الاستشراق ( Orientalism )
☰ جدول المحتويات
الاستشراق حقل معرفي وإبداعي ضخم نشأ في الغرب (أوروبا وأمريكا الشمالية) لدراسة الثقافات الشرقية (الآسيوية غالبًا) وتمثلها في الفنون المختلفة. وتعتبر الجوانب العلمية والسياسية والدينية للاستشراق هي الأبرز بين جوانبه المختلفة، فقد كانت الهاجس الرئيسي وراء نشوئه. غير أن الجوانب الأخرى، في الفنون والآداب الغربية، ذات أهمية لمن يريد التعرف على ذلك الحقل في مختلف جوانبه. وقد اتضحت ضخامة الاستشراق وتعدد نواحي النشاط فيه في دراسة للناقد والمفكر العربي الأمريكي إدوارد سعيد. بعنوان الاستشراق (1978م) صدرت باللغة الإنجليزية ثم ترجمت إلى العربية. ★ تَصَفح: سعيد، إدوارد.
تاريخ الاستشراق وتطوره:
بدأ الاستشراق في الأندلس (أسبانيا) في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، حين اشتدت حملة الصليبيين الأسبان على المسلمين. فقد دعا ألفونس -ملك قشتالة- ميشيل سكوت ليقوم بالبحث في علوم المسلمين وحضارتهم، فجمع سكوت طائفة من الرهبان بدير قرب طليطلة، وشرعوا في ترجمة بعض الكتب الإسلامية العربية إلى اللغات الأجنبية، ثم قدمها سكوت لملك صقلية الذي أمر باستنساخ نسخ منها وبعث بها هدية إلى جامعة باريس.وكذلك، قام رئيس أساقفة طليطلة ريمون لول بنشاط كبير في الترجمة. ومع مرور الزمن توسع الأوروبيون في النقل والترجمة في مختلف الدراسات الإسلامية، وأنشئت في أوروبا مطابع عربية ـ بعد اختراع الطباعة ـ لطبع عدد من الكتب التي كانت تدرس في المدارس والجامعات الأوروبية.
وأنشئت كليات لتدريس اللغات الشرقية في عواصم أوروبا في مطلع القرن الثالث عشر الهجري (أواخر القرن الثامن عشر الميلادي)، وكان الغرض الأول منها تزويد السلطات الاستعمارية بخبراء في الشؤون الإسلامية ثم أخذ الطلاب المسلمون يؤمُّون هذه الكليات الأوروبية للدراسة فيها. ثم عمل المستشرقون في الدوائر العلمية والجامعات في كثير من الدول الإسلامية.
وأنشأت الدول الاستعمارية عدة مؤسسات في البلاد الإسلامية التي خضعت لنفوذها لخدمة الاستشراق ظاهريًا، وخدمة الاستعمار والتنصير حقيقة، منها في مصر: المعهد الشرقي بدير الدومينيكان، والمعهد الفرنسي، وندوة الكتاب، وكلية السلام، والجامعة الأمريكية وكلية فكتوريا ومدارس الراهبات والفرنسيسكان والفرير، وفي لبنان: جامعة القديس يوسف (الجامعة اليسوعية حاليًا) والجامعة الأمريكية، وفي سوريا: مدارس اللاييك، والفرير، وكلية السلام، وغيرها... وهكذا في كثير من الأقطار الإسلامية.
واشتهر في العهد الاستعماري عدد من المستشرقين الذين قاموا بإصدار مجلات في جميع الدول الإسلامية، وجمعوا بشتى الطرق المخطوطات العربية الإسلامية ونقلوها إلى بلادهم بأعداد هائلة بلغت في أوائل القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) مائتين وخمسين ألف مجلد من نوادر المخطوطات، ومازال العدد في تزايد حتى يومنا هذا.
عقد المستشرقون أول مؤتمر لهم في باريس عام 1290هـ، 1873م ثم توالت بعد ذلك المؤتمرات الاستشراقية التي تُلقى فيها البحوث والدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته، وما تزال مثل هذه المؤتمرات تُعقد حتى اليوم.
