الرئيسيةبحث

المواقع الأثرية في الجزيرة العربية ( Archaeological sites in Arabia )



آثار الجزيرة العربية شواهد حضارية للمنطقة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصور الإسلامية المتأخرة.
المواقع الأثرية في الجزيرة العربية أماكن تاريخية وأثرية وشواهد مادية وفنية تقف دليلاً على المعالم الحضارية لهذه المنطقة منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصور الإسلامية المتأخرة. فقد شكلت شبه الجزيرة العربية بموقعها الاستراتيجي نقطة التقاء بين قارات العالم القديم، كما هي حالها اليوم. ونظرًا لهذه المواقع، فقد أصبحت جزءًا من العالم مطروقًا على مدار تاريخها استيطانًا وهجرة. ولأن الملاحة لم تعرف إلا في وقت متأخر من تاريخ البشرية، فإن الطرق البرية كانت المعابر الرئيسية للانتقال عبر صحاري الجزيرة العربية ذهابًا وإيابًا من وإلى مستقرات الإنسان في جنوب الكرة الأرضية وشمالها. وإلى جانب الموقع كانت الجزيرة العربية، في عصورها القديمة، تنتج كثيرًا من السلع التي شكّلت حاجة الإنسان الضرورية في أوقات متفرقة ؛ فكانت في يوم من الأيام أهم مواطن إنتاج العطور ومن أهم معابره، سواء كان قادمًا من شبه القارة الهندية أو من شرق القارة الإفريقية باتجاه الشمال حيث قامت الإمبراطوريات العظيمة. كما كانت موقعًا مهمًا لإنتاج المعادن التي كانت تحتاج إليها الإمبراطوريات القائمة في بلاد الهلال الخصيب وبلاد النيل. وعلاوة على ما ذكر، فإن المناخ تقلّب مرات عديدة صارت فيها الجزيرة العربية ممطرة فكانت المياه فيها جارية بصفة شبه دائمة. وعليه فإن الجزيرة العربية شكّلت موضعًا ارتاده الإنسان في أيام لم يكن إبانها مستقرًا، ثم استقر فيها عندما اضُّطر أن يستقر ويعتمد على إنتاجه من أجل بقائه بدلاً من التجوال والجمع والصيد والالتقاط.

جاء التعرف على ما كان في الجزيرة العربية عن طريق مصادر مختلفة وربما كان من أقدمها التوراة حيث توجد أخبار متفرقة تتحدث عن الإنسان في الأطراف الشمالية والشمالية الغربية للجزيرة العربية. ثم جاء كثير من المعلومات في كتابات الأمم القديمة، ومن أهمها كتابات الإمبراطورية الآشورية في بلاد الرافدين ابتداءً من القرن التاسع قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وبعدها ذُكر بعض الشيء في كتابات الإمبراطورية البابلية التي حلّت محل الإمبراطورية الآشورية.

وقد اهتم اليونانيون بالجزيرة العربية. ومع بداية القرن السادس قبل الميلاد، بدأت تظهر إشارات عن بعض المظاهر المعمارية أو العناصر البشرية الموجودة فيها. ولكن مع بداية احتلال اليونانيين للعالم القديم ـ وبخاصة بعد اجتياحهم للشرق الأدنى عام 332 ق.م ـ برز اهتمامهم بالجزيرة العربية. واستمرت المعلومات تظهر في الكتابات الرومانية التي جاءت لتحلّ محلّ الكتابات اليونانية بعد أن حل الرومان عام 32 ق.م محل الإغريق، ثم تحول الشيء نفسه إلى مؤلفات الدولة البيزنطية بعد أن انسلخت عن الإمبراطورية الرومانية في الثلث الأول من القرن الرابع الميلادي مكونة إمبراطورية مستقلة في الشرق الأدنى.

وفي منتصف القرن السابع الميلادي تمكنت الجيوش الإسلامية من إزالة الدولة البيزنطية من الشرق الأدنى، وكذا الدولة الساسانية في بلاد فارس واضعة بداية للدولة الإسلامية التي أمضت وقتًا طويلاً في الفتوحات ونشر الإسلام. وبعد أن استقرت الأمور ـ وبخاصة في عهد الدولة العباسية ـ بدأت تزدهر النهضة في مجالي الترجمة والتأليف وتأخذ مكانة مقدرة ومميزة ؛ فظهر العديد من المؤلفات، كما ظهرت أمهات كتب التاريخ الإسلامي التي عُنيت بتاريخ الأمم الغابرة من خلال استفادتها الجزئية مما جاء في الكتب السابقة لها، وما جاء في القرآن الكريم، وكتب التفاسير والأحاديث، والمصادر القديمة كالتوراة ـ بما احتوت عليه من أسفار ـ وكتب اليونان والرومان والبيزنطيين. وواكب ظهور الكتب التاريخية كتب أخرى عرفت باسم كتب البلدانيين التي تشتمل على كتب الجغرافيا والرحلات والمعاجم الجغرافية.

تاريخ البحث الآثاري في الجزيرة العربية

بدءًا بما اصطلح على تسميته في أوروبا بعصر النهضة، بدأت بوادر الاهتمام بعلوم الأمم السابقة، وبدأت الكشوف الجغرافية تأخذ طريق الإحياء، إلا أن ازدهارها غير المسبوق تمخض مع مولد عصر النهضة الصناعية (أو الثورة الصناعية) بدءًا بأواخر القرن الثامن عشر. فبعد أن دارت العجلة الصناعية التهمت جزءًا من المواد الخام في القارة الأوروبية مما نبه إلى أن الاستهلاك المستمر سوف يؤدي إلى التوقف يومًا ما، إلى جانب إدراك عدم استيعاب الأسواق المحلية الأوروبية لما تضخه العجلة الصناعية، ومن ثم تنبه المعنيون بأهمية البدائل، فانبعث البحث عن مصادر المواد الخام في بلدان العالم الأخرى جنبًا إلى جنب مع انبعاث الحاجة إلى أسواق جديدة لتلتهم ما تنتجه العجلة الصناعية الأوروبية. ولتحديد مصادر المواد الخام والأسواق، كان على الغرب معرفة بلدان العالم الآخر من واقع المشاهدة العينية، وكان من بين تلك البلدان أقطار الجزيرة العربية. وكانت أداة تحقيق ذلك آنذاك مجموعة من الرجال عرفوا باسم الرحالة على مختلف مشاربهم السياسية والتبشيرية والعلمية.

واجهة إحدى المقابر في مغاير شعيب في البدع بالسعودية.
أعمدة الرجاجيل في قرية القارة جنوب سكاكا بالمملكة العربية السعودية.
مجموعة من الأواني الغنمارية من موقع الخريبة في العلا.
رأس تمثال عثرعليه على بعد 8كم من مدينة مرات.
موقع الربذة في منطقة المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية.
قصر المربع التاريخي في الرياض بالمملكة العربية السعودية.
أحد المقابر الركامية التي اكتشفت بجنوب الظهران.
موقع الرجاجيل في جنوب سكاكا بالمملكة العربية السعودية.
موقع الشويحيطية بالقرب من سكاكا في المملكة العربية السعودية.
مجموعة من المسارج من موقع الخريبة الأثري في الإقليم الشمالي الغربي بالمملكة العربية السعودية.
سور تيماء القديم في المملكة العربية السعودية.

المملكة العربية السعودية:

ظل الرحالة يتقاطرون إلى المملكة العربية السعودية على مدار ما يقرب من قرن ونصف القرن. وربما كان من أهم أولئك الرحالة المعنيين بالحديث أوجست والين، ووليم جيفورد بالجريف، وتشارلز داوتي، وتشارلز هوبر، وجوليس أويتنج، ورتشارد بورتن، وسيتزن، وسادلير، ولويس بلي، والليدي آن بلنت، وإدوارد جيرماني، ومورتز، وألويس موزل، وشكسبير، وهاملتون، وبول هارسون، وفيلبي الذي اختتم ذلك الدور، ومن ثم بدأ دور البعثات المنظمة.

شكلت أعمال هؤلاء الرحالة القاعدة العريضة للأعمال اللاحقة التي تميزت بكونها أدق وأوفر معلومات. إضافة إلى ذلك هناك العمل الذي قامت به بعثة فرنسية قوامها الأبوان جوسين وسافناك اللذان قدما من القدس إلى شمال غربي المملكة العربية السعودية، وأمضيا وقتًا في دراسة النقوش والآثار في واحة العلا والمقابر المنحوتة في مدائن صالح، وكذا مواضع قديمة في تيماء وأماكن أخرى. وأسفر عمل هذه البعثة عن أربعة مجلدات نشرت تباعًا محتوية على دراسات البعثة والنتائج التي توصلت إليها، ووضعت قاعدة عريضة للدراسات الآثارية فيما يخص الأرض التي فيها أجرت أعمالها.

وبعد توحيد المملكة العربية السعودية، بدأت حركة اهتمام علمي بفضل تشجيع الملك عبدالعزيز وإدراكه لأهمية العلم، فطال مجال الآثار جانب من ذلك الاهتمام تمثل في السماح بإجراء الكشوف الميدانية الجيولوجية والجغرافية والآثارية ؛ فظهرت مؤلفات عديدة تحكي عن مواقع مختلفة وجدت فيها مخلفات الإنسان القديم. وربما كان من أهم الأعمال خلال تلك الفترة الزمنية، أعمال هاري سنت جون برديجر فيلبي التي شملت جزئيات عديدة في حقل الدراسات الآثارية. كما جاء عمل مهم آخر وهو ما قامت به البعثة المعروفة باسم بعثة (ريكمان ـ فيليبي ـ ليبنز) سنة 1950 - 1951م التي شملت مسحًا لمواضع عديدة بدأت بها من جدة في الشمال الغربي حتى نجران في الجنوب مرورًا بالوسط، وسجلت نتائجها في عدد من المقالات والكتب التي شكلت القاعدة لعدد من المقالات اللاحقة.

وبعد ذلك جاءت البعثة الكندية إلى الشمال الغربي عام 1962م وكانت تضم كلا من فردريك وينت ووليم ريد (عالم آثار وعالم كتابات على التوالي) وعاينت هذه البعثة عددًا كبيرًا من المواقع القديمة في شمالي وشمالي غرب المملكة العربية السعودية. ومن أهم تلك المواقع: كاف وأثرا وجبة وياطب وحائل وفيد ودومة الجندل وتيماء ومدائن صالح والعلا. وجاءت نتائج أعمال هذه البعثة في عدة مقالات سابقة للكتاب الرئيسي الذي رصدت فيه أعمالها ونتائجها ونشرته بعنوان مدونات قديمة من شمال وشمال غرب الجزيرة العربية، تورنتو، جامعة تورنتو، 1970م.

بعد ستة أعوام قامت بعثة من جامعة لندن عام 1968م مكونة من بيتر بار، ولنكستر هاردينج، وجون دايتون (عالم آثار وعالم كتابات ومهندس على التوالي) بتنفيذ مسح في شمال غرب الجزيرة العربية شمل معاينة سبعة عشر موقعًا من أهمها: قُريِّة وروافة والبدع ومغائر شعيب وتيماء ومدائن صالح والعلا والمابيات. وأوضحت البعثة ما قامت به في عدة مقالات أهمها مقالان ظهرا في نشرة معهد الآثار بجامعة لندن، الأعداد 8-9، 10 لسنتي 1970م و1972م على التوالي.

في عام 1968م، أجرت بعثة دنماركية أعمالاً في شرقي المملكة العربية السعودية، شملت مسح مناطق تمتد من الحدود السعودية الكويتية في الشمال وحتى وادي الفاو في الجنوب، مع مسح بعض الجزر في الخليج العربي مثل جزيرة تاروت والمسلمية وجناة. وأجرت حفريات آثارية في كل من : ثاج وتل تاروت وواحة يبرين. ونشرت البعثة نتائج أعمالها في مقالات وتقرير أولي جاء على شكل كتاب نشرته جامعة أرهوس الدنماركية عام 1973م.

في عام 1970م أوفدت هيئة الآثار فريقًا زار جميع أقاليم المملكة والتقط صورًا لبعض المواقع والآثار المهمة نُشرت عام 1975م مع تعليقات عليها في كتاب صدر بعنوان مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية. وفي عام 1975م وضعت الإدارة خطة خمسية لمسح أقاليم المملكة، ثم بدأت في تنفيذها عام 1976م منتهجة التقسيم الإداري المعتمد آنذاك الذي يقسم المملكة إلى ستة أقاليم هي: الإقليم الأوسط، والإقليم الشرقي، والإقليم الشمالي، والإقليم الشمالي الغربي، والإقليم الغربي، والإقليم الجنوبي الغربي.

الإقليم الأوسط. ابتداءً من عام 1971م وحتى اليوم، يعمل فريق أثري إلى جانب عدد من الطلبة من جامعة الملك سعود في مستوطنة الفاو في وادي الدواسر. وابتداءً من عام 1979م وحتى اليوم، يعمل فريق آثار من جامعة الملك سعود إلى جانب عدد من الطلبة في موقع الربذة الإسلامي. وفي عام 1977م مسحت مواضع في الأجزاء الشمالية للإقليم اشتملت على مواقع في سدير، وعنيزة، وبريدة. وفي عام 1978م، مسحت مواضع في الأجزاء الجنوبية للإقليم ابتداءً من الرياض وحتى وادي الدواسر. وشمل المسح مواضع بالقرب من : الرياض، والخرج، والحوطة، والأفلاج، وليلى، والسليل، ووادي الدواسر، ومواضع أخرى واقعة شمال الرياض. وتم تحديد عدد من المواقع الأثرية يعود تاريخها إلى عصور مختلفة، تبدأ من العصور الحجرية وتستمر حتى العصر الإسلامي. وفي عام 1979م، قام فريق آخر بمسح المناطق الجنوبية الغربية للإقليم شمل كلا من: ضرماء، وشقراء، والدوادمي، والبجادية. وحدد عددًا من المواقع التي تعود إلى عصور مختلفة تبدأ بالعصور الحجرية وحتى العصر الإسلامي. وفي عام 1979م نفذ محمد صالح قزدر عددًا من الأسبار الاختبارية في موقع زبيدة الواقع بالقرب من مدينة بريدة في القصيم. وفي عام 1981م تم مسح منطقة في شرقي الإقليم تمتد من شرق الرياض وحتى نفود الدهناء. وتم تحديد عدد من المواقع الأثرية التي تعود إلى عصور مختلفة منها : العصور الحجرية، وفترة الممالك العربية، والعصر الإسلامي. وفي عام 1982م أجريت حفرية في موقع في وادي صفاقة ـ في محافظة الدوادمي ـ نتج عنها جمع مادة آثارية تعود للفترة الآشولية من العصر الحجري القديم. وفي عام 1982م أجري مسح لمنطقة الثمامة الواقعة على بعد حوالي تسعين كيلومترًا إلى الشمال من مدينة الرياض. وفي العام التالي نفذت حفرية في أحد المواقع الأثرية في المنطقة المذكورة، كشف على إثرها عن مستوطنة مهمة تعد من أقدم مستوطنات العصر الحجري الحديث.

