم ذكر ذلك في كتبهم فاحتجاج بالعدم؛ وقد سبق في غير موضع أنه اعتماد على الجهل.
وذكر أحاديث العزل عن النساء.
قال: "وهو أن يجامع الرجل ثم يعزل ذكره عن فرجها فيلقي المني خارجا" قال: "وهو قبيح رذل عار على فاعله".
قلت: المأخذ في مشروعية النكاح في دين الإسلام هو تحصين الدين والفرج والعفاف عن الزنا، وذلك حاصل مع العزل وعدمه. وعندهم مأخذه تحصيل الذرية، فلعلهم لذلك منعوه. ولا شك أن هذه المسألة من فروع الشريعة، وفيها خلاف. فقيل يجوز مطلقا، وقيل لا يجوز مطلقا. وقيل يجوز بإذن الزوجة وإذن سيد الأمة. ومسألة فيها هذا الخلاف في الحكم والدليل لا ترد هادمة لشريعة.
ثم إذا حاققناهم فإما أن نمنع قبح العزل وتحريمه ونطالبهم بالدليل على ذلك فلا يستطيعونه وليس فيه إلا وهم الاحتشام الطبيعي، ولو كان ذلك موجبا للعار لوجب أن يكون نفس الجماع عارا، وقد بينا بطلانه. وإما أن نسلم تحريمه ونحتج عليه بما روى أبو سعيد قال: "ذكر العزل عند رسول الله ﷺ فقال: "لم يفعل أحدكم؟ فإنها ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها". أخرجاه في الصحيحين. ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه. فقوله: "لم يفعل؟" استفهام إنكار، وذلك يوجب المنع، ولأن فيه فرارًا من القدر وهو حرام، ونوع عبث إذ لا فائدة له إذا كان لا مانع لما أراد الله خلقه. ثم يجعل هذا ناسخا لأحاديث إباحته، فلا يمكنهم النزاع في ذلك. والله أعلم.
قال: "وفي سورة النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} فذكر ما قاله المفسرون في الأذى: إنه التعيير والتوبيخ أو السب والجفاء أو النيل باللسان واليد والضرب بالنعال ونحوه. قال: وفي هذا تكثير للزنا لطمع الزانيين بتعذر اجتماع أربعة شهود غالبا حتى يقضيا وطرهما، ولضعف هذه العقوبة إذ لا يزجر مثلها عن هذا الفعل، وشرعية الزنا وقوعه في الخلق أمر مغضب للرب وموجب حلول نقمته وسخطه، فينبغي أن يحسم تشديد العقاب حتى لا يقع إلا نادرا".
قلت: قد تبين بهذا السؤال أن هذا الشخص قد كان يأخذ ما يورده على الشريعة من كتب التفسير والحديث من غير أن ينظر في كتب الفقهاء، إذ لو نظر فيها لعرف أحكام الشرع ولم يورد هذا الزور والمحال. ولعمري أن الكتاب والسنة وإن كانا أصل الشريعة ومادتها لكن اقتناص الأحكام منها يحتاج إلى تصرف في التركيب، كما أن مفردات الدواء مادته، ولا بد في الانتفاع بها من تصرف في التركيب، وكذلك مقدمات الدليل مادته ولا ينتفع بها في إثبات الحكم إلا بمعرفة تركيب الدليل منها. وكذا الكلام في مفردات كل مركب. وإذا عرفت هذا فحكم دين الإسلام في الزاني إن كان محصنا الرجم حتى يموت، وهل يجلد قبله مائة جلدة؟ على قولين. وإن كان بكرًا جلد مائة جلدة وتغريب عام إلى مسافة القصر. لأن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} السبيل ههنا مجمل تبينه السنة فيما روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: "خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة ثم الرجم، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة" رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال: حسن صحيح. وفيه أحاديث غير هذا.
وبهذا يتبين أن ما ذكر في تفسير الأذى ضعيف لا يثبت أو منسوخ بهذا الحديث أو محمول على البكر أو على أنه يفعل بالزانيتين ولا يقتصر لهما عليه، بل يقام عليهما من الحد ما أتت به السنة في بيان السبيل.
وأما قوله: "في اعتبار الأربعة تكثير الزنا للطمع في تعذرهم". فجوابه أنا قد بينا أن بناء شرعنا على مراعاة المصالح والمفاسد وترجيح بعضها على بعض. ولا شك أن اعتبار الأربعة في الزنا وإن كان مفضيا إلى تكثيره كما ذكرت لكن الزنا يتبعه مفاسد عظيمة. منها ضياع النسب، ومنها لحوق العار بالزانيين وأهلهما. ومنها وجوب القتل عليهما والجلد الذي يفضي إلى القتل. ومنها سلب العدالة، فيترتب عليه رد الشهادة وسلب أهلية الولايات الدينية والدنيوية. وهذه المفاسد كلها راجعة إلى حقوق الآدميين، فكان في تقليل ثبوت الزنا بتكثير الشهود تقليل لهذه المفاسد في الحكم.
وأما معصية الزنا الواقع في نفس الأمر، فالعقوبة عليها حق الله، والدنيا ليست دار جزاء إنما هي دار تكليف. فيتأخر حق الله إلى حين المصير إليه فيعاقب أو يعفو. ولهذا غالب المعاصي لم يشرع فيها عقوبة في الدنيا إلا فيما كان فيه إفساد لنظام العالم، فشرع فيه العقوبة لذلك، وأخر حقوقه في سائر المعاصي إلى الدار الآخرة دار الجزاء. ولهذا لا يوجد في كلام المسيح ترتيب عقوبة دنيوية على شيء من المعاصي، بل إنما يتوعد بجهنم وبالظلمة وصرير الأسنان، على ما تضمنه الإنجيل.
وما تضمنه دين النصارى من العقوبات الدنيوية فهو إما متناول من التوراة أو من جهة علمائهم على جهة السياسة، بناء على قول المسيح: "ما حللتموه في الأرض فهو محلول في السماء، وما ربطتموه في الأرض فهو مربوط في السماء".
مع أن دين الإسلام مبني على إيثار الستر والإعضاء ومكارم الأخلاق، لطفا من الله بخلقه. ولولا ما في المعاصي ذوات الحدود من المفاسد الدنيوية لما شرع فيها حد.
والجواب عن هذا السؤال ذكرته مبسوطا في القواعد الدمشقية، وإنما أشرت إليه هنا إشارة.
قال: "وفي الموطأ عن زيد بن أسلم أن رجلًا سأل رسول الله فقال: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال رسول الله: لتشد إزارها ثم شأنك بأعلاها".
قلت: كأنه يستعظم مقاربة الحائض. قلت: وهذا لا محذور فيه، لأنا أجمعنا على جوار وطء المرأة إذا كانت طاهرًا، والحيض إنما اختص بالفرج. وقضية العقل أن المانع يختص تأثيره بمحله بما لم يقم دليل على تعدي حكمه. وذلك يقتضي اختصاص الفرج فقط بالاجتناب في زمن الحيض، وبقية البدن يجوز الاستمتاع به. وكذلك نص القرآن: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} يعني موضع الحيض، وهو الفرج. وفي حديث صحيح: "اصنعوا كل شيء ما خلا النكاح" وفي حديث عمر: "اتق الحيضة والدبر"
اللهم إلا أن تنكر هذا لكون غير الفرج ليس محلًا لزرع الولد فيضيع الماء ويصير بمثابة العزل، بناء على أن مقصود النكاح الأصلي إنما هو الولد. لكن هذا شيء قد منعناه وسبق الجواب عنه.
قال: "وفي كتاب الرجم من مسلم أن سعد بن عبادة قال لرسول الله: أرأيت لو أني وجدت امرأتي رجلًا، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال له رسول الله: نعم".
قلت: وقد قدم هو وجه السؤال من هذا، وهو تكثير الزنا، وقدمنا جوابه.
قال: "وفي حديث أبي موسى حيث جاء يستحمله فقال: والله لا أحملكم، ثم حملهم فسألوه فقال: ما أنا حملتكم، بل الله حملكم، وإني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها أحسن منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير."
قلت: وجه سؤاله من هذا: أن الحنث في اليمين استخفاف بحق الله وتهوين بعظمته، بناء على ما عندهم في الإنجيل عن المسيح أنه قال: "سمعتم ما قيل للأولين: لا تحنث في يمينك وأوف للرب أقسامك، وأنا أقول لكم: لا تحلفوا البتة، لا بالسماء فإنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ولا بيروشليم فإنها مدينة الملك العظيم، ولا برأسك تحلف. ولتكن كلمتكم: نعم نعم، ولا لا. وما راد على ذلك فهو من الشرير".
والجواب: إن دين الإسلام مبني على رفع الحرج والضيق بناء على أن الغرض من تكليف الخلق تعظيم الله والانقياد له، لا لحوق المشقة لهم بذلك. فمتى أمكن أجمع بين تعظيمه تعالى ورفع الحرج عن المكلفين كان ذلك حسنا جائزا. وتعظيم الله سبحانه في باب الأيمان يحصل إما بالتزام العقد معه بأن لا يحنث فيها، مثل أن يحلف أن يفعل فيفعل أو لا يفعل فلا يفعل، أو بالتكفير إن خالف ما عليه، لأن في التزام التكفير تجرد من المال المحبوب طبعا، أو بالتعبد بإلحاق المشقة بالصوم للبدن تعظيما لله سبحانه ولا بد، وقد نص عليه القرآن، ولعل التعظيم بذلك أشد من التعظيم بالتزام ما حلف عليه، إذ قد يحلف أن لا يأكل هذه اللقمة، فتركها عليه يسير غالبا، فإذا أكلها لمصلحة دينية وأعتق عوض ذلك رقبة أو أطعم أو كسى عشرة مساكين أو صام ثلاثة أيام متتابعة كان ذلك لا شك أبلغ في تعظيم الله جل جلاله وتبارك اسمه.