دوافع الاستشراق
الدافع الديني:
بدأ الاستشراق بالرهبان كما مضى، واستمر كذلك حتى العصر الحاضر. فكثير من المستشرقين تخصصوا في الدراسات اللاهوتية المتعلقة بالتوراة والإنجيل وأُعِدُّوا إعدادًا خاصًا للقيام بمهمة دراسة الإسلام والمسلمين لأهداف تنصيرية. يقول المستشرق البريطاني برنارد لويس: "إن آثار التعصب الديني الغربي لا تزال ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين وبعضها لا يزال مستترًا وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية". ويقول الباحثون إن الصورة المشوهة والتعصب الديني مازال قائمًا وخاصة في تصور المستشرقين للقرآن والرسول والإسلام عمومًا، ذلك أن الصورة التي شكَّلها الاستشراق إنما استمدها من مصادر كنسية كُتبت أيام الصراع العنيف بين الشرق والغرب إبان الحروب الصليبية وحروب الدولة العثمانية في أوروبا.الدافع الاستعماري والسياسي:
ترتبط ظاهرة الاستشراق ارتباطًا عضويًا بظاهرة الاستعمار. فلكل الدول الاستعمارية الغربية مؤسسات استشراقية. وعندما فشلت الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها الدينية والسياسية في العصور الوسطى، عاد الأوروبيون مرة أخرى إلى الشرق في ثوب الاستعمار، واتجهوا إلى دراسة كل شؤون البلاد الشرقية ليتعرفوا مواطن القوة فيها فيقضوا عليها، ومواطن الضعف فيغتنموها. وكان كثير من المستشرقين ـ وما زالوا ـ يعملون مستشارين لحكوماتهم في التخطيط لسياساتها الاستعمارية والتنصيرية في الشرق الإسلامي، وعلى سبيل المثال: كان المستشرق الهولندي سنوك هرخرونيه يعمل مستشارًا لحكومته في تخطيط سياستها ضد إندونيسيا المسلمة. وكان المستشرقان البريطانيان ماكدونالد وجِبْ يعملان مستشاريْن لحكومتهما في تخطيط سياستها ضد المسلمين في شبه القارة الهندية وغيرها، وعمل ماسينيون مستشارًا للحكومة الفرنسية في تخطيط سياستها ضد المسلمين في شمالي إفريقيا. وما زال المستشرق اليهودي برنارد لويس يعمل مستشارًا للحكومة الإسرائيلية في تخطيط سياستها ضد العرب والمسلمين. ولا تكاد تخلو سفارة من سفارات الدول الغربية لدى الدول الإسلامية من سكرتير أو ملحق ثقافي يجيد اللغة العربية يتمكن من الاتصال برجال الفكر والسياسة فيتعرف أفكارهم ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته.الدافع التجاري:
حرص بعض الغربيين على تشجيع الاستشراق الذي يُعينهم على معرفة أحوال الشرق الاقتصادية لترويج بضائعهم وشراء موارد الشرق الطبيعية والمواد الخام ومنافسة الصناعات المحلية التي كانت لها مصانع مزدهرة في مختلف البلاد الإسلامية.الدافع العلمي:
أقبل بعض المستشرقين على دراسة حضارات الشرق من جميع جوانبها بدافع من حب الاطلاع المعرفي، وكان هؤلاء أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وحضارته، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين، بل اهتدى بعضهم إلى الإسلام، مثل المستشرق الفرنسي رينيه الذي عاش في الجزائر فأعجب بالإسلام وأعلن إسلامه وتسمى باسم ناصر الدين رينيه وألف مع عالم جزائري كتابًا عن سيرة الرسول محمد ﷺ، وله كتاب أشعة خاصة بنور الإسلام بين فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله.الدافع الأدبي/ الفني:
منذ بداية الاتصال بين الشرق والغرب، لاسيما في بداية العصور الوسطى، كانت المعلومات عن الشرق والإسلام بوجه خاص تدخل الخيال الغربي وتؤثر في تشكل تقاليد أدبية وفنية ماتزال مستمرة في العديد من الأعمال الإبداعية. في ملحمة الشاعر الإيطالي دانتي "الكوميديا الإلهية" في القرن الثالث عشر الميلادي، نجد تصويرًا لشخصيات إسلامية تعكس الكيفية التي تصورت بها أوروبا النصرانية المسلمين آنذاك. ★ تَصَفح: دانتي أليجيري. ثم نجد جانبًا مغايرًا إلى حد ما في بعض أعمال الشاعر الإنجليزي تشوسر في القرن الرابع عشر الميلادي ثم شكسبير في السادس عشر وفولتير في السابع عشر وهكذا عبر العصور حتى نصل العصر الحديث لتتواصل التناولات والتصورات الاستشراقية في أعمال العديد من الكتاب الغربيين ومنهم على سبيل المثال الروائي الأمريكي جون بارث الذي اهتم بـ ألف ليلة وليلة على نحو خاص. أما على مستوى الفنون التشكيلية فإن أشهر ما أسفرت عنه التقاليد الاستشراقية هي اللوحات التي أنتجها فنانو العصرين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا من أمثال الفرنسي دي لاكروا. ★ تَصَفح: التصوير التشكيلي.أبرز وسائل المستشرقين لنشر أفكارهم
1- تأليف الكتب المتخصصة في موضوعات مختلفة عن الإسلام وتراثه الحضاري.
2- إصدار المجلات الخاصة ببحوثهم عن المجتمعات الإسلامية، مثل مجلة العالم الإسلامي.
3- إلقاء المحاضرات في الجامعات والجمعيات العلمية.
4- الكتابة في الصحف المحلية ببلادهم والبلاد التي لهم فيها نفوذ.
5- عقد المؤتمرات لمناقشة القضايا الإسلامية للوصول إلى آراء تحقق لهم أهدافهم.
6- إنشاء موسوعة دائرة المعارف الإسلامية بعدة لغات.
7- إنشاء الجمعيات، مثل جمعيتي: المستشرقين الفرنسيين، الذين أصدروا المجلة الآسيوية، والمستشرقين الإنجليز الذين أصدروا مجلة الجمعية الآسيوية الملكية وجمعية المستشرقين الأمريكيين، الذين أصدروا مجلة الجمعية الشرقية الأمريكية، وكذلك فعل المستشرقون في كل بلد من بلدان أوروبا.
أهم مؤلفات المستشرقين
1- دائرة المعارف الإسلامية، صدرت في الفترة من 1332-1357هـ، 1913-1938م. وظهرت لها طبعة جديدة في الفترة من 1365 - 1397هـ، 1945 - 1977م.
2- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف، في ثمانية مجلدات، وشمل الكتب الستة المشهورة، بالإضافة إلى مسند الدارمي ومسند الإمام أحمد بن حنبل وموطأ الإمام مالك، رتَّبه ونظَّمه لفيف من المستشرقين ونشره الدكتور أ. ي. فينْسنك.
3- مفتاح كنوز السنة، تأليف الدكتور أ. ي. فينسنك. وضعه للكشف عن الأحاديث النبوية الشريفة المدونة في كتب أربعة عشر إمامًا.
4 - تاريخ الأدب العربي، ومؤلفه كارل بروكلمان.
أبرز المستشرقين المعتدلين
1- توماس آرنولد (ت 1349هـ، 1930م)، إنجليزي، له كتاب الدعوة إلى الإسلام.
2- زيجريد هونكه، التي أبرزت تأثير الحضارة العربية الإسلامية على الغرب في مؤلفها الشهير شمس العرب تسطع على الغرب.
3- يوهان ج. رايسكه (ت 1188هـ، 1774م) ألماني، اتهم بالزندقة لموقفه الإيجابي من بعض جوانب الإسلام.
4- هادريان ربلاند (ت 1131هـ، 1718م)، هولندي، له كتاب الديانة المحمدية في جزءين، وضعته الكنيسة في قائمة الكتب المحرم تداولها لما فيه من بعض الإنصاف للإسلام.