الإقليم الشرقي. في عام 1972م، قام عبدالله مصري بإجراء مسح شمل منطقة واسعة في الإقليم، وكان اهتمامه محصورًا في مواقع العصور الحجرية، وبخاصة العصر الحجري الحديث. كما قام بتنفيذ عدد من الأسبار الاختبارية في مواقع متعددة، من أهمها: موقع تل تاروت، والدوسرية، وعين قناص، وأبو خميس. ونشر ذلك عام 1974م. وقام عام 1975م هو ويوريس زارينس بزيارة الإقليم وإجراء بعض الأعمال الأثرية التنقيبية في جزيرة تاروت، ولم ينشر بخصوصها شيء، إلا أن يوريس زارينس نشر عام 1978م عملاً عن الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني ـ كانت متوافرة لدى هيئة الآثار والمتاحف ـ التي سبق أن جمعت من مواضع في الجزيرة خلال فترات متقطعة، وضمّن تلك الدراسة مادة من النشاط سالف الذكر. وفي عام 1976م، قام فريق من هيئة الآثار والمتاحف بمسح مواضع في الأجزاء الجنوبية للإقليم. وعلى إثر ذلك، تم تحديد مواقع تعود للعصور الحجرية بمختلف حقبها، وفترة العُبيد (الألف السادس ـ الألف الرابع قبل الميلاد)، والألف الثالث قبل الميلاد، وفترة الممالك العربية (نهاية الألف الثاني قبل الميلاد وحتى ظهور الإسلام)، والعصر الإسلامي. وفي عام 1977م، قام فريق آخر بمسح مواضع في الأجزاء الشمالية للإقليم ابتداءً من واحة القطيف جنوبًا حتى المنطقة المحايدة شمالاً، بالإضافة إلى السهل الساحلي للخليج العربي وبعض الجزر الواقعة في الخليج نفسه. وحُدِّد عدد آخر من المواقع الأثرية التي تعود للعصور الحجرية، والألف الثالث قبل الميلاد، وفترة الممالك العربية، والعصر الإسلامي. وفي عام 1982م قام فريق أثري بزيارة مقابر جنوب الظهران، وأجرى حصرًا لتلال المقابر الموجودة، ورسم خرائط أثرية لها. وفي عام 1983م قام فريق آخر بإجراء أعمال تنقيبية في المكان نفسه، ثم أجري موسم تنقيب آخر في العام اللاحق، وأتبع بموسمين تنقيبيين في العامين التاليين. وفي عام 1983م، قام فريق للآثار بتنفيذ أول المواسم التنقيبية في موقع ثاج، وأتبع ذلك الموسم بموسم آخر عام 1984م. ونُفذت بعد ذلك أسبار اختبارية في موقع ثاج والدفي والربيعية.

الإقليم الشمالي. في عام 1976م، قام فريق للآثار بإجراء مسح في الأجزاء الجنوبية للإقليم شمل كلاً من: حائل، والجوف، وسكاكا. ونتج عن العمل المذكور اكتشاف عدد من المواقع التي تعود للعصور الحجرية، وفترة الممالك العربية، والعصر الإسلامي. وفي عام 1978م مُسح الجزء الجنوبي للإقليم ؛ حيث شمل مواضع واقعة بين المجمعة وسكاكا. وفي عام 1979م قام يوريس زارينس بنشر مادة استقاها من موقع الرجاجيل معتمدًا على المادة التي جمعت خلال المسحين سالفي الذكر. وفي عام 1980م، مُسح الجزء الغربي من وادي السرحان ومناطق الوديان، وكذلك حوض جبة. وفي عام 1981م مُسحت مواضع تقع بين الحدود السعودية العراقية وصحراء الدهناء. ونفذت عام 1985م هيئة الآثار والمتاحف أسبارًا اختبارية في موقع الشويحطية بالقرب من سكاكا، كما نفذت أسبارًا أخرى في دومة الجندل عامي 1985م و 1986م.

الإقليم الشمالي الغربي. في عام 1978م، قام جارث بودن بإجراء مسح في واد معتدل في واحة العلا، ونفذ أسبارًا اختبارية في موقع خيف الزهرة الواقع بالقرب من موقع الخريبة الأثري. وفي عام 1979م قام فريق من هيئة الآثار والمتاحف، بإشراف جارث بودن، بإجراء مسح وأسبار اختبارية في تيماء القديمة. وفي عام 1980م، نفذ حامد أبو درك بعض الأسبار الاختبارية حول أسوار تيماء القديمة. وفي عام 1980م مسحت مواضع في الأجزاء الجنوبية من الإقليم، شملت الأودية والجزء الساحلي الغربي لجبال الحجاز، من شمال ينبع البحر حتى وادي شرما، والأجزاء الداخلية من شمال المدينة حتى واحة العلا بما فيها: وادي حامد، وجزل، وإقليم مدين، وحسمي، وتبوك. وفي عام 1981م مسح الجزء الشمالي للإقليم. وفي عام 1982م أنجز فريق من هيئة الآثار والمتاحف بعض الأعمال المسحية والأسبار الاختبارية في موقع تيماء. وابتداءً من عام 1984م استمرت أعمال التنقيب في تيماء القديمة ؛ حيث تم التنقيب في قصر الحمراء بأكمله، ونُفذ موسمان في المنطقة الصناعية، وموسم في موقع البجيدية الإسلامي، كما نُفذت ثلاثة مواسم تنقيب في خريبة مدائن صالح.

الإقليم الغربي. في عام 1979م قام فريق من هيئة الآثار والمتاحف بمسح الأجزاء الداخلية للإقليم، وكشف عددًا من المواقع. وفي عام 1980م أنجز فريق آخر عملاً أثريًا في الوديان الواقعة في منطقة الباحة، وبالجرشي، وبعض المناطق الواقعة بين عسير والمدينة المنورة، والسهل الساحلي الواقع بمحاذاة البحر الأحمر من القنفذة حتى بدر حنين.

الإقليم الجنوبي الغربي. في عام 1980م مسحت هيئة الآثار والمتاحف الجزء الشمالي للإقليم، وحددت عددًا من المواقع الأثرية التي تعود إلى أزمنة تبدأ بالعصور الحجرية وحتى العصر الإسلامي. وفي عام 1981م قام فريق آخر من الهيئة بمسح الأجزاء الجنوبية للإقليم، بما فيها جزر فرسان في البحر الأحمر، وتمكن من تحديد عدد من المواقع التي تعود لحقب مختلفة تبدأ بالعصور الحجرية وتستمر حتى العصر الإسلامي. وفي عام 1982م قام فريق آخر بإجراء حفريات أثرية في موقعي سهي وعثّر الواقعين بالقرب من مدينة جيزان. وفي عام 1984م قام فريق آخر بحفر أسبار اختبارية في موقعي سهي والشرجة.

الجمهورية العربية اليمنية:

لفتت المواقع الآثارية الموجودة في اليمن انتباه الغربيين وغيرهم منذ وقت مبكر، فقام بزيارتها كثير من الباحثين والرحالة، ومنهم: بوري، وستزن، وأرنود، وجوزيف هاليفي، وإدوارد جلازر، ووليستد، وبنتس، ولاندبرج، ورانيجنز، ووايزمان، وكاتون ثمبسون، وجاردنر، وفري ستارك، ومحمد توفيق، وأحمد فكري، وهاملتن، وجاكلين بيرين. ونتج عن نشاط هؤلاء مادة منشورة شجعت المؤسسات الأكاديمية الغربية على إرسال بعثات علمية متخصصة. وتُعدُّ بعثة المعهد الأمريكي لدراسة الإنسان الأولى، التي أشرف عليها ويندل فليبس واشترك فيها وليم ألبرايت وفان بيك وعدد آخر من الباحثين، أقدم البعثات الأثرية المنظمة التي عملت في الجمهورية العربية اليمنية. وأنجزت هذه البعثة أعمال مسح في عدد من المواقع، وقامت بتنفيذ حفريات أثرية في مواقع مختلفة من أهمها: هجر بن حميد، وشبوة، ومأرب، وظفار. وبعد ذلك نفذ هاردنج أعمال مسح غطت ما يقرب من أربعين موقعًا في جنوبي اليمن. كما قامت جاكلين بيرين بأعمال مسح مختلفة ركزت جلّها في مواقع النقوش والكتابات. ثم قام براين دو بدراسات في جنوبي اليمن وبعض الجزر الواقعة في بحر العرب مثل سومطرة. وقامت، فيما بعد، بعثة إيطالية بتنظيم المتحف القومي في صنعاء.


صرواح من المواقع الأثرية في اليمن، وهي قلعة يعود تاريخها إلى القرن التاسع قبل الميلاد.
وفي عام 1980م بدأت بعثة المعهد الأمريكي لدراسة الإنسان الثانية ـ التي أشرف عليها جمس سور ـ أعمالها في وادي الجبة في الجزء الشمالي من اليمن ؛ حيث أنجزت حفريات أثرية في موقع تل التمرة ومواقع أخرى. وفي الفترة نفسها قامت بعثة ألمانية بدراسة العمارة القديمة في اليمن.

كما نفذت بعثة فرنسية بإشراف برايتون أعمال مسح في وادي حضرموت ووادي ماسيلا. وبدأت عام 1980م، بعثة إيطالية أعمال مسح في وادي ياليل، ونفذت حفريات أثرية في عدد من المواقع من أهمها نقيض الأبيض. وفي عام 1982م، نفذت بعثة إنجليزية أعمال مسح في السهل الساحلي، المعروف بسهل تهامة. كما نفذت بعثة روسية أعمال مسح وحفريات أثرية في الجزء الجنوبي من اليمن.


سلطنة عُمان:

من أهم الأعمال الأثرية في سلطنة عمان عمل البعثة الأمريكية الأولى لدراسة الإنسان الذي نفذ في الأعوام 1952م، 1953م، 1958م، 1962م حيث قامت البعثة بتنقيب موقع خور روري في منطقة ظفار. وفيما بين عامي 1972 - 1973م قامت البعثة الدنماركية الثانية بمسح مناطق داخلية مثل واحة البريمي، وبات وأبري.

وفي عام 1974م قامت بعثة إنجليزية بإجراء أعمال مسح في مناطق أبري، وأزكي، وغيرهما. وعاودت البعثة عملها في عامي 1974 ، 1975م بإشراف بترشا دي كاردي، فقامت بمسح مناطق منها : نزوا، وبهلا، وأبري، وجعلان، وأراضي قبائل الحارث. وبالإضافة إلى ذلك، هناك الكثير من الأعمال الأثرية التي تم إنجازها بالتنسيق مع الإدارة المحلية.

الإمارات العربية المتحدة:

شمل الإمارات العربية المتحدة عمل البعثة الدنماركية الثانية، ولعل من أهم أعمالها اكتشافها عام 1959م مستوطنة ومقابر في جزيرة أم النار الواقعة على بعد 20كم من أبو ظبي. وفي عام 1974م، قامت بعثة من جامعة هارفارد بأعمال مسح في بعض المناطق في واحة البريمي. وفي عام 1976م قامت بعثة عراقية بإنجاز أعمال مسح وحفريات أثرية في الإمارات العربية المتحدة. وبعد ذلك وقبيله بدأت الباحثة الإنجليزية بترشا دي كاردي بإجراء أعمال مسح متوالية في مناطق مختلفة في الإمارات العربية المتحدة. وفيما بين عامي 1977 - 1978م، قامت بعثة إنجليزية بأعمال مسح وحفريات أثرية في إمارة رأس الخيمة، وأجرت حفريات أثرية في موقع جلفار الإسلامي. وفي عام 1985م، نشرت بعثة إنجليزية نتائج أعمالها بخصوص بعض المقابر في نفس الإمارة. وعملت بعثة إنجليزية أخرى بإشراف كارل فليبس في الإمارات العربية المتحدة لفترة طويلة من الزمن. وبالإضافة إلى ما ذكر، هناك نشاطات كثيرة قامت ولازالت تقوم بها بعثات محلية، وفرنسية، وألمانية، ويابانية، وإنجليزية، وإيطالية. وركزت تلك البعثات أعمالها على التنقيب في مواقع معينة.

قلعة مروب في قطر. صورة من الجو للقلعة التقطتها البعثة الفرنسية.

دولة قطر:

كانت شبه جزيرة قطر من بين الأراضي التي أجرت البعثة الدنماركية الثانية أعمال مسح وحفريات أثرية فيها بدأت عام 1956م واستمرت حتى عام 1965م. وفي عام 1973م قامت بعثة إنجليزية بإشراف بترشا دي كاردي بأعمال مسح وحفريات أثرية في مناطق واسعة من شبه الجزيرة القطرية. وقامت بعثة فرنسية عام 1976م بأعمال مسح وحفريات أثرية في موقعي الزبارة ومروب. وعثرت هذه البعثات على 131 موقعًا من مواقع العصور الحجرية المختلفة. وعثرت على آثار تدل على وصول ثقافة العُبيد حيث يمثل تل الدعسة الأثري جنوبي مدينة دخان أبعد ما وصلت إليه حضارة العبيد ؛ من الشمال.


المدافن المنقبة في دولة البحرين

دولة البحرين:

زار جزيرة البحرين عدد من الرحالة منذ وقت مبكر، وقام بعض منهم بعمل غير منظم في مقابرها الركامية بغرض الكشف عن كنوزها وإرسالها إلى المتاحف الغربية. وجميع تلك النشاطات سجلها مايكل رايس في دراسة نشرها بعنوان "Dilmun Discovered" وكانت جزيرة البحرين أول الأماكن التي حلّت بها البعثة الدنماركية عام 1954م، واستمرت في العمل فيها حتى عام 1968م. ركزت البعثة أعمالها في موقع قلعة البحرين، وعدد من التلال الركامية، ومعبد باربارا. وفي الفترة من عام 1977م إلى عام 1978 - 1979م قامت بعثة عربية بتنقيب عدد من المدافن الركامية في موقع سار الجسر. ثم قامت بعثة فرنسية بأعمال مسح وحفريات في هضبة جنوسان. وبالإضافة إلى ذلك هناك بعثات محلية وأخرى أجنبية لازالت تمارس أعمالها.


دولة الكويت:

ربما كان أقدم الأعمال الأثرية في الكويت هي أعمال المسح التي قامت بها بعثة عراقية. وفي عام 1958م بدأت البعثة الدنماركية الثانية أعمال مسح وحفريات أثرية في عدد من المواقع في جزيرة فيلكة واستمرت في العمل حتى عام 1963م. وبعد ذلك بفترة من الزمن، بدأت بعثة فرنسية ـ بإشراف سال ـ أعمال مسح وتنقيبات أثرية في جزيرة فيلكة، واستمرت تلك الأعمال لعدة سنوات، ونشر عدد من الكتب والمقالات. وبعد ذلك عملت بعثة إيطالية في الجزيرة نفسها لعدة سنوات أخرى.

