► فهرس :إسلام | دار العاصمة عن النسخة المطبوعة بدهلي الهند 1332 | ☰ |
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة والمشركين، والزنادقة المكذبين، الذين يصدُّون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا أولئك في ضلال مبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، الذي أكمل الله به الدين، وبلّغ البلاغ المبين، فنصح الأمة، وكشف الغمة، وأدى الأمانة، وعَبَدَ الله حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإني لما قدمت إلى البحرين في سنة 1332 من الهجرة النبوية، رأيت سؤالًا أورده بعض زنادقة أهل البحرين، يسألون فيه عن الحكمة في أشياء مما شرعه الله ورسوله من مناسك الحج، وأرسلوا به إلى صاحب مجلة المنار: السيد محمد رشيد رضا، وكانوا فيما يزعم زعيمهم، وهو رجل يقال له: ناصر بن خيري – انتسب السائل إلى غير أبيه، إذ هو: ناصر بن مبارك، ولا يخفى ما فيه من الإثم- أنهم عشرة أشخاص، قد اتفقوا واجتمعوا على اعتقاد هذه الزندقة، وتصدير هذه السفسطة والمخرقة.
ولا ريب أن هؤلاء أناس قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، وغلظت طباعهم، وكثف عن معرفة الله وشرعه ودينه حجابهم، فهم في مهامة الغيّ يعمهون، وفي ريبهم يترددون، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، وقد أجابهم على سؤالهم السيد محمد رشيد رضا – صاحب المنار – على قَدْرِ ما أظهروه من طلب الحق والاستفادة، وما تزندقوا به من ذلك، ونمَّقُوه من تحسين العبارة والإجادة، وما علم أنهم زنادقة جهال، وأهل ابتداع وضلال، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وسبب منشأ هذا الضلال الذي اعتمده هؤلاء الزنادقة الضُّلاّل هو: الإعراض عن كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام أهل العلم من سلف هذه الأمة وأئمتها، وطلب الهدى في مقالات أهل الجهالة والضلالات، والمعارضين لكتاب الله وسنة رسوله بالشُّبه والبدع المحدثات، ونتائج أفكارهم بالمقاييس والسياسات التي أحدثتها الملاحدة من زنادقة هذه الأمة ومنافقيها.
ولو اعتصم هؤلاء الجهال بكتاب الله وسنة رسوله، لأغناهم ذلك عن طلب الهدى في غير ما أنزل الله في كتابه، وما أنزله من الحكمة على أفضل رسله وأنبيائه، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون}، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينا}، وقال تعالى: { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل}، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِين}، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم}، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلام}.
وقال أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله ﷺ وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علمًا. [1]
وفي صحيح مسلم أن بعض المشركين قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كلّ شيءٍ حتى الخراءة. قال: أجل.
وقال ﷺ: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". [2]
وقال ﷺ: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم من النار إلا وقد حدثتكم به". [3]
فإذا تبين لك هذا عرفت أن منشأ ضلال هؤلاء الزنادقة هو الإعراض عن كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام أئمة أهل الإسلام الذين هم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وتَعَوَّضُوا عن ذلك بالإكباب على مطالعة كتب زنادقة هذه الأمة وملاحدتها، وما تلقوه من شبه النصارى، وأشباههم، وإخوانهم الذين يُشَبِّهون بها على خفافيش البصائر، ويشككون بها الناس في أمر دينهم.
وقد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا يَعْتَرِض على ما شرعه الله ورسوله بمثل هذا السؤال إلا أشباه هؤلاء الزنادقة الضُّلاَّل، لأنه قد كان من المعلوم أن هذا مما شرعه الله ورسوله ﷺ، وكان عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى يومنا هذا، فلا يستريب في ذلك أحد يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يستشكل فيه إلا رجل مغموص بالنفاق، مشاقٌّ لله ورسوله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
ولَمَّا تأملت جواب صاحب المنار رأيته قد أفاد وأجاد، لكنه قد تساهل في الجواب مع هؤلاء الزنادقة، لظنه أنهم يطلبون الحق ويسترشدون، وهم بخلاف ذلك، نعوذ بالله من رين الذنوب، وانتكاس القلوب.
فلأجل ذلك سألني بعض الإخوان أن أكتب في ذلك ما يبين ضلالهم، ويزيل شبهتهم، ويَدْحَضُ حجَّتَهم، لمَّا استنشق من سؤالهم وكلامهم سوءَ معتقدهم، وخبثَ مرامهم، واستسهل مع ذلك جواب صاحب المنار، لأنهم قد كانوا أهل زندقة ونفاق، وأهل بدع وشقاق.
فأجبته إلى ذلك، والله المسؤول المرجو الإجابة أن يعصمنا من الزلل، وأن يعظم لنا الإثابة، وأن يوفقنا لطريق الحقِّ والإصابة.
فصل
قال السائل: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى حضرة سيدي العلامة المصلح العليم، مرشد الأمة، ورشيدها، الفيلسوف الحكيم، السيد محمد رشيد رضا، صاحب المنار المنير، أدام الله تعالى شريف وجوده.
وسلام الله عليك ورحمته ورضوانه، وبعد:
فالداعي لتحريره عَرْضُ مسألةٍ عَرَضَت لنا في هذه الأيام، وهو أننا عشرة أشخاص نوينا هذه السنة التوجه لحج بيت الله الحرام، والتمتع بمشاهدة [4] مهد الإسلام، وبهذه المناسبة صار بيننا جِدال وكلام كثير بخصوص الحج ومناسكه، فلجئنا إلى طلب الاستمداد من حضرتكم لإرشادنا إلى السبيل الأقوم، والصراط المستقيم، فعليه قَدَّمنا هذا الكتاب مؤملين فيه الجواب من حضرتكم على هذه الأسئلة وهي:
- علِمنا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لنا الإسلام دينًا، وجعل هذا الدين مُقاما على خمسة أركان رئيسية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا. هذه هي الخمسة الأركان التي لا يكمل الإسلام إلا بها.
- وبفضل المنار المنير، وباقي كتب العلماء المصلحين الأفاضل قد فهمنا المقاصد والحِكَم من الصلاة والزكاة والشهادتين والصيام، كما قد فهمنا المقصد من الحج على الوجه العامِّ، ولكن اسمح لنا يا حضرة المفضال الحكيم أن نقول: إن في الحج بعضَ أعمالٍ لم نعرف الحكمةَ منها، فلذلك جئنا بهذا الكتاب نلتمس منك هدايتنا إلى ما جهلنا، وهي:
- ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود، إذا عرفنا أنه حجر عادي لا يضر ولا ينفع، ولا يخفى ما في ذلك من الظاهرة [5] الوثنية.
هذا لفظه بحروفه إلى آخره ما ذكره.
ونحن نجيب على ما ينبغي الجواب عنه مما فيه اعتراض على ما شرعه الله ورسوله من مناسك الحج، ونترك ما عدا ذلك مما لا فائدة في الجواب عنه.
أما قول السائل: "ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود، إذا عرفنا أنه حجر عادي لا يضر ولا ينفع، ولا يخفى ما في ذلك من الظاهرة [6] الوثنية".
فنقول: لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول ﷺ إيمانا عامًا مجملًا، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول ﷺ عن التفصيل فرضٌ على الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله ﷺ، وداخل في تدبر القرآن وعَقْله وفهمه.
وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم.
وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرتهم وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقة ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوصَ وفهمها على التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدّث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك.
إذا فهمت هذا فاعلم أنه ليس على عَوَامِّ المسلمين ممن لا قدرة لهم على معرفة تفاصيل ما شرعه الله ورسوله أن يعرفوا على التفصيل ما يعرفه مَنْ أَقْدَرَهُ الله على ذلك من علماء المسلمين وأعيانهم، مِنَ الحكمة فيما شرعه الله ورسوله، بل عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الرسول إيمانًا عامًا مجملًا، وأن يَكِلوا علمَ ما لم يعلموه إلى عالمه.
ولم يقل أحد من عوامِّ المسلمين فضلًا عن العلماء الأعلام منهم: إنه لا ينبغي للإنسان أن يعمل بشيء مما شرعه الله ورسوله إلا أن يعلم الحكمة َ في ذلك، بل لا يقول ذلك إلا من أعمى الله بصيرة قَلبه، أو زنديق منافق لا يؤمن بما جاء به الرسول ﷺ.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة بعد كلام سبق فيمن اعترض على ما شرعه الله ورسوله ﷺ بعد العلم بالحكمة في ذلك، قال رحمه الله تعالى:
وقالوا: أيُّ حكمةٍ فيها، وأيُّ فائدةٍ؟، وهذا من فرط جهلهم، وسخافة عقولهم، فإن الحكمة لا يجب أن تكون بأسرها معلومة للبشر، ولا أكثرها، بل لا نسبة لما علموه إلى ما جهلوه فيها، لو قيست علوم الخلائق كلهم بوجوه حكمةِ الله تعالى في خلقه وأمرِه إلى ما خفي عنهم منها كانت كنقرةِ عصفورٍ في البحر، وحسب الفَطِن اللبيبِ أن يستدلَّ بما عَرَفَ منها على ما لم يعرف، ويعلم الحكمة فيما جهله منها، مثلها فيما علمه، بل أعظم وأدق.