وأما ما ذكروه عن المسيح من قوله: "لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي الله" فكلام متهافت لا تليق نسبته إلى المسيح.
وبيان تهافته: أنه فاسد الاعتبار، إذ النهي عن الحلف بالسماء يقتضي عدم تعظيمها، وكونها كرسي الله يقتضي تعظيمها وجواز الحلف بها. ثم إن هذا الكلام في الفصل الخامس من إنجيل متى، وهو مناقض لما في الفصل الثالث والعشرين منه حيث يقول: "من حلف بالسماء فهو يحلف بكرسي الله والجالس عليه" فإنه يقتضي صحة الحلف بالسماء وجوازه وأن الحالف بها حالف بالله سبحانه. فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء الذين يقدحون في دين الإسلام بهذا الكلام المتناقض المتهافت.
وذكر حديث قتل كعب بن الأشرف وأن محمد بن مسلمة خدعه حتى استمكن منه فقتله، وذلك بإذن النبي عليه السلام.
قلت: ووجه السؤال منه: أنهم خدعوه بإذن محمد حتى أمن وسلم نفسه إليهم ثم قتلوه وهذا غدر.
قلت: وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن هذا من باب الخديعة في الحرب، وهو جائز في دين الإسلام. وقد قال النبي عليه السلام: "الحرب خدعة". وغاية ما في الباب: أنه كذب، لكن الكذب ليس قبيحا لذاته عندنا بل لا فيه من المفسدة. فإذا تضمن مصلحة راجحة على مفسدته تعينت وكان من قبيل اعتبار المصالح. ولا شك أن قتل كعب بن الأشرف تضمن مصلحة دينية وهو أنه كان يهجو النبي عليه السلام والمسلمين ويقذف نساءهم في شعره ويأخد أعراضهم، وهو يهودي ملعون من أعداء المسيح وقتلته على زعمك. وبعض هذا يوجب قتله وقتل كل يهودي على وجه الأرض.
وأجمع العقلاء على أن الكذب واجب على من رأى ظالما يتبع نبيا أو وليا أو مظلوما بالجملة ليقتله، إذا سأله فليصده عنه بالكذب، ولو صدق حتى قتل ذلك المظلوم لأثم بالصدق. قال العلماء: الكذب واجب ومندرب ومباح وحرام. فالواجب كالصورة المذكورة آنفا. والمندوب الكذب للإصلاح بين المؤمنين. وفي الحديث الصحيح: "ليس بالكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا أو نمى خيرًا". والمباح كذب الرجل لامرأته في الوعد والتأميل ليكف شرها عنه أو لا تكدر عليه. والحرام ما سوى ذلك وهو كل كذب يتضمن مصلحة راجحة على مفسدة.
وقد صرحت التوراة بأن إبراهيم وإسحاق جميعا قال كل منهما عن زوجه إنها أخته حين خشي عليها من أبيمالخ ملك الأردن وفلسطين. ولما تضمن ذلك مصلحة لم يقبح منهما. فهذا مثله سواء، لأن محمدًا وأصحابه كانوا مظلومين مع كعب في هجائه لهم وقذفه لنسائهم، كما كان إبراهيم مظلوما بتغلب إبيمالخ ملك الأردن على زوجته لولا عصمة الله لها منه.
الوجه الثاني: أن عظيم ساليم قرية سجيم لما فضح بنت يعقوب وأراد أن يتزوجها صعب على بني يعقوب ذلك، فقالوا له: إن من ديننا الختان، فإن اختتنت أنت وأهل قريتك زوجناك. فلما اختتنوا جميعا دخلوا عليهم وهم في ألم الختان لا يستطيعون الدفع عن أنفسهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم. وهذا غدر صريح. والجواب عنه مشترك لأن الجميع أنبياء. وقد نصت التوراة على هذه الحكاية.
وذكر حديث: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".
قلت: لا أعلم ما وجه السؤال من هذا، إلا أن يكون يكذب بالإخبار بهذه الأشياء بناء على عدم علمه بها أو على مناقضة محرفة في كتبهم، ولو ذكر وجه سؤاله منه لأجبته بحسبه.
وذكر قوله عليه السلام: "إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب" إلى قوله: "وأما التثاؤب فهو من الشيطان. فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإنه إذا تثاءب ضحك منه الشيطان".
قلت: قد سبق ذكرنا لقواطع الإنجيل على جسمية الشيطان، ومناقشتنا له في قوله الشياطين بسائط مجردة عن المادة. ومع جسميتهم لا يمتنع الضحك والأكل وسائر خواص الأجسام منهم.
وأما قوله: "إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب" ومعنى كونه من الشيطان فله تأويلان:
أحدهما: ذكره الخطابي، وهو أن العطاس يكون عن خفة البدن من الطعام والتثاؤب عن ثقله به، والحب والكراهة راجعان إلى سببهما، وهما قلة الأكل وكثرته الموجبان لخفته وثقله لا إلى ذاتيهما.
الثاني: أن العطاس يتعقبه حمد الله وذكره بخلاف التثاؤب، فلذلك فرق بينهما في الحب والكراهة، وعدم ذكر الله من أخلاق الشيطان وما يؤثره، فكذلك قيل في التثاؤب إنه من الشيطان.
وذكر أن رسول الله أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: "إنكم لا تدرون في أيه البركة" وقوله: "إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها" وأنه كان يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها. وقوله: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء حتى يحضره عند كل طعامه، فإذا سقط من أحدكم اللقمة فليمط ما بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان، وإذا فرغ فليلعق أصابعه".
قلت: هذه آداب حسنة من آداب الأكل، فإن في لعق الأصابع والصحفة تعظيم ما عليهما من بقية الطعام بأكله وتنظيف الإصبع والصفحة. ولعله علم في ذلك سرًا آخر من خصائص النبوة، وإليهْ أشار بقوله: "لا تدرون في أيه البركة" وقد سبق في أول الكتاب قول أرسطو وغيره: "إنه لا بد في معرفة الشرائع من توقيف إلهي يبين العقل ما يقصر عنه وليس من شأنه إدراكه".
وذكر حديث أبي ذر: "يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود" وقال: "الكلب الأسود شيطان".
قلت: الجواب من وجوه:
أحدها: أن الشيطان لا يمتنع أن يختص بالدخول في الكلب الأسود لخصيصة فيه من شدة خبثه أو نحو ذلك، كما ذكر في الإنجيل أن المسيح أخرج الشياطين من الناس فدخلت في قطيع الخنازير ثم ألقاها في البحر فغرقت.
وقد ذكر ابن الأشل مطران حمص في تقرير الثالوث: "أن الله سبحانه ظهر في كبش إبراهيم"، فإذا جاز في عقولكم أن خالق السموات والأرض يظهر في كبش، فكيف يمتنع ذلك في بعض مخلوقاته أن يظهر في كلب.
الثاني: قال الجاحظ: "معنى قوله: الكلب الأسود شيطان أن فعله فعل الشيطان لأنه أخبث الكلاب وأكثرها عقرًا للحيوان".
قلت أنا: لكن هذا لا يناسب قطعه للصلاة، فيحتمل أن يكون لكثرة خبثه. ويدل على خبثه سواده كما استدلوا على خبث الأسود من الحيات بسواده. وحيث اشتد خبثه قارب طبيعة الشيطان في الشر فاستأنس به، والشكول أقارب، فدخل فيه وقارب المصلي لينتهز منه فرصة، كما دخل إبليس في في الحية إلى الجنة حتى أغوى آدم.
وقد ذكر بعض أهل التاريخ - أحسبه الشيخ أبو الفرج في المنتظم - أن آدم لما كان فخارًا كان إبليس يطوف به ويتعجب منه، ففي بعض الأيام بصق عليه، فوقع بصاقه في موضع السرة منه، فقطع موضع البصقة منه فألقي فخلق منه الكلب الأسود.
فإن ثبت هذا صح أن في الكلب الأسود طبيعة من الشيطان لأجل تلك البصقة، وإن كان المخلوق من بصقة إبليس كلبا غير أسود، فلعله انضم إلى الأسود خصيصة كملت بها شيطنته، فاختص بما ذكر من قطع الصلاة وتحريم صيده ونحوه.
الثالث: قال الخطابي في قوله «تطلع الشمس بين قرني الشيطان»: هذا من ألفاظ الشرع التي أكثرها ينفرد هو بمعانيها، ويجب علينا التصديق بها والوقوف عند الإقرار بأحكامها والعمل بها.
قلت أنا: والاختلاف في أن هذا معقول المعنى أو هو تعبد، اختلف الفقهاء فيما لو اتفق أن مر بين يدى المصلي شيطان حقيقي هل يقطع الصلاة أم لا على وجهين: أحدهما يقطعها لمقتضى تعليله أن الكلب الأسود شيطان. والثاني لا لأنا لا نعقل ما معنى شيطنته، فهو إذن تعبد نتلقاه بالتسليم، والتعبدية فرع المعقولية، وحيث لا معقولية فلا تعبدية.
وذكر عن ابن قتيبة في مختلف الحديث قال: "وقد رخص في الكذب في الحرب لأنه خدعة وفي الإصلاح بين الناس وفي إرضاء الرجل أهله، ورخص أن يوري في يمينه إلى شيء إذا ظلم أو خاف على نفسه. والتورية أن ينوي غير ما يرى مستحلفه. وجاءت الرخصة في المعاريض وقيل إن فيها مندوحة عن الكذب.
قلت: هذه أحكام صحيحة في الإسلام. وقد سبق الكلام على أنواع الكذب. وأما التورية والمعاريض فكما قال إبراهيم عن زوجته، إنها أختي، وعنى باعتبار الأب الأبعد أو في الإسلام، وكذلك إسحاق.