أهم فترات الاستيطان والمستوطنات

العصور الحجرية القديمة:

يذكر الدارسون لبقايا الإنسان في العصر الحجري الحديث، أن أقدم موطن للإنسان كان في القارة الإفريقية بتاريخ يتجاوز المليوني عام ؛ حيث بقي لفترة طويلة من الزمن يتجول في غاباتها وعلى ضفاف أنهارها وأخاديدها. وبعد ما يقرب من مليون سنة، هاجر إلى خارج القارة الإفريقية متتبعًا الأنهار. ويعتقد الباحث الأمريكي نورمان هويلن، الذي يُعدُّ أهم من بحث في هذا المجال، أن الإنسان وصل إلى الجزيرة العربية إما من ناحية الجنوب ؛ حيث اجتاز باب المندب، أو من ناحية الشمال حيث تابع وادي النيل ثم انحرف نحو سيناء ومنها إلى داخل الجزيرة العربية التي يؤرخ وصوله إليها ـ من خلال دراسة مخلفاته ونتائج تحاليل علمية ـ إلى ما يقرب من مليون ونصف المليون من السنين.

العصر الحجري القديم الأسفل. دخل الإنسان القديم إلى الجزيرة العربية إبان العصر الحجري القديم الأسفل. ولقد وجدت أماكن هذا الإنسان في منطقة الدرع العربي ؛ حيث يعتقد أن الإنسان لم يصل إلى الهضبة العربية إلا في تاريخ متأخر عن وصوله إلى الدرع العربي بسبب عدم توافر مقومات الحياة من حجارة مناسبة لصناعة الأدوات ومياه وغطاء نباتي.

ومن أهم مواطن ذلك الإنسان العائدة إلى أقدم فتراته الثقافية، التي تعرف باسم الفترة الألدوانية، تأتي مواضع في حوض وادي تثليث في محافظة وادي الدواسر، ومواضع أخرى تقع في منطقة نجران. ولقد استخدم إنسان تلك المواضع حجر الكوارتز في صناعة أدواته التي كانت بدائية تتمثل في سواطير كبيرة وخشنة، وسواطير صغيرة تظهر على شكل قلب، ومكاشط كبيرة وصغيرة، وأدوات شبه كروية في شكلها.

تعدُّ المواقع التي وجدت في الشويحطية من أهم المواقع المؤرخة إلى العصر الحجري القديم الأسفل ؛ لأنها المواقع التي تعرضت لدراسة ميدانية تنقيبية ومسح لما يوجد على سطوحها. ويعود تاريخ اكتشاف تلك المواقع إلى عام 1977م حين وجد موقع أعطي الرقم "49/201" في سجلات هيئة الآثار على بعد 5كم إلى الجنوب من قرية الشويحطية يقع على مدرجات صخرية يجاورها جدول صغير. ولذا قام فريق أثري بإشراف نورمان هويلن عام 1405هـ، 1985م بإجراء مسح وتنقيبات في الموقع المشار إليه، ووجد أن هناك ستة عشر موقعًا تعود إلى تلك الحقبة الزمنية المبكرة، بعضها محاجر يحصل منها على المادة الخام، وبعضها يمثل أماكن لاستقرار الإنسان. وأغلب الأدوات الحجرية التي وجدت في تلك المواقع موغلة في القدم، والقليل منها يتبع لعصور لاحقة.

أسلحة حجرية تعود إلى فتر ة العُبيد.
نتيجة للمسوح التي تمت في الجزيرة العربية، وجدت مئات المواقع التي تعود إلى العصر الحجري القديم الأسفل إبان فترته الثقافية التي يطلق عليها المختصون فترة الثقافة الآشولية، التي تشمل امتدادًا زمنيًا يقرب من المليون عام تبدأ قبل مليون سنة من الوقت الحاضر وتنتهي قبل مائة وعشرين ألف سنة ؛ ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، وجد أكثر من مائة موقع منها مواقع تقع في غربها وبخاصة على حواف وادي فاطمة ومحافظة جدة ومحافظة الطائف، ومنها مواقع تقع في جنوبها الغربي، ومنها مواقع تقع في وسطها وبخاصة جنوب غرب الوسط. ويلاحظ أن إنسان تلك الفترة كان لا يزال يرتاد الأماكن التي أثبتت الدراسات الجيولوجية أنها أماكن توجد فيها بحيرات نشطة في تلك العصور وجداول ونهيرات تتلقف المياه الساقطة على المرتفعات المجاورة وتنقلها إلى تلك البحيرات. وعلى الرغم من كثرة المواقع المكتشفة، إلا أن أهمها هي مواقع وادي صفاقة في محافظة الدوادمي في منطقة الرياض.

مواقع صفاقة. من أهم مواقع العصر الحجري القديم الأسفل إبان ـ فترته الآشولية ـ مواقع وادي صفاقة في محافظة الدوادمي، ويبعد وادي صفاقة عن مدينة الدوادمي حوالي 27 كم إلى الجنوب الشرقي. وتوجد تلك المواقع في أماكن تتناثر فيها المرتفعات التي يفترض أنها تعرضت لفترات مطيرة أدت إلى تكون نهيرات تغذي بحيرة توجد بين تلك المرتفعات. ولذا أصبحت الأماكن التي تحيط بالبحيرة بمياهها العذبة مركزًا لاستيطان الإنسان ؛ حيث توفرت في تلك البيئة عناصر البقاء المتمثلة بالقوت، كالثروة الحيوانية والغطاء النباتي الجيد والماء الوفير، والصخور المناسبة لصناعة الأدوات والأسلحة مثل: صخور الأنديسايت والريولايت والجرانيت والكوارتز.

عثر في الموقع على آلاف الأدوات الحجرية التي جاء جلها من السطح والقليل منها جاء من التنقيبات، ويصل عدد الأدوات المكتشفة إلى أكثر من عشرة آلاف أداة تشتمل على: الفؤوس اليدوية، والسواطير، والمعاول، والأدوات ثنائية الوجه، وأدوات ثلاثية الأسطح، والنوايات، والمثاقب، والمناقش، وأدوات ذات تحزيز عميق ومشحوذة، وأزاميل، وسكاكين صغيرة من الرقائق. ويتبين من الدراسة المكانية ونتائج الدراسات الجيولوجية، أن الإنسان في هذا الموقع مارس نشاطات متعددة ترتبط جميعها بجمع البذور والخضراوات والتقاط ما يجده من الفواكه إلى جانب اعتماده على الصيد.

العصر الحجري القديم المتوسط. اكتشف عدد من المواقع التي تعود إلى العصر الحجري القديم المتوسط الذي خلف العصر الحجري القديم الأسفل وامتد حتى القرن الرابع والثلاثين قبل الوقت الحاضر تقريبًا. ولقد وجدت المواقع في جميع أرجاء الجزيرة العربية وتتركز غالبًا في حواف الأودية وفي نقاط انفراج السلاسل الجبلية. وتتمثل آثار هذا العصر في الأدوات والأسلحة الحجرية المصنوعة من عدة أنواع من الصخور. ومن أدوات وأسلحة إنسان ذلك العصر: المكاشط والأنصال التي منها المصقول والمثاقب والمعاول والأزاميل وأدوات أخرى.

العصر الحجري القديم الأعلى. وجدت مواقع تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى في جميع أرجاء الجزيرة العربية. وتركزت مواقع الإنسان حول الأودية الكبيرة وبالقرب من مصادر المياه الدائمة. واستمر الإنسان باستخدام الأدوات والأسلحة الحجرية، إلا أنه طور في تقنية صناعتها.

العصر الحجري الحديث. جاءت نهاية العصر الحجري القديم بظهور العصر الحجري الحديث، وكان ذلك مع بداية عصر الهولوسين ؛ أي قبل عشرة آلاف عام من حيث بدأت فترة جفاف عامة أدت إلى تضاؤل مصادر المياه الدائمة وضمور الغطاء النباتي مما حدا بالإنسان إلى أن يعتمد على نفسه من أجل إنتاج قوته بدلاً من اعتماده على ما يوجد في الطبيعة. فأخذ يبحث عن البيئات التي يتوافر فيها غطاء نباتي ومياه دائمة وتربة صالحة للزراعة ؛ فبدأ بزراعة الأرض وتربية الحيوانات وإكثارها عن طريق التوالد والمحافظة عليها. وبهذا التحول نشأت المستوطنات الدائمة التي ارتبط بها الإنسان لفترات طويلة. وتفيد الأبحاث الآثارية، أن الجزيرة العربية كانت مستقرًا للإنسان خلال العصر الحجري الحديث وبكثافة عالية. ويستدل على ذلك بكثرة المواقع التي أميط اللثام عنها، وبكبر مساحة بعضها واشتمالها على المنشآت الضرورية لاستقرار الإنسان مثل: المساكن والمعابد والمدافن. ومن بين المواقع المكتشفة مواقع الثمامة في منطقة الرياض.

مواقع الثمامة. من أهم المواقع الآثارية العائدة للعصر الحجري الحديث في المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية بشكل عام، تلك المواقع التي وجدت في شعيب الثمامة على بعد 90كم إلى الشمال الشرقي من مدينة الرياض. وجاء اكتشاف تلك المواقع، التي وجدت فيها أدوات حجرية، في عام 1982م عندما قام فريق من هيئة الآثار والمتاحف السعودية بتنفيذ مسح للمواقع. وفي عام 1983م، قام الفريق نفسه بإجراء حفريات أثرية في موقع من تلك المواقع. وفي عام 1990م، قام فريق من قسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود بزيارة لبعض المواقع في الثمامة واكتشف فيها أساسات منازل حجرية متنوعة الطرز ترتفع قليلاً عن الأرض، وعددًا من المقابر المختلفة في نماذجها ؛ فمنها ما هو مبني في الأرض، ومنها ما يظهر على شكل رجم، ومنشآت يعتقد أنها معابد، وبخاصة مبنى وجد أنه مكون من صفائح حجرية ضخمة منظومة بشكل دائري اندثر بعضها وبعضها وجد قائم كما هو في مكانه، كما عثر على آبار قديمة مطمورة، وبقايا كسر من أرحية حجرية. وإلى جانب ذلك، وجدت مجموعات كبيرة من الأسلحة الحجرية تشمل : رؤوس الحراب، ورؤوس السهام الطويلة ؛ منها المشرشر والمصقول على الجانبين، ومنها ما له رأسان. وهناك الرجوم الحجرية المتناثرة في المنطقة، وعدد آخر من مواقع الدوائر الحجرية، وكسر من الفخار وجدت بالقرب من الدوائر الحجرية.

نموذج للمقابر الركامية الحجرية، من موت بالقرب من مرات غرب الرياض.
مواقع العُبيد. وجد في الجزيرة العربية ما يقرب من خمسين موقعًا عرفت باسم مواقع العُبيد نسبة إلى ثقافة العُبيد التي عرفت أولاً في جنوب بلاد الرافدين. وتعود هذه المواقع الخمسون لهذه الثقافة بتقسيماتها الثلاثة: المبكرة، والمتوسطة، والمتأخرة، وتغطي جميعًا الامتداد الزمني البادئ بمنتصف الألف السادس قبل الميلاد والمنتهي بمنتصف الألف الرابع قبل الميلاد تقريبًا. وقد وجد أربعون موقعًا في المملكة العربية السعودية، وتحديدًا في المنطقة الشرقية، ووجد أن بعضها يقع على ساحل الخليج العربي وبعضها الآخر يقع في البر. ومما تجدر الإشارة إليه، أن مواقع فترة العُبيد تتفاوت في أحجامها ؛ فمنها الصغير ومنها ذو المساحة الواسعة. واستنادًا إلى نتائج الأعمال الميدانية المنشورة، فإن أهم تلك المواقع هي الدوسرية وأبو خميس وعين قناص. ومن أهم المواد الأثرية العائدة إلى هذه الفترة مجموعات من الفخار الملون وغير الملون، والأصداف البحرية الحلزونية، وأدوات حجرية تشمل رؤوس سهام وحراب بأشكال عديدة.

عين قناص. تقع في الجزء الشمالي لواحة العيون وهي جزء من واحة الأحساء، على بعد كيلومتر واحد إلى الشرق من قرية المرة، بين خط العرض 25,37 وخط الطول 49,36. تم التعرف على هذا الموقع في أوائل السبعينيات على إثر جهود بعض موظفي شركة أرامكو السعودية. وفي عام 1972م قام عبدالله حسن مصري بمسح سطحه وحفر بعض المجسات فيه. وتبين من تلك المجسات أن الموقع قد مر باستيطان يسبق ظهور فترة العُبيد، ثم استمر لتصبح المادة الآثارية العائدة لفترة العُبيد هي الشائعة. ويتضح من نتائج تحليل الطبقات في أحد الخنادق أن الموقع يحتوي على أربع عشرة طبقة أثرية. اكتشف في الطبقات الأربع العليا كسر فخارية، وأدوات حجرية، وأساسات جدران حجرية وطينية، وبقايا تدل على وجود جدار يحيط بتلك الجدران مشيد من الأخشاب وأغصان الأشجار. بينما اكتشف في الطبقات السفلى أدوات حجرية فقط، وفي أسفل طبقة في الحفرية اكتشفت فتحة بئر مطمورة يعتقد أنها تعود لبداية الاستيطان في الموقع. ويبدو أن شيئًا ما حدث في المنطقة مما أدى بالتكدس السكاني إلي التحول ناحية الخليج العربي مباشرة ؛ نهاية الفترة، ربما حدثت بعض التحركات السكانية مما أدى إلى انتقال الثقل البشري إلى الساحل وبخاصة المثلث الذي تشغله الإمارات العربية المتحدة في اليوم الحاضر حيث اكتشفت حضارة عرفت باسم حضارة هيلي.

موقع هيلي رقم 8 المتعدد الفترات الذي استمر منذ منتصف الألف الرابع ق.م. حتى الربع الأول من الألف الثالث ق.م. (صورة من الشمال الشرقي).

حضارة هيلي:

تنسب حضارة هيلي إلى منطقة هيلي في الإمارات العربية المتحدة حيث شخصت مادتها الحضارية لأول مرة التي أرخت ـ بعد دراسة مستوطنة هيلي رقم "8" ـ إلى ما بين منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وحتى الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد. وهذه الحضارة أقدم الحضارات المميزة التي ظهرت بعد اختفاء فترة العُبيد التي لم يوجد من مادتها الحضارية في مستوطنة هيلي شيئًا. وقد بينت نتائج الدراسات الميدانية في مستوطنة هيلي رقم "8" بشكل قاطع أن الإنسان أصبح قاطن قرى تتوافر فيها مستلزمات الاستقرار الرئيسية، كالزراعة والمياه التي وجد من مصادرها عدد من الآبار والمساكن، والصناعة كصناعة الأدوات الحجرية والمعدنية. واستخدم في عمارة المنازل الحجر بالإضافة إلى الطين. وتتميز مستوطنات تلك الفترة بأنها صغيرة في حجمها ومتجاورة في انتشارها المكاني. كما أفادت أعمال المسح التي أجريت هناك أن لكل مستوطنة مقبرة غير بعيدة عنها.