وما مثل هؤلاء الحمقى النوكى إلا كمثل رجل لا علم له بدقائق الصنائع والعلوم بالبناء والهندسة والطب، بل والحياكة والخياطة والتجارة، إذا رام الاعتراض بعقله الفاسد على أربابها في شيء من آلاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم، فخفيت عليه، فجعل كل ما خفي عليه منها شيء قال: ـ هذا لا فائدة فيه، وأي حكمة تقتضيه، هذا مع أن أرباب الصنائع بَشَر مثله، يمكنه أن يشاركهم في صنائعهم، ويفوقهم فيها، فما الظن بمن بَهَرت حكمتُه العقولَ، الذي لا يشاركه مشارك في حكمته، كما لا يشاركه في خلقه، فلا شريك له بوجه، فَمَنْ ظَنَّ أن يكتال حكمته بمكيال عقله، أو يجعل عقلَه عيارًا عليها، فما أَدْرَكهَ أقرَّ به، وما لم يدركه نفاه، فهو من أجهل الجاهلين، ولله في كلِّ ما خفي على الناس وجهَ الحكمةِ فيه حِكمٌ عديدةٌ لا تُدفَع ولا تنكر.
وقال رحمه الله في موضع ٍ آخر من هذا الكتاب:
فصل
قد شهدت الفطرة والعقول بأن للعالم ربًّا قادرًا حليمًا عليمًا رحيمًا، كاملًا في ذاته وصفاته لا يكون إلا مريدًا للخير لعباده، مجريًا لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن واستقباح القبيح، وما جبل طباعهم عليه من إيثار النافع لهم، المصلح لشأنهم، وترك الضار المفسد لهم، وشهدت هذه الشريعة له بأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه المحيط بكل شيء عليمًا.
وإذا عرف ذلك فليس من الحكمة الإلهية، بل ولا الحكمة في ملوك العالم أنهم يسوون بين من هو تحت تدبيرهم في تعريفهم كلّما يعرفه الملوك، وإعلامهم جميع ما يعلمونه، وإطلاعهم على كلِّ ما يجرون عليه سياساتهم في أنفسهم وفي منازلهم، حتى لا يقيموا في بلد فيها إلا أخبروا من تحت أيديهم بالسبب في ذلك، والمعنى الذي قصدوه منه، ولا يأمرون رعيتهم بأمر، ولا يضربون عليهم بعثًا [7] ولا يسوسونهم سياسة إلا أخبروهم بوجه ذلك وسببه، وغايته ومدته، بل لا تتصرف بهم الأحوال في مطاعمهم وملابسهم ومراكبهم إلا أوقفوهم على أغراضهم فيه، ولا شك أن هذا مناف للحكمة والمصلحة بين المخلوقين، فكيف بشأن رب العالمين وأحكم الحاكمين، الذي لا يشاركه في علمه ولا حكمته أحد أبدًا.
فحسب العقول الكاملة أن تستدل بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلم أن له حكمةً في كل ما خلقه وأمر به وشرعه، وهل تقتضي الحكمة أن يخبر الله تعالى كلَّ عبد من عباده بكل ما يفعله، ويوقفهم على وجه تدبيره في كل ما يريده، وعلى [8] حكمته في صغير ما ذرأ وبرأ من خليقته، وهل في قوى المخلوقات ذلك؟ بل طوى سبحانه كثيرًا من صنعه وأمره عن جميع خلقه، فلم يطلع على ذلك ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا.
والمدبر الحكيم من البشر إذا ثبتت حكمته وابتغاؤه الصلاح لمن تحت تدبيره وسياسته كَفاَ في ذلك تتبع مقاصده فيمن يولي ويعزل، وفي جنس ما يأمر به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيته وسياسته لهم دون تفاصيل كل فعل من أفعاله، اللهم إلا أن يبلغ الأمر في ذلك مبلغًا لا يوجد لفعله منفذ ومساغ في المصلحة أصلًا، فحينئذ يخرج بذلك عن استحقاق اسم الحكيم، ولن يجد أحد في خلق الله ولا في أمره ولا واحد من هذا الضرب، بل غاية ما تخرجه نفس المتعنت أمور يعجز العقل عن معرفة وجوهها وحكمتها، وأما أن ينفي ذلك عنها فمعاذ الله إلا أن يكون ما أخرجه كذب على الخلق والأمر فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه.
وإذا عرف هذا، فقد علم أن رب العالمين أحكم الحاكمين، والعالم بكل شيء [9] والقادر على كل شيء، ومن هذا شأنه لم تخرج أفعاله وأوامره قط عن الحكمة والرحمة والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه. فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام أن تضمنته حكمة بالغة، وإن لم يعرفوا تفصليها، وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به. فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامة الشاملة التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم.
هذا وإن الله تعالى بنى أمور عباده على أن عرفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما. وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها، فأنت إذا رأيت الرجلين مثلًا أحدهما أكثر شعرًا من الآخر أو أشد بياضا، أو أحد ذهنًا لأمكنك أن تعرف من جهة السبب الذي أجرى الله عليه سنة الخليقة وجه اختصاص كل واحد منهما بما اختص به، وهكذا في اختلاف الصور والأشكال، ولن لو أردت تعرف المعنى الذي كان شعر هذا مثلًا يزيد على شعر الآخر بعدد معين، أو المعنى الذي فضله به في القَدْر المخصوص والتشكيل المخصوص، ومعرفة القدر الذي بينهما من التفاوت وسببه لما أمكن ذلك أصلًا، وقس على هذا جميع المخلوقات من الرمال، والجبال، والأشجار، ومقادير الكواكب، وهيئاتها.
وإذا كان لا سبيل إلى معرفة هذا في الخلق، بل يكفي فيه العلة العامة، والحكمة الشاملة، فهكذا في الأمر يعلم أن جميع ما أمر به متضمن لحكمة بالغة، وأما تفاصيل أسرار المأمورات والمنهيات فلا سبيل إلى علم البشر به، ولكن يطلع الله من شاء من خلقه على ما شاء منه، فاعتصم بهذا الأصل. انتهى.
فتبين من كلام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى أنه لا يجب على الإنسان أن يعلم الحكمة في جميع ما شرع الله ورسوله، فإن ذلك ليس في قوى البشر، ولا في وسعهم وطاقتهم، وإنما يجب هذا على الأعيان الذين أَهَّلَهُم الله لمعرفة ما أنزله الله، وأطلعهم عليه.
وأما من كان عاجزا عن ذلك، وليس في طاقته ووسعه معرفة ذلك والاطلاع عليه، فالواجب عليه أن يؤمن بما جاء به الرسول ﷺ إيمانًا عامًا مجملًا، وأن يعمل بما أمر الله به ورسوله، سواء عرف الحكمة في ذلك أو لم يعرفها.
إذا تبين هذا، فاعلم أن الحكمة - والله أعلم - في اجتماع الناس على تقبيل الحجر الأسود هو ما ثبت عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث قال: ـ "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو استلمه فكأنما صافح الله".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونوَّر ضريحه في الجواب على هذا الحديث:
أما الحديث الأول فقد روى عن النبي ﷺ بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو استلمه [10] فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه".
ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه، وإنما يشكل على من لا يتدبره [11]، فإنه قال: "يمين الله في الأرض" فقيده بقوله: "في الأرض" ولم يطلق، فيقول: "يمين الله" وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق.
ثم قال: "من استلمه وصافحه فكأنما صافح الله، وقبل يمينه"، ومعلوم أن المشَبَّهَ غيرُ المشبه به.
وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شُبَّه بمن يصافح الله.
فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر الأسود ليس من صفات الله كما هو معلوم عند كل عاقل، ولكن بين أن الله كما جعل للناس بيتًا يطوفون به، جعل لهم ما يستلمونه، ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبّل، وتكريم له، كما جرت العادة.
والله ورسوله لا يتكلمون بما فيه ضلال الناس، [بل لا بد] [12] من أن يبين لهم ما يتقون، فقد بَيَّن [13] في الحديث ما يتقى [14] من التمثيل. انتهى.
فبين رحمه الله تعالى أن الحكمة في تقبيل الحجر واستلامه: أن الله كما جعل للناس بيتًا يطوفون به، جعل لهم ما يستلمونه، ليكون ذلك بمنزلة تقبيل يد العظماء، فإن ذلك تقريب للمقبّل، وتكريم له، كما جرت العادة. والله ورسوله لا يتكلمون بما فيه ضلال الناس، بل لا بد من أن يبين لهم ما يتقون، فقد بيَّن في الحديث ما يتقى من التمثيل.
ولو كان في استلام الحجر وتقبيله مظاهرة الوثنيين لم يشرع الله ورسوله ما يوهم الناس ويوقعهم في مظاهرة الوثنية، بل قد بين لهم ما يتقون، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ـ "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك". [15]
وإذا كان رسول الله ﷺ قد قبّله واستلمه، وعمل بذلك الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم إلى يومنا هذا، كان الواجب على المسلم أن يؤمن بما شرعه الله ورسوله، ويعمل به سواء عرف الحكمة في ذلك أو لم يعرفها.
ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن رسول الله ﷺ كان أحرص الناس على هداية الخلق، وتحذيرهم وإبعادهم عمَّا يوقعهم في الشرك ومظاهرة الوثنيين حتى في الألفاظ، وكذلك الصحابة بعده رضي الله عنهم، فلو كان في استلام الحجر وتقبيله ما يوقع أو يقارب مظاهرة الوثنيين لنهى عن ذلك، ولبين للناس ما يتقون، فكان هذا من نتائج أَوْضَاعٍ الزنادقةِ الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجًا، ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين.
ولولا أن هؤلاء الذين أوردوا هذا السؤال من أجهل الناس، وأفسدهم عقولا، وأضلهم عن سواء السبيل، وأبعدهم عن سلوك سبيل المؤمنين، والدخول معهم في امتثال ما أمر الله به ورسوله، والإيمان بما أخبر الله به وشرعه، لما داخلهم في ذلك شك وارتياب.