وفي الحديث النبوي الصحيح قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" ماحلَ بهن عن دين الله، ذكر قوله عن زوجته إنها أختي، وقوله لقومي إني سقيم، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}. وهذه معاريض، وسماها كذبا مجازًا.
قال: "حديث يكذبه النظر، والخبر: إن الشمس تطلع على قرني شيطان فلا تصلوا لطلوعها. فجعلوا للشيطان قرونا تبلغ إلى السماء، وجعلوا الشمس التي هي مثل الأرض مرات تجري بين قرنيه، وهم مع هذا يزعمون أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو في هذه الحال ألطف من كل شيء وفي تلك الحال أعظم من كل شيء. وجعلوا علة ترك الصلاة في وقت طلوع الشمس طلوعها من بين قرنيه. وما على المصلي لله إذا خرجت الشمس بين قرني الشيطان؟ وما في هذا مما يمنع من الصلاة لله؟"
قلت: الجواب عن هذا الحديث قد سبق، لكن لم يوجه السؤال منه هناك كما وجهه ههنا فيحتاج أن نعيده فنقول: الجواب من وجوه.
أحدها: ما ذكر عن إبراهيم الحربي، وحسبك به إماما في معرفة الحديث ومعانيه، قال: هذا تمثيل، أي حينئذ يتحرك الشيطان ويتسلط، يعني حيث يرى الكفار قد أشركوا بالله وسجدوا للشمس في الشرق والغرب وهو المراد بقرنيه، قال: وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أي يتسلط عليه فيوسوس له، لا أنه يدخل جوفه.
الوجه الثاني: جواب مفصل.
قوله: "جعلوا للشيطان قرونا تبلغ إلى السماء"، أما جعل القرون له فمبني على جسميته وقد أثبتناها قبل هذا، وإن كانت مادته لطيفة. وعندكم أن الملائكة منهم على صور البقر وعلى صور الأسود وعلى صور النسور وعلى صور الناس. وإذا جاز هذا في الملائكة كان في الشياطين أجوز، لأن الجميع مشترك في التجرد عن المادة عند الفلاسفة وفي لطافتها عندنا. وأما كون قرونه تبلغ إلى السماء فلم نقل به، ولا هو لازم لقولنا، بل يجوز في رأي العين أن تخرج الشمس بين جبلين، بل أكمتين، بل جدارين صغيرين، بل من بين قرني نور متباعدين قليلا، كما تقرر في قوله: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}.
قوله: "وهم مع ذلك يزعمون أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم". قلنا: نعم، ولذلك توجيهان:
أحدهما: أن الشياطين كثيرة، فالذي يجري من ابن آدم مجرى الدم هو قرينه الملازم له، كما سبق في قوله عليه السلام: "ما منكم أحد إلا معه شيطان". والذي تطلع الشمس بين قرنيه شيطان آخر أكبر منه. فإن جنود إبليس كئيرون على أنواع وصفات مختلفة بينهم في أشغاله ومهامه، ولا يمتنع أن يبعث بعض سحرة الشياطين العظيمي الخلقة أو غيرهم فيقارن الشمس ويزينها في أعين الكفار بزينة صنم أو آلهة على جهة الشعبذة والتخييل فيسجدون لها لزينتها في أعينهم، فإنا قد علمنا في بني آدم من يأتي من التخييلات بما لا يشك الرائي في ثبوته في الأعيان وهو سيماء وتخييل لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي خيالات ذهنية تغلب وتقوى وتستولي حتى تغلب الأحكام الخارجية، فيبقى الإنسان كأنه نائم يقظان. وقد علم هذا بفعل سحرة فرعون حيث خيلوا أن حبالهم حيات تسعى.
الوجه الثاني: أن مادة الشيطان لطيفة، وقد جعل له من القابلية والقوة ما أنه يتشكل في أشكال مختلفة ويتصور في صور متباينة. فإن سلمنا أن الشيطان المقارن للشمس هو الجاري من ابن آدم مجرى الدم وأنه كبير عظيم هائل الخلقة، فلا يمتنع أن يكون يتشكل عند مقارنتها بشكل عظيم وعند جريانه من ابن آدم بشكل صغير، كما قرره ابن الأشل مطران حمص -وهو من فضلاء النصارى- في أن الله خالق السموات والأرض ظهر لإبراهيم في صورة كبش، ولإسرائيل في صورة رجل صارعه إلى الصبح، ولموسى في صورة نار في عليقة، وظهر للناس في صورة المسيح. فهذا - وإن كنا ننكره عليكم- لكنه يلزمكم لتجويزكم إياه أو بعضكم فمن هو موافق لكم على مقالتكم أو بعضها. فما ذكرناه في الشيطان أولى بالجواز. وأما الملائكة فثبت ذلك فيهم في دين الإسلام. فملك الموت الدنيا بين عينيه كدارة درهم، ثم إنه جاء إلى موسى في صورة رجل فأراد قبض روحه ففقأ موسى عينيه. وجبريل تراءى للنبي ﷺ في أول الأمر قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ثم كان يأتيه بعد ذلك في صورة دحية الكلبي - رجل أعرابي - وجاءه مرة في صورة شاب أبيض الثياب يسأله عن معالم الدين ليتعلمها المسلمون.
ثم هذا مما لا يمتنع عقلا أن تكون المادة منطبعة لطيفة تقبل توارد الأشكال عليها، كبندقة شمع إن شئت صورتها فرنسا أو فيلًا أو خنزيرًا أو شجرة، كبيرًا ذلك أو صغيرا، وكالنور والماء إذا وجدا محلًا فسيحا انبسطا فيه كشعاع الشمس في الفضاء والماء في البحار، وإذا اكتنفتهما الأجرام الكثيفة انقبضا كالنور في كوة البيت يرى دقيقا ضئيلًا، والماء في ساقية الدولاب وأنبوب القصب ونحوه يرى دقيقا قليلًا. فهذا أنهى ما تصل إليه عقول البشر في هذا من التقريب والتمثيل. ووراء ذلك أمر لا يرام جليل.
الوجه الثالث: ما سبق من قول الخطابي: إن قوله "بين قرني الشيطان" من ألفاظ الشرع التي أكثرها ينفرد بمعانيها، ويجب علينا التصديق بها، والوقوف عند الإقرار بأحكامها، والعمل بها يعني التسليم المحض والتقليد الصرف - بناء على ما سبق من قول أرسطو وغيره: "إن عقولنا عند أحكام المبادئ الأولى كالخفاش عند شعاع الشمس".
قوله: "جعلوا علة ترك الصلاة لله طلوع الشمس بين قرني الشيطان، وليس بمناسب".
قلنا: قد سبق جواب هذا بأن من أصول شريعة الإسلام المبالغة في خلاف الكفار -فيما لا يرد شرعنا بوقفه- حتى في التشبه بهم ولو أدنى مشابهة. ولا شك أن طلوع الشمس يسجد لها الكفار، فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لهم.
قلت: وهذا سؤال يورده المسلمون على هذا الحديث، ومع التحقيق لا جواب عنه إلا بنسبته إلى التعبد المتلقى بالقبول. وذلك لأنا لا نجد سببا ظاهرا تعلل به منع الصلاة عند طلوع الشمس إلا ما ذكرناه من مشابهة الكفار، لكنه يعارض بأن في الصلاة حينئذ مخالفة للشيطان وحزبه ومراغمة لهم أشد من التشبه بهم.
وقد حكي في مناقب معروف الكرخي أنه كان يمر عليه اليهود يوم السبت إلى الكنيسة، فقال في نفسه إن هؤلاء يكفرون بالله في هذا اليوم كفرا عظيما، فلأخالفنهم بأن أقطع هذا اليوم بالصلاة والصوم. فجازاه الله على ذلك بأن جعل زيارته يوم السبت، فيهرع إلى ضريحه خلق عظيم فيه على الخصوص.
ولأن وفاق الكفار بالصلاة عند طلوع الشمس بالصورة الفعلية، وخلافهم بالقصد والنية لأنهم يعبدون الشمس ونحن نعبد الله. وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. فالاعتبار هنا بالقصد والنية، لا بالمشابهة الصورية.
فإن قيل: لما تعارض عندنا مفسدة المشابهة ومصلحة المراغمة غلب الشارع جانب مفسدة المشابهة لأن الخطاب كان في صدر الإسلام والقوم قريبو عهد بالجاهلية، فمنعهم من الصلاة حينئذ تنفيرًا عن المشابهة مبالغة في تكريه الكفر وشعاره إليهم، ثم صار ذلك سنة متبعة، كالرمل زالت حكمته السببية وبقيت صورته السنية.
قلنا: جوابه من وجهين:
أحدهما: أن تنفيرهم من الكفر وتكريهه إليهم بأمرهم بمراغمته ومناقضة أهله بعبادة الله عبادة أبلغ.
الثاني: أن ذلك منقوض بصلاة الفرض. فإنه أجازها لهم، وهي جائزة بالإجماع في تلك الأوقات المنهي عن التطوع فيها. مع أن مشابهة الكفار الصورية موجودة. فإن قيل: الفرض واجب فلا يترك حق لباطل، قلنا: والتطوع مندوب فلا يترك حق لباطل، وخصيصة الوجوب لا تصلح فارقا. فبان بهذا البحث والتقرير أن هذا الحكم وأمثاله مما يتلقى عن الشرع بالقبول ولا يصادم بتصرفات العقول. ولا شك أن دين الإسلام مشتمل على الأحكام التعبدية والمعقولة العلية كما قررته في القواعد الصغرى وبينت الحكمة فيه على الوجه الأجل.
وذكر حديث أبي هريرة وأبي ذر: "من تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".