تشمل المادة الثقافية لهذه الفترة مجموعات من الآنية الفخارية التي تحتوي على الكثير من الأصناف والأنماط والصناعات المتغايرة في تقنيتها، ويظهر في تلك المجموعات أنماط مزخرفة استخدم اللون الأسود في تشكيل عناصر زخرفتها. ووصلت صناعة الأواني الحجرية درجة من التقدم مكّنت الإنسان من الاستفادة من عدة أنواع من الصخور أوفرها رواجًا حجر الكلسيت. كما وجدت أوان ثبت من خلالها أن الإنسان كانت لديه القدرة على زخرفة بعض أوانيه الحجرية بالحز على الرغم من صلابة سطوحها. كما وجدت مشغولات معدنية تفيد أن هذه الفترة عرفت صهر المعادن وقولبتها وتشكيلها في صناعة الأسلحة والحلي ؛ فقد التقطت معثورات مصنوعة من النحاس مثل: أنصال السكاكين، والمخارز، والمثاقب، وأدوات تدل على قدرة إنسان تلك الفترة ومهارته ؛ وهي نتاج مقدرته على مزج القصدير بالنحاس. وبتفحص الكتل الطينية الساقطة من جدران المنازل وسقوفها، تبين أن الإنسان احترف صناعة الحُصر والسلال التي تظهر طباعتها على تلك القطع الطينية. ولصناعة حليه، استخدم الإنسان الأصداف البحرية التي شكل منها الخواتم والخرز، بالإضافة إلى مواد أخرى وبخاصة الأحجار الكريمة.

مدفن هيلي الكبير يقع داخل حديقة هيلي بعد إعادة بنائه في الألف الثالث قبل الميلاد.
شكلت الزراعة المروية من الآبار المحفورة، دعامة من دعائم الاقتصاد، حيث تكشّف في ضوء التحاليل العلمية أن الزراعة اشتملت على النخيل والشمام والشوفان والقمح والذرة والشعير. أما التجارة، فتدل الكتابات المسمارية في بلاد الرافدين على أن بعض السلع كانت تستورد من الجنوب، وعلى وجه التقريب من الركن الجنوبي الشرقي للجزيرة العربية، وعليه فإنها كانت تمر عبر الأراضي التي سيطرت فيها الثقافة الهيلية. ويدل وجود القصدير في مستوطنة هيلي "8" على أنه كان يجلب من منطقة أفغانستان حيث توجد مصادره، ثم يصنّع ويعاد تصديره. وتمثل المعادن شاهدًا على التجارة ؛ فيبدو أنها كانت تجلب من مناجم عُمان وتصدر إلى بلاد الرافدين حيث كانت الحاجة إليها قائمة. ومن بقايا العظام التي وجدت وحللت عُرف أن المعز والأغنام والأبقار والجمال كانت من الحيوانات التي استفاد منها إنسان فترة هيلي.

وتفيد الدراسات الآثارية أنه في نهاية الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، ظهرت حضارة أخرى لم تلبث أن طغت على قوة حضارة هيلي فانتزعت منها القيادة، علمًا أن الاستيطان في منطقة هيلي استمر حتى نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. ولكن الجديد أن نمطية الاستيطان المكانية تحولت من البر وحياة الواحات إلى القرب من ساحل الخليج العربي والجزر الواقعة فيه، وعرفت هذه الحضارة باسم حضارة أم النار. ويبدو أن العناصر البشرية التي أحدثت تحورًا في الاستيطان قد قدمت إلى الجزيرة العربية من الشرق نظرًا لوجود التشابه بين الأواني الفخارية العائدة إلى فترة أم النار، وبين الأواني الفخارية التي وجدت في مستوطنة بمبور الواقعة في الهضبة الإيرانية. وبعد قدوم تلك العناصر البشرية، اندمجت بالسكان السابقين مكونة حضارة جديدة عرفت باسم حضارة أم النار.

حضارة أم النار:

سميت هذه الحضارة بذلك الاسم نسبة إلى جزيرة "أم النار" الواقعة في الخليج العربي على بعد عشرين كيلومترًا من مدينة أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة، وقد وجدت فيها البعثة الدنماركية عام 1959م ـ لأول مرة ـ المخلفات الحضارية المميزة لهذه الفترة. ووجد الانتشار المكاني الرئيسي لهذه الفترة في الإمارات العربية المتحدة حيث وجدت المستوطنات الساحلية والبرية وتلك التي تقع في جزر الخليج العربي. ويُعدّ موقع تل تاروت في جزيرة تاروت، في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية، من أهم مواقع تلك الفترة إضافة إلى مواقع جنوب الظهران.

وقد أفادت التقارير الآثارية المنشورة في حولية الآثار في الإمارات العربية المتحدة بأعدادها الخمسة، أن الفترة من أقوى الفترات الحضارية في الجزيرة العربية السابقة على ظهور الممالك. وتدل على تلك القوة، وفرة المادة الحضارية التي تمثلت بمواد ثابتة مثل العمارة السكنية وعمارة المقابر التي تحتوي واجهاتها على رسوم حيوانات منحوتة كالغزلان وبعض الزواحف مثل الثعابين، وتمثلت كذلك في مادة آثارية منقولة تشتمل على: الأختام، والتماثيل، والنقوش، والآنية الفخارية، والآنية، من الحجر الصابوني وآنية المرمر الأبيض، وخواتم، وأساور، وخلاخيل، وسهام، وشفرات حلاقة، وأزاميل، ومخازر، وصنارات لصيد الأسماك. وبالنسبة للخرز فقد وجد منه كميات كبيرة صنعت من مواد مختلفة شملت: الحجر الصابوني، والعقيق، والأصداف، واللؤلؤ، والحجر البركاني، والصوان، والصلصال.

في نهاية منتصف الألف الثالث، يبدأ ذكر مركز حضاري آخر في الكتابات المسمارية في بلاد الرافدين، مما يشير إلى أن تحولاً قد حدث ولم يلبث أن ظهرت على إثره الحضارة التالية. ويعتقد الباحثون، وعلى رأسهم جيفري بيبي رائد الدراسات ذات الصلة بهذه الفترة، أن هجرات بشرية حدثت من وسط الجزيرة العربية ـ وبخاصة من منطقة اليمامة باتجاه الخليج العربي ـ تبلورت بعد أن اندمجت بالسكان المحليين في ظهور قوة جديدة نقلت الثقل الاستيطاني إلى جزر الخليج العربي وبخاصة جزيرة البحرين في البحرين وجزيرة تاروت في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية، كما انتعش الاستيطان الداخلي في البر. وعرفت هذه الحضارة باسم حضارة دلمون.

حضارة دلمون:

عرفت هذه الفترة باسم حضارة دلمون ودلمون اسم أطلقه سكان بلاد الرافدين على الأراضي الواقعة إلى الجنوب من بلادهم وكانوا يتاجرون معها. وربما كانت هذه الفترة أقدم فترة حضارية يمكن أن تسمى باسم مملكة ؛ فقد ورد في الكتابات القديمة ما يشير إلى وجود ملوك لها جرت لهم أحداث مع مجاوريهم في بلاد الرافدين والهلال الخصيب. وقد عرفت معبوداتها، وقواربها البحرية، وتجارتها، وصادراتها، ووارداتها، وملوكها، ونظام إدارتها، وأهميتها للعالم القديم. ويتضح أن جميع أجزاء الجزيرة العربية كانت عامرة بالاستيطان خلال الزمن المشار إليه آنفًا ؛ فقد اكتشفت مواقع في مختلف أرجائها تؤرخ إلى زمن سيادة دلمون.

والمادة الآثارية لهذه الحضارة متنوعة، وتشتمل على الثابت مثل : المنازل، وما يتصل بها، والأسوار، والآبار المطوية، والمعابد، والمقابر المتنوعة في تصاميمها ومساحاتها. أما المادة المنقولة فهي متنوعة أيضًا، وتشمل بشكل عام: المصنوعات المعدنية، مثل المجسمات الحيوانية والآدمية، والأوزان، وأدوات الزينة، وشفرات الحلاقة، والمرايا البرونزية، والأسلحة المعدنية. وهناك مجموعات من الآنية الفخارية، ومجموعات من الآنية الحجرية المصنوعة من عدة أنواع من الصخور مثل: الحجر الصابوني، والحجر اللين، والمرمر الأبيض.

اعتمدت الحياة الاقتصادية لحضارة دلمون على دعامتين أساسيتين ؛ الأولى التجارة، والثانية الزراعة. وقد كانت دلمون معبرًا لصادرات مكّان الذي يعتقد أنه الاسم القديم لعُمان أو الركن الجنوبي الشرقي للجزيرة العربية، وملوخا الذي يعتقد أنه الاسم القديم لبلاد السند. فمن الأولى استوردت دلمون المواد المعدنية والثمار والمواد العطرية، ومن الثانية استوردت الأحجار الكريمة والأخشاب النفيسة وسلعًا أخرى. وتفيد النصوص القديمة المكتوبة أن بلاد الرافدين كانت تستورد من دلمون: الذهب، والبرونز، والنحاس، والفضة، والعاج، ومصنوعات من العاج، والأخشاب، والمرجان الأبيض، والعقيق الأحمر، واللازورد، وعددًا آخر من أنواع الأحجار الكريمة، ومحار اللؤلؤ، والتمور، والبصل، والعطور، وبعض الحيوانات. وقد شكّلت التجارة ـ بشكل عام ـ المورد الأساسي لدلمون وتجارة المعادن بشكل خاص، كما تاجر الدلمونيون بالأواني المصنوعة من الحجر الصابوني والمعادن. ولا شك أن الزراعة، وخاصة زراعة النخيل، كانت تمثل أحد موارد الاقتصاد الرئيسية ؛ وتدل المصادر المكتوبة على أن شجر النخيل كان ينتشر في المنطقة بكثافة، وتمثل ثماره أحد الصادرات المهمة.

بنهاية الربع الأول من الألف الثاني، يبدأ ذكر أمة عرفت من المصادر التاريخية باسم أمة مدين، فتأخذ القيادة من مراكز الحضارة الدلمونية في شرقي الجزيرة العربية، ومعها ينتقل الثقل الاستيطاني إلى الشمال الغربي للجزيرة العربية وتشكّل حضارة عرفت بحضارة مدين.

مدخل لضريح نبطي في المملكة العربية السعودية.
رسم صخري لقافلة عثر عليه في شمالي الجزيرة العربية.
العمارة المبكرة في وادي حنيفة في وسط شبه الجزيرة العربية.
بقايا آثار البلدة الإسلامية بالعلا.
نموذج للرسوم الصخرية من موقع كهف القويع بالقرب من حوطة بني تميم.

حضارة مدين:

تحت ظروف لا تعرف تفاصليها، يبدو أن الثقل الاستيطاني قد تحول ابتداءً من نهاية الربع الأول من الألف الثاني قبل الميلاد إلى الشمال الغربي من الجزيرة العربية، حيث تشير الأبحاث الأثرية إلى اكتشاف مستوطنات كبيرة تحتوي على مادة أثرية تعود لذلك الزمن. ومن أهم المواقع التي تعود إلى تلك الحضارة مواقع: قُريِّة، وتيماء ومغاير شعيب، والبدع. واكتشف حديثًا في الشمال الغربي للمملكة العربية السعودية ما يقرب من عشرين موقعًا تحتوي على المادة الأثرية المميزة لحضارة مدين. وتمثل قُريِّة المستوطنة الرئيسية والنموذجية لتلك الفترة.

قُريِّة. تقع قُريِّة على بعد سبعين كيلومترًا إلى الشمال الغربي من مدينة تبوك. ويتكون الموقع من مستوطنة مدنية بها سور مشيد بالحجارة، ولا تزال بعض أجزائه قائمة. ووجد أن السور مزود بأبراج للمراقبة وعدد من البوابات الرئيسية. إضافة إلى ذلك، يوجد عدد من المنشآت الحجرية تقوم على تلّة مطلة على المستوطنة اعتقد أنها بقايا حصن قديم. وفي سفح الجبل المحاذي للمستوطنة، وجدت مغارتان بحجم كبير كلاهما يحمل ما يدل على أنهما منحوتتان. وفي الشعاب القريبة من المستوطنة وجدت بقايا أنظمة تصريف مائي مثل القنوات والحواجز، كما وجد ما اعتقد أنه بقايا حظائر لحفظ الحيوانات. وخارج المستوطنة وجد قصران يعتقد أنهما يؤرخان إلى الفترتين النبطية والرومانية.

يعرف من المصادر التاريخية، أن هذه الفترة عاشت نشاطًا اقتصاديًا قويًا مع بلاد الشام ومصر القديمة، كما كان هذا الموقع معبرًا لصادرات جنوب الجزيرة العربية ووارداتها، كما تدل على ذلك النشاط التجاري المادة الأثرية التي وجدت في المستوطنات الرئيسية في فلسطين والأردن. وكان الجمل وسيلة النقل الرئيسية ؛ فإلى جانب الروايات التاريخية، يظهر كأحد العناصر الزخرفية التي يزين بها فخار مدين. والواضح أن الزراعة شكلت دعامة رئيسية للاقتصاد ومكملة للتجارة، فإلى جانب ما جاء في الكتب التاريخية عن نشاطات أمة مدين الزراعية، اكتشفت أحواض زراعية، وسواقي لريها، وآبار لتوفير الماء، وحواجز لمنع مياه الشعاب من الضياع وجمعه للاستخدام في الأراضي الزراعية. ولاشك أن الرعي كان من الأعمال الشائعة خلال تلك الفترة ؛ حيث تحتوي الرسوم الصخرية على مناظر لعدد من الحيوانات، كما تدل على ذلك أيضًا المباني الجدارية التي اكتشفت في موقع قُريِّة وفسرت على أنها أجزاء من جدران حظائر لحفظ الحيوانات. وعلى الشيء نفسه، تدل المغارات الموجودة في الجبال المكتنفة للمستوطنة التي يعتقد البعض أنها كانت تستخدم لحفظ الحيوانات.

وتدل آخر الدراسات المنشورة عن شمال غرب المملكة العربية السعودية، أن الاستيطان في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية استمر حتى منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد تقريبًا. ويعتقد أنه بسبب اضطرابات سكانية وتحركات بشرية في الهلال الخصيب، نتج عنها حروب وتدهور اقتصادي حدث مع نهاية الألف الثالث قبل ميلاد المسيح، تدهور الاستيطان في الجزيرة العربية، وبخاصة في شمالها الغربي الذي مثل فيما قبل مركز الثقل الاستيطاني مما قاد إلى التحول إلى حياة البادية التي أصبحت النمط الاستيطاني الشائع وبقيت هكذا لمدة قرنين من الزمان تقريبًا. ومع حلول الألف الأول قبل الميلاد، بدأ يرد ذكر لوجود كيانات سياسية تبلورت في أنحاء مختلفة من شبه الجزيرة العربية.

في جنوب شبه الجزيرة العربية عرفت ستة كيانات سياسية رئيسية هي: معين، وسبأ، وقتبان، وحضرموت، وأوسان، وحمير. حكمت تلك الكيانات مرة متعاقبة ومرة متزامنة. وبشكل عام تؤرخ بداية أقدمها إلى بداية الألف الأول قبل الميلاد ونهاية آخرها إلى الربع الأول من القرن السادس الميلادي. وفي وسط شبه الجزيرة العربية قامت مملكة طسم وجديس ومملكة كندة وكيان بني حنيفة. وهناك أمة ثمود ومملكة آدوم، ومملكة ديدان، ومملكة لحيان، ومملكة الأنباط في شمالي شبه الجزيرة العربية وشمالها الغربي.