ولكِنْ على تلكَ القلوبِ أَكِنَّة ** فليستْ وإِنْ أَصْغَتْ تُجِيْبُ المُنَادِيا
وقال الإمام ابن قتيبة في مختلف الحديث في الرد على الزنادقة:
قالوا حديثان متناقضان. قالوا: رويتم عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: "الحجر الأسود من الجنة، وكان أشدَّ بياضًا من الثلج حتى سوّدَته خطايا أهلِ الشرك". [16]
ثم رويتم أن ابن الحنفية سئل عن الحجر الأسود فقال: "إنما هو من بعض هذه الأودية".
قالوا: ـ وهذا اختلاف وبُعْدُ، فكيف يجوز أن يُنْزِل الله تعالى حجرًا من الجنة! وهل في الجنة حجارة؟ وإن كانت الخطايا سودته فقد ينبغي أن يبيض لما أسلم [17] الناس، ويعود إلى حالته الأولى.
قال أبو محمد: ونحن نقول إنه ليس بمنكرٍ أن يخالف ابنُ الحنفية ابنَ عباس، ويخالف عليٌ عمرَ، وزيدُ بن ثابت ابنَ مسعود في التفسير وفي الأحكام.
وإنما المنكر أن يحكوا عن النبي ﷺ خبرين مختلفتين من غير تأويل.
فأما اختلافهم فيما بينهم فكثير، فمنهم من يعمل على شيء سمعه، ومنهم من يستعمل ظنه، ومنهم من يجتهد رأيه، ولذلك اختلفوا في تأويل القرآن، وفي أكثر الأحكام.
غير أن ابن عباس قال في الحجر بقولٍ سمعه، ولا يجوز غير ذلك، لأنه يستحيل أن يقول كان أبيضَ وهو من الجنة برأي نفسِه.
وإنما الظان [18] ابن الحنفية لأنه رآه بمنزلة غيره من قواعد البيت، فقضى عليه بأنه أخذ من حيث أخذت. [19]
والأخبار المقَوِّية لقول ابن عباس في الحجر، وأنه من الجنة كثيرة.
منها: أنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان، يشهد لمن استلمه بحق.
ومنها: أنه يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها من شاء من خلقه، وقد تقدم ذكر هذا.
ومنها ما ذكره وهب بن منبه، فإنه قال: كان لؤلؤةً بيضاءَ فسَوَّده المشركون.
وأما قولهم: "هل في الجنة حجارة"؟ فما الذي أنكروه من أن يكون في الجنة حجارة، وفيها الياقوت وهو حجر، والزُّمُرُّد حجر، والذهب والفضة من الحجارة.
وما الذي أنكروه من تفضيل الله تعالى حجرًا، حتى لُثِمَ واستلم! والله تعالى يستعبد عبادَه بما شاء من العمل والقول، ويفضِّل بعض ما خلق على بعض.
فليلة القدر خير من ألف شهر ليست فيها ليلة القدر، والسماء أفضل من الأرض والكرسي أفضل من السماء، والعرش أفضل من الكرسي، والمسجد الحرام أفضل من المسجد الأقصى، والشام أفضل من العراق.
وهذا كله مبتدأ بالتفضيل لا بعمل عمله، ولا بطاعة كانت منه، كذلك الحجر أفضل من الركن اليماني، والركن اليماني أفضل من قواعد البيت، والمسجد أفضل من الحرم، والحرم أفضل من بقاع تهامة.
وأما قولهم: "إن كانت الخطايا سودته فقد يجب أن يبيض لما أسلم الناس" فمن الذي أوجب أن يبَيَّضَ بإسلام [20] الناس، ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك من غير أن يجب.
وبعد: فإنهم أصحاب قياس وفلسفة، فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ، والبياضَ ينصبغ ولا يصبغ انتهى.
فتبين من كلام ابن قتيبة أن الحكمة في تقبيل الحجر الأسود أنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان يشهد لمن استلمه بحق، وأنه يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها من شاء من خلقه.
وقد بسط الجواب على هذه المسألة صاحب المنار فأجاد وأفاد، فمن أراد الوقوف على ذلك فليراجعه هناك والله المستعان.
فصل
ثم قال السائل:
- "ما الحكمة في رمي الجمار في القليب في مزدلفة؟"
فالجواب أن نقول: قد بينا فيما تقدم أنه ليس على الإنسان أن يعلم الحكمة في جميع ما أمر الله به ورسوله ﷺ، لأن ذلك ليس في طاقة البشر ولا في وسعهم، وإنما على الإنسان العاجز عن ذلك أن يؤمن بما جاء به الرسول ﷺ إيمانًا عامًا مجملًا، سواء عرف الحكمة في ذلك أم لم يعرفها.
والعمدة في مناسك الحج ما شرعه الله ورسوله ﷺ، فالواجب علينا أن نمتثل أمر الله ورسوله صلى اله عليه وسلم في جميع ما أمر به رسولُه ﷺ وفعله، فكان من هديه ﷺ في رمي الجمار ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي النبوي، قال رحمه الله تعالى:
فصل: ثم رجع ﷺ إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلما أصبح انتظر زوال الشمس، فلما زالت الشمس مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب، فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة، يقول مع كل حصاة: الله أكبر، ثم يقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل وقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلًا بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى فرماها كذلك، ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة رافعًا يديه يدعو قريبًا من وقوفه الأول، ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة فاستبطن الوادي، واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه فرماها بسبع حصيات كذلك، ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال، ولا جعلها عن يمينه، واستقبل البيت وقت الرّمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء. انتهى.
فإذا تبين لك هذا من أمره ﷺ وفعله، وكان عليه عمل المسلمين من عهده ﷺ إلى يومنا هذا، فالحكمة في ذلك - والله أعلم – هي ما ذكره أئمة المفسرين وأهل الحديث على قوله تعالى عن خليله إبراهيم {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} قال الحافظ العماد بن كثير: قال ابن جريج عن عطاء: "وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا" أخرجها لنا، عَلِّمناها. وقال مجاهد: "أَرِنَا مَنَاسِكَنَا": مذابحنا. وروي عن عطاء أيضا وقتادة نحو ذلك.
وقال سعيد بن منصور: ـ أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم "أَرِنَا مَنَاسِكَنَا" فأتاه جبرئيل فأتي به البيت فقال: ارفع القواعد [21]، وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة فقال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كَبِّرْ وارمه، فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كَبِّرْ وارمه، فكبر ورماه، فذهب الخبيث إبليس، وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال: ـ هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك، قالها ثلاث مرات، قال: نعم.
وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك.
وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: إن إبراهيم لما أُورِي أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبرئيل حتى أتى به منى، فقال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتي به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتي جمعًا فقال:ـ هذا المشعر، ثم أتي به عرفة فقال: ـ هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت؟ انتهى.
وقال الإمام محمد بن علي بن وهب بن دقيق العيد في شرح أحاديث الإحكام في الكلام على حديث ابن عباس قال: "قدم رسول الله ﷺ وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب" الحديث.
قال في الكلام عليه: وفي ذلك من الحكمة تَذَكُّر الوقائع الماضية للسلف الكرام، وفي طَيِّ تذكرها مصالح دينية، إذ تبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله، والمبادرة إليه، وبذل الأنفس في ذلك، وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيرًا من الأعمال التي وقعت في الحج ويقال فيها: ـ إنها تعبد ليست كما قيل، ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين، وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله، فكان هذا التذكر باعثًا لنا على مثل ذلك، ومقررًا في أنفسنا تعظيم الأولين، وذلك أمر معقول إلى أن قال: وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبحَ ولدِه، حصل من ذلك مصالح عظيمة النفع في الدين. انتهى.
وأما زعمه أن الرمي بالجمار كان في القليب بمزدلفة فهذا يبين لك أن هذا السائل من أجهل الناس، وأشدهم غباوة، فإنه قد كان من المعلوم أن الرمي بالجمار لم يكن في قليب، ولم تكن هذه القليب بمزدلفة، فإن هذا مما لا يخفى على آحاد الناس، فضلًا عَمَّن ينتسب إلى المعرفة والعلم. والله أعلم.
فصل
وأما قوله: "ما الحكمة في الهرولة بين المروتين"؟
والجواب أن يقال لهؤلاء الزنادقة الضلال: قد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أن السعي والرمل بين الصفا والمروة من شعائر الله، فالواجب على المسلم أن يمتثل ما أمر الله ورسولُه مما شرعه من السعي بينهما والرمل، وأن لا يدع ما أمر الله به ورسوله ﷺ لعدم علمه بالحكمة في ذلك، لأن ترك العمل بذلك - إلا بعد العلم بالحكمة فيه - من شأن أهل البدع المارقين المتعنتين بالأسئلة والتشكيكات، والمعارضة الباطلة لما شرعه الله ورسوله ﷺ – كما نبه على ذلك أهل العلم.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى في الكلام على ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن معاذة قالتْ: "سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. فقالتْ: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة".
معاذةُ بنتُ عبد الله العدويةُ امرأة صلةَ بن أشيمَ، بصرية، أخرج لها الشيخان في صحيحهما.
والحروريُّ نسبةٌ إلى حروراءَ، وهو موضع بظاهر الكوفة، اجتمع فيه أوائل الخوارج، ثم كثر استعماله حتى استعمل في كل خارجي، ومنه قول عائشة لمعاذة: أحرورية. أي خارجية.