قلت: ووجه سؤاله منه أن ظاهره التجسم. قلت: وقد سبق تقرير قاعدة هذه الأحاديث. ثم الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن هذا الحديث مؤول عندنا على التقرب بالرحمة واللطف والإكرام، كما يقال: فلان قريب من السلطان، والأمر قريب من فلان، يعني يقارب القلوب والمنزلة. وأنا وإن كنت أثريا في آيات الصفات وأخبارها إلا أن المجاز عندي في هذا الحديث ظاهر غالب، فلا يتوقف في تأويله إلا جامد.
وتحقيق الكلام في هدا المقام أن النصوص في الصفات من حيث السند على ثلاث طبقات: صحيح مجمع على صحته بين أهل النقل، وضعيف متفق على ضعفه، ومختلف في صحته. فالأول مما تئبت به الصفات، والآخران لا يعول عليهما في ذلك في وقت من الأوقات.
ثم الحديث المجمع على صحته من حيث دلالة المتن على ثلاث طبقات: ما ترجح فيه إرادة الحقيقة، وما ترجح فيه إرادة المجاز، وما استوى فيه الأمران.
فالأول كحديث الساق والقدم والأصابع ونحوه، فهذه إرادة المجاز فيها مرجوحة، فحكمها أن تحمل على حقائق لائقة بالباري جل جلاله، ولا يلزمنا تعيين كيفيتها، كذاته سبحانه أثبتنا وجودها ونحن عن تفاصيل أحكامها بمعزل.
والثاني كهذا الحديث قوله: "من تقرب مني تقربت منه" وقوله: "قلوب الخلق بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيفما شاء" و"الحجر الأسود يمين الله في الأرض" وقوله: "ساعد الله أشد" و"موسى الله أحد" ونحوه. فإن المجاز فيه راجح، وحكمه التأوبل على ما ترجح فيه.
والثالث كقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} فإنه متردد بين الصفة الوجهية اللائقة بمنصب الإلهية وبين الرتبة الجاهية الراجعة إلى العظمة الذاتية. فحكم مثل هذا راجع إلى ترجيح المجتهد في أحكام العقائد، فإن غالب مسائلها من هذا وأشباهه اجتهادية لكنها أعلى رتبة من مسائل الفروع.
فهذا هو الطريق الذي أراه قصدًا بين الإفراط والتفريط سالما من الخبط والتخليط {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت في التوراة أن آدم لما أكل من الشجرة انفتحت عينه وبان له أنه عريان، فاستتر بالشجرة وجعل يخصف عليه الورق، وسمع حس الله يمشي في الجنة، فاختفى منه، فقال له الله الرب: ما لك يا آدم؟ قال: أنا عريان أستحي منك وسمعت حسك تمشي فاستحييت. فقال: لعلك أكلت من شجرة معرفة الخير والشر؟ قال: نعم. وقد سبق ذلك. فهذا تصريح بأن الله يمشي، والمجاز فيه مرجوح جدًا. فما تنكر علينا من حديث المجاز فيه راجح جدًا، هذا ما هو إلا عناد، ولو وقع الإنصاف لارتفع الخلاف.
قال: وفي حديث أبي هريرة: "من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وذكر حديثه: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وقوله: "إذا أمن الأمام فأمِّنوا فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" وحديث سلمان: "من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر" الحديث إلى قوله "غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" وقوله: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده" وحديث أبي عيسى: سمعت النبي يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" وقوله: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" وحديث أبي ذر قال: قال النبي ﷺ: "أخبرني جبريل بالحرة قال: بشر أمتك أن من مات لا يشرك بالله شيثا دخل الجنة. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: نعم. كررها ثلاثا، حتى قال في الثالثة: وإن شرب الخمر". وذكر النصراني: في لفظ آخر للحديث "قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا سيدخل الجنة ولن يدخل النار" وقوله: "لكل نبي دعوة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وقوله: "لله تسعة وتسعون اسما، مائة إلا واحدا، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة" وقوله: "من صلى البردين دخل الجنة" وقوله: "من سبح لله في دبر كل صلاة ثلاث وثلاثين" الحديث إلى قوله "غفرت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وقوله: "قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".
ثم قال النصراني: "فقد ظهر أنه لم يوجد فيه شيء من الشروط الأربعة التي ينبغي ولا بد أن توجد في النبي".
قلت: سرد الخصم هذه الأحاديث ولم يبين وجه سؤاله منها، والذي فهمته من ذلك أنه أوردها إشكالا على وعد النبي أمته على الطاعات المذكورة مغفرة الذنب ودخول الجنة والتحريم على النار، إما استبعادًا من هذا الخصم لذلك بناء على اعتقاده في المسلمين أنهم عنده كفارًا، وعلى ما صح في السنة من دخول عصاة الأمة النار وإخراجهم بالرحمة والشفاعة، فيكون ذلك تناقضا في الأخبار.
والجواب: إن هذه الأحاديث صحيحة وأحكامها ثابتة عندنا، ولا مطعن فيها لطاعن. أما استبعاده لما وعدت به هذه الأمة بناء على سوء اعتقادهم فيهم فلا وجه له إذ لا اعتبار به وإنما الاعتبار بالحجة. ثم هو معارض باستبعاد المسلمين ما يزعم النصارى أن المسيح وعدهم به في قوله: "من عرفني وآمن بي كان معي عند أبي الذي في السموات" ونحوه. فإن من آمن بالمسيح كإيمان النصارى في أنه الله أو ابن الله فهو كافر عند المسلمين خالد في النار قد حرم الله عليه الجنة، فلم كان اعتبار أحد الاعتقادين أولى من الآخر؟
وأما دعواه التناقض فمردودة بأن هذه ظواهر وعمومات كانت في أول الإسلام وآخره قبل أن يكمل الإسلام وتتم أركانه وشروطه ومتقوماته. ثم لما كمل الإسلام صار غفران الذنوب ودخول الجنة والتحريم على النار متوقفا على كماله وتمامه. فمن أخل بجميع حقيقته كان كافرًا، ومن أخل بشيء منه جوزي بحسبه، كما قال الزهري في قوله: "من قال لا إله إلا الله حرمه الله على النار": "كان ذلك في أول الإسلام قبل نزول الفرائض والأمر والنهي".
قلت: وقد قال بعض أهل العلم إن المراد تحريم الخلود لا تحريم الدخول جمعا بين الأحاديث.
فأما اللفظ الذي ذكره وهو قوله: "من مات لا يشرك بالله سيدخل الجنة ولن يدخل النار" فهذه الزيادة لا نعرفها في شيء من دواوين السنة، بل الذي صح في السنة إثبات دخول الجنة لا ينفي دخول النار، ولا تنافي بينهما لجواز أن يدخل النار بمعصيته ثم يخرج منها فيدخل الجنة بطاعته، كما تواترت به أحاديث الشفاعة، تحقيقا لقول تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
على أن هذا اللفظ إن صح وجب تأويله على أنه لن يدخل النار دخول خلود، بخلاف المشركين فإنهم يدخلونها دخول خلود. وحينئذ رد الله كيد هذا الخصم، وتبين أن شروط النبوة الأربعة موجودة في محمد ﷺ.
قال: "وينضم إلى ذلك في حقه ما روى مسلم من حديث أبي هريرة قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي. وقال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله: أين أبي؟ قال: إن أبي وأباك في النار."
قلت: ولا محذور في هذا. فإن إبراهيم الخليل - صلوات الله عليه - كان أبوه كافرًا، ولأن من قاعدة الإسلام وغيره من الأوثان أن الكفار في النار وأبوا النبي كانا كافرين، فحكم لهما بحكم الله فيهما. وهذا من أكبر الأدلة على صدقه لوجهين:
أحدهما: أنه ظهر من قوم كفار يدعو إلى الناموس الأعظم. فلو لم يكن صادقا لاتبع دين آبائه كغيره.
الثاني: أنه حكم لأبويه بالنار ولجده وعمه وكل قريب له، فلو لم يكن في غاية الصدق والأمانة والعدل حتى أنه يخبر بالحق على نفسه ولها لتعصب لقومه وقال: هم في الجنة ببركتي لاختصاصي عند ربي. وكان يصدق في ذلك كما صدق في غيره.
قال: "وقال أيضا: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فأنزل عليه: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}."
قلت: هذا إن صح فجوابه ما سبق قبله، لكنه لا يصح لسياق الكلام، وهو قوله تعالى في سياق ذم اليهود والنصارى والكفار: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} بضم التاء المثناة من تسأل على ما لم يسم فاعله، فهو معنى قوله: {وَلا تُسْاَلُونَ عَمَّا كانُوا يعْملُونَ} وقوله: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ومعنى ذلك كله أن عليك إنذارهم وليس عليك شى من عقابهم، كما قال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وهذا عام في جميع الكفار. نعم. قد قرئ {لا تَسألْ} على النهي له عن السؤال، وهو محتمل لما ذكره هذا الخصم. والجواب عنه ما سبق.
وذكر النصوص التي تضمنت أنه لا يعلم الغيب، كقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم} وقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}.
قال: "فأخبر أنه لو كان يعلم الغيب لاجتلب الخير واجتنب الشر واستعد لكل أمر بما ينبغي له. وكقوله: {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} وقوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} وقول عائشة: "من زعم أن محمدًا يخبر بما يكون فقد أعظم الفرية على الله، والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}."
قلت: هذا غير وارد بحمد الله تعالى، فإن محمدًا لم يدع أنه يعلم الغيب كله ولا أنه يعلم ما علم منه بنفسه، بل بإخبار الله له بذلك، كما قال الله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}.