أبرز المستشرقين المتعصبين
1- لوي ماسينيون (1883 - 1962م)، فرنسي، منصِّر، له كتاب الحلاج الصوفي الشهير في الإسلام (1341هـ، 1922م).
2- د. س. مرجليوث (ت 1359هـ، 1940م، إنجليزي، له من الكتب التطورات المبكرة في الإسلام (1332هـ، 1913م) ؛ محمد ومطلع الإسلام، (1323هـ، 1905م) ؛ الجامعة الإسلامية (1331 هـ، 1912م).
3- أ. ج. آربري (1905م - 1969م)، إنجليزي، من كتبه: الإسلام اليوم (1362هـ، 1943م) ؛ التصوف.
4- هـ. أ.ر. جب (ت 1385هـ، 1965م)، إنجليزي، من كتبه: المذهب المحمدي (1367هـ، 1947م) ؛ الاتجاهات الحديثة في الإسلام (1367هـ، 1947م).
5- هنري لامانس اليسوعي (ت 1356هـ، 1937م)، فرنسي من محرري دائرة المعارف الإسلامية، له كتابا : الإسلام ؛ الطائف.
6- جوزيف شاخت (1902 - 1969م)، ألماني، له كتـابـا: المدخـل إلى الفـقـه الإســلامي ؛ أصول الشريـعة المحمدية.
7- د.ب. ماكدونالد (1863-1943م)، أمريكي، منصِّر، له كتابا: تطور علم الكلام والفقه والنظرية الدستورية (1349هـ، 1930م) ؛ الموقف الديني والحياة في الإسلام (1326هـ، 1908م).
8- ر. أ. نيكولسون (1868 - 1945م)، إنجليزي، له كتابا: متصوفو الإسلام (1328هـ، 1910م) ؛ التاريخ الأدبي للعرب، (1349هـ، 1930م).
9 - جولدزيهر (ت 1339هـ، 1920م)، مجري يهودي، من كتبه: تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي.
10- أ. ج. فينسنك، وله كتاب عقيدة الإسلام (1351هـ، 1932م).
11- س.م. زويمر (1867 - 1952م)، أشهر منصِّر في هذا القرن، مؤسس مجلة العالم الإسلامي الأمريكية، له كتاب: الإسلام تَحَدٍّ لعقيدة، (1326هـ، 1908م).
12- غ. فون. غرونباوم، ألماني يهودي، له كتابا الأعياد المحمدية (1371هـ، 1951م) ؛ دراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية (1374هـ،1954م).
أبرز إيجابيات الاستشراق
1- الإسهام في تحقيق ونشر الكثير من كتب التراث الإسلامي.
2- تَمَيُّز بعضهم بالمنهجية العلمية التي تعينهم على البحث.
3- تعرف بعض الغربيين حقيقة الإسلام من كتابات المنصفين من المستشرقين.
أبرز سلبيات الاستشراق
الانقياد للتحيز الثقافي:
يقع معظم المستشرقين تحت هيمنة تكوينهم الثقافي الغربي الأساسي سواء كان نصرانيًا أم يهوديًا أم علمانيًا لا دينيًا، ويميلون نتيجة لذلك إلى التشكيك في صحة العقيدة الإسلامية، كما فعل مونتجمري واط في كتابه محمد في المدينة حين سعى إلى التشكيك في أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، أو القول بعجز العرب بوصفهم من جنس بشري متدن عن صنع الحضارة، كما فعل إرنست رينان في تأريخه العنصري المؤيد للجنس الآري على الجنس السامي، وهكذا.وقد دحض العلماء المحققون من أبناء الأمة الإسلامية هذه المزاعم في أبحاث ورسائل علمية لا يتسع المجال لذكرها. لكننا نذكر منها رأي بعض المستشرقين المنصفين ومنهم موريس بوكاي عن القرآن الكريم حيث يقول: "صحة القرآن الكريم لا تقبل الجدل، فهي تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد". وقد ألف موريس بوكاي كتابه: التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ـ دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ليثبت أن القرآن وحي من الله، وأن التوراة والإنجيل مليئان بتحريف البشر وتأليفهم.