وإنما قالت ذلك لأن مذهب الخوارج أن الحائض تقضي الصلاة، وإنما ذَكرتْ ذلك أيضا لأن معاذة أوردت السؤال على غير جهة السؤال المجرد، بل صيغتها قد تشعر بتعجب أو إنكار، فقالت لها عائشة ذلك، فأجابتها بأن قالت: لا ولكني أسأل، أي أسأل سؤالا مجردًا عن الإنكار والتعجب، بل لطلب مجرد العلم بالحكمة.
فأجابتها عائشة رضي الله عنها بالنص، ولم تتعرض للمعنى، لأنه أبلغ وأقوى في الردع عن مذهب الخوارج، وأقطع لمن يعارض، بخلاف المعاني المناسبة، فإنها عرضة للمعارضة. انتهى.
إذا تحققت هذا وعلمته تبين لك خطأ هؤلاء المتهوكين الحيارى المفتونين، وأنهم على طريقة أهل البدع المارقين، الذين يعارضون ما شرعه الله ورسوله ﷺ بآرائهم الفاسدة، والشبهات الداحضة الكاسدة، وأما مَنْ حسنت سيرته، وصفت سريرته، فلا يداخله فيما شرعه الله ورسوله ﷺ شك ولا ريب، بل يمتثل ما أمر الله به ورسوله ﷺ.
فإذا عرفت هذا فالاعتماد في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وإجماع المسلمين.
قال الإمام الحافظ العماد بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره على قوله وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، قال رحمه الله: قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أنبأنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قلت: أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قلت: ـ فوالله ما على أحد من جناح أن لا يتطوف بهما، فقالت عائشة: ـ بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه كانت: "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما" ولكنَّها إنما أنزلت: أن الأنصار كانوا قبل أن يُسْلِموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهَلَّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ، فقالوا يا رسول الله: ـ إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
قالت عائشة: ثم قد سَنّ رسول الله ﷺ الطوافَ بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. أخرجاه في الصحيحين.
وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: إن هذا العلمَ ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالًا من أهل العلم يقولون: ـ إن الناس إلا من
ذكرتْ عائشةُ كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار: ـ إنما أمرنا الطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }.
قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.
ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم، ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال سألت أنسًا عن الصفا والمروة. قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }.
وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله، وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله ﷺ عن الطواف بينهما. فنزلت هذه الآية.
وقال الشعبي: كان إساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما، فتحرَّجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما. فنزلت هذه الآية.
قلت: ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافًا ونائلة كانا بشرين، فزينا داخل الكعبة، فمسخا حجرين، فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حوِّلا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث يُنِيْخُ الأَشْعَرُون رِكَابَهم لمفضي السيولِ من إسافٍ ونائلِ
وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل وفيه أن رسول الله ﷺ لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به".
وفي رواية النسائي: "ابدأوا بما بدأ الله به".
وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزاة قالت: رأيت رسول الله ﷺ يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي".
ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق أنبأنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيد عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي ﷺ بين الصفا والمروة يقول: "كُتِبَ عليكم السَّعْيُ فاسعوا".
وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركنٌ في الحج، كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه، ورواية عن أحمد، وهو المشهور عن مالك.
وقيل: إنه واجب وليس بركن، فإن تركه عمدًا أو سهوًا جبره بدم، وهو رواية عن أحمد، وبه يقول طائفة.
وقيل: بل مستحب، وإليه ذهب أبو حنيفة، والثوري، والشعبي، وابن سيرين، وروي عن أنس، وابن عمر، وابن عباس، وحكي عن مالك في العتبية.
قال القرطبي: واحتجوا بقوله: "فمن تطوع خيرًا"، والقول الأول أرجح، لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال: ـ "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلا ما خرج بدليل. والله أعلم.
وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج.
وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها، لَمَّا نَفِدَ ماؤهما وزادهما، حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك، وليس عندهما أحد من الناس، فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك، ونفد ما عندهما، قامت تطلب الغوث من الله عز وجل. فلم تزل تردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللة خائفة وجِلَةً مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل، حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي طعمها طعام طعم، وشفاء سقم.
فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره، وذلَّه، وحاجته إلى الله في هدايةِ قلبه، وصلاحِ حاله، وغفرانِ ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبِّتَه عليه إلى مماته، وأن يُحَوِّلَه من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام.
وقوله:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} قيل: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب: ثامنةً وتاسعةً ونحو ذلك.
وقيل: يطوف بينهما في حجة تطوع، أو عمرة تطوع.
وقيل: المراد تطوع خيرًا في سائر العبادات حكى ذلك الرازي، وعزى الثالث إلى الحسن البصري والله أعلم.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} أي يثيب على القليل بالكثير، عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه، ولا يظلم مثقال ذرة، {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} انتهى.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم رسول الله ﷺ وأصحابه مكة، فقال المشركون: ـ إنه يقدم عليكم قوم وَهَنَتْهُم حُمَّى يثرب. فأمرهم النبي ﷺ أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم".
وفيهما أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "رأيت رسول الله ﷺ حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يَخِبُّ ثلاثةَ أشواط".
فإذا تبين لك هذا وتحققت أن الأصل في مشروعية السعي بين الصفا والمروة ما فعلت هاجر أم إسماعيل عليهما السلام من السعي بينهما لَمّا خافت على ولدها من الضيعة، ونفد ما عندهما، قامت تطلب الغوث من الله عز وجل، فلم تزل تردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة متذللةً خائفةً وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي طعمها طعام طعم.
فسن رسول الله ﷺ لأمته السعي بينهما، وأمر به، وأخبر أن الله قد كتب السعي على هذه الأمة.
والساعي بينهما ينبغي أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبِّته عليه إلى مماته، وأن يحوِّله من حاله إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام، وهذا هو الحكمة في مشروعية السعي بين الصفا والمروة، كما نبّه عليه أهل العلم، والله أعلم.
فصل
وأما قول السائل: "ما القصد في ذبح الذبائح على كثرتها، ودفن لحومها في منى؟ وفي ذلك ما فيه من النتائج الوخيمة التي تصدر من تعفن اللحوم، إذ تنتشر الأوبئة منها، ولماذا يمنع من أكلها؟، وهل ذلك لازم، ومن المناسكِ التي لا يَتِمُّ الحجُّ إلا بها على هذه الصورة؟، ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنويًا ثمنًا لهذه اللحوم، إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه، فما قولكم لو صرفوا هذه المبالغ على إصلاح آبار مكة، وطرقها، وتكاياها، وتنظيفها، وعلى كل ما يعود على الحجاج بالراحة والصحة والسلامة"
فالجواب أن يقال: القصد بذبح الذبائح أيام منى، وفي عيد الأضحى في سائر الأمصار هو طاعة الله، وامتثال ما أمر به، وما سنه رسول الله ﷺ وشرعه لأمته، وتقوى الله سبحانه وتعالى في هذا كله، لأن ذلك من شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب - أي أوامره - فإنها من تقوى القلوب، ومن ذلك تعظيم الهدايا والبُدُن.
ومن القصد بالذبائح أيام منى إظهارُ نعمةِ الله بالتوسعةِ على الفقراء المسلمين، وإحياء سنة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان من المعلوم المستقر عند الخلق أن علامة المحبة الصحيحة بذلُ الروحِ والمالِ في مرضاة المحبوب، فالمحبوب الحق - الذي لا ينبغي المحبة إلا له، وكل محبةٍ سوى محبته فالمحبة له باطلة - أولى بأن يشرع لعباده الجهاد الذي هو غاية ما يتقرب به إلى إلههم وربهم.
وكانت قرابين من قبلهم من الأمم ذبائحهم وقرابينهم تقديمُ أنفسهم للذبح في الله مولاهم الحق، فأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة، ولهذا ادّخرها الله لأكمل الأنبياء، وأكمل الأمم، عقلًا وتوحيدًا، ومحبة لله.
وأما الضحايا والهدايا فقربان إلى الخالق سبحانه تقوم مقام الفدية عن النفس المستحِقَّة للتلف فديةً وعوضًا وقربانًا إلى الله، وتشبُّهًا بإمام الحنفاء، وإحياء لسنته، أنْ فدى الله ولدَه بالقربان، فجعل ذلك في ذريته باقيًا أبدًا.
وتأمل حكمة الرب تعالى في أمره إبراهيم خليله ﷺ بذبح ولده، لأن الله اتخذه خليلًا، والخلة منزلة تقتضي إفراد الخليل بالمحبة، وأن لا يكون له فيها منازعٌ أصلًا، بل قد تخللت محبته جميعَ أجزاء القلب والروح، فلم يبق فيها موضع خالٍ من حبه، فضلًا عن أن يكون محلًا لمحبة غيره.
فلما سأل إبراهيمُ الولدَ وأُعْطِيَه، أخذ شعبة من قلبه، كما يأخذ الولد شعبة من قلب والدِه، فغار المحبوبُ على خليله أن يكون في قلبه موضعٌ لغيره، فأمره بذبح الولد ليخْرجَ حُبَّه من قلبه، ويكون الله أحبَّ إليه، وآثر عنده، ولا يبقى في القلب سوى محبتِه، فَوَطَّن نفسَه على ذلك، وعزم عليه، فخلصت المحبةُ لوليِّها ومستحقها، فحصلت مصلحةُ المأمور به من العزم عليه، وتوطين النفس على الامتثال، فبقي الذبح مفسدةً، لحصولِ المصلحةِ بدونه، فنسخه في حقِّه، لَمَّا صار مفسدةً، وأمر به لما كان عزمه عليه، وتوطين نفسه مصلحة لهما، فأي حكمة فوق هذا، وأي لطف وبر وإحسان يزيد على هذا، وأي مصلحة فوق هذه المصلحة بالنسبة إلى هذا الأمر ونسخه.