وخلال هذا المد الزمني البالغ ما يقرب من ألف وستمائة سنة، ترك الإنسان مئات المستوطنات التي لم يتعرض أغلبها لأي عمل أثري. وتحتوي مستوطنات إنسان ذلك المد الزمني على كميات ضخمة من الآثار الثابتة والمنقولة. ومن أهم تلك المستوطنات شبوة، وهجر بن حميد، والأخدود، والفاو، والسيح في الأفلاج، والخضرمة في الخرج، وتيماء، والعلا، ومدائن صالح في منطقة تبوك، وثاج في المنطقة الشرقية، والرميلة في الإمارات العربية المتحدة.

شبوة:

عاصمة دولة حضرموت، وتقع في وادي عرمة في الاتجاه الشمالي الشرقي. تشكل تلال الموقع مثلثًا طول ضلعه الأول 900م والثاني 550م. وعلى الرغم من أن هناك إشارات إلى هذه المستوطنة في أعمال قديمة، إلا أن كشف حقيقة المستوطنة جاء مع بداية مجيء بعثة فرنسية بدأت العمل فيه عام 1976 - 1977م، وبعد توقف لمدة عامين، استمر العمل حتى عام 1987م. ونتيجة للدراسات التي أجرتها تلك البعثة ونشرتها، عرف أن الاستيطان في الموقع يعود في بدايته إلى نهاية الألف الثاني قبل الميلاد واستمر حتى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. أما المادة الآثارية فقد وجد منها الثابت والمنقول ؛ فالثابت تمثل بعمارة المساكن التي استخدم الحجر في أساساتها والطين والحجر في جدرانها. وهناك القصرا لملكي الذي وجد ما يدل على مخططه، وبعض اللوحات المزخرفة التي كانت تستند على الجدران، وكذلك القبور، ومنها قبور كهفية شيدت بالحجارة وسقفت بالأخشاب وتظهر بهيئة كهف. كما وجد سور للمدينة مزود بأبراج للمراقبة. وهناك عمارة خارج السور المحيط بالمدينة، كما وجدت حواجز مياه في الشعاب المحيطة بالمستوطنة. ووجد من الآثار الثابتة مجموعة من الأواني الفخارية تمثل مختلف الأحجام المعروفة في العصور القديمة وتتفاوت في درجة إتقان صناعتها. وهناك كمية من المجامر التي يبلغ عددها أربعين مجمرة أغلبها من النمط المربع الصغير، وتظهر عليها زخارف محفورة ومحزوزة بأشكال هندسية وحيوانية. كما اكتشفت كميات من الخرز بأنواع متعددة، وقطع عملة من بينها قطع يونانية، وخناجر معدنية، وأختام بعضها مصنوع من الذهب. كما وجد فيها أكثر من مائة قطعة من العاج من بينها صندوق تظهر عليه زخارف متعددة.

رميلة:

تقع مستوطنة رميلة في منطقة هيلي في الإمارات العربية المتحدة. وعلى الرغم من أن المستوطنة قد تعرضت للتخريب، إلا أن مساحتها المتبقية تبلغ 800م طولاً ومائة متر عرضًا. وتعود بداية الأعمال الآثارية في المستوطنة إلى أيام البعثة الدنماركية عندما نفذت كارن فرايفلت فيها أسبارًا اختبارية عام 1969م. ونفذت إدارة الآثار والسياحة في الإمارات العربية المتحدة عام 1974م - 1975م أسبارًا أخرى. وبدأ العمل الذي أماط اللثام عن آثار المستوطنة عام 1980م عندما شرعت بعثة فرنسية بإجراء مسح لها وبحفر أسبار اختبارية، واستمر العمل من عام 1981م حتى عام 1983م. وفي ضوء ما جاء في التقارير المنشورة بخصوص تلك الأعمال تبين أن المستوطنة واحدة من أهم مستوطنات الألف الأول قبل الميلاد في شرقي شبه الجزيرة العربية ؛ حيث تبين أن استيطانها يمتد ليشمل فترتين رئيسيتين: الأقدم تؤرخ للنصف الأول من الألف الأول، والأحدث تؤرخ للنصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد. واتضح أيضًا أنها تشمل آثارًا ثابتة وأخرى منقولة.

تتمثل الآثار الثابتة في المنازل السكنية التي تم الكشف عنها التي اتضح أنها تحتفظ بارتفاع قدره أربعين سنتيمترًا وأنها مشيدة من الطين بأحجام مختلفة وغالبًا ما تأخذ شكل المستطيل، ووجد فيها مواقد بعضها مربع الشكل وبعضها مستطيل.

أما المادة الآثارية المنقولة فتشمل مجموعات من الأواني الفخارية المتنوعة الأشكال والأحجام وتنقسم إلى صنفين ؛ أحدهما يتمثل بالأواني المزخرفة بالألوان وبخاصة اللونين الأسود والأحمر. وتظهر على الأواني عناصر زخرفية متعددة أكثرها ظهورًا عنصر الشبكة المتقاطعة التي قد تكون منتظمة وقد تكون غير ذلك. وهناك العناصر الأخرى كالخطوط المتموجة والأشرطة الأفقية. ويتمثل الصنف الثاني في الأواني غير المزخرفة التي تمثل الغالبية العظمى في المجموعة المكتشفة، وتظهر عليها أحيانًا زخارف محزوزة تمثل الشبكة المتقاطعة أو أشكالاً هندسية كتلك التي تظهر على الأول. وتعكس المجموعة تنوعًا في جودة الصناعة ودرجة نقاء العجينة الصلصالية. ومن المواد الآثارية المنقولة، مجموعة من الأواني المصنوعة من الحجر كحجر الستيتايت والتيتش، وتشمل المجموعة الكؤوس وأواني متنوعة الأشكال ويظهر على بعضها مقابض ومصبات وزخارف متنوعة العناصر. ووجد في المستوطنة مجموعة من الأدوات والأسلحة المعدنية صنع معظمها من البرونز. ومن تلك الأدوات والأسلحة: حلقات ورؤوس سهام متنوعة الأطراف، وخنجر وسواران ومثاقب وإبر ؛ منها إبر مخصصة لخياطة الجلود. كما اكتشفت مجموعة من الأدوات الحجرية كأدوات السحق والمطارق والمدقات. ووجدت مجموعات من الخرز المتنوع الأشكال مصنوع من أحجار مختلفة مثل: اليشت، والعقيق، والجمشيت، والجزع، والعقيق اليماني، والزجاج، والذهب، ومواد متكلسة. وجاء من الموقع مجامر فخارية، ودمى طينية تمثل حيوانات وفيها واحدة تمثل إنسانًا، وأختام عليها رسوم محزوزة بطريقة هندسية وصور رمزية.

مجامر قديمة من موقع الصناعية في تيماء.
طبق فخاري بالألوان، عثر عليه في المنطقة الصناعية بتيماء في المملكة العربية السعودية.

تيماء:

تقع تيماء في منطقة تبوك على بعد 150كم شمال غرب العلا. زار المدينة عدد من الرحالة الغربيين من أهمهم تشارلز داوتي، وتشارلز هوبر، وجوليس أويتنج، وعدد من الباحثين العرب مثل: الشيخ حمد الجاسر، وعبدالقدوس الأنصاري، وعادل عياش، وصبحي أنور رشيد. كما زارتها البعثة الكندية عام 1962م، والبعثة الإنجليزية عام 1968م. وبعد ذلك عملت فيها هيئة الآثار السعودية لعدد من المواسم ونشرت نتائج أعمالها الأولية في حولية أطلال الصادرة عن تلك الهيئة.

ووجد في تلك المدينة مواد آثارية ثابتة وأخرى منقولة. وتتمثل المادة الثابتة في المستوطنة، ومنازلها السكنية، وسورها المحيط بها من ثلاث جهات وجزء من الجهة الرابعة. والسور مزود بأبراج للمراقبة وبوابات ذات اتساعات مختلفة. وهو مبني من الصخور الموجودة في المنطقة بعرض قد يصل إلى ثلاثة أمتار. وفي داخل السور، يوجد عدد من القصور أشهرها قصر الحمراء وقصر الرضم وقصر السموءل، وجميعها مبني من الحجارة الضخمة. وهناك مقابر المدينة في موقع الصناعية المحفورة في الأرض وجدرانها مشيدة بالحجارة التي يظهر على بعضها كسوة من الطين. وهناك مجموعة من المنشآت المعمارية خارج سور المدينة. ويتناثر حول المدينة عدد من أبراج المراقبة المشيدة بالحجارة بشكل شبه دائري أو مربع. كما وجد بعض المنشآت المائية المتمثلة بقنوات ري مشيدة أو منحوتة في باطن الأرض وكذلك بعض السدود.

نماذج للأسلحة المعدنية من موقع الصناعية في تيماء.
والمادة الآثارية المنقولة عديدة الأنواع ؛ فمنها كميات من الأواني الفخارية التي تؤرخ إلى فترات أشهرها فترة نهاية الألف الثاني قبل الميلاد وحتى منتصف القرن السادس قبل الميلاد. وتشتمل الأواني على مختلف الأحجام وتختلف في تقنية صناعتها ؛ فمنها المزخرف بالتحزيز، والمزخرف بالألوان، والمزخرف بالتطعيم، والمزخرف بالإضافة. كما وجدت مجموعات من الخرز تشمل الخرز الحجري والخرز المصنوع من أحجار كريمة متنوعة. ويظهر الخرز بأشكال عديدة وألوان مختلفة. ووجدت مجموعة من الأختام الحجرية والفخارية وحلي معدنية، وبعض المعثورات الخشبية، وكميات من الأواني الحجرية، وأدوات طحن الحبوب، وأواني القرابين ومجامر فخارية تظهر عليها عناصر زخرفية ملونة بالأحمر والأسود. وعثر على كمية من النقوش المحزوزة على كتل من الحجارة من أشهرها مسلة تيماء والحجر المكعب. وهناك عدد من الدمى الفخارية التي تمثل حيوانات.


واجهتا ضريحين في خريبة بمدائن صالح في المملكة العربية السعودية.
ضريح في مدائن صالح من الداخل يوضح الأشكال المستطيلة للمدافن.

مدائن صالح:

تقع مدائن صالح على بعد 18كم إلى الشمال من مدينة العلا. زار الموقع عدد من الرحالة الأوروبيين من أهمهم: أوجست والين، وبوركهارت، وتشارلز داوتي. كما زارتها بعثة الأبوين جوسين وسافناك الفرنسية، وهاري سنت جون برديجر فيلبي والبعثتان الكندية والإنجليزية. ثم نفذت فيها هيئة الآثار السعودية موسم تنقيب. ويتبين في ضوء ما جاء في الدراسات المنشورة أن الموقع كان مستوطنًا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، إلا أن فترة ازدهار استيطانه كانت ما بين القرنين الأول قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، وهي الفترة التي تمثل وقوع المستوطنة تحت السيطرة النبطية.

وتتمثل المادة الآثارية بالثابت والمنقول ؛ أما الثابت فيمثله الجزء السكني والمقابر المنحوتة، ولم ينقب من الجزء السكني إلا جزء يسير تبين منه أن المنازل مشيدة بالحجارة الجيرية والرملية. أما المقابر المنحوتة فهي بادية للعيان حيث إنها منحوتة على واجهات الجبال المحيطة بالمستوطنة. والمقبرة واجهة جبل سويت ثم نحتت فيها غرفة مربعة الشكل تقريبًا ونحت فوق مدخلها مثلث وعلى جوانبها أنصاف عمدان تنتهي بأنصاف تيجان وشكل نصف هرمي على كلتا النهايتين العلويتين. ويعلو مدخل المقبرة نقش بالخط النبطي يحدد ملكيتها ويسمى مالكها ومن لهم الحق في استخدامها ويحذر من سوء استخدامها. وهناك مجموعة من النقوش النبطية الموجودة على واجهات المقابر، بالإضافة إلى مجموعة أخرى وجدت على واجهات الجبال القريبة من المستوطنة التي قيل إنها نقوش لحيانية.

تتمثل المادة الآثارية المنقولة في مجموعات من الأواني الفخارية المتنوعة ؛ فمنها الخشن، ومنها الناعم، ومنها المزخرف بالحز، ومنها المزخرف بالألوان. ومن بينها مجموعة من الأواني النبطية المشهورة بضآلة سمكها الذي يشبه سمك قشرة البيضة، وتظهر عليها زخارف هندسية جميلة باللونين الأسود والأحمر. ومن أهم آثار الموقع، مجموعة من العملة المعدنية جلّها من العملة النبطية.

الفاو:

تقع مستوطنة الفاو على بعد 750كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة الرياض في محافظة وادي الدواسر. زار الموقع عمال شركة أرامكو السعودية في الخمسينيات من القرن العشرين، ثم زارها سنت جون برديجر فيلبي عام 1949م. وفيما بين عامي 1950 - 1951م زارتها بعثة فيلبي وركمانز وليبنز. وفي عام 1969م زارها الباحث الأمريكي ألبرت جام، وابتداءً من عام 1973م أصبحت المستوطنة حقل تدريب لطلاب قسم الآثار والمتاحف في جامعة الملك سعود، وعمل فيها عدد كبير من المختصين. واستنادًا إلى ما جاء في الأعمال المنشورة بخصوص تلك المستوطنة تتمثل الآثار فيها بالثابت والمنقول.

تتمثل الآثار الثابتة في العمارة السكنية التي كشف منها حتى الآن جزء كبير تبيّن منه أن مادة العمارة الأساسية هي الطين، إلا أن أساسات المنازل كانت تبنى أحيانًا بالحجارة ويستخدم الطين في ربطها. وتظهر المساكن غالبًا بشكل مربع تقريبًا بداخلها ساحة وسطية تنتظم عليها الغرف التي قد تكسى جدرانها بالجص وتزخرف بلوحات ملونة تظهر عليها أحيانًا بعض المخربشات، وربما استخدمت إحدى الغرف كدكان أو مكان نسج أو طحن حبوب. ويزود المسكن بمطبخ ودورات مياه. ويتضح أن بعض المساكن شيد من دورين، ويدل على ذلك وجود الدرج المؤدي إلى الأدوار العليا. وعمومًا، تتفاوت منازلها ؛ فمنها الكبير أو ما يمكن أن يسمى قصرًا، ومنها المتوسط ومنها الصغير. وكانت سقوف المنازل تحمل على عوارض خشبية وتعرّش بأغصان الأشجار ثم تغطى بالطين. ومن الآثار الثابتة كذلك، المعابد التي وجد عدد منها في المستوطنة، ومن أشهرها معبد ودّ المشيد بالحجارة المعني بقطعها جيدًا وقد زخرف بعضها بأفاريز طرفية. وعلى واجهات جدران المعبد الداخلية وجد عدد من اللوحات البرونزية التي تظهر عليها نقوش بخط المسند وبشكل نافر. كما أن هناك السوق الذي يحيط به سور مكون من ثلاثة جدران مترادفة ومزودة بعدد من الأبراج بعضها ركني وبعضها في منتصف الجدران. وينتضد على الجوانب الداخلية للسور صفوف من الدكاكين ذات الدورين التي شيدت ـ غالبًا ـ بالطين، إلا أن الأجزاء السفلية لبعضها شيد بالحجارة. ويوجد داخل السور بئر صخمة عميقة مطوية بالحجارة ذات فوهة دائرية. وهناك عدد من المقابر المحفورة في باطن الأرض، وتتكون الواحدة منها من عدد من الغرف، اعتمد بعض هذه المقابر على قوة التربة، وزود بدرج بني من قطع الحجارة المقطوعة جيدًا، وبعضها ـ بعد حفره ـ حدد بجدران حجرية لضعف تربته. ويعلو بعض المقابر برج مشيد بالطين قد يصل ارتفاعه إلى أكثر من ثلاثة أمتار، وله قاعدة أعرض من جسمه العلوي. وبالإضافة إلى ما مر، هناك عدد من الآبار المحفورة والمطوية بالحجارة أو المنقورة في الصخر.

