الرئيسيةبحث

المجامع اللغوية ( Language Academies )



المجامع اللغوية مؤسسات علمية بحثية تعنى بالمصطلح، وشؤون التعريب واللغة في جميع مجالات المعرفة الإنسانية. درج بعض الباحثين في نشأة مجامع اللغة على محاولة الرجوع بأصولها إلى المجامع العلمية في المشرق القديم، بل حاولوا تقصِّي جذورها منذ نشأة التاريخ البشري. وذهب آخرون إلى الحديث عن مجالس سقراط وأفلاطون المعروفة باسم أكاديموس نسبة إلى البطل الأسطوري اليوناني الذي كان يعتبر حامي أثينا. وتعكس تلك المجالس القديمة والمجامع العلمية مظاهر العناية التي توليها الشعوب منذ القديم لنقل العلوم والمعارف والحضارات إلى لغاتها وذلك لتحقيق النهضة والتقدم وتشجيع الإبداع والتأليف.

ولعلّ الأقرب إلى الواقع أن ننظر إلى مجامع اللغة من خلال المراحل اللغوية والفكرية التي تمر بها الشعوب خلال نهضتها وما يحصل من تماسّ بين لغتها ولغات الأمم الأخرى بكل ماوصلت إليه من تطور فكري في العلوم والآداب والفنون. ذلك ما حصل بالنسبة للعرب المسلمين حين خرجوا من جزيرتهم في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، فنشأت عن ذلك أوضاع جديدة أمام اللغة العربية، وكان عليها أن تواجه منذ عهد مبكر قضايا متعددة سواء فيما يتصل بتعريب مؤسسات الدولة، أو نقل العلوم والمعارف، أو حتى تعليم اللغة العربية نفسها. ويمكن اعتبار المحاولات الأولى لإقامة مؤسسات تواجه هذه المتطلبات الجديدة أقدم نواة لمجامعنا اللغوية. وأقدم هذه المؤسسات في تاريخنا هي لجنة الترجمة التي أنشأها الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (ت 85هـ) في دمشق، وذلك لترجمة الكتب الكيميائية ونحوها من اليونانية إلى العربية. وقد لاقت فكرة هذه المؤسسة رواجًا في العهود الإسلامية اللاحقة، فإذا بالخلفاء يولون الترجمة والنقل عناية فائقة، مثلما فعل الخليفة العباسي المنصور، وهارون الرشيد الذي وضع أسس بيت الحكمة، هذه المؤسسة التي وصلت إلى ذروة ازدهارها في عصر المأمون.

بيت الحكمة في بغداد:

بالنظر إلى بيت الحكمة من خلال أنشطته اللغوية ومجالاته العلمية المختلفة يتبيَّن لنا أن هذه المؤسسة تمثل بحقّ أول مجمع للغة العربية، وفق المفهوم المعاصر للمجامع اللغوية، مع مراعاة الاختلاف في الظروف والأحوال. فقد كان بيت الحكمة يضم علماء من تخصصات مختلفة، منهم الطبيب والمهندس، ومنهم الفلكيّ واللغوي. وكانت اللغة العربية آنذاك تتعامل مع حصيلة ما وصل إليه الفكر الإنساني في جميع مجالات المعرفة، عن طريق اللغات اليونانية والفارسية والسريانية والهندية القديمة، وكذلك اللاتينية، ولا سيما في بلاد الأندلس.

ولعلّ تأسيس المجامع اللغوية في أوروبا ابتداء من عصر النهضة هناك، قد تأثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة بتلك المؤسسات العلمية واللغوية التي ازدهرت في بلاد الأندلس وإفريقية (تونس) وصقليّة.

صاحب بداية عصر النهضة في أوروبا تراجع وتشتّتّ للحضارة العربية الإسلامية دام قرونًا من الزمن، أعقبتها نهضة مجدَّدة ظهرت إشعاعاتها الأولى في مصر وبلاد الشام والعراق، وعادت اللغة العربية إلى الاتصال بلغات حضارات العالم الحديث، وخاصة الفرنسية والإنجليزية والألمانية منها. وبدأت تظهر من جديد مؤسسات مجمَعية تأخذ على عاتقها مهمّات صعبة في نشر العلوم والمعارف من خلال اللغة العربية، وتسعى إلى إحياء هذه اللغة وتنميتها لتستوعب حصيلة الفكر الإنساني المعاصر. وكان للمجامع الأوروبية، ولا سيما الأكاديمية الفرنسية، آثار واضحة في نشوء تلك المؤسسات المجمعية العربية، وفي رسم أنظمتها وقوانينها.

