الرئيسيةبحث

بر الوالدين ( Kindness to parents )


برُّ الوالدين هو إحسان معاملة الوالدين وفعل كل خير في حقهما، وطاعتهما (إلا في معصية الخالق)، وعدم إيذائهما بأي نوع من أنواع الإيذاء. والرأي عند أهل الفقه أن من أدب الولد مع الوالدين أن يسمع كلامهما ويقوم لقيامهما، ويمتثل لأمرهما ويلبي دعوتهما، ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ولا يبرمهما بالإلحاح، ولا يمن عليهما بالبر لهما، ولا بالقيام لأمرهما، ولا ينظر إليهما شزرًا، ولا يعصي لهما أمرًا. ومن أدب الوالدين مع الولد، أن يعيناه على البر، ولا يكلفانه فوق طاقته، ولا يلحَّا عليه في وقت ضجره، ولا يمنعاه من طاعة ربه، ولا يمنّا عليه بتربيته. قال يزيد بن معاوية: أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس حكيم العرب، فلما وصل إليه قال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً، فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك!! ويقول الله تعالى : ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا¦واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا﴾ الإسراء : 23، 24

وقد جعل الله بر الوالدين توطئة وتمهيدًا لدخول الجنة. فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (رَغم أنفُ ثم رَغم أنفُ ثم رَغم أنفُ. قيل: مَن؟ يا رسول الله قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة) وفي رواية أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : (رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه. قيل: مَن؟ يا رسول الله قال: من أدرك والديه أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)

وحق لمن كان مقامه منا عند الصغر مقام الأم أو الأب أن يبجل ويوقر وتُقرن طاعته بطاعة الله تعالى، كما ورد في صدر الآية من سورة الإسراء : ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾ والإحسان إلى الوالدين يكون بطاعتهما وعمل كل خير في سبيل إرضائهما، لذلك كانت طاعة الحق عز وجل وعبادته مقرونة ببر الوالدين. وعلى هذا يمكن أن يقاس أثر بر الوالدين في بناء الكيان الإسلامي. إن قيام المجتمع الإسلامي مرهون بقيام الحياة الأسرية الصحيحة والعلاقات الاجتماعية الزاكية ولا يمكن لها أن تقوم ما لم تقم الأسرة على نفس الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي نفسه. فوجود الأسرة ضرورة اجتماعية ولازمة من لوازم الاجتماع البشري ويسميها علماء الاجتماع بالجماعة المرجعية، وإليها ينسب الفرد، ويعرف بأنه متوافق أو غير متوافق اجتماعيًا حسب ما يكون ارتباطه بالجماعة المرجعية، فإذا قل الارتباط أو زال لأي سبب من الأسباب يقال عن الشخص إنه غير متوافق اجتماعيًا.

وبر الوالدين يُخرج للمجتمع شخصًا سويًا متوافقًا اجتماعيًا. وعلاقة الابن بالجماعات الأخرى خارج دائرة الأسرة كجماعة المدرسة، أو العمل أو اللعب تعتمد على هذا التوافق الاجتماعي الذي يحققه الانتماء إلى الجماعة المرجعية وهي الأسرة.

إن معايير التوافق الاجتماعي قد تختلف من جيل إلى جيل ومن مكان إلى مكان فما يعتبر اليوم توافقًا اجتماعيًا قد لا يصير غدًا توافقًا اجتماعيًا، وجيل اليوم هو غير جيل الأمس، وغير جيل الغد اللهم إلا إذا كان التوافق الاجتماعي مُعاملَ ثبات لا مُعاملَ تغيير. وقد ثبت في المجتمعات العربية أن أجيال الآباء والأبناء لا تختلف كثيرًا في إثبات حقوق الوالدين على الأبناء، واعتبار بر الوالدين توافقًا اجتماعيًا وعقوقهم ليس توافقًا اجتماعيًا ؛ بل إن هذا الباحث وغيره من الباحثين أرجعوا التفكك الاجتماعي في المجتمعات الغربية ـ وبدأ حديثًَا يظهر في المجتمعات التقليدية ـ إلى تفشي ظاهرة عدم التوافق الاجتماعي الذي يؤدي إلى الشعور بعدم الانتماء الاجتماعي، ويشعر الفرد بعدم جدوى الحياة وعدم وجود معنى لها عنده وعند كثير من الأفراد الذين فقدوا التوافق الاجتماعي، نتيجة لانقطاع صلتهم بجماعة مرجعية أساسية كالأسرة. بل إن علاقة الفرد بغيره من الأفراد أو الجماعات لا تقوم إلا إذا توافر له هذا الأساس الاجتماعي.

فالأسرة هي أساس البناء الاجتماعي الذي بدونه لا يكون بناء ولا اجتماع، ولا يقوم البناء في الهواء أو دون أساس. فدور الأسرة هو الأساس الذي لا يكون بناء بدونه، وهذا يصح في المجتمعات الإسلامية، كما يصح في المجتمعات غير الإسلامية فهذا هو أساس المجتمع الإنساني. إنه بفضل الحياة في الأسرة يتكون لدى الفرد الروح العائلي والعواطف الأسرية المختلفة وتنشأ الاتجاهات الأولى للحياة الاجتماعية المنظمة، فالأسرة هي التي تجعل من الطفل حيوانًا مدنيًا وتزوده بالعواطف والاتجاهات اللازمة للحياة في المجتمع وفي البيت. وبر الوالدين هو الذي يحفظ للأسرة كيانها ويجعلها تقوم بوظيفتها الاجتماعية خير قيام. كما أن بر الأولاد والبنات من قبل الوالدين هو روح الأسرة وريحانها إذ أنهما ينشئان الأسرة إنشاءً، ويغرسان في أبنائهما الفضائل الخلقية ويعلمانهما الآداب الاجتماعية والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمع. وهما في الإسلام اللذان يُهوّدان الطفل أو يُنصّرانه أو يمجّسانه. فبناء عقيدة الطفل على الدين الإسلامي الحنيف الذي هو دين الفطرة يبدأ وينتهي عند والديه. فإذا كانا صالحين متدينين جنى طفلهما ثمرة التقوى والتربية الطيبة وآتت تربيتهما أُكُلها. وإن جانبا الفطرة وعدَّلا في فطرة طفلهما كان ذلك الغرس وبالاً عليهما، ولن يكون عاقبة ذلك إلا العقوق والنفور بين الوالدين والأبناء، وكان ذلك أيضًا معولاً هدامًا من معاول نقض البناء الاجتماعي الإسلامي. فلكي يقوم البناء الإسلامي الاجتماعي سليمًا معافى لابد أن تقوم الأسرة بوظيفتها الاجتماعية المنوطة أولاً بأعناق الآباء والأمهات، وذلك بإحسان تربية الأبناء والبر بهم وتهذيبهم حتى يقدموا للمجتمع أحسن ما عندهم نبتًا صالحًا قابلاً للعطاء والنماء. وينبغي على أجيال الأبناء والبنات ألا يفرطوا في السمع والطاعة وتلقي ما عند الآباء والأمهات بصدور منشرحة ونفوس سمحة سهلة هينة لينة، وأن يستعدوا للعطاء في قابل أيامهم كفاء ما قدم الآباء، ولن يستطيعوا أن يعوضوا آباءهم وأمهاتهم عشر معشار ما قدموا لهم في سالف أيامهم.

المصدر: الموسوعة العربية العالمية