وأما قول عائشة: "من زعم أن محمدًا يخبر بما يكون" فلا أعرف هذا اللفظ، إنما المشهور من رواية الترمذي وغيره أنها قالت: "ومن زعم أن محمدًا يعلم ما في غد" والمعنى متقارب، وكلامها محمول على ما ذكرناه من التقييد، أي لا يعلم ما في غد ولا يخبر بما يكون من عند نفسه بل بإخبار الله له. وهل كان النبي ﷺ إلا عبدا مأمورا، ولم يكن إلها معبودا كما اعتقدتم في المسيح. ثم خفي عنكم ما تضمنه اعتقادكم الفاسد من جهلكم المتزايد؛ فإن المسيح إن كان يعلم الغيب فكيف لم يعلم أنه يؤخذ فيقتل فيختفي عنهم لئلا يقع في الصلب والقتل؟
فإن قلتم: كان يعلم ذلك لكن هو سلم نفسه ليفتدي الخلق من العذاب بنفسه.
قلنا: نتابعكم على جهلكم في هذا ونسلمه لكم، لكنه لما بات ليلة في الجبل ساهرًا يصلي ويدعو أباه ليقيله من الموت ويعبر عنه كأسه. يرد عليكم أن من يجود بنفسه هذا الجود، كيف يجزع هذا الجزع ويشح نفسه هذا الشح ويستسعد بالتلاميذ أن يساهروه ويسألوا معه تعبير كأس الموت عنه؟
سامحناكم في هذه، لكنه لو كان يعلم الغيب - كما زعمتم - فلا يخلو في سؤاله تعبير كأس الموت عنه، إما أن يكون علم أنه يجاب في سؤاله أو لا يجاب. والأول باطل لوقوع الأمر بخلافه، فما علم الغيب في هذه القضية. والثاني يوجب أن سؤاله كان عبثا لا يليق برعاع الناس، فضلًا عن الأنبياء على رأينا فيه، فضلا عن ابن الله أو الله خالق السموات والأرض على رأيكم الفاسد فيه.
ثم نقول لكم: من من الأنبياء علم الغيب لذاته: آدم لما خرج من الجنة؟ أو إبراهيم لما امتحن بذبح ولده؟ أو إسحاق لما أوهمه ابنه يعقوب أنه ابنه العيص فأخذ بكوريته وجعل يتحير في أمره ويقول: "الصوت صوت يعقوب واللمس لمس العيص"؟ أو يعقوب لما جرى ليوسف ما جرى وهو يظنه ميتا؟ أو موسى لما أرسل فرعون الذباحين خلفه ليقتلوه؟ فلو لم يبادر رجل مؤمن فأنذره حتى هرب لفات فيه الفائت.
ما أقل عقول هؤلاء القوم الضلال. بل ما أقل عقل من يتعجب من قلة عقولهم بعد ما يعلم منهم ما هم عليه. إنما الأنبياء عند الله يعلمهم ما لا يعلمون، وما لا يعلمهموه لا يعلموه.
قال: "وينضم إلي ذلك وعده للمسلمين يوم أحد بالنصر على عدوهم، فكان بخلاف ما أخبرهم، فقتلوا وهزموا وجرِح هو وانكسرت رباعيته ودخل حلق المغفرِ في وجهه، ثمِ لما تبين كذبه اعتذر إليهم بقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} الآية".
قال: "واعتذاره أقبح من خلف وعده، لأنه باطل. فإن الأنبياء المتقدمين على نوعين:
أحدهما: جاءوا باللين والملاطفة والخشوع مثل حزقيال وأرمياء وأشعياء ونحوهم، لم يحاربوا أحدًا ولا خاصموه، بل أعداؤهم الكفار استضعفوهم فعذبوهم وقتلوهم، ولم يقتل أحد منهم في حرب ولا قتل معه حبر.
الثاني: جاءوا بالتأييد من عند الله والظهور على الأعداء والقهر لهم، فقمعوا المشركين، ولم يقتل أحد منهم في حرب ولا هُزم يوما واحدا، ولا قُتل معه رِبِيٌّ ولا حبرٌ، مثل موسى وداود وسليمان".
قال: "وأنت إذا تاملت أحوال محمد علمت أنه ليس من أحد هذين النوعين، لأنه لم يأت بخشوع ولا خضوع فيكون من النوع الأول، ولا أيد بمعجزة يقهر بها أعداءه فيكون من النوع الثاني. نعم، هو من النوع الذي حذر عنه سيدنا المسيح حيث قال في إنجيله الطاهر: "تحذروا عن الأنبياء الكذابين الذين يأتونكم في لباس الضأن وهم في الباطن ذئاب خاطفة، ومن ثمراتهم تعرفونهم".
قلت: أما خروج النبي ﷺ إلى أحد فلم يكن منشرحا له ولا اختاره بادئ الرأي. وإنما كان رأيه أن يتحصن في المدينة، فإن دخل العدو عليه قاتله بالسلاح والحجارة، وإن بقي خارج المدينة بقي بشر ولم يلق كيدًا.
لكن رجالا من المسلمين ممن لم يشهدوا بدرا تأسفوا على فوات حضورها فأشاروا بالخروج إلى أحد وألحوا على ذلك لما أراد الله لهم من الإكرام بالشهادة وتصديقا لرؤيا النبي ﷺ حيث رأى في منامه كأنه في درع حصينة وكأن في سيفه فلولا وكأن بقرا تذبح، فأولّ الدرع الحصينة بالمدينة، والفلول في سيفه بأنه يصاب بعض أصحابه، والبقر بمن قتل من الكفار يومئذ.
وأما وعده إياهم بالنصر فصحيح. وقد نصروا في أول الحرب وهزم الله الكفار، لكن لما خالف الرماة ما أمرهم به وتركوا مراكزهم التي وكلوا بحفظها وطلبوا الغنيمة من أموال المشركين عاقبهم الله بالمخالفة، فخرج عليهم الكمين فنال منهم ما نال.
وقد شرح الله هذه القصة في القرآن حيث يقول: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} الآيات.
فقد صدقهم في الوعد لكنهم خالفوه فعوقبوا بذنبهم. ثم يقال إنما وعدهم بالنصر الكلي ذلك اليوم بشرط أن يسمعوا له ويطيعوا، لكنهم خالفوه فانتفى المشروط لانتفاء شرطه.
وأما ما أصابه من ذلك في نفسه فهو كالذي أصاب الأنبياء قبله من القتل والضرب، بل من النشر بالمناشير، كما جرى لجرجيس النبي عليه السلام.
وأما قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} فهو إخبار صحيح لكن قوله: {قتل معه ربيون} فيه تقديران مناسبان لسياق القصة.
أحدهما: أن الكلام تم على قوله: {قتل} وفيه ضمير النبي، أي كائن، أي كم من نبي قتل، وهو صحيح، فإن الخصم قد اعترف بأن كثيرًا من الأنبياء قتلوا كيحيى وزكريا والمسيح على زعمه وغيرهم كثير. وقوله {معه ربيون كثير} جملة حالية، أي قتل حال كونه ذا أصحاب كثيرين، فما أوجب قتله لهم أن تزلزلوا في دينه بل ثبتوا عليه بعده. ووجه مناسبة هذا التقدير أن الشيطان صاح يوم أحد: {قتل محمد} فاضطربت قلوب أصحابه وقالوا: عمن عدنا نقاتل ولمن نتبع؟ فعاتبهم الله على هذا بقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أي ما ضعف أحد بعد نبيه ورجع عن دينه كما هممتم أنتم أن تفعلوا.
التقدير الثاني: أن {قتل} مسند إلى {ربيون} وهم جمع "ربي" والربي منسوبة إلى الربة وهي الجماعة، كـنه قال: قتل معه قوم رؤساء جماعات، كالقواد والأمراء. وقيل الربيون الأتقياء العلماء. وهذا مناسب لقوله قبل ذلك: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} لكونهم وجدوا لما أصابهم يوم أحد من قبل الإخوان والأقارب، فكأنه يسليهم بذلك ويأسيهم بمن سبق منهم.
ولا شك أن من الأنبياء المتقدمين من كان ذا حروب ومغاز كداود وسليمان وموسى ويوشع بن نون. ولم يزل بنو إسرائيل بعد موسى يكون لهم ملك للحرب ونبي يعرّفه بأمر الله بالوحي، والجهاد فيهم دائم. وكانوا يقدمون التابوت بين أيديهم، وكان من حمله لا يرجع به حتى يفتح عليه أو يقتل. وقد غزا يوشع بن نون مدينة الجبارين ليلة السبت ثم سأل الله أن يحبس عليه الشمس حتى يفرغ منهم قبل أن يدخل السبت ففعل.
وكان غزاة بني إسرائيل أكثرهم أو كثير منهم علماء أتقياء بررة أخيار أحبار، لأنهم أوتوا الكتاب والحكم والنبوة وفضلوا على العالمين، كما نص عليه القرآن. ومن المحال عادة أن يكون فيهم هذا الجهاد ولا يقتل منهم أحد، ومتى ثبت أنه قتل منهم ثلاثة فصاعدا ثبت صحة ما أخبر به محمد ﷺ. كيف وقد ثبت أنه قتل منهم في الحروب والمغازي ما لا يحصى كثرة على ما دلت عليه الكتب والتواريخ والسير. وحينئذ إنكار هذا الخصم أن يكون قتل مع الأنبياء المحاربين منهم أحد لا يسمع.
وقد بينا أن الربيين لا يختصون بالأحبار والعلماء على القول المذكور أولا، بل هو عام في غيرهم من المقاتلة. فنقول:
إنك ذكرت للأنبياء نوعين، ونحن ذكرنا للآية تقديرين. فتقديرنا الأول يصح في نوع الأنبياء الأول، وتقديرنا الثاني يصح في نوعهم الثاني. وأيضا صح في التوراة أن إبراهيم قاتل الذين أغاروا على أموال لوط فاستاقوها فتبعهم إبراهيم بعبيده وغلمانه حتى قتلهم واسترد ما أخذوه.