أما المادة المنقولة فهي عديدة ومتنوعة، ومن أهمها الأواني الفخارية التي وجدت بكميات كبيرة ؛ منها المزخرف بالحز ومنها الملون ـ وهو قليل ـ ومنها المستورد وأغلبه صناعة محلية. وتحتوي تلك الكميات على أنماط متنوعة في الحجوم والأشكال تتناسب مع متطلبات مجتمع مقيم بعدد كبير ومتفاوت في الثروة. وهناك عدد من الأواني الحجرية، وبخاصة أواني الحجر الصابوني، وأدوات حجرية متنوعة. ووجدت مجموعات من الأواني الزجاجية غير المنفذة للضوء والشفافة بألوان متنوعة. ووجدت مجموعة من قطع العملة المختلفة، ومجموعة من الحلي الذهبية المتنوعة، ومجموعات حلي صنعت من مواد مختلفة. وهناك الأدوات الخشبية المتنوعة وكذلك التوابيت. وجاءت من الموقع مجموعة من التماثيل المعدنية الآدمية والحيوانية والأسطورية. كما وجدت في المستوطنة مجموعة من النقوش التي حزّت على قطع من الحجارة. كما جاءت مجموعة من المجامر صنع معظمها من الحجر، وهي ذات أحجام مختلفة وتظهر عليها زخارف هندسية وأحيانًا حروف قديمة محزوزة.

ثاج:

تقع مستوطنة ثاج في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية في وادي الستار، وتبعد عن مدينة الجبيل حوالي 80كم غربًا. وتقوم المستوطنة على أرض سبخة تحيط بها من جميع الجهات. ولم تكن المستوطنة مجهولة، إلا أن أهميتها الآثارية جاءت مع مرور الكابتن شكسبير بها عام 1911م. وزارها بعده عدد من الباحثين منهم دكسون وزوجته فايوليت عام 1942م، ثم زارتها فايوليت وحدها عام 1961م. وفي عام 1962م زارها الباحث الأمريكي بول لاب بصحبة السيد ماندفيل وزوجته. وفي عام 1962م زارها السيد هارنجتون. وفي عام 1968م أجرت البعثة الدنماركية أعمالاً ميدانية وحفريات اختبارية في الموقع. وفي عام 1978م زارها فريق المسح التابع لهيئة الآثار والمتاحف خلال تنفيذه المرحلة الثانية لمسح المنطقة الشرقية. ونفِّذ في المستوطنة موسما حفر آخريْن عامي 1983م و1984م، بالإضافة إلى ذلك قام بعض الباحثين بحفر عدد من المجسات حصل من خلالها على مواد آثارية. واستنادًا لما نشر عن تلك الأعمال تبين أن مستوطنة ثاج تحوي آثارًا ثابتة وآثارًا منقولة.

وتتكون الآثار الثابتة من سور المدينة المشيد من الصخور الضخمة الذي يحيط بها من جميع الجهات، ويبلغ طول أحد أضلاعه 900م، وعرض جداره يصل إلى ستة أمتار. يتخلل السور عدد من الأبراج المربعة ووجدت له بوابات وتغطيه الرمال، إلا أنه يمكن مشاهدة سطوح جدرانه. وهناك المباني السكنية التي تقع داخل السور وقد شيدت جدرانها من الحجارة الكلسية والطين، وزودت المنازل بأماكن خصصت كمطابخ وأخرى خصصت كدورات مياه. ويختلف سمك الجدران من وحدة لأخرى تبعًا للهدف من بناء الجدران ؛ فإن كان جدارًا أساسيًا فقد يصل سمكه إلى متر، وإن كان قاطعًا فيقل عن ذلك بتفاوت من وحدة لأخرى. وهناك المقابر التلالية المتناثرة خارج سور المدينة التي استخدم في تشييد غرفها فرش الحجارة الجيرية. وبالإضافة إلى ما مر، يوجد عدد من الآبار الدائرية الشكل بقطر قد يصل إلى أربعة أمتار، وهي مطوية بالحجارة المقطوعة جيدًا.

أوانٍ فخارية من مستوطنة ثاج الأثرية التي تقع على بعد حوالي 80كم إلى الغرب من مدينة الجبيل.
هناك مجموعات من المادة الآثارية المنقولة تتمثل في الأواني الفخارية المصنوعة محليًا، وهناك كميات قليلة من الأواني المستوردة. وأغلب أواني ثاج مزخرفة بالتحزيز والقليل منها يظهر عليه زخرفة بالألوان. وهناك مجموعات من النقوش التي وجدت على ألواح وكتل صخرية متناثرة في المستوطنة وجد بعضها في الآبار ووجد بعضها الآخر مستخدمًا في المنازل الحديثة. وبعضها كتب عليه بالخط الآرامي والآخر كتب عليه بالخط السبئي الجنوبي. ووجدت مجموعة من قطع العملة المعدنية ومجموعة من الأختام الملكية ومجموعة من الأواني الحجرية وأدوات الزينة والأسلحة. كما وجدت مجموعة من الدمى الطينية التي تمثل تماثيل صغيرة لحيوانات مثل: الجمال، والأبقار، والخيول، والثعابين، وأخرى آدمية تمثل نساء، وبخاصة تمثال الأمومة.

الآثار الإسلامية

صدر الإسلام:

تمثل فترة حياة الرسول ﷺ في المدينة المنورة المرحلة الأولى من تاريخها التي شهدت البداية الحقيقية لبناء الحضارة الإسلامية ووضع أسسها الأولى، فقد عمل من يثرب مركزًا عمرانيًا شكل نواة لأول مدينة إسلامية تحمل كل المقومات والخصائص التي يحتاج إليها المجتمع المسلم. وكان أول الأعمال العمرانية التي قام بها الرسول ﷺ، تشييد المسجد الجامع، وبناء بيوت أزواجه إلى الشرق منه. وقد كان مسقط المسجد مستطيلاً عرضه 60 ذراعًا (حوالي 30م) وطوله من الجنوب إلى الشمال 70 ذراعًا (حوالي 35م) وتتجه قبلة المسجد نحو الشمال باتجاه بيت المقدس. وقد شيدت أساساته من الحجر بارتفاع ثلاث أذرع، أما الأجزاء العلوية من الجدران فقد بنيت من الطوب اللبن بارتفاع 1,75م تقريبًا. ويتكون المخطط الداخلي للمسجد من ظلة للصلاة وصحن مكشوف والصُّفة، وتحتوي ظلة الصلاة على ثلاثة أروقة بكل رواق ستة أعمدة من سواري النخيل التي تحمل جسورًا خشبية تحمل سقف المسجد الذي غطي في البداية بالجريد والخوص، ثم أضيف إليه ـ فيما بعد ـ طبقة من الطين. وفي نهاية الصحن الجنوبية شيدت الصفة ؛ وهي رواق مظلل أقامها الرسول ﷺ، ليأوي فقراء المدينة والمهاجرون إليها. احتوى المسجد في هذه العمارة على ثلاثة أبواب ؛ باب في مؤخرة المسجد، وباب في منتصف الجدار الغربي ؛ عرف بباب الرحمة، وباب في منتصف الجدار الشرقي ؛ عرف بباب جبريل أو باب عثمان.

في يوم الثلاثاء الخامس عشر من شعبان من السنة الثانية للهجرة، حولت القبلة من الشمال ـ باتجاه بيت المقدس ـ إلى الجنوب باتجاه مكة المكرمة، ونتج عن ذلك تحويل ظلة الصلاة وأروقتها نحو الجزء الجنوبي، وفتح باب في الجدار الشمالي الشرقي من الصحن. وفي السنة السابعة من الهجرة، بعد غزوة خيبر مباشرة، شرع الرسول ﷺ بتوسعة المسجد نظرًا لازدياد عدد المسلمين. وقد تكفل عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بشراء الأرض المحيطة بالمسجد من الجهتين الغربية والشمالية التي وسع بها الرسول ﷺ المسجد من الجهتين الغربية والشمالية. وأصبحت مساحة المسجد بعد التوسعة 100 ذراع (50م) طولاً و90 ذراعًا (45م) عرضًا، وزيد عدد أسطوانات المسجد ليصبح تسع أسطوانات في كل راوق من أروقة المسجد الثلاثة. وقد أحيط المسجد بعد هذه التوسعة بالدور من جميع جهاته. وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تمت التوسعة الثالثة في السنة السابعة عشرة للهجرة ؛ حيث زيد في مساحة المسجد 10 أذرع من جهة الغرب، ومثلها من الجنوب، و30 ذراعًا من الشمال. وقد زادت مساحة المسجد بمقدار 70%، وأصبح عدد أروقته أربعة، في كل منها إحدى عشرة أسطوانة، وتضاعف عدد أبوابه ليصبح ستة أبواب. أما التوسعة الرابعة فقد تمت سنة 29هـ، في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وشملت تلك التوسعة زيادة مساحته بمقدار 30%، وأعيد بناؤه بالكامل بالحجارة المنقوشة، واستبدلت سواري النخيل بالأعمدة الحجرية، وغطي المسجد بخشب الساج المستورد، وطلي داخل المسجد بالجص. وتعد عمارة عثمان ابن عفان للمسجد النبوي مرحلة مهمة من مراحل تطور العمارة الإسلامية قبل انتقال مركز الخلافة من المدينة إلى الكوفة ومنها لدمشق ؛ حيث تطورت مواد البناء وتقنياته لتحسن الأوضاع الاقتصادية للدولة الإسلامية الذي انعكس بدوره على عمارة المدينة خلال فترة صدر الإسلام.

كذلك عني الخلفاء الراشدون بالحرم المكي، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أول من وسع الحرم حيث قام في السنة السابعة عشرة للهجرة بزيادة مساحة الحرم بعد شراء الدور المحيطة به وهدمها وضم مساحتها للحرم، وأحاط الحرم لأول مرة بجدار تتخلله مداخل تؤدي للصحن المحيط بالكعبة. وفي عام 26هـ، زاد عثمان بن عفان من مساحة الحرم حيث اشترى عددًا من الدور المحيطة بالحرم وهدمها ووسع بها البيت العتيق، ثم قام بإحاطة الكعبة والمطاف بأروقة مظللة، وتعد هذه الأروقة نقلة مهمة في تاريخ العمارة الإسلامية ؛ حيث يري كثير من الباحثين أن أروقة الحرم كانت البداية لظهور الأروقة واستخدامها على نطاق واسع في عمارة المساجد الإسلامية منذ بداية العصر الأموي وحتى هذا العصر.

ورغم أهمية عصر النبوة والخلفاء الراشدين، إلا أن الآثار التي تعود لتلك المرحلة قليلة ونادرة، ورغم ذلك فقد بقيت بعض الآثار التي ترتبط بتلك المرحلة، ومن هذه الآثار ؛ مسجد جواثا الذي شيد في السنة الثانية للهجرة بمدينة جواثا حاضرة بني عبدالقيس بهجر (الأحساء) ويعد هذا المسجد ثاني مسجد تقام به صلاة الجمعة بعد مسجد الرسول ﷺ بالمدينة المنورة، وقد تم تجديد المسجد على مر العصور الإسلامية، ولازالت أجزاء من رواق القبلة قائمة حتى الوقت الحاضر، إلا أن هذه الأجزاء تعود إلى مرحلة متأخرة حيث إن المسجد الأول أقيم على غرار مسجد الرسول ﷺ . ومن المساجد المبكرة التي أنشئت في عهد الرسول ﷺ ، المسجد الكبير في صنعاء الذي أمر الرسول ﷺ ببنائه في السنة السادسة للهجرة. وقد شيد المسجد على غرار مسجد الرسول بالمدينة، وكانت عمارته تتكون من صحن وظلة الصلاة التي تحتوي على ثلاثة أروقة في كل منها اثنا عشر عمودًا حجريًا. وقد وسع الجامع مرات عديدة أهمها تلك التي تمت في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك. وفي مدينة الجند، أقام الصحابي معاذ بن جبل مسجد الجند في السنة السادسة للهجرة، ويعد مسجد الجند من المساجد المبكرة حيث أقيمت فيه أول صلاة جمعة في اليمن، إلا أن المسجد العتيق لم يبق من عمارته الأولى شيء حيث أعيد بناؤه عدة مرات خلال العصور الإسلامية المختلفة.

ومن الآثار الإسلامية التي تعود لعصر صدر الإسلام مجموعة من الكتابات العربية وجدت في الحجاز، أبرزها وأهمها مجموعة كتابات جبل سلع التي كتبت بخط عربي مبكر تطلق عليه المصادر العربية الخط المدني. وتظهر هذه المجموعة عددًا من الأسماء مثل: أبي بكر، وعمر، وسعد بن معاذ، وعمارة بن حزم، وميمون، ومعقل الجهني، وعلي بن أبي طالب. وورود أسماء كلٍّ من أبي بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وسعد بن معاذ رضي الله عنهم في هذه النصوص ـ التي تقع بالقرب من موقع الخندق ـ جعل دارسها يربطها بأحداث غزوة الخندق وبالتالي يؤرخها للسنة الخامسة للهجرة مما يجعلها أقدم كتابات عربية تصل إلينا من فترة ظهور الإسلام. كذلك عثر في موضع صنق الزرقاء ـ بوادي الشامية بالقرب من مكة المكرمة ـ على نقش مؤرخ بسنة أربعين للهجرة يخص عبدالرحمن بن خالد بن العاص. ويعد هذا النقش أقدم النقوش المؤرخة في الجزيرة العربية وأهم النقوش الإسلامية من ناحية جودة كتابته وتطورها.

سد الخنق أنشأه معاوية ابن أبي سفيان بالمدينة في المملكة العربية السعودية، ويتميز بضخامة بنائه ودقة هندسته وارتفاعه الشاهق. ومن أبرز الآثار الإسلامية في المملكة العربية السعودية مسجد عمر بن الخطاب بدومة الجندل بمنطقة الجوف الذي يعد من أهم المساجد الآثارية في المملكة لما يحمله من خصائص معمارية مبكرة تذكِّر بالمساجد الأولى. وتنبع أهمية المسجد من تخطيطه الذي يمثل استمرارية لنمط المساجد المبكرة حيث يذكرنا بتخطيط مسجد الرسول ﷺ في المدينة في مرحلة صدر الإسلام، كذلك تنبع أهميته من محافظته على نمط تخطيطه ومواد بنائه التقليدية ومئذنته الفريدة من نوعها ذات الشكل المربع والمشيدة بالأحجار ؛ حيث إن نمط المئذنة وطرازها يعد فريدًا ونادرًا، ويماثل طراز المآذن الأموية المبكرة إضافة إلى أن هذه المئذنة تعد أقدم مئذنة قائمة في الجزيرة العربية.