مجمع اللغة العربية في القاهرة:

في عام 1892م، أنشئ في القاهرة المجمع اللغوي للوضع والتعريب، وقد ضم نخبة من عُلماء مصر آنذاك، ولكنه عُطِّل بعد سنوات وبقي يتعثّر في مسيرته إلى عام 1932م حين أنشئ مجمع اللغة العربية الملكي. وفي عام 1938م أبدل اسمه إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية، ثم أصبح فيما بعد يسمَّى مجمع اللغة العربية. وكان أول أعماله البارزة إصدار مجلة ظهر جزؤها الأول في أكتوبر عام 1934م، وفيها مجموعة من القرارات العلمية كقرار التضمين والتعريب والمولّد والاشتقاق، وأسماء لمسمّيات في مجالات مختلفة، وكلمات في الشؤون العامة كالملابس والزينة، ومصطلحات علوم الحياة والطب، وأسماء عربية لمسميات حديثة. وكانت هذه المصطلحات بداية العناية بالمصطلح العلمي وبألفاظ الحضارة، وقد أصدر المجمع كثيرًا من المصطلحات التي أقرّها. وما يزال يعرض كل عام على مؤتمره السنوي أكثر من ألف من هذه المصطلحات في شتى المجالات العلمية والمعرفية. وما يزال يصدر مجلته التي تضم البحوث والقرارات والمصطلحات الجديدة. وكان للجانه التي شكّلها منذ تأسيسه دور في دراسة هذه القضايا وإنجازها وتقديمها إلى مجلس المجمع أو مؤتمره العام.

المجمع العلمي العربي في دمشق:

يُعَدُّ هذا المجمع أول مجمع علمي يقوم في الأقطار العربية. وقد عقد أول اجتماع له عام 1919م. وكان نشوء هذا المجمع ضرورة استدعتها مسيرة التعريب في الوطن العربي التي صاحبتها حركة التحرر من الاستعمار والانعتاق من سلطان الأجنبي. فقد أخذ المجمع على عاتقه "النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون عن اللغات الأجنبية وتأليف ما تحتاجه من الكتب المختلفة المواضيع". وكان من أوائل أعماله عند تأسيسه إصلاح لغة الدواوين وتعريب كثير من الألفاظ وتزويد المصالح الحكومية بما تحتاجه من مصطلحات فنية وإدارية وتلبية رغبات الأفراد والصحف والجمعيات غير الرسمية. ويصدر المجمع مجلة علمية منذ شهر يناير من عام 1921م، كما قام بنشر الكتب المؤلفة والمحققة، وإن اعترته عهود جَمُد فيها نشاطه ولا سيما في عهد الانتداب الفرنسي. وتم التوحيد بينه وبين مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1960م، ولكنه عاد إلى ماكان عليه بعد الانفصال عام 1961م، وظل يؤدّي رسالته العلمية واللغوية إلى هذه الأيام.

المجمع العلمي العراقي:

مهّد تأسيس مجمع دمشق السبيل إلى تأسيس مجامع لغوية وعلمية في أقطار عربية أخرى. ففي العراق، كانت أول محاولة لتأسيس مجمع علمي عام 1921م، ثم شكلت لجنة عام 1925م من أجل تأسيس مجمع علمي عراقي لم يظهر إلى الوجود إلا في أواخر عام 1947م في بغداد. وقد أصدر مجلة علمية ظهر العدد الأول منها في شهر سبتمبر عام 1950. ويضمّ المجمع العراقي لجانًا للمصطلحات العلمية والمعاجم والمجلة والتأليف والنشر والترجمة وتحقيق المخطوطات، وكان لهذه اللجان أثر كبير في نشاط المجمع واستمراره، كما أصدر المجمع عددًا من معاجم المصطلحات العلمية.

مجمع اللغة العربية الأردني:

أنشئ مجمع لغوي لأوّل مرة عام 1924م، لكنّ أيّامه لم تطل، إلى أن جاءت سنة 1961م، حين تشكّلت اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر تنفيذًا للقرار الذي اتخذه مؤتمر التعريب الأول المنعقد في الرباط في شهر أبريل عام 1961م، واستمرت هذه اللجنة بأعمالها حتى تأسس مجمع اللغة العربية الأردني في الأول من يوليو عام 1976م. وأصدر العدد الأول من مجلته في يناير عام 1978م، وشكل لجانًا علمية للأصول والتعريب والمصطلحات والترجمة والتراث. وأصدر كثيرًا من القرارات لحصر المفردات المستعملة في المرحلة الابتدائية وترجمة الكتب العلمية الجامعية. وكان أهم مشاريع المجمع تعريب العلوم في الجامعات وتعريب المصطلحات في دوائر الدولة ومؤسساتها. ونظر المجمع في كثير من المصطلحات وأقرّ بعضها وأصدرها، ومن ذلك مصطلحات الزراعة، وسلاح اللاسلكي، والنقل، والتموين، والأرصاد الجوية، والمواصفات والمقاييس، والتأمين على الحياة. وترجم الكتب العلمية التي تدرس في كليات العلوم والتي أصبحت عمدة الدرس الجامعي في الأردن.