على أن الآية قرنت على وجهين: {قتل معه} و {قاتل معه} لكن يقال: إما أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف، فيلزمكم الجواب عن القراءتين. فنقول: قد دلت القراءتان على أن جمعا من الأنبياء قتلوا، وعلى أن جمعا كثيرًا منهم قاتله معه أصحابه وقتل معه أصحابه، وقد بينا صحة ذلك، إذ العادة في الغزوات والحروب أن الناس يقاتلون ويقتلون.
قوله: "ليس من أحد النوعين. إنما هو رجل هَزم وهُزم، وأصيب وأصاب".
قلنا: قد بينا بما ذكرنا من معجزاته قبل هذا أنه من الأنبياء وأنه بما علم من حسن سيرته وآدابه ولينه وتواضعه وخشوعه وتحديه وشجاعته وفصاحته وغير ذلك من أخلاقه الكاملة وصفاته الجميلة متخلق بأخلاق النوعين من الأنبياء، وأنه اجتمع فيه ما لم يجتمع في واحد منهم.
وأنت لو نظرت حق النظر في سيرته لعلمت ذلك. لكنك عدو أخذت الشبه التي زعمت أن لك فيها متعلقا وتركت ما عليك فيه المتعلق، على عادة الأعداء في إظهار القبيح وإخفاء المليح. على أنه لا قبيح في سيرة النبي ﷺ.
وأما قولك "هَزم وهُزم، وأصاب وأصيب".
فالنوع الثاني من الأنبياء الذين ذكرتهم هكذا كانوا. وقد هزمت بنو إسرائيل وأخذ منهم التابوت إلى أرض أعدائهم، حتى رد عليهم في زمن طالوت الملك.
وأما النوع الأول منهم، فكانوا تارة يثبتون وتارة يهربون. كما كان المسيح يفر من اليهود من مكان إلى مكان لخوفه منهم، حتى كان منه ومنهم ما كان. وقد أخبر الله تعالى بذلك في القرآن حيث يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} والله أعلم.
ثم يقال له: هل رأيت ملكا يهزم ويهزم ويصيب ويصاب يبقى ناموسه بعده قريب ألف سنة، وهو كلما جاء في رسوخ وثبوت؟ هذا عمَل فاسد.
وأما ما حكاه عن سيده المسيح في إنجيله الطاهر فقد بينا في أول الكتاب أنه لا حجة فيه. ولعمري أن في الإنجيل الذي يعتمد عليه من التناقض والمحال ما يمنعه أن يتصف بصفة الطهارة.
وذكر حديثه عائشة: أن النبي ﷺ سحر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله.
قلت: هذا صحيح، وقد بينا عند قوله تعالى: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أن السحر ونحوه جائز على الأنبياء وأنهم معصومون فيما يوحى إليهم، بمعنى أنهم لا يقرون فيه على خطأ.
وذكر حديث عائشة: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: "فلولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ قبره مسجدا".
قلت: وهذا صحيح مشهور عنهم. فإنهم لغلوهم في أنبيائهم كما غلوتم في المسيح فجلعتموه إلها كانوا يتعبدون عند قبور أنبيائهم، وذلك منهي عنه في دين الإسلام لئلا يصير النبي بالصلاة عنده شبيه المعبود، وإن كانت النية تميز العبادة لمن، لكن لمجرد الشبه تكره. وأيضا فإن الأنبياء معظمون، فإذا عُبد الله عندهم لم يؤمن أن يجيء من بعد ذلك العصر فيظن العبادة لهم لتعظمهم في النفوس، كما يقال إن إدريس لما رفع إلى السماء جاء إبليس إلى أخ له فقال له: أصنع لك تمثال على صورة إدريس تتسلى به؟ قال: نعم. فصنع له تمثالا كان يدخل عليه كل يوم يبكي عنده ويتذكر إدريس به فيحصل له بعض السلوة، وكان التمثال في خرابة لا يدخلها غيره، فلما مات أخو إدريس - أو أنه كان صاحبه وخليله - جاء من بعده فوجدوا التمثال في الخرابة، فجاءهم إبليس فقال: أتعرفون هذا التمثال؟ هذا إله إدريس وأخيه فاعبدوه. فعبدوه، فكان ذلك أصل الجاهلية الأولى.
وأما الجاهلية الثانية: فإن البيت الحرام كان عظيما عند أهل مكة، فكانوا إذا سافروا حملوا من حجارة الحرم معهم في أسفارهم يحتمون ويتبركون بها، ثم تدرجوا إلى أن عادوا يضعونها ويطوفون بها حيث حلو من الأرض كما يطوفون بالبيت، ثم تدرجوا من عصر إلى عصر حتى عبدوها. ونشأتْ عبادة الأصنام بهذا السبب، فكان ذلك أصل الجاهلية الأخرى التي أزالها الله بمحمد ﷺ.
وذكر قوله عليه السلام في مرضاه: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان قطع أبهري".
قلت: قد بينا أن الأنبياء بشر، يجور عليهم الآفات والموت وأسبابه. وليسوا كما يعتقدون في المسيح أنه إله، ثم هو مع ذلك قتل وصلب ودفن ولم تنفعه الإلهية.
والأبهر عرق ينزل من الدماغ، فهو في العنق الوريد وفي الصلب الأبهر وفي القلب الوتين. ومن أي مواضعه انقطع هلك صاحبه. والوريد والوتين مذكوران في القرآن.
وذكر حديث البخاري عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله ﷺ الموت وفي البيت رجال قال: "هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده" فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللفظ والاختلاف قال رسول الله: "قوموا" فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حيل بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لنا ذلك الكتاب.
قلت: لم يوجه سؤاله من هذا الكتاب. وأنا يخطر لي توجيهه من وجهين:
أحدهما: القدح في جميع المسلمين. وتقريره أنه علق عدم ضلالهم على كتب الكتاب. ومن المعلوم أن المشروط ينتفي لانتقاء شرطه، والكتاب لم يكتب، فنفي الضلال لم يحصل، فيكون الضلال بعده ثابتا، إذ لا واسطة بين النفي والإثبات.
الثاني: قول القائل: "قد غلبه الوجع" يعني: فهو لا يدري ما يقول، وكان هذا القائل عمر بن الخطاب. وفي لفظ الصحيح: "أنه قال إن الرجل تهجر" يعني تخلط في كلامه. لأن الهجر الكلام الذي لا معنى له ولا فائدة.
والجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أن المراد بالضلال الذي علق نفيه على كتابة الكتاب هو الاختلاف في الإمامة لمن هو بعده. بدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وبدليل قوله عليه السلام قبل موته: "لقد تركتم على بيضاء نقية ليلها كنهارها" وقوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من عاندهم إلى يوم القيامة" في نصوص كثيرة، فنفى ضلالة الأمة بعده. فتعين حمل الضلال في هذا الحديث على النزاع في الخلافة. ولا شك أنهم تنازعوها بعده، علي وسعد بن عبادة وأبو بكر فكانت له بمقتضى وعد النبي ﷺ حيث قال: "يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر" وقوله: "الخلافة بعدي ثلاثون ثم يصير ملكا"، وكانت أيام أبي بكر من جملة الثلاثين.
الوجه الثاني: أن محمدًا ﷺ في أيام حياته، إما أن تدعوا أنه كان على هدى أو ضلال؟ فإن قلتم: على هدى، فأمته بعد على ملته وسنته ومنهاجه. وإذا اختلفوا في أمر لجأوا إلى ما أنزل عليه وإلى ما قاله من السنة، فهم أيضا مهتدون مثله. وإن قلتم على ضلال فأمته - على زعمكم - قد ضلوا عما كانوا عليه والضلال عن الضلال هدى، إذ نقيض الضلال الرشاد، فهم إذن مهتدون. فعلى التقديرين القدح في أمته لا يتجه من هذا الحديث. والقدح فيه قد سبق جوابه.
والجواب عن الثاني: أن عمر رضي الله عنه ليس معصوما، فهو وهم في هذا، إذ وطن الأمر على خلاف ما هو عليه حيث نسب النبي ﷺ إلى التخليط في الكلام كما وهم في قوله: "إن محمدًا لم يمت، وإنما ذهب إلى مناجاة ربه بروحه كما ذهب موسى للمناجاة ببدنه".
وأحسب أن عمر عوقب على هذه الكلمة عقوبة دائمة من جهة أن الرافضة تعلقت عليه بها ونسبته إلى أنه علم أن النبي ﷺ إن كتب لهم كتابا نص فيه على علي بن أبي طالب وعلم أنها إن صارت إلى علي تداولتها بنو هاشم فلا تخرج عنهم فلا تحصل له وهو كان يرجوها بعد أبي بكر كما وقع فصدهم عن كتابة الكتاب حتى مات النبي ﷺ ثم بادر بالبيعة لأبي بكر مخالسة كما قال: "كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها" ثم مات أبو بكر سريعا فتناولها بعده. فهم يشنعون عليه بذلك ويتهمونه به ويسبونه ويشتمونه لأجله. ولعمري إن هذا شبهة. ولكن لما كانت خلافة عمر على السداد والرشاد وما فيه صلاح البلاد والعباد وكانت أيامه غرة في وجه الدهر ودولته واسطة في عقد نحر دول العصر، لم يضرنا ذلك ولو ثبت تحققه.
وذكر حديث أن النبي ﷺ كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدا؟" يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيتي حتى مات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه، فقبضه الله وإن رأسه لبين سحري ونحري، وخالط ريقي ريقه في آخر أيامه من الدنيا، ولقد اشتد عليه الموت حتى لا أكره شدة الموت لأحد بعده".
قلت: ووجه السؤال فيه من وجهين:
أحدهما: أنه لم يغفل عن لذة النكاح التي هي عار عند الخصم حتى في مرض الموت.