موقع الجار. يقع الجار على بعد حوالي 10كم من بلدة الرايس بالقرب من ينبع. ويعود تاريخ ميناء الجار لفترة تسبق العصر الإسلامي، وكان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أول من اتخذ الجار ميناء رسميًا للمدينة، وكان الميناء يستقبل المواد الغذائية المرسلة من مصر إلى المدينة، لذلك عد الجار أهم موانئ البحر الأحمر خلال القرون الخمسة الأولى من الهجرة. يتكون الموقع الأثري في الجار من عدد من التلال الأثرية تقع داخل محيط سور المدينة الذي تظهر ملامحه على السطح، كذلك تظهر على ساحل البحر بقايا ما يعتقد أنه أرصفة الميناء القديم. ويحيط بالمدينة سور من ثلاث جهات فقط، بينما الجهة الرابعة مفتوحة على البحر. ومن المعتقد أن سور المدينة يتصل بأرصفة الميناء ويشكل معها تحصينًا كاملاً للمدينة. ومن خلال الأعمال التي تمت في الموقع، فقد تم تحديد طبقات أثرية تعود لفترات عصر ما قبل الإسلام والعصر الإسلامي المبكر. كذلك عثر على مواد أثرية أبرزها الفخار والخزف الإسلامي المبكر والخزف الصيني المستورد، وتشير هذه المواد المكتشفة إلى أن الموقع ازدهر خلال الفترة الإسلامية المبكرة، وأن الموقع اندثر خلال القرن الخامس الهجري.

موقع ضربة. تقع ضربة إلى الغرب من مدينة الرس على مسافة 160كم منها. وقد كانت ضربة حمى لإبل الصدقة، وأول من اتخذها حمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي العصر العباسي تحولت ضربة إلى مدينة عامرة وأصبحت أهم المحطات الرئيسية على طريق الحج الذي يربط البصرة بمكة المكرمة. وقد أشارت المصادر الإسلامية إلى مدينة ضربة، وذكرت سوقها العامر، وذكر أنه في إحدى المرات التي تم فيها إصلاح السوق، أضيف أكثر من ثمانين حانوتًا إلى حوانيت السوق الأخرى. يحتوي الموقع الأثري في هذه المدينة على بقايا مدينة ضربة المندثرة التي تظهر بعض منشآتها المعمارية وعدد من الآبار وسد يقع في منتصف وادي ضربة. إن موقع ضربة ـ في وضعه الحالي ـ عبارة عن تلال أثرية لا توحي بأهمية الموقع وتاريخه نظرًا لحاجة الموقع للحفر الموسع.

موقع عشم. تقع عشم إلى الشمال من وادي قرماء. وقد اشتهرت عشم كونها موقعًا لتعدين الذهب من أعمال مكة المكرمة، وقد ذاع صيتها خلال القرون الأربعة الأولى من الهجرة. وقد ساهم اقتصاد عشم الذي يقوم على استخراج الذهب في نمو الموقع وتحوله إلى مدينة عامرة زاد عمرانها واتسعت أحياؤها خلال القرون الخمسة الأولى من الهجرة قبل أن يضمحل دورها بدءًا من نهاية القرن الخامس الهجري نتيجة لاحتضار الخلافة العباسية، ومن ثم سقوطها في سنة 656هـ على يد المغول. وكان هذا الحدث العامل الأساس في توقف صناعة تعدين الذهب في عشم واندثار المدينة بعد ذلك.

يتكون موقع عشم من المدينة السكنية التي تتكون من حيين، والمقابر المحيطة بها إضافة إلى مناجم التعدين وما يرتبط بها من مناطق تصنيع. تتميز المنشآت العمرانية في الموقع بأن غالبيتها شاخصة على سطح الأرض، حيث تتضح بقايا المسجد الجامع الذي يقع في الجزء الجنوبي الغربي من الحي الأول. وقد عثر في ركام المسجد على نص كتابي يحدد تاريخ بناء المسجد بسنة 414هـ. وفي وسط هذا الحي، يقوم السوق الذي يتكون من عدد من الحوانيت التي تصطف على جانبي شارع متسع. ويقع الحي الثاني على مسافة 200م جنوب غرب الحي السابق، وتختلف طبيعة هذا الجزء ومنشآته من الموقع الذي تظهر بقايا منشآته بشكل متواضع لا يوازي الحي السابق، وربما يوحي هذا بأن هذا الجزء من الموقع كان مخصصًا للعمال المشتغلين بالتعدين أو ربما منطقة تصنيع.

موقع عكاظ. يقع سوق عكاظ على مسافة 40كم إلى الشمال الشرقي من مدينة الطائف. وقد ارتبط سوق عكاظ بالذاكرة العربية لكونه أعظم أسواق العرب ومنتداهم الثقافي والأدبي الأول قبيل الإسلام. وقد اضمحل دور سوق عكاظ بعد الإسلام، وتحول من سوق ومنتدى موسمي إلى سوق تجاري صغير شيدت فيه المباني والحوانيت حتى خرب سنة 129هـ على أيدي الخوارج الحرورية. يضم الموقع الأثري لعكاظ عددًا من التلال الأثرية أكبرها التل الذي يقوم عليه قصر عكاظ، بالإضافة إلى أكثر من عشرين تلاً صغيرًا. يتكون مخطط القصر من جناحين يتصلان ببعضهما عبر ممر منكسر، يحتوي الجناح الرسمي على قاعة استقبال مستطيلة، يفتح عليها عدد من الغرف الصغيرة، ويتوسط قاعة الاستقبال عقود حجرية كانت تحمل السقف. أما الجناح الثاني، الذي يعتقد أنه كان مخصصًا للنساء، فيتكون من عدد من الغرف التي تفتح باتجاه الشرق.

تشير المواد الأثرية المكتشفة في الموقع، من فخار وخزف وزجاج، إلى أن الموقع مر بمرحلتي استخدام يرجع أقدمها للعصر الإسلامي المبكر قبل تخريب السوق سنة 129هـ، أما المرحلة المتأخرة، فيمثلها فخار وخزف صيني متأخر وخزف عثماني، وهذا يؤكد أن الموقع أعيد استخدامه خلال الوجود العثماني في الطائف.

العصر الأموي:

تمثل مرحلة العصر الأموي الممتدة من 41 - 132هـ فترة حضارية مهمة جدًا من تاريخ الجزيرة العربية ؛ حيث شهدت حواضر الجزيرة نشاطًا عمرانيًا واقتصاديًا نتيجة الاهتمام الذي وجهه خلفاء بني أمية بدءًا بمعاوية بن أبي سفيان، الذي عني بحواضر الجزيرة بشكل عام وبالحجاز خصوصًا، لذلك فإن الجزيرة العربية شهدت في هذا العصر ازدهارًا ونشاطًا تمثل في التوسع العمراني للحواضر، ويأتي في مقدمتها: المدينة المنورة، ومكة المكرمة، والطائف، وفيد، وبيشة، واليمامة، وهجر، ودومة الجندل، وتيماء، وجرش، ونجران،وصنعاء، والجند، وجواثا، والبدع. كذلك نشطت حركة التبادل التجاري عبر موانئ الجزيرة على البحر الأحمر مثل: الجار، وعثر، وجدة، والحوراء، وعينونا وأيلة، والعقير، وجزيرة البحرين وجميزة على ساحل الخليج العربي.

أثبتت الأعمال الأثرية الحديثة في عدد من المواقع وجود مواد أثرية تعود للعصر الأموي ؛ ففي موقع الربذة كشفت أعمال الحفر في الجزء الغربي من الموقع عن بقايا معمارية تعود لفترة العصر الأموي وبداية العصر العباسي ؛ حيث أظهرت نمط المساكن وتخطيط المدينة اللذين يختلفان عن الموقع العباسي الرئيسي الذي تميز باتساع المدينة وظهور القصور المحصنة والبيوت المتسعة. وقد عثر في مراحل الحفر على مواد أثرية أموية أبرزها قدور طبخ ذات فخار رمادي مضلع، وعدد من كسر الفخار المرسوم بالمغرة، ودراهم أموية وفلوس بيزنطية يعتقد أنها كانت متداولة في بداية العصر الأموي قبل تعريب السكة الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان.

كذلك عثر على مواد أثرية أموية في عدد من المواقع في شمال غرب الجزيرة، حيث وجد فخار أموي في مواقع الملقطة في البدع والحوراء بالقرب من أملج، وفي موقع الجار جنوب ينبع، وفي موقع الأخضر على طريق الحج الشامي جنوب تبوك، وفي موقع بدا إلى الشرق من الوجه. كما وجدت كمية من الفخار الأموي في مواقع القصور الإسلامية الواقعة في منطقة المندسة والمليليح شمال المدينة المنورة. ويعتقد أن تلك القصور بنيت خلال العصرين الأموي والعباسي، وتذكر المصادر أن لمروان بن الحكم قصرًا في وادي المندسة، ومن المؤكد أن تلك القصور قد ارتبطت بأملاك زراعية كبيرة كان يستثمرها بنو أمية. كذلك اهتم بنو أمية بالمدينة المنورة، وأنشأوا على طول وادي العقيق أكثر من عشرين قصرًا أشهرها وأهمها قصر سعيد بن العاص الذي اشتراه معاوية بن أبي سفيان، ولاتزال بقايا أطلال هذا القصر باقية داخل قصر سلطانة بالمدينة، وقد شيد القصر بالحجارة والجص وزينت واجهاته الداخلية بالزخارف الجصية.

سد الخنق أنشأه معاوية ابن أبي سفيان بالمدينة في المملكة العربية السعودية، ويتميز بضخامة بنائه ودقة هندسته وارتفاعه الشاهق.
كذلك اهتم الخليفة معاوية بإنشاء السدود في كل من المدينة وخيبر والطائف ؛ ففي المدينة كشف عن سد يسمى سد الخنق يحمل نصًا تأسيسيًا يؤرخ البناء لسنة ست وخمسين للهجرة، ويشير إلى أن معاوية بن أبي سفيان هو باني هذا السد، ويتميز السد بضخامة بنائه ودقة هندسته وارتفاعه الشاهق. ورغم أن أجزاء كبيرة من السد متهدمة، إلا أن الأجزاء المتبقية تعكس طبيعة البناء ودقته. وعلى بعد 30كم جنوب خيبر يوجد سد البنت الذي يعد أكبر سدود خيبر، يبلغ طول السد حوالي 300م، ويصل ارتفاعه أكثر من 30م، وسمك جداره عند القاعدة 10م، ورغم أن السد لا يحمل نقشًا تأسيسيًا، إلا أن طبيعة بنائه ودقة هندسته ـ التي تماثل إلى حد كبير سد الخنق بالمدينة ـ تشير إلى أن هذا السد بني في عهد معاوية بن أبي سفيان. أما سد سيسد في الطائف، الذي شيده معاوية بن أبي سفيان، كما يشير إلى ذلك النقش التأسيسي الذي كتب على إحدى أحجار السد، فإنه سد صغير الحجم ؛ إذ يبلغ طوله 8,5م وارتفاعه 8م، وسمك جداره 4م، إلا أن أهميته تنبع من ارتباطه بالخليفة معاوية بن أبي سفيان ؛ حيث تذكر المصادر أنه كان يمتلك أراضي زراعية في منطقة الطائف. وفي عام 73هـ، شيد الحجاج بن يوسف الثقفي ثلاثة سدود في شمال المعيصم في مكة المكرمة تهدف إلى حماية مكة من السيول الجارفة وزيادة الرقعة الزراعية في محيط مكة.

موقع دوقرا. في عام 1950م، نشر هنري فيلد معلومات عن موقع أموي بالقرب من مدينة طريف، وقد تتبع فريق المسح الأثري التابع للإدارة العامة للآثار والمتاحف الذي زار المنطقة عام 1396هـ موقع دوقرا الواقع جنوب مدينة طريف، حيث وجد بقايا لأطلال مبنى إسلامي مبكر يتكون من سور خارجي يضم عددًا من الغرف التي تتركز في الواجهة الشمالية الغربية المقابلة لمدخل المبنى، وقد عثر في أطلال الموقع على كسر من الفخار الأموي المميز الذي يشير إلى أن الموقع بني خلال العصر الأموي وهجر بعد نهاية هذا العصر. ويعتقد أن الموقع ربما كان إحدى الاستراحات الأموية، وأن المبنى كان يخدم أغراضًا تماثل تلك التي بنيت لها القصور الأموية في بلاد الشام.

موقع السرين. تقع السرين جنوب الوسقة على بعد 10كم تقريبًا منها. وتعد من موانئ الحجاز التابعة لإمارة مكة، وقد ازدهرت السرين في الفترة الواقعة بين القرن الثالث والقرن الثامن الهجريَّيْن. يتكون الموقع الأثري في السرين من ستة تلال أثرية ومقبرتين تمثل بقايا المدينة السكنية. أما ميناء السرين فلم يحدد بعد ؛ حيث إن معالمه قد اختفت وربما يكون قد غمرته مياه البحر بعد تعطله وعدم استخدامه. ورغم أهمية السرين وأهمية موقعها الأثري، إلا أن الموقع لم تجر فيه أعمال حفر تنيط اللثام عن تاريخ الموقع. ويظهر على سطح الموقع بعض ظواهر عمرانية أبرزها الطوب الآجر الأحمر الذي شيدت به بعض مباني الموقع، وكسر الفخار العباسي المميز، وبعض الفخار والخزف الإسلامي المتأخر، لكن أبرز المواد الأثرية التي عثر عليها في الموقع هي شواهد القبور التي تزخر بها مقبرتا السرين، وهي تتميز بدقة كتابتها وزخرفتها النباتية وأطرها التي تعد من أهم المكتشفات الكتابية على مستوى الجزيرة العربية.

موقع عثر. يقع ميناء عثر على ساحل البحر الأحمر على مسافة 40كم من مدينة جازان. وكانت عثر حاضرة إسلامية منذ العصر الأموي، وأصبحت في القرن الرابع الهجري عاصمة للمخلاف السليماني، ويعد سليمان الطرفي موحد هذا المخلاف. واستمرت عثر عاصمة لهذا المخلاف حتى القرن السابع الهجري الذي شهد بداية اضمحلال دور عثر واندثارها. ويعد ميناء عثر خلال فترة ازدهاره من أهم موانئ البحر الأحمر الجنوبية، وهذا مكنها من الاتصال بإفريقيا وجنوب شرقي آسيا والصين عبر التبادلات التجارية التي كانت تتم عبر مينائها. كذلك أصبحت عثر دار سك للنقود ومركز صناعة.