المؤسسات اللغوية في المغرب العربي:

تأسس بيت الحكمة بتونس عام 1983م وذلك للعمل على تنسيق أعمال التعريب والترجمة والبحث العلمي وإحياء التراث. كما أنشئ قسم اللسانيات بمعهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بتونس عام 1960م، الذي ركَّز أسس الدراسات اللغوية الحديثة في تونس، وشارك ضمن اللجنة الاستشارية المغاربية في وضع الرصيد اللغوي الأساسي للمدارس الابتدائية والذي تبنّته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في الثمانينيات على نطاق العالم العربي كلّه. كما أنشئ معهد الدراسات الصوتية بالجزائر عام 1960م، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط عام 1960م، الذي تميّز بمساهمته في تطوير الآلة الكاتبة العربية والشفرة العربية الموحَّدة للمعارف الحاسوبية. وبالسعي إلى وضع أسس منهجية عامّة وإعلامية لمعالجة المصطلحات.

مجمع اللغة العربية في السودان:

ومع مطلع العام 1993م افتتح مجمع اللغة العربية في السودان، وكان أول أنشطته التي مارسها إقامة دورات تدريبية للمذيعين والمذيعات.

ولا تعمل هذه المجامع والمعاهد والمؤسسات بعضها بمعزل عن بعض، وإنما يجمعها اتحاد المجامع العربية، وكان أول مؤتمر له بدمشق في سبتمبر عام 1956م. ويقوم بتنظيم الاتصال بين المجامع العربية، وينسّق أعمالها، كما يعمل على تنشيط التعاون بين المجامع والجامعات والاهتمام بتحقيق المخطوطات ونشرها.

المكتب الدائم لتنسيق التعريب بالرباط:

تأسس المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي، ومقره الرباط، وتشرف عليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليسكو). وقد انبثق هذا المكتب عن مؤتمر التعريب الأول الذي انعقد في الرباط في أبريل عام 1961م. وقد نسق هذا المكتب ووحّد مصطلحات 20 علمًا إلى حدود عام 1981م، وبلغ عدد تلك المصطلحات 67,061 مصطلحًا. كما قام المكتب بإصدار مجلته اللسان العربي منذ شهر يونيو عام 1964م، ونشر المصطلحات العلمية والمعاجم في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفقه والقانون والأشغال العامة والسياسة وغيرها من شؤون الحياة. وبالإضافة إلى ذلك، نظم المكتب مؤتمر التعريب الذي عقد في الجزائر عام 1977م، وآخر في طنجة عام 1981م، ومؤتمر في الأردن عام 1984م. كما أشرف على عقد ندوات للتعريب، منها ندوة الثقافة للتعريب التي انعقدت في طرابلس في ليبيا عام 1975م، وندوة توحيد المنهجيّات التي عقدت في الرباط عام 1981، ووضعت المبادئ الأساسية لاختيار المصطلحات العلمية ووضعها، وقدّمت المقترحات للوصول إلى الحلول الناجحة لتقديمها إلى مؤتمرات التعريب.

وتهدف تلك الندوات كلها إلى وضع الأسس الراسخة لعملية التعريب ومتابعة الجهود المبذولة في تعريب التعليم والإدارة والمظاهر الحضارية في الوطن العربي.

تلك هي أهم المجامع والهيئات والمؤسسات المعنية باللغة العربية ووسائل تنميتها وتعليمها ونشرها في الوطن العربي، وتلك أهم الملامح المُمَيّزة لنشاطها الذي انكبَّت عليه منذ إنشائها. وقد اتجهت جهودها إلى جملة من الأهداف يمكن تصنيفها على الوجه التالي 1- بذل الجهود من أجل إغناء اللغة العربية وجعلها مواكبة لمتطلّبات العصر 2- وضع المصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة وذلك تحقيقًا لسلامة المنهج ووحدة الفهم والإفهام في لغة العلم 3- الترجمة والتعريب بوصفهما رافديْن من روافد اللغة العربية في زيادة ثروتها وتنمية طاقاتها التعبيرية 4- وضع المعاجم التي تواجه حاجات العصر وتستفيد ممّا وصلت إليه المعاجم الأوروبية الكبرى من تطوّر ودقة وحسن تبويب وبراعة في الاستعمال 5- تيسير تعليم اللغة العربية، نحوًا وصرفًا وكتابةً، تسهيلاً لانتشارها والإقبال عليها، وضمانًا لتقويم اللسان والفهم لدى الناشئين ومن يتعاملون باللغة العربية 6- إحياء التراث وتحقيق أمهات الكتب العربية القديمة في شتى المجالات ونشرها بشكل يبرز دورها في تطوّر الفكر البشري على مر العصور.

★ تَصَفح أيضًا: التعريب ؛ العلوم عند العرب والمسلمين ؛ اللغة العربية ؛ المعجم.

المصدر: الموسوعة العربية العالمية