الثاني: أن شدة الموت عليه عقوبة، فدل أنه كان يستحقها.
قلت: والجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما أن النكاح قد بينا أنه عبادة وهو من سنن المرسلين، والقول بأنه عار سفه.
الثاني أنه كان يحب عائشة ويألفها أكثر من غيرها، ولهذا كان يقول: "هذا قسمي فيما أملك فهب لي ما لا أملك". ولا يلزم من ألف الشخص صاحبه أن يكون يستمتع به من جهة اللذة المشهورة، بل يصير الميل إليه خلقا للنفس حتى مع الغفلة عن اللذة.
والجواب عن الثاني أن لحوق المشاق في الدنيا من أسباب النعم الآخروية، خصوصا شدة الموت فإنه آخر ما يكفر به عن العبد المؤمن ذنوبه إن كان له ذنوب، وإلا رفع به درجات في الجنة. ولهذا يرى غالب المؤمنين أهل بلاء في الدنيا، وغالب الكفار أهل عافية. وفي الحديث النبوي الصحيح: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" وفي المثل العامي: "المؤمن ملقى، والفاجر موقى". ثم لو كان لحوق المشقة في الدنيا عقوبة لوجب أن يكون إلقاء إبراهيم في النار وعمى إسحاق ويعقوب وما جرى ليوسف وحزن أبيه عليه وبلاء أيوب وما قاساه موسى وهارون من بني إسرائيل وقوم فرعون وقتل يحيى وزكريا وغيرهم من الأنبياء وإهانة اليهود للمسيح، ثم قتله وصلبه وما جرى لتلاميذه بعده وقتل جرجيس أربع مرات، ثم يعيش وحبس يونس في جوف الحوت ونحوه عقوبات في حقهم. وأحد لا يقول ذلك.
وأما قول عائشة: "خالط ريقي ريقه" فليس ذلك بمباشرة استمتاعية، بل لأن النبي ﷺ كان مستندًا إلى صدرها، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة ومعه سواك يستاك به، فأتبعه النبي ﷺ بصره، فقالت له عائشة: آخذه لك يا رسول الله، فأوما برأسه أي نعم - وكان يحب السواك لأنه كما قال ﷺ: "مطهرة للفم، مرضاة للرب" - فأخذته من أخيها فمضغته بفمها حتى لانَ ثم أعطته النبي ﷺ فاستاك به. وذلك هو المراد باجتماع ريقهما.
وهذا آخر ما وجدنا من هذا الكتاب، على مصنفه من الله ما يستحقه.
(عشر حجج على صحة دين الإسلام وصدق محمد)
واعلم أن كل متناظرين لا تثبت دعوى أحدهما إلا بمقدمات مشتركة بينهم يتفقون عليها تكون بينهما كالحكم. فلمن وافقت تلك المقدمات تثبت دعواه.
وإذا عرفت هذا فنحن ليس بيننا وبين النصارى واليهود مقدمات مشتركة إلا العقليات وما تركب منها ومن غيرها. لأن كل واحد من أهل الكتاب والمسلمين يقدح في كتاب الآخر الذي بيده فلا تقوم عليه الحجة به.
فلنختم هذا الكتاب بذكر حجج واضحة على صحة دين الإسلام وصدق محمد ﷺ.
الحجة الأولى
وهي التي يعتمدها غالب المتكلمين في كتبهم. وهي أن محمدًا ادعى النبوة وظهر المعجز على يده، وكل من كان كذلك فهو رسول الله حقا، فمحمد رسول الله حقا.
أما أنه ادعى النبوة فبالتواتر، وأيضا لو لم يدع النبوة لما كان لنزاع الخصم فائدة. وأما أن المعجز ظهر على يده، فلما قررناه قبل وهو أن المعجز هو الأمر الممكن الخارق للعادة المقرون بالتحدي الخالي عن المعارض. والقرآن الذي أتى به كذلك، وإلا لظهرت معارضته مع توافر الدواعي عليه. والإشكالات التي عليه الفلاسفة والبراهمة وغيرهم من منكري النبوات مشتركة لا نختص نحن بها، والتي عليها لليهود أو النصارى قد أجبنا عنها قبل.
وأما أن من ظهر المعجز على وفق دعواه يكون رسول الله، فللقطع بأن رجلًا لو قال لقوم: أنا رسول فلان الملك إليكم، ودليل صدقي أنه يخترق عادته الفلانية لأجلي، مثل أن يقوم عن سريره أو ينزل عن مركب فيمشى لأجلي أو ينزع تاجه فيجعله على رأسي، فوجد ذلك من الملك، دل على صدق مدعي الرسالة.
وهذا إنما يحتج به على منكري النبوات. أما اليهود والنصارى فيسلمون أن ظهور المعجز يدل على صدق المدعي. وإنما ينازعون في وجود المعجز، وقد أثبتناه.
الحجة الثانية
إن محمدًا عليه السلام إما ملك ماحق أو نبي صادق، لكنه ليس ملكا ماحقا، فهو نبي صادق.
وإنما قلنا إنه إما ملك أو نبي، لأنه لا قائل يقول بثالث، إذ الخصم يدعي أنه كان ملكا أقام ناموسه بسيفه، ونحن نقول كان نبيا صادقا مؤيدًا من الله تعالى، فقام ناموسه بالتأييد الإلهي. وإنما قلنا: إنه ليس ملكا كما زعمتم بل نبي صادق، لأننا علمنا بالاستقراء التام والتواتر القاطع أن ملكا من ملوك الدنيا لم يبق ناموسه بعده، بل يتغير بموته. وإنما تبقى نواميس الأنبياء بعدهم، ثم رأينا ناموس محمد باقيا بعده قريب ألف في سنة، فعلمنا أنه من الأنبياء لا من الملوك.
الحجة الثالثة
إن نبوة محمد ﷺ لازمة لنبوة من قبله من الأنبياء جميعهم، ثم قد وجد الملزوم الذي هو نبوة الأنبياء قبله، فيجب أن يوجد اللازم وهو نبوته.
وانما قلنا إن نبوته لازمة لنبوة من قبله، لأنا أجمعنا على أن المقتضي لنبوتهم إرادة الله، والدليل عليها ظهور المعجز. لكن إرادة الله خفية عن البشر، لا سبيل إلا معرفتها، فبقي الطريق إلى ثبوت النبوة منحصرا في ظهور المعجز، والمعجز مشترك بينه وبينهم بما حققناه غير مرة.
وإنما قلنا: إن وجود الملزوم يوجب وجود اللازم للقطع بأن ملزوما لا لازم له محال الوجود.
الحجة الرابعة
أن محمدًا ﷺ أقر اليهود والنصارى في شريعته بالجزية، مع علمه بأنهم يكذبونه ويقدحون في صدقه، وما كان ذلك منه إلا مراعاة لحرمة كتابهم وأنبيائهم، لأنه علم أنهم وإن تصرفوا فيها بالتبديل والتحريف المفهم لكنهم لم يحرفوا الجميع، إنما حرفوا ما كان تحريفه مهما عندهم، فهم على بقايا من شرائعهم، فراعاهم لذلك، وجعل عقوبة كفرهم به دفع الجزية والصغار عليهم.
ومن المعلوم أنه لو كان ملكا محضا لا نبوة له لأخلى الأرض منهم على تكذيبهم له وعدم طاعته، لأن هذا شأن الملوك، لا يستبقون من خشوا عاقبته خصوصا، ولم يكن يخفى عليه أن جنس الملتين يبقى بعده ويتطرق منها تشكيك أمته بالشبهات والترهات، وذلك مما يضعف الناموس. فلما تركهم بالجزية دل على أنه مأمور فيهم من الله بما لا تصبر عليه نفوس البشر.
ولا يتجه على هذه الحجة إلا أن يقال: لعله تركهم ليستنبط له مِن تركهم هذه الشبهة ويوهم الناس العدل وأخلاق النبوة.
لكن الجواب عنها أنه لو كان قصده ذلك لكان ذلك يحصل له بأن يعف عنهم في حياته فقط، ولا كان يوصي بهم كما أوصى بأمته حتى قال: "أنا بريء ممن وافاني يوم القيامة ولذمي عليه مظلمة" وقال لهم: "لهم ما لكم وعليهم ما عليكم".
وهذا أبو حنيفة رحمه الله، أول أئمة الإسلام وشيخ السلف، يقتل المسلم بالذمي لهذا الحديث. وروى في مسنده بإسناد متصل أن النبي ﷺ أقاد مسلما بكافر، فلولا أنه مأمور فيهم من الله تعالى بالاستبقاء. ولو كان ملكا محضا يحب الرياسة وإقامة الناموس، لكان استبقاهم حال حياته وسكت عن الوصية فيهم بعد موته، حتى كان المسلمون قد أخلوا منهم الأرض، ولم يبق منهم من يورد هذا الشبه على دينه.
الحجة الخامسة
إنه عليه السلام قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}".
وإنما قال ذلك لأنه علم أنهم حرفوا بعض كتبهم لا كلها، فمنع من تصديقهم خشية أن يكون ما قالوه مما حرفره، ومن تكذيبهم خشية أن يكون مما لم يحرفوه. فالأول في غاية الحزمِ، والثاني في غاية العدل. ولو لم يكن نبيا مأمورًا فيهم بذلك، كما في القرآن: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} لأغرى الناس بتكذيب كل ما عندهم، وكان ذلك أتم لناموسه وأغض من رءوس أعدائه. لأنا علمنا بالاستقراء من ملوك الدنيا أجمعي. أن أحدا منهم لم يترك من آثار من قبله من الملوك ولا الأنبياء ما يحذر منه على ملكه إلا عجزًا.