حفر جزء يسير من موقع عثر في أماكن مختلفة من الموقع، وقد أظهرت الحفائر ـ رغم محدوديتها ـ مادة أثرية ضخمة من الخزف العباسي، والخزف الصيني، والأواني والأدوات المصنوعة من الحجر الصابوني التي تحمل زخارف مفرغة. كذلك عثر على عدد من المسكوكات، وتحتفظ مؤسسة النقد السعودي بخمسة دنانير من سك دار عثر. تؤكد المادة الأثرية المكتشفة إلى الدور الكبير الذي كانت تقوم به عثر في حركة التبادل التجاري بين الجزيرة العربية وجنوب شرقي آسيا والصين وشرق إفريقيا.

العصر العباسي:

شهدت الجزيرة العربية خلال العصر العباسي نشاطًا استيطانيًا في مختلف أقاليمها، وازدهر اقتصادها نتيجة للعناية التي أولاها خلفاء بني العباس للجزيرة بشكل عام وللحرمين خصوصًا. وقد شهدت هذه المرحلة توسعة الحرمين الشريفين في خلافة المهدي. لكن أعظم مشاريع الدولة العباسية في الجزيرة يتمثل في إصلاح وتعمير طريق الحج الذي يربط الكوفة بمكة المكرمة بدءًا من خلافة أبي العباس السفاح، وانتهاء بالعمارة التي قامت بها السيدة زبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد. وقد شملت هذه العمارة تحديد اتجاه الطريق، وتسوية عقباته ورصفها، وإقامة الاستراحات والقصور، وحفر الآبار، وبناء البرك والسدود على طول مساره. كما أقيمت على جنبات الطريق الأعلام والأميال لتحديد مسافاته. وقد ساهم الطريق في استقرار أعداد كبيرة من القبائل العربية في محطاته المختلفة التي تحولت خلال مدة وجيزة إلى حواضر. وأبرز تلك الحواضر: فيد، والربذة، وسميراء، والحاجر، ومعدن بني سليم، وزرود. وقد كشفت الحفريات التي تمت في موقع الربذة عن مدينة متسعة تحوي القصور والمساجد والأحياء المتعددة ؛ حيث يمتد الموقع على مساحة تبلغ حوالي 800م طولاً و500م عرضًا، كما أظهرت المنشآت المعمارية والمعثورات الأثرية غنى وتقدمًا يضع الربذة في مصاف المدن العباسية الأخرى.

منظر عام لموقع قرية شمال تبوك بالمملكة العربية السعودية.
يمثل النشاط التعديني في الجزيرة العربية خلال العصر العباسي أبرز اقتصادياتها ؛ حيث عني العباسيون باستغلال خامات المعادن المختلفة على نطاق واسع شمل معظم مناطق التعدين. وقد تركز نشاط العباسيين التعديني في ثلاث مناطق رئيسية ؛ في الشمال الغربي، وشمل مواقع: الخور، وأم قريات، ووادي العرجاء، وأم هراب، واللقيطة بالقرب من الوجه، وعددًا من المواقع بالقرب من المويلح أهمها: وادي حفاير، وأم عامل، وجبل شار، والحجر، وجشم خنصر، بالإضافة لمواقع: جيثوث، وقصيب الأوج، والمرمى، وتل أم هدم، وأم فقور. أما مواقع التعدين في منطقة الدرع العربي ـ إلى الشرق من المدينة ـ فتشمل : موقع النقرة الجنوبية والشمالية، وموقع الشمطاء، والكوم الغربي والشرقي، وموقع ماوان، وصبحة ومصينعة، بالإضافة إلى عدد من المواقع في المنطقة الوسطى في كل من : الدوادمي والقويعية وظلم التي تشتمل مواقعها على خنادق وكهوف التعدين وبقايا مستوطنات إسلامية ملحق بها مناطق تصنيع المعادن التي تشمل بقايا أدوات الجرش والطحن والتنقية والصهر. ووجد بالقرب من أماكن التصنيع كميات كبيرة من مخلفات التصنيع. وفي الجنوب الغربي من الجزيرة العربية عرف عدد من مواقع التعدين العباسية أبرزها مواقع التعدين في منطقة وتبالة مثل: العبلة وكتينة والمنازل والمسحة، أما في منطقة المخواة، فقد كشف عن ثلاثة مواقع هي: الدرين، ووادي الشوة، ووادي خف. وفي منطقة الباحة سجل عدد من المواقع أهمها: محوية، وحوش السلمان، والمنهل، والمسوكة، والعقيق. وتعد بيشة وعشم من أبرز مواقع التعدين في جنوب غرب الجزيرة. تؤكد انتشار هذه المواقع وكثرتها الاهتمام الكبير للدولة العباسية بهذه المعادن التي أمدت دور السك ومراكز الصناعة العباسية بما تحتاج إليه من المعادن اللازمة لسك العملة وصناعة المعادن المختلفة.

ولم يقتصر النشاط الاستيطاني في الجزيرة العربية خلال العصر العباسي على طرق الحج ومواقع التعدين فحسب، بل شمل كذلك مراكز الاستيطان الأخرى ؛ حيث شهدت هذه المرحلة ظهور أعداد كبيرة من القرى والمدن انتشرت في كل أقاليم الجزيرة.

تل قلعة البحرين. تقع قلعة البحرين على الساحل الشمالي لجزيرة البحرين إلى الغرب من مدينة المنامة، وهذا الموقع مساحة كبيرة يغطيها تل أثري يعود إلى عصور قديمة. أما القلعة الإسلامية، فتقع على السفح الشمالي لهذا التل في مواجهة البحر. وقد كشفت البعثة الدنماركية في الفترة من 1955 - 1956م عن الجزء الأوسط من المبنى، في حين كشفت البعثة الفرنسية التي حفرت الموقع عامي 1977 - 1978م عن جزء كبير من السور الشمالي للقلعة. تشير المادة الأثرية المكتشفة إلى أن القلعة بنيت بين القرنين الرابع والخامس الهجريين. ويعتمد مسقط المبنى على ساحة مركزية تفتح عليها وحدات المبنى المختلفة، وهي تماثل في ذلك مخططات القصور الأموية المحصنة المعروفة في بلاد الشام. استخدمت القلعة كحصن خلال سيطرة القرامطة على إقليم الأحساء، وتحولت في العصور الإسلامية المتأخرة إلى سكن عام حتى هجرت وخلت من ساكنيها في القرن السابع الهجري، ثم اتخذت مقبرة بعد هذا التاريخ. عثر أثناء أعمال الحفر على مسكوكات مصنوعة من الرصاص استخدمت لأول مرة في عهد القرامطة، كذلك عثر على مسكوكات صينية تعود إلى مملكة تانج (القرنان الأول والثاني للهجرة) ومملكة أسونك الشمالية والجنوبية (القرنان الرابع والخامس للهجرة) كما وجدت نماذج مختلفة من الخزف الصيني الذي يعود لهذه المرحلة.

موقع العقير. يقع العقير على ساحل الخليج العربي على بعد 50كم إلى الشمال الشرقي من الهفوف. والعقير ميناء هجر ونجد، ووصفه الحربي بأنه فرضة الصين وعمان والبصرة. وقد كان العقير منبرًا لبني الرجاف من عبد القيس. وقد أصبح في القرنين الرابع والخامس الهجريين ميناء لدولة القرامطة في الأحساء. يتكون موقع العقير الأثري من عدد من التلال الأثرية تمتد على مساحة تبلغ 3كم² أهمها بقايا المنطقة السكنية التي تشير المواد الأثرية السطحية أنها تعود إلى فترة إسلامية مبكرة، أما الجزء الثاني من الموقع فهو أطلال مبنى محصن تحيط به أبراج، إضافة إلى عدد من المباني المتفرقة التي ربما كانت مساكن، أو مباني رسمية. ومن المنشآت المعمارية القائمة مبنى يسمى الخان يقع غرب الميناء، ويعتقد أنه يعود لمرحلة متأخرة من تاريخ الموقع، وكان يخدم الجانب الإداري، وتودع فيه البضائع وخصص جزء منه للسكنى.

موقع المابيات بالعلا في المملكة العربية السعودية.
موقع المابيات. يوجد موقع المابيات إلى الشرق من مدينة العلا وعلى مسافة 20كم تقريبًا منها. وموقع المابيات يرتبط بمدينة قرح المشهورة التي غلب عليها اسم وادي القرى خلال العصور الإسلامية المبكرة. ويذكر المقدسي أن "وادي القرى ليس بالحجاز اليوم أجل وأعمر وأكثر تجارًا وأموالاً وخيرات بعد مكة. وعليها حصن منيع على قرنته قلعة". وهذا الوصف ينطبق على موقع المابيات الذي تحف به من جهة الغرب قلعة شامخة. يمتد الموقع على مساحة كبيرة تبلغ أكثر من 600م²، ويحيط بالبلدة سور ضخم تظهر بقاياه محيطة بالموقع، وفي داخل السور تنتشر التلال الأثرية التي تمثل أحياء المدينة ومنشآتها المعمارية. وفي عام 1404هـ حُفر جزء من الموقع الأثري، وقد أظهرت نتائج الحفر جانبًا من مساكن المدينة التي كانت مشيدة بالطوب اللبن والآجر المشوي، وبلطت بعض غرفه بالآجر المزخرف، وقد أظهرت المادة الأثرية المكتشفة أنماطًا من الخزف الإسلامي الذي صنف على أنه خليط من الخزف العباسي والفاطمي، وأبرز أنماط ذلك الخزف هو من نوع البريق المعدني. كذلك عثر على صنج زجاجية ومسكوكات مختلفة، وهذه المواد تعود للفترة الإسلامية الممتدة حتى نهاية القرن السادس الهجري، وهي الفترة التي شهدت نهاية موقع المابيات.

موقع الزبارة. تقع الزبارة على الشاطئ الشمالي الغربي لقطر، ويبعد الموقع عن مدينة الدوحة بحوالي 105كم. يمثل الموقع بقايا خرائب مدينة الزبارة الإسلامية التي يحيط بها سور من ثلاث جهات، بينما تفتح الجهة الرابعة على البحر. وقد كشفت أعمال الحفر أجزاء مختلفة من الموقع شملت جانبًا كبيرًا من سور المدينة وأبراجها، وكذلك حفر عدد من منازل المدينة التي تتميز بسعتها واحتوائها على بعض العناصر المعمارية مثل العقود والغرف التي تغطيها قبوات برميلية. اتضح من خلال المواد الأثرية أن الموقع استمر لفترة زمنية طويلة تمتد من العصر العباسي الثاني حتى بداية القرن الرابع عشر الهجري. ويتضح من خلال كبر حجم الموقع واتساعه وطول فترة استخدامه أن الزبارة كانت من الحواضر المهمة في قطر، وأنها قامت بدور كبير في الحركة التجارية في الخليج إبان تلك المراحل ويتأكد هذا من كبر المدينة التي يمتد سورها لأكثر من كيلومترين.

قلعة المويلح بالوجة

العصر الأيوبي والعصر المملوكي:

تأثرت الجزيرة العربية بسقوط بغداد ونهاية الدولة العباسية ؛ حيث شهدت هذه الفترة اندثار أعداد كبيرة من حواضر الجزيرة العربية لتردي الوضع الاقتصادي للجزيرة العربية ؛ فقد هجرت مراكز التعدين والمدن التي قامت على هذا النشاط، واندثرت الأسواق والمدن التي تقوم عليها. ولم ينج من هذا الوضع سوى مدن الحجاز وتلك المدن الواقعة على مسار طرق الحج الشامية والمصرية وبعض مدن جنوب الجزيرة.

وخلال العصرين الأيوبي والمملوكي عني السلاطين بالحرمين الشريفين وبطريق الحج المصري الذي شهد اهتمامًا كبيرًا خلال هذه المرحلة، حيث شيدت على طوله الآبار والبرك ؛ كبركة المعظم التي شيدها الملك الأيوبي شرف الدين عيسى بن الملك العادل سنة 611هـ. وتعد قلعة الأزلم التي بناها السلطان محمد بن قلاوون، ثم أعاد بناءها السلطان قانصوه الغوري سنة 916هـ، أبرز المنشآت المعمارية المملوكية على الطريق، إضافة لبركة البدع وآبار المويلح التي شيدها السلطان محمد بن قلاوون.

العصور المتأخرة:

تمثل الآثار المعمارية العثمانية التي شيدت في الجزيرة العربية خلال هذه الفترة أبرز المخلفات الباقية ؛ فقد عني العثمانيون بإصلاح طريق الحج الشامي، وشيدوا على طول مساره عددًا كبيرًا من القلاع والحصون أهمها قلاع: تبوك، والمعظم، وذات حاج، والحجر، وزرود بالإضافة إلى عدد كبير من البرك والآبار في معظم محطات الدرب. كذلك لقي طريق الحج المصري اهتمامًا من الخلافة العثمانية، وبنيت على الطريق أعداد من القلاع أبرزها: قلعة المويلح، والزريب بالإضافة للبرك والآبار في كل من: البدع، والوجه، ووادي عنتر، ووادي نبط. وفي الأحساء تعد قلعة إبراهيم ومسجدها من الآثار العثمانية المهمة على مستوى الجزيرة العربية.

حي طريف بالدرعية في المملكة العربية السعودية (لقطة جوية).
وإلى جانب تلك الآثار المشار إليها، شهدت هذه المرحلة ازدهار عدد كبير من المدن والحواضر في مناطق الجزيرة العربية المختلفة ؛ حيث شهد وسط المملكة العربية السعودية ظهور عدد من المدن المسورة التي تزامنت مع بداية الدولة السعودية الأولى حيث تعد الدرعية أهم تلك المدن، لذلك فإن آثار الدرعية الشاخصة اليوم تعد نموذجًا فريدًا لمدن الجزيرة العربية المتأخرة.

موقع الدريحانية. تقع الدريحانية على ساحل الخليج العربي على طرف حي المعمورة في رأس الخيمة. ويتمثل الموقع في سلسلة من التلال الأثرية الممتدة على ساحل البحر بطول 5كم وعرض 250م. ويقسم الموقع إلى ثلاثة أجزاء: الأول ؛ الدريحانية في الجهة الجنوبية الغربية من الموقع ؛ والندود في الجزء الأوسط منه ؛ والمطاف الذي يقع في الطرف الشمالي الشرقي. وقد أجريت أعمال حفر في ثلاثة أماكن من الموقع ؛ ففي الجهة الجنوبية حفر تلان أظهرت نتائجها طبقات مختلفة حددت بثلاثة مستويات ؛ حيث عثر على مواد أثرية مثل: الفخار، والخزف، والزجاج. أما الحفرية التي نفذت في الجزء الشمالي الشرقي فقد كشفت عن مبنى مكون من ثلاث غرف مشيدة من الطين الممزوج بالكلس والأصداف البحرية، وعثر داخل هذه الغرف على مسكوكات وخزف صيني من نوع البورسلين والسيلادون. وقد أظهرت نتائج تلك الحفريات أن الموقع يعود لفترة حضارية واحدة ؛ حيث أكدت المسكوكات المكتشفة أن بداية الاستيطان في الموقع تعود للقرن العاشر الهجري حيث أدى الميناء دورًا في التبادلات التجارية بين المراكز التجارية في الخليج العربي والصين وجنوب شرقي آسيا.

المصدر: الموسوعة العربية العالمية