وإذا تأملت الشرائعَ الناسخة والمنسوخة وجدتها كلَّها بهذه المنزلة، فمنها ما يكون وجه المصلحة فيه ظاهرًا مكشوفًا، ومنها ما يكون ذلك فيه خفيًا لا يدرك إلا بفضل فطنة وجَوْدَةِ إدْراَكٍ.
وأما دفن لحومها فليس من الدين في شيء، ولا ينسب ذلك إلى ما شرعه الله ورسوله، بل هذا من الأوضاع المبتدعة المحدثة الباطلة، التي وضعها الخلوف الذين ليس لهم معرفة بأصول الدين وقواعده التي تبتنى عليها الأحكام الشرعية، فإدخال مثل هذا في مناسك الحج الذي شرعه الله ورسوله إدخال الدين شَرْعٌ لم يأذن الله به.
وهذا لم يقله أحد من عوام المسلمين، فضلًا عن علمائهم، فضلًا عن أن ينقل ذلك عن النبي ﷺ، فلا يسأل عن الحكمة في دفن اللحوم في منى إلا من أعمى الله بصيرته، وكان من أجهل الناس وأضلهم عن سواء السبيل، لأن ذلك ليس من الدين في شيء، وإنما هو من وضع بعض الملوك بإشارة بعض حكماء أهل الطب، وذلك بآرائهم الفاسدة، وأوهامهم الكاسدة، ونتائج أفكارهم الباردة، ولو تركوا الناسَ على ما كانوا عليه أولًا من التوسعة على فقراء المسلمين، وجعل بعضه قديدًا وينقلون ذلك في رحالهم، وأوطانهم، لكان ذلك أصلحَ للعباد، وأقرب إلى السداد.
وأما منع الناس من أكلها فمن الظلم والعدوان، والدفعِ في نحرِ ما شرعه الله ورسوله من التوسعة على المسلمين وعلى فقرائهم.
وأما كون ذلك لازمًا، ومن المناسك التي لا يتم الحجُّ إلا بها فمعاذ الله، ولا يقول ذلك من يؤمن بالله ورسوله، أو يدري ما يقول، بل لا يقول ذلك إلا من هو أضل من حمار أهله.
واعتقد أن ذلك لازم، وأنه لا يتم الحج إلا به من أوهام الزنادقة، وإدخالهم في الدين ما لم يأذن به الله، ليلبَّسوا على الناس أمور دينهم، فلا يستريب في ذلك إلا من هو من أجهل الناس، وأبعدهم عن سلوك الصراط المستقيم.
وأما قوله: "ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنويًا ثمنًا لهذه اللحوم، إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه، فما قولكم لو صرفوا هذه المبالغ على إصلاح آبار مكة، وطرقها، وتكاياها، وتنظيفها وعلى كل ما يعود على الحجاج بالراحة والصحة والسلامة".
فالجواب أن يقال لهؤلاء الزنادقة: قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن معارضةَ ما شرعه الله ورسوله من ذبح الذبائح ونحر النحور وإهراق الدماء طاعة لله وامتثالًا لأمره وإحياء لسنة الخليلين عليهما الصلاة والسلام بأوهام هؤلاء الضلال وآرائهم وزبالة أذهانهم ونتائج أفكارهم التي هي جِيَفُ الوجودِ وريح المقاعد: مِنْ أبطلِ الباطلِ، وأضلِّ الضلال.
ومن حاول أن يصرف هذه النقود المبذولة في ذلك طاعة لله، وامتثالًا لما شرعه الله ورسوله، إلى ما توهّمه بعقله الفاسد، ورأيه الكاسد منْ أنَّ صرفَ تلك المبالغ إلى إصلاح آبار مكة، وطرقها، وتكاياها، وتنظيفها، وعلى كل ما يعود على الحجاج بالراحة والصحة والسلامة هو الأصلح: فقد حاول أن يشرع للناس من الدين ما لم يأذن به الله، وذلك كفرٌ بواح، لا يستريب فيه من له أدنى مسكة من عقل أو دين. قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه}.
وإذا كان من المعلوم أنه ليس من شرع الله، ولا مما لم يأذن به الله، كان من شرع طواغيت هؤلاء الزنادقة، الذين يزعمون أن نصوص الكتاب والسنّة ظواهرُ ظنية، وما رأوه بعقولهم وقياساتهم الباطلة أنها قواطع عقلية، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون.
ثم إنه قد كان من المعلوم عند خواص الناس وعوامهم أنه قد بذل من الأموال والصدقات ما يقوم بإصلاح آبار مكة، وطرقها، وما يحتاج، وما يحتاج إليه الحجاج من المصالح الدنيوية والدينية ما يكفي، ويعود نفعه إلى ما فيه صلاحهم وسلامتهم، فلا حاجة إلى السعي في إبطال ما شرعه ورسوله ﷺ من مناسك الحج، وشعائره التي لا يتم ولا يستقيم الحج إلا بها.
وأمّا إصلاح آبار مكة وطرقها وتكاياها فإن الحج يتم بدون ذلك. والله أعلم.
فصل
وأما قوله: "ولماذا أقاموا دون عرفة بناءين عن اليمين والشمال، تعرف بالعلمين، وكل من لم يكن خلفَ هذين البناءين ليس مقبولَ الحجِّ، مع أنه تكلَّف العناءَ، ووصل إلى ما دونهما، ولماذا يكون من خلفهما مقبول الحجِّ وهو في لهوه ولعبه، وممارسة ما اعتاده في بلاده من الأعمال، ومن كان دونهما غير مقبول، ولو كان على غير ذلك؟ وهل هذان البناءانِ حدٌّ فاصلٌ بين الله والناس، أو بين الجنة والنار؟".
والجواب أن يقال: قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة أن هذين العلمين بنيا حدًا فاصلًا بين عرفة وغيرها، ليعرف من كان جاهلًا بذلك حدودَ عرفة، ولذلك سُمِّيا بالعلمين، وهذا لا يخفى إلا على من كان أضلَّ من حمار أهله، أو زنديقًا يروم بعقله الفاسد أن يشكِّك الناسَ في أمر دينهم.
وأما قوله: "وكل من لم يكن خلف هذين البناءين ليس مقبول الحج" إلى آخره.
فالجواب أن يقال: قد كان من المعلوم أن الوقوف بعرفة ركنٌ لا يتمُّ الحج إلا به، بإجماع المسلمين، لقوله ﷺ: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْعٍ فقد تَمَّ حجه" رواه أبو داود.
فمن حج ولم يقف بعرفة نهارًا أو ليلا إلى قبل صلاة الفجر فلا حج له، وعليه القضاء من قابل، لأنه لم يأت بما فرض الله عليه من الوقوف بعرفة، لأنه هو الركن الأعظم، وهذا لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل أو دين، والله سبحانه لا يُضِيْعُ أجرَ من أحسن عملا.
وأما قوله: "ولماذا يكون من خلفهما مقبول الحج وهو في لهوه ولعبه وممارسة ما اعتاده في بلاده من الأعمال".
فالجواب أن يقال: مسألة القبول أمر آخر، وهو مما ليس للعقول فيه مجال، بل أمر ذلك إلى الله، وليس كل من أتى بشيء من العبادات يكون قد أتى بما فرض الله عليه فيها، وأدّاها على الوجه المشروع، فلا ينبغي أن يجزم لفاعل شيء من هذه العبادات أن الله قد قبل عمله، لجواز أن يكون قد راءى بعمله ذلك، أو أتى بما يبطله ويحبطه من الرفث والفسوق والعصيان، ولم يتق الله فيه، وإنما يتقبل الله من المتقين، وهذا كحال من ذكر السائل مِمَّن كان في لهوه ولعبه وممارسةِ ما اعتاده في بلاده من الأعمال.
وأكثر الحاج اليوم إلا من شاء الله وثنيةٌ، عباَّد قبور، وأرفاض، وجهمية، وأهل بدع ولهو ولعب ومعاصٍ، لا يعرفون حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال بعض العلماء فيما هو دون ذلك:
إذا حججت بمالٍ أصلهُ سُحْتُ ** ما حَجَجْتَ ولكن حَجَّتِ العِيْرُ
لا يقبَلُ اللهُ كلَّ صالحةٍ ** ما كلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللهِ مَبْرُورُ
والذي ينبغي للمسلم إذا كان واقفًا بعرفةَ أن يشتغل بذكر الله، والدعاء، والاستغفار، والتسبيح، والتهليل، والثناء على الله، ويكثر من أدعية القرآن، كما ذكر ذلك أهل العلم في مناسكهم.
وأما قوله: "وهل هذان البناءان حدٌّ فاصل بين الله والناس، أو بين الجنة والنار".
فالجواب أن يقال: ليس بناء العلمين حدًا فاصلًا بين الله والناس، ولا بين الجنة والنار، ولا يورد مثلَ هذا السؤال ويستشكله إلا من هو أبلد الناس، وأبلههم، وأشدِّهم غباوةً، وأنجسهم عقلًا ورأيًا، فقد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، وأدلة ذلك من الكتاب، والسنة، وكلام سلف الأمة وأئمتها في ذلك أكثر من أن يحصر، وأشهر من أن يذكر، وذلك مبسوط في محله.
وأيضًا فقد كان من المعلوم أن الجنة فوق السموات في أعلا عليين، وأن النار تحت الأرض السابعة في أسفل سافلين، فكيف يكون العلمان حدًا فاصلًا بينهما، أو بين الله والناس هذا لا يقوله من يؤمن بالله واليوم الآخر، أو يدري ما يقول.