الحجة السادسة
تختص بالنصارى. وتقريرها أنكم زعمتم أن المسيح هو الله أو ابن الله، وأنه ظهر إلى العالم ليفدي أهل الإثم من إثمهم وخطاياهم، وفداهم بنفسه ثم بعد ذلك صعد إلى أبيه، فهو جالس عن يمينه. فإن كان هذا حقا. فقد كان يجب عليه وينبغي له أن يقول لأبيه حين ظهر محمد بدعوته: أهلِك هذا ولا تدعه يفتن الناس ويضلهم ثم أحتاج أن أنزل لهم فاستنقذهم من فتنته وأقتل وأصلب من تابعه. لأن عندكم أن المسيح كامل العلم والقدرة، ولا يخفى عنه شيء في ملكه أو ملك أبيه. فبالضرورة أنه علم بظهور محمد عليه السلام، فسكوته عن الإنكار والتغيير بحضرة أبيه يوجب إما التقصير والرضا بالضلال، والراضي بالضلال ضال، أو أن محمدًا على طريق الرشد والكمال. وقد خيرناكم بين الأمرين ولا واسطة بين القسمين.
الحجة السابعة
جرت عادة الله في خلقه أنه يتداركهم على كل فترة برسول يرشدهم إلى الهدى ويصدهم عن الردى. ولا خلاف أن العرب في جاهليتها لا سيما في أواخرها عند أوان ظهور محمد عليه السلام كانت أحوج الخلق إلى ذلك لما كان عليه من الظلم والبغي والغارات والقتل بغير الحق وسبي الحريم وظلم الغريم. والعناية الإلهية يستحيل منها عادة إهمالهم على ذلك من غير معلم يرشدهم ويسددهم، كما تقرر أول هذا الكتاب في ضرورة الخلق إلى النبوات. وما رأينا أحدًا ظهر بناموس قمع تلك الجاهلية وما كانت عليه من المنكرات إلا محمدًا عليه السلام. فدل على أنه هو النبي المبعوث فيها. وإذا ثبتت نبوته بهذا الطريق إلى العرب، فالنبي لا يكذب. وقد صح عنه بالتواتر أنه قال: "بعثت إلى الناس كافة، وبعثت إلى الأحمر والأسود". وبهذا يظهر تغفيل من سلّم من اليهود أنه أرسل إلى العرب خاصة لا إلى غيرهم.
الحجة الثامنة
لا خلاف عند كل عاقل أن محمدًا ﷺ كان من أعلى الناس همة وأوفرهم حكمة، ولولا ذلك لما انتظم له أمر هذا الناموس هكذا بعده مدة طويلة، مع أنه دعوى عند الخصم لا حجة معه.
ولا خلاف أن من كان بهذه المثابة من علو الهمة ووفور الحكمة وهمته تعلو إلى تقرير منصب دائم ورياسة باقية، أنه يحتاط لأمره ويعمل نتائج فكره حتى لا يتوجه عليه ما يفسد حاله ويبخس مآله.
ومن المعلوم عند كل حكيم فطن لبيب أن الكذب ينكشف ويستحيل رونقه وينكشف، خصوصا والمسيح إله النصارى يقول: "ما من مكتوم إلا سيعلن ولا خفي إلا سيظهر".
فلو لم يكن محمد على يقين من صدق نفسه لما أقدم على دعواه خشية أن ينكشف أمره في تضاعيف الأزمان فيعود عليه سوء الذكر مدى الدهر.
وكلامنا في عالي الهمة وافر الحكمة يخشى معرة المآل كما يخشى معرة الحال، فلا يرد علينا من يؤسس رياسة في حياته بما أمكنه من كذبه وبرهانه ثم لا يبالي ما كان بعد مماته، فإن ذلك في غاية الخساسة، ويحصل مقصوده برئاسة الملك دون دعوى هذه الرئاسة.
الحجة التاسعة
لو لم يكن محمد صادقا لكان المسيح كاذبا، لكن المسيح ليس بكاذب، فمحمد صادق.
بيان الملازمة أن المسيح ﷺ قال في الإنجيل: "ما من خفي إلا سيظهر، ولا مكتوم إلا سيعلن" وهذه نكرة في سياق النفي فتقتضي العموم، وأن كل خفي لا بد أن سيظهر. فعدم صدق محمد في دعواه، إما كان ظاهرًا أو خفيا، فإن كان ظاهرًا كان يجب أن لا يتابعه أحد، وإن تابعه لرهبته أو رغبته فبالظاهر دون الباطن، حتى إذا زالت رهبته أو رغبته بزواله رجع عنه، لأن عاقلًا لا يختار الباطل على الحق ولا الكذب على الصدق، فكيف بهذا الجمع الكبير والجم الغفير في أقطار الأرض يختارون ذلك، هذا محال. وإن كان خفيا وجب أن يظهر، لا سيما مع دهاء العرب وذكائهم وفطنتهم وصحة طبعهم وفطرتهم. فقد كان فيهم الكهنة والمنجمون والزجار والمتطيرون. وأكثرهم يصيبون ولا يخطئون. منهم من الأذكياء أبو بكر وعمر وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وكثيرون لا يحصرهم عدد، وقد كانوا يستخرجون بأذهانهم ما هو أخفى من ذلك. ويكفيهم أن ابن المقفع فيلسوف العجم شهد لهم بالفضيلة على الروم والفرس وسائر الأمم فيما ذكره أبو حيان التوحيدي في كتاب له. فمن المحال عادة أن يخفى عليهم أمر محمد ﷺ لو كان باطلا. فدل على أنهم ما انهرعوا إليه -مع كونه أول الإسلام في نفر قليل مستضعف- إلا وقد علموا صدقه. فصح قولنا: لو لم يكن محمد صادقا لكان المسيح كاذبا في قوله: "ما من خفي إلا سيظهر". وأما أن المسيح ليس بكاذب فبالاتفاق منا ومنكم، ولو نازعتمونا في صدقه أنتم أو غيركم لما وافقناكم على ذلك لأنا نحن أحق به منكم.
الحجة العاشرة
أن من نظر في دين الإسلام فوجده معظما لجميع الرسل -عيسى وموسى وغيرهما- بحيث إن من سب أحدًا منهم أو تنقصه قتل، ورأى اليهود ينتقصون محمدًا عليه السلام، علم أن المسلمين أهل حق لا يشوبه تحامل، وأن اليهود والنصارى أهل عناد وتجاهل.
فإن قالت اليهود: إنما غضضنا عن المسيح ومحمدًا، لأنهما كاذبان.
قلنا: فالذي ثبت صدق موسى، قد أتى المسيح بما هو أعظم منه، فمقتضى التصديق مشترك، فإما أن تصدقوا الاثنين أو تكذبوهما. أما الفرق فهَوى وتحامل.
وإن قالت النصارى: إنما تنقصنا محمدًا لأنه ليس بصادق.
قلنا: تلزمكم مقالة اليهود في أنهم إنما تنقصوا المسيح لأنه ليس بصادق.
فإن قالوا: اليهود كفار عاندوا الله.
قلنا: كذلك نقول عنكم بالنسبة إلى تنقص محمد عليه السلام.
فإن قيل: اليهود عاندوا بعد قيام الحجة بإظهار المعجز، ونحن لم يأتنا محمد بمعجز.
قلنا: بل جاءكم بمعجزات قد سبق تقريرها ولكن عاندتم أو جهلتم. ولهذا سمى الله - تعالى - اليهود مغضوبا عليهم، والنصارى ضالين، لأن تكذيب اليهود عناد، وتكذيبكم يغلب عليه الجهل. ولو أعطيتم النظر حقه لوفقتم ورشدتم.
هذا آخر ما تيسر إيراده في هذا الكتاب. وأنا أسأل الله الكريم الوهاب أن يجعله لي إلى رحمته وشفاعة نبيه أنجح الوسائل وأقوى الأسباب، ويوفقني وسائر المسلمين لما يحبه ويرضاه، ويوقفنا عما يبغضه ويقلاه، فإنه لا إله الله، ولا فاعل في الوجود سواه.
وكان الفراغ من تعليق هذه المسودة صبيحة الاثنين سابع ذي قعدة الحرام سنة سبع وسبعمائة، والابتداء فيها يوم الاثنين ثاني عشر شوال من السنة المذكورة بالمدرسة الصالحية من مدينة القاهرة - حماها الله وسائر بلاد الإسلام - على يد العبد الفقير إلي رحمة ربه القدير سليمان بن عبد القوي البغدادي الطوفي الحنبلي عفا الله عنهم وعن جميع المسلمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين. آمين آمين آمين يا رب العالمين.
ثم أنهاه نظرا وتصحيحا لما وجد فيه من خلل طغيان القلم وملحقا به ما خطر له من الفوائد اللائق إلحاقها عشية الأحد عاشر شوال سنة ثمان وسبعمائة هجرية. والحمد لله رب العالمين.
نجزت هذه المبيضة كتابة من خط مصنفها - أمتع الله ببقائه ونفع المسلمين ببركته في السادس من شهر المحرم المبارك من سنة إحدى عشر وسبعمانة أحسن الله فتحها بخير وعافية. كتبه الفقير الحقير المعترف بالتقصير الراجي عفو الله الكريم، الناسخ علي الزعيم.
هامش
- ↑ في هامش نسخة: "قوله في حق المسيح عليه السلام لعله كان عنينا ليس بجيد، لأن العنة صفة نقص والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في غاية الكمال، ولم يكن نبي قط عنينا، وإنما تركه للنكاح فلخاصية قامت لا يضرنا خفاها عنا. وفي الجملة فلا يجوز أن تقتدي به في ترك النكاح إلا إذا قال: أمركم الله أن لا تناكحوا، وهذا غير موجود، والله أعلم. قاله النابلسي ولله الحمد"
- ↑ صوابه القرطبي
- ↑ في الأصل "أضل"