فإذا تحققت ما قدمته لك من الحكمة في مناسك الحج، فاعلم أن شأن الحج وما في طَيِّه من الأسرار والحكم، والمصالح، لا يدركه إلا الحنفاء، الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أَجَلّ من أن تحيط به العبارةُ، وهو خاصة هذا الدين الحنيف، حتى قيل في قوله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}. أي حجاجًا.
وجعل الله بيته الحرام قيامًا للناس، فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فلو ترك الناس كلُّهم الحجَّ سنة لخَرَّتِ السماءُ على الأرض، هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما.
فالبيت الحرام قيام العالم، فلا يزال قيامًا ما زال هذا البيت محجوجًا، فالحج هو خاصة الحنيفية، ومعونة الصلاة، وسر قول العبد: ـ لا إله إلا الله، فإنه مؤسَّسٌ على التوحيد المحض، والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه، ودعوتهم إلى بيته، ومحلِّ كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم "لبيك اللهم لبيك" إجابةَ محبٍّ لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقعٌ عند الله، وكلما أكثرَ العبدُ منها كان أحبَّ إلى ربه، وأحضى، فهو لا يملك نفسه أن يقول: "لبيك لبيك" حتى ينقطع نَفَسُه.
وأما أسرار ما في هذه العبادة من الإحرام، واجتناب العوائد، وكشف الرأس، ونزع الثياب المعتادة، والطواف، والوقوف بعرفة، ورفع الجمار، وسائر شعائر الحج: فمما شهدت بحسنه العقول السليمة، والفطرة المستقيمة، وعلمت بأن الذي شرع هذه لا حكمةَ فوقَ حكمتِه، كما قاله ابن القيم رحمه الله. وما أحسن ما قيل:
وقل للعيونِ الرُّمْدِ للشمس أَعْيُن ** سواكِ تراها في مَغِيبٍ ومَطْلِعِ
وسامِحْ نفوسًا أطفأَ اللهُ نورَها ** بأهوائها لا تَسْتَفِيْقُ ولا تَعِي
وقول الآخر:
فَقُلْ لغليظِ القلبِ ويحكَ ليس ذا ** بعُشِّكَ فاْرُجْ طالبًا عُشَّكَ الخالي
ولا تَكُ مِمَّنْ مَدَّ باعًا إلى جنا ** فقصرَّ عنه قال: ذا ليس بالحالي
فصل
وأما قول السائل: "بل نرى كثيرًا من علماء الأمة الإسلامية، ومرشديها المصلحين، منهم من عاش ومات ولم يحج، مع أنه ربما رحل في سنة مرتين أو ثلاثًا إلى أوربا، أو إلى غيرها من البلاد، ولم يذهب إلى مكة، مع أنه كان الألزم والأوجب أن يقصد مكة والحج كل موسم للنصح والإرشاد، فهذا ساكن الجنان الأستاذ الإمام المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، وعاشوا وماتوا، وهم لم يروا مكة في وقت الحج، وحضرتك أيضا كذلك، فما هي الأسباب يا ترى؟ ونحن نعتقد أن امتناعكم جميعًا عن الحج لا بد له من سبب، فما هو ذلك السبب العظيم الذي يمنع رجال الإصلاح العظام عن الحج المقدس؟"
فالجواب أن نقول: ترَ ْك هؤلاء العلماء المصلحين للحج، وقد كان الواحد منهم يسافر إلى الأماكن الشاسعة البعيدة، ويتجشمون في ذلك الأخطار الشاقة الشديدة، فَتَرْكُ هؤلاء العلماء المصلحين للحج مع ذلك والحالة هذه لا بد أن يكون لأحد أمرين:
إما أن يكون تكاسلًا: وطلبًا للراحة، وملاذِّ النفوس وشهواتها، وتسويلًا من الشيطان بالتسويفات الباطلة، والأماني الكاذبة، فهذا فيه من الوعيد على ترك الحج مع القدرة عليه ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وإما أن يكون لسببٍ وعذرٍ من الأعذار الموجبة لترك الحج، من الخوف على النفس من القتل، أو الحبس، وغير ذلك من الأعذار، فهذا معذور، داخل في حكم من لا يستطيع إليه سبيلًا.
وقد أجاب صاحب المنار عن نفسه، وعن غيره من العلماء الذين تركوا الحج لشيء من الأسباب المانعة لذلك، ولا نظن بعلماء أهل الإسلام إلا الخير، وعدم الاستطاعة لشيء من الأعذار الموجبة لتركهم ذلك. والله أعلم.
ولو صدر من هؤلاء العلماء المصلحين على سبيل الفرض والتقدير ترك الحج مع الاستطاعة عليه، من غير عذر شرعي، لكان الفرض علينا طاعة الله ورسوله، بترك تقليدهم فيما لا ينبغي تقليدهم فيه من معصية الله ورسوله، لأن طاعتهم في معصية الله ورسوله من العبادة التي ذَمَّ الله بها النصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
وتفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله، كما ثبت ذلك في الصحيح [22] عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: "دخلت على النبي ﷺ وهو يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قلت يا رسول الله: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليسوا يحرمون ما أحل الله فتتبعونهم؟ ويحلون ما حرم الله فتتبعونهم؟ قلت: ـ بلى. قال: فتلك عبادتهم"
لكن لم يصدر هذا منهم، وقد كتبوا في ذلك بيان عذرهم، فلا نظن بهم إلا الخير إن شاء الله تعالى.
والذي يظهر لي من كلام هذا السائل أنه أراد بهذا السؤال أحد أمرين:
إما تعجيز صاحب "المنار" عن إدراك الجواب عن وجه الحكمة عما سئل عنه، مما استشكله فيه من مناسك الحج، لظنه أن هذا لا سبيل إلى معرفة وجه الحكمة فيه.
والأمر الثاني: أنه لما رآه قد ترك الحج، وهو قد سافر إلى الهند، وإلى غيره من الأماكن البعيدة، تَخَيَّلَ في وهمه وظنه الفاسد أنه يرى ما يراه الزنادقة، من أنه لا مصلحة للعباد في ذلك، ولا حكمة للشارع الحكيم في شرع تلك المناسك، إلا محض المشيئة، وترجيح مثل على مثل بلا مرجح، كما يقول ذلك نفاة الحِكَم والمصالح، فلأجل هذا أراد السائل من صاحب المنار أن يوافقه على أحد الأمرين، ليتم له مقصوده من ترك الحج، لسوء اعتقاده، وخبث مرامه.
يوضح ما قلناه أنه قال في أول سؤاله: إلى سيدي العلامة المصلح العليم مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف، فأثنى عليه بأنه فيلسوف.
وقد كان من المعلوم أن مذهب الفلاسفة من أخبث المذاهب، وأنهم من أضل الناس، وأبعدهم عن سلوك الصراط المستقيم واتباع سبيل المؤمنين، وإنما غالب علومهم النظر في العقليات، وأما ما كان عليه الرسل وأتباعهم فهم لا يعرفونه، ولذلك كانوا يعارضون ما بلغهم من النقليات بما عندهم من العقليات بآرائهم الفاسدة، وأوهامهم الكاسدة، فليسوا في الحقيقة من أهل الإسلام وعلومهم في شيء.
وقد ذهب طوائف من المتكلمين وغيرهم من أهل الإسلام إلى ما وضعوه من العقليات، واستحسنوا ذلك، فضلوا وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل، وهؤلاء هم الذين أشار إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: لا سيما والإشارة بالخَلَفِ إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه مرامهم.
لعمري لقد طفتُ المعاهدَ كلَّها ** وسيَّرْتُ طرفي بينَ تِلْكَ المَعَالِمِ
فلم أَرَ إلا واضعًا كفَّ حائرٍ ** على ذَقَنٍ أو قَارِعًا سنَّ نادِم
وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم:
نهايةُ إقدامِ العقولِ عِقَالُ ** وأكثرُ سَعْيِ العالمينَ ضَلاَلُ
وأرواحُناَ في وحشَةٍ من جسومِنَا ** وغايةُ دنيانا أذىً ووبالُ
ولم نستفدْ من بحثنا طولَ عمرِنا ** سوى أن جمعنا فيه قِيْلَ وقالوا
لقد تأملت الطرقَ الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقربَ الطرقِ طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما} ومن جَرّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخِضمّ، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي.
ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكًا عند الموت أصحاب الكلام. [23]
وقال ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لما ذكر اختلاف الناس في التوحيد، وأنهم فيه أنواع قال: وأما توحيد الفلاسفة فهو إنكار ماهية الرب الزائدة على وجوده، وإنكار صفات كماله، وأنه لا سمع له، ولا بصر، ولا قدرة، ولا حياة، ولا إرادة، ولا كلام، ولا وجه، ولا يدين، وليس فيه معنيان يتميز أحدهما عن الآخر البتة، قالوا لأنه لو كان كذلك لكان مركبًا، وكان جسمًا مؤلفًا، ولم يكن واحدًا من كل وجه، فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا يُحَسُّ، ولا يُرى، ولا يتميز منه جانب عن جانب، بل جوهر فرد يمكن وجوده، وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده، فلما اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد، وسمعوا قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد}، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِد} نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي، وقالوا: - لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة أو علم أو حياة أو قدرة أو سمع أو بصر لم يكن واحدًا، وكان مركبًا مؤلفًا، فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء وهو التوحيد، وسموا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت وهو صفات الرب بأقبح الأسماء وهو التركيب والتأليف، فتولد من بين هذه التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحد حقائق أسماء الرب وصفاته، بل وجحد ماهيته وذاته، وتكذيب رسله، ونشأ من نشأ على اصطلاحهم، مع إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحي، فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه، فجعلوا أصل دينهم فلما رأى أنّ ما جاءت به الرسل يعارضه قال: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل. انتهى.
وقال أيضًا في الإغاثة:
والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها. وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصًا بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلى ما يقتضيه العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطوا، وهم المشاؤن خاصة، وهم الذين هذّب ابن سيناء طريقَتَهم وبسّطها، وقررها، وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين. إلى آخر كلامه رحمه الله.
والمقصود أن أحد هؤلاء الفلاسفة لا يذهب إلا إلى ما يقتضيه عقله في زعمه، فلما كان هذا الفيلسوف منهم توهم هذا السائل أن صاحب المنار يرى هذا الرأي، وحاشا وكلا، بل هو بريء منهم، وهم برآء منه، وكلامه يقتضي تكفير هذا الضرب من الناس، ولا يخفى هذا إلا على من ليس له معرفة وإلمام بالعلوم، والله المستعان.
ثم لو سلمنا أن الفيلسوف على عرف الفلاسفة وأتباعهم من أهل الكلام هو محب الحكمة، وأنه يمدح ويثنى به على العالم المصطلح المرشد للعباد، لم يكن هذا من عُرف أهل الإسلام، ولا من لغتهم، ولا يمدح به أحد من علماء الإسلام، لأنه قد كان من المعلوم أنه لم يكن يسمى به أحد من علماء الصحابة، ولا علماء التابعين، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين، والعلماء المصلحين المرشدين، ولا أكابر علماء أهل الحديث المجتهدين، بل كان هذا الاسم في عرف أهل الإسلام لا يسمى به إلا من كان من علماء الفلاسفة، ومن نحا نحوهم من زنادقة هذه الأمة، فكان في الحقيقة أن هذا مما يعاب ويذم به من يسمى بذلك، لا مما يمدح ويثنى به عليه.
ولو أراد هؤلاء المتنطعون المتعمقون أن ينقلوا هذا عن أحد من أهل العلم، أو يذكروه في شيء من دواوين أهل الإسلام لم يجدوا إلى ذلك سبيلًا البتة، اللهم إلا ما يذكر عن أشباه هؤلاء الهمج الرعاع، اتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق من الفهم، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَل} {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون}
فصل
ثم قال السائل: "وكذلك نرى أن جميع ملوك الإسلام وأمراءه وأغنياءه لا يحجون، ولا نرى الحجاج سواهم إلا من فقراء الهند، والصين، والروسيا، وجاوا، وبلاد العرب كمصر، وتونس، وسوريا، والعراق، وغيرها، وهذا كثير من سلاطين آل عثمان، وأمراء البيت السلطاني، وأعاظم الرجال من الوزراء، والحكام والأغنياء المشار إليهم بالبنان، كلهم لا يحجون، ولا يدور في خلد أحدهم أن يحج، فما هو السر في ذلك يا ترى؟ وكم عجبنا لما سمعنا بحج أمير مصر قبل سنتين، وكثر تحدث الناس في ذلك، حتى تَجَرّأ أحدهم فقال: إن المقصود من حج العزيز، غرض سياسي، ورحلة في جهات الحجاز لا غير، وليس له مقصد في الحج قطعًا" إلى آخر كلامه.
والجواب أن نقول: ترك هؤلاء الملوك، والسلاطين، والوزراء، والأغنياء المترفين للحج لا يكون عذرًا لمن أراد ترك الحج تقليدًا لهؤلاء.
فإن الله سبحانه وتعالى قد فرض الحج على جميع الناس ملوكهم، وسلاطينهم، ووزرائهم، ولم يعذر الله إلا من كان فقيرًا عاجزًا لا يستطيع إليه سبيلًا.
وأما ما ذكره من كون أكثر الحجاج من فقراء أهل الأمصار المذكورين في السؤال، لا يدل على أن الحج واجب عليهم دون من عَدَاهم من الملوك والوزراء والأغنياء، فمن كان مؤمنًا بالله ورسوله، سالمًا من شوائب الشرك والبدع والمعاصي فهو على نور من ربه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأما من ترك الحج من هؤلاء وهؤلاء، أو من العلماء المصلحين وهو قادر عليه، وليس له عذر شرعي ففي ذلك من الوعيد الشديد ما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: - "لقد هممت أن أبعث عمَّالًا إلى الناس، فينظرون إلى من ترك الحج وهم قادرون عليه، فأضع عليهم الجزية، ما هم عندي بمسلمين".
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: من ملك زادًا وراحلة تبلِّغه إلى بيت الله، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، وذلك أن الله يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} رواه الترمذي والبيهقي من رواية الحارث عن علي ورواه البيهقي أيضًا عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامه عن النبي ﷺ قال: "من لم يحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس، أو سلطان جائر، ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديًا وإن شاء نصرانيًا".
إذا تحققت ما ذكرته لك مما تقدم بيانه، وعلمت أن هؤلاء الملوك، وأمراءَ السلاطين، ووزراءهم، والأغنياء المترفين، والعلماء المصلحين وغيرهم ممن تركوا الحج وهم قادرون عليه، أنهم ليسوا حجةً يقتدى بهم.
وتحققت أيضا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي فرض مناسك الحج وأمر بها، وكتبها على عباده، وأن رسول الله ﷺ سنها لأمته، وقال: "خذوا عني مناسككم" فأخذ بها المسلمون، وعملوا بها، ولم يستشكل أحد منهم عن وجه الحكمة في شيء منها، بل امتثلوا ما أمر الله به، طاعة لله ورسوله: تبين لك أن هذا السؤال من هؤلاء الزنادقة نشأ عن سوء اعتقاد، وخبث طوية، وشك في الدين الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه.
فالواجب على المسلم أن يتباعد عن هذا الضرب من الناس كل التباعد، وأن يظهر عداوتهم ومقتهم، والبراءة منهم، وأن ينشر في العالمين خزيهم وضلالهم، ليعلم الناس حقيقة ما هم عليه من الزندقة، وصريح السفسطة والمخْرَقَة، وأنّ سؤالهم ليس عن جهل بحقيقة الأمر المسؤول عنه، لأنه قد كان من المعلوم أنه من الأمور الضرورية التي لا تخفى على آحاد البرية، أو أن ذلك من المسائل الخفية، فَيُقَالُ لأجل ذلك عِثارهم، ويقبلُ اعتذارهم، فقد تلألأ الحق واستبان لأهل العقول السليمة، والألباب المستقيمة.
تلألأ نور الحق في الخلق ِ واستما ** وبان لمن بالحقِّ قد كان مُغْرَما
محاسنُ ما يدعو إليه محمدٌ ** نبيُّ الهدى من كان بالله أعلما
من الدين والتوحيد والنورِ والهدى ** فليس بها لَبْسٌ على من تجشّما
وسار إلى أعلامها متيممًا ** على المنهجِ الأسنى الذي كان أَقْوَمَا
ومستيقنًا بل مؤمنًا ومصدقًا ** بأن رسولَ اللهِ قد كان أَحْكَما
وأَعْلمُ بالحق الذي قد أتي به ** عن الله إذ قد كان لا شك قَيِّما
ومن ذاك أن الحج ركنٌ وفرضُه ** على الخلق طرًا كان أمرًا مُحَتَّما
ولا عذر في هذا لمن كان قادرًا ** عليه بلا عذرٍ ولا كان مُعْدِما
وسنَّ رسولُ الله فيه مناسكًا ** تَقَدَّمَه فيها الخليلُ لتُعْلَما
فسار على منهاجه وطريقه ** ليحي منها ما عفى وتهَدَّما
فمن صدَّقَ المعصومَ فيما أتي به ** وكان به مستقينًا ومعظِّما
تَيَقّنَ من غيرِ ارتيابٍ ومِرْيَةٍ ** بأن الذي قد سنَّه كان أَحْكَما
وحكمتُه معلومةٌ مُسْتَنِيْرَةٌ ** لمن كان للشرع الشريفِ مُقَدِّما
ولم يَسْتَرب في شرعه باعتراضه ** على النقلِ بالعقل الذي كان مُظْلِمَا
كهذا الذي أبدى لسوءِ اعتقاده ** سؤالًا وقد أضحى به مُتَهَكِّما
وأظهر أن الحقَّ لم يَسْتَبِنْ له ** وقد كان لا يخفى مَن تَعَلَّما
وقد كان معلومًا من الدينِ واضحًا ** ومنهاجه قد كان والله لهجما
ومن كان لا يدري بها وهو جاهل ** فكيفيه منها أن يكون مُسَلِّما
ويؤمن بالشرع الذي قد أتى به ** أَجَلُّ الورى من كان بالله أَعْلَما
ولكنَّهُم في غَمْرَةٍ من ضلالهم ** وفي غَيِّهم بُعْدًا لمن كان مُجْرِما
فقل لزعيمِ القومِ ناصر من غدا ** عن الخيرِ مزْوَرًّا وقد حاز مَأْثَما
ثَكِلَتْكَ مِنْ خَبٍّ لئيم هَبَيْنَغٍ ** يرى أنَّ ما أبداه حَقًّا فَأَقْدَما
وأظهرَ مَكْنُونًا من الغيِّ جهرةً ** لدى الناسِ مكشوفَ القناعِ ليُعْلَما
وقَلْ للغويِّ الفدمِ ويحكَ ما الذي ** دعاك إلى أن قلت قولًا مُحَرَّما
أَخَلْتَ طريقَ الحقِّ ليس بواضحٍ ** وأَنّ طريقَ الغيِّ قد كان قَيِّما
لعمري لقد أخطأتَ رشدَك فاتئِدْ ** فلست بكفوٍ أن تُرَى مُتَقَدِّما
فقد حُدْتَّ عن نهجِ الهداةِ وإنما ** سلكتَ طريقًا للضلالة مُظْلِما
طريقًا وخيمًا للغواةِ الذين هُمْ ** فلاسفةٌ دهريةٌ أوْرَثُوا العَمَا
كنحوِ ابن سِيْنَا بل أرسطو وقومه ** وأتباعه ممن مضى وتَقَدَّما
طريقتُهم ما تقتضيه عُقُولُهم ** وإن خالفَ الشرعَ الشريفَ المُقَدَّما
فسرتَ على آثار من ضَلَّ سَعْيُهم ** وكانوا ببيداءِ الضَّلالةِ هُوَّما
وآثارِ أقوامٍ رأوا أن دينهم ** ومذهَبَهم قد كان أهدى وأحكما
فما تقتضي آراؤهم وعقولُهم ** وما استحسنوا من ذلك قد كان أَقْوَما
لذا عارضوا المنقولَ مما أتى به ** من الشرعِ مَنْ قد كان بالله أَعْلَما
بمعقولِ ما قد أَصَّلُّوه برأيِهِم ** وقانون كفرٍ أحْدَثوه تَحَكُّما
وردُّوا بذا القانونِ أحكامَ شرعِه ** فَنَالوا به شرًا عظيمًا ومأثما
وقد رَامَ هذا الوَعْدُ أن يقتدى بهم ** وأن يقتفي آثارَ من كان أَظْلَما
فعارضَ ما قد سَنَّه سَيِّدُ الورى ** لأمَّتِه في الحج نسكًا وأحكما
بمعقوله في بعض أسئلةٍ له ** تَوَهَّمَهَا حقا فأدّت إلى العَمَا
فيسأل عن تقبيلنا الحجرَ الذي ** لدى الركن موضوعًا هناك مُعَظَّما
وقد كان في تَقْبِيْله واستلامِه ** مظاهرةُ الأوثانِ فيما تَوَهَّما
على زعمِه فيما يَرَاه بعقلِه ** وقد كان معلومًا من الشرعِ مُحْكَما
وعن سَعْيِنَا بين الصفاءِ ومروةٍ ** وعن رَمَلٍ قد سَنَّه من تَقَدَّما
وما القصدُ في ذبحِ الذبائِحِ في منى ** وإدخالِهم في النُّسْكِ أمرًا مُحَرَّما
كمنعِ الورى عن أكلهم من لحومها ** ودفنٍ لها في الأرضِ ظلما ومأثما
ولو صُرِفَتْ فيما يراه بعقله ** لإصلاح آبار تُعَدُّ وتُرْتَما
لحجاج بيت الله أو طرقٍ لهم ** وتنظيفها أو في تكايا ليعلما
ويعرف منها القصدُ والنفع للورى ** فتبًا لهذا الرأي ما كان أَوْخَما
وما القصد في رمي الجمار التي رَمَى ** بِهِنَّ خليلُ اللهِ مَنْ كان قَدْ رَمَا
وسنَّ رسول الله ذلك واقتفى ** بآثار من قد كان بالله أعلما
وما القصد في الوضع البناءين حاجزًا ** لدى عرفاتٍ عن سواها لتُعْلَما
وهل ذاك حَدٌّ فاضلٌ بين ربنا ** وبين الورى فيما رأى وتوهَّما
أمِ القصدُ حدٌّ فاصلٌ بين جنةٍ ** ونارٍ فهذا قول من كان أظلما
ويسأل عمَّن قد أتى من بلادِه ** وقد جَابَ أخطارًا لها وتَجَشَّما
فما كان مقبولًا لدَيْه لأنه ** لدى عرفات لم يقف حين أقدما
وقد جاء إيمانًا وحُبًّا وطاعةً ** لمولاه يرجو العفْوَ إذ كان مُجْرِما
ومن كان فيها واقفًا متقدِّما ** ولكِنَّه لِلَّهو أضحى مُقَدِّما
وفي لعبٍ أو في ممارسةٍ لما ** يَرُوقُ له في أهله قَبْل من عما
فذلك مقبولٌ لديه ولو أتى ** بشيءٍ من المكروه أو كان مجرما
فأيَّة مقصودٍ وأيّةُ حكمةٍ ** لذلك اقتضت لَمَّا لها الشرع أحكما
أيحسن منا أن نحجَّ ولم نكن ** بحكمتها ندري فما هِيْ لتعلما
ويسأل عَمَّن كان للناس مرشدًا ** وبالعلم وبالإصلاح للناس قَدْ سَمَا
وقد عاش دهرًا ثم مات ولم يكن ** إلى البيت ممن قد أهَلَّ وأَحْرَما
وقد كان فيما قبل يرحل دائمًا ** إلى أيِّ أرضٍ شآءها متيمِّما
فما السبب الداعي إلى ترك حَجَّةٍ ** وقد كان ذا علمٍ وكان مُعلما
كذلك عن حال الملوكِ ونحوِهم ** من الوزراء ممن عسى أن يُعَظَّما
وكالأغنياء المترفين وغيرِهم ** من الناس ممن ليس قد كان مُعْدِما
ونحن نرى الحجّاجَ من كل وجهةٍ ** سواهم فما عُذْرُ الذي كان أجْرَما
وما السِّرُّ في تركِ الملوك وغيرهِم ** من الأغنياء للحج فَرْضًا
وما القصدُ في هذا لِمَنْ كان قادرًا ** على الحجِّ ممن قد أساءَ وأجرما
فهذا اعتراضُ الفَدْمِ للشرعِ بالذي ** تخيَّله في عقله وتوهّما
ودونك في المنثور ما قد أجبته ** وقد كان حقًا أن يُهَاضَ ويُهْضَمَا
ولكن تركنا البسطَ من أَجْلِ أنه ** أجابَ سوانا من أجَادَ وأحكما
فلله ربِّ الحمدُ والشكر والثنا ** على قَمْعِ زنديقٍ تَحَدَّى وغَمْغَما
وظن غباءً مِنْ سفاهةِ رأيه ** بأن الحِمى أقوى فجاء وأقدما
ليهدمَ من أعلامِ سُنَّةِ أحمدٍ ** مناسكَ حجٍ سَنَّها من تَقَدَّما
فَغُودِرَ مَجْدّولًا على أُمِّ رأسِه ** كإخوانه ممن عثى وتدهكما
وخالَ طريقَ الحقِّ دَحْضًا مَزَلَّةً ** وأن طريق الغيِّ قد كان لهجما
فتَبًّا له من جاهلٍ ما أَضَلَّه ** وأبعدَه عن منهج الرُّشْدِ إذْ سَمَا
فأَبْصَرَه مَنْ كا بالله مؤمنا ** وللشرع أضحى مذعنًا ومسلما
وعارضه من لم يكن مؤمنًا به ** كهذا الغبيِّ الفَدْمِ لما تَكَلَّما
وصلَّ على المعصوم ربِّ وآله ** وأصحابِه ما دامت الأرضُ والسما
وما انهلّ صَوْبُ المُزْنِ سَحًّا وكُلَّما ** على المصطفى صلَّى الإله وَسلّما
فهذا ما تيسر لي من الجواب، مع تكدر البال، وكثرة الانشغال، وتغير الأحوال، وما يدرك كله لا يترك كله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على أفضل المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
هامش
- ↑ أحمد والطبراني. قال الهيثمي في المجمع 8/263-264: رجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله المقري وهو ثقة. وفي إسناد أحمد من لم يسم. ولفظه عند الهيثمي "لقد تركنا رسول الله ﷺ وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا". ثم ذكره بلفظ "لقد تركنا رسول الله ﷺ وما في السماء طائر يطير بجناحيه إلا ذكرنا منه علمًا". وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
- ↑ أصحاب السنن.
- ↑ قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/263 – 264: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وهو ثقة. ولفظ المؤلف بمعنى لفظ الطبراني. وأخرجه عبد الزراق بلفظ: "ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا قد بينته لكم...". وفي صحيح مسلم: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم من شرِّ ما يعلمه لهم...." الحديث.
- ↑ في الأصل: "بمشاهدتها" والمثبت من مجلة المنار ج16.
- ↑ في الأصل: المظاهرة.
- ↑ في الأصل: المظاهرة.
- ↑ في الأصل "بعضا" وما أثبت من مفتاح السعادة.
- ↑ في الأصل "وعلمه وحكمته" وما أثبت من "مفتاح دار السعادة".
- ↑ في المفتاح: والغني عن كل شيء.
- ↑ في الفتاوى لابن تيمية 6/397: "أو قبّله".
- ↑ في الفتاوى لابن تيمية 6/397: "إلا على من لم يتدبره".
- ↑ ما بين المعقوفين من الفتاوى 6/398 وهي كذلك في الفتاوى بين معقوفين.
- ↑ في الفتاوى: "بين لهم".
- ↑ في الفتاوى: "ما ينفي".
- ↑ أخرجاه في الصحيحين.
- ↑ أحمد والترمذي
- ↑ في الأصل: "استلم" والمثبت من كتاب ابن قتيبة.
- ↑ في الأصل: "ظن" والمثبت من كتاب ابن قتيبة.
- ↑ في الأصل: "فقضى عليه بأنه من حيث أخذت" والمثبت من كتاب ابن قتيبة.
- ↑ في الأصل: "باستلام" والمثبت من كتاب ابن قتيبة.
- ↑ في ابن كثير "فرفع القواعد".
- ↑ ليس في الصحيح بل رواه أحمد والترمذي.
- ↑ انتهى من العقيدة